أحدث المقالات

ـ القسم الثاني ـ

 

الشيخ علي دهيني(*)

 

الشعيرة الثالثة: لبس السواد

وفيها مطالب:

 

 1ـ أدلّة كراهة لبس الأسود في الصلاة، أو مطلقاً، ومناقشتها

يمكن تقسيم الأخبار التي تعرَّضت إلى لبس السواد إلى طائفتين:

الأولى: وهي ما دلّ على كراهة لبس السواد في الصلاة أو التكفين به، وفيها:

1ـ رواية محسِّن بن أحمد، عمَّنْ ذَكَره، عن أبي عبد الله× قال: قلتُ له: أُصلّي في القلنسوة السوداء؟ فقال: لا تصلِّ فيها؛ فإنها لباس أهل النار([1]).

وقد وقع نقاشٌ في سند الرواية؛ بلحاظ أنّها مرسلة أوّلاً، وعدم توثيق محسِّن بن أحمد ثانياً، والجدل الواسع حول سهل بن زياد ثالثاً، فقد قال النجاشي: أبو سعيد الآدمي الرازيّ، كان ضعيفاً في الحديث، غير معتمد عليه فيه، وكان أحمد بن محمّد بن عيسى يشهد عليه بالغلوّ والكذب، وأخرجه من قم إلى الريّ. وقال في الفهرست: ضعيف. وقال الطوسي في الاستبصار: هو ضعيفٌ جداً، عند نقّاد الأخبار… وقال ابن الغضائري: كان ضعيفاً جدّاً، فاسد الرواية والمذهب. وهناك اتّجاه آخر يقول بوثاقته؛ بلحاظ كثرة رواياته، ورواية الأجلاّء عنه، وكونه شيخ إجازة([2]).

وأنا فيه إلى الآن من المتوقِّفين، حيث لم يتسنَّ لي طرحه على بساط البحث، على أمل التعرُّض إلى شخصيّته في فرصةٍ قريبة إنْ شاء الله تعالى.

وعلى أية حال لا مجال لاعتمادها؛ بسبب الإرسال.

2ـ رواية الكليني: ورُوي: لا تصلِّ في أسود، فأمّا الخفّ أو الكساء أو العمامة فلا بأس([3]).

إلاّ أن الحديث موقوفٌ لا يُركَن إلى الاستدلال به.

3ـ رواية محمّد بن سليمان، عن رجل، عن أبي عبد الله× قال: قلتُ له: أصليّ في القلنسوة السوداء؟ قال: لا تصلِّ فيها؛ فإنّها لباس أهل النار([4]).

وفي الحديث عدّة مشاكل في سنده؛ بلحاظ سهل بن زياد، ومحمد بن سليمان؛ حيث إنّه ضعيف جدّاً، وقد رُمي بالغلو؛ إضافةً إلى إرساله.

4ـ رواية الحسين بن المختار، عن أبي عبد الله× قال: لا يكفَّن الميت في السواد([5]).

ولا يُركَن إلى هذا الحديث؛ لأنّه مرسل.

5ـ رواية الحسين بن المختار قال: قلتُ لأبي عبد الله×: يحرم الرجل في ثوب السواد؟ قال: لا يحرم في الثوب الأسود، ولا يكفّن به([6]).

وهذا حديثٌ صحيحٌ.

هذا وقد استند علماؤنا إلى هذه الأخبار للحكم بكراهة اللباس الأسود في الصلاة، أو التكفين والإحرام به أيضاً.

الثانية: وهي التي استفيد منها كراهة لبس السواد مطلقاً. وفيها:

1ـ رواية أحمد بن محمد، رفعه، عن أبي عبد الله× قال: يكره السواد إلاّ في ثلاثة: الخفّ، والعمامة، والكساء([7]).

إلاّ أنّه حديثٌ مرفوع.

2ـ رواية محمّد بن عليّ بن الحسين قال: قال أمير المؤمنين× في ما علَّم أصحابه: لا تلبسوا السواد؛ فإنّه لباس فرعون([8]).

ولهذا الحديث طريقان:

الأوّل: ما ذكره الشيخ الصدوق في الفقيه مرسَلاً، إلاّ أنّه ذكره بنحو (قال)، لا (رُوي). ومن المعلوم أنّ البعض يوثِّق مراسيل الصدوق إذا كانت بنحو (قال)، إلاّ أنّ الصحيح أنْ لا دليل على هذا الاتّجاه.

وأمّا الطريق الثاني ففيه نقاشٌ أيضاً بين الاعتماد وعدمه.

3ـ رواية محمّد بن عليّ بن الحسين قال: رُوي أنّ جبرئيل× هبط على رسول الله| في قباء أسود، ومنطقة فيها خنجر، فقال: يا جبرئيل ما هذا؟ فقال زيُّ ولد عمّك العبّاس. يا محمّد، ويلٌ لوُلْدك من وُلْد عمِّك العبّاس([9]).

ولهذا الحديث طريقان، وكلاهما ضعيفٌ.

4ـ رواية محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده عن حذيفة بن منصور أنّه قال: كنتُ عند أبي عبد الله×، فأتاه رسول أبي العبّاس الخليفة يدعوه، فدعا بمِمطرٍ أحد وجهيه أسود والآخر أبيض، فلبسه، ثم قال×: أما إنّي ألبسه وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار([10]).

ولهذا الحديث طرق ثلاثة، أحدها ضعيفٌ.

5ـ رواية داوود الرقّي قال: كانت الشيعة تسأل أبا عبد الله× عن لبس السواد؟ قال: فوجدناه قاعداً عليه جُبّة سوداء، وقلنسوة سوداء، وخفّ أسود مبطَّن بسواد، ثم فتق ناحيةً منه وقال: أما إنّ قطنه أسود، وأخرج منه قطناً أسود، ثم قال: بيِّض قلبك والبس ما شئت.

قال الصدوق: فعل ذلك كلّه تقيّةً؛ لأنّه كان متَّهماً عند الأعداء بأنّه لا يرى لبس السواد، فأحبَّ أن يتَّقي بأجهد ما يمكنه، فصبغ القطن بالسواد.

أقول: ويمكن حمله على إرادة الجواز ونفي التحريم بقرينةٍ أخرى([11]).

والمتحصِّل أنّ الأحاديث الثلاثة الأولى وإنْ لم تكن معتبرة، بناءً على ملاك حجّيّة خبر الثقة على بعض المباني فيها، إلاّ أنّه قد يُقال: إنّها تفيد الوثوق بالصدور، بناءً على حجّيّة هذا المبنى في قبول الروايات. وعليه يمكن الحكم بكراهة لبس السواد مطلقاً، إلاّ ما استُثني في النصوص. ولكنْ نحن مع قبولنا للكبرى لا يمكننا إحراز صغرى الاطمئنان في المقام بصدور هذه الروايات.

 

 2ـ هل الحكم بكراهة لبس السواد مطلقٌ أو لا؟

أي هل يمكن التمسُّك بهذه الأحاديث المذكورة لإثبات الإطلاق الأحواليّ في الحكم بكراهة لبس السواد، أي سواء لبسه الأعداء وسلاطين الجور أم لا، وسواء كان زياً عُرْفيّاً لغير المؤمنين أم لا، أم يقال بأنّ هذه المجموعة إنّما حكمت بالكراهة من باب أن اللباس الأسود كان زيّاً لبني العبّاس. ولأجل أن لا يكون المؤمنون متزيّين بزيّ سلطان الجور وأتباعه حَكَم الإمام بالكراهة، فحيث لا يكون هذا الزيّ شعاراً للأعداء فلا كراهة. وعليه تكون القاعدة التي نتمسَّك بها روايةً أخرى سوف نذكرها في هذا المطلب؟ وعليه نقول: لو سلَّمنا واعترفنا بدلالة الروايات على كراهة لبس السواد مطلقاً، إلاّ ما استُثني، يقال: إنّ هذا الحكم إنّما صدر من باب عدم التزيّي بزيّ بني العبّاس. والقرائن التي تدلّ على هذا الأمر هي:

أـ حديث جبرئيل مع النبيّ| في أنّ هذا الزيّ هو لولد العبّاس. وهذا الحديث وإنْ كان ضعيف السند، إلاّ أنّنا نتعامل معه كوثيقة تاريخيّة لإثبات أنّ اللباس الأسود كان لباسهم.

ب ـ حديث مجيء رسول الخليفة إلى الإمام الصادق× يدعوه، ممّا دعا الإمام إلى لبس ممطر أحد وجهَيْه أسود.

ج ـ حديث «لا تلبسوا السواد؛ فإنّه لباس فرعون»، بلحاظ كون فرعون إشارة إلى الحاكم الظالم، وهو يتجسَّد في زمن الإمام ببني العبّاس. وكذا حين يقول: لا تصلِّ فيها؛ فإنّها لباس أهل النار، أي الحكّام الظالمين وأتباعهم، ولا مكان لهم إلاّ النار.

إلاّ أنّ هذا يبقى مجرَّد توجيه تحليليّ يحتاج البتُّ فيه إلى مزيدٍ من البحث.

 

وقفة أخيرة في حرمة ارتداء لباس أعداء الدين

روى الصدوق بإسناده عن إسماعيل بن مسلم، عن الصادق×، أنّه أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبيائه: قُلْ للمؤمنين لا تلبسوا لباس أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، ولا تسلكوا مسالك أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي([12]).

ولهذا الحديث طرق ثلاثة، صحّ منها اثنان، دون ما ذكرناه. وعليه فإذا ثبت اختصاص لباسٍ ما بأعداء الدين يحرم من هذا اللحاظ، بغضّ النظر عن لونه، كما هي القبعة التي يختصّ بلبسها اليهود. وهذا يختلف من زمانٍ لآخر، تبعاً للباس الأعداء. ويصدق هذا الحديث في زماننا هذا فيما لو فرضنا أنّ لباساً ما كان خاصّاً بالاتّجاهات الدينيّة الأخرى([13]).

 

 3ـ ما هو المراد من النهي التنزيهيّ في العبادات؟

وقع البحث بين علماء الأصول في أنّ النهي في العبادات هل يستلزم الحكم بفسادها أم لا؟

ومن تفريعات هذا البحث ذكروا النهي التنزيهيّ؛ وهو تارةً يتعلَّق بتطبيق طبيعة المأمور به على حصّة خاصّة، وهنا يكون النهي معبِّراً عن مرجوحيّة امتثال الأمر بالطبيعة بواسطة تلك الحصة، ولكن هذه المرجوحيّة إنّما هي بالإضافة إلى سائر حصص الطبيعة المأمور بها. ومثاله: النهي عن صلاة الفريضة في الحمام، أو النهي عن الصلاة باللباس الأسود؛ وقد يكون النهي التنزيهيّ متعلِّقاً بذات فعل ليس مأموراً به من أوّل الأمر، كالنهي عن التخلّي في مواطن اللعن.

هذا وقد ذكر علماء الأصول أنّ النحو الأوّل من النهي لا يدلّ على فساد العبادة أصلاً. وهذا ما ذكره السيد الخوئي، والسيد الشهيد الصدر، والشيخ التبريزي(رحمهم الله).

فقد قال الخوئيّ: إنّ النهي التنزيهيّ المتعلِّق بالعبادة تارةً ينشأ من حزازة ومنقصة في تطبيق الطبيعيّ الواجب على حصّة خاصّة منه، من دون حزازة ومنقصة في نفس تلك الحصّة، ولذا يكون حالها حال سائر حصصه وأفراده في الوفاء بالغرض، وذلك كالنهي المتعلِّق بالعبادة الفعليّة، كالصلاة في الحمّام مثلاً، والصلاة في مواضع التهمة، وما شاكل ذلك… إنّ النهي التنزيهيّ… لا يدلّ على الفساد، بل هو يدلّ على الصحّة([14]).

وقال الصدر: أمّا لو كان النهي الكراهتيّ ناشئاً من نقص محبوبيّة هذا الفرد من العبادة، لا من مبغوضيّته، فلا إشكال في أنّه لا يقتضي البطلان، سواءٌ كان نقص المحبوبيّة بنكتة قلّة المصلحة فيه أو بنكتة أنّ المصلحة فيه مزاحمة بمفسدة أخفّ وأضعف منها، بنحوٍ تبقى المحبوبيّة، ولكنْ بنحوٍ ضعيف، فإنّه على أيّة حال مثل هذا النهي لا يقتضي البطلان؛ لأنه لا يعاند الأمر، حتّى لو افترضنا عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي، فإنّ النهي الذي لا يمكن أن يجتمع مع الأمر هو النهي الناشئ من البغض، لا النهي الناشئ من قلّة الحبّ، فهذا الفرد المنهيّ عنه يمكن أن يشمله الأمر، ومع شمول الأمر له لا إشكال في الصحّة وإمكان التقرُّب؛ فإنّه لا يكون مبعِّداً ولا مبغوضاً للشارع([15]).

وقال التبريزي: قد قُرِّر في علم الأصول أنّ الأمر إذا تعلَّق بالطبيعيّ، ثم تعلَّق نهيٌ تنزيهيّ ببعض أفراد ذلك الطبيعيّ، فلا يُراد من هذا النهي المعنى المصطلح، يعني الكراهة المصطلحة، بمعنى ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله، بل هو إرشادٌ إلى وجود منقصةٍ في هذا الفرد بخصوصه، ويعبَّر عنه في لسان العلماء بالإرشاد إلى كونه أقلّ الأفراد ثواباً، ولا فرق في الأمر المتعلِّق بالطبيعيّ بين كونه إلزاميّاً أو استحبابيّاً.

إذا اتَّضح هذا… فإنّ الكراهة بمعنى رجحان الترك غير معقولة في العبادات، بل هي مستحيلة فيها؛ لعدم اجتماع المبغوضيّة والمقرِّبية في شيء واحد… والمكروه بالمعنى المصطلح لا يصلح للتقرُّب به؛ لعدم المصلحة فيه. وعليه فإذا قيل مثلاً: إنّ الصلاة في اللباس الأسود مكروهة فليس صلاة المصلّي فيه باطلة، بل هي صحيحة ومجزية، فالنهي عن لباسه في الصلاة إرشاد إلى أنّها فيه أقلّ ثواباً، وأدنى ملاكاً، من الصلاة في غيره([16]).

ونحن وإنْ اكتفينا في المقام بذكر كلمات هؤلاء الأعلام إلاّ أنّ هذا التحليل معروفٌ في علم الأصول، حتّى كاد أن يكون بديهيّاً. نعم، هناك قسمٌ آخر من النواهي، وهي النواهي الإرشاديّة، المتعلِّقة بالعبادات والمعاملات، كالتي تدلّ على مانعيّة شيء لهما، كالنهي عن المعاملة الغرريّة مثلاً، أو كالنهي عن الصلاة في ما لا يؤكل لحمه، فإنّه لا إشكال ولا خلاف في دلالة هذه النواهي على الفساد؛ لأنّه إنْ أخذ عدم شيء في عبادة أو معاملة فسوف تقع فاسدة إنْ اقترنت بذلك الشيء؛ لغرض أنّها توجب تقييد إطلاق أدلّة العبادات والمعاملات بغير هذه الحصّة. ولعلّ هذا لا خلاف فيه أيضاً.

 

  4ـ كيف يكون لبس السواد حزناً على الإمام الحسين من ضمن الشعائر، وبالتالي مستحباً؟

في مقام الجواب نذكر أوّلاً بعض كلمات العلماء، ثم نحاول ثانياً بيان الوجه الفنّيّ لذلك.

أوّلاً: لعلّ أول مَنْ تعرَّض لهذا الأمر هو الشيخ البحرانيّ في (الحدائق)، فإنّه بعد أن ذكر كراهة الصلاة في اللباس الأسود قال: ثم أقول: لا يبعد استثناء لبس السواد في مأتم الحسين× من هذه الأخبار؛ لما استفاضت به الأخبار من الأمر بإظهار شعائر الحزن. ويؤيِّده ما رواه شيخنا المجلسيّ عن البرقيّ في كتابه (المحاسن) أنّه روى عن عمر بن زين العابدين× أنّه قال: «لمّا قتل جدي الحسين المظلوم الشهيد لبس نساء بني هاشم في مأتمه ثياب السواد، ولم يغيِّرْنَها في حرٍّ أو برد، وكان الإمام زين العابدين× يصنع لهنّ الطعام في المأتم»([17]).

وقال السيد السبزواريّ في (المهذَّب): أقول: في بعض التواريخ أنّ لبس السواد كان حداداً لقتل آل محمّد من الحسين بن عليّ×، وزيد، ويحيى، بل يظهر من بعضها أنّ الشيعة في تلك الأزمنة كانوا كذلك. وعلى هذا يمكن القول بأنّ ما ورد من كراهة لبس السواد لم يرِدْ لبيان حكم الله الواقعيّ، بل ورد لبعض المصالح، كبيان أنّ لبس السواد بين بني هاشم والشيعة ليس لأهل البيت علاقة به، حتّى يصير ذلك منشأ للظلم والجور من الأعداء عليهم([18]).

وقال الميرزا التبريزيّ: بقي أمرٌ تعرَّض له صاحب الحدائق… ولم يبيّن الوجه في عدم شمول هذه الروايات لذلك. والوجه في عدم الشمول هو أنّ في لبس المؤمنين الثياب السوداء في وفيات الأئمّة^، وبالخصوص في أيّام محرَّم الحرام وشهر صفر، إظهاراً لمودّتهم وحبّهم لأهل البيت^، فيحزنون لحزنهم، وإنّ هذا العمل من المؤمنين إحياء لأمر أهل البيت^، وقد روي عنهم: رحم الله مَنْ أحيا أمرنا…([19]).

ثانياً: إنّ الأحاديث التي استند إليها لإثبات أنّ بني هاشم وآل البيت^ كانوا يلبسون السواد في أيّام الحزن، وخاصّة على سيّد الشهداء، كثيرة، ونذكر منها:

1ـ رواية هشام بن سعد، عن المشيخة، قال: أخبرني أنّ الملك الذي جاء إلى رسول الله| وأخبره بقتل الحسين بن عليّ× كان ملك البحار، وذلك أنّ ملكاً من ملائكة الفردوس نزل على البحر فنشر أجنحته عليها، ثم صاح صيحة، وقال: يا أهل البحار، البسوا أثواب الحزن، فإنّ فرخ رسول الله| مذبوح، ثم حمل من تربته في أجنحته إلى السماوات، فلم يبقَ ملك فيها إلاّ شمّها، وصار عنده لها أثر، ولعن قتلته وأشياعهم وأتباعهم([20]).

2ـ رواية عمر بن عليّ بن الحسين قال: لمّا قتل الحسين بن عليّ× لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكُنَّ لا يشتكين من حرٍّ ولا برد، وكان عليّ بن الحسين× يعمل لهنّ الطعام للمأتم([21]).

3ـ رواية كامل بن إبراهيم أنّه دخل على أبي محمّد×، فنظر إلى ثيابٍ بياض ناعمة، قال: فقلتُ في نفسي: وليُّ الله وحجّته يلبس الناعم من الثياب، ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان، وينهانا عن لبس مثله، فقال مبتسماً: يا كامل، وحسر عن ذراعَيْه، فإذا مسحٌ أسود خشن على جلده، فقال: هذا لله، وهذا لكم([22]).

وهذه الأحاديث وإنْ كانت ضعيفة السند، إلاّ أنّ جمعها مع غيرها يولِّد الاطمئنان بالصدور، وهي تدلّ بحسب الجامع المشترك بينها أنّ أهل البيت^ قد لبسوا السواد؛ حزناً على الحسين وأهل بيته.

وهذه الطريقة في الاستدلال قد اتَّبعها الشيخ محمّد السند في كتابه «الشعائر الحسينية»؛ لإثبات أنّ لبس السواد من الشعائر.

كما يضاف إليه جملة الأحاديث التي تحثّ على إحياء أمرهم. فقد جاء في الأمالي، للشيخ الطوسيّ، في خبر مسند قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد× يقول لأصحابه، وأنا حاضر: اتَّقوا الله، وكونوا إخوةً بررة، متحابّين في الله، متواصلين، متراحمين. تزاوروا، وتلاقوا، وتذاكروا، وأحيوا أمرنا([23]).

وكذلك جاء في خبر مسمع بن عبد الملك قال: قال لي أبو عبد الله× ـ في حديثٍ ـ: أما تذكر ما صنع به، يعني بالحسين× قلتُ: بلى، قال: أتجزع؟ قلتُ: إي والله، وأستعبر بذلك، حتى يرى أهلي أثر ذلك عليَّ، فأمتنع من الطعام، حتى يستبين ذلك في وجهي، فقال: رحم الله دمعتك، أما إنّك من الذين يُعَدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا([24]).

وكذلك جاء في البحار: عن الخصال: إن الله تبارك وتعالى اطَّلع على الأرض فاختارنا، واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا، أولئك منّا وإلينا([25]).

ويترتَّب على هذه الأحاديث أنّه ينبغي للشيعة إظهار الحزن لمصائب أهل البيت. وهذا أمر عُرْفيّ يختلف من زمانٍ إلى آخر، وخاصّة مع كون لبس السواد من الشعائر العُرْفيّة الممتدّة في عمود الزمان، من زمن أهل البيت إلى يومنا هذا، إضافةً إلى جملة الأحاديث التي ذُكرت، ويمكن إحصاء العديد غيرها. وإنّها وإنْ كانت ضعيفة الأسانيد، إلاّ أنَّها تولِّد الاطمئنان بالصدور، ولو على مستوى الجامع المشترك بينها، وهو كافٍ لإثبات أنّ أهل البيت كانوا يلبسون السواد في أيّام الحزن والحداد.

إلاّ أنّ الجواب الشافي في المقام هو: سواء بنينا على كراهة اللباس الأسود مطلقاً أو لم نَبْنِ عليه فإنّه على الثاني يكفي أن يكون السواد لباساً عُرْفيّاً في أيّام الحزن، من دون استنكاره وشجبه من قبل العرف، ليدخل في عداد الشعائر.

وعلى الأوّل نقول: إنّ الأدلة التي أفادت كراهة اللباس الأسود إنّما تقصد ـ وهذا ما يفهم منها أيضاً ـ أنّ الكراهة منصبّة على كونه لباساً. ولكنْ إذا اتُّخذ اللباس الأسود شعاراً لإظهار الحزن فلا كراهة. وهذا على غرار ما أفتى به الفقهاء من حرمة أن يلبس الرجل لباس النساء، وبالعكس، إلاّ أنّ هذا لا يكون محرَّماً في حالات التمثيل التلفزيونيّ والمسرحيّ؛ لأنّ الأدلّة إنّما حرَّمت هذا اللباس عندما يتَّخذه الإنسان لباساً في الحالة الاعتياديّة والطبيعيّة في حياته، دون غيرها.

 

الشعيرة الرابعة: زيارة الإمام الحسين×

وفيها مطالب:

 

1ـ المصنَّفات الحديثيّة التي ذكرت زيارة الحسين×

أـ ذكر ابن قولويه القمّيّ في «كامل الزيارات» عشرات الأبواب التي ترتبط بزيارة الحسين، من باب 38 إلى باب 84. وفيها عناوين كثيرة، نحو: زيارة الأنبياء والملائكة للحسين؛ زيارة الحسين فرضٌ على كلّ مؤمن ومؤمنة؛ ثواب مَنْ زار الحسين. والعديد من العناوين ترتبط ببيان أجر زائر الحسين في الدنيا والآخرة.

ب ـ ذكر الحُرّ العامليّ في «الوسائل» العشرات من الأبواب الخاصّة بزيارة الحسين× تحت عناوين متعدِّدة، نحو: استحباب زيارة الحسين ووجوبها كفاية؛ استحباب تكرار الزيارة، والزيارة ولو من بعيد، والاستنابة فيها؛ استحباب الزيارة في أوقات مخصوصة؛ وعناوين أخرى كثيرة.

ولعلّ مجموع الأحاديث المذكورة في هذا الكتاب فقط تصل إلى (160) حديثاً([26]).

ج ـ ذكر العلاّمة النوري في «المستدرك» أيضاً عشرين باباً ترتبط بزيارة الإمام الحسين×، من باب 26 إلى باب 60([27]).

 

2ـ حكم الزيارة

وفيه نقاط:

 

2ـ1ـ نظريّة الوجوب، الأدلّة والمستندات

وهنا أمران:

الأمر الأوّل: بعد التتبُّع وجدنا العديد من العلماء قد ذهبوا إلى القول بالوجوب العينيّ، مع اعترافنا بأنّنا لم نقُمْ بعمليّة استقراء واسعة، ولو فعلنا لظهر لنا المزيد أيضاً، وإنْ كانت كلمات بعضهم توحي بوجود هذا الرأي عند غير مَنْ تتبَّعنا كلماتهم:

أـ ذهب المجلسيّ الأوّل إلى الوجوب العينيّ. وهذا ما يظهر من كلماته في (روضة المتَّقين)، حيث قال: وأمّا أخبار ثواب زيارة الحسين× فأكثر من أن تحصى، ولشهرتها لم يذكر منها إلاّ قليل، بل يظهر من الأخبار الكثيرة وجوب زيارته×. ولهذا قال به جماعة من أصحابنا، بل ذهب طائفةٌ إلى وجوب زيارة كلّ واحد من الأئمّة^ ولو مرّة في جميع العمر؛ لما تقدَّم في الصحيح أنّ لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائه([28]).

ب ـ وقال المجلسيّ الثاني: ثم اعلم أنّ ظاهر أكثر أخبار هذا الباب، وكثير من أخبار الأبواب الآتية، وجوب زيارته×، بل كونها من أعظم الفرائض وآكدها. ولا يبعد القول بوجوبها في العمر مرّة مع القدرة. وإليه كان يميل الوالد العلاّمة نوّر الله ضريحه… ولا يبعد القول به أيضاً([29]).

ج ـ وقال الشيخ البحراني في (الحدائق): والأخبار في فضل زيارته× مستفيضة. والظاهر في كثير منها الوجوب. وإليه يميل كلام بعض أصحابنا. وليس بذلك البعيد. فمنها: ما يدلّ على أنّها فرض على كلّ مؤمن، وأن مَنْ تركها ترك حقّاً لله ورسوله، وأنّ تركها عقوق لرسول الله|…([30]).

د ـ قد سمعنا من بعض المعاصرين القول بالوجوب العينيّ أيضاً على كلّ مؤمن في العمر مرّة. واستند في ذلك إلى خبر محمّد بن مسلم الذي سيأتي ذكره عند بيان أدلّة هذه النظريّة.

الأمر الثاني: وهو في بيان أدلّة هذه النظريّة، ومناقشتها.

وقبل البدء بعرض الأدلّة نقول: إنّ النقاش في الدلالة على الوجوب ينحصر بالدليل الروائيّ. فلا مجال للإجماع؛ لأنّه غير حاصل في المقام. وبالتالي فنحن لم نذكر في الأمر الأوّل كلّ الأدلّة التي تعرَّضوا لها؛ لأننا نحاول هنا أن نبيِّن كلّ الأحاديث التي يُحتمل دلالتها، أو أنّهم تمسّكوا بها لإثبات نظريّتهم، فنقول:

1ـ رواية عبد الرحمن بن كثير، قال: قال أبو عبد الله×: لو أنّ أحدكم حجّ دهره ثم لم يزُرْ الحسين بن عليّ× لكان تاركاً حقّاً من حقوق رسول الله|؛ لأنّ حقّ الحسين فريضة من الله تعالى واجبة على كلّ مسلم([31]).

إلاّ أنّ هذا الحديث ضعيف السند؛ بكلٍّ من: الحسين بن محمّد بن علاّن؛ محمّد بن يزيد؛ عليّ بن الحسن؛ عبد الرحمن بن كثير.

2ـ رواية هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله×: سألته عمَّنْ ترك الزيارة زيارة قبر الحسين× من غير علّةٍ؟ فقال: هذا رجلٌ من أهل النار([32]).

إلاّ أنّ الحديث مرسلٌ لا يعتمد عليه.

3ـ رواية عليّ بن ميمون، قال: سمعتُ أبا عبد الله× يقول: لو أنّ أحدكم حجَّ ألف حجّة ثم لم يأتِ قبر الحسين بن عليّ× لكان قد ترك حقّاً من حقوق رسول الله|. وسئل عن ذلك، فقال: حقّ الحسين× مفروضٌ على كلّ مسلم([33]).

وهو حديثٌ مرسلٌ.

4ـ رواية هشام بن سالم، عن أبي عبد الله× ـ في حديث طويل ـ أنّه أتاه رجلٌ فقال: هل يُزار والدك؟ قال: نعم، فما لمَنْ زاره؟ قال: الجنة إنْ كان يأتمّ به، قال: فما لمَنْ تركه رغبة عنه؟ قال: الحسرة يوم الحسرة([34]).

إلاّ أنّه ضعيفٌ؛ بعبد الله الأصمّ. والثلاثة الذين قبله لم يوثَّقوا في كتب الرجال.

5ـ رواية أمّ سعيد الأحمسيّة، قالت: قال لي أبو عبد الله×: يا أمّ سعيد، تزورين قبر الحسين×؟ قالت: قلتُ: نعم، قال: يا أمّ سعيد، زوريه؛ فإنّ زيارة الحسين واجبةٌ على الرجال والنساء.

وهو ضعيفٌ؛ لأنّ أمّ سعيد لم توثَّق.

6ـ رواية الوشّاء، قال: سمعتُ الرضا× يقول: إنّ لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم([35]).

ولهذا الحديث طرق ثلاثة، كلُّها ضعيفة السند؛ بعبيد الله بن موسى، فإنّه لم يوثَّق.

7ـ رواية عبد الرحمن بن كثير، قال: قال أبو عبد الله×: لو أنّ أحدكم حجَّ دهره ثم لم يزُرْ الحسين× لكان تاركاً حقّاً من حقوق رسول الله|؛ لأنّ حقّ رسول الله| فريضةٌ من الله واجبة على كلّ مسلم([36]).

إلاّ أنّ هذا الحديث ضعيفٌ؛ بعليّ بن حسان، وعبد الرحمن بن كثير، حيث قيل عن الأوّل: ضعيفٌ، فاسد الاعتقاد؛ وعن الثاني: ضعيفٌ، وضّاعٌ للحديث.

8ـ رواية محمّد بن محمّد المفيد في (الإرشاد)، عن الصادق× قال: زيارة الحسين بن عليّ× واجبة على كلّ مَنْ يقرُّ للحسين بالإمامة من الله عزّ وجلّ([37]).

وهذا حديثٌ ضعيفٌ.

وبهذا يظهر أنّ الأحاديث الثمانية المتقدِّمة ضعيفة السند.

9ـ رواية ابن رئاب، عن أبي عبد الله× قال: حقٌّ على الغنيّ أن يأتي قبر الحسين بن عليّ’ في السنة مرّتين؛ وحقٌّ على الفقير أنْ يأتيه في السنة مرّة([38]).

وهذا الحديث صحيح السند، بناءً على حجّيّة مراسيل ابن أبي عمير. وهذا بحثٌ كبرويٌّ في علم الرجال قد تعرّضنا له في بعض أبحاثنا الرجاليّة، وانتهينا إلى كون مراسيله ـ كمسانيده ـ حجّة.

10ـ رواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين×، فإنّ إتيانه مفترضٌ على كلّ مؤمنٍ يُقِرّ للحسين بالإمامة من الله عزّ وجلّ([39]).

وهذا حديثٌ موثَّقٌ.

11ـ رواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين×؛ فإنّ إتيانه يزيد في الرزق، ويمدّ في العمر، ويدفع مدافع السوء، وإتيانه مفروضٌ على كلّ مؤمن يقرّ للحسين بالإمامة من الله([40]).

ولهذا الحديث طرق ثلاثة، كلّها صحيحة.

وفي مقام المناقشة الدلاليّة لهذه الأحاديث نقول: سوف نتعرَّض أوّلاً إلى الأحاديث الصحيحة.

فالأوّل قال: حقٌّ على الغنيّ أن يأتي قبر الحسين مرّتين؛ وحقٌّ على الفقير أن يأتيه مرّة. وهذا اللسان لا يدلّ على الوجوب؛ لأنّ كلمة الحقّ تفيد جامع الطلب، من دون دلالة على الوجوب أو الاستحباب، بل هناك إجماعٌ على عدم الوجوب على الغنيّ في السنة مرّتين. فهذا اللسان؛ بقرينة غيره من الأحاديث، يدلّ على الاستحباب المؤكَّد.

وأمّا الثاني فإنّ لسانه وإنْ كان لسان الوجوب، إلاّ أنّنا سوف نذكر القرائن التي تجعلنا نتخلّى عن هذا الظهور لمصلحة الاستحباب المؤكَّد. وكذلك الثالث.

وأمّا الأحاديث المتقدِّمة، والتي قلنا فيها: إنّها ضعيفة السند، فأغلبها لا يحمل لساناً أقوى من لسان الأحاديث الصحيحة. إضافةً إلى عدم إمكان الاستدلال بالصيغة اللسانيّة في كلّ نصّ، بل لابدّ، حتّى بناءً على نظريّة الوثوق بالصدور، لا نظريّة وثاقة الرواة، من الاطمئنان إلى الجامع بينها، وهو لا يعدو أكثر من الحثّ الأكيد على الزيارة، دون الدلالة على الوجوب؛ لأنّ أغلبها لا يدلّ على ذلك.

وأمّا القرائن التي تجعلنا نقول بالاستحباب المؤكَّد، دون الوجوب، فهي:

الأولى: عليّ بن مهزيار، قال: قلتُ لأبي جعفر×: جعلت فداك، زيارة الرضا× أفضل أم زيارة أبي عبد الله الحسين×؟ فقال: زيارة أبي أفضل؛ وذلك أنّ أبا عبد الله× يزوره كلّ الناس، وأبي لا يزوره إلاّ الخواصّ من الشيعة([41]).

ولهذا الحديث طرق أربعة، كلّها صحيحة السند. ودلالتها واضحة؛ لأنّ الإمام عندما يفضّل زيارة أبيه على زيارة الإمام الحسين فإنّ هذا يكشف عن عدم وجوب زيارته.

الثانية: رواية عنبسة بن مصعب، عن أبي عبد الله× قال: مَنْ لم يأتِ قبر الحسين× حتّى يموت كان منتقص الإيمان، منتقص الدين، إنْ أدخل الجنة كان دون المؤمنين فيها([42]).

وهذا حديثٌ موثَّقٌ. ودلالته على عدم الوجوب واضحةٌ؛ لأنّ الزيارة لو كانت واجبة لكان المفروض أن يكون التارك لها في النار، لا في الجنة دون المؤمنين. فهذا اللسان هو لسان الاستحباب الأكيد.

الثالثة: رواية داوود الحمار، عن أبي عبد الله× قال: مَنْ لم يزُرْ قبر الحسين× فقد حُرم خيراً كثيراً، ونقص من عمره سنة([43]).

والحديث ضعيف السند؛ لأنّه مرسل. ولكنّ دلالته جيِّدة؛ بلحاظ أنّ حرمان الخير علامة الاستحباب، لا الوجوب.

وهناك عددٌ كبيرٌ جدّاً من الأحاديث يدلّ على الاستحباب، دون الوجوب. ولا نرى حاجة لسردها كاملة، وإنّما نشير إلى ألسنتها، وهي:

أـ لا ينبغي التخلُّف عنه أكثر من أربع سنين.

ب ـ مَنْ لم يأتِه كان منتقص الإيمان.

ج ـ مَنْ لم يأتِه فليس من شيعتنا وإنْ كان من أهل الجنة.

د ـ مَنْ لم يكن للحسين زوّاراً كان ناقص الإيمان.

هـ ـ إنّك لمحروم من الخير.

الرابعة: عدم إفتاء المتقدِّمين بالوجوب، بل قد يُدَّعى الإجماع على الاستحباب.

الخامسة: السيرة العمليّة في زمن الأئمّة^؛ لأنّ هذا الحكم لو كان على نحو الوجوب لظهر وشاع أمره، ولكان واضحاً، على غرار الحجّ، ولا توجد أيّة قرينة أو إشارة تدلّ على هذا.

هذا تمام الكلام في النظريّة الأولى. وقد ظهر لنا عدم صحة الحكم بالوجوب العينيّ، بل الاستحباب هو المحكَّم. ولا نرى من داعٍ للبحث حول نظريّة الاستحباب، فتبقى النظريّة الثالثة.

 

2ـ2ـ نظريّة الوجوب الكفائيّ

بعد التتبُّع في المصادر الفقهيّة وجدنا رأياً يقول بالوجوب الكفائيّ. إلاّ أنّنا لم نعثر على كلامٍ واضح لأحد العلماء يذهب إلى هذا القول، سوى ما ذكره الحُرّ العامليّ في بعض عناوين الأبواب من «الوسائل»، فقد ذكر في الباب 37 من كتاب المزار هذا العنوان: باب تأكُّد استحباب زيارة الحسين بن عليّ’، ووجوبها كفاية.

وكذلك فعل في الباب 44 من هذا الكتاب، فقال: باب وجوب زيارة الحسين والأئمّة^ على شيعتهم كفاية. والذي يفهم من كلامه هو القول بوجوب زيارة الإمام الحسين، بل سائر الأئمّة^، على نحو الكفاية. ولعل مقصوده أن لا يخلو المقام المقدَّس، أو سائر مقامات الأئمّة^، من زوار يتردَّدون إليها بشكلٍ مستمرّ.

والذي يجعلنا نصنِّف الشيخ الحُرّ في عداد القائلين بالوجوب الكفائيّ هو أنّه إنّما يذكر عناوين الأبواب تبعاً لاجتهاده. ثم إنّه إذا أردنا البحث في كلا البابين لمعرفة هذه الأحاديث التي تدلّ على الوجوب الكفائيّ فيمكن لنا استعراض ما يلي:

1ـ خبر محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين×؛ فإنّ إتيانه مفترضٌ على كلّ مؤمن يقرُّ للحسين بالإمامة من الله عزَّ وجلَّ.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ هذا الحديث موثَّقٌ. إلاّ أنّنا إذا أردنا حمل الحديث على الوجوب فهو يدلّ على الوجوب العينيّ، لا الكفائيّ؛ بقرينة ذيله.

2ـ خبر عبد الرحمن بن كثير قال: قال أبو عبد الله×: لو أنّ أحدكم حجَّ دهره ثم لم يزُرْ الحسين× لكان تاركاً حقّاً من حقوق رسول الله|، لأنّ حقّ رسول الله فريضةٌ من الله واجبةٌ على كلّ مسلم.

وقد ذكرنا أنّ هذا الحديث ضعيف السند، إلاّ أنّه إذا أراد البعض أن يستفيد منه الوجوب فهو دالٌّ على الوجوب العينيّ؛ بقرينة الذيل.

3ـ خبر الوشّاء قال: سمعتُ الرضا× يقول: إنّ لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم.

وقد ذكرنا سابقاً أنّه ضعيف السند. نعم، من الممكن أن يكون هذا الحديث دالاًّ على الوجوب الكفائيّ؛ بلحاظ أنّ العهد إنّما كان على الشيعة، فيكون الوجوب متعلِّقاً بهم. إلاّ أنّه لا مجال لاعتماده؛ لضعفه السنديّ.

4ـ خبر محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين×؛ فإنّ إتيانه يزيد في الرزق، ويمدّ في العمر، ويدفع مدافع السوء، وإتيانه مفروضٌ على كلّ مَنْ يقرّ للحسين بالإمامة من الله.

وقد ذكرنا أنّه صحيح السند. وناقشنا دلالته على الوجوب في ما سبق. وهو لا يدلّ على الوجوب الكفائيّ؛ لأنّ الغرض إنّما كان في لسان الرواية على كلّ مؤمن يقرّ للحسين بالإمامة، فإنْ دلّ على الوجوب فهو العينيّ، لا الكفائيّ، إلاّ أنّا ذكرنا سابقاً أنّ القرائن العديدة قامت على عدم الوجوب العينيّ. وعلى أيّة حال فلا دلالة فيه على الكفائيّ.

5ـ خبر المفيد في (الإرشاد)، عن الصادق× قال: زيارة الحسين بن عليّ’ واجبةٌ على كلّ مَنْ يقرّ للحسين بالإمامة من الله عزّ وجلّ.

وهو ضعيف السند. وإنْ دلَّ على الوجوب فهو العينيّ، لا الكفائيّ. وقد تقدَّم نقاشه في ما سبق.

6ـ خبر إسحاق بن عمّار، قال: سمعتُ أبا عبد الله× يقول: ليس شيء في السماوات إلاّ وهم يسألون الله أن يأذن لهم في زيارة الحسين×، ففوجٌ ينزل، وفوجٌ يعرج([44]).

وهذا الخبر صحيح السند، إلاّ أنَّه إنْ دلّ على شيءٍ فهو يدلّ على الاستحباب. كما أنّه يدلّ على عدم خلوّ المقام من الزوّار.

هذه هي مجمل الأحاديث التي قد يُدَّعى دلالتها على الوجوب الكفائيّ. وقد تحصَّل معنا أنْ لا دلالة في النصوص على هذه النظريّة.

وقد قال السبزواريّ في (مهذَّب الأحكام): وأمّا منشأ القول بالوجوب الكفائيّ، كخبر محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر× قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين×؛ فإنّ إتيانه يزيد في الرزق، ويمدّ في العمر، ويدفع مدافع السوء، وإتيانه مفترضٌ على كلّ مؤمن يقرّ له بالإمامة من الله، ففيه: إنّه لابدّ من حمله على تأكُّد الندب؛ بقرينة صدره وسائر الأخبار.

وأمّا الأخبار الدالّة على أنّ ترك زيارته من الجفاء، كقوله× أيضاً: زوروه ولا تجفوه؛ فإنّه سيّد الشهداء…، ففيها: إنّ الجفاء بمعنى البعد وعدم الخير. والبعد له مراتب. وترك المندوب مع التمكُّن منه نحو بعدٍ عن الشرع؛ إذ ليس كل بُعْدٍ يوجب استحقاق العقاب. وفي الحديث: إنّ الاستنجاء باليمين من الجفاء. فترك كلّ أدب شرعيّ جفاء.

وأمّا خبر هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله×، قال: سألتُه عمَّنْ ترك زيارة قبر الحسين× من غير علّةٍ؟ فقال×: هذا رجلٌ من أهل النار، ففيه: إنّه يصلح للوجوب لولا قصور سنده، وإعراض المشهور عنه، مع أنّ ظاهره الوجوب العينيّ لمَنْ تمكَّن، ولا قائل به. نعم، قد تجب كفاية؛ لأجل جهاتٍ خارجيّة. وكذا زيارة سائر الأئمّة^. ولا إشكال فيه([45]).

ويمكن التعليق على ما أفاده بما يلي:

أوّلاً: قد ذكرنا بعض الذين قالوا بالوجوب، وليس من الصحيح القول بأنّه لا قائل بالوجوب العينيّ.

ثانياً: قد ذكرنا العديد من القرائن التي تصرف بعض الأحاديث المتقدِّمة من الدلالة على الوجوب العينيّ، وليس المانع فقط قصور السند وإعراض المشهور.

ثالثاً: إنّ قوله: «قد تجب كفايةً لأجل جهاتٍ خارجيّة» صحيحٌ. ولكنّ هذا يكون من باب الأدلّة الأخرى، كصدق عنوان الاستخفاف بالإمام مع عدم الزيارة، وغيره من العناوين، التي تختلف من زمان إلى آخر، ومن عرف إلى آخر. وكلامنا في المقام هو بلحاظ الأدلّة الأوّليّة، بعيداً عن العناوين الطارئة.

والمتحصِّل عدم صحّة الاتّجاه القائل بالوجوب، لا العينيّ، ولا الكفائيّ. والصحيح هو القول بالاستحباب الأكيد.

 

 3ـ زيارة الحسين× مشياً

ذكر «صاحب الوسائل» في الباب 41 في أبواب المزار ستّة أحاديث. وبعد تتبُّعها السنديّ وجدنا أنّها بأجمعها ضعيفة السند، وهي على الشكل التالي، تبعاً لترتيبها في الوسائل: الحديث الأوّل ضعيفٌ؛ بالحسن بن عليّ بن أبي عثمان، وجهالة عبد الجبار النهاونديّ، وأبي إسماعيل. والثاني ضعيفٌ؛ ببشير الدهّان، وصالح بن عقبة. والثالث ضعيفٌ؛ بأبي الصامت، وجابر المكفوف. والرابع مرسَلٌ لا يُعْتَمَدُ عليه. والخامس ضعيفٌ؛ بالحسين بن الحكم الصيرفيّ، وأبي حمّاد الأعرابيّ. والسادس ضعيفٌ؛ بأحمد بن بشير، وأبي سعيد القاضي.

وعليه فمَنْ يعتمد على مبنى حجّيّة خبر الثقة لا يمكنه الحكم بالاستحباب. نعم، على مبنى الوثوق بالصدور قد تكون هذه الروايات تفيد وثوقاً بالصدور. وعلى كلّ المباني يمكن الأخذ بهذه الأخبار من باب الالتزام بقاعدة التسامح في أدلّة السنن.

كما تبقى الإشارة إلى أنّه قد نقل إلينا عن بعض المعاصرين قوله: إنّه لا يوجد عندنا أحاديث في استحباب المشي إلى زيارة الحسين×؛ فإنْ قصد عدم اعتبار الموجود سنداً فهذا صحيحٌ؛ وإنْ قصد عدم الوجود الواقعيّ فهو اشتباهٌ في قضيّة بديهيّة.

 

4ـ تكرار زيارة الحسين×

ذكر الحُرّ العامليّ في «الوسائل» خمسة أحاديث في هذا الباب، وهو باب (40) من أبواب المزار، وهي، حسب ترتيبه: الأوّل: صحيح السند. والثاني في غاية الضعف؛ بسبب ضعف عدد من رجاله، ومجهوليّة عدد آخر. والثالث ضعيفٌ؛ بمجهوليّة ثلاثة من رجاله. والرابع صحيح السند، ودالٌّ على استحباب التكرار. والخامس ضعيفٌ؛ بمحمد بن عليّ، ومجهوليّة محمّد بن ناجية.

والمتحصِّل استحباب تكرار زيارة الحسين×.

 

 5ـ استحباب زيارته في أوقات مخصوصة

ذكر الحُرّ العامليّ الأوقات المخصوصة من باب 49 حتّى باب 57 من أبواب المزار. وعليه فإنْ ثبتت هذه المجموعة من الأحاديث فيكون للزيارة في هذه الأوقات استحباباً خاصّاً، وإلاّ فهي تبقى تحت الاستحباب العامّ. ولا نريد المزيد من البحث في هذه النقطة.

هذا مجمل ما أردنا الحديث فيه حول زيارة الإمام الحسين×، وإلاّ فهناك العديد من العناوين يمكن بحثها في هذا الموضوع، وقد تركنا طرحها لأنّ هدفنا هو البحث في أصل استحباب الزيارة. وقد ثبت أنّها من الشعائر الحسينيّة.

الشعيرة الخامسة: الرواية في واقعة عاشوراء وما يتعلَّق بها من أحداث

والمقصود من هذا العنوان بيان الضابطة التي تسمح لنا بذكر الأحداث والوقائع التي جرت مع الإمام الحسين× أو بعد شهادته ممّا يتعلَّق بواقعة كربلاء.

وهذه مسألة مهمّة فإنّها داخلةٌ حتماً تحت عنوان الشعائر الحسينيّة؛ لأنّ الأحاديث التي مرَّت معنا حول الحثّ على إحياء أمر أهل البيت^ تشمل رواية الأحداث والوقائع التي جرت معهم؛ إمّا بدلالة مطابقيّة؛ أو بانطباق العنوان العامّ المذكور على هذا العمل.

ولكنّ النقطة المركزيّة في هذا البحث هي أنّه كيف يمكن لنا تحديد الروايات المعتبرة والأحداث الصحيحة، بعيداً عن المزايدات والتضخيمات لبعض الأحداث الكربلائية؟ أو كيف نميِّز الأحداث لمعرفة كونها تدخل حقيقة في تاريخ كربلاء أو أنّها من المدسوسات التي لم يذكرها أيّ مصدر تاريخيّ؟

ولعلّه من الواضح أنّه مع توالي الأزمنة حدثت العديد من عمليّات التضخيم في بعض الأحداث العاشورائيّة، تحت عناوين وخلفيات متعدِّدة. ولذا نحن في هذا الزمن في أمسّ الحاجة لتنقية التراث الكربلائيّ ممّا أصابه من عمليّات التبديل والتحريف. ولهذا وضعنا هذا العنوان لمعرفة الأحداث الصحيحة التي يمكن لنا نسبتها إلى التاريخ الحسينيّ، وبالتالي نعذر أمام الله تعالى في ما نقول.

وقبل بيان الضابطة في الروايات الحسينيّة نقول: إنّ لكلّ علم من العلوم ميزاناً في طريقة الاعتماد على الروايات والوقائع التاريخيّة. ولهذا سوف نعمد ـ باختصارٍ ـ إلى بيان هذه الضوابط والموازين في عدّة علوم، وهي:

1ـ ضابطة الاعتماد على الروايات في مجال الأحكام الشرعيّة.

2ـ ضابطة الاعتماد على الروايات في مجال العقائد.

3ـ ضابطة الاعتماد على الروايات في مجال التاريخ.

4ـ ضابطة الاعتماد على الروايات في الجانب القصصيّ والتمثيليّ.

وهنا مطالب:

 

 1ـ ضابطة الاعتماد على الروايات في مجال الأحكام الشرعيّة

وبحثنا في هذا المطلب يرتكز على بيان الأقوال والاتّجاهات القائمة، من دون الدخول في عمليّات التقييم والمناقشة في صحّة بعضها أو سقمه.

والأقوال ـ في حدود ما اطّلعنا عليه ـ هي:

الأوّل: إنّ الحجّة هو الخبر المتواتر، دون خبر الواحد. وقد ذهب إليه العديد من المتقدِّمين، نحو: السيد المرتضى، القائل في الذريعة: اعلم أنّا إذا كنا قد دللنا على أنّ خبر الواحد غير مقبول في الأحكام الشرعيّة فلا وجه لكلامنا في فروع هذا الأصل الذي دللنا على بطلانه؛ لأنّ الفرع تابعٌ لأصله، فلا حاجة بنا إلى الكلام عن أنّ المراسيل مقبولة أو مردودة، ولا على وجه ترجيح بعض الأخبار على بعض، وفي ما يردّ له الخبر أو لا يردّ في تعارض الأخبار، فذلك كلّه شغل قد سقط عنا؛ بإبطالنا ما هو أصل لهذه الفروع([46]).

كما أنّ ابن إدريس الحلّي قد شنَّ حملة عنيفة على الاعتماد على خبر الواحد، فقال: فعلى الأدلّة المتقدِّمة أعمل، وبها آخذ وأفتي وأدين الله تعالى، ولا ألتفت إلى سواد سطور، وقول بعيد عن الحقّ مهجور، ولا أقلّد إلاّ الدليل الواضح، والبرهان اللائح، ولا أعرّج إلى أخبار الآحاد، فهل هدم الإسلام إلاّ هي؟!([47]).

ونحن لسنا في مقام استعراض كافّة العلماء والقائلين بهذا الرأي، وكلماتهم، بل هدفنا مجرّد الإشارة لا أكثر.

كما قد ذهب إلى هذا ابن البرّاج، والطبرسيّ، وابن زهرة، وابن شهرآشوب. ويمكن مراجعة كتاب «نظريّة السنّة»، للشيخ حيدر حب الله، للاطّلاع الوافي في هذا المجال([48]).

الثاني: إنّ الحجّة هو الخبر الموثوق الصدور، سواء كان خبر ثقة أم لا. وهذا ما ذهب إليه الشيخ الأعظم في (فرائد الأصول)([49]).

كما يظهر من كتاب «الشعائر الحسينية»، للشيخ محمّد السند، اعتماده على هذا المبنى.

الثالث: إنّ الحجّة هو خصوص خبر العدل الإماميّ. وقد ذهب إليه الشيخ حسن نجل الشهيد الثاني في المعالم([50]). كما نسب إلى صاحب المدارك القول به أيضاً. ولكنْ بعد البحث والتحقيق وجدنا أنّه من المتشدِّدين لمصلحة هذا القول. ويمكن الاطّلاع الزائد في هذا الموضوع مع مراجعة كتابه (مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام).

الرابع: إن الحجّة هو خبر الثقة، سواء عمل به المشهور أو أعرض عنه. وهذا ما ذهب إليه السيد الخوئيّ([51]).

الخامس: ما ذهب إليه السيد الشهيد الصدر وغيره، من القول بحجّيّة خبر الثقة المفيد للوثوق، بحيث إذا أعرض المشهور عن خبر ثقة لا يبقى مجالٌ للاعتماد عليه. وهذا ما ذكره مقرِّر بحثه في مباحث الدليل اللفظيّ.

ويمكن أن تكون هناك آراء وأقوال أخرى، إلاّ أنّه لا حاجة لذكرها بعد كون ما ذكر هو المشهور المعروف على مستوى تعدُّد الآراء وتشعُّبها.

 

 2ـ ضابطة الاعتماد على الرواية في مجال علم العقائد

ويوجد في المقام عدّة أقوال أيضاً:

الأول: هو الرأي القائل بعدم حجّيّة الظنّ مطلقاً، بما فيه خبر الواحد في باب العقائد. هذا وقد ذهب الكثير من علماء الطائفة إلى اشتراط العلم في العقائد، ورفض الظنّ. ولعلّ أقدم مَنْ ذهب إلى هذا الاتّجاه هو السيد المرتضى، حيث يقول: ألا ترى أنّ هؤلاء بأعيانهم قد يحتجّون في أصول الدين ـ من التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة ـ بأخبار الآحاد. ومعلومٌ عند كلّ عاقل أنّها ليست بحجّةٍ في ذلك([52]).

وقد بحث علماء أصول الفقه في هذا الموضوع، ومالوا إلى هذا القول. ويمكن مراجعة مصنَّفات كلٍّ من: الخراساني في (الكفاية)؛ والعراقيّ في (نهاية الأفكار)؛ والنائيني في (فوائد الأصول)، وغيرهم كثيرون أيضاً.

الثاني: هو القائل بإمكان الاعتماد على الظنّ وأخبار الآحاد في العقائد. فقد قال الفيض الكاشانيّ في كتابه «الأصول الأصليّة»: لا يجوز التعويل على الظنّ في الاعتقادات إلاّ ما صحّ عن أهل البيت^([53]).

وقال المقدَّس الأردبيليّ في (مجمع الفائدة والبرهان): بل ظنّي أنّه يكفي في الأصول الوصول إلى المطلوب كيف كان، بدليلٍ ضعيف باطل، وتقليد كذلك([54]).

هذا وقد تبنّى بعض المعاصرين في مجلس درسه هذا القول، قائلاً: إذا قام خبر معتَبَر على عدد الأئمّة، أو على كونهم منصوصاً عليهم، أو على بعض صفاتهم، نحو: العصمة، وولايتهم التكوينيّة، أو علمهم بالغيبيّات، فهل يكون الخبر حجّة في هذه الموارد أم لا؟

أمّا الظنّ الخاصّ، وهو الخبر المعتبر، فحجّةٌ؛ وذلك لأنّ المطلوب فيها عقد القلب على مضمونها مع قيام الحجّة، والمفروض قيامها تبعاً لكلّ المباني في تفسير الحجّيّة. وما اشتهر على ألسنة بعض المتعلِّمين، من أنّ خبر الثقة ليس حجّة في الأمور العقائديّة، غير تامّ. وأمّا الظنّ الانسداديّ فلا حجّيّة له في المقام؛ لأنّ حجّيّته فرع عدم إمكان الاحتياط، وهو ممكنٌ، وذلك بأن يعقد المكلَّف قلبه على ما هو الواقع، وإنْ لم يعرف الواقع بعينه.

الثالث: هو القائل بالتفصيل بين ما يجب معرفته عقلاً وبين ما يجب عقد القلب عليه والتسليم له. فالظنّ حجّة في الثاني، دون الأوّل. وقد ذهب إلى هذا القول السيد الخوئيّ في أبحاثه الأصوليّة. ولو فحصنا لربما عثرنا على غيره أيضاً ممَّنْ يذهب إلى هذا القول. وقد قال السيد الخوئيّ بالنسبة إلى القسم الأوّل: إنّه لا ينبغي الشكّ في عدم جواز الاكتفاء بالظنّ في ما يجب معرفته عقلاً، كمعرفة الباري، أو شرعاً، كالمعاد الجسمانيّ؛ إذ لا يصدق عليه المعرفة. وأمّا الثاني فإنْ كان دليله من الظنون الخاصّة فهو حجّةٌ، أي يمكن عقد القلب عليه؛ فإنّه ثابت بالتعبُّد الشرعيّ؛ وإنْ كان من الظنون المطلقة ـ بناء على الانسداد ـ فليس بحجّة([55]).

 

3ـ ضابطة الاعتماد على الروايات في مجال التاريخ

من الواضح أنّ علم التاريخ بما يحتوي من تاريخ الإسلام من مكّة إلى المدينة، إلى تاريخ ما بعد وفاة النبيّ، وصولاً إلى تاريخ الغيبة لإمام الزمان المهديّ#، قد دخلت عليه العديد من عوامل التحريف والتزييف؛ لأغراض متعدِّدة. ولهذا كان لزاماً علينا البحث لتعيين ضوابط عامّة في مجال البحث التاريخيّ. وليس لزاماً توفُّر كافّة هذه الضوابط مع كلّ مفردة تاريخيّة، بل المقصود أن تكون هذه المعايير هي الإطار العامّ الذي يحكم سير البحث التاريخيّ، تبعاً للحاجة في الموارد الجزئيّة لبعض هذه الشروط أو عدم الحاجة إليها.

وهذه الضوابط ـ بحسب ما ذكره بعض المحقِّقين في التاريخ الإسلاميّ، مع بعض التنقيح والتوضيح من جانبنا ـ هي:

1ـ دراسة شخصيّات السند؛ للتأكُّد من سلامته من الوضّاعين، وأصحاب الأهواء السياسيّة أو المذهبيّة.

2ـ التركيز على المصادر الأصليّة في التاريخ الإسلاميّ، ولكنْ لا على أساس أن تكون هي المعيار الوحيد في تقييم الأحداث، بل إنّ قيمتها المعرفيّة أكبر وأرجح من المصادر المتأخِّرة.

3ـ عدم مخالفة البديهيّات. وهذا ما نحتاج إليه في الروايات العقائديّة. فعندما يقوم الدليل القطعيّ على عدم جسميّة الله تعالى لا يمكن تصديق الروايات التي تنسب إلى الذات الإلهيّة اليد، والرجل، والساق، وما شاكل.

4ـ الإمكانيّة التاريخيّة. فإنّ الخبر المنقول عن عائشة ـ مثلاً ـ أنّها قالت: ما فقدتُ جسد رسول الله في ليلة الإسراء والمعراج لا يمكن تصديقه؛ لأنّ عائشة انتقلت إلى بيت النبيّ| بعد الهجرة، وإنّ حادثة المعراج قد وقعت قبل الهجرة.

5ـ عدم مخالفة الحقائق الثابتة بالأدلّة القطعيّة.

6ـ الانسجام مع الأجواء والمناخات والظروف التي كانت سائدة.

7ـ معيار العرض على كتاب الله تعالى. وهذا نحتاج إليه في مجال التدقيق في الأحاديث الواردة على لسان النبيّ والأئمّة^، بل وتحديد معالم شخصيّة النبيّ؛ فإنّ الاعتماد على الصورة الساطعة لنبيّ الإسلام في القرآن الكريم، لا على كثير من الخرافات والأكاذيب التي دسّت في تاريخه من أجل الإساءة إليه، حتّى يمكن القول: إن بعضاً ممّا ينسب إلى رسول الله| لا يمكن لمؤمنٍ عاديّ في بلاد المسلمين أن يفعله.

8ـ عدم اعتماد الجانب السنديّ فقط، بل لابدّ من التوسُّع في البحث لجمع الشواهد والقرائن؛ للتأكُّد من عدم الجعل والتحريف.

9ـ أن لا يكون المصنِّف يحدِّث بما يجرُّ منفعة إلى مذهبه، وإلاّ فسوف تخفّ نسبة التصديق به.

10ـ أن لا ينقل أحداثاً غريبة عن القوانين الطبيعيّة المتعارفة، بحيث تكون أحداثاً قريبة، أو هي في حقيقتها لو صحَّت، من المعاجز. فإنّ هذه الأحداث لو صحّ وقوعها لاشتهرت بين الناس؛ بلحاظ كونها أمراً عجيباً وغريباً. وهذا ما ينطبق على بعض الأحداث التي ذُكر أنها جرت بعد شهادة الإمام الحسين×. وهذا ما يؤكِّد عليه العلامة الطباطبائيّ، فيقول: لا يكفي في ثبوت الأمر الخارق للعادة خبر الواحد([56]).

هذا تمام الكلام في ما يتعلَّق بالضوابط العامّة للبحث في علم التاريخ، ولكن هناك فرقٌ بين البحث التاريخيّ، ولو أدى إلى ترجيح معطيات على أخرى، وبين جواز الإخبار به.

وقد قال السيد الخوئيّ في المقام: إنّ الظنّ المطلق لا حجّيّة له في جواز الإخبار بالمتعلَّق، وأمّا الظنّ الخاصّ فلابدّ من التفصيل بين مسلكنا ومسلك الآخوند؛ فإنّه على مسلكنا يكون معنى جعل الحجّيّة للظنّ الخاصّ اعتباره علماً بالتعبُّد، وعليه فيجوز الإخبار بمتعلَّقه؛ لأنّ جواز الإخبار منوطٌ بالعلم به، وقد حصل لنا العلم من خلال التعبُّد الشرعيّ.

وهذا بخلاف مسلك الآخوند، فإنّ جعل الحجّيّة لشيء لا يُعقل إلاّ إذا كان لمؤدّاه أثرٌ شرعيٌّ، وهو منتفٍ في المقام؛ إذ ليس من أثرٍ شرعيٍّ يترتَّب على القضايا الخارجيّة والتاريخيّة، وأمّا جواز الإخبار عن شيء فهو من آثار العلم به، لا من آثار المعلوم بوجوده الواقعيّ. ولذا لا يجوز الإخبار عن شيءٍ مع عدم العلم به، ولو كان ثابتاً في الواقع.

ويظهر الفرق بين المسلكين أيضاً أنّه على مسلك الآخوند لا يجوز الإخبار البتّيّ بما في الروايات من الثواب على المستحبّات أو الواجبات، بل لابّد من نصب قرينة دالّة على أنّه مرويّ عنهم^، بأن نقول: روي أنّه من صام في شعبان له كذا…([57]).

وبهذا تبيّن لنا أنّه على مسلك السيد الخوئيّ لا يجوز الإخبار بمتعلَّق الخبر إلاّ إذا ثبت بطريقٍ معتبر. وهذا يشمل كلّ ما يتعلق بأحداث عاشوراء ومصائب الإمام الحسين× وأهل بيته. نعم، يمكن النقل على سبيل الحكاية عن الكتب والمصنَّفات.

سُئل السيد الخوئيّ: ما هو حكم قول رواية ضعيفة السند في حالة الصيام، مع العلم بذلك؟

فأجاب: لا يجوز، إلاّ منسوبة إلى مَنْ أو ما يرويها عنه.

وسُئل أيضاً: ما المراد بالكذب على النبيّ| والأئمّة^ المبطِل للصوم؟

فأجاب: الكذب المفطر هو الكذب في الأحكام وغيرها على النبيّ| والأئمّة بصورة الجزم في الإسناد إليهم([58]).

وهذا الكلام يدلّ بوضوح على الشمول لواقعة عاشوراء؛ فإنّه عمّم الكذب المفطِر لما يتعلَّق بالأحكام وغيرها على النبيّ والأئمّة^. وهذا أمرٌ واضحٌ في فتاوى الفقهاء.

كما يمكن تتبُّع المزيد من الكلمات لفقهاء الطائفة في هذا المجال. وليراجع ـ على سبيل المثال ـ كتاب أجوبة الاستفتاءات للإمام عليّ الخامنئيّ([59])؛ والأنوار الإلهيّة للشيخ جواد التبريزيّ([60]).

وعليه من الضروري لقرّاء العزاء الانتباه الدقيق لهذه الفتاوى، وعدم قراءة أخبار المصائب بنحو الجزم، إلاّ إذا كان الخبر قد ثبت بطريقٍ معتبر، كما هو حال الرواية في مجال الأحكام الشرعيّة. نعم، في غير ما ثبت بطريقٍ معتبر يمكن القراءة بنحو الحكاية والنقل عن المصنَّفات أو الأشخاص، مع تنبيه السامعين إلى ذلك؛ كي لا تلتبس الأفكار في أذهانهم، كما هو حاصل حاليّاً.

 

4ـ ضابطة الرواية في الجانب القصصيّ والتمثيليّ

إنّ الجانب القصصيّ والشعريّ والتمثيليّ يرتكز في أغلب الأحيان على جهة المبالغة أو الخيال، فإنّ مَنْ يسرد قصّة، وإنْ كانت تتحدَّث عن أمر خارجيّ تاريخيّ، إلاّ أنّه قد يعدِّل في بعض فقراتها؛ لسببٍ وآخر. وهكذا في الجانب الشعريّ المبنيّ على عنصر المبالغة في وصف الأحداث وبيانها. وكذلك الأمر في الجانب التمثيليّ القائم على تغيير بعض الجوانب التفصيليّة في الأحداث لمصلحة الإخراج وما شاكل. وعليه ما هي الضوابط التي ينبغي اعتمادها في هذه المجالات؟

1ـ أن لا يكون القاصّ أو الشاعر أو الممثِّل في مقام الإخبار عن حدثٍ يتعلَّق بواقع التاريخ، حتّى لا يلزم منه انطباق عنوان الكذب والتدليس.

2ـ ضرورة إبراز قرينة واضحة من هؤلاء تدلّ على ذلك، فالخطيب حين يتحدَّث بلسان الحال ينبغي أن ينبِّه الناس إلى ذلك، حتّى لا تختلط المفاهيم الواقعيّة مع الجوانب الخياليّة.

ولا أجد محذوراً في القول: إنّ عنوان تعظيم الشعائر الدينيّة لمنطبق في المقام طبقاً لهذه الضوابط. ولعل التتبُّع في كلمات الشعراء مع أئمّة أهل البيت في إحياء ذكر الحسين× يمكن أن يكشف نحواً من الإقرار بما نقول.

 

 الشعيرة السادسة: التطبير (ضرب الرأس)

ويوجد هنا عدّة مطالب:

 

1ـ تاريخيّة التطبير

هناك آراء متعدِّدة حول منشأ هذا العمل، إلاّ أنّ الجميع يؤمن بعدم كونه موجوداً في زمن الأئمّة^، أو في زمن المتقدِّمين من علمائنا، بل إنّه قد راج بين المتأخِّرين، حيث لم تمرّ قرون خمسة على ولادة هذه الظاهرة.

يؤمن الدكتور شريعتي بأنّ ملوك الصفويّين قد أخذوها وما شابهها من التقاليد من الطقوس المسيحيّة، التي تقام باسم مصائب وآلام المسيح في ذكراه. ولعلّ هذه التقاليد ما زالت موجودةً إلى يومنا هذا في بعض مناطق أتباع المسيحيّة، وتعرض صورهم على شاشات التلفزة. وهناك اتّجاهٌ آخر يعتقد أنّ العرب أدخلوها على المآتم. وتقول جماعة ثالثة: إنّها انتقلت من الأتراك إلى الفرس والعرب. ويعتقد البعض من أنصار هذا الاتّجاه أنّ المؤسِّس الأصليّ لها هو الفاضل الدربنديّ، وهو الذي عرف عنه التضخيم والمزايدة في بعض الأحداث العاشورائيّة. وكتابه شاهدٌ على هذا([61]).

 

 2ـ نظريّة الجواز، بل الاستحباب

لقد تمسَّك أصحاب هذه النظريّة بعدّة أدلّة؛ لإثبات الجواز، بل الاستحباب، لهذا العمل، واعتبروه من جملة الشعائر الحسينيّة التي لابدّ من إقامتها. وهذه الأدلّة هي:

 

 الدليل الأوّل: التمسُّك بأصالة الإباحة

وتعني أنّ كلّ ما لم يقم دليلٌ على حرمته فهو محكومٌ بالإباحة. ويُدَّعى في المقام عدم وجود دليل على حرمة التطبير. وقد استندوا في هذا الأصل إلى العديد من الروايات، ومنها:

1ـ موثَّقة مسعدة بن صدقة ـ بناءً على وثاقته ـ، عن أبي عبد الله× قال: سمعتُه يقول: كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه، فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعلّه حرٌّ قد باع نفسه، أو خُدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة([62]).

2ـ صحيحة عبد الله بن سليمان، قال: سألتُ أبا جعفر× عن الجبن…؟ فقال: سأخبرك عن الجبن وغيره، كلّ ما كان فيه حلالٌ وحرامٌ فهو لك حلالٌ حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه([63]).

وهناك الكثير من الروايات أيضاً لإثبات هذا الأصل، ومحلّها ونقاشها في علم الأصول.

هذا وقد اعتمد على هذا الأصل في المقام عددٌ من العلماء. فقد قال الشيخ عبد الحسين صادق العامليّ في كتابه (سيماء الصلحاء): وهَبْ أنّه لا دليل على الندب، فلا دليل على الحرمة، فيبقى العمل مباحاً؛ لحكم الأصل العمليّ. وفاعل المباح لم يكن فاعلاً قبيحاً، مع أنّ الشيعيّ الجارح نفسه لا يعتقد بذلك الضرر([64]).

كما ذكر السيد الفيروزآبادي في جواب له حول الشعائر الحسينيّة ما لفظه: مضافاً إلى أنّ التطبير على الشرط المذكور (عدم الضرر) لا دليل على حرمته، ولو شكّ فالأصل حلّيّته([65]).

وقال السيد الهاشميّ: وحيث إنّه لم يَرِدْ دليلٌ على المنع فالتطبيرُ جائز، ولا نحتاج إلى رواية لإثبات الجواز، ويكون ما ذكر مؤكِّداً للجواز الثابت بالأصل([66]).

ومن الواضح جدّاً أنّ الاعتماد على هذا الأصل يثبت الجواز والإباحة، لا الاستحباب، فيما لو لم يكن هناك دليلٌ على الحرمة.

 

الدليل الثاني: فعل المعصوم×

ويتمثَّل هذا الدليل بالفقرات التالية، وتشكّل كلُّ واحدة بياناً مستقلاًّ لإثبات فعل للمعصوم يدلّ على جواز التطبير، ولو بقياس الأولويّة.

الفقرة الأولى: وهي ما ورد في زيارة الناحية المنسوبة للإمام المهديّ×، حيث جاء فيها: … ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك، وتأسُّفاً وتحسُّراً على ما دهاك، وتلهُّفاً، حتى أموت بلوعة المصاب، وغصة الاكتياب…([67]).

وهي قد دلّت على أنّ الإمام قد يموت حزناً على مصاب الإمام الحسين×. وعليه فهي تدلّ على أنّ الفعل الملازم للضرر الذي لا يوصل إلى حدّ الموت جائزٌ؛ بقياس الأولويّة.

ولكنْ من الواضح أنّه لا يمكن الاحتجاج بزيارة الناحية؛ حيث إنّها لم تثبت سنداً.

الفقرة الثانية: خبر إبراهيم بن أبي محمود قال: قال الرضا×: إنّ المحرَّم شهر كان أهل الجاهليّة يحرِّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرْعَ لرسول الله حرمة في أمرنا. إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء…([68]).

وهذا الحديث يدلّ على أنّ يوم الحسين× جرح جفون أهل البيت^، وأنزل دموعهم. وأين هذا من جواز الجرح والتطبير؟! فهو يدلّ على جرح الجفن من خلال البكاء لا أكثر. على أنّ الحديث لا يحتجّ به؛ لضعف سنده.

الفقرة الثالثة: ما جاء في (كامل الزيارات) عن الإمام الصادق× قال: بكى عليّ بن الحسين على أبيه الحسين بن عليّ عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وضع بين يديه طعامٌ إلاّ بكى على الحسين، حتى قال له مولى له: جُعلتُ فداك يا بن رسول الله، إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة لذلك([69]).

وهو ـ مع ضعف سنده ـ لا يدلّ على أكثر من البكاء الشديد، الذي امتدّ لفترة طويلة من الزمن. أمّا خوف الهلاك فقد جاء في كلام مولاه، لا في كلام الإمام×.

الفقرة الرابعة: ما جاء في (كامل الزيارات) من حديث الإمام السجّاد×، حيث يقول: …وقتل أبي×، وقتل مَنْ كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب، يُراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يواروا، فعظم ذلك في صدري، واشتدّ لما أرى منهم قلقي، فكادت نفسي تخرج، وتبيَّنت ذلك منّي عمَّتي زينب الكبرى بنت عليّ×…([70]).

وهو يدلّ على أنّ الحزن الشديد كاد أن يخرج روحه من بدنه. وهو أمرٌ آخر يختلف عن جواز جرح وضرب الرأس بالسيف، حيث إنّ الحزن والألم حالة تعتري الإنسان بشكل لا إراديّ، من شدّة التفاعل مع الحدث، وهي تختلف عن حالة الإقدام بكامل الوعي على جرح الرأس، وما شاكل. على أنّ الحديث ضعيف السند؛ لعدم توثيق بعض رجاله، نحو: سعيد بن محمد.

والمتحصِّل من هذه الروايات الضعيفة السند عدم الدلالة على جواز ضرب الرأس، فإنّ مدلولها شيء آخر. مضافاً إلى عدم صحّة الاحتجاج بها. كما يُضاف إلى كل ما سبق أنّ فعل المعصوم دليل لُبّيّ يُقتَصَر فيه على القدر المتيقَّن.

 

الدليل الثالث: تقرير المعصوم

وهذا الدليل يتمثّل برواية ضرب السيدة زينب لجبينها بمقدَّم المحمل. وقد جاء في البحار: أقول: رأيت في بعض الكتب المعتبرة: رُوي مرسلاً عن مسلم الجصّاص، قال: …ثم إنّ أمّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل وقالت لهم: صه يا أهل الكوفة، تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم، فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء، فبينما هي تخاطبهنّ إذا بضجّةٍ قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس، يقدمهم رأس الحسين×، وهو رأس زهريّ قمريّ أشبه الخلق برسول الله|، ولحيته كسواد السَّبج قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع، والرمح تلعب بها يميناً وشمالاً، فالتفتت زينب، فرأت رأس أخيها، فنطحت جبينها بمقدَّم المحمل، حتّى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بحرقة، وجعلت تقول:

 

يا هلالاً لمّا استتمّ كمالاً

غَالَه ُخسفُه فأبدى غروباً([71])

ويقرّب الاستدلال بهذه الرواية أنّ هذا العمل تمَّ في محضر الإمام السجّاد×، ولم يمنع أو يردع عنه، وبهذا يكون قد أقرَّه وأيَّده. ومن المعروف أصوليّاً أنّ تقرير المعصوم حجّة يصحّ التعبّد به. وعليه فالتطبير جائزٌ بلا إشكال.

والنقاش في هذا الدليل له مجالٌ واسع، سوف يأتي فيما بعد، إلاّ أنّه يمكن القول هنا: إنّ الرواية ضعيفة السند لا يمكن الاحتجاج بها. وكون المصدر معتبراً في نظر العلاّمة المجلسيّ ليس دليلاً على اعتبار الرواية، كما أنّه ليس دليلاً على اعتبارها في نظرنا لو كانت معتبرةً في نظره.

 

الدليل الرابع: الروايات الخاصّة

ذكر أنصار التطبير رواية ذكرها الشيخ الطوسيّ في تهذيب الأحكام، وهي: خبر خالد بن سدير أخي حنان بن سدير، قال: سألتُ أبا عبد الله× عن رجلٍ شقّ ثوبه على أبيه أو على أمّه أو على أخيه أو على قريبٍ له؟ فقال: لا بأس بشقّ الجيوب، قد شقّ موسى بن عمران على أخيه هارون. ولا يشقّ الوالد على ولده، ولا زوج على امرأته، وتشقّ المرأة على زوجها. وإذا شقّ زوج على امرأته، أو والد على ولده، فكفّارته حنث يمين، ولا صلاة لهما حتى يكفِّرا ويتوبا من ذلك. وإذا خدشت المرأة وجهها، أو جزّت شعرها، أو نتفته، ففي جزّ الشعر عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستّين مسكيناً، وفي الخدش إذا دميت، وفي النتف، كفّارة حنث يمين. ولا شيء في اللطم على الخدود سوى الاستغفار والتوبة. وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميّات على الحسين بن عليّ×، وعلى مثله تلطم الخدود وتشقّ الجيوب([72]).

ويَرِدُ على هذا الاستدلال: أوّلاً: إنّ هذا الحديث ضعيفٌ سنداً؛ بخالد بن سدير، حيث لم يوثَّق في كتب الرجال. ولذا نجد الشهيد الثاني يشير إلى ضعف الرواية في المسالك. كما فعل نحوه المحقِّق النجفي في الجواهر([73]).

وثانياً: نجد أنّ بعض العلماء قد زاد عبارة على نصّ الحديث، مع عدم وجودها في المصدر الأصليّ، وهو تهذيب الشيخ الطوسيّ، فقال: شقّ الجيوب على الفقيد وخمش الوجوه محرَّم في الأشهر، ولكنّ صادق أهل البيت^ يقول في حديثٍ وثيق: على مثل الحسين فلتشقّ الجيوب، ولتخمش الوجوه، ولتلطم الخدود([74]).

وهذا ما وجدناه في كلام الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء. ولا أدري من أين جاء كاشف الغطاء بهذه الفقرة؟!

وثالثاً: إذا كان الخدش جائزاً فهو مشروط بعدم خروج الدم، كما في الرواية؛ ولو لم يكن مشروطاً فهو الأثر البسيط من الجرح، ولا يصدق على إدماء الرأس، كما في التطبير.

 

الدليل الخامس: الروايات العامّة

جاء في رواية بكر بن محمّد، عن أبي عبد الله×، أنّه قال للفضيل: تجلسون وتتحدَّثون؟ فقال: نعم، فقال: إنّ تلك المجالس أحبُّها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل، مَنْ ذَكَرنا أو ذُكِرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب غفر الله ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر([75]).

وقد استفاد البعض من هذا النصّ جواز ورجحان جميع الشعائر الحسينيّة، إلاّ ما أوجب قتل النفس، أو تلفاً لبعض الأعضاء، فإنّهما محرَّمان في الشريعة. أمّا الضرر القليل الذي لا يؤدّي إلى القتل أو التلف فلا يوجب تغيُّر الحكم. وأمّا الاستهزاء من قبل الآخرين ببعض الشعائر فلا يوجب رفع اليد عن الأحكام الشرعيّة. وقد استدلّ بهذا الحديث؛ لإثبات التعميم لكافّة الشعائر، السيد الشيرازيّ في بعض أجوبته([76]).

لكنّ الجواب عن هذا الاستدلال واضحٌ، من أنّه لا خلاف على الكبرى، وهي إحياء أمر أهل البيت^. وإنّما يدور النقاش حول كون هذه المفردة من الأفعال مصداقاً لعنوان الإحياء أو لا؟ فإنّه لا يمكن لأيّ أحدٍ أن يبتدع عملاً ما ـ مهما كانت طبيعته ـ ثم يقول: إنّه من الشعائر الحسينيّة، بل لابدّ أن يصدق عليه ذلك عرفاً. إضافةً إلى عدم استلزامه أيّ محذور.

 

الدليل السادس: قاعدة لزوم تعظيم الشعائر الدينيّة

قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج: 32).

وهناك العديد من الآيات الأخرى التي استدلّ بها لإثبات هذه القاعدة تقدَّمت في ما سبق من هذا البحث. وعليه فهذه الآيات تفيد رجحان تعظيم الشعائر الدينيّة. وشعائر الإمام الحسين× من أبرز مصاديق شعائر الإسلام. والتطبير من جملة هذه الشعائر.

ولكنّ الجواب عن هذا الاستدلال هو نفسه ما تقدَّم في الدليل الخامس، من أنّه لابدّ من إثبات كونها شعيرة لينطبق عليها الحكم بلزوم أو استحباب إقامتها وإحيائها.

هذه هي مجمل الأدلّة التي أقامها أنصار نظريّة التطبير؛ لإثبات جوازها أو شرعيتها.

ونحن وإنْ كنا قد علَّقنا على كلّ دليل، إلاّ أنّه لابدّ من إضافة العديد من التعليقات العامّة على النظريّة بكاملها، فنقول:

أوّلاً: صحيحٌ أنّ الأصل في الأشياء الإباحة، إلاّ أن هذا لا يثبت لنا استحباب هذا الفعل، بل جوازه. وفرقٌ شاسع بين الأمرين.

ثانياً: إذا كان هذا الفعل يلحِق ضرراً ببعض الأشخاص فهذا ليس دليلاً على حرمته مطلقاً، بل إنّ تطبيق قاعدة الضرر في المقام يستلزم ترتُّب الحكم بالحرمة على مصداق ترتُّب الضرر، دون غيره. وعليه فالاستناد إلى دليل الضرر لإثبات الحرمة مطلقاً غير صحيح.

ثالثاً: إنّ فعل المعصوم× دليلٌ لُبّيّ يُقتَصَر فيه على القدر المُتَيَقَّن، وهو ملاحظة كلّ العناصر الدخيلة في شرعيّة الفعل.

رابعاً: إنّ رواية النطح غير موجودة في المصادر المعروفة والمشهورة للحديث، بل هي رواية مرسلة، كما ذكر العلاّمة المجلسيّ نفسه. ومعه لا يمكن الاعتماد عليها لإثبات شرعيّة فعل أو نفيه.

خامساً: لو فرضنا صحّة خبر ضرب الرأس بالمحمل فإنّه فعل يقتصر فيه على القدر المُتَيَقَّن، وقد يكون للتأثُّر الشديد دخالة فيه. وهذا أمر فرديّ لا يسري ليكون ظاهرة عامّة.

سادساً: لا كلام لنا في ضرورة الالتزام بالروايات العامّة التي حثَّت على إحياء أمر أهل البيت^، أو في قاعدة لزوم تعظيم الشعائر، إلاّ أنّ النقاش هو في كون فعل ما ممّا ينطبق عليه عنوان الشعيرة، وإلاّ فمجرَّد تباني شخص أو مجموعة من الناس على كون فعل معيَّن من الشعائر العاشورائيّة لا يصيِّره كذلك، ما لم يصدق عليه عُرْفاً أنّه من مظاهر الحزن، فإنّه لا يمكن لأحدٍ الادّعاء أنّه في مقام إظهار الحزن من خلال فعل السكوت مثلاً، فإنّ هذا ليس من مظاهر الحزن وعلاماته.

والمتحصِّل ممّا تقدّم عدم نهوض دليل يثبت شرعيّة هذا العمل، بحيث يُعَدّ من الشعائر الحسينيّة.

 

3ـ نظريّة التحريم

وجدنا عدداً من العلماء قد قالوا بحرمة هذا العمل، ومالوا إليه، ودافعوا عنه دفاعاً قويّاً، كالسيد محسن الأمين، كما في رسالة التنزيه، حيث قال بحرمته بعنوانه الأوّليّ؛ لأنّه يستلزم الضرر. في مقابل قسم آخر من العلماء قالوا بحرمته من باب ثانويّ، وهو استلزامه لهتك المذهب.

 

الدليل الأوّل: استلزام التطبير للضرر

وهذا دليلٌ واضحٌ، حيث إنّ كبراه معلومة في الشريعة المقدَّسة، من حرمة إضرار النفس، وصغراه موجودةٌ في المقام، فإنّ هذا الفعل يؤدّي إلى الضرر بالبدن. وطبقاً لما ذُكر يكون محرَّماً.

وقد استند إلى هذا الدليل السيد الأمين في «رسالة التنزيه»، حيث قال في مقام تعداد المنكرات التي أدخلت على الشعائر الحسينيّة: ومنها: إيذاء النفس وإدخال الضرر عليها بضرب الرؤوس وجرحها بالمدى والسيوف حتّى يسيل دمها، وكثيراً ما يؤدّي ذلك إلى الإغماء بنزف الدم الكثير، وإلى المرض، أو الموت، وطول برء الجرح، بضرب الظهور بسلاسل الحديد، وغير ذلك. وتحريم ذلك ثابتٌ بالعقل والنقل([77]).

إلاّ أنّ أنصار التطبير قاموا بدفع هذا الدليل، فإنّه بعد وضوح حرمة الضرر في الشريعة اختلف فيه من جهتين:

الأولى: حجم الضرر ودائرته. فهل أيّ ضرر محرَّم في الإسلام، ولو كان قليلاً، أم يختصّ التحريم بالضرر المعتدّ به، الذي يستقبح العقلاء فعله من العبد، كالضرر المفضي إلى الموت، أو المرض، أو إلى بتر عضوٍ، وما شاكل؟ المعروف والمشهور بين العلماء هو الثاني، دون الأوّل. وهذا ما قامت عليه الأدلّة. وبناءً على ذلك لم يثبت أنّ جرح الرأس يؤدّي إلى الموت، أو بتر الأعضاء، أو المرض، بل ذكر بعض العلماء أنّه عاش لعشرات السنين وهو يشاهد الذين يجرحون رؤوسهم، إلاّ أنّ أحداً منهم لم يمُتْ، ولم يُصَبْ بمرضٍ. وعليه فما ادُّعي من لزوم الضرر من هذا الفعل غير دقيق، وغير صحيح.

 

الدليل الثاني: وهن المذهب وهتكه

وقد استند إليه السيد الأمين في رسالته أيضاً، فقال: ومنها: كلّ ما يوجب الهتك والشنعة ممّا لا يدخل تحت الحصر، ويختلف الحال فيه بالنسبة إلى الأقطار والأصقاع، إلى غير ذلك([78]).

وقال في موضع آخر: بل إنّ من فجائع الدهور، وفظائع الأمور، وقاصمات الظهور، وموغرات الصدور، اتّخاذ الطبول والزمور، وشقّ الرؤوس على الوجه المشهور، وإبراز شيعة أهل البيت وأتباعهم بمظهر الوحشيّة والسخرية أمام الجمهور، ممّا لا يرضى به عاقل غيور([79]).

كما استند إلى هذا الدليل الإمام عليّ الخامنئي في أجوبة الاستفتاءات، فقال: ما يوجب ضرراً على الإنسان من الأمور المذكورة، أو يوجب وهن الدين والمذهب، فهو حرامٌ، يجب على المؤمنين الاجتناب عنه. ولا يخفى ما في كثير من تلك المذكورات من سوء السمعة والتوهين عند الناس لمذهب أهل البيت^، وهذا من أكبر الضرر، وأعظم الخسارة([80]).

وهذا دليلٌ جيِّدٌ؛ حيث لا يمكن ادّعاء كون عمل ما من شعائر الإمام الحسين× مع كونه مفضياً إلى هتك المذهب، وإساءة السمعة، وإعطاء صورة مغلوطة عن الدين والمذهب. وكنّا قد اشترطنا في كون فعل ما من الشعائر عدم كونه مؤدِّياً إلى هتك المذهب والدين.

هذا على مستوى الكبرى؛ وأمّا صغرويّاً فمن الواضح أنّ هذا الفعل يعكس صورة سيّئة عن المذهب وأئمّته الأطهار^، مع كوننا مكلَّفين بإعطاء الصورة الناصعة والحقّة عنهم، فإنّهم هكذا أمرونا، وهكذا ينبغي أن نكون.

 

الدليل الثالث: عدم انطباق عنوان الشعيرة عليه

ويبتني هذا الدليل على مقدّمتين:

أـ إنّ انطباق عنوان الشعيرة على فعل معيَّن يتطلَّب كون هذا الفعل من مصاديق الأسى والحزن عُرْفاً، وأمّا مجرّد القيام بفعلٍ بادّعاء أنّه من مظاهر الحزن، مع عدم كونه كذلك عُرْفاً، فلا يتمّ بحالٍ. فإنّ مَنْ يدعي إظهار الحزن من خلال الصوم عن الكلام يُقال له: إنّ فعلك ليس من مظاهر الحزن العُرْفيّة.

ب ـ إنّ عمل ضرب الرؤوس وجرحها بالسيف أو بأيّة آلة حادّة ليس من مظاهر الحزن العُرْفيّة، لا في زماننا، كما هو واضح، ولا في زمن أئمّتنا^. وما يؤيِّد هذا أنّه ليس له سابقة في عصر الأئمّة^، ولم ينصّ أحدٌ من المعصومين عليه، لا نصّاً خاصّاً، ولا عامّاً.

هذه هي مجمل الأدلّة التي عثرنا عليها في كلمات بعض العلماء الذين ذهبوا إلى حرمة هذا الفعل، أو على الأقلّ إلى عدم كونه من مصاديق الشعائر الحسينيّة. هذا وقد سبق الجميع إلى حرمته السيد أبو الحسن الأصفهانيّ، حيث أصدر فتواه المشهورة: إن استعمال السيوف والسلاسل والطبول والأبواق وما يجري اليوم من أمثالها في مواكب العزاء في يوم عاشوراء باسم الحزن على الحسين إنّما هو محرَّم وغير شرعيّ([81]).

ولنا في المقام عدّة ملاحظات:

1ـ لقد ثبت ـ طبقاً لما مرّ ـ عدم صحّة الاستدلال على حرمة التطبير بدليل لزوم الضرر مطلقاً؛ لأنّه من الواضح أنّ الحرمة إنّما تثبت حيث يحصل الضرر، دون مطلق الموارد والحالات. مضافاً إلى إمكان الادّعاء بأنّ هذا الفعل لا يستلزم الضرر، كما هو مشاهَدٌ بحسب التجربة، حيث لم نجد إنساناً مات من هذا العمل، أو مرض، أو بُتِرَت أعضاؤه. وهذا ما ذكره بعض المدافعين عن التطبير بحماسةٍ، كما ذكرنا سابقاً. والحقّ أنّ هذا الإشكال صحيحٌ واقعٌ في محلّه.

نعم، بناءً على بعض المباني الفقهيّة غير المشهورة، كمبنى القائلين بحرمة مطلق الضرر والإضرار، ولو كان بسيطاً وغير معتدّ به عُرْفاً، يمكن الحكم بحرمة التطبير حينئذٍ. إلاّ أنّ هذا المبنى مهجورٌ تقريباً بين الفقهاء، مع عدم قيام الأدلّة عليه.

2ـ إنّ الخطأ الذي وقع فيه بعض القائلين بحرمة التطبير هو أنّهم استندوا إلى دليل لزوم الضرر منه، مع أنّ الصحيح تركيز البحث في محلٍّ آخر. وإنْ كان لابدّ من الإشارة إلى دليل الضرر فإنّه ـ كما هو واضحٌ ـ لا يثبت الموجبة الكلّيّة، ومعها الحرمة المطلقة. ومركز البحث هو في شعيريّة هذا الفعل وعدمه، وفي استلزامه الوهن للمذهب، وإساءة السمعة، وتحقير قِيَم الدين وشعائره.

3ـ إنّنا مع مراجعتنا لكلام السيد الخوئيّ وجدنا له بعض الأجوبة عن استفتاءات وُجِّهت إليه. وهذا بعضها:

لم يرِد نصٌّ بشعاريّته، فلا طريق إلى الحكم باستحبابه.

وقال عن ضرب الرأس: لا يجوز فيما إذا أوجب ضرراً معتدّاً به، أو استلزم الهتك والتوهين.

وسُئل ثالثاً: سألناكم عن جواز ضرب السلاسل والتطبير فأجبتم بأنّه لا يجوز فيما إذا أوجب ضرراً معتدّاً به، أو استلزم الهتك والتوهين، فما معنى جوابكم تفصيلاً؟

فأجاب: الضرر المعتدّ به هو الذي لا يتسامح بالوقوع فيه، كهلاك النفس، أو المرض المشابه لمثله، وما يوجب الذلّ والهوان للمذهب في نظر العرف السائد([82]).

والمطلوب من هذا السرد هو القول: إنّ ميزان الهتك هو ما يؤدّي إلى إعطاء صورة سيّئة عن الدين والمذهب أمام الآخرين من غير المنتحلين لملّة الإسلام، أو من غير أهل المذهب مهما كانت عقيدتهم وأعرافهم، فإنّه بمجرَّد تحقُّق عنوان الهتك ـ تبعاً للعُرْف السائد، مهما كانت طبيعة هذا العُرْف ـ يتحقَّق التحريم لهذه الأعمال. وهذا هو الحاصل في زماننا.

وهذا بعكس بعض الآراء التي حاولت تقسيم الهتك والاستهزاء إلى ثلاثة أقسام، وهي:

أـ الاستهزاء باطلاً.

ب ـ الاستهزاء نتيجة اختلاف العادات والأعراف.

ج ـ الاستهزاء لجهات واقعيّة. وهذا ما يلزم منه الهتك، دون الأوّلين. وهذا ما ذكره الشيخ محمّد السند في كتابه([83]). إلاّ أنّه لا يمكن المصير إليه؛ لأنّ الهتك والتوهين عنوان عُرْفيّ يُقاس بنظرة الآخرين، لا بنظرة أتباع المذهب، بل إنّ الهتك لا يتحقَّق أصلاً في أمثال هذه الأعمال إلاّ أمام الآخرين، فإنّ لكل مصداقٍ من الهتك تفصيله. فالمؤمن قد يهتك نفسه أمام الآخرين، سواء من أتباع مذهبه أم لا، ولكن الطائفة لا يتحقَّق منها عنوان الهتك إلاّ أمام الآخرين، فهل يمكن أن تهتك الطائفة نفسها أمام ذاتها؟ وعليه فعنوان الهتك يتحقَّق تبعاً لنظرة الآخرين، لا لنظرة أهل المذهب. وأعتقد أنّ هذا ما قصده السيد الخوئيّ.

4ـ إنّ الاعتماد على دليل الوهن والاستهزاء لإثبات حرمة هذا العمل يقيِّد الحرمة بما إذا وقعت أمام أعين الآخرين وملاحظتهم، دون ما إذا حصلت في مكان لا يعلم به الآخرون، بحيث لا مجال لتصويرهم وتقديمهم على شاشات التلفاز، أو الرؤية المباشرة، أو مواقع الإنترنت، وما شاكل، فإنّ مَنْ يقوم بالتطبير في بيته مثلاً، مع عدم رؤية الآخرين له، لا مجال للحكم بحرمة فعله من باب لزوم التوهين؛ لأنّه من الواضح عدم تحقُّق هذا العنوان في المقام.

5ـ إنّ دليل نفي شعيريّة هذا العمل لا يستلزم القول بالتحريم، بل أقصى ما يثبت نفي القول بالاستحباب وانطباق عنوان الشعيرة عليه. وهذا كافٍ لردّ الذين يحاولون المزايدة بالولاء لأهل البيت^ على غيرهم، من خلال الدفاع المستميت عن هذا العمل.

وما يهمنا في بحث هذا العمل هو إثبات عدم كونه من الشعائر الحسينيّة أوّلاً، ولزوم وهن وهتك المذهب منه ثانياً.

6ـ حاول البعض القول: إنّ وظيفة الفقيه هي أن يخبر عن الحكم الشرعيّ على سبيل الاشتراط والتعليق، أي إنْ لزم من هذا الفعل توهين المذهب فهو حرامٌ، والمكلَّف هو الذي يتولّى تطبيق هذا الحكم على مورده، وليس للفقيه علاقة بتحديد المصاديق للمكلَّفين، ولا إلزام الآخرين بتشخيصه.

وهذا الكلام صحيحٌ في دائرة الحالات الفرديّة؛ فإنّه من الواضح في علم الفقه أنّه ليس من وظيفة المرجع الدينيّ تحديد وتشخيص المصاديق، بل لو شخّص مصداقاً فلا يجب على مَنْ يقلِّدُه الالتزام بتشخيصه، فإنّه يجب على المكلَّف تقليد الفقيه في وسائل إثبات الهلال، إلاّ أنّه لا يجب عليه تقليد المرجع في أنّه هل ثبت الهلال فعلاً أو لا؟ وهذا شيءٌ واضحٌ في علم الفقه.

ولكنْ هناك بعض الحالات لا يمكن للفقيه السكوت عليها، وهي عندما يتحوَّل فعلٌ معيَّنٌ إلى ظاهرةٍ اجتماعيّة تُسنَد إلى الدين والمذهب، مع كونها تعطي صورة موهنة في نظر الآخرين عن المذهب، فهنا ينبغي على العلماء، بل يجب، من باب عدم السماح بالإساءة إلى الدين وهتكه، التصدي وتحريم المصاديق الخارجيّة. بل وهذا ما حصل مع فقهائنا، ويحصل دائماً في فتوى حرمة شراء البضائع الإسرائيليّة، وغيرها. وهذا تدخُّل من الفقيه في تشخيص بعض المصاديق.

7ـ لقد وجدنا في كلمات بعض الفقهاء ما يدلّ على نفي كون التبرُّع بالدم من شعائر الإمام الحسين×. والسؤال هو: هل التبرُّع بالدم في عزاء سيّد الشهداء× داخل في عنوان العزاء؟

الجواب: لا يرتبط التبرُّع بالدم في عزاء سيّد الشهداء× والجزع على مصائبه([84]).

والسؤال هو: كيف يمكن القول: إنّ ضرب الرأس بالسيف وغيره من مصاديق الشعائر، مع عدم كون التبرُّع بالدم منها؟!

 

إضاءة: في ملحقات التطبير

الأمر الأوّل: لقد ذكرنا هذا الفعل، وبحثنا حوله مفصَّلاً؛ بلحاظ كونه من الأعمال التي اعتاد بعض الشبان من المذهب الإماميّ فعله، مع قيام بعض الأعداء باستغلال هذا الحدث؛ لمحاولة تشويه الدين والمذهب، وإلاّ فهناك العديد من الأعمال الأخرى التي يلحقها حكم التطبير أيضاً، نحو: الزحف إلى المقامات المقدَّسة لأئمّتنا^، أو المشي على النار، أو إيجاد ثقب في لحم البدن، وتعليق شيء فيه، فإنّ كل هذه الأعمال يجري فيها النقاش ذاته، من جريان حكم الحرمة عليها؛ لكونها مضرّة بالبدن، ومؤدِّية إلى تشويه صورة المذهب، وعدم انطباق عنوان الشعيرة عليها بحسب الموازين العُرْفيّة للعزاء والحزن.

الأمر الثاني: إنّ الحكم بحرمة التطبير قد علم ممّا مرّ سابقاً، إلاّ أنّه لو تنزَّلنا وقلنا بالحلّيّة لا يمكن تسرية هذا الحكم إلى ضرب رؤوس الأطفال، الذين لا يفهمون أيّ معنى لمصاديق العزاء وإحياء الشعائر، بل ينطبق على هذا عنوان الإضرار بالغير، فإنّ الوالد غير مسلَّط على ولده في هذه المجالات، بحيث يسمح لنفسه بجرح وضرب رأس ولده الطفل بعنوان العزاء على الإمام الحسين×، وهو محرَّمٌ، بل قد يكون من الكبائر. ومن الواضح الفرق بين الإضرار بالبدن والإضرار بالآخرين؛ فإنّ الأوّل قد يُناقش في حجمه ودائرته، والمستوى المحرَّم منه، أمّا الثاني فهو حرامٌ مطلقاً، ولو كان بسيطاً وقليلاً.

الأمر الثالث: إنّ استعمالَ بعض الآلات في جرح الرأس، مع كون بعض الناس من أصحاب الأمراض الخطيرة المعدية، كمرض الإيدز وما شاكل، ثم إعطاءَها للآخرين لاستعمالها، هو من المحرَّمات، وينطبق عليه تعمُّد نقل المرض إلى الآخرين، مع سائر مستلزماته من الضمان وغيره.

 

 نتيجة البحث

أوّلاً: إنّ تحديد مصداقيّة ظاهرةٍ معيَّنة أو فعلٍ ما لكونه شعيرة أو لا يُرجَع فيه إلى العُرْف، وليس أمراً موقوفاً على تدخُّلٍ من الشارع، إلاّ إذا بيَّن الشارع بعض المصاديق والعناوين، فتدخل عندها في عداد الشعائر.

ثانياً: إنّ البكاء على مصائب الإمام الحسين× وسائر المعصومين مستحبٌّ مطلقاً، أي بلحاظ الإطلاق الأزمانيّ والأحواليّ، طبقاً للثواب المذكور في النصوص، خلافاً لنظريّتي العلاّمة البهبودي والسيّد الحسنيّ.

ثالثاً: إنّ استحباب التباكي لم يثبت بدليلٍ معتبر. نعم، يمكن اعتماده من باب التسامح في أدلّة السنن فيما لو تمّ إجراء القاعدة في المقام، مع القول بتمامها كبرويّاً.

رابعاً: لم يقُمْ الدليل على كراهة لبس السواد في الصلاة، أو مطلقاً. وعليه فلبس السواد من الشعائر العُرْفيّة لإظهار الحزن على الإمام الحسين× وسائر المعصومين، بل سائر الناس.

خامساً: لم يقُمْ الدليل على الوجوب العينيّ، أو الكفائيّ، لزيارة مقام الإمام الحسين×، بل الصحيح أنّ الزيارة من المستحبّات الأكيدة.

سادساً: يتعيَّن على قرّاء السيرة الحسينيّة نسبة الروايات إلى الرواة أو المصنَّفات، على سبيل الحكاية، دون البتّ والجزم، إلاّ إذا ثبتت الرواية بطريقٍ معتبر.

سابعاً: لم يقُمْ الدليل على حرمة التطبير من باب الضرر، بل قام الدليل على حرمته من باب لزوم توهين المذهب من هذا الفعل.

ثامناً: ليس التطبير من الشعائر الحسينيّة؛ لعدم صدق عنوان الشعيرة عليه؛ بلحاظ عدم كونه من مظاهر الحزن العُرْفيّة.

الهوامش:

(*) باحثٌ وأستاذ في الحوزة العلميّة، من لبنان.

([1]) الوسائل 4: 386، باب 20، ح2.

([2]) الموسوعة الرجاليّة: 227 ـ 228.

([3]) الوسائل 4: 387، باب 20.

([4]) المصدر نفسه.

([5]) الوسائل 3: 43، باب21، ح1.

([6]) المصدر السابق، ح2.

([7]) الوسائل 4: 382، باب19، ح1.

([8]) الوسائل 4: 383، باب19، ح5.

([9]) الوسائل 4: 384، باب19.

([10]) الوسائل 4: 385، باب19.

([11]) المصدر نفسه.

([12]) المصدر نفسه.

([13]) التبريزيّ، الأنوار الإلهيّة (رسالة في لبس السواد): 67.

([14]) الخوئي، الموسوعة الفقهيّة 46: 136 ـ 137.

([15]) الهاشميّ، مباحث الدليل اللفظيّ 3: 120.

([16]) التبريزيّ، رسالة في لبس السواد: 60 ـ 61.

([17]) الحدائق الناضرة 7: 118.

([18]) السبزواريّ، مهذَّب الأحكام 5: 349.

([19]) رسالة في لبس السواد: 67.

([20]) كامل الزيارات: 67 ـ 68، باب21، ح3.

([21]) الوسائل 3: 238، باب67، ح10.

([22]) الوسائل 5: 21، باب 8، ح2.

([23]) الطوسيّ، الأمالي: 60.

([24]) الوسائل 14: 508.

([25]) البحار 44: 287.

([26]) الوسائل، الجزء 14.

([27]) مستدرك الوسائل، الجزء 10.

([28]) المجلسيّ، روضة المتَّقين 5: 376.

([29]) البحار 98: 10.

([30]) الحدائق الناضرة 17: 434.

([31]) الوسائل 14: 428، الباب 38، ح1.

([32]) الوسائل 13: 432.

([33]) الوسائل 14: 432 ـ 433.

([34]) الوسائل 15: 433.

([35]) الوسائل 15: 444، الباب 44، ح2.

([36]) المصدر السابق، ح3.

([37]) الوسائل 15: 445، ح5.

([38]) الوسائل 15: 437، ح1.

([39]) الوسائل 15: 444، ح1.

([40]) الوسائل 15: 445، ح4.

([41]) الوسائل 15: 563، الباب 85، ح1.

([42]) الوسائل 15: 430، الباب 38، ح5.

([43]) المصدر السابق: 431، الباب 38، ح7.

([44]) المصدر السابق: 414، الباب 37، ح10.

([45]) مهذَّب الأحكام 15: 68 ـ 69.

([46]) المرتضى، الذريعة 2: 78 ـ 89.

([47]) ابن إدريس الحلّي، السرائر 1: 51.

([48]) حيدر حبّ الله، نظريّة السنّة: 84 ـ 92.

([49]) الأنصاريّ، فرائد الأصول 1: 172.

([50]) حسن بن زين الدين، معالم الدين: 200 ـ 203.

([51]) الخوئيّ، الموسوعة الفقهيّة 47: 233 ـ 234.

([52]) رسائل الشريف المرتضى 1: 211 ـ 212.

([53]) الكاشانيّ، الأصول الأصليّة: 118.

([54]) الأردبيليّ، مجمع الفائدة والبرهان 2: 183.

([55]) الخوئيّ، الموسوعة الفقهيّة 47: 274 ـ 277.

([56]) الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن 10: 349.

([57]) الخوئيّ، الموسوعة الفقهيّة 47: 277 ـ 278.

([58]) الخوئيّ، صراط النجاة 1: 310.

([59]) الخامنئيّ، أجوبة الاستفتاءات 2: 59.

([60]) التبريزيّ، الأنوار الإلهيّة: 162.

([61]) مجلّة نصوص معاصرة، العدد 9: 123.

([62]) الوسائل 17: 89، الباب 4، ح4.

([63]) الوسائل 25: 118، الباب 61، ح1.

([64]) عبد الحسين صادق، سيماء الصلحاء: 81.

([65]) علاء النجفيّ، فتاوى مراجع الدين: 93.

([66]) الهاشميّ، في السيرة الحسينية: 72.

([67]) البحار 98: 238 ـ 239.

([68]) البحار 44: 283 ـ 284.

([69]) كامل الزيارات: 107، الباب 35، ح1.

([70]) المصدر السابق: 261 ـ 262، الباب 88.

([71]) البحار 45: 114 ـ 115.

([72]) تهذيب الأحكام 8: 325.

([73]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 10: 29.

([74]) فتاوى مراجع الدين: 64.

([75]) الوسائل 14: 501، الباب 66، ح2.

([76]) فتاوى مراجع الدين: 80.

([77]) الأمين، رسالة التنـزيه: 3.

([78]) المصدر السابق: 4.

([79]) المصدر السابق: 8.

([80]) الخامنئيّ، أجوبة الاستفتاءات 2: 61.

([81]) حياة الأصفهانيّ، دراسة وتحليل: 149.

([82]) صراط النجاة 2: 464.

([83]) محمّد السند، الشعائر الحسينيّة: 180 ـ 181.

([84]) التبريزيّ، الأنوار الإلهيّة: 158.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً