أحدث المقالات

د. علي آقا نوري(*)

ترجمة: وسيم حيدر

إن الاعتقاد باتّصاف الأئمة الاثني عشر ـ المنصوص عليهم بالإمامة ـ بصفة العلم (اللدنّي والغيبي) والعصمة من الذنوب والزلل والخطأ في فهم وبيان أحكام الشريعة يُعَدّ اليوم من الأركان والمعتقدات الأساسية والكلامية عند التشيُّع الإمامي. ولكن مع ذلك؛ وبالالتفات إلى الشواهد الروائية والتاريخية، لم يكن أصحاب بعض الفرق الشيعية وحدهم الذين لم يذهبوا إلى هذا الاعتقاد فحَسْب، بل حتّى بعض الخاصّة من أصحاب الأئمّة وأتباعهم في الفقه والكلام، والقائلين بالنصّ والوصيّة، والمؤمنين بأن الأئمة مفروضو الطاعة، لم يكونوا بشكلٍ عامّ على وتيرةٍ واحدة في هذا الشأن. وإن بعضهم لم يكونوا يكتفون بعدم إعطاء كلام الأئمّة تلك المكانة اللازمة فحَسْب، بل كانوا يسمحون لأنفسهم بإبداء الرأي في مقابل كلام الإمام، بل الاعتراض على رأي الإمام([1])، بل كانوا في بعض الأحيان يطرحون عليهم الأسئلة اختباراً؛ ليقفوا على حقيقة أعلميتهم. صحيحٌ أنهم كانوا يرَوْن للأئمّة ـ بالقياس إلى الآخرين ـ مكانةً خاصة، ومن هنا كانوا يرَوْنهم ـ في الحدّ الأدنى، ومن الناحية النظرية، وفي الجملة ـ مفترضي الطاعة عليهم، ولكنْ في المجموع، ومن خلال مطالعة الروايات التاريخية والحديثية والرجالية، يتّضح لنا أن هؤلاء الأصحاب كانوا يختلفون فيما بينهم اختلافاً كبيراً حول ضرورة وكيفية ومساحة عصمة الأئمة([2])، كما يختلفون في حجم ومبنى ومنشأ وموارد علم الأئمّة وحدود وثغور مقاماتهم([3])، بل قد اختلفوا حتّى في ما يتعلّق بالخصائص الظاهرية والخارجية (من قبيل: العمر، وجمع ذلك مع الأخ) اختلافاً كبيراً. كما يمكن إرجاع مقدار كبير من روايات أهل البيت^ ـ ولا سيَّما في عصر الصادقين’ فصاعداً ـ في مجال شؤون وخصائص ووظائف الإمامة إلى هذا النوع من الاختلاف المحتدم بين الأصحاب. وفي ما يلي نخوض في أحد أهمّ محاور هذا البحث، وهو علم الإمام×. يمكن بحث اختلاف الأصحاب بشأن علم الأئمّة ضمن المبحث الرئيس الكامن في حدود دائرة ومنشأ وأدوات هذا العلم.

المقال الأوّل: اختلاف الأصحاب حول مساحة ومنشأ علم الإمام

في ما يتعلّق بالمكانة العلمية للأئمة بين الشيعة ـ بشكلٍ عامّ ـ لم تكن الاختلافات بالحجم الذي يستحقّ الذكر. وقد أشار أبو الحسن الأشعري، عند تقسيم الأصحاب من الإمامية وتقرير اختلافهم في هذا الشأن، إلى أن الاختلاف الرئيس بين كلتا الجماعتين إنما كان في مساحة علم الإمام، وليس في أصل وجود العلم الخاصّ عند الأئمّة، الذي يُعتَبَر الأساس في اعتبارهم أئمّةً مفروضي الطاعة على العباد؛ إذ لولا الالتفات إلى مثل هذا العلم بشأن التعاليم الدينية لما كان هناك من معنىً محصّل للأحكام الإلهية. بل يجب في الأساس اعتبار وجوب طاعتهم من لوازم حصولهم على العلم الإلهي، كما أشاروا هم أنفسهم إلى هذه النقطة الجوهرية والهامّة([4]). كما كان حتّى المخالفون والخصوم الفكريّون لأهل البيت^ يعترفون ـ في الجملة ـ بهذه الحقيقة الهامّة في ما يتعلّق بعلمهم بالأمور المرتبطة بالشريعة والسنّة، وإنْ لم يُضَاهِ هذا الاعتراف والإذعان منهم ما عليه الاعتقاد الشيعي. ومع ذلك كلّه فإن من بين الأبحاث المطروحة والهامّة في دائرة اختلاف الأصحاب نظرتهم المختلفة إلى مساحة وحدود ومنشأ علم الأئمّة الخاصّ، وكيفية امتيازهم العلمي من الآخرين، وتفوّقهم العلمي عليهم. وإن الذي سوف نذكره هنا مجرّد تقرير الشواهد على اختلاف الآراء والأنظار في هذا الشأن فقط. وأما دراسة وكيفية الجمع بين هذه الأحاديث، وكذلك نقد ومناقشة الروايات التي تثبت علم الأئمة بجميع الأمور، فهي خارجُ نطاق هذه الرسالة([5]). كما نحيل اختلاف المتكلِّمين الشيعة ـ الذي نجم لاحقاً كنتيجة لاختلاف الروايات التاريخية في هذا الشأن ـ إلى كتب أهل الفنّ أيضاً([6]).

وفي المجموع يمكن تقسيم آراء الأصحاب في ما يتعلّق بالقول بحصول الأئمة على العلم والأخبار بالأحداث الغيبية، وكذلك عصمة الأئمة في ما يتعلّق بالمعارف والتعاليم الدينية، إلى مجموعتين رئيستين، وهما: المعتقدون؛ والمنكرون. وقد تمّ تقديم شواهد تاريخية وحديثية لكلا الطرفين. كما عمد أبو الحسن الأشعري إلى تقسيم آراء الأصحاب من الإمامية في هذا الشأن إلى قسمين رئيسين، وهما:

1ـ أولئك الذين يعتقدون بأن الإمام يعلم بجميع أمور الدين والدنيا (يعلم كلّ ما كان، وكلّ ما يكون، وكلّ ما هو كائن)([7]).

2ـ المجموعة التي تذهب إلى الاعتقاد بأن الإمام؛ بالالتفات إلى رسالته، يعلم بالأمور المتعلّقة بأحكام الشريعة([8]).

وبطبيعة الحال هناك رواياتٌ تتحدَّث عن وجود اختلافاتٍ حتّى في حدود ومساحة ومنشأ علم الأئمة بالتعاليم الدينية والحلال والحرام أيضاً. إن البحث عن علم الإمام تواصل بين المتكلِّمين والمحدِّثين الشيعة حتّى بعد انقضاء عصر حضور الأئمة^، وقالوا ـ بالالتفات إلى مسؤولية الإمام ووظيفته ـ بأن أعلمية الإمام بالأمور الدينية من أهمّ شرائط الإمامة([9])، بل هناك مَنْ أضاف الأمور الدنيوية أيضاً([10]). وذهب البعض إلى أبعد من ذلك أيضاً، وقال: إن الإمام يجب أن يعلم بجميع اللغات الأجنبية بالكامل([11]). وبطبيعة الحال إن هناك مَنْ لا يقبل هذا المستوى من السعة([12]). ومع ذلك كلّه فإن منشأ جميع هذه الآراء المتفاوتة والمختلفة يعود إلى رواياتٍ مأثورة عن الأصحاب أيضاً. ولكنْ قبل تقرير الآراء المختلفة في هذا الشأن من الضروري أن نلقي نظرةً على خلفيات تبلور بحث علم الإمام.

خلفيات التأكيد على علم الإمام في عصر الحضور

يجب البحث عن طرح موضوع علم الإمام في المجتمع الإسلاميّ لعصر الحضور ـ مثل سائر المسائل الكلامية ـ في الخلفية التاريخية والاجتماعية الخاصّة له على نحوٍ أكثر من جميع المسائل الأخرى. طبقاً للتقارير التاريخية بدأ طرح هذا البحث منذ عصر الإمام الباقر× فما بعد، وتمّ تناوله في مجتمع عصر الإمام الصادق× على نحوٍ أوسع. ومن هنا كان الحجم الكبير من روايات كتاب بصائر الدرجات مأثوراً عن هذين الإمامين الصادقين’؛ وذلك لكون موضوع هذا الكتاب إنما يصبّ في بيان الفضائل العلمية للأئمّة([13])، رغم أنه قيل: إن أهل البيت منذ عصر الإمام الباقر× فصاعداً؛ وبسبب هواجس الحكام ورجال السلطة من جهةٍ؛ وكذلك ظهور منافسين لهم، من أمثال: بني الحسن، من جهةٍ أخرى، وكذلك إساءة استغلال الغلاة للأوضاع، لم يكن بإمكان الأئمة بيان شؤونهم الخاصّة ـ ومن بينها: فضائلهم العلمية ـ كما كانوا يرغبون بشكلٍ صريح([14]).

بَيْدَ أنه بالالتفات إلى انفصال زيد بن عليّ، وعدم قبوله بإمامة الأئمة المنصوص عليهم بالإمامة، وكذلك الحضور الصارخ لتيّار بني الحسن، وانفصالهم عن الأئمة الشيعة، وادّعائهم الإمامة لأنفسهم، وتأكيدهم على إمامتهم السياسية على الأمّة من جهةٍ؛ وظهور مالك بن أنس وأبي حنيفة بوصفهما من أئمّة الفقه عند أهل السنّة من جهة أخرى، انصبّ جهدُ أئمة الشيعة من حينها على المزيد من التأكيد على تلك المجموعة من خصائصهم، التي لم تكن في السابق مطروحةً بشكلٍ واضح. ومن بين تلك الخصائص علمهم بالشريعة، والنصّ على إمامتهم من قِبَل النبيّ الأكرم|([15])، ولا سيَّما أن الشيعة ـ طبقاً لرواية الكشّي ـ لم يكن لديهم قبل إمامة الإمام الباقر× أيّ معرفةٍ بعلم الشريعة، وأن الأرضية المعرفية في هذا الشأن قد تمّ البدء برصفها منذ عصر هذا الإمام الهُمام فما بعده، وقيل: إن بني الحسن قاموا بتثبيت موقعيتهم ومشروعيتهم الدينية منذ المرحلة الأولى من قيام الدولة العباسية، وكانوا في مواجهة العباسيين يدَّعون بأن مصداق آية «الطاعة لأولي الأمر»([16]) هم الذين يقومون بالسيف ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وكانوا في هذا السياق يتّهمون أئمة الشيعة بالحَسَد، وينكرون علمهم الخاصّ([17]). وفي هذه المرحلة الزمنية شرع الأئمة يؤكِّدون على عنصر النصّ وعلم الإمام بوصفهما من الصفات الضرورية للإمامة، وبدأوا يروِّجون لذلك في العقيدة الشيعية؛ إذ إن الأئمة في هذه المرحلة كانوا يواجهون منافسين من الأسرة النبوية، من أمثال: زيد بن عليّ، ومحمد بن عبد الله «النفس الزكية»، وإبراهيم بن محمد، ويحيى بن زيد، ومنذ ذلك الحين لم يَعُدْ التأكيد على الانتساب لرسول الله| ـ بالالتفات إلى عدم توفُّر الأرضية للزعامة السياسية ـ، وضرورة الترويج للإمامة المذهبية والعلمية، كافياً في إثبات الإمامة الصادقة، دون لحاظ خصائص أخرى، من قبيل: النصّ، والعلم المعصوم عن الخطأ في الشريعة والمعارف الدينية. ومن هنا أخذ الأئمة في هذه المرحلة يؤكِّدون على العلم والنصّ من قِبَل الإمام السابق بوصفهما شرطين لإثبات الإمام الحقّ([18]). ومن هنا قيل: إن الأئمة بعد الإمام الحسين× أخذوا يسعون ـ أكثر من ذي قبل ـ إلى بيان التمايز بين الإمامة بمفهومها الشيعي وبين الحكم وممارسة السلطة، والقول بأن وظيفة الإمامة الشيعية الحقّة تكمن في هداية المجتمع إلى المسائل الدينية والشرعية، ولازم هذه الوظيفة ـ بالإضافة إلى النصّ ـ حصولهم على العلم الشامل بالشريعة، وهو علمٌ لا يتطرّق إليه الخطأ. ولا يخفى ـ بطبيعة الحال ـ أنهم كانوا من أجدر الأشخاص وأصلحهم لتولّي منصب الرأس في السلطة السياسية، ولكنْ بالالتفات إلى امتلاكهم لمثل هذه الخصائص والوظائف التي تثبت إمامتهم حتّى إذا انتقلت السلطة السياسية إلى غيرهم بأيّ نحوٍ من الأنحاء لن يضرّ ذلك بمنصبهم في الإمامة والمرجعية الدينية أبداً. هذا، في حين أن الفهم العام لدى الشيعة في المرحلة السابقة لم يكن كذلك.

وبهذا التحليل هناك مَنْ يذهب إلى القول بأن الإمامين الباقر والصادق’، من خلال اعتزالهما عن الأمور السياسية، قد أسهما في بلورة فكرةٍ ورؤية جديدة بين الشيعة الإمامية في ما يتعلَّق بمفهوم الإمامة الشيعية. وفي هذه المرحلة أخذ الإمام يُعْرَف في تفكير أكثر الشيعة الإمامية بوصفه أعلم الناس بالحلال والحرام، وأن مهمته تتلخَّص في الحفاظ على الدين من الانحراف والتحريف. وقد كان لهذه النظرية لوازم وتداعيات، ويمكن الإشارة من بينها إلى اختلاف علم الأئمة عن علم سائر العلماء في عصرهم. وفي هذه الرؤية كان علم الإمام يعود إلى شخص النبيّ الأكرم، واعتبار ذلك حقيقةً لا تقبل التشكيك، ويتمّ التعاطي مع هذا العلم ـ من الناحية العملية ـ كما يتمّ التعاطي مع الوحي الإلهي([19]). كما كان تأكيد الأئمّة على النصّ مقترناً بهذه الخصوصية. قلنا: إن أصحاب الأئمّة انقسموا بشأن دائرة وسعة علم الأئمة في المجموع إلى طائفتين: طائفة المعتقدين بسعة دائرة العلم الخاصّ للإمام بالأمور الدينية وغير الدينية؛ وطائفة المنكرين لذلك. ولكنّ أفراد كلتا الطائفتين يجمعون في الجملة على امتلاك الأئمّة للعلوم الخاصة بالشريعة، ويقرّون لهم بالمرجعية الدينية، وفي الحقيقة إن ردّهم وإنكارهم يعود إلى محورين:

1ـ المساحة والدائرة.

2ـ الجهات والمناشئ.

ومن ناحيةٍ أخرى لا يمكن اعتبار الحديث في هذه المسألة الهامّة واهتمام الشيعة بها في جميع مراحل أهل البيت على وتيرةٍ ونَسَق واحد. ومن هنا فإننا سوف نتناول في هذه المقالة مختلف آراء أصحاب الأئمة بشأن هذه المسألة في مقطعين زمنيين. والذي نراه جديراً بالذكر هنا أن علم الإمام بأحداث المستقبل والإخبار بالغيب أو الأمور التكوينية بالنسبة إلى الأصحاب من الإمامية، قياساً إلى العلم بالتعاليم الدينية والشريعة، لم يكن على تلك الدرجة من اللغط والصخب الذي نشهده حالياً. ويبدو أن وجود هذا العلم وعدم وجوده ـ ولا سيَّما بالنظر إلى الرسالة الرئيسة للأئمّة والمتمثِّلة بالهداية المعنوية والدينية للمجتمع، أو مع اقتران ذلك في الحدّ الأقصى بالإمامة السياسية ـ لم يكن على تلك الأهمّية والخطورة. رغم أن هناك اليوم بين الشيعة من يعتبر ذلك امتيازاً لهم، بحيث يُعَدّ إنكاره نوعاً من العدول والانحراف عن التشيُّع، ويتمّ الطعن في مَنْ ينكر هذا النوع من العلوم لهم.

المرحلة الأولى: منذ عصر الإمام عليّ× إلى عصر الإمام السجّاد× (عصر التحوُّلات السياسية والاهتمام الإجمالي بموضوع علم الإمام)

إن الموضوعات الكلامية والجزئيات المرتبطة بها قلَّما كانت تحظى بالاهتمام في هذه الفترة الزمنية؛ وذلك بالنظر إلى الأوضاع السياسية التي ضربت بكَلْكَلِها على المجتمع، الأمر الذي شغلت فيه الأحداث السياسية حيِّزاً كبيراً من اهتمام الناس. ولم يكن البحث حول جزئيات علم الإمام استثناءً من هذه القاعدة. ولكنّ هذا لا يعني أن المقامات والمراتب العلمية للأئمّة ـ ولا سيَّما الإمام عليّ× ـ، والأهمّ من ذلك كله العلم بالمعارف الدينية، لم تكن محطّ اهتمام بعض الأصحاب. ففي الحدّ الأدنى قال بعض الكبار من الأصحاب كلاماً سامياً يثبت تميُّز المكانة العلمية والمعنوية للإمام عليّ× من سائر الصحابة([20]).

 

أوّلاً: العلم بالأمور الدينية والمرجعية العلمية للإمام عليّ×

من بين التقارير الروائية والتاريخية نواجه عدداً كبيراً من الروايات الدالة على اعتقاد بعض كبار أصحاب النبيّ| والإمام عليّ× بالأفضلية العلمية للإمام علىٍّ سائر الصحابة، بحيث إن البعض ـ بالالتفات إلى هذه التقارير الموجودة حتّى في المصادر التاريخية لأهل السنّة ـ قال بنوعٍ من التشيُّع الاعتقادي في عصر الإمام عليّ× والحسنين’([21]). فهذا سلمان يروي عن رسول الله| روايةً ترى أن الطريق للخلاص من الضلال يكمن في التمسُّك بالإمام عليّ×([22]). كما رُوي عنه، عن النبيّ الأكرم|، أن الإمام عليّاً× أفضلُ الأمّة وأعلمها في القضاء([23]). وبناءً على نقلٍ آخر يتمّ وصف الإمام عليٍّ بأنه حامل أسرار النبيّ|، وأن خسارته بمنزلة خسارة العلم([24]). وطبقاً لرواية الكشّي فإنه [أي سلمان الفارسي]، وآخرين من أمثال: أبي ذرّ والمقداد وأبي ساسان وأبي عمرة، من الذين وقفوا على المنزلة الحقيقية والمراتب العلمية للإمام عليّ×([25]). وبطبيعة الحال لا يمكن من خلال هذه التعابير إثبات عدم خطأ علم الإمام في المسائل الدينية 100%، بَيْدَ أن هناك بين هذه الأحاديث كلمات مأثورةً عن الأصحاب تثبت أن القدر المتيقَّن منها هو الاعتقاد بالمرجعية العلميّة للإمام على الآخرين، وأنه أعلم من الجميع. ومن ذلك، على سبيل المثال، أن المقداد اعترض على عثمان بعد توليه الخلافة، وأعلن عن مخالفته لقرار الشورى، مستدلاًّ على ذلك بأن الإمام عليّاً× هو الأعلم والأفقه في دين الله، وأبصر الناس بالصراط المستقيم([26]).

وأهمُّ شاهدٍ تاريخي على اعتقاد سلمان أيضاً بالمرجعية العلمية للإمام عليّ× الكلام الذي نقل عنه بعد حادثة السقيفة، فقد نقل أنه بعد أحداث السقيفة حذَّر أبا بكر من قبول تولّي الخلافة؛ إذ قال له: «يا أبا بكر، إلى مَنْ تسند أمرك إذا نزل بك القضاء؟ وإلى مَنْ تفزع إذا سُئلتَ عمّا لا تعلم؟ وفي القوم مَنْ هو أعلم منك»([27]). ففي هذه الرواية تمّ التأكيد صراحةً على لزوم العلم بأمور الدين والشريعة للحاكم على أمور المجتمع، وتمّ اعتبار العلم أحد شرائط الإمامة على المجتمع.

وأوضح من ذلك كلام أبي ذرّ الذي يعتبر الإمام عليّاً× هو المرجع الديني الوحيد للأمّة بعد رحيل النبيّ الأكرم|. فقد كان أبو ذرّ الغفاري ـ طبقاً للتقارير التاريخية ـ يقف في عهد عثمان على باب مسجد النبيّ الأكرم|، ويعرِّف بالإمام عليّ× بوصفه وارثاً لعلم رسول الله|، ويضيف قائلاً: «أما لو قدّمتم مَنْ قدّم الله، وأخّرتم مَنْ أخّر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم، لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال وليّ الله، ولا طاش سهمٌ من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، إلاّ وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيّه»([28]). إن ظاهر هذه العبارة يثبت اعتقاده بعصمة علم الإمام عليّ من الخطأ في شريعة الإسلام. كما أنه أوصى رجلين من الشيعة، ذهبا للقائه عندما كان منفياً في الربذة، وقال لهما: إذا تعرَّضت الأمّة للفتن فالزموا كتابَ الله والإمام عليّاً×. وكان من بين الأوائل من الصحابة الذين وصفوا الإمام عليّاً× بأنه أمير المؤمنين والفاروق بين الحقّ والباطل، والصدّيق الأكبر([29]). وفي موضعٍ آخر كان يدعو الناس إلى اتّباع أهل بيت الوحي والرسالة، ويقول: «أهل بيت نبيكم هم أهل بيت النبوّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وبيت الرحمة، ومعدن العلم»([30]). كما روى أبو ذرّ عن النبيّ الأكرم| أنه قال: «ألا إن مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، مَنْ ركبها نجا، ومَنْ تخلَّف عنها غرق»([31]).

كما كان عمّار بن ياسر من بين خاصّة أصحاب الإمام عليّ×. وكان يراه عالماً، لا يضيف الآخرون إلى علمه شيئاً([32]). وقد عرَّف بالإمام عليّ×، في خطبةٍ له قالها في الكوفة قبل حرب الجمل، واصفاً إيّاه بأنه: أعلم الناس بالقرآن وسنّة النبيّ الأكرم|، وقال ما يشبه ذلك بعد انتهاء معركة الجمل في الاحتجاج على عائشة: «إني والله اخترتُ لنفسي في أصحاب رسول الله|، فرأيت عليّاً أقرأهم لكتاب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ، وأعلمهم بتأويله، وأشدهم تعظيماً لحرمته، وأعرفهم بالسنّة»([33]).

وكذلك كان زيد بن صوحان يدعو الناس في الكوفة إلى اتّباع ونصرة الإمام عليّ×، في كلمةٍ له قبل حرب الجمل، وعرَّف الإمام عليّاً× بأنه أعلم الناس بكتاب الله وأفقههم في الدين([34]).

كما أن حذيفة بن اليمان ـ الذي يُعْرَف بصاحب سرّ رسول الله| والعالم ببعض الأمور الخافية ـ كان يرى أن الإمام عليّاً× «أرجح الناس علماً»([35]).

وقال ثابت بن قيس ـ كبير الأنصار ـ للإمام بعد مبايعته: «والله، يا أمير المؤمنين، لئن كانوا تقدّموك في الولاية فما تقدّموك في الدين، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم، ولقد كانوا وكنتَ، لا يخفى موضعك، ولا يجهل مكانك، يحتاجون إليك في ما لا يعلمون، وما احتجْتَ إلى أحدٍ مع علمك»([36]).

وقال خزيمة بن ثابت قريباً من هذا الكلام عند مخاطبة الإمام عليّ×، واصفاً إيّاه بأعلم الناس وأكثرهم إيماناً([37]).

وأما مالك الأشتر فقد استعمل في وصف الإمام عليّ× عبارة «وصيّ الأوصياء، ووارث علم الأنبياء»([38]).

وقد وصفه عقبة بن عمرو بأنه «الأهدى الذي لا يُخاف جَوْره، والعالم الذي لا يُخاف جهله»([39]).

وبناءً على نقل الأصبغ بن نباتة فإن الناس عندما بايعوا عليّاً× قال في كلمته لهم: «سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن عندي علم الأوّلين والآخرين. أما واللهِ، لو ثُنيت لي الوسادة لحكمتُ بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم… والله، إني لأعلم بالقرآن وتأويله من كلّ مدَّعٍ علمه. ولولا آيةٌ في كتاب الله تعالى لأخبرتُكم بما يكون إلى يوم القيامة»([40]).

ثم قال الإمام×: «…فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لو سألتموني عن آيةٍ آيةٍ لأخبرتُكم بوقت نزولها، وفيمَ نزلت؟ وأنبأتُكم بناسخها من منسوخها، وخاصّها من عامّها، ومحكمها من متشابِهها، ومكِّيّها من مدنيّها…»([41]).

ويبدو من المفيد التذكير بأن نقل هذا الكلام عن الإمام عليّ× عموماً يعني الالتزام بمضمونه والاعتقاد بمعناه، ومن هنا فإنه يرى أن الإمام عليّاً× أعلم من غيره بالقرآن وتأويل الآيات، ويعلم بجواب كلّ سؤالٍ يطرح عليه، بل إنه بالإضافة إلى الإسلام يعلم بالأديان الأخرى، من قبيل: المسيحية واليهودية، أيضاً. وقد نقل عنه في هذا الشأن كلمات هامّة أخرى أيضاً([42]).

وكان ابن مسعود يرى أن علم الظاهر والباطن عند الإمام عليّ×، وأن علم الصحابة بالقياس إلى علم عليٍّ× مثل: القطرة إلى البحر([43]).

وقال حجر بن عديّ، عند دعوته الناس في الكوفة إلى نصرة الإمام عليّ في حرب الجمل، واصفاً إيّاه بأنه أفضل الناس من حيث العلم والعمل([44]). وفي نقلٍ آخر: إن حجراً عندما علم بقصد ابن ملجم إلى اغتيال الإمام عليّ× توجَّه إلى بيت الإمام مسرعاً؛ كي يخبره بالأمر، ولكنْ حيث كان الإمام قد سلك طريقاً آخر إلى المسجد فإنه لم يتمكَّن من رؤيته. إن هذه الرواية تثبت أنه لم يكن يعتقد بأن الإمام عليّاً× لم يكن عالماً بهذا الأمر. بالالتفات إلى هذه الرواية كان حجر يرى أن الإمام عليّاً× عالمٌ بأمور الدين، ولكنْ قد لا يعلم بأحداث المستقبل([45]).

كما كان عديّ بن حاتم وعبد الله بن حجل يعتبران الإمام عليّاً× أعلم الصحابة بأمور الدين([46]).

وقد تمّت الإشارة إلى هذه المنزلة في مصادر أهل السنّة أيضاً([47]). إن هذه المنزلة العلمية كانت موضع تأييد من قِبَل الخلفاء الثلاثة الأوائل، الذين كانوا يعرفون بوصفهم خصوماً سياسيّين للإمام عليّ×، وقد صرَّحوا بأفضلية الإمام عليّ على أنفسهم، ولم يكونوا يجدون حَرَجاً في الاعتراف بذلك. بل كانوا يراجعونه في المعضلات العلمية التي تشكل عليهم. ولو دقَّقنا في العبارة المشهورة عن الخليفة الثاني، والتي ردَّدها في أكثر من موضعٍ، إذ يقول: «لولا عليٌّ لهلك عمر»، أو «معضلةٌ وليس لها أبو الحسن»، لوجدناها تعبيراً عن تواضعه أمام علم الإمام عليّ×.

وكما ذكرنا يمكن لنا من أكثر هذه التعابير أن نعلم إجمالاً بأفضلية علم الإمام بالشريعة والمعارف الدينية وإدارة الأمّة، وأما عدم خطأ علم الإمام في هذا الشأن فيجب أن ندركه من خلال قرائن أخرى، ولا سيَّما الروايات والأحاديث النبويّة، وأحياناً من نصوص كلام الإمام عليّ نفسه.

يفهم من هذه الروايات المتقدّمة بوضوحٍ، ومن غيرها ممّا لم نذكره، أن القول بأعلمية وأفضلية الإمام عليّ× وغيره من الأئمّة في القرن الأوّل يميل بشكلٍ عام إلى الأفضلية العلمية والعلم بالتعاليم الدينية، وكون كلامهم في هذا الشأن يمثِّل فصل الخطاب، وأن موضوع علم الأمة بالغيب والأمور الأخرى، ولا سيَّما أحداث المستقبل، لم يكن هو المنظور، رغم أن التعلُّق العامّ ـ ولا سيَّما في المجتمعات المأزومة سياسياً واجتماعياً ـ بهذه الأمور أشدّ، وهو ما سوف نتعرَّض إلى بيانه ضمن الفقرة التالية.

 

ثانياً: علم الإمام بالأمور الغيبية وغير الدينية

في ما يتعلَّق بعلم الأئمّة بالغيب والأخبار المتعلّقة بأحداث المستقبل، وغيرها من المسائل التي لا يمكن الحصول عليها من القنوات العادية، هناك رواياتٌ كثيرة، وقد حظيَتْ باهتمامٍ خاصّ من قِبَل الرواة والعلماء الشيعة أيضاً([48]). وقد ورد بعضها في نهج البلاغة أيضاً([49]). وبناءً عليها يشير الإمام إلى بعض أحداث المستقبل، ويقرّ بامتلاكه العلم بالأحداث التي لا يمكن فهمها والوصول إلى علمها بالطرق العادية الميسورة للجميع، والتي يصطلح عليها بـ (أخبار الغيب). كما ذكر الشيخ المفيد في كتاب «الإرشاد» موارد من علم الإمام بالأحداث والمسائل الغيبية أيضاً([50]).

إن الروايات الخاصّة بهذا الجانب من علم الإمام عليّ× لم تُؤْثَر عن الخاصّة من أصحابه فحَسْب، بل رواها كذلك بعض أصحابه العاديين، بل وأذعن بها حتّى أعداؤه أيضاً. ومن بين الخاصة من أصحاب الإمام عليّ× يمكن الإشارة إلى تنبّؤ الإمام بكيفية وطريقة استشهاد ميثم التمّار([51])، ورشيد الهجري([52]). وفي هذه الموارد كان الرواة هم أنفسهم الأشخاص الذين تنبّأ الإمام بمصيرهم. كما أن توقُّع عمّار بن ياسر ما إذا كان الإمام عليّ× يعلم بقرب زمن استشهاده أم لا يعبِّر عن اعتقاده بأن الإمام يعلم بالأمور الغيبية([53]). وهناك شواهد تثبت أن ابن عبّاس كان يرى أن الإمام عليّاً× يعلم أحياناً بالأمور الخفيّة بواسطة النبيّ الأكرم|، ولكنّه في أغلب الموارد كان قلقاً من عدم تحقُّق نبوءة الإمام. ومن ذلك مثلاً أنه يروي أن الإمام عليّاً× تنبّأ في منطقة ذي قار بأن ألف رجلٍ من أهل الكوفة سيأتون للبيعة، لن ينقص منهم واحدٌ ولن يزيد عليهم واحدٌ. يقول ابن عباس: «فجزعت لذلك أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدون عليه، فيفسد الأمر علينا»([54]). ولكنْ بطبيعة الحال زال قلقه عندما تحقّقت نبوءة الإمام عليّ×. كما نقل أنه عندما تنبّأ الإمام عليّ× قبل بدء معركة الجمل بانتصاره على طلحة والزبير ثقل هذا الأمر على أحد أصحابه، وصرَّح بذلك إلى ابن عبّاس، فقال له ابن عباس: «لا تعجل حتّى ننظر ما يكون». يقول المشكِّك: فلما كان من أمر البصرة ما كان أتيتُه [يعني ابن عبّاس]، فقلتُ: لا أرى ابن عمّك إلاّ قد صدق في مقاله! فقال: «ويحك، إنا كنّا نتحدّث أصحاب محمد أن النبيّ| عهد إليه ثمانين عهداً لم يعهد شيئاً منها إلى أحدٍ غيره، فلعلّ هذا ممّا عهده إليه»([55]).

إن تأييد ابن عبّاس لعلم الإمام عليّ× بالغيب يثبت أنه كان يؤمن بالمقام العلميّ للإمام×. بَيْدَ أن تفسيره لمصدر هذا العلم، وأنه كان يقول الشيء نفسه بالنسبة إلى سائر الصحابة، يجعل رأيه على مستوى رؤية أهل السنّة في هذا الشأن.

صحيحٌ أن هذا النوع من العلم لا صلة له بالإمامة ورسالة الأئمّة في الهداية، وأن إنكاره لا يقلِّل من مكانتهم، كما نفى القرآن عن النبيّ| علم الغيب بهذا النوع من الأمور، وحذَّر الآخرين من سؤال النبيّ عن أمور خارجة عن الرسالة النبوية([56])، إلاّ أن أهمّية بعض الأحداث، والفضاء السياسي والاجتماعي المتوتِّر في ذلك الزمن، يدفع بالبعض إلى التطلُّع نحو معرفة مصير الأحداث وعواقب الأمور. ومن هذه الناحية كانوا يرغبون أن يطلعهم أحدٌ على مصير الأحداث والأشخاص، كما هو الحال في المجتمعات الراهنة، حيث يبحث الجميع عما ستكون عليه مآلات الأمور.

وبطبيعة الحال هناك في البين بعض الروايات التي لا تخلو من إنكار بعض الأصحاب لعلم الإمام بالأخبار الغيبية، وهو ما سنذكره في الفقرة اللاحقة.

ثالثاً: إنكار العلم السابق للإمام عليّ والحسنين^ بالأحداث والمسائل غير الدينية

إن الشواهد التي سبق ذكرها على إثبات المكانة العلمية الرفيعة للإمام علي× وغيره من أئمّة أهل البيت عن لسان الأصحاب كانت تشير إلى علمهم بالأمور الدينية. وفي الأساس إن المرتكز الذهني للأصحاب بشأن العلم الخاصّ للإمام وأهل البيت لم يكن يتجاوز هذا الحدّ. وإن سيرة الأصحاب في فترة حياة الإمام عليّ× والحسنين’ لم تكن تتجاوز النظرة العادية والبشرية لهم. صحيحٌ أنهم كانوا يفضِّلون الأئمة على غيرهم، ويعطونهم المكانة الأسمى والأرفع، وينظرون إليهم نظرةً خاصّة ومتميّزة، ولكنْ ليس بأيدينا أيُّ شاهدٍ على أنهم كانوا يعتبرون الإمام عالماً بما كان وما يكون، أو أن يتوقّعوا منهم شيئاً خارجاً عن طاقة سائر البشر، بل رُبَما كان الأئمّة أنفسهم يتعرَّضون للمشاكل التي يتعرَّض لها سائر الناس، ولا يستطيعون دفعها. ولم يكن شائعاً بين الأصحاب الحديث عن طلب المعجزات أو الاستشفاء أو الشفاعة، رغم أن إخلاص الطاعة من خاصّة أصحابهم المعاصرين لهم كانت أكثر إخلاصاً وصدقاً من أولئك الذين تبنَّوْا هذه الرؤية لاحقاً، وأضحَتْ اليوم هي السمة الغالبة في المناسبات التي تعقد إحياءً لأمرهم. ومن الشواهد التاريخية أن حجر بن عديّ عندما اطّلع على نيّة ابن ملجم وعزمه على اغتيال الإمام عليّ× سارع إلى منزله؛ لكي يحذِّره. ومن الواضح أن هذا الصحابي الوفيّ للإمام كان يفترض أن الإمام لم يكن يعلم بهذا الأمر، وإلاّ لما وجد حاجةً إلى إخباره([57]). وقد نقل بشأن ميثم التمّار أنه كان من أصحاب سرّ الإمام عليّ×، ولكنه مع ذلك عندما أخبره الإمام عن استشهاده واستشهاد حجر بن عديّ ومحمد بن أكثم في المستقبل قال له، بعد إبداء شكّه في ذلك: «إن علياً ليخبرنا بالغيب، فقلتُ له: أَوَكائن ذاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إي وربّ الكعبة، كذا عهد إليّ النبيّ…»([58]).

المثال الآخر أن مزرع بن عبد الله ـ أحد أصحاب الإمام عليّ× ـ ذكر واحدةً من مغيّبات الإمام عليّ لأبي العالية ـ وهو بدَوْره من أصحاب الإمام عليّ أيضاً ـ، فتعجّب أبو العالية من ذلك، وقال: أتخبر عن الغيب؟([59]).

وكذلك عندما أخبر الإمام عليّ× قبل وقوع معركة الجمل بانتصاره على طلحة والزبير بدا من الصعب على أحد أصحاب الإمام تصديق ذلك، ومن هنا فقد عبَّر لابن عباس عن شكوكه في هذا الشأن، فقال له ابن عبّاس: «لا تعجل حتّى ننظر ما يكون… فلعل هذا ممّا عهده إليه»([60]).

وفي روايةٍ أخرى عندما أخذ الإمام عليّ× يُخبر بأحداث المستقبل والوقائع الدامية قال له بعض أصحابه: لقد أُعطيتَ يا أمير المؤمنين علمَ الغيب، فضحك×، وقال للرجل، وكان كلبياً: يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيبٍ، وإنما هو تعلُّمٌ من ذي علم [يعني: رسول الله|]، وإنما علم الغيب علم الساعة»([61]).

وطبقاً لبعض الروايات الأخرى المأثورة عن أهل البيت، والتي ينفون فيها علمهم بالغيب، يبدو أن مرادهم من علم الغيب هو العلم الذاتي. وإن ذهاب بعض المتكلِّمين الشيعة إلى الاعتقاد بفساد القول بعلم الغيب للأئمّة([62]) ناظرٌ إلى هذا المعنى.

إن ابن عباس ـ كما سبق أن ذكرنا ـ لم يكن مطمئنّاً لعلم الإمام بالأمور الغيبية، ولذلك عندما أخبر الإمام بقدوم ألف رجل من الكوفة للبيعة ساوره القلق بشأن تحقُّق نبوءة الإمام× أو عدم تحقُّقها، وكأنّ سيرة الإمام باستثناء بعض الموارد الخاصّة ـ ولا سيَّما بالالتفات إلى عدم استعداد المجتمع في ذلك العصر ـ كان يقتضي من الإمام بشكلٍ عام أن يوضِّح مكانته الخاصّة بالالتفات إلى رسالته في الهداية والصفات الضرورية للإمام والإمامة. إن الذي كان يبدو أهمّ من الجميع هو إثبات مقدرته العلمية بتعاليم القرآن والسنّة، وهداية المجتمع إلى المسار الصحيح، والتأكيد على التعريف بنفسه بوصفه تلميذاً للنبيّ الأكرم|، والاهتمام الخاصّ الذي خصّه به رسول الله. وحتّى إذا قبلنا بجميع الروايات التاريخية المرتبطة بعلم الإمام بالغيب وإخباره عن المغيَّبات يجب اعتبار ذلك من الموارد الاستثنائية، وكونها قضية في واقعةٍ، وليس قاعدة وأصلاً ثابتاً في سيرة ومسار الإمام×، وسائر الأئمّة الآخرين تَبَعاً له.

وهناك رواياتٌ من هذا القبيل بشأن أصحاب الإمامين الحسن والحسين’ أيضاً؛ فإن كتابة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين× يحذِّره من القدوم إلى الكوفة، وكذلك ما قام به عبد الله بن جعفر ـ وهو زوج السيدة زينب الكبرى، ومن المقرّبين من الإمام الحسين× ـ وعبد الله بن عباس ـ وهو من العالمين بتأويل القرآن ـ من الكتابة إلى الإمام الحسين بعدم الذهاب إلى كربلاء؛ خوفاً عليه من القتل، دليلٌ على أنهم يرَوْن أن الإمام لا يعلم بالغيب وأخبار المستقبل. كما أن كاتب هذه السطور لم يعثر على روايةٍ يستنكر فيها الأئمّة طرح هذا التصوُّر من قِبَل أصحابهم المقرَّبين. وهذا خلافاً لموقف الأئمّة من أولئك الذين كانوا ينكرون علم الأئمّة بالشريعة.

كما أن اعتراض أصحاب الإمام الحسن×، من أمثال: سفيان بن أبي ليلى([63])، وحجر بن عديّ([64])، وسليمان بن صرد([65])، المأثورة في كتب التاريخ والسِّيَر، والتي سنبحثها في محلّها([66])، تثبت أنهم لم يكونوا يقولون بعصمة علم الإمام الحسن×، بل رُبَما اعتبروا أنفسهم أعلم منه بالأمور. وإن بعض الخاصّة من أصحاب الإمام عليّ× لم يكونوا يرَوْن للإمام الحسن× تلك المنزلة التي كانوا يرَوْنها للإمام عليّ، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن عبد الله بن عبّاس ـ وقد سبق أن ذكرنا موقفه من علم الإمام عليّ× ـ تحدَّث في مجلسٍ إلى محمد بن الحنفية بشأن الإمام الحسن×، قائلاً: «ما بال هؤلاء القوم يفتخرون علينا، يقولون: إنهم أعلم منّا، فقال محمد: ما ولدهم إلاّ مَنْ ولدني»([67]). وفي عصر الإمام الحسين× أيضاً لا نجد شيئاً يُذْكَر. وعلى الرغم من وجود بعض الموارد في الروايات العاشورائية، التي تثبت علم الإمام باستشهاده، ولكنّها وقعت مورداً لإنكار بعض الباحثين والمحقِّقين في الشأن التاريخي، أو أن هناك ـ في الحدّ الأدنى ـ مَنْ يعتبرها من تلك الطائفة من الأخبار الغيبية التي سبق أن أخبرهم بها رسول الله|. وفي التقارير التي تلوح من كلمات أصحاب الإمام الحسين×، بل وحتّى أبنائه، وكذلك المفاوضات التي جَرَتْ بين الإمام وأعدائه وأصحابه أيضاً، لا يُفْهَم صراحةً أن أصحاب الإمام قد ضحّوا بأنفسهم في ركابه ومن أجله انطلاقاً من هذا الفهم والرؤية، رغم أنه عند اقتراب الحادثة كانت هناك شواهد وقرائن على أن مصيرهم لم يكن سوى الاستشهاد.

وفي مرحلة الإمام السجاد× ورد التأكيد من قِبَله على علم الإمام في إطار الأدعية وبعض الأحاديث الأخرى المأثورة عنه، والتي يمكن لها أن تكون جواباً على مَنْ أنكر المراتب العلمية للأئمّة من هذه الناحية. وقد تمّ بيان بعض هذه النقاط في إطار الأدعية، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الإمام زين العابدين يقول في موضعين من أدعيته:

ـ «اللهمّ إنك أنزلته على نبيّك محمد| مجملاً، وألهمته علم عجائبه مكملاً، وورثتنا علمه مفسّراً».

ـ «ربّ صلِّ على أطائب أهل بيته، الذين اخترتهم لأمرك، وجعلتهم خزنة علمك».

هناك مَنْ فهم من تعبير الإمام السجاد× بـ «علم العجائب»، والإطلاق في «خزنة العلم الإلهي»، أنهم^ كانوا يعلمون بالأمور غير الدينية والحوادث الغيبية، رغم إمكان حمل هذه التعابير على العلوم الدينية والأمور المرتبطة بهداية البشر.

هناك في المصادر الروائية الشيعية الإمامية ما يقرب من عشرة روايات مأثورة عن الإمام زين العابدين× بشأن علم الأئمة، وأكثرها منقولٌ عن ثابت بن دينار، المعروف بـ «أبي حمزة الثمالي»، وهو من أصحاب الأئمة السجّاد والباقر والصادق والكاظم^([68]). وفي إحدى هذه الروايات: «علم رسول الله| عليّاً× كلمة يفتح ألف كلمة، يفتح كلّ كلمة ألفي كلمة»([69]). وطبقاً لروايةٍ أخرى عنه×: «والله، إنا لخزّان الله في سمائه، وخزّانه في أرضه»([70]). وعلى الرغم من ذلك كلّه فإنه في عصر الإمام السجّاد×، ولا سيَّما بالالتفات إلى غلبة الجوّ السياسي على المجتمع، لا يمكن اعتبار هذا البحث بحثاً مطروحاً وموضع جَدَل بين الأصحاب، رغم قلّة هذه الروايات.

المرحلة الثانية: من عصر الصادقَيْن’ إلى الغَيْبة الصغرى (عصر الحضور واتّساع رقعة الأفكار الكلامية والاهتمام التفصيلي ببحث علم الإمام)

يمكن عدّ ظهور الأفكار المذهبية والجَدَل الكلامي من الخصائص والسمات البارزة لهذه المرحلة. لقد أدّى ظهور الفكر الزيدي، ومدّعيات بعض العلويين في دائرة الإمامة في فضاء الفكر الشيعي، إلى مضاعفة الحاجة إلى طرح الأبحاث المتعلقة بالإمامة وشؤونها ووظائفها.

ومن هنا تمّ التأكيد في هذه المرحلة وما بعدها على علم الإمام بشكلٍ أكبر. لقد كان تأكيد الأئمّة في هذه المرحلة على المنزلة المعرفية وعلم الإمام من جهةٍ؛ والاختلافات الفكرية لأصحابهم من جهةٍ أخرى، قد تسبّبت بظهور التيارات الفكرية المختلفة في هذه المرحلة بشأن علم الإمام، بحيث أخذنا نواجه في هذه المرحلة وما بعدها اتجاهين بشأن علم الإمام، ولا سيَّما بالنظر إلى الأمور الدينية؛ حيث ظهر الاتجاه القائل؛ والاتجاه المنكر، في الدائرة الشيعية بالمعنى العامّ، وبين أصحاب الأئمة أنفسهم بشكلٍ خاصّ. ولا بُدَّ من التذكير هنا بأن الهاجس الرئيس في هذه المرحلة كان يكمن بشكلٍ أكبر في العلوم الدينية، وما يرتبط بشكلٍ وثيق برسالتهم المتعلّقة بهداية الناس. وفي هذا الشأن كان الشكّ والترديد يأتي في الغالب من قِبَل المنشقّين عن التشيُّع ومدرسة الأئمّة، أو الذين كان إنكارهم يعود في الغالب إلى الأمور غير الدينية أو إلى الأمور الدينية بصيغتها الشاملة والواسعة.

1ـ المنكرون للعلم الذي لا يقبل الخطأ.

2ـ القائلون بالعلم الذي لا يقبل الخطأ.

أوّلاً: المنكرون لعلم الأئمة

صحيحٌ أن هناك الكثير من الروايات التي تتحدَّث عن العلم الخاصّ لأهل البيت^ بأحكام الشريعة، وعلمهم الغيبي بسائر الموضوعات غير الدينية، بل وحتّى أحداث المستقبل والماضي السحيق. وقد تمّ جمع هذه الطائفة من الروايات في الجوامع الروائية ـ بطبيعة الحال ـ دون لحاظ صحتها وخطئها ونقد ودراسة رواتها([71]). وبالالتفات إلى ظواهر هذه الأحاديث لا يعود من الجائز إبداء أدنى تشكيكٍ في علم الغيب الشامل لهؤلاء العظماء. ولكنْ على الرغم من ذلك هناك الكثير من الشواهد التاريخية والروائية التي تثبت إنكار وتشكيك أصحاب الأئمة في هذا المعتقد الكلامي، ولا سيَّما في نوعه المطلق، بحيث ندرك أن المعطيات والافتراضات الكلامية السائدة بين الشيعة لا يمكن أن تنطبق على القضايا التاريخية، وكذلك روايات الأصحاب من الإمامية في الجملة. وفي ما يلي نشير إلى بعض النماذج من ذلك:

إن من بين المنكرين لعلم الإمام بعض أصحاب الأئمة من الذين عُرفوا بين الإمامية ـ بعد طرح أفكار من هذا القبيل بطبيعة الحال ـ بضعفاء الشيعة، بل وحتى مرجئة الشيعة أيضاً([72]). ومن هؤلاء، على سبيل المثال: الحكم بن عتيبة(114 أو 115هـ). فهو على الرغم من احترامه للمقام العلميّ للإمام الباقر×، بل إنه كان أستاذاً لأمثال: زرارة بن أعين وحمران والطيّار([73])، وكان يعتبر الإمام أفهم أهل زمانه، ويرى أن الإمام عليّاً× كان محدَّثاً([74])، إلاّ أنه في حواره وبحثه مع الأئمة([75]) كان يرفض كلام الإمام الباقر×، الأمر الذي يدفع بالإمام إلى مخاطبته قائلاً: لو أنك جبْتَ الشرق والغرب لن تجد العلم الصحيح إلاّ عند الأئمة([76]). وفي إحدى تلك المشاجرات اضطرّ الإمام الباقر إلى إرسال ولده؛ كي يحضر كتاب عليٍّ×؛ ليؤكِّد للحكم بن عتيبة صحّة كلامه من كتاب عليٍّ([77]). ورُبَما لهذا التوجُّه كان زرارة يعتبر الحكم بن عتيبة من البلهاء([78]).

وكان سالم بن عتيبة(137هـ) ـ وهو من المذهب البَتْري ـ ينكر المقام العلمي للإمامين الباقر والصادق’ صراحةً. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنه في حواره مع زرارة أشار إلى أن الإمام الباقر× قد سأله أسئلةً ساذجة، مستنكراً أن يكون الجاهل بها جديراً بالإمامة: (عن زرارة قال: لقيتُ سالم بن أبي حفصة، فقال لي: ويحك يا زرارة، إن أبا جعفر قال لي: أخبرني عن النخل عندكم بالعراق ينبت قائماً أو متعرّضاً؟ قال: فأخبرته أنه ينبت قائماً، قال: فأخبرني عن ثمركم حلوٌ هو؟ وسألني عن حمل النخل كيف يحمل؟ فأخبرته، وسألني عن السفن تسير في الماء أو في البرّ؟ قال: فوصفت له أنها تسير في البحر، ويمدّونها الرجال بصدورهم. فأَأْتمّ بإمامٍ لا يعرف هذا؟!)([79]).

عن أبي بصير قال، قيل لأبي عبد الله×، وأنا عنده: إن سالم بن أبي حفصة يروي عنك أنك تكلّم على سبعين وجهاً لك من كلّها المخرج؟ قال: فقال[×]: «ما يريد سالم منّي، أيريد أن أجيء بالملائكة؟!»([80]). وقد وصفه زرارة في حوارٍ له مع الإمام الصادق× بأنه، مثل الحكم بن عتيبة، من البلهاء (بمقام الإمامة)([81]). ولكنّه ـ مع ذلك كلّه ـ لا ينكر الكثير من فضائل الإمام عليّ×، ويروي أحاديث تمّ فيها وصف الإمام عليّ× بأنه كان عالماً بالقضاء، وأنه مصداق ﴿مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ﴾ في القرآن الكريم([82]).

وكان عمر بن رياح في بداية أمره من أصحاب الإمام الباقر×، معتقداً بإمامته، ثم غيَّر عقيدته، والتحق هو وعددٌ محدود من أصحابه ـ بتأثيرٍ منه ـ بالبَتْرية([83]). وقد ذكر أن سبب تغيير عقيدته يعود إلى الأجوبة المتناقضة التي سمعها من الإمام عن سؤالٍ واحد([84]).

وكان من أشدِّهم سليمان بن جرير، زعيم الزيدية السليمانية؛ إذ كان من أشدّ المخالفين للإمامية، وكان يبدي معارضةً شديدة للمقام العلمي للأئمّة. وقد نقل عنه أن أئمّة الرافضة يبرِّرون أخطاءهم تحت رداء التقيّة والبداء([85]). وقد أشار ضمن هذا الكلام إلى أن الروافض يعتقدون بأن أئمّتهم يعلمون بما كان وما يكون، ويعلمون أيضاً بكلّ ما يعلمه الأنبياء، بل إنهم يمتلكون حتّى الأسباب التي يعلم الأنبياء بالأمور من خلالها([86]). في حين أنه كان في بداية الأمر يُعَدّ واحداً من المقرّبين من أصحاب الإمام×.

إذا استثنينا هؤلاء؛ بسبب انتمائهم الزيدي، فهناك أيضاً بعضٌ آخر من خاصّة أصحاب الأئمة، وقد أنكروا المقامات العلمية للأئمّة؛ أو أنهم تردَّدوا بشأنها في الحدّ الأدنى. وهناك شواهد لهذا التردُّد حتّى من قِبَل بعض مشاهير أصحاب الأئمة. فقد رُوي عن الإمام الباقر× حديثٌ يشير إلى إنكار علم الإمام من قِبَل بعض أصحاب الأئمة، ومن ذلك الراوية التالية: «عن ضريس قال: سمعتُ أبا جعفر× يقول، وأناسٌ من أصحابه حوله: إني أعجب من قومٍ يتولّوننا، ويجعلوننا أئمّة، ويصفون بأن طاعتنا عليهم مفترضة كطاعة الله، ثم يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم؛ فينقضون حقّنا… أترَوْن أن الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ثمّ يخفي عنهم أخبار السماوات والأرض»([87]). إن هذه الرواية تثبت وجود جماعةٍ بين أصحاب الإمام×، وأن هذه الجماعة، رغم اعتقادها بوجوب إطاعة الأئمّة على أنفسهم، لا يرَوْن لزوماً لعلم الأئمّة بالأمور المذكورة. ورُبَما كان هذا المدّعى موافقاً لما ذكره النوبختي في فرق الشيعة بشأن اختلاف الشيعة بعد استشهاد الإمام الرضا×، وذهاب البعض إلى توظيف الأئمّة للقياس. رغم أن هذه الجماعة ـ بالالتفات إلى اعتقادها بعصمة الإمام ـ ترى حجّية قول الأئمّة في توظيفهم القياس، ولكنْ رُبَما أمكن القول: إن هذا النوع من العلم يقع في أدنى مستويات العلم، بالمقارنة إلى ذلك العلم الذي يحصل من الطرق غير الاعتيادية.

وقد أشار النوبختي إلى جماعاتٍ مختلفة من الشيعة في تلك المرحلة. وكانت إحدى هذه الجماعات تجيز استعمال القياس للأئمّة([88]). لا شَكَّ في أن الذي يذهب إلى مثل هذا الاعتقاد لا يرى الأئمّة عالمين بجميع الأمور الدينية.

يروي هشام بن الحكم أن الإمام الصادق× سأله عن ابن طيّار، فأخبره أنه مات، فقال الإمام: «رحمه الله، ولقّاه نضرةً وسروراً، فقد كان شديد الخصومة عنا أهل البيت»([89]). إن المراد من «شديد الخصومة» ليس هو العداء، وإنما هو الجدال والنقاش العلمي. إن هذه الرواية تشير إلى أنه حتّى إذا كان الطيّار غير مؤمن بإمامة الإمام، وكان يرى طاعة الإمام فَرْضاً عليه، ولكنّه كان يأخذ رأيه بنظر الاعتبار أيضاً.

وفي حديثٍ آخر عندما بلغ سمع أبي بصير أحد الأجوبة العلمية للإمام الكاظم× بشأن رجم الزانية المحصنة لم يستوعِبْ هذا الجواب، وقال لذلك الصحابي: «ما أظنّ صاحبنا [أي الإمام الكاظم×] تناهى حلمه [أو حكمه]»، وفي عبارةٍ أخرى: «ما تكامل علمه»([90]).

وقد تحدَّث الشيخ المفيد في كتاب (الاعتقادات) عن جماعةٍ من أهل قم بوصف «الشيعة المقصِّرة»؛ إذ كانوا يعتقدون بأن الأئمّة لا يعلمون بالكثير من أحكام الشريعة، وأنهم كانوا يعتمدون في فهمهم على الآراء والظنون. كما نقل عن زرارة بعض التقارير بشأن تردُّده في المقام العلميّ للأئمة، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: يمكن الإشارة إلى إصراره على نظرية الاستطاعة قبل الفعل، رغم مخالفة الإمام الصادق× له في ذلك. قيل: إنه عندما علم بمخالفة الإمام الصادق× لرأيه قال: «أما أنه قد أعطاني الاستطاعة من حيث لا يعلم، وصاحبكم هذا ليس له بَصَرٌ بكلام الرجال»([91]). وما نُقل بشأن الاستطاعة منسوباً إلى زرارة نُقل ما يشبهه بالنسبة إلى محمد بن مسلم أيضاً([92]). وهذا بطبيعة الحال لا يعني أنهم كانوا يشكِّكون في كلام الإمام بشأن الأمور المرتبطة بالحلال والحرام، ولا يرَوْنها حجّةً، وإنما كان تردُّدهم يكمن في أن الأئمّة هل يعلمون بآراء الآخرين في المعارف الكلامية بشكلٍ كامل أم لا؟ وليس الترديد في علمهم الخاصّ بمسائل الحلال والحرام.

ومن ذلك مثلاً أن هشام بن الحكم نقل عنه كلامٌ يثبت أنه كان في مرحلةٍ يرى في الحدّ الأدنى أن الأئمة إنما يعلمون الأمور الفقهية (الحلال والحرام)، وليس لديهم اطلاع بشأن المسائل الكلامية، حتّى كان منه أن طرح خمسمائة مسألة كلامية على الإمام الصادق× في مِنى، وأجاب عنها الإمام. فتعجَّب هشام، وقال: «سألتُ أبا عبد الله× بمِنى عن خمسمائة حرفٍ من الكلام، فأقبلتُ أقول: يقولون كذا وكذا، قال×: قُلْ: كذا وكذا، قلتُ: جُعلت فداك، هذا الحلال وهذا الحرام، أعلم أنك صاحبه وأنك أعلم الناس به، وهذا هو الكلام، فقال لي: ويحك يا هشام، [لا] يحتجّ الله تبارك وتعالى على خلقه بحجّةٍ لا يكون عنده كلّ ما يحتاجون إليه»([93]).

وكان عبّاد بن كثير البصري من أصحاب الإمام الصادق، وقد رآه الإمام قد ارتدى ثياباً غليظة للشهرة، فقال له: «يا عبّاد، ما هذه الثياب؟ فقال: يا أبا عبد الله، تعيب هذا عليّ؟ قال: نعم، قال رسول الله|: مَنْ لبس ثياب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثياب الذلّ يوم القيامة، قال عباد: مَنْ حدَّثك بهذا؟ قال: يا عبّاد، تتّهمني؟! حدَّثني آبائي^، عن رسوله|»([94]). إن هذا الموقف من عبّاد يثبت أنه كان ينظر إلى الإمام الصادق× بوصفه شخصاً عادياً، وأنه لا يتجاوز أن يكون راوياً للحديث، ولا يقبل قوله إلاّ إذا كان مسنداً إلى روايةٍ مأثورة عن رسول الله|.

عن سعد بن أبي الأصبغ قال: كنتُ عند أبي عبد الله× جالساً، إذ دخل عليه الحسن بن السري الكرخي، فسأل أبا عبد الله× عن شيءٍ، فأجابه، فقال له: ليس كذلك! فقال أبو عبد الله×: هو كذلك، وردّها عليه مراراً، كلّ ذلك يقول أبو عبد الله×: هو كذلك، ويقول هو: لا، فقال أبو عبد الله× أترى مَنْ جعله الله حجّةً على خلقه يخفى عليه شيء من أمورهم»([95]).

كما نقل عنه أنه كان يخفي شيئاً عن الإمام الصادق×، فسأله الإمام عنه مراراً، وكان هو يصرّ على إنكاره، حتّى قال له الإمام في نهاية المطاف: «أترى مَنْ جعله الله حجّةً على خلقه يخفى عليه شيءٌ من أمورهم»([96]).

يمكن مشاهدة المنعطف التاريخي لهذا الاختلاف بعد استشهاد الإمام الرضا×، وإمامة ولده الصغير، حيث انعكس هذا الخلاف في التقارير التاريخية والروائية أيضاً. وقد بيَّن النوبختي هذا النزاع الفكري الذي أدّى إلى تصدّع الكيان الشيعي إلى عدّة فرق على النحو التالي: «كان سبب الفرقتين اللتين ائتمّت واحدةٌ منها بـ (أحمد بن موسى)، ورجعت الأخرى إلى القول بالوقف، أن أبا الحسن الرضا× توفي وابنه محمد ابن سبع سنين؛ فاستصبوه واستصغروه، وقالوا: لا يجوز الإمام إلاّ بالغاً، ولو جاز أن يأمر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بطاعة غير البالغ لجاز أن يكلِّف الله غير بالغ، فكما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس ودقيقه وجليله وغامض الأحكام وشرائع الدين وجميع ما أتى به النبيّ| وما تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها طفلٌ غير بالغ… ثم إن الذين قالوا بإمامة أبي جعفر محمد بن عليّ بن موسى× اختلفوا في كيفية علمه؛ لحداثة سنّه، ضروباً من الاختلاف: فقال بعضُهم لبعضٍ: الإمام لا يكون إلاّ عالماً، وأبو جعفر غير بالغ، وأبوه قد توفّي، فكيف علم؟ ومن أين علم؟».

وقد تحدَّث النوبختي هنا عن رؤيتين مختلفتين، وبيَّن الاختلاف الشديد بين أصحاب الإمام على النحو التالي: «قال بعضهم: قبل البلوغ هو إمامٌ على معنى أن الأمر له دون غيره إلى وقت البلوغ، فإذا بلغ علم، لا من جهة الإلهام والنَّكْت ولا المَلَك ولا لشيءٍ من الوجوه التي ذكرتها الفرقة المتقدّمة؛ لأن الوحي منقطعٌ بعد النبيّ| بإجماع الأمة، ولأن الإلهام إنما هو أن يلحقك عند الخاطر والفكر معرفة بشيءٍ قد كانت تقدّمت معرفتك به من الأمور النافعة، فذكرته، وذلك لا يعلم به الأحكام وشرائع الدين على كثرة اختلافها وعللها قبل أن يوقف بالسمع منها على شيءٍ؛ لأن أصحّ الناس فكراً وأوضحه خاطراً وعقلاً وأحضره توفيقاً لو فكّر وهو لا يسمع بأن الظهر أربع والمغرب ثلاث والغداة ركعتان ما استخرج ذلك بفكره، ولا عرفه بنظره، ولا استدلّ عليه بكمال عقله، ولا أدرك ذلك بحضور توفيقه، ولا لحقه علم ذلك من جهة التوفيق أبداً، ولا يعقل أن يعلم ذلك إلاّ بالتوفيق والتعليم، فقد بطل أن يعلم شيئاً من ذلك بالإلهام والتوفيق. لكنْ نقول: إنه علم ذلك عند البلوغ من كتب أبيه، وما ورثه من العلم فيها، وما رسم له فيها من الأصول والفروع. وبعض هذه الفرقة تجيز القياس في الأحكام للإمام خاصّةً على الأصول التي في يديه؛ لأنه معصومٌ من الخطأ والزلل، فلا يخطئ في القياس، وإنما صاروا إلى هذه المقالة لضيق الأمر عليهم في علم الإمام وكيفية تعليمه؛ إذ ليس هو ببالغٍ عندهم. وقال بعضُهم: الإمام يكون غير بالغ ولو قلَّتْ سنُّه؛ لأنه حجّة الله، فقد يجوز أن يعلم وإنْ كان صبياً، ويجوز عليه الأسباب التي ذُكرت من الإلهام والنَّكْت والرؤيا والمَلَك المحدِّث ورفع المنار والعمود وعرض الأعمال، كلُّ ذلك جائزٌ عليه وفيه، كما جاز ذلك عن سلفه من حجج الله الماضين»([97]). إن هذا النزاع ـ طبقاً لكلام الأشعري القمّي ـ لم يؤدِّ إلى اختلاف الأصحاب بشأن علم الإمام وكيفيته فحَسْب، بل أدى إلى تشعُّبٍ كامل في صفوف الشيعة بشكلٍ عام([98]).

الجماعة الثانية: المعتقدون بعلم الأئمّة وعصمة علمهم من الخطأ

إن المراد من العلم الذي لا يتطرَّق إليه الخطأ هنا هو العلم بالأحكام والمعارف الدينية، وليس العلم بالحوادث والأمور غير الدينية، التي قد يكون علم غير الله فيها مشمولاً للبداء والتغيُّر.

كان الجارودية وأكثر أصحاب الأئمة يعتقدون بعصمة علم الأئمّة من الخطأ. وطبقاً للتقارير الروائية والتاريخية كان الجارودية وحدهم من بين الزيدية الذين يعتقدون بأن علم الحلال والحرام بعد النبيّ الأكرم| يوجد حَصْراً عند أهل بيت النبيّ (من ولد فاطمة). قيل: إن أبا الجارود رئيس الفرقة الجارودية كان يعتقد «بأن الحلال ما أحلّه أهل بيت النبيّ|، والحرام ما حرَّموه، وأن عندهم جواب كلّ ما تحتاجه الأمة كاملاً، لا فرق في ذلك بين صغيرهم وكبيرهم، وأن كل مَنْ يبلغ منهم سنّ الرشد، وتكتمل فضائله الأخلاقية، تكون له الأرجحيّة على الآخرين»([99]). وقيل: إنه كان يرى أن علم الإمام يكون بواسطة الإلهام الإلهيّ، ويرى أن الإمام متى ما احتاج أن يعلم بأحكام الحوادث المختلفة حصل له العلم بها إلهاماً من الله([100]). وقد كان مرادهم من أهل البيت ـ بطبيعة الحال ـ الأعمّ من الذين نراهم نحن بوصفهم أئمّة الشيعة.

ولو استثنينا الجارودية فهناك الكثير من أصحاب الإمامية الذين يعتقدون بالعلم المعصوم من الخطأ بالنسبة إلى الأئمة، وأحياناً على نحوٍ مطلق يشمل العلم بالأمور الدينية وغير الدينية أيضاً. وفي حديثٍ عن الإمام الصادق× أنه قال: «يا عجباه لأقوامٍ يزعمون أنا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلاّ الله، لقد هممتُ بضرب جاريتي فلانة، فهربت منّي، فما علمتُ في أيّ بيوت الدار هي؟»([101]). إن هذا الحديث وإنْ كان ينفي علم الغيب عن الإمام، إلاّ أنه في الوقت نفسه لا يدلّ على وجود مثل هذا الاعتقاد في ذلك الحين أيضاً.

قال أبو بصير: «قلتُ لأبي عبد الله×: إنهم [الغلاة] يقولون [عنك أموراً]، قال: وما يقولون؟ قلتُ: يقولون: تعلم قطر المطر وعدد النجوم وورق الشجر ووزن ما في البحر وعدد التراب، فرفع يده إلى السماء، وقال: سبحان الله، سبحان الله، لا واللهِ، ما يعلم هذا إلاّ الله»([102]).

وجاء في حديثٍ آخر عن ابن المغيرة: «كنتُ عند أبي الحسن×، أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن×، فقال يحيى: جُعلتُ فداك، إنهم [الغلاة] يزعمون أنك تعلم الغيب؟ فقال: سبحان الله، سبحان الله، ضَعْ يدك على رأسي، فواللهِ، ما بقيت في جسدي شعرةٌ ولا في رأسي إلاّ قامت، قال، ثم قال: لا واللهِ، ما هي إلاّ وراثةٌ عن رسول الله|»([103]).

كما كان هذا النوع من الاختلاف بشأن مقدار علم الأئمّة بالشريعة، ومنشأ علمهم، موجوداً أيضاً، وسوف نتعرَّض لذلك في مواضع أخرى.

وفي المجموع، رغم اعتقاد أكثر الأصحاب بأفضلية الأئمّة العلمية، ولا سيَّما في ما يتعلَّق بالتعاليم الدينية، ولكنّ هذا لم يكن يعني أنه لم يكن هناك أيّ اختلافٍ في كيفية وأدوات وجهات علمهم. ومن هنا لا بُدَّ من التفكيك والفصل بين مختلف آراء المعتقدين بعصمة علم الأئمّة^.

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذٌ مساعِدٌ في جامعة الأديان والمذاهب.

([1]) انظر على سبيل المثال: رجال الكشّي: 271، 280، 410، 490، 439؛ الكليني، الكافي 8: 285؛ 6: 385.

([2]) في ما يتعلّق بسبب الاطلاع على الاختلاف بشأن العصمة انظر: رجال الكشّي، رقم 144، 456؛ الشهيد الثاني، حقائق الإيمان: 151؛ رجال السيد بحر العلوم 3: 187، 213 ـ 220. وفي ما يتعلق باعتراض بعض الأصحاب على الأئمّة واختلافهم معهم انظر: الصدوق، التوحيد: 97 ـ 104؛ رجال الكشّي: 279 ـ 322، 336، 391 ـ 392، 407، 539 ـ 543، 572، 574.

([3]) انظر: تاريخ الإمامية: 137 ـ 153؛ فِرَق الشيعة: 60 ـ 64، 88 ـ 90؛ المقالات والفِرَق: 72 ـ 76، 96 ـ 97. وللوقوف على الشواهد الروائية حول هذه الاختلافات انظر: مكتب در فرايند تكامل (مصدر فارسي): 28 ـ 72. كما يمكن اعتبار ظاهرة الغلوّ والغلاة إلى حدٍّ ما معلولةً لإدراك بعض الخاصة من الأصحاب لمقام ومنـزلة الأئمّة وعدم تحمّلهم لبعض كرامات أهل البيت.

([4]) انظر: الكليني، الكافي 1: 262؛ الصفّار، بصائر الدرجات: 124.

([5]) لقد ذكر المجلسي طائفةً من هذه الروايات، تحت عنوان: (باب أنهم لا يعلمون الغيب ومعناه)، وعمل على الجمع بينها. وقد اعتبر هناك أن علم الإمام بالغيب نسبي، وقال في هذا الشأن: ظاهر أنهم إذا تعلموا في بدو إمامتهم علماً لا يقفون في تلك المرتبة، ويحصل لهم؛ بسبب مزيد القرب والطاعات، زوائد العلم والحكم والترقيات في معرفة الربّ تعالى. (بحار الأنوار 26: 21). ولمزيدٍ من الاطلاع حول آراء علماء الشيعة بشأن علم الإمام انظر: محمد حسن نادم، مجموعه مقالات علم إمام (مصدر فارسي).

([6]) لقد كان المتكلِّمون الشيعة منذ البداية مختلفين بشأن محورين هامين، وهما: العصمة؛ وعلم الغيب بالنسبة إلى الأئمة. فكان منهم مَنْ يعتبر علم الأئمة في هذا الشأن محدوداً، ومنهم مَنْ لا يراه محدوداً. (انظر: المفيد، أوائل المقالات: 77، الفصول المختارة 1: 70. وانظر أيضاً: محمد حسن نادم، مجموعة مقالات علم إمام (مصدر فارسي): 656 فما بعد، 758 ـ 759). ومن ذلك على سبيل المثال أنهم في ما يتعلَّق بعصمة النبيّ الأكرم| من السهو قد اتَّهموا الشيخ الصدوق والقمّيين القائلين بعدم جواز السهو على النبي بالغلوّ. (انظر: الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه: 296 ـ 297). وفي المقابل قال بعض المتكلِّمين ـ من أمثال: الشيخ المفيد والبغداديين ـ بعدم جواز سهو النبيّ، واتهموا المخالفين لهم بالتقصير في حقّ المعصومين^. (انظر: مصنَّفات الشيخ المفيد 10، عدم سهو النبيّ، حيث عمد الشيخ المفيد في هذه الرسالة إلى إثبات عدم سهو النبيّ). وفي ما يتعلَّق بباب علم الغيب ذهب الكثير من المتكلِّمين إلى القول بعلم المعصومين^ بالغيب في الحوادث الجزئية، بالإضافة إلى العلم بالأحكام الكلّية للإسلام، وقالوا بأن الأئمة يعلمون بما كان وما يكون وما هو كائنٌ، رغم أن هذا النوع من علم الغيب إنما هو رشحةٌ من علم الغيب الإلهي. (انظر: محمد رضا المظفَّر، عقائد الإمامية؛ العلاّمة الطباطبائي، رسالة في علم النبيّ والإمام بالغيب، مطبوع في مجلة نور علم، العدد 49). وقال بعض المتكلِّمين: إن المعصومين لا يعلمون إلاّ بالموارد التي يأذن الله لهم بعلمها من الأمور والأحداث الجزئية. (انظر: مصنَّفات الشيخ المفيد 4، أوائل المقالات: 67). وفي ذلك قال الشيخ المفيد: (فأما إطلاق القول عليهم بأنهم يعلمون الغيب فهو منكر بيِّن الفساد… وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة، إلاّ مَنْ شذّ عنهم من المفوِّضة ومَنْ انتمى إليهم من الغلاة). ومن بين العلماء المعاصرين الشيعة ذهب العلاّمة الطباطبائي إلى ادّعاء التواتر في هذا الشأن بنحوٍ من الأنحاء، وقال بأن هذا النوع من العلم مرتبط بالناحية الإلهية والنورانية من وجودهم. (انظر: محمد حسن نادم، علم إمام (مصدر فارسي): 352 ـ 356). وفي المقابل قال صالحي نجف آبادي: لا توجد هناك أيّ رواية بشأن علم الإمام اللامحدود، بل هناك روايات تثبت عكس ذلك. (انظر: المصدر السابق: 357). وعلى أيّ حال إن جذور الاختلاف في كلا البابين يعود إلى روايات واردة لصالح كلا الطرفين المتخاصمين. (انظر: الكليني، الكافي 1: 221، 223، 228، 239، 240، 253، 255، 256، 258، 274، 296، 297). وللاطلاع على هذا الموضوع انظر إلى: 1ـ علم الإمام، لمؤلِّفه: محمد رضا المظفَّر. 2ـ آگاهي سوم وعلم غيب (مصدر فارسي)، لمؤلِّفه: جعفر سبحاني. وكذلك يمكن الرجوع إلى: وسائل السيد اللاري، ورسالة المعارف السلمانية. والأكثر تفصيلاً من الجميع: كتاب مجموعة مقالات علم إمام (باللغة الفارسية)، لمؤلِّفه: محمد حسن نادم.

([7]) وإن كنا لا نستطيع أن نفهم من عبارة (كلّ ما كان وما يكون وما هو كائنٌ) إثبات العلم المطلق للأئمة بجميع أمور الدين والدنيا وأحداث الغيب والأمور الجزئية بشكلٍ صريح؛ إذ رُبَما كانت هذه العبارة ناظرةً إلى مجموع علمهم بتأويل القرآن وتطبيقه في زمان كلّ واحدٍ منهم. (انظر: الصفّار، بصائر الدرجات: 195، ح4 و6).

([8]) انظر: أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين: 50، تصحيح: هيلموت ريتر.

([9]) انظر: الطوسي، تمهيد الأصول: 359 ـ 365.

([10]) انظر: الخواجة نصير الدين الطوسي، تلخيص المحصل: 430.

([11]) انظر: المجلسي، معتقد الإمامة: 103.

([12]) انظر: المفيد، أوائل المقالات: 21. وللوقوف إجمالاً على هذا النوع من الاختلافات انظر: مجموعة من المؤلفين، معارف كلامي شيعه، كلّيات إمامت (مصدر فارسي): 172 ـ 174، 297 ـ 303.

([13]) يُعَدّ هذا الكتاب من المصادر الشيعية القديمة والمعتبرة. وإن مؤلِّفه من أصحاب الإمام الحسن العسكري×. وكانت رواياته على الدوام محطّ اهتمام واستناد كبار المجتمع الشيعي. ومع ذلك كله فإنه يشتمل على أحاديث عجيبة وغالية بشأن المراتب والمقامات العلمية للأئمّة على نحوٍ واسع، إلى الحدّ الذي يذهب البعض معه إلى اعتبار رواياته غالية. قال المامقاني في تنقيح المقال، نقلاً عن العلامة المجلسي: رُبَما كان سبب عدم رواية ابن الوليد ـ أستاذ الشيخ الصدوق ـ لبصائر الدرجات (كما أشار النجاشي والطوسي في فهرستَيْهما) يعود إلى اشتماله على الغلوّ في شأن الأئمة.

([14]) انظر: گرامي: 128 ـ 130. وانظر بعض الشواهد الروائية على ذلك في: الكافي 1: 257، 261، 366.

([15]) انظر: الجعفري، تشيُّع در مسير تاريخ: 308 ـ 309. (مصدر فارسي).

([16]) انظر: النساء: 59.

([17]) انظر: الكليني، الكافي 1: 358 ـ 360.

([18]) وقبل ذلك كان الأئمّة يؤكِّدون على هذه النقطة كثيراً في معرض الاحتجاج على خصومهم. ويمكن الوقوف على نماذج من ذلك في كلمات الأئمة عليّ والحسن والحسين^. انظر: الجعفري، تشيّع در مسير تاريخ: 289 ـ 291، 433 ـ 443. (مصدر فارسي).

([19]) انظر: حسين المدرسي الطباطبائي، مكتب در فرايند تكامل: 33 ـ 93. (مصدر فارسي).

([20]) انظر نماذج من ذلك في المصادر التالية: المفيد، الإرشاد 1: 30. وللمزيد من الاطلاع بشأن التعابير السامية للأصحاب في وصف الإمام عليّ× انظر: الإسكافي، المعيار والموازنة.

([21]) انظر: جعفريان، تاريخ تشيّع (مصدر فارسي)، المباحث المرتبطة بمعرفة أقسام التشيّع.

([22]) انظر: الصدوق، الأمالي: 774.

([23]) انظر: المصدر السابق: 548.

([24]) انظر: المفيد، الأمالي: 138 ـ 139.

([25]) انظر: رجال الكشّي: 11، رقم 24.

([26]) انظر: تاريخ اليعقوبي 2: 163.

([27]) انظر: الصدوق، الخصال  2: 463.

([28]) تاريخ اليعقوبي 2: 171.

([29]) انظر: رجال الكشّي: 26، رقم 51.

([30]) الصفّار، بصائر الدرجات: 75.

([31]) رجال الكشّي: 26.

([32]) انظر: الإسكافي، المعيار والموازنة: 107، ترجمه إلى اللغة الفارسية: الدامغاني؛ المفيد، الجمل: 137.

([33]) الطوسي، الأمالي 2: 143، مع مقدّمة بحر العلوم.

([34]) انظر: الإسكافي، المعيار والموازنة: 110، ترجمه إلى اللغة الفارسية: الدامغاني.

([35]) انظر: المفيد، الفصول المختارة: 263.

([36]) تاريخ اليعقوبي 2: 179.

([37]) انظر: المصدر نفسه.

([38]) انظر: المصدر نفسه.

([39]) المصدر السابق: 77، طبعة مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات.

([40]) المفيد، الإرشاد 1: 34 ـ 35. وعلى الرغم من وجود الإشكالات الجادّة في سند هذه الرواية، إلاّ أن مقاطعها المختلفة قد نقلت في المصادر الأخرى أيضاً. انظر: إبراهيم بن محمد الثقفي، الغارات 1: 8؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 6: 136؛ الصدوق، التوحيد: 305 ـ 306.

([41]) المصدر نفسه.

([42]) انظر: الصفّار، بصائر الدرجات: 111؛ رجال الكشّي: 5، 103. وانظر مزيداً من ذلك في: رجال الكشّي: 21 ـ 28.

([43]) انظر: المفيد، الجمل: 138؛ الإسكافي، المعيار والموازنة: 121، ترجمه إلى الغة الفارسية: الدامغاني.

([44]) انظر إلى موارد من آراء الصحابة وكلمات الإمام عليّ× في: المفيد، الإرشاد 1: 10 ـ 71، 33 ـ 38.

([45]) انظر: الناشئ الأكبر، المسائل العامة: 23 ـ 24.

([46]) انظر: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة: 121 ـ 152.

([47]) انظر: محمد بن سعد، الطبقات الكبرى 2: 337 ـ 338.

([48]) للوقوف على هذا النوع من الروايات التاريخية والحديثية بشأن علم الإمام عليّ وغيره من الأئمة انظر: الحر العاملي، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات؛ التستري، إحقاق الحقّ 8: 87 ـ 181؛ البحراني، مدينة المعاجز، حيث ذكر هذا المحدّث الشيعي في هذا الكتاب أكثر من ستّمائة مورد من موارد علم الأئمة بالغيب. وبطبيعة الحال فإن البحث في هذه المصادر ومقدار صحّة أو سقم هذا الكم الكبير من الأخبار والانتقادات الواردة عليها، وتوفّر الدعاوى المختلفة بشأن عدم الشكّ في اختلاق بعضها، خارجٌ عن نطاق هذه المقالة. هذا وقد تعرَّض ابن أبي الحديد إلى هذه المسألة في هامش بعض الخطب التي تحدَّث فيها الإمام عن الأخبار الغيبية.

([49]) انظر على سبيل المثال: الخطب رقم 13، 57، 58، 175، 89، 59.

([50]) انظر: المفيد، الإرشاد 1: 312 ـ 352. وللوقوف على الموارد الأخرى انظر: الكليني، الكافي 1: 343 فما بعد.

([51]) انظر: رجال الكشّي: 83 ـ 84.

([52]) انظر: المصدر السابق: 75 ـ 77.

([53]) انظر: المصدر السابق: 29 ـ 30.

([54]) المفيد، الإرشاد 1: 315.

([55]) المفيد، الأمالي: 334 ـ 335.

([56]) انظر: هود: 31، الأعراف: 188، آل عمران: 49، 179، النمل: 65. وفي الوقت نفسه فإن القرآن الكريم لا يرى في بعض الأحيان محذوراً في تزويد بعض الأنبياء ـ بمقتضى رسالتهم ولبعض الضرورات الأخرى ـ بموارد من علم الغيب. انظر في هذا الشأن: هود: 49، الجنّ: 26 ـ 27.

([57]) انظر: المفيد، الإرشاد 1: 20.

([58]) رجال الكشّي: 85، الرقم 140.

([59]) انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة 2: 294 ـ 295.

([60]) ابن عقدة، فضائل أمير المؤمنين: 68.

([61]) نهج البلاغة، الخطبة رقم 128. نستنتج من عدم اعتبار الإمام هذه النوع من الأخبار إخباراً بالغيب أن علم الغيب في عصر الإمام كانت له مساحةٌ خاصة، ورُبَما كان المراد على حدّ تعبير البعض هو العلم الذاتي، وليس العلم بتعليم الغير، ولا يشمل جميع أنواع الإخبار عن الظواهر التي لا يمكن فهمها من الطرق العادية للجميع. وفي الحقيقة إن الإمام في هذه الخطبة يحصر علم الغيب بالموارد التي اعتبر القرآن الكريم علمها من مختصّات الله تعالى، وتمّ نفي هذا النوع من العلم بالغيب في القرآن الكريم على لسان رسول الله بتعابير من قبيل: «ما أدري» و«ما تدري نفسٌ».

([62]) انظر: المفيد، أوائل المقالات: 67. وللمزيد من الاطلاع انظر: مجموعة مقالات علم الإمام: 542 فما بعد، مقال الأستاذ جعفر السبحاني بعنوان: «اختصاص العلم بالغيب بالله».

([63]) انظر: أبو الفرج الإصفهاني، مقاتل الطالبيين: 44.

([64]) حسين بن حمدان الخصيبي، الهداية الكبرى: 192.

([65]) ابن قتيبة، الإمامة والسياسة: 188.

([66]) للوقوف على موارد من هذا القبيل انظر: أبو الفرج الإصفهاني، مقاتل الطالبيين: 70 ـ 80.

([67]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 55، الرقم 105. سبق أن أشرنا إلى الاحترام الكبير الذي كان يوليه ابن عباس للمقام العلمي للإمام عليّ×. وفي الجمع بين هذه الموارد المذكورة يمكن القول: إنه على الرغم من اعتبار الإمام عليّ× أعلم الصحابة، إلاّ أنه لم يكن يرى ذلك بالنسبة إلى الإمامين الحسن والحسين’.

([68]) رجال النجاشي: 115 ـ 116.

([69]) الصفّار، بصائر الدرجات: 309.

([70]) المصدر السابق: 104.

([71]) انظر الكثير من النماذج لهذه الروايات في: الصفّار القمّي، بصائر الدرجات. ويبدو أن الغاية الرئيسة من تأليف هذا الكتاب كانت هي إثبات هذا الموضوع.

([72]) انظر: الأشعري القمّي، المقالات والفِرَق: 73، 147.

([73]) انظر: المفيد، الإرشاد 2: 160.

([74]) انظر: الكليني، الكافي 7: 24.

([75]) انظر: رجال النجاشي: 360؛ الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 209 ـ 210.

([76]) انظر: الكليني، الكافي 1: 399.

([77]) انظر: رجال النجاشي: 360.

([78]) انظر: رجال الكشّي: 142.

([79]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 234.

([80]) انظر: المصدر نفسه. مراد سالم بن أبي حفصة أن كلام الإمام متناقضٌ لا يقوم على مبنى ثابت، ويبدو ذلك من تعليق الإمام في الحديث: «فقال (الإمام الصادق): ما يريد سالم منّي، أيريد أن أجيء بالملائكة؟! فوالله ما جاء بها النبيّون، ولقد قال إبراهيم: إني سقيم، والله ما كان سقيماً وما كذب، ولقد قال إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا، وما فعله وما كذب، ولقد قال يوسف: إنكم لسارقون، والله ماكانوا سارقين وما كذب».

([81]) انظر: الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 241.

([82]) انظر: شواهد التنـزيل 1: 139.

([83]) انظر: الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 237.

([84]) انظر: رجال الكشّي: 237 ـ 238.

([85]) انظر: النوبختي، مقالات الشيعة: 64 ـ 65؛ الأشعري القمّي، المقالات والفِرَق: 78 ـ 79.

([86]) انظر: المصدر السابق: 78.

([87]) الصفّار، بصائر الدرجات: 124 ـ 125.

([88]) النوبختي، فرق الشيعة: 67.

([89]) انظر: رجال الكشّي، رقم 651 ـ 652.

([90]) انظر: المصدر السابق: 172، رقم 292 ـ 293.

([91]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 147، الرقم 334.

([92]) انظر: المصدر السابق: 168 ـ 169، الرقم 282.

([93]) الكليني، أصول الكافي 1: 262.

([94]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال: 392.

([95]) الصفّار، بصائر الدرجات: 123.

([96]) انظر: المصدر السابق: 122.

([97]) النوبختي، فرق الشيعة: 140 ـ 143.

([98]) انظر: الأشعري القمّي، المقالات والفِرَق: 95 ـ 97.

([99]) انظر: الناشئ الأكبر، فرقه هاي إسلامي ومسأله إمامت (ترجمته باللغة الفارسية): 67 ـ 68.

([100]) انظر: المصدر السابق: 68.

([101]) مرآة العقول 1: 186؛ الصفّار، بصائر الدرجات: 57 ـ 62. وعلى الرغم من أن بعض كبار العلماء قد حمل هذا النوع من الروايات على التقية، بَيْدَ أن جمع العلم بالغيب المطلق لهم يصعب جدّاً بالنظر إلى كلّ المصائب والاغتيالات التي تعرّضوا لها.

([102]) الطوسي، اختيار معرفة الرجال، الرقم 235.

([103]) المصدر السابق، الرقم 530؛ المجلسي، بحار الأنوار 26: 103، نقلاً عن: أمالي المفيد: 13 ـ 14.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً