أحدث المقالات

أ. مشتاق بن موسى اللواتي(*)

ذهب الكاتب محسن كَدِيوَر إلى أن الفقيه ابن الجُنَيْد(بعد 380هـ) كان يعتبر قول الأئمّة^ مجرّد رأيٍ اجتهاديّ لهم، وأن الاختلاف في روايات الأئمّة ناجمٌ عن قولهم بالرأي، وبالتالي فإن ابن الجُنَيْد لم يكن يعتقد بعصمة الأئمّة، ولا بعلمهم اللَّدُني([1]).

وعُمدة ما استند إليه الكاتب في ذلك فقرتان صغيرتان فقط انطوتا على مضمونٍ مجمل وغير صريح ـ كما سيتبين لنا ـ، وردتا في سياق موقفٍ نقدي موجَّه لابن الجُنَيْد، في كتابين: أحدهما: منسوب للشيخ المفيد(413هـ)، وهو «المسائل السروية»؛ والآخر: كتاب «الانتصار»، للسيد المرتضى(436هـ).

وسنعرض في هذا البحث الأدلة التي استند إليها الكاتب في بناء فرضيّته، والأسلوب الذي سلكه في الاستدلال، وصولاً إلى النتيجة المذكورة. وسنتناولها بالتفكيك والتحليل والمناقشة النقدية، وذلك من خلال المحاور التالية:

أوّلاً: نظرةٌ نقديّة عامّة لمنهجية الكاتب

وقبل أن نعرض الفقرات المذكورة ضمن سياقها الكامل نشير إلى بعض الملحوظات على استدلال الكاتب بها، وهي:

1ـ لم يخضع الكاتب النصّ المنسوب إلى المفيد في «المسائل السروية»، ولا المنسوب إلى كلام السيد المرتضى في ابن الجُنَيْد، لأيّ قراءةٍ نقدية أو تحليلية موضوعية، وتعامل معهما بشكلٍ حرفي، وتلقّاهما كأنهما يشكّلان دليلاً جاهزاً عثر عليه لتأييد فرضيّاته، بل عرضهما بشكلٍ مقتطع من السياق.

2ـ أغفل تماماً أن المفيد والمرتضى كانا خصمين لابن الجُنَيْد، وكانا يمثِّلان رأس الحملة الإقصائية التي شُنَّتْ ضدّه وضدّ منهجه الفقهي. وبصرف النظر عن موقعهما العلمي والديني، وما كانا يتمتّعان به من خُلُقٍ وسموّ واستقامة، لم يكونا معصومين، بل كانا معرَّضين للعوارض البشرية، من سهوٍ واشتباه وانفعال وتسرُّع واستعجال في الحكم.

3ـ إن كلا النصّين لم ينقلا كلام ابن الجُنَيْد نفسه، بل نقلا مضمون كلامه، حَسْب قراءة وفهم وتفسير العالمين الكبيرين المذكورين، وهما: المفيد ـ حَسْب الافتراض ـ؛ والمرتضى، لأقواله. ولا يستبعد أن يكون كلامهما وحكمهما فيه متأثِّراً بموقف الخصومة الفقهية معه. والشواهد التاريخية تدلّ على أن أجواء الخصومة الفكرية بين الأقران من العلماء والمفكّرين تترك ـ في بعض الأحيان ـ انعكاساتها على قراءاتهم لنتاجات بعضهم بعضاً. وهذا الأمر يتطلّب مزيداً من البحث والتدقيق في ما نسباه إليه، ويستدعي أخذ ذلك كلّه في الاعتبار في مقام البحث العلمي.

4ـ أغفل الكاتب أن نسبة كتاب «المسائل السروية» إلى المفيد هو موضع شكٍّ، فلم تثبت نسبته إليه؛ إذ لم يُشِرْ إليه أصحاب التراجم المتقدّمون الذين عاصروا المفيد وتتلمذوا عليه ضمن قوائم كتبه. فلم يذكر كلٌّ من: النجاشي(450هـ) والطوسي(460هـ) أثناء ترجمتهما له بأنه كان له كتابٌ بعنوان «المسائل السروية»، رغم أنهما ذكرا كتباً كثيرة له([2]). وقد يُقال بأنهما ـ وبالأخصّ الطوسي ـ لم يكونا بصدد استقصاء جميع كتبه. ولكنّ هذا لا يكفي لإزالة الشكّ عن انتسابه إليه. ولهذا لم يعترف السيد الخوئي بصحّة نسبة الكتاب المذكور إلى المفيد، بل قال: إن نسبة هذا الكتاب الى الشيخ المفيد لم تثبت، ولم يذكر النجاشي والشيخ (الطوسي) له كتاباً يُسمّى بالمسائل السروية([3]). وتجدر الإشارة إلى أن أوّل مَنْ نسب هذا الكتاب إلى الشيخ المفيد هو الشيخ ابن شهرآشوب(588هـ)، أي بعد مرور حوالي أكثر من قرنٍ من الزمن؛ فإن وفاة المفيد كانت سنة 413 من الهجرة، في حين أن وفاة ابن شهرآشوب كانت سنة 588 للهجرة. وأقدم نسخةٍ خطّية عُثر عليها ترجع إلى سنة 676 للهجرة، أي بعد وفاة المفيد بـ 263 سنة([4]).

5ـ إن كتاب «المسائل المصرية» المنسوب إلى ابن الجُنَيْد حَسْبَ ما جاء في كتاب «المسائل السروية»([5]) لم يَرِدْ في قائمة الكتب التي ذكرها النجاشي له. كما لم يذكره ابن شهرآشوب في قائمة كتبه([6]). نعم، ورد في قائمة كتب المفيد لدى النجاشي كتاب «رسالة الجُنَيْدي إلى أهل مصر»([7])، الذي يبدو أنه تضمّن الردّ على أجوبته. كما يحتمل أن يكون ردّاً على أسئلةٍ وردت إليه من أهل مصر اشتملت على بعض آراء ابن الجُنَيْد.

6ـ في جميع الأحوال هناك شكوكٌ تحوم حول نسبة كتاب «المسائل السروية» إلى المفيد. وكان يُفْتَرض بالكاتب أن لا يُغْفِل ذلك حين اعتماده عليه. ومهما قيل عن وجود قرائن تدلّ على نسبته إلى المفيد، من قبيل: التشابه في طريقة الكتابة والخطاب ووحدة النَّسَق الفكري والأسلوبي، فإنها تظلّ أموراً محتملةً وقابلة للمناقشة.

ولهذا سوف نتعامل مع الكتاب على أنه منسوبٌ إلى المفيد، ولم تثبت نسبته إليه، وأنه كتابٌ ظهر في القرن السابع الهجري، ونُسب إليه.

ثانياً: مستندات الكاتب

أما مستندات الكاتب التي أقام عليها فرضيته حول عقيدة ابن الجُنَيْد في الأئمّة^ فتتمثَّل ـ كما أسلفنا ـ في نصّين: أحدهما: منسوبٌ إلى المفيد؛ والآخر: للمرتضى. وسنعرضهما ـ في ما يلي ـ تباعاً:

المستند الأوّل للكاتب من «المسائل السروية»

اكتفى الكاتب بنقل فقرةٍ مقتضبة من كتاب «المسائل السروية»، المنسوب إلى المفيد، في هذا المجال، وهي: «وجعل الأخبار فيها (أي رسالة المسائل المصرية) ـ وهو كتابٌ منسوب لابن الجُنَيْد ـ أبواباً، وظنّ أنها مختلفةٌ في معانيها، ونسب ذلك إلى قول الأئمّة× فيها بالرأي»([8]).

وقد عدّها الكاتب كَدِيوَر دليلاً على أن ابن الجُنَيْد يعتقد باجتهاد الأئمّة وعدم عصمتهم؛ لأن الرأي أو الاجتهاد أو الاستنباط أمرٌ كَسْبيّ، ليس مصوناً من احتمال وقوع صاحبه في الخطأ([9]).

 

قراءة الفقرة في سياقها المقالي الكامل

وبعد أن نقلنا الفقرة التي اجتزأها الكاتب من النصّ المنسوب إلى المفيد، وبنى عليها نتائج كبيرة، من المناسب أن ننتقل إلى كتاب «المسائل السروية» لنرى ما جاء فيه حول هذه القضية، ولنعيد قراءة النصّ المنسوب إلى المفيد في سياقه المقالي الكامل؛ ليتبين لنا مدلوله بشكلٍ دقيق وواضح. وليعذرنا القارئ لأننا سوف نقتبس فقرات طويلة نسبيّاً منه؛ لنضع المسألة في سياقها الكامل.

إن كتاب «المسائل السروية» هو عبارةٌ عن أسئلة وردَتْ إلى المفيد ـ لأنه كان يمثِّل المرجعية الدينية للشيعة آنذاك ـ، وأجاب عنها، وهو تقليدٌ كان ـ ولا يزال ـ سائداً لدى الإمامية. والكتاب مقسَّمٌ إلى مسائل؛ وبعضها تشتمل على فصول. والفقرة التي نقلها الكاتب كَدِيوَر من الكتاب المذكور وردت في المسألة الثامنة، وهي بعنوان: الاختلاف في ظواهر الروايات([10])، وتمّ بحثها خلال فصلين: أحدهما بعنوان: الموقف من الروايات المختلفة الظواهر؛ والثاني: أصناف أحاديث الأئمّة. وتناولها صاحب «المسائل السروية» بالبحث على مدى سبع صفحات تقريباً([11]).

ومضمون السؤال الوارد إليه هو: إن بعض الكتب المصنَّفة في الفقه عن الأئمّة فيها اختلافٌ ظاهر في المسائل الفقهية، كما وقع بين ما كتبه الشيخ أبو جعفر الصدوق(381هـ) من الأخبار المسندة وبين ما أثبته الشيخ أبو علي ابن الجُنَيْد(380هـ) في كتبه من المسائل الفقهية المجرّدة عن الأسانيد([12]). والسائل يسأل: هل يجوز أن يجتهد رأيه، ويعوِّل على ما هو الحقّ عنده، والأصوب لديه، أم يعتمد على المسندات، دون المراسيل؟([13]).

وجاء الجواب بعدم الجواز لأحدٍ بالحكم على الحقّ في ما وقع فيه الاختلاف، إلاّ «بعد إحاطة العلم بذلك، والتمكُّن من النظر المؤدّي إلى المعرفة»([14]).

وحول ما رواه الشيخ الصدوق قال صاحب «المسائل السروية»: فليس يجب العمل بجميعه إذا لم يكن ثابتاً؛ «إذ (فيه) أخبار أحاد لا توجب علماً ولا عملاً، وروايتها عمَّنْ يجوز عليه السهو والغلط»([15])، وأضاف «وإنما روى أبو جعفر& ما سمع، ونقل ما حفظ، ولم يضمن العهدة في ذلك»([16]).

وقال حول كتب ابن الجُنَيْد: «فقد حشاها بأحكامٍ عمل فيها على الظنّ، واستعمل فيها مذهب المخالفين في القياس الرذل، فخلط بين المنقول عن الأئمّة^ وبين ما قاله برأيه، ولم يفرد أحد الصنفين من الآخر. ولو أفرد المنقول بالرأي لم يكن فيه حجّةٌ؛ لأنه لم يعتمد في النقل المتواتر من الأخبار، وإنما عوّل على الآحاد([17]). وواصل حديثه تحت عنوان: الموقف من الروايات المختلفة؛ حيث بين فيه أنواع الأخبار، وقال «وللشيعة أخبارٌ في شرائع مُجْمَعٍ عليها بين عصابة الحقّ، وأخبارٌ مختلف فيها، فينبغي للعاقل المتدبِّر أن يأخذ بالمُجْمَع عليه، كما أمر بذلك الإمام الصادق×»([18])، ثم تطرّق الى بعض ما كتبه في هذه القضية، ومنها ما كتبه ابن الجُنَيْد، قال: «وأجبْتُ عن المسائل التي كان ابن الجُنَيْد جمعها وكتبها إلى أهل مصر، ولقّبها بـ «المسائل المصرية»، وجعل الأخبار فيها أبواباً، وظنّ أنها مختلفةٌ في معانيها، ونسب ذلك إلى قول الأئمّة^ فيها بالرأي([19]). وأعقبه بقوله: «وأبطلت ما ظنّه في ذلك وتخيّله، وجمعت بين جميع معانيها؛ حتّى لم يحصل فيها اختلافٌ. فمَنْ ظفر بهذه الأجوبة وتأمّلها بإنصافٍ وفكّر فيها فكراً شافياً سهل عليه معرفة الحقّ في جميع ما يظنّ أنه مختلفٌ، وتيقّن ذلك ممّا يختصّ بالأخبار المروية عن أئمّتنا^([20]). ثمّ انتقل إلى الفصل الآخر بعنوان: أصناف أحاديث الأئمّة، فبين فيه بعض أسباب الاختلاف الظاهري في حديثهم ودلالاته، وذكر بأن ذلك ليس عجيباً؛ فالقرآن الذي هو كلام الله قد اختلفت ظواهره، وتباين الناس في اعتقاد معانيه، وكذلك السنّة الثابتة عن النبيّ|([21]).

القراءة التحليلية المتأنِّية

وبقراءةٍ متأنِّية للفقرات السابقة المنسوبة للمفيد، ومحاولة تحليلها وتفكيكها وتصنيفها إلى محاور وعناصر مهمّة، يتبين التالي:

1ـ إن المحور الرئيس فيها ـ حَسْب ما جاء في عنوان المسألة الثامنة ـ هو: الاختلاف في ظواهر الروايات، ويتبين من الفصلين المتفرّعين عن هذه المسألة؛ وأحدهما: حول الموقف من الروايات المختلفة الظواهر؛ والآخر: حول أصناف أحاديث الشيعة، أن القضية المحورية المبحوثة هي حديثيةٌ، تتعلّق بالروايات.

 2ـ إن مشكلة الاختلاف أو التعارض في مدلولات ومضامين الروايات واجهت فقهاء المسلمين منذ القِدَم. وقد أُلِّفت فيها الكتب والرسائل؛ لبيان طرق معالجة التعارض وطرق التعامل مع هذه الروايات. فقد كتب يونس بن عبد الرحمن(208هـ) ـ وهو من الفقهاء الرواة ـ كتاب «الاختلاف في الحديث»؛ وكتب ابن قُتَيْبة(276هـ) «مختلف الحديث»؛ وكتب الطوسي(460هـ) «الاستبصار في ما اختلف من الأخبار». وهذه القضية لا تزال تُبحث من قِبَل الفقهاء في الدراسات الأصولية في بابٍ مخصَّص يطلق عليه باب التعارض في الأحاديث، أو التعادل والتراجيح بين الأحاديث. ومن الكتب المعاصرة في هذا المجال كتاب «التعارض في الأدلة الشرعية»، للسيد محمد باقر الصدر.

3ـ إن السؤال الذي ورد إلى صاحب «المسائل السروية» من أهل مصر تركّز حول الموقف العملي من كتب الفقه (الروائي) عن الأئمّة، التي وقع فيها اختلافٌ ظاهر في المسائل الفقهية؛ وبعض هذه الكتب اشتملت على روايات مُسْنَدة، وهي لأبي جعفر الصدوق؛ والأخرى رواياتها مرسلة مُجَرَّدة، وهي لأبي عليّ ابن الجُنَيْد.

ويُلاحَظ أن «الرسالة المصرية» عبَّرت عنهما ـ ابن الجُنَيْد والصدوق ـ بكنيتَيْهما، مما يدلّ على أن المرسلين المستفتين كانوا يكنّون احتراماً لكلا الشخصيتين.

أما القضية المحورية في السؤال فهي الروايات المختلفة، وكيفية التعامل معها.

ويتّضح منها أن الصدوق، الذي كان ينتمي الى مدرسة المحدِّثين في قم، التزم بمنهج الرواية والإسناد في كتبه الفقهية؛ وفي المقابل نجد ابن الجُنَيْد، الذي كان ينتمي الى المدرسة الاستدلالية الأصولية في بغداد، جرّد الروايات من الأسانيد، وقسَّمها على أبواب الفقه، وصاغها بطريقته، وهو ما يُعَدّ تطويراً لكتابة الفقه في تلك المرحلة.

وقد أشار الطوسي بأن ذلك كان يتسبَّب إرباكاً لدى بعض المهتمّين بالفقه الشرعي، الذين كانوا يفضِّلون التعامل مع الروايات المعنعنة والمسندة إلى الأئمّة، ودون تغييرٍ في ألفاظها، بَدَلاً من التعامل مع المضامين الفقهية غير المسندة إليهم، وإنْ كانت مأخوذةً من حديثهم^([22]).

4ـ بالنظر إلى الانتقادات الشديدة الموجَّهة إلى ابن الجُنَيْد من صاحب «المسائل السروية» نجد أنها تتمحور حول المضامين التالية: استعمال القياس الرذل على مذهب المخالفين؛ الخلط بين المنقول عن الأئمّة وبين ما قاله هو بالرأي، بحيث لم يتميَّز كلام الأئمّة عن كلامه، ولو أفرد المنقول بالرأي لم يكن فيه حجّةٌ؛ تعويله فيه على أخبار الآحاد.

 ويُلاحَظ هنا بوضوحٍ أنه، بالإضافة إلى نسبته إلى القياس والتعويل على روايات الآحاد، لم يتقبَّل صاحب «المسائل السروية» ما قام به ابنُ الجُنَيْد من مزج الروايات عن الأئمّة مع شروحه واستنتاجاته وآرائه، وذكر بأنه لو فصل آراءه عن رواياتهم لم يكن له فيها حجّةٌ.

ولوحظ تركيزه الشديد على مسألة «ما قاله بالرأي» و«المنقول بالرأي»، وقد تكرَّرت هذه العبارة وما في معناها وحكمها، من قبيل: ظنّ وخلط وتخيّل، ويعني ـ في نظر صاحب «المسائل السروية» ـ أن ابن الجُنَيْد لم يستند في ما ذهب إليه من آراء على الحجّة التي تفيد العلم، بل اعتمد على ما يفيد الظنّ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، وأنه خلط آراءه الشخصية بأحاديث الأئمّة، بحيث صار يصعب التمييز بينهما.

5ـ وبالتدقيق في مضمون كلام صاحب «المسائل السروية» حول «المسائل المصرية» ـ وهو كتابٌ أجاب فيه ابن الجُنَيْد عن أسئلةٍ وردَتْ إليه من مصر، كما ذكر صاحب «المسائل السروية» ـ نجده هنا أيضاً يعيد التركيز على ذات القضية المحورية، وهي قضية اختلاف الأخبار. ويرى أن ابن الجُنَيْد في جوابه على «المسائل المصرية» قسَّم الأخبار على أبوابٍ معيَّنة، وظنّ أنها مختلفةٌ في معانيها ومدلولاتها. وركّز على إعمال الرأي، حيث قال: ونسب ذلك إلى قول الأئمّة^ فيها بالرأي. وتمثِّل الجملة الأخيرة مركز الفكرة التي استند إليها الكاتب كَدِيوَر، واستنتج منها أن ابن الجُنَيْد كان ينسب الرأي والاجتهاد وعدم العصمة إلى الأئمّة. وسنتوقَّف عندها؛ للوصول إلى دلالتها المتَّسقة مع السياق.

6ـ إن صاحب «المسائل السروية» نسب آراء ابن الجُنَيْد إلى الظنّ والخيال: «ما ظنّه وتخيّله» أنها أخبارٌ مختلفة، ونقده فيها وأبطل آراءه، وقدَّم قراءةً أخرى عالج فيها التعارض المزعوم من ابن الجُنَيْد، وجمع بين معاني تلكم الأخبار؛ حتّى لا يبدو فيها أيّ اختلافٍ.

 7ـ أوضح صاحب «المسائل السروية» الحقيقة ـ من منظوره ـ، بحيث إن كلّ مَنْ فكّر وتأمّل في أجوبته سهل عليه معرفة الحقّ في جميع ما يظنّ أنه مختلفٌ من الأخبار المروية عن أئمّتنا. فهو في جوابه النقدي على ابن الجُنَيْد أوضح حقيقة الأخبار التي تخيَّل ـ ابن الجُنَيْد ـ انها مختلفةٌ، وجمع بينها بشكلٍ وافٍ.

8ـ إن التأمُّل في النصّ السابق الوارد في «المسائل السروية» يبرز لنا العناوين والأفكار المحورية التالية: الاختلاف في ظواهر الروايات؛ الموقف من الروايات المختلفة؛ أصناف أحاديث الأئمّة؛ اختلاف المسائل في فقه الأئمّة، خلط ابن الجُنَيْد بين المنقول عن الأئمّة وبين رأيه الفقهي؛ إن ابن الجُنَيْد حشاها بأحكامٍ استعمل فيها مذهب المخالفين في القياس الرذل؛ لم يعتمد ابن الجُنَيْد النقل المتواتر بل عوَّل على الآحاد؛ للشيعة أخبارٌ مُجْمَع عليها وأخبارٌ مختلفٌ فيها، ظنّ أنها ـ الروايات ـ مختلفةٌ في معانيها، فجمع المفيد بين معانيها حتّى لا يحصل فيها اختلافٌ؛ أسباب الاختلاف الظاهري في حديثهم ودلالاته؛ الاختلاف في ظواهر القرآن والسنّة.

9ـ إن إعادة قراءة الفقرات السابقة لصاحب «المسائل السروية» في سياقها المقالي الكامل، وبعد تفكيك مضامينها، يؤكِّد لنا أن محور البحث وبؤرة الخلاف تتمركز حول ما اذا كانت الأخبار موضوع الخلاف بين الطرفين مختلفةً ومتعارضة أم أنها ليست كذلك؟ وإنها تبدو للوَهْلة الأولى كذلك، ولكنْ يمكن الجمع بينها، وإزالة وَهْم الاختلاف عنها.

وإن ابن الجُنَيْد استعمل رأيه في قراءته لها، ولهذا تخيَّل تعارضها. هذا، بالإضافة إلى نسبته إلى استعمال الرأي والقياس والتعويل على خبر الواحد. وهكذا يتّضح لنا أن الخلاف برمّته يدور حول قضيةٍ حديثية وأصوليةٍ فقهية، وليست قضيةً عقائدية كلامية.

وقفةٌ حول جملةٍ مُوهِمة بنسبة الرأي إلى الأئمّة

هناك عبارةٌ مُوهِمة وردَتْ في كلام صاحب «المسائل السروية»، وقد تمسّك بها الكاتب كَدِيوَر، وتعامل معها كدليلٍ يثبت دعوى اعتقاد ابن الجُنَيْد أن الأئمّة كانوا غير معصومين، وكانوا يعملون بالرأي. وهذه العبارة هي: «جعل الأخبار فيها أبواباً، وظنّ أنها مختلفةٌ في معانيها، ونسب ذلك إلى قول الأئمّة^ فيها بالرأي». والواقع إن القراءة المتأنِّية الهادئة للمسألة الثامنة، والفصلين المتعلِّقين بها، في كتاب «المسائل السروية» المنسوب إلى المفيد، لا يدلّ على أن ما ذهب إليه الكاتب كَدِيوَر هو المعنى الحَصْريّ لكلامه. وفي أحسن الأحوال فإنه أحد المعاني الظاهرة؛ لأن جُلّ اهتمام صاحب «المسائل السروية» كان مركّزاً على قضية نفي الاختلاف في الأخبار ـ المطروحة في الكتاب ـ، والتأكيد المستمرّ على إمكانية الجمع بينها، والزعم بأن ابن الجُنَيْد استخدم فيها الرأي، وخلط أقوال الأئمّة بآرائه، ونسب الاختلاف إلى أقوال الأئمّة وأحاديثهم. وليس فيها ما يدلّ على ما ذهب إليه الكاتب كَدِيوَر.

وبعباراتٍ أوضح: إذا جمعنا بين محاور المسألة وعناصرها نجد أن المعنى المنسجم مع السياق هو أن ابن الجُنَيْد قسّم الأخبار على أبواب، وظنّ أن تلك الأخبار مختلفةٌ في مضامينها، ونسب ذلك، أي الاختلاف والتعارض، إلى قول الأئمّة عبر استعمال الرأي، أي إنه أعمل رأيه في نسبة الاختلاف إلى أقوال الأئمّة.

ويظهر من السياق العامّ للفقرات والجوّ العامّ لمضمون الكلام أن ابن الجُنَيْد توقَّف عن العمل ببعض تلكم الأخبار، أو دعا إلى طرحها؛ بدعوى الاختلاف العميق والمستقرّ فيها، بحيث لا يمكن الجمع بينها، ممّا أدّى إلى انزعاج صاحب «المسائل السروية» منه.

 إن تكرار كلمة الرأي، ونسبة فتاوى ابن الجُنَيْد إلى الرأي، وكون الرأي هو أساس الحملة النقدية التي شُنَّتْ ضدّ ابن الجُنَيْد، يجعل لها أهمّيةً مفتاحية في قراءة وفهم المقصود من العبارة المذكورة.

وممّا سبق يتّضح أن أمامنا دعويين رئيستين:

الأولى: دعوى ابن الجُنَيْد حول اختلاف الروايات، بناءً على إعماله رأيه.

الثانية: نسبته الرأي إلى الأئمّة^.

وقد اعتنى صاحب «المسائل السروية» بالقضية الأولى، وأثبت ـ حَسْب منظوره ـ بطلانها.

وقد يُقال بأنه تَبَعاً لذلك طرح الدعوى الثانية أيضاً.

ولكنّ الذي يردّ هذا القول هو تجاهل صاحب «المسائل السروية» للدعوى الثانية من أيّ مناقشةٍ نقدية، ومن أيّ استنكارٍ أو ردٍّ، بل أغفلها بشكلٍ كامل، حتّى من مجرّد التوقُّف والتعليق عليها. إن هذا التجاهل لهذه الفكرة المزعومة، وكأنّها فكرةٌ هامشية عادية لا تستدعي أيّ ردّ فعلٍ من الكاتب، أمرٌ لا يمكن تصوُّره مع علمنا بما تمثِّله فكرة عصمة الأئمّة^ في تبيين المعارف الدينية من موقعٍ محوريّ في الفكر الإمامي؛ في الوقت الذي أبدى كلّ هذا الاهتمام وردّ الفعل تجاه الدعوى الأولى، والتي تُعَدّ عاديةً إذا ما قورنَتْ بالثانية.

 وبعبارةٍ أدقّ: إن الأولى تنتمي إلى أصول الفقه العملي الفروعي؛ والثانية إلى أصول الكلام الإيماني العقدي، وتمسّ مباشرةً بعصمة الأئمّة^.

 ولهذا يظهر أن الجملة المذكورة وسياقاتها والموقف منها لا تنسجم مع قراءة صاحب فرضيّات «القراءة المَنْسِيَة»، ومَنْ اعتمد عليه، كالسيد بحر العلوم.

 ومن المحتمل أن تكون الجملة المذكورة بمثابة ملازمة نقضية لكلام ابن الجُنَيْد، مفادها: إن نسبته الاختلاف الى أحاديثهم وأقوالهم وردّه لها وتوقُّفه عن العمل بها يستبطن نسبة الرأي إليهم، ومن ثمّ جواز ردّ كلامهم.

كما لا يبعد أن يكون حصل شكلٌ من أشكال التصحيف أو الخطأ أو التصرُّف فيها من قِبَل النُّسّاخ.

 وكيفما كان لنقرأ الجملة المذكورة في ضوء البيان السابق: «وجعل (أي ابن الجُنَيْد) الأخبار فيها أبواباً (أي في المسائل المصرية)، وظنّ (أي ابن الجُنَيْد) أنها (الأخبار) مختلفةٌ في معانيها، ونسب ذلك (أي الاختلاف) إلى قول الأئمّة^ فيها بالرأي».

 وإذا أمعنّا النظر فيها بقليلٍ من التأمُّل والتدقيق نجد أن الجملة يكتمل معناها وبصورةٍ متّسقة مع السياق إلى قوله: ونسب ذلك إلى قول الأئمّة، أي نسب ابن الجُنَيْد الاختلاف إلى حديث الأئمّة وأقوالهم طبقاً لظنّه ورأيه.

 ولهذا لا يبعد في ضوء المعطيات المتاحة أن تكون الجملة المذكورة تنتهي عند ذلك.

كما يحتمل كذلك أن تكون كلمة «فيها» زائدةً في الجملة، فتكون الجملة هكذا: ونسب ذلك إلى قول الأئمّة بالرأي، بمعنى أنه نسب الاختلاف إلى قول الأئمّة وحديثهم بناءً على الرأي الظنّي الشخصيّ له.

وهذا ما يفسِّر اقتصار صاحب «المسائل السروية» في حملته ضدّ ابن الجُنَيْد فقط على دعوى استعمال الرأي والقياس، وليس نسبة الرأي والاجتهاد إلى الأئمّة، ونفي عصمتهم.

 وفي جميع الأحوال فإن قراءة الكاتب محسن كَدِيوَر لا تبدو متّسقةً مع السياق المضموني الكلّي للنصّ المذكور.

والذي يؤكِّد هذا التفسير هو أن مؤلِّف «المسائل السروية» لم يتطرَّق إلى هذا المعنى في إجابته، ولم ينسب إلى ابن الجُنَيْد أنه كان يرى بأن الأئمّة غير معصومين، وأنهم يستعملون الرأي والاجتهاد. ووجدناه يواصل بعد هذه الجملة توضيح رأيه، مركِّزاً على نفي الاختلاف والتعارض في حديث الأئمّة، ونسبة ابن الجُنَيْد إلى الظنّ والتخيُّل في ذلك، ولم نجِدْه نهائيّاً نقد ابن الجُنَيْد في نسبة الرأي إلى الأئمّة، أو ناقش فكرة نفي العصمة عنهم، وهذا يدلّ على أنه لم يقرأ الجملة المذكورة كما قرأها الكاتب، ولم يفهمها كما فهمها الكاتب، وإلاّ لم يكن ليتركها دون ردٍّ أو تعليقٍ نقديّ.

ومن ناحيةٍ أخرى لو كان هذا بالفعل يمثِّل رأي ابن الجُنَيْد لذكره العلماء الذين شنّوا عليه حملةً نقدية؛ بسبب تبنّيه القياس والرأي. ولكان الأَوْلى بهم وأجدر أن يقدِّموا هذه القضية في نقدهم عليه، ودعوة الجماهير إلى ترك كتبه، وإهمال آرائه؛ بسبب هذه الفكرة المخالفة لعقيدة الإمامية، مع أننا لم نجِدْ أحداً من الذين نقدوه وحملوا عليه نسبوا هذه الفكرة إليه.

ولو كان ابن الجُنَيْد بالفعل ينكر عصمة الأئمّة في بيان الأحكام الدينية، وينسبهم إلى الاجتهاد والرأي، لثار عليه العلماء الذين عاصروه، وردّوا عليه، وكتبوا الكتب والرسائل في ردّه ونقده، كما فعلوا بالنسبة إلى دعوى القياس. ولكنّ أيّاً من ذلك لم يحصل، فلم يَرِدْ في قوائم كتب أحد من العلماء، كالمفيد والطوسي والمرتضى، أنهم كتبوا كتباً في الردّ على ابن الجُنَيْد في مسألة نفي العصمة ونسبة الاجتهاد إلى الأئمّة، مع أن هذه القضية تتقدَّم في أهمّيتها على قضية العمل بالقياس. ولهذا قال السيد الخوئي في معرض نفي نسبة كتاب «المسائل السروية» إلى المفيد، ومن ثمّ نسبة هذا المضمون إليه: وممّا يؤكِّد عدم صحّة هذه النسبة أنها لو صحّت لذكرها النجاشي والشيخ (الطوسي)؛ فإن ما نسب إليه أعظم من قوله بالقياس، فكيف لم يطَّلع على ذلك النجاشي والشيخ، وهما تلميذان للمفيد؟!([23]).

ونستخلص ممّا سبق أن هناك شكوكاً قوية تحوم حول نسبة كتاب «المسائل السروية» إلى الشيخ المفيد؛ وأن الاختلاف بين صاحب هذا الكتاب وابن الجُنَيْد كان في قضيةٍ أصولية فقهية، تمحورت حول استعمال الرأي في نسبة اختلاف الأحاديث المروية عن الأئمّة، ولم يكن في قضيةٍ عقائدية كلامية، وهي عصمة الأئمّة. وإن السياق المقالي والسجال التاريخي حول اجتهادات ابن الجُنَيْد يدلّ على هذه النتيجة. ولم نجِدْ خلال قراءتنا المتأنِّية لما جاء في «المسائل السروية» أيّ دليلٍ صريح على ما نسبه الكاتب كَدِيوَر في فرضيات القراءة المَنْسِيّة إلى ابن الجُنَيْد.

وفي أسوأ الفروض فإننا نرى أن هذه الجملة مُجْمَلةٌ ومُبْهَمة وغير ظاهرة الدلالة، فضلاً عن أن تكون حاسمة، ومن ثمّ لا تكفي للاستناد إليها في هذه القضية العقائدية والتاريخية المهمّة.

المستند الثاني من كتاب «الانتصار»، للمرتضى

ذكر الكاتب أن السيد المرتضى، في معرض بيانه لأحد الأحكام الفقهية الخاصّة بالإمامية، وهو قولهم بجواز حكم الأئمّة وحكّامهم (القضاة) بعلمهم في جميع الحقوق والحدود، قد أشار إلى مخالفة ابن الجُنَيْد فيه، وتبنّى رأياً آخر، فقال: «أبو عليّ ابن الجُنَيْد يصرِّح بالخلاف فيها، ويذهب إلى أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شيءٍ من الحقوق، ولا الحدود»([24]). وقد اعتبر المرتضى أن ابن الجُنَيْد عَوَّل في هذه المسألة على ضربٍ من الرأي والاجتهاد، وقال: إن خطأه فيها ظاهرٌ، وأوضح مكمن الخطأ لديه بقوله: ووجدتُ لابن الجُنَيْد كلاماً في هذه المسألة غير محصّل، لأنه لم يكن من هذا، ولا إليه، ورأيتُه يفرّق بين علم النبيّ| بالشيء وبين علم خلفائه وحكّامه. وهذا غَلَطٌ منه؛ لأن علم العالمين بالمعلومات لا يختلف([25]). والفقرة الأخيرة من الكلام هي المستند الثاني للكاتب في دعواه بأن ابن الجُنَيْد كان يرى أن علم الأئمّة عاديّ اكتسابيّ يستند إلى الرأي.

 

ملحوظاتٌ عامّة على استدلال الكاتب

وقبل وضع الفقرة المقتطعة المذكورة في سياقها المقالي، وقراءتها ضمن هيكلها الكامل، نطرح بعض الملحوظات العامّة:

1ـ إن القراءة المتأنِّية لما كتبه المرتضى حول هذه القضية والتأمُّل في مناقشاته يدلاّن على أن القضية تتعلّق بخلافٍ فقهي حول جواز أو عدم جواز حكم الإمام أو خلفائه وحكّامه بعلمهم، وأن المرتضى نقل عن ابن الجُنَيْد بأنه كان يرى عدم جواز الحكم بالعلم مطلقاً، سواء من النبيّ| أو الإمام أو أيّ حاكمٍ آخر، وسواء في حدود الله أو في حقوق الناس. والقضية ليست كلاميةً، ولا عقدية. وقد تمسَّك الكاتب كَدِيوَر بكلمةٍ مقتطعة للمرتضى، ودعم بها دعواه.

2ـ انفرد المرتضى بنقل هذا الرأي عن ابن الجُنَيْد، فلم ينقل عنه المفيد، ولا الطوسي، ولا النجاشي.

كما نجد أن العلاّمة الحلّي(726هـ) ـ الذي نقل في موسوعته «مختلف الشيعة» كثيراً من الآراء الفقهية لابن الجُنَيْد، بالاعتماد على كتابه «المختصر الأحمدي في الفقه المحمدي»، الذي وصل إليه ـ حين ينقل هذا الرأي عن ابن الجُنَيْد يحيله إلى المرتضى([26]). وهذا يؤكِّد انفراد المرتضى بنقله. ولا نودّ من هذه الملحوظة التشكيك في نقل المرتضى، بل نشير إلى ذلك من باب التوثيق العلمي، وتحديد المصدر الأصلي لهذا الرأي. كما أن المرتضى لم يذكر مصدره في ذلك، ولم ينقل لنا كلام ابن الجُنَيْد نفسه، بل نقل المضمون، حَسْب فهمه وقراءته له.

3ـ إن الشهيد الثاني نقل عن ابن الجُنَيْد، وبالإحالة إلى كتابه «المختصر الأحمدي»، رأياً مختلفاً من إحدى الجهات في نفس المسألة. فبعد أن نقل رأي الفقيه ابن إدريس(598هـ) بجواز حكم الحاكم بعلمه في حقوق الناس، دون حقوق الله، قال الشهيد الثاني: وعكس ابن الجُنَيْد في كتابه «الأحمدي»، فقال: ولا يحكم في ما كان من حقوق الناس إلاّ بالإقرار والبيِّنة… ثمّ قال: ويظهر من المرتضى أن ابن الجُنَيْد لا يرى قضاء الحاكم بعلمه مطلقاً، سواء في ذلك الإمام وغيره… فلعل ابن الجُنَيْد ذكر ذلك في كتابٍ آخر([27]). بل نقل الشهيد الثاني عن فخر الدين ابن العلاّمة الحلّي(771هـ) دعوى الإجماع على المسألة ـ أي لم ينقُلْ خلاف ابن الجُنَيْد فيها ـ، وقال: وهو يخالف ما نقله والده في «المختلف» عن المرتضى، ردّاً على ابن الجُنَيْد، الدالّ على عموم قوله بالمنع في الإمام وغيره([28]). وهذا يشير إلى اختلاف النقول عن ابن الجُنَيْد.

4ـ إن هذه المسألة الفقهية وردَتْ بها في مصادر الحديث للمسلمين رواياتٌ؛ بعضها صحيحٌ، تؤكِّد على أن النظام القضائي يقوم على البيِّنات. روى البخاري(256هـ) أن رسول الله| سمع خصومةً بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: إنما أنا بشرٌ، وإنه يأتيني الخصم، فلعلّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعضٍ، فأحسب أنه صادقٌ، فأقضي له بذلك، فمَنْ قضيتُ له بحقّ مسلمٍ فإنما هي قطعةٌ من النار، فليأخذها أو ليتركها. وأخرج الكليني(329هـ) في الكافي، عن أبي عبد الله جعفر الصادق قال: قال رسول الله|: إنما أقضي بينكم بالبيِّنات والأيمان، ولعلّ بعضَكم ألحنُ بحجّته من بعضٍ، فأيّما رجلٍ قطعت له من مال أخيه فإنما قطعتُ له به قطعةً من النار([29]). ولا يستبعد أن يكون ابن الجُنَيْد اعتمد عليها في رأيه. ولهذا نجد الفقيه النجفي صاحب الجواهر(1266هـ)، على الرغم من عدم موافقته له على رأيه، وهو مع تشدُّده المعروف، تفهَّم موقفه، ووضع المسألة في سياقها الفقهيّ، ولم يجِدْ في رأيه خروجاً على قواعد البحث الفقهي، فضلاً عن أن يرى فيه تجاوزاً عقائدياً أو مخالفةً كلامية. فبعد أن نقل كلام المرتضى في ابن الجُنَيْد قال: وتبعه غيره في شدّة الإنكار على ابن الجُنَيْد في عدم جواز القضاء بالعلم. وقال عقيب ذلك: ولكنّ الإنصاف أنه ليس بتلك المكانة من الضعف… وليس في شيءٍ من الأدلّة المذكورة ـ عدا الإجماع منها ـ دلالة على ذلك…، بل أقصى ذلك ما عرفْتَ، وأنه لا يجوز له الحكم بخلاف علمه، بل أصالة عدم ترتُّب آثار الحكم عليه يقتضي عدمه([30]). وأضاف: كما أن قوله|: «البيِّنة على مَنْ ادّعى، واليمين على مَنْ أنكر» كذلك؛ أيضاً ظاهر الحَصْر في صحيح هشام، عن أبي عبد الله×: قال رسول الله|: إنما أقضي بالبيِّنات والأَيْمان، وبعضكم ألحنُ بحجّته من بعضٍ…،إلخ؛ كذلك قول أمير المؤمنين×، في خبر إسماعيل بن أبي أويس: جميع حكّام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة؛ أو يمين قاطعة؛ أو سنّة جارية مع أئمّة هدىً..؛ إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة في حَصْر طريق الحكم بالمعنى المزبور بالبيِّنة واليمين([31]). وبعد أن أورد ملاحظاته على ذلك قال: ومنه، مع الإجماع المحكيّ مستفيضاً، المعتضد بالتتبُّع، يظهر حينئذٍ ضعف المحكيّ عنه من عدم جواز الحكم بالعلم مطلقاً، للإمام وغيره، في حقّ الله وحقّ الناس. وأشار إلى اختلاف النقل عنه بقوله: وفي «المسالك» عن «مختصره الأحمدي» جواز الحكم في حدود الله، دون حقّ الناس([32]).

قراءة القضية في سياقها الكامل

وبعد هذه الملحوظات لا بُدَّ من أن نلقي نظرةً عامّة على مجمل ما كتبه المرتضى عن ابن الجُنَيْد في هذه القضية ـ وهو المصدر الوحيد الذي نقل رأيه ـ، ونحاول قراءة كلامه بشكلٍ متكامل؛ ليتّضح لنا مضمونه وقصده. قال المرتضى: وممّا ظنّ انفراد الإمامية به، وأهل الظاهر يوافقونها فيه، القول بأن للإمام والحكّام من قِبَله أن يحكموا بعلمهم في جميع الحقوق والحدود، من غير استثناءٍ، وسواء علم الحاكم ما علمه وهو حاكمٌ أو علمه قبل ذلك. وقد حُكي أنه مذهبٌ لأبي ثور([33]). وهذا الكلام يدلّ على أن الرأي المذكور ليس ممّا انفردَتْ به الإمامية، فهو ليس من مختصّاتهم، وإنْ ظنّ الناس ذلك، بل عليه أيضاً أهل الظاهر، ونُسب أيضاً إلى أبي ثور.

وهذا يعني أن قصد المرتضى من قوله: «وللإمام» هو الخليفة أو الحاكم الأعلى، وليس الإمام حَسْب ما يصطلح عليه الإمامية؛ لأنه يتحدَّث عنهم وعن غيرهم.

وتساءل المرتضى: فإنْ قيل كيف تستجيزون ادّعاء الإجماع من الإمامية في هذه المسألة وأبو عليّ ابن الجُنَيْد يصرِّح بالخلاف فيها، ويذهب إلى أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شيءٍ من الحقوق، ولا الحدود؟!

وأجاب: قلنا: لا خلاف بين الإمامية في هذه المسألة، وقد تقدّم إجماعُهم ابنَ الجُنَيْد وتأخَّر عنه، وإنما عوَّل فيها على ضربٍ من الرأي والاجتهاد، وخطأه ظاهرٌ([34]). وحَسْب هذه الفقرة هو يؤكِّد على الإجماع، ولا يعتدّ بخلاف ابن الجُنَيْد المتأخِّر عنه، ويرجع سبب خلافه إلى تعويله على مسلك الاجتهاد والرأي.

المسألة ليست موضع اتّفاق الإمامية

تجدر الإشارة إلى أن مسالة حكم الإمام (بالمفهوم الإمامي) بعلمه وقعَتْ محلّ خلافٍ بين أعلامهم منذ القِدَم، وقد نقل لهم المفيد فيها ثلاثة أقوال. أما المفيد نفسه فقد أبدى موقفاً تجاوز فيه من الوضوح ما نُسب إلى ابن الجُنَيْد. قال: إن للإمام أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشهادات، ومتى عرف من المشهود عليه ضدّ ما تضمّنته الشهادة أبطل بذلك شهادة مَنْ شهد عليه، وحكم فيه بما أعلمه الله تعالى. وأضاف: وقد يجوز عندي أن تغيب عنهم بواطن الأمور، فيحكم فيها بالظواهر، وإنْ كانت على خلاف الحقيقة عند الله تعالى، ويجوز أن يدلّه الله تعالى على الفرق بين الصادقين من الشهود وبين الكاذبين، فلا يغيب عنه حقيقة الحال([35]).

 ولا أخال الكاتب كَدِيوَر يعدّ المفيد برأيه هذا معتقداً بفرضية «القراءة المَنْسِيّة».

الخلاف ينتمي إلى الفقه، لا الكلام

وما يلزم تحرير القول فيه حول هذه القضية هو: هل الخلاف بين ابن الجُنَيْد والمرتضى في مسألة حكم الحاكم بعلمه ينتمي إلى المجال الكلامي العَقْدي أم المجال الفقهي الفرعي؟

وما الذي يعنيه المرتضى من مفهوم الإمام والخليفة والحاكم؟

وهل يقصد المدلول الإمامي الاصطلاحي منها أم الفقهي الأعمّ؟

وهل المقصود من علم الحاكم هو العلم الوحياني النبوي أو الإلهام الإمامي أم مطلق العلم لدى الحاكم؟

إن الباحث في نصوص المرتضى وجدالاته ـ وهو المصدر الوحيد الذي نقل الخلاف ـ يجد بوضوحٍ أن الإطار الذي انطلق منه المرتضى في مناقشاته النقدية لرأي ابن الجُنَيْد هو إطارٌ فقهيّ، وليس كلاميّاً، وهو ما سيتّضح جليّاً خلال قراءةٍ متأنِّية لنصوصه.

المحاور النقديّة للمرتضى

إن أبرز محاور الجدال التي ركّز عليها المرتضى في نقده لرأي ابن الجُنَيْد في هذه القضية يمكن إيجازها في ما يلي:

 

1ـ موقف الخليفة من مطالبات السيدة فاطمة

حاجّ المرتضى ابن الجُنَيْد بما أطبق عليه الإمامية حول موقف الخليفة أبي بكر من مطالبة فاطمة بنت رسول الله| فَدَكاً لمّا ادّعت أنه نحلها إيّاها، وأنهم يقولون: إذا كان (الخليفة) عالماً بعصمتها وطهارتها، وأنها لا تدّعي إلاّ حقّاً، فلا وجه لمطالبتها بإقامة البيِّنة؛ لأنها لا وجه لها مع القطع بالصدق. وتساءل: كيف خفي ذلك على ابن الجُنَيْد، هذا الذي لا يخفى على أحدٍ؟([36]).

و هذه المحاجّة جَليّةٌ في أن حديثه ليس مختصّاً بالنبيّ| أو الإمام المعصوم ـ حَسْب عقيدة الإمامية ـ، بل هو عامٌّ، وأن قصده من لفظة الإمام أعمّ من المعنى الاصطلاحي الخاصّ عند الإمامية؛ فانه يقصد منه الحاكم الأعلى، سواء كان نبياً أو إماماً ـ بالمعنى الاصطلاحي الخاصّ عند الإمامية ـ أو خليفةً بالمفهوم التاريخي للكلمة، كما هو الحال في حديثه الآنف حول موقف الخليفة الأوّل من مطالبات السيدة فاطمة. وبناءً عليه فإن العلم المقصود هنا أيضاً يكون علماً اعتياديّاً اكتسابياً، وليس علماً لدنياً غيبيّاً خاصّاً، أو وحيانياً في حالة النبيّ|.

 وبهذا يتبين أن الخلاف فقهيٌّ فرعي، وليس كلاميّاً عَقْدياً إيمانياً.

2ـ استدعاء قصّة تكذيب أعرابيٍّ للنبيّ، وموقف الإمام عليّ

واستدلّ المرتضى ببعض المرويّات التي وصفها بالمشهورة في كتب الشيعة، فأورد قصّتين متشابهتين، خلاصتهما: إن النبيّ| اشترى ناقةً من أعرابيّ، وسلَّمه قيمتها، غير أن الأعرابي بعد أن قبض قيمتها أنكر أن يكون باع الناقة، وطالب النبيّ| بالبيِّنة، واحتكما إلى رجلين، فسأل كلاهما البيِّنة من النبيّ، إلى أن جاء الإمام عليٌّ، ولما رأى ذلك من الأعرابيّ قام فقتله، وعلَّل ذلك بقوله: يا رسول الله، نحن نصدِّقك على أمر الله ونَهْيه، وأمر الجنّة والنار، ووحي الله عزَّ وجلَّ، ولا نصدِّقك في ثمن ناقة هذا الأعرابي؟! وإني قتلتُه لأنه كذَّبك لمّا قلتُ له، أصدق رسول الله في ما قال؟ «فقال: لا، ما أوفاني شيئاً»، فقال رسول الله: أصبْتَ يا عليّ، فلا تعُدْ إلى مثلها([37]). وحجّة المرتضى من إيراد الواقعتين هي أن النبيّ| وعليّاً× حكما بعلمهما، وأن عليّاً قتل الأعرابي الذي ادّعى على النبيّ| ثمن الناقة من غير أن يطلب الشهود([38]). وبصرف النظر عن سندَيْ القصتين ومتنَيْهما، فإن استدلال المرتضى بهما يدلّ على أن محور العلم فيهما هو العلم الطبيعيّ، وليس العلم الغيبي أو الوحياني للنبيّ|، ولا العلم الإلهامي للإمام عليّ، بل علمه اليقيني وإيمانه القطعي بصدق النبيّ|.

نقد بعض العلماء للمرتضى

وقد نقد ابن فهد الحلّي(841هـ) ـ ووافقه ابن أبي جمهور(880هـ) ـ المرتضى على استدلاله بالقصّتين في المقام، ورأيا أنه احتجاجٌ في غير محلّه؛ لأن موضع الخلاف ليس خاصّاً بمورده، بل أعمّ منه. وبعد نقل كلام الحلّي قال ابن أبي جمهور: والذي يظهر لي من هذه العبارة أن احتجاج السيد المرتضى على ابن الجُنَيْد بهذا الحديث (القصّة المذكورة أعلاه) وما شاكله ليس مطابقاً لموضع الخلاف؛ لأن موضع الخلاف في أنه هل للحاكم أن يحكم بعلمه على الإطلاق؟

وأضاف ابن أبي جمهور: وقوله| في الحديث: «ولا تعُدْ إلى مثلها» دليلٌ على أن الإمام ليس له أن يحكم بعلمه في كلّ واقعةٍ؛ لأن الحكم بالعلم دائماً لا يحتمَّله أكثر الخلق؛ لأنه حمل الناس على الباطن، والحمل على الباطن في جميع الجزئيات لا يحتمله العوام، بل ولا ينتظم عليه أمر المخالطات والمعاشرات، التي هي ضروريةٌ في الاجتماع المدنيّ، فعلم ذلك([39]).

3ـ الاستدلال ببعض الآيات القرآنية

استدلّ المرتضى بقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾؛ وقوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾، وقال: من علمه الإمام ـ بالمعنى العامّ ـ سارقاً أو زانياً قبل القضاء أو بعده فواجبٌ عليه أن يقضي فيه بما أوجبَتْه الآية من إقامة الحدّ([40]). ومن الطبيعي أن المرتضى هنا لا يقصد بعلم النبيّ| الخاصّ الذي تلقّاه عبر الوحي، ولا علم الإمام غير الاعتيادي؛ لأنه لو كان هذا قصده لكان يلزمه أن يقدّم وقائع تاريخية تدلّ على إقامة النبيّ| الحدّ على بعض الأفراد ـ على الأقلّ ـ ممَّنْ أطلعه الله تعالى على مخالفاتهم التي تستوجب إقامة الحدّ عليهم، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإمام عليّ وإقامته الحدّ على بعض الأفراد ـ على الأقلّ ـ بناءً على علمه الخاصّ. بل قد يُقال: إنه أمرٌ لو تمّ لكان مثارَ جَدَلٍ ونقد، بل لكان خير وسيلةٍ بيد المنافقين وأعداء الإسلام للطعن فيه، وتشويه صورة قضائه، وعدالة أحكامه، وهو ما لم ينقُلْه لنا التاريخ.

4ـ دعوى التفريق بين علم النبيّ وخلفائه

ثمّ قال المرتضى: ووجدتُ لابن الجُنَيْد كلاماً في هذه المسألة غير محصّل؛ لأنه لم يكن في هذه ولا إليه، ورأيتُه يفرِّق بين علم النبيّ| وعلم خلفائه وحكّامه([41]). وقد اجتزأ الكاتب كَدِيوَر هذه الجملة من سياقها، وأوردها مجرّدةً، وعدّها بنفسها دليلاً قوياً على أن ابن الجُنَيْد كان يعتقد أن علم الأئمّة علمٌ اكتسابيّ وفق المجاري المتعارفة، وليس علماً لَدُنيّاً ـ حَسْب تعبيره ـ([42]).

ولم يتبين من كلام المرتضى وجه التفريق بين علم النبيّ وخلفائه وحكّامه، وهم الولاة والقضاة، وهل هو من جهة مصادر العلم ومنابعه أم من جهة طبيعة العلم ومستوى الانكشاف لدى العالم؟

وفي نظرنا إن هذه الجملة لا تدلّ على أكثر من معناها اللغوي، وهو أنه كان يفرِّق بين علم النبيّ| وعلم خلفائه وحكّامه، ولا تدلّ على أكثر من ذلك إلاّ على نحوٍ من التكلُّف والتعسُّف. فالجملة اشتملَتْ على ثلاثة أطراف، هم: النبيّ|؛ وخلفاء النبيّ، ولنفترض أنهم الأئمّة ـ حَسْب عقيدة الإمامية ـ؛ ويظهر من قوله: «من حكّامه» أنهم قضاته وولاته وعمّاله، أمثال: مصعب بن عمير ومعاذ بن جبل وغيرهم.

 ومن البداهة بمكانٍ أن يكون علم النبيّ| وعلم خلفائه وقضاته وعمّاله مختلفاً من عدّة جهاتٍ، أهمّها: إن علم النبيّ| ـ ولا سيَّما في مجال تبليغ القرآن وأحكام الدين ـ متّصلٌ بالوحي الإلهي وتسديده، وأنه مصدر حجّية خلفائه وحكّامه. وبتعبيرٍ أوضح: إن الفقرة لا تفصح عن طبيعة هذا التفريق بين علم النبيّ| والأئمّة ومَدَياته.

 كما لا يتبين منها أن القصد من كلمة خلفائه هم أئمّة أهل البيت بالخصوص. ولا يوجد أيّ شاهدٍ أو قرينةٍ مقالية تدلّ على أن ابن الجُنَيْد كان يَعُدّ علم الأئمّة اكتسابياً. وكلُّ ما يوجد في المقام هو استنكار المرتضى لهذا الرأي الذي وجده له، وعدم تقبُّله له.

 فهل هذا كافٍ لرمي ابن الجُنَيْد بأنه كان يعتقد أن علم الأئمّة قائمٌ على الرأي والاجتهاد وأنه لا يعتقد بعصمتهم؟! أليس هذا تحميلاً لكلام المرتضى بأكثر ممّا يحتمل؟! إذ قد يكون المقصود منه أن المرتضى قرأ له في بعض كتبه في هذه المسألة رأياً آخر، مفاده: إنه يجيز للنبيّ| أن يحكم بعلمه، ولا يجيز لخلفائه وحكّامه ذلك، وهو ما لم يتقبَّله المرتضى، ونقده عليه.

 وما المانع من أن يكون ذلك ـ في نظره ـ من خصوصيات النبيّ| وحده؟!

وأين هذا من دلالة سلب العصمة عنهم؟!

ثمّ لو كان النظام القضائي قائماً على البيِّنات الظاهرية، وكان الأئمّة مأمورين بإجرائه طبق الموازين الظاهرية، فهل يعني ذلك سلب العصمة عنهم، وإنْ لم يقع منهم أيّ خطأ حَسْب البيِّنات الظاهرية المَرْعِيّة؟!

وكيفما كان لا يتّضح من سياق مناقشات المرتضى ونقوده وردوده بأنه فهم من هذه الفقرة عين ما فهمه الكاتب كَدِيوَر، ولهذا لم نجِدْه ناقشه في العصمة أو في منافاة كلامه لها أو لعلوم الأئمّة، بل واصل جَدَله الفقهي للمسألة الفقهية، وهي مدى جواز حكم الحاكم بعلمه.

5ـ المرتضى وطبيعة كاشفية العلم العادي، وليس الوحياني

إن حديث المرتضى يتمحور عن طبيعة كاشفية العلم العادي، سواء عند النبيّ| أو الإمام أو الخليفة أو الحكّام، وليس عن العلم الوحياني اللَّدُني.

إن مواصلة قراءة المناقشة النقدية للمرتضى لابن الجُنَيْد قد تقدِّم تفسيراً للجملة السابقة من كلامه، الذي قرأناه بشكلٍ مقتطع من سياقه؛ مجاراةً لأسلوب الكاتب كَدِيوَر.

 عقَّب المرتضى على الجملة السابقة التي نقل فيها رأي ابن الجُنَيْد بقوله: وهذا غَلَطٌ منه؛ لأن علم العالمين بالمعلومات لا يختلف، فعلم كلّ واحدٍ بمعلومٍ بعَيْنه كعلم كلّ عالمٍ به، وكما أن الإمام أو النبيّ إذا شاهدا رجلاً يزني أو يسرق فهما عالمان بذلك علماً صحيحاً، فكذلك مَنْ علم مثل ما علماه (النبيّ والإمام) من خلفائهما، والتساوي في ذلك موجودٌ([43]).

والواقع أن هذه الفقرة هي بمثابة إضاءة كاشفة للجملة المُجْتَزَأة السابقة، فهي تتحدَّث عن العلم الاعتيادي لكلٍّ من: النبيّ والإمام وخلفائه وحكّامه وقضاته، بل تتحدَّث عن عموم العالمين بمعلومةٍ معيَّنة، وتقرِّر الأثر الذي عليهم أن يرتِّبوه حَسْب علمهم ـ طبق سياق حديثه ـ، والمتمثِّل في إقامة الحدّ على الجناة، إنْ شاهدوهم يرتكبون جنايةً معيَّنة تستوجب العقاب، سواء كان ذلك قبل القضاء أم بعده. فعلم الأطراف الثلاثة من هذه الناحية هو بدرجةٍ متساوية في نظر المرتضى. وهذه الفقرة تبين بوضوحٍ أنه ليس بصدد العلم الوحياني للنبيّ| أو العلم الخاصّ بخلفائه (الأئمّة)؛ بدليل أنه شمل حكّامهما معهما، وبدرجةٍ متساوية. بل بالنظر إلى السياق الكلّي لكلامه يتبين لنا أنه ـ كما أسلَفْنا ـ يتحدَّث عن كلّ مَنْ يكون في موقع الحاكم الأعلى وخلفائهم وحكّامهم. وأودّ هنا أن أبدي تعجُّبي من الكاتب المحترم كَدِيوَر كيف فاته أن اجتزاء جملةٍ واحدة من سياقها من شأنه أن يغيِّر مسار قراءتها، ويملي على الباحث فهماً معيَّناً قد لا يكون مقصوداً من كاتبها، أو لنقُلْ: قد لا تُفهم بنفس المعنى كما لو وُضعَتْ في سياقها الكامل.

6ـ نقد المرتضى لأدلّة ابن الجُنَيْد

وشرع المرتضى في إيراد أدلّة ابن الجُنَيْد ونقدها بالقول: ووجَدْتُه يستدلّ على بطلان الحكم بالعلم بأن يقول: وجَدْتُ الله تعالى قد أوجب للمؤمنين فيما بينهم حقوقاً، أبطلها فيما بينهم وبين الكفّار والمرتدّين، كالمواريث والمناكحة وأكل الذبائح. وأضاف، ناقلاً عن ابن الجُنَيْد: ووجَدْنا الله تعالى قد أطلع رسوله| على مَنْ كان يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فكان يعلمه ولم يبين أحوالهم لجميع المؤمنين، فيمتنعوا عن مناكحتهم وأكل ذبائحهم([44]). وهذه الفقرات نقلها الكاتب كَدِيوَر([45]).

ويردّ عليه المرتضى قائلاً: وهذا غير مُعْتَمَدٍ؛ لأنّا أوّلاً: لا نسلِّم له أن الله تعالى قد أطلع النبيّ| على مغيب المنافقين وكلّ مَنْ كان يظهر الإيمان ويبطن الكفر من أمّته([46]).

وهنا تبرز مفارقةٌ، حيث نجد المسألة تأخذ مساراً عكسياً؛ فان المرتضى، وعلى عكس ابن الجُنَيْد، لا يرى إطلاع الله تعالى للنبيّ| على المغيّبات المتعلِّقة بأحوال المنافقين وكلّ ما يظهر منهم ويبطن. ولهذا لا يعقل أن ينتقد ابن الجُنَيْد في مسألةٍ عَقْدية هو بنفسه لا يراها للنبيّ|، فضلاً عن الأئمّة^.

 ويمضي المرتضى في مناقشة ابن الجُنَيْد على طريقة المتكلِّمين، بوضع الافتراضات وردّها، فيقول: فإنْ استدلّ على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ (محمد: 30)، ويضيف: فهذا لا يدلّ على وقوع التعريف، وإنما يدلّ على القدرة عليه. ومعنى قوله: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ أي ليستقر ظنّك أو وَهْمك من غير ظنٍّ ولا يقين([47]). وهكذا ينفي المرتضى بعباراتٍ قوية أن يكون الله أطلع نبيَّه على الأحوال الباطنة للمنافقين.

ويظهر لنا من مناقشات المرتضى لابن الجُنَيْد حول المنافقين كأنّ ابن الجُنَيْد ردّ على الرأي القائل بجواز الحكم بالعلم بأن النبيّ| مع علمه بأحوال المنافقين، بإعلام الله تعالى له، ومع ذلك لم نجِدْه تعامل معهم حَسْب علمه، ولم يكشف أحوالهم للمسلمين؛ لكي يراعوا ذلك في أحكام الذبائح والمواريث والمناكح معهم، بل تعامل معهم هو ـ وكذا المسلمون ـ حَسْب ظاهرهم. وهذا قد يفيدنا ـ بما سبق أن ذكرناه ـ بأن ابن الجُنَيْد لا يرى جواز الحكم بالعلم حتّى للنبيّ|، وليس للأئمّة وحدهم، والقضية لا علاقة لها بعلمه أو عدم علمه بالحال، إنما بالحكم بموجب ذلك العلم، أما مسألة العلم وعدمه فهي مستقلّةٌ عن ذلك.

ولهذا قال المرتضى: لو سلَّمنا على غاية مقترحه أنه عليه وآله السلام قد اطّلع على البواطن لم يلزم ما ذكره؛ لأنه غير ممتنعٍ أن يكون تحريم المناكحة والموارثة وأكل الذبائح إنما يختصّ بمَنْ أظهر كفره وردّته، دون مَنْ أبطنها، وأن تكون المصلحة التي يتعلَّق بها التحريم والتحليل اقتضَتْ ما ذكرناه([48]).

فلا يجب على النبيّ| أن يبين أحوال مَنْ أبطن الردّة والكفر؛ لأجل هذه الأحكام التي ذكرناها؛ لأنها لا تتعلَّق بالمُبْطِن، وإنما تتعلَّق بالمُظْهِر. وليس كذلك الزنا وشرب الخمر والسرقة؛ لأن الحدّ في هذه الأمور يتعلّق بالمُبْطِن والمُظْهِر على سواء، وإنما يستحقّ بالفعلية التي يشترك فيها المُعْلِن والمُسِرّ([49]). وهنا يردّ المرتضى على تساؤل ابن الجُنَيْد بطرح احتمالٍ آخر يتّفق مع رؤيته.

والنتيجة التي نستخلصها من هذه القراءة التفصيلية التفكيكية لنصّ المرتضى هي: إن القضية المبحوثة فقهيّةٌ، وليست عقائديّةً، ولا كلاميّة.

وإن قراءة كلام المرتضى بكامله، وضمن سياقاته، يدلّ على أنه لا يقصد من الإمام المعنى المصطلح عليه عند الإمامية؛ وأن حديثه حول إقامة الحدود بالعلم عامٌّ، وأن المقصود بالعلم عامٌّ، وليس العلم الوحياني أو الإلهامي، وأن الفقرة التي استدلّ بها الكاتب كَدِيوَر لا تدلّ على ما انتهى إليه، بل تحتمل معاني أخرى لا تتعارض مع عصمة الأئمّة.

ونستخلص من جميع ما سبق أن كلا النصّين اللذين استند إليهما الكاتب كَدِيوَر، سواء المنسوب إلى المفيد أم نصّ المرتضى، لا يدلاّن على دعواه. ولهذا لم نجِدْ هذين العَلَمين أو غيرهما ممَّنْ جاء بعدهما وجَّهوا أيّ نقدٍ لابن الجُنَيْد في المسائل العَقْدية والكلامية، أو عَدُّوه مخالفاً لعقيدة الإمامية فيها.

الهوامش

(*) باحثٌ مهتمٌّ بالفكر العربيّ الإسلاميّ. من سلطنة عُمَان.

([1]) محسن كِدِيوَر، القراءة المَنْسِيَة: 52، تعريب: سعيد رستم، مؤسّسة الانتشار العربي، ط1، 2011م، بيروت.

([2]) رجال النجاشي 2: 327 ـ 331، تحقيق: محمد النائيني، دار الأضواء، ط1، 1988م؛ والطوسي، الفهرست: 190، مؤسّسة الوفاء، ط3، 1983م، بيروت.

([3]) الخوئي، معجم رجال الحديث 14: 323، ط3، 1983م، بيروت.

([4]) المفيد، المسائل السروية (سلسلة مؤلَّفات الشيخ المفيد 7: 14)، مقدّمة المحقّق صاحب عبد الحميد، دار المفيد، ط2، 1993م. وراجِعْ: ابن شهرآشوب، معالم العلماء: 113، دار الأضواء، قدّم له: محمد صادق بحر العلوم.

([5]) المفيد، المسائل السروية: 75.

([6]) ابن شهرآشوب، معالم العلماء: 98؛ رجال النجاشي 2: 317 ـ 310.

([7]) رجال النجاشي 2: 328.

([8]) كَدِيوَر، القراءة المنسيّة: 50.

([9]) المصدر السابق: 52.

([10]) المفيد، المسائل السروية: 71.

([11]) المصدر السابق: 71 ـ 77.

([12]) المصدر السابق: 71.

([13]) المصدر السابق: 72.

([14]) المصدر نفسه.

([15]) المصدر نفسه.

([16]) المصدر السابق: 73.

([17]) المصدر نفسه.

([18]) المصدر السابق: 74.

([19]) المصدر السابق: 76.

([20]) المصدر نفسه.

([21]) المصدر السابق: 77.

([22]) الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية 1: 2، تحقيق: محمد الكشفي، المطبعة الحيدرية، طهران، 1387هـ.

([23]) الخوئي، معجم رجال الحديث 14: 323.

([24]) كَدِيوَر، القراءة المنسيّة: 50.

([25]) المصدر السابق: 51.

([26]) العلاّمة الحلّي، مختلف الشيعة 8: 388، تحقيق: مؤسّسة النشر الاسلامي، قم، 1418هـ.

([27]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 13: 383 ـ 384، مؤسّسة المعارف الاسلامية، ط1، 1416هـ.

([28]) المصدر السابق 13: 384.

([29]) صحيح البخاري: 1370، بيت الأفكار الدولية، 1998م؛ محمد باقر البهبودي، زبدة الكافي 3: 366، الدار الإسلامية، بيروت، ط1، 1981م.

([30]) النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 40: 89، تحقيق: محمود القوجاني، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط6، 1398هـ.

([31]) المصدر السابق 40: 90.

([32]) المصدر السابق 40: 91.

([33]) المرتضى، الانتصار: 486، مؤسّسة النشر الاسلامي، قم، 1415هـ.

([34]) المصدر السابق: 487.

([35]) المفيد، أوائل المقالات في المذاهب المختارات: 73، دار الكتاب الإسلامي، 1983م، بيروت.

([36]) المرتضى، الانتصار: 488.

([37]) المصدر السابق: 489 ـ 491.

([38]) الشهيد الثاني، المسالك 13: 394.

([39]) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ العزيزية في الأحاديث الدينية 3: 519، تحقيق: مجتبى العراقي، ط1، مطبعة سيّد الشهداء، قم، 1984م.

([40]) المرتضى، الانتصار: 492.

([41]) المصدر السابق: 493.

([42]) كَدِيوَر، القراءة المنسيّة: 53.

([43]) المرتضى، الانتصار: 494.

([44]) المصدر نفسه.

([45]) كَدِيوَر، القراءة المنسيّة: 51.

([46]) المرتضى، الانتصار: 494.

([47]) المصدر نفسه.

([48]) المصدر نفسه.

([49]) المصدر السابق: 495.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً