أحدث المقالات

أ. مهدية فيض الإسلام(*)

د. علي مظهر قراملكي(**)

ترجمة: حسن علي الهاشمي

مقدّمة

إنّ الكثير من الأحكام والعبادات الفردية والاجتماعية للمسلمين ـ الأعمّ من الواجبة والمستحبّة ـ تقوم على أساس من الأشهر القمريّة، ويتمّ تحديد بداية ونهاية الأشهر القمريّة من خلال رؤية الهلال. إلاّ أن هذه الرؤية ـ طبقاً للروايات ـ ليست منظورة للشارع بوصفها فعلاً فردياً، بل إنّما المعتبر من الناحية الشرعية هو الرؤية النوعية. من هنا فحتّى إذا لم يتمكَّن الشخص من رؤية الهلال، وأقيمت البيّنة عنده على الرؤية ـ كأنْ يشهد له شاهدان عادلان برؤية الهلال بعينهما ـ، كان ذلك كافياً في إثبات بداية الشهر له.

هناك اختلافٌ في الروايات في ما يتعلَّق بالبيّنة، والحدود والمساحة المكانيّة للقبول بالشهادة على رؤية الهلال.

وقد انعكس هذا الاختلاف على آراء الفقهاء الشيعة، قديماً وحديثاً، في هذا الشأن أيضاً؛ فهناك مَنْ يرى كفاية رؤية الهلال في نقطةٍ من الأرض لتثبت بداية الشهر الجديد في جميع أنحاء المعمورة؛ وهناك مَنْ يرى أنّ رؤية الهلال في نقطةٍ إنّما تكفي لثبوت الهلال بالنسبة إلى النقاط التي تشترك مع نقطة الرؤية في جزء من الليل، وليس مطلقاً وفي جميع أنحاء الكرة الأرضية؛ وهناك مَنْ يذهب إلى القول بأنّ رؤية الهلال في منطقة إنّما تكون معتبرة لإثبات بداية الشهر للمناطق التي تشترك مع منطقة الرؤية في الأفق أو تكون قريبةً منها، دون سائر المناطق الأخرى؛ وهناك مَنْ يذهب إلى تفصيل آخر؛ إذ يقول بأنّ رؤية الهلال في نقطةٍ من نقاط القارّة الآسيويّة أو الأوروبيّة أو الأفريقية إنّما تكفي لثبوت بداية الشهر بالنسبة إلى المناطق الواقعة في هذه القارّات الثلاث فقط، دون القارّتين الأمريكيّتين وأستراليا، كما أنّ رؤية الهلال في الأمريكيّتين وأستراليا إنّما تكفي لإثبات بداية الشهر فيها، دون القارّات الثلاث الأخرى.

ولكنْ حيث يستحيل دخول الشهر في جميع العالم في وقتٍ واحد؛ بسبب كرويّة الأرض، لا يمكن القول بكفاية رؤية الهلال في نقطة من الأرض لثبوت بداية الشهر في جميع نقاط الأرض مطلقاً.

لذلك لا يبقى أمامنا ـ في إثبات حلول الشهر الجديد ـ من طريق سوى القول بنوعٍ من التبويب والتقدُّم والتأخُّر بين البلدان في العالم. والسؤال المطروح هنا: ما هو الملاك والضابط في هذا التقديم والتأخير؟

وللإجابة عن هذا السؤال هناك أقوال متعدِّدة، هي حصيلة قراءات متنوِّعة للروايات الواردة في هذا الشأن. ومع قليل من التصرُّف وغضّ الطرف عن بعض الخلافات اليسيرة يمكن تقسيم هذه الأقوال إلى ثلاث نظريّات عامّة، وهي:

1ـ نظريّة الاشتراك في الأفق.

2ـ نظريّة الاشتراك في الليل.

3ـ نظريّة الاشتراك في الأرض.

نسعى في هذه الدراسة إلى تحليل هذه النظريّات الثلاث من خلال البحث في الروايات والأدلّة الفقهيّة، لنصل بعد ذلك ـ من خلال استعراض آراء الفقهاء بشأن هذه النظريّات، ونقدها ومناقشتها مناقشة أصوليّة دقيقة ـ إلى أصحّ الملاكات بشأن تقسيم البلدان في إثبات بداية الشهر القمري.

 

1ـ نظرية الاشتراك في الأفق

إنّ المشهور من فقهائنا أنّهم يجعلون من الاشتراك في الأفق ملاكاً لتقسيم البلدان؛ حيث يعمدون من خلال ذلك إلى تقسيم مناطق الأرض إلى قسمَيْن، وهما: المناطق المتَّحدة في الأفق، والمناطق المختلفة في الأفق. وقالوا: إذا شوهد الهلال في مدينة كان ذلك كافياً في إثبات بداية الشهر في المناطق المتَّحدة معها في الأفق أو القريبة من أفقها، ولا يكون ذلك كافياً بالنسبة إلى المناطق المختلفة معها في الأفق.

وهناك مَنْ فسَّر «وحدة الأفق» بوحدة نصف النهار، بمعنى أنّ المدن الواقعة على خطّ طول جغرافي واحد تكون متَّحدة في الأفق([1]).

والمراد من نصف النهارات الخطوط المعروفة بخطوط الطول الجغرافي [التي تمتدّ من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي]، الموازية لنصف النهار المبدأ. والمراد من المدارات خطوط العرض الجغرافيّة المعروفة، والتي توازي مدار خطّ الاستواء الأرضي [الذي يقسم الأرض إلى النصف الشمالي والنصف الجنوبي].

ومن باب المثال: قال السيد محسن الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: «فمع العلم بتساوي البلدين في الطول لا إشكال في حجّية البيِّنة على الرؤية في أحدهما لإثباتها في الآخر. وكذا لو رؤي في البلاد الشرقية فإنّه تثبت رؤيته في الغربيّة بطريق أَوْلى»([2]).

إلاّ أنّ كلام هؤلاء مرفوضٌ بالنظر إلى خرائط رؤية الهلال التي تُرسَم حالياً بواسطة أحدث وأدقّ الأجهزة الفلكية الرقميّة؛ لأن المناطق التي يمكن مشاهدة الهلال فيها ـ خلافاً لتصوُّر المتقدِّمين ـ لا تنفصل أبداً بواسطة الخطوط المستقيمة (الأفقيّة أو العمودية) عن المناطق التي لا يمكن رؤية الهلال فيها، بل إنّ الخطوط التي يمكن رؤية الهلال فيها هي على الدوام ذات أشكال منحنية، فلربما كانت هناك مناطق يمكن رؤية الهلال منها ومع ذلك لا يمكن رؤية الهلال من المناطق الواقعة إلى الشمال أو الشمال الغربي، أو الجنوب أو الجنوب الغربي منها. وعليه لا توجد هناك ملازمة بين رؤية الهلال في منطقة ورؤيته في جميع المناطق الأخرى الواقعة على نفس خطّ طولها. كما لا يلزم من ذلك رؤيته في جميع المناطق الواقعة إلى الغرب منها. وإنّ من الخطأ تجاهل العرض الجغرافي في هذا الشأن؛ وذلك لدخل كلٍّ من الطول والعرض الجغرافي في مطالع الشهر.

ومن هنا يجب تصحيح عبارة السيد محسن الحكيم على النحو التالي: لو رُؤي الهلال في البلاد الشرقيّة فإنّه تثبت رؤيته في البلاد الغربية بطريق أَوْلى، بشرط أن تكون تلك البلاد الغربيّة واقعة في نفس العرض الجغرافي لمنطقة رؤية الهلال.

بَيْد أنّ هناك بياناً مختلفاً لبعض الفقهاء الآخرين، كالسيد السيستاني، في توضيح معنى الاشتراك في الأفق؛ إذ يقول: «إذا رُؤي الهلال في بلدٍ كفى في الثبوت في غيره مع اشتراكهما في الأفق، بمعنى كون الرؤية الفعليّة في البلد الأوّل ملازمةً للرؤية في البلد الثاني، لولا المانع من سحابٍ أو غيم أو جبل أو نحو ذلك»([3]).

إنّ مراعاة السيد السيستاني لتلك الملازمة بمعنى أنّه لا يرى أنّ وحدة الأفق تعني الاتّحاد الطولي البحت دون لحاظ العرض الجغرافي، ويرى أنّه كلّما شوهد الهلال في نقطة كان ذلك كافياً لرؤيته بالنسبة إلى المناطق الغربية، بشرط اتّحادها مع منطقة الرؤية في العرض الجغرافي، ولكنّه لا يكون كافياً بالنسبة إلى المناطق الشرقيّة.

إلاّ أنّ هذا الكلام لا يخلو من الإشكال أيضاً؛ لأنّنا إذا بنينا على القول بعدم اعتبار الرؤية في منطقة بالنسبة إلى المناطق الشرقيّة منها لزم من ذلك محذورٌ آخر، وهو اختلاق تقويم غير متعارف وغير عقلائيّ.

وبيان الأمر أنّه ـ وكما تقدّم ـ حيث كانت الأرض كرويّة فمن المحال أن يحلّ الشهر القمري في جميع ربوع الأرض في وقتٍ واحد، وبالتالي لا يمكن تساوي التقويم في جميع البلدان. وعليه لا بدّ من افتراض خطٍّ على سطح الكرة الأرضيّة يفصل بين الشرق والغرب بيومٍ واحد. وقد تمّ الالتزام حالياً بهذا الخطّ في جميع التقويمات الراهنة، وقد تمّ الاتّفاق على أن يكون موضع هذا الخطّ بحيث لا يضرّ بتنظيم العلاقات والشؤون وتنظيم أمور الناس، وذلك بأنْ لا يمرّ على اليابسة مثلاً، فيقع اختلافٌ بمقدار يومٍ بين بلدَيْن مجاورَيْن، فيختلّ تنظيم أوقاتهم وتقويمهم. من هنا فقد تمّ وضع هذا الخطّ في الحدّ الفاصل بين القارّة الآسيويّة والأمريكية وفي وسط المياه. ولو صادف مرور هذا الخط على جزيرة وسط المحيط فقد عمدوا إلى حرفه عنها؛ ليكون هذا الخطّ على البحر دائماً، فلا يخلّ بالبرامج الإداريّة والمعيشيّة للبلدان أبداً.

ومن الجدير ذكره أنّ الموقع الجغرافي لهذا الخطّ الافتراضي ثابتٌ في جميع أنواع التقويم أبداً. بَيْد أنّ التقويم القمري القائم على فتوى أمثال السيد السيستاني يتغيَّر من شهرٍ إلى شهر، الأمر الذي يؤدّي إلى الهَرْج والمَرْج في حساب عدد السنين والأيّام.

وحيث كان الإسلام من هذه الناحية منسجِماً مع النَّظْم الفطريّ للبشر، بل إنّ الغاية من خلق القمر هو إيجاد هذا النَّظْم؛ إذ يقول تعالى على ما جاء في صريح القرآن: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ (يونس: 5)، فلا يمكن الركون إلى مثل هذا الرأي، الذي يؤدّي إلى الهَرْج والمَرْج في حساب السنين والأيام، ويضرّ بالقيام بالكثير من التكاليف والأحكام الشرعية ذات الصلة بالتوقيت. ولا يليق ذلك بشأن خالق هذا النظام والكون القائم على الموازين الدقيقة.

يضاف إلى ذلك أنّه طبقاً لفتوى السيد السيستاني يلزم أن يحصل في بعض الأشهر اختلافٌ في يومين عن التقويم، وهذا يترتَّب عليه ـ بالنظر إلى الأدلّة المتقدِّمة ـ محذورٌ أشدّ.

إلاّ أنّنا نجد عدداً كبيراً من الفقهاء لا يأتون على ذكر هذه القيود والضوابط في تعريف وحدة واختلاف الآفاق، وإنّما يكتفون ببضع كلماتٍ، مثل: التقارب والتباعد العرفي، مع ذكر بعض المدن كأمثلة ومصاديق لهذا التقارب والتباعد. ويمكن لنا أن نسمّي من هؤلاء العلماء: الطوسي([4])، وابن حمزة([5])، والمحقِّق الحلّي([6])، والعلامة الحلّي([7])، والشهيد الأوّل([8])، والشهيد الثاني([9])، وصاحب المدارك([10])، والكثير غيرهم.

ومن باب المثال نورد نصّ عبارة وفتوى العلاّمة الحلّي في التذكرة في هذا الشأن: «إذا رأى الهلال أهل بلد، ولم يرَه أهل بلد آخر؛ فإنْ تقاربت البلدان، كبغداد والكوفة، كان حكمهما واحداً: يجب الصوم عليهما معاً، وكذا الإفطار؛ وإنْ تباعدتا، كبغداد وخراسان، والحجاز والعراق، فلكلِّ بلدٍ حكمُ نفسه»([11]).

وأمّا سائر الفقهاء الذين تقدَّم ذكرهم فلهم فتاوى شبيهةٌ بهذه الفتوى، مع فارقٍ يسير في الألفاظ.

هذا في حين أنّ جميع الروايات ذات الصلة بالبيِّنة في باب الصوم ليس فيها أيّ دلالة منطوقيّة أو مفهوميّة على اشتراط الاتّحاد في الأفق في ما يتعلَّق باعتبار الشهادة على رؤية الهلال، ولم يَرِدْ مثل هذا الأمر ولو في روايةٍ ضعيفة، حتّى قال السيد عبد الأعلى السبزواري في هذا الشأن: «ليس في الأخبار التي عندنا اسمٌ من اتّفاق الأفق في البلاد واختلافه… ولم نظفر على هذا التعبير أو ما يقاربه في الأخبار بشيءٍ… ولو كان للتقارب دخلٌ في الحكم أو الموضوع لأُشير إليه في خَبَرٍ من الأخبار. وليس اعتبار التقارب معقد إجماعٍ معتبر أصلاً»([12]).

هذا وإنّ لأنصار نظريّة الاشتراك في الأفق أدلّةً على ما ذهبوا إليه، ومن أهمّها: انصراف الروايات.

وفي ما يلي سنذكر ـ من باب المثال ـ خمس روايات هي من أهمّ الروايات ذات الصلة بحجّية البيِّنة في إثبات حلول الشهر، وهي صحيحةٌ ومعتمدة من حيث السند، وهي موجودةٌ بأجمعها في كتاب وسائل الشيعة:

1ـ صحيحة منصور بن حازم: محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن الحسن، عن صفوان، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله× أنّه قال: «صُمْ لرؤية الهلال، وأفطِرْ لرؤيته، فإنْ شهد عندك شاهدان مرضيَّان بأنّهما رأياه فاقْضِه»([13]).

2ـ موثَّقة عبد الرحمن البصري: محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن القاسم، عن أبان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: «سألتُ أبا عبد الله× عن هلال شهر رمضان يغمّ علينا في تسع وعشرين من شعبان؟ فقال: لا تصُمْ إلاّ أن تراه، فإنْ شهد أهلُ بلدٍ آخر فاقْضِه»([14]).

3ـ صحيحة هشام بن الحكم: محمد بن الحسن بإسناده عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله× أنّه قال في مَنْ صام تسعة وعشرين قال: «إنْ كانت له بيِّنة عادلةٌ على أهل مصر أنّهم صاموا ثلاثين على رؤيةٍ قضى يوماً»([15]).

4ـ صحيحة أبي بصير: محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن شعيب، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله× أنّه «سُئل عن اليوم الذي يقضى من شهر رمضان؟ فقال: لا تقضِه، إلاّ أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر، وقال: لا تصُمْ ذلك اليوم الذي يقضى إلاّ أن يقضي أهل الأمصار، فإنْ فعلوا فصُمْه»([16]).

5ـ صحيحة محمد بن عيسى: محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن الحسن الصفّار، عن محمد بن عيسى، قال: «كتب إليه [أي إلى الإمام الهادي×] أبو عمر: أخبرني يا مولاي، إنّه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان، فلا نراه، ونرى السماء ليست فيها علّة، ويفطر الناس، ونفطر معهم، ويقول قومٌ من الحُسّاب قِبَلنا: إنّه يُرى في تلك الليلة بعينها بمصر وأفريقيا والأندلس، هل يجوز يا مولاي ما قال الحُسّاب في هذا الباب، حتّى يختلف الفرض على أهل الأمصار؛ فيكون صومهم خلاف صومنا، وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقَّع: لا تصومَنَّ الشكّ، أفطِرْ لرؤيته، وصُمْ لرؤيته»([17]).

ويجب التنويه إلى أنّ الروايات الواردة في هذا الباب لا تقتصر على هذه الموارد الخمسة فقط، بيد أنّنا أعرضنا عن ذكر سائر الموارد؛ لشبهها بهذه الموارد من حيث الدلالة، فلم تكن هناك من حاجة إلى التكرار، أو أنّها تشكو من ضعف في السند، فأعرضنا عن ذكرها لذلك.

إنّ موضع البحث في الروايات المتقدِّمة مفرداتٌ من قبيل: «أهل بلد آخر»، و«أهل مصر»، و«أهل الأمصار»، و«جميع أهل الصلاة»، وما إلى ذلك.

وفي هذا النوع من العبارات، وبشكلٍ عامّ في منطوق الروايات المتقدِّمة، هناك إطلاقٌ لفظي بالنسبة إلى مكان الشهادة على رؤية الهلال.

إلاّ أنّ البحث في الإطلاق اللفظي لا يحسم المسألة، بل ينتقل الكلام بعدها إلى البحث في الإطلاق المقامي. وفي هذه المرحلة؛ بالاستناد إلى كرويّة الأرض، ينتفي الإطلاق المقامي في الروايات بالنسبة إلى جميع آفاق الأرض.

بيد أنّ بحث الانصراف يطرح من الناحية الأصولية في تلك المرحلة من الإطلاق اللفظي. وقد قلنا: إنّ أنصار الاشتراك في الأفق يعتقدون أنّ الأخبار الواردة في باب شهادة البيِّنة تنصرف إلى البلاد القريبة فقط، أي البلاد التي كان يتردَّد عليها المسافرون في تلك الفترة بشكلٍ مألوف. ويذكر في العادة دليلان على هذا الانصراف:

الأوّل: لا يتبادر إلى الذهن عند سماع روايات من قبيل: «صُمْ للرؤية، وأفطِرْ للرؤية» حجّية الرؤية في بلدٍ ناءٍ عن بلد المكلَّف، وإذا كان الأمر كذلك كان هذا بمثابة انهدام أصل الرؤية.

الثاني: حيث لم تكن في تلك الحقبة وسائل إعلام، مثل التلفزة وغيرها، لم تكن هناك إمكانيّة للإعلان المبكِّر عن رؤية الهلال بالنسبة إلى المناطق البعيدة، وحيث كان السفر يستغرق فترة طويلة تمتدّ لأشهر بعد انتهاء شهر الصيام تكون الأذهان قد تجاوزت التفكير بالهلال، ويتمّ الانصراف عنها تلقائيّاً.

أمّا الإجابة عن هذين الإشكالين فهي:

أمّا الدليل الأوّل الذي يقوم على التبادر فهو مرفوضٌ؛ لأنّ الذي يثبت حجّية رؤية الأشخاص الآخرين على المكلَّف هي روايات البيِّنة، دون روايات أصل الرؤية. وعليه لا يكون محلّ البحث روايات من قبيل: «صم للرؤية، وأفطر للرؤية»، بل الروايات الدالّة على شهادة «أهل بلد آخر». والمتبادر من «بلد آخر» ـ حيث لا وجود لقيدٍ خاصّ ـ هو كلّ بلد.

أمّا دليل الانصراف الثاني الذي هو ندرة الأسفار إلى البلدان النائية فلا يمكن أن يكون دليلاً للانصراف عن الإطلاق؛ فقد ثبت في علم الأصول أنّ ندرة المصداق الخارجي لا تمنع من انعقاد الإطلاق. فالذي يوجب انصراف اللفظ عن الإطلاق هو غلبة الاستعمال، دون الغلبة في الوجود والتحقُّق الخارجي؛ فإنّ السفر في السابق إلى (بلد آخر) وإنْ كان يغلب فيه (البلد الآخر القريب)، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ مفردة (الآخر) من الناحية اللغوية تختصّ فقط بـ (البلد الآخر القريب)؛ بسبب كثرة الاستعمال. وعليه عندما لا تكون كثرة الاستعمال مقيّدة للوجود يكون الانصراف منتفياً أيضاً.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ القول بندرة السفر إلى المناطق البعيدة والنائية في تلك الحقبة لا يخلو من نظرٍ؛ إذ لم يستند هذا القول إلى أيّ شاهدٍ من التاريخ، بل الشواهد الموجودة بين أيدينا تثبت خلاف ذلك؛ إذ إننا ندرك من خلال أدنى تأمُّل في جغرافيا التاريخ الإسلامي في تلك الفترة أنّها كانت تشمل المناطق البعيدة جدّاً، وكان عصر الفتوحات مقارناً لعصر الأئمّة المعصومين^، وخاصّة الإمامين الباقر والصادق’، وهو العصر الذي صدرت فيه أغلب روايات محلّ بحثنا. فقد امتدت خارطة البلاد الإسلامية إلى أغلب المناطق في آسيا وأوروبا وأفريقيا، مثل: شبه الجزيرة العربية والعراق والشام وإيران والصين والهند ومصر والمغرب والأندلس (إسبانيا) وروما، وكان المسلمون في أقصى نقاط هذه الأصقاع عرضةً للابتلاء بهذه الأحكام.

وعليه فإنّ القول بالانصراف الذهني في هذا المقام لا يقوم على أساسٍ متين من الواقع. وإذا كان هناك من انصرافٍ فهو من النوع البدويّ الذي يزول بأدنى تأمُّل. وبالتالي فإنّ مبنى الاشتراك في الأفق يواجه إشكالاً، ولا يمكن التمسُّك به.

 

2ـ نظريّة الاشتراك في الليل

إنّ مؤسِّس هذه النظرية هو السيد أبو القاسم الخوئي؛ إذ يبدو أنّه ذهب في البداية إلى عدم لزوم اتّحاد الآفاق بشكلٍ مطلق، وكفاية الرؤية الإجمالية لجميع البلاد. وهذا نصّ فتواه في منهاج الصالحين، على ما جاء في نقل السيد محمد حسين الحسيني الطهراني: «إذا رُؤي الهلال في بلد كفى في الثبوت في غيره، مع اشتراكهما في الآفاق؛ بحيث إذا رؤي في بلد الرؤية رُؤي فيه. بل الظاهر كفاية الرؤية في بلدٍ ما في الثبوت لغيره من البلاد مطلقاً»([18]).

ولكنّه فيما بعد عمد ـ إثر الإشكالات الكثيرة التي أُثيرت على فتواه من قِبَل المخالفين، والمناظرات التي كانت لهم معه في هذا الشأن، بمَنْ فيهم السيد الحسيني الطهراني؛ إذ جمع هذه المناظرات في كتابٍ تحت عنوان: «رسالة حول رؤية الهلال» ـ عمد إلى التراجع عن فتواه قليلاً، وجعل الاشتراك في الليل ملاكاً لدخول الشهر. ومن هنا فقد غيّّر فتواه هذه على ما هو موجودٌ في منهاج الصالحين: «إذا رُؤي الهلال في بلد كفى في الثبوت في غيره، مع اشتراكهما في الأفق؛ بحيث إذا رُؤي في أحدهما رُؤي في الآخر. بل الظاهر كفاية الرؤية في بلدٍ ما في الثبوت لغيره من البلاد المشتركة معه في الليل، وإنْ كان أول الليل في أحدهما آخره في الآخر»([19]).

إنّ مفهوم كلام السيد الخوئي أنّ الهلال إذا شوهد في لحظة غروب الشمس في منطقة ثبت أوّل الشهر في جميع المناطق التي تحقَّق فيها الليل في لحظة رؤية الهلال. والليل يطلق على المدّة من غروب الشمس إلى طلوعها، وتقدَّر باثنتي عشرة ساعة.

وطبقاً لهذا الرأي حيث شوهد الهلال في لحظة الغروب كانت المساحة التي تبدأ من نقطة الغروب إلى 180 درجة من نصف النهار إلى اليمين، والتي تشغل نصف الكرة الأرضيّة الغارق في ظلام الليل، والتي يكون حدّها الثاني النقطة التي تقترن فيها لحظة غروب موضع الرؤية بلحظة طلوع الفجر فيها، كانت هذه المساحة ذات حكمٍ واحد، وتكون بداية شهر جميع المناطق الواقعة في نصف الكرة الأرضيّة المشمس ساعة حصول الرؤية هي اليوم التالي. ومن هنا تتحقَّق بداية الشهر القمري لجميع الكرة الأرضيّة في ظرف يومين، يومٍ لنصف الكرة الأوّل، ويومٍ لنصف الكرة الآخر.

وفي الحقيقة فإنّه استعمل الليل بمعناه العُرْفي، وقال: إنّ البلاد التي تقع لحظة رؤية الهلال في منطقة ضمن الليل، ولم تخرج منه بعدُ (نصف الكرة الواقعة إلى يمين موضع الرؤية)، حيث يطلق عليها الليل من الناحية العُرْفية والطبيعية، فلا يكون إطلاق عنوان ليلة أوّل الشهر عليها اعتباطيّاً. هذا في حين أنّها لم تشاهد الهلال في لحظة الغروب عندها. ولكنْ في ذلك النصف من الأرض الذي لا يزال واقعاً ضمن النهار (نصف الكرة الواقعة إلى يسار موضع الرؤية) لا يتعلَّق به عنوان الليل من الناحية التكوينيّة في تلك اللحظة. وعليه يجب القول بفصل حكم هذا النصف من الكرة الأرضيّة عن حكم ذلك النصف الآخر منها.

ويَرِدُ على هذه النظريّة عدّة إشكالات:

1ـ إنّ أوّل وأهمّ إشكال يَرِدُ على هذه النظريّة هو الإشكال الوارد على نظرية الاشتراك في الأفق. وهو افتقارها إلى الدعامة الروائيّة. وبعبارة أخرى: كما أنّ الروايات ساكتةٌ عن نظريّة الاشتراك في الأفق فإنّها ساكتةٌ أيضاً عن نظرية الاشتراك في الليل. فلا توجد روايةٌ واحدة ـ ولو ضعيفةٌ ـ تجعل الملاك في التفريق بين بلد وآخر بمعيار اشتراكهما واختلافهما في الليل. كما لا يوجد هناك ما يؤيِّد ذلك البتّة.

2ـ إنّ هذه الفتوى التي أفتى بها السيد الخوئي تتنافى وسائر آرائه والاستدلالات التي أوصلته إلى هذه النتيجة، من قبيل: عدم ارتباط طلوع الهلال بالأرض، أو اتّحاد ليلة القدر، ويوم العيد في جميع العالم. فمثلاً: نجد إيضاحاته في مستند العروة واحداً من الموارد التي تزخر بالتناقضات الواضحة. ومن ذلك: إنّه يقول في ردّ اعتبار وحدة الآفاق: «إنّ الثبوت في قطر كافٍ لجميع الأقطار… وهذا القول هو الصحيح؛ إذ لا نرى أيّ وجه لاعتبار الاتّحاد عدا قياس حدوث الهلال وخروج القمر من تحت الشعاع بأوقات الصلوات، أعني شروق الشمس وغروبها، فكما أنّها تختلف باختلاف الآفاق وتفاوت البلدان، بل منصوصٌ عليه في بعض الأخبار، بقوله×: إنّما عليك مشرقك ومغربك،…إلخ، فكذا الهلال. ولكنّه تخيُّلٌ فاسد، وبمراحل عن الواقع، بل لعلّ خلافه ممّا لا إشكال فيه بين أهل الخبرة.

إذن فتكوُّن الهلال عبارة عن خروجه من تحت الشعاع بمقدارٍ يكون قابلاً للرؤية ولو في الجملة. وهذا كما ترى أمرٌ واقعيّ وجداني، لا يختلف فيه بلدٌ عن بلد، ولا صقعٌ عن صقع؛ لأنّه كما عرفتَ نسبة بين القمر والشمس، لا بينه وبين الأرض، فلا تأثير لاختلاف بقاعها في حدوث هذه الظاهرة الكونيّة في جوّ الفضاء. وعلى هذا فيكون حدوثها بداية لشهر قمريّ لجميع بقاع الأرض على اختلاف مشارقها ومغاربها، وإنْ لم يُرَ الهلال في بعض مناطقها؛ لمانعٍ خارجيّ، من شعاع الشمس، أو حيلولة الجبال، وما أشبه ذلك.

أجل، إنّ هذا إنّما يتَّجه بالإضافة إلى الأقطار المشاركة لمحلّ الرؤية في الليل، ولو في جزءٍ يسير منه، بأنْ تكون ليلة واحدة ليلة لهما، وإنْ كانت أوّل ليلة لأحدهما وآخر ليلة للآخر المنطبق ـ طبعاً ـ على النصف من الكرة الأرضية، دون النصف الآخر الذي تشرق عليه الشمس عندما تغرب عندنا، بداهة أنّ الآن نهار عندهم، فلا معنى للحكم بأنّه أوّل ليلة من الشهر بالنسبة إليهم.

ولعلّه إلى ذلك يشير سبحانه وتعالى في قوله: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ (الرحمن: 17)، باعتبار انقسام الأرض بلحاظ المواجهة مع الشمس وعدمها إلى نصفين، لكلٍّ منهما مشرق ومغرب، فحينما تشرق على أحد النصفين تغرب عن النصف الآخر، وبالعكس. فمَنْ ثمّ كان لها مشرقان ومغربان»([20]).

وقد أشكل الشيخ منتظري على هذا الكلام الذي أفاده السيد الخوئي بأنّه قد خلط بين أصل حدوث حالات القمر ونوع الحالات الحادثة، فقال: «لا إشكال في ما ذكره من عدم مدخليّةٍ للأرض في أصل حدوث الهلال وسائر الحالات، بل هي تحدث وتتكوَّن من كيفيّة نسبة القمر إلى الشمس، بلحاظ موضع الناظر، من دون ملاحظة الكرة الأرضيّة أصلاً، بحيث لو فرضنا خلوّ الفضاء عن الأرض رأساً لكان القمر متشكِّلاً بأشكاله المختلفة من الهلال والتربيع الأوّل والبدر ونحوها لمَنْ كان ناظراً إليه من موضع من الفضاء.

ولكنْ في كلامه& خلطٌ ظاهر بين أصل حدوث الحالات وبين نوع الحالات الحادثة؛ ففي الأول لا مدخليّة للأرض بعنوان محلّ الناظر، بل الأمر كذلك ولو كان الناظر في الفضاء؛ وأما في الثاني فلا يصحّ ما قاله، بل لأمكنة الرؤية مدخليّة تامّة في تغيُّر الحالات قطعاً، وإنّ عروض تلكم الحالات تتغيَّر بتغيُّر موضع الرؤية، وتغيُّر زاوية نظر الناظر إليه، من حادّة أو قائمة أو غيرهما»([21]).

وعلى الرغم من الدقّة الملحوظة التي بذلها الشيخ منتظري في هذا المجال، إلاّ أنّ كلامه لا يخلو من إشكال هو الآخر أيضاً، والدليل على ذلك ما ذكره بنفسه قبل صفحتين من ذلك؛ إذ قال: «إنّ القمر كرةٌ صغيرة تابعةٌ للأرض»([22]).

وعلى هذا الأساس إذا أردنا أن نتصوَّر الفضاء خالياً من الأرض لزم من ذلك أن نتصوّّره خالياً من القمر أيضاً؛ لأن حركات القمر وحالاته إنّما تنشأ من جاذبية الأرض، وهو ما عبَّر عنه الشيخ منتظري نفسه بقوله: «القمر مجذوبٌ بجاذبة الأرض، مثل جذب ذرّة حديد بآلة مغناطيسيّة، يدور معها حيثما دارت»([23]).

وعليه إذا لم تكن الأرض موجودة في الفضاء فإنّ القمر بدوره سيخرج عن جاذبيّتها وسلطانها، وسيتَّخذ لنفسه مداراً آخر، ولن تحصل له تلك الحالات من الشمس. من هنا لا معنى للحديث عن حالات الهلال والتربيع وما إلى ذلك من دون افتراض وجود الأرض. وأمّا إذا كان المراد أنّه حتى مع وجود الأرض فإنّ هذه الحالات قابلة للرؤية لمَنْ ينظر من الأرض، وكذلك لمَنْ ينظر من خارجها، مع ذلك لا يثبت الادّعاء الذي أفاده السيد الخوئي حيث قال: لا مدخليّة للأرض في حدوث الهلال؛ لأن الأرض هي التي تشدّ القمر إلى مدارها، وعليه تكون لها مدخليّة في حدوث الهلال حتّى لمَنْ يشاهده من خارجها. وعليه ثبت في كلتا الصورتين أنّ الأرض ليس لها مدخليّة في نوع حالات الهلال فحَسْب، بل ولها مدخليّة في أصل حدوث الهلال أيضاً.

أمّا الإشكال الآخر الذي يَرِدُ على استدلال السيد الخوئي فهو أنّ بحثنا في مسألة الهلال لا يدخل في علم الهيئة والرياضيات، بل هو مجرّد بحث فقهي وشرعي؛ وذلك من حيث إنّ الله جعله وسيلةً لتحديد وقت وموضوع الأحكام الشرعية، من قبيل: الحجّ والصوم وغيرهما. ولذلك نجد أنّ الشارع رغم معرفته بتقدُّم المعرفة، وقدرة الإنسان على معرفة ولادة الهلال الحقيقيّة في عصرنا بدقّة، مع ذلك جعل الرؤية العُرْفية هي المناط في إثبات بداية الشهر، دون لحظة الولادة الحقيقيّة. إلاّ أنّه مع ذلك لم يقيِّد هذه الرؤية العُرْفية بمرحلة عجز الإنسان عن المعرفة الدقيقة، ولو بالوسائل الحديثة، وإنّما أطلق القول في ذلك، وجعله سارياً في جميع الحالات. من هنا عندما يكون لأصل الرؤية تعريفٌ فقهيّ خاصّ يجب أن تستخرج فروعات أحكامها من النصوص الفقهيّة أيضاً، وليس من القوانين الفيزيائيّة والتكوينيّة لنظام الخلق، وإنْ كان بالإمكان الاستناد إلى هذه القوانين الفيزيائيّة في مقام التأييد والاستشهاد فقط.

أمّا الإشكال الثالث والأهمّ الذي يَرِدُ على كلام السيد الخوئي فهو التناقض الملحوظ بين صدره وعجزه. وقد شرح الشيخ منتظري هذا الإشكال بوضوحٍ، حيث قال: «لو لم تكن مدخليّة للأرض في كيفيّة تلك الأحوال، كالبدر والهلال ونحوهما، فلِمَ اقتصر& على الأقطار المشاركة لمحلّ الرؤية في الليل، ولو في جزء يسيرٍ منه، بأنْ تكون ليلة واحدة لهما، وإنْ كانت أوّل ليلة لأحدهما وآخر ليلة للآخر، المنطبقة على النصف من الكرة الأرضيّة، مع أنّ لازم كلامه أن يكون حدوث الهلال وتكوُّنه بداية شهر قمريّ لجميع بقاع الأرض على اختلاف مغاربها ومشارقها، حتّى النصف الآخر من الكرة.

وعلى هذا فإذا كان التشارك في النصف لازماً علم دخالة أفق الأرض طلوعاً وغروباً في ذلك. ولا يندفع هذا النقض بما أجاب& به من الآيات الواردة في بيان تعدُّد المغارب والمشارق؛ إذ في هذا أيضاً قياس حدوث الهلال بشروق الشمس وغروبها، وقد ذكر& في بدء كلامه أنّ هذا القياس تخيُّل فاسد»([24]).

كما يَرِدُ نفس هذا التناقض على ادّعاء السيد الخوئي القائل بوحدة ليلة القدر، وعيد الفطر أيضاً. حيث يقول سماحته: إنّ ليلة القدر ليلة واحدة لجميع سكّان الكرة الأرضية، وهي الليلة التي تكتب فيها الأرزاق والبلايا والمنايا. كما جاء في دعاء يوم العيد: «أسألك بحقّ هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيداً». فالنتيجة أنّ ليلة القدر ليلة واحدة لأهل الأرض جميعاً، لا أنّ لكلّ بقعة ليلةً خاصّة([25]).

هذا في حين أنّه يصرّح في بيانه المتقدِّم بأنّه يستحيل أن يكون لجميع الكرة الأرضيّة يومٌ أو ليلة واحدة في وقتٍ واحد. بل إنّ يوم نصف الكرة الأرضيّة يلازم على الدوام ليلة النصف الآخر منها، وعليه كيف يمكن أن يُقال للنصف الذي يغرق في ظلام الليل أنّه يعيش يوم العيد؛ لأن هذا اليوم قد استعمل بصيغة المفرد؟! وأيضاً كيف يقال للنصف الذي يواجه قرص الشمس أنّه يشهد ليلة القدر؟! إذن بناءً على قوله الأخير يكون تعدُّد ليلة القدر ويوم العيد ثابتاً تلقائيّاً، وهذا يخالف رأيه، ومن هنا ينشأ التناقض.

وللأسف الشديد لا نجد توجيهاً لهذا النوع من التناقض في كلمات السيد الخوئي. ولذلك فإنّ هذا يعرِّض أصل نظريّته للتساؤل. وعليه فإنّ نظريّة الاشتراك في الليل تسقط عن الاعتبار، كما هو الحال بالنسبة إلى نظريّة الاشتراك في الأفق.

 

3ـ نظريّة الاشتراك في الأرض

أمّا النظرية الثالثة والأخيرة المطروحة في هذا الباب فهي نظرية الاشتراك في الأرض. إنّ مؤسِّس هذه النظرية على ما يبدو هو السيد محمد سعيد الحكيم، وهو من الفقهاء المعاصرين، وهو لا يزال على قيد الحياة. فقد أفتى في رسالة (منهاج الصالحين): «المسألة 99: وجود الهلال في بلدٍ يوجب دخول الشهر فيه، وفي جميع البلدان الغربيّة بالإضافة إليه، بل وكذا في البلاد الشرقية بالإضافة إليه، إذا كان البلد الذي ظهر فيه الهلال من بلدان العالم القديم ـ وهو القارّات الثلاث: آسيا، وأفريقيا، وأوروبا ـ دون بلاد الأمريكيّتين ـ؛ فإنّ ظهور الهلال فيها لا يوجب ثبوت الشهر في البلاد الشرقيّة بالإضافة إليها»([26]).

ويَرِدُ على الجملة الأولى من فتواه إشكالان:

الأوّل: إنّه جعل وجود الهلال هو المناط في دخول الشهر، في حين أنّ الروايات تجعل الرؤية على نحو الموضوعيّة هي المناط.

الثاني: إنّه يرى كفاية دخول الشهر في نقطةٍ لثبوته في جميع المناطق الغربيّة، في حين أنّ قوسيّة خطوط الرؤية لا تبيح مثل هذا التصوُّر.

إلاّ أنّ بحثنا الراهن لا يدور حول الجزء الأوّل من فتواه، وإنّما يدور حول الجزء الثاني منها، حيث عمد إلى التعريف بملاك ثبوت الهلال في البلاد المتباعدة.

وطبقاً لرأي السيد الحكيم إذا شوهد الهلال في نقطة من القارّة الآسيوية أو الأوروبية أو الأفريقية ـ وهي القارّات التي كانت تشكِّل في الأزمنة القديمة، أو بعبارة أخرى: في عصر صدور روايات باب الرؤية، جميع المناطق المسكونة من الأرض ـ فإنّ هذه الرؤية ستكفي في ثبوت الهلال بالنسبة إلى جميع هذه القارّات الثلاث، إلاّ أنّها لا تكون كافيةً بالنسبة إلى أمريكا الشماليّة وأمريكا الجنوبيّة. وهكذا إذا شوهد الهلال في نقطةٍ من هاتين القارّتين (أمريكا الشماليّة والجنوبية) كان ذلك كافياً لثبوت بداية الشهر في كلتا القارتين، ولكنّه لا يكون كافياً لثبوت بداية الشهر في القارّة الآسيوية والأوروبية والأفريقية، بمعنى أنّ للقارّة الأوروبية والآسيوية والأفريقية حكماً واحداً، وإنّ للقارّتين الأمريكيّتين الشمالية والجنوبية حكماً واحداً في الجملة.

والسؤال الذي يَرِدُ هنا: ما هو مناط هذا الحكم؟

لو أنّنا أمعنّا النظر في روايات باب الرؤية فسوف لا نجد ذكراً للاشتراك في الأفق، ولا الاشتراك في الليل، بين البلاد التي كانت في زمن صدور هذه الأخبار والروايات مصداقاً لـ «أهل بلدٍ آخر» أو «أهل الأمصار» أو «أرض أخرى» وأمثال هذه العبارات. فمثلاً: إنّ الراوي ينقل إلى الإمام× خبر الرؤية في أفريقيا والأندلس، وكان الإمام حينها يسكن في المدينة المنوَّرة، وسأله كيف يكون الحكم؟ فلم ينهَهُ الإمام× عن العمل على طبق رؤيته، وإنّما أكَّد على حصول الاطمئنان من تلك الرؤية. إنّ بين الأندلس والمدينة المنوَّرة لا يوجد اشتراك في الأفق، أو تقارب، أو ما إلى ذلك. وأمّا الاشتراك في الليل فإنّه يتحقَّق أحياناً، ولا يتحقَّق في أحيانٍ أخرى. إلاّ أنّه يوجد هناك اشتراكٌ بين هاتين الحاضرتين البعيدتين عن بعضهما بمسافةٍ شاسعة جدّاً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جميع المدن الأخرى التي كان الخبر أو البيِّنة تصل منها إلى الإمام المعصوم×، وكانت الروايات الصادرة عن الإمام تشتمل على تعابير من قبيل: «أهل بلد آخر» وما إلى ذلك، ألا وهو «الاتّصال والاشتراك الأرضي».

إنّ النقطة الجوهريّة والرئيسة في هذه النظريّة، والتي تعتبر في الحقيقة الفارق الرئيس لهذه النظريّة، والذي يميِّزها من النظريّتين السابقتين ـ أعني الاشتراك في الأفق، والاشتراك في الليل ـ أيضاً، هو أنّ هذه النظريّة تجعل الفارق والمعيار لتفصيل البلاد في إثبات الحكم كامناً في الأرض، وليس في السماء. ومن هذه الناحية فإنّ هذه النظرية ـ خلافاً للملاكين السابقين، أي الاشتراك في الأفق، والاشتراك في الليل ـ لا يوجد ما يعارضها، بل هناك ما يؤيِّدها أيضاً. والمؤيِّد هنا هو هذه التعبيرات الخاصّة، من قبيل: «أهل بلد آخر»، و«أرض أخرى»، و«أهل الأمصار»، وما إلى ذلك. وكلّها ناظرة إلى «الأرض»، دون السماء. وإذا كان البناء على القول بالتساوي والاتّحاد في إثبات دخول الشهر بين البلاد فيجب أن يقوم أساسه على الأرض؛ لينسجم مع سياق الروايات، وليس على الأفق أو الليل من الأمور السماوية والأجنبيّة عن السياق. وبالإضافة إلى ذلك هناك مؤيِّدات روائيّة وعلميّة أخرى لهذه النظريّة أيضاً، وسوف نتعرّض لها في ختام هذا المقال إنْ شاء الله.

وعليه فبالنظر إلى كرويّة الأرض، وحالات الليل والنهار، وإطلاق الروايات، وما فيها من التعبيرات الخاصّة، وجغرافيا العالم الإسلامي في عصر صدور الروايات، يمكن لنا أن نتوصَّل بشكلٍ عامّ إلى نتيجة مفادها أنّ إطلاق الروايات لا يشمل أكثر من البلاد المعمورة في ذلك الزمان، وهي عبارةٌ عن القارّات الثلاث: آسيا وأوروبا وأفريقيا فقط.

وقد أفاد السيد محمد سعيد الحكيم هذه المسألة على النحو التالي: «ثمّ إنّه حيث كان الظاهر اتّحاد حكم البلاد مع اختلاف آفاقها، تبعاً للنصوص المذكورة، فالمتعيِّن الاقتصار على رقعة الأرض المكتَشَفة حين صدور تلك النصوص، وهي التي تبدأ بالشرق الأقصى من بلاد الصين وما حاذاها ممّا يقارب بعض أمصار المسلمين، وتنتهي غرباً بالمحيط الأطلسي المحاذي لبعض أمصار المسلمين حينئذٍ في غرب أفريقيا والأندلس.

أما ما اكتُشف بعد ذلك، من بلاد أمريكا ونيوزيلندا، فهو خارج عن مفاد النصوص المتقدِّمة. وأمّا إلحاق أمريكا في تاريخ اليوم بشرق المحيط الأطلسي حتّى صارت أقصى غرب الأرض، وعدم بدء تاريخ اليوم بها لتكون أقصى شرقها، فهو محض اصطلاح عالميّ متأخِّر عن اكتشاف البلاد المذكورة، لا مجال لاستفادة إمضائه من نصوص المقام، بل مقتضى القاعدة المتقدِّمة عدم إلحاق بلاد شرق المحيط الأطلسي به لو بدأ ظهور الهلال من المحيط المذكور فما دونه، فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم»([27]).

إنّ مراد السيد الحكيم من «رقعة الأرض المكتَشَفة» هي القارّات الثلاث وتوابعها العُرْفية (دون الاعتباريّة). وأمّا الإشارة التي أفادها إلى التاريخ والتقويم فتعود إلى مسألة خطّ الزمان. فهو يقول: إنّ تحديد المبدأ المكاني وتاريخ اليوم بلحاظ التقويم، وفي أيّ ناحية يتقدّم اليوم أو يتأخَّر، من المسائل الاعتبارية التي يتعاقد عليها البشر، وهي مسألة يتمّ التوافق عليها عالميّاً، ولا تتوقَّف على إمضاء الشارع لها. وعليه فإذا قلنا: إنّ التاريخ القمري للقارّة الأمريكية يختلف عن القارّات الثلاث بيومٍ واحد، لا يُشْكلنَّ علينا أحدٌ بأنّ التاريخ المتَّفق عليه في هاتين المنطقتين شمسيّ أو ميلاديّ، وهو واحدٌ، وعليه يكون ملاكنا موضع إشكال؛ وذلك لأنّ هذه المسألة تابعةٌ لموقع خطّ الزمان، وهو الخطّ الذي لا مناص من وجوده على الأرض؛ بسبب كرويّتها، إلاّ أن الشارع لم يبادر إلى تحديده. وحالياً قد تمّ التعاقد على وضعه بين آسيا وأمريكا حيث يمتدّ عبر المحيط الهادئ. الأمر الذي تسبَّب بتغيير التاريخ يوماً واحداً عند السفر من شرق آسيا إلى غرب أمريكا عبر المحيط الهادئ، وليس عند السفر من غرب أفريقيا إلى شرق أمريكا عبر المحيط الأطلسي. في حين لو أنّهم تواضعوا على رسم هذا الخط بين القارّة الأفريقيّة وأمريكا عبر المحيط الأطلسي لاختلف الأمر تماماً. إذن ليس الملاك في التقويم الاعتباري، وإنّما التقويم يتمّ تعريفه من قبل الشارع.

وأما بلحاظ حالات الليل والنهار فلا يوجد لهذه النظرية مانعٌ تكويني أيضاً؛ لأن القارّات الثلاث تقع بأجمعها في نصفٍ من الكرة الأرضيّة، بينما تقع القارّة الأمريكية في نصفها الآخر. وعليه فإنّ دخول الشهر القمري يتمّ عبر يومين، وهذا هو مطلوبنا. خلافاً لنظريّة الاشتراك في الأفق التي قد يستغرق دخول القمر على كلّ الأرض ـ طبقاً لها ـ ثلاثة أيام.

وأمّا في ما يتعلَّق بتطبيق مسألة خطّ الزمان على هذه النظريّات الثلاث فهناك آراءٌ ملفتة للانتباه أيضاً، وهي تنتهي أيضاً إلى تأييد ودعم نظريّة الاشتراك في الأرض، وتردّ النظريّتين الأخريين.

كما قد أثبتنا في هامش نظريّة الاشتراك في الأفق ـ من خلال ذكر دليلٍ قرآني ـ أنّ الهدف الرئيس للشارع من وراء تقديره منازل القمر هو أن نعلم عدد السنين والأيام والأشهر والحساب؛ إذ يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ (يونس: 5). وعليه فإنّ مثل هذا الشارع لا يجعل أحكام الشريعة بشكلٍ لا ينسجم مع النظام التكويني للأمور. بل نذهب إلى أكثر من ذلك، ونقول: إنّ الشارع قبل أن يكون شارعاً هو خالقٌ ومكوِّنٌ للوجود، وقد خلق نظام التكوين ليجعله ظرفاً لنظامه التشريعي. وعليه كيف يمكن لمَنْ قام بكلّ هذا الإعجاز الدقيق في نظام عالم التكوين، وحركة الشمس والقمر والكواكب في مداراتها ـ بحيث لا يوجد هناك عالمٌ فلكي على وجه البسيطة إلاّ ويبقى فاغراً فاه لهذه الدقّة اللامتناهية ـ، وإذا به فجأة يُصدِر في عالم التشريع حكماً لا يرتبط بالنظم الذي يحكم عالم التكوين بأيِّ صلة؟! وبالنظر إلى هذه الأمور يمكن لنا تحديد ما هو الأقرب إلى الإتقان من بين هذه النظريّات الثلاث المذكورة، أعني: الاشتراك في الأفق، والاشتراك في الليل، والاشتراك في الأرض.

إنّ وجود ظاهرة خطّ الزمان من بين تلك الظواهر التكوينية الناتجة عن كرويّة الأرض. بيد أنّ الشارع لم يعيِّن لها موضعاً محدَّداً. من هنا عمد أفراد البشر إلى التواضع على انتخاب موضع محدَّدٍ لخطّ الزمان من قبلهم؛ ليكون ثابتاً أوّلاً؛ ولكي لا يخلّ بنظم أمورهم المعاشية ثانياً.

وهنا لا نروم القول بأنّ الشارع يُمضي ما قام به الإنسان من التواضع والاتفاق على اعتبار الموضع الراهن هو خطّ الزمان، إلاّ أنّ كونه ثابتاً من اللوازم المترتِّبة على ذلك النَّظْم المنظور للشارع باللحاظ التقويمي الذي أشار له الباري تعالى في عدّة مواطن من القرآن الكريم. وعليه فإذا عرَّفنا ملاك تساوي الحكم بين البلاد في دخول الشهر بحيث يؤدّي ذلك إلى تزحزح خطّ الزمان عن موضعه، أو تغيير تاريخ ذلك الخطّ من شهر إلى شهر، فإنّ هذا سيكون منافياً لغرض الشارع.

وفي ما يلي سنعمل على تطبيق هذه المسألة على كلّ واحدةٍ من هذه النظريّات الثلاث، لنرى كيف ستكون النتيجة:

أمّا نظريّة الاشتراك في الأفق فمعلومٌ أمرها تجاه هذه المسألة؛ فإنّها لا تغيِّر موضع خطّ الزمان من شهر إلى شهرٍ فحَسْب، بل إنّها تؤدّي أحياناً إلى افتراض خطّين زمنيين على الكرة الأرضيّة، وهو الذي يعني الموارد التي يدخل فيها القمر على جميع الأرض في ظرف يومين، وهو أمرٌ لا يمكن قبوله بحالٍ من الأحوال.

وأمّا نظريّة الاشتراك في الليل فهي وإنْ كانت مقبولةً من ناحية أنّها تعرّف خطاً زمنياً دائماً. ولكنْ حيث إنّ أوّل موضع لرؤية الهلال ليس موضعاً ثابتاً في جميع الأشهر، وإنّ نصف الكرة المظلم يتوقَّف على موضع الرؤية، لذلك فإنّه سوف يتغيّر من شهرٍ إلى شهر. فمثلاً: نجده تارةً يشمل القارّات الثلاث مجتمعة؛ وتارةً يشمل القارتين الآسيوية والأمريكية، دون القارة الأفريقية؛ وتارة يشمل القارة الأفريقية والأمريكية، دون القارّة الآسيوية؛ وتارة يشمل جزءاً من القارّات الثلاث وجزءاً من القارّة الأمريكية، دون جزئيهما الآخرين. وباختصار: سيكون الأمر متغيِّراً من حين إلى حين. وبالتالي فإنّ موضع الخطّ سيتغيَّر تبعاً لذلك من شهرٍ إلى آخر، وتنشأ تلك المشاكل التقويميّة المخلّة بالحسابات الزمانية.

وأمّا طبقاً لنظريّة الاشتراك في الأرض فيمكن لنا أن نفترض للكرة الأرضيّة خطّاً زمنياً على موضع جغرافي ثابت؛ وذلك لأن هذه النظرية تجعل جميع القارات الثلاث القديمة ذات حكمٍ واحد ثابت على الدوام، كما تجعل لتينك القارّتين الجديدتين حكماً واحداً آخر على نفس الوتيرة. وعليه فسواءٌ افترضنا وجود ذلك الخطّ الزمني فوق المحيط الهادئ أو فوق المحيط الأطلسي لن تكون هناك من حاجة إلى تغيير موضع ذلك الخطّ من شهرٍ إلى شهر، ولن تعرض أيّ مشكلة تقويميّة من جرّاء ذلك أيضاً.

إذن لو بقينا نحن ومسألة خطّ الزمان فإنّ ما ذكرناه يعزِّز ويدعم القول بنظريّة الاشتراك في الأرض. ونحن لا ندَّعي أنّ هذا الكلام يشكِّل دليلاً على إثبات هذه النظريّة فقهياً؛ إذ إنّ النظرية الفقهية إنّما يجب إثباتها بالدليل الفقهي، ولكنّ الذي نريد قوله هو أنّ وجود المؤيِّدات الخارجية يمكنه أن يكون دليلاً على صحّة وتقوية الرأي الفقهي.

ومن الجدير بالذكر أنّ هناك فقيهاً معاصراً آخر ـ غير السيد محمد سعيد الحكيم ـ لا يزال على قيد الحياة، وهو الميرزا محمد العلامي الهشترودي، قد أصدر فتوى شبيهةً بهذه الفتوى، وهي موجودةٌ في كتاب استفتاءاته الذي نشره باللغة الفارسية. وهذا نصّ ترجمة تلك الفتوى: «سؤال 64: لو شوهد الهلال في منطقةٍ فهل يكفي ذلك في ثبوت الشهر بالنسبة إلى سائر المناطق الأخرى أم لا؟

الجواب: لو شوهد الهلال في منطقة كفى ذلك في ثبوت حلول الشهر بالنسبة إلى جميع المناطق الواقعة إلى جهة الغرب من منطقة الرؤية، وأمّا بالنسبة إلى المناطق الواقعة إلى الشرق منها فإنّما تكون رؤية الهلال حجّة على المناطق الداخلة ضمن القارّات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا (التي تشترك مع منطقة رؤية الهلال في الليل)، ولا تكون رؤية الهلال في تلك المنطقة حجّة على القارّة الأمريكية وأستراليا. وإذا شوهد الهلال في القارّتين الأمريكيّتين وأستراليا كان ذلك حجّةً على جميع المناطق في تلك القارّات، ولا يكون حجّة بالنسبة إلى القارّات الثلاث الأخرى»([28]).

إنّ عبارة (التي تشترك مع منطقة رؤية الهلال في الليل) الواردة في فتوى الهشترودي ليست قيداً احترازيّاً، حتى يكون لها مدخليّة في الحكم، وليس مراده من الاشتراك في الليل هو المعنى الذي ذهب إليه السيد الخوئي. فليس المعنى أنّ الرؤية تثبت فقط في المنطقة التي هي جزء من القارّات الثلاث، بشرط أن تكون في لحظة رؤية الهلال مشتركة في الليل مع منطقة الرؤية؛ إذ لو كان هذا هو مراده لما كانت هناك من حاجة إلى تسمية القارّات الثلاث. وعليه فهو قيد توضيحي، والمراد منه أنّ هذه القارّات الثلاث يمكن أن تشترك في ليلةٍ واحدة. وبعبارة أوضح: أنْ تكون في نصف كرةٍ واحدة، ولا تحتوي على المحذورات التكوينيّة المترتِّبة على القول بكفاية نقطة واحدة بالنسبة إلى سائر بلدان الكرة الأرضيّة.

وإنّ الفقهاء الذين أشاروا إلى منع اختلاف مطالع القمر في الربع المسكون والبلاد المعمورة آنذاك، من أمثال: صاحب الجواهر([29])، والعلاّمة الحلي([30])، ربما عمدوا إلى تأييد القول بالاشتراك في الأرض، دون قصدٍ منهم إلى ذلك. فمثلاً: جاء في تقرير درس السيد محمد محقِّق الداماد قوله: «ليس الاختلاف بين المتباعدة من البلدان المعمورة ما يوجب الاختلاف الشديد، بل لا يوجب ظاهراً التفاوت بيومٍ»([31]).

من هنا وبالنظر إلى مجموع ما ذُكر يمكن الإقرار بقوّة نظريّة الاشتراك في الأرض، في مقابل النظريّتين الأخريين، والله العالم.

 

الشواهد والقرائن الروائيّة على اتّحاد القارّات الثلاث

إنّ من الشواهد والقرائن الروائيّة القويّة الداعمة للنظريّة المختارة الروايةَ التي تشير إلى اتّحاد مدينة كربلاء ومنطقة جبل عرفات في التقويم، وهي:

رُوي عن الإمام الصادق× أنّه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى يبدأ بالنظر إلى زوّار قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب× عشيّة عرفة، قيل له: قبل نظره إلى أهل الموقف؟ قال: نعم»([32]).

إنّ لبعض المحقِّقين الفقهاء تعليقٌ جديرٌ بالالتفات، ذكره في هامش هذه الرواية؛ إذ يقول: «طبقاً لهذه الرواية فإنّ الله تبارك وتعالى في ليلة عرفة ينظر إلى زوّار مرقد الإمام الحسين بن عليّ× قبل أن ينظر إلى حجّاج بيته الحرام. وإنّ التعبير بـ «قبل»، والقيام بهذه المقارنة بين هاتين الطائفتين، يناسب أن تكون هاتين الطائفتين تعيشان ذات المناسبة (يوم عرفة) في وقتٍ واحد، ومع ذلك يتمّ الابتداء بالنظر إلى إحداهما، ليصار بعد ذلك إلى النظر إلى الأخرى. وإلاّ فمع الاختلاف في التاريخ لا يبقى هناك معنى لمثل هذه المقارنة والترجيح. فلو افترضنا مثلاً أنّ اليوم كان هو يوم عرفة في مدينة كربلاء، وكانت منطقة جبل عرفات قد شهدت عرفة في اليوم السابق، فكيف يمكن القول بأنّ الله قد نظر إلى أهل كربلاء قبل أن ينظر إلى أهل عرفات؟ خاصّة إذا التفتنا إلى أنّ جبل عرفات يقع إلى الجنوب الغربي من مدينة كربلاء، وعليه طبقاً للكثير من الفتاوى، سواءٌ على رأي القائلين بنظريّة الاشتراك في الأفق أم القائلين بنظرية الاشتراك في الليل، يمكن أن يكون اليوم في جبل عرفات هو اليوم العاشر من ذي الحجّة، وفي مدينة كربلاء يكون هو اليوم التاسع من ذي الحجّة، وهكذا…

ربما أمكن لنا الاستفادة من هذه الرواية ومثيلاتها أنّ يوم عرفة في أفق جبل عرفات لا يختلف عنه في أفق مدينة كربلاء أبداً، فإذا كان يوم عرفة ثابتاً في منطقة جبل عرفات ثبت أيضاً في مدينة كربلاء، وإذا لم يثبت هناك لم يثبت هنا أيضاً. ولا يمكن أن يثبت يوم عرفة في جبل عرفات بينما تشهد مدينة كربلاء أجواء عيد الأضحى.

وفي هذه الصورة ـ مع إلغاء الخصوصيّة عن يوم عرفة وشهر ذي الحجّة ـ يمكن تعميم الأمر على جميع الشهور، وبذلك نصل إلى قوّة تلك النظريّة التي تعتبر بداية الشهر القمري لجميع القارّات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأوروبا) في يومٍ واحد([33]).

وفي الختام يجدر بنا التنويه إلى أنّ ما جاء في هذا المقال التحقيقيّ لا يعني بلوغ الغاية، وأنّه فصل الخطاب، بل حيث إنّه يعتبر من هذه الناحية عملاً جديداً وغير مسبوق في حقل البحوث الفقهية فهو لا يزال بحاجةٍ إلى مزيد من التحقيق والتتبُّع، وخاصة في مجال العثور على مزيد من الشواهد والقرائن الروائيّة في تأييد وتعزيز هذه النظريّة، ويجب القيام بمزيد من البحث والتنقيب العميق في الروايات؛ ليعطي هذا التحقيق العلمي أُكُلَه وثماره بحول الله وقوّته، وأن ينتفع به جميع المسلمين في كافّة أقطار العالم، إنْ شاء الله.

 

خلاصة واستنتاج

1ـ إنّ منطوق الروايات الواردة في باب رؤية الهلال يؤيِّد كفاية الرؤية في نقطة من الأرض بالنسبة إلى سائر نقاط الأرض الأخرى؛ وذلك لوجود الإطلاق اللفظي في ما يتعلَّق بمكان شهادة البيِّنة على رؤية الهلال.

2ـ إنّ الإطلاق اللفظي في الروايات لا يمكن تسريته إلى جميع الكرة الأرضيّة؛ وذلك لأنّ كرويّة الأرض تمنعنا من التمسُّك بهذا الإطلاق، فلا يمكن لجميع الكرة الأرضية أن يكون لها يومٌ واحد أو ليلةٌ واحدة في وقتٍ واحد. ومن هنا لا يكون لهذه الروايات إطلاقٌ مقامي بالنسبة إلى الشهادة على الرؤية. وعليه لا مندوحة لنا؛ طبقاً للدلالة الاقتضائية في الروايات، من تقسيم مناطق الأرض بشكلٍ مناسب، والقول بالتقدُّم والتأخُّر فيما بينها من حيث دخول الشهر، وإثبات الحكم.

3ـ ذكر الفقهاء في كتبهم الفقهية الكثير من الضوابط والملاكات لتقسيم البلاد. وبالإمكان بعد التغاضي عن بعض الفوارق الطفيفة اختزالها في ثلاثة ضوابط عامّة، وهي: الاشتراك في الأفق، والاشتراك في الليل، والاشتراك في الأرض.

4ـ إنّ نظرية الاشتراك في الأفق هي النظريّة المشهورة بين الفقهاء. وطبقاً لهذه النظرية لو شوهد الهلال في منطقةٍ كفى ذلك في إثبات حلول الشهر بالنسبة إلى المناطق المشتركة مع منطقة الرؤية في الأفق، أو المحاذية لها، ولا يكفي ذلك بالنسبة إلى المناطق البعيدة عن منطقة الرؤية، والتي تختلف معها في الأفق.

بيد أنّ هذه النظرية تواجه الكثير من المشاكل، ومن أهمّها: عدم استنادها إلى دعامة روائيّة، وعدم دقّتها في تحديد القرب والبعد. ومن هنا لا يمكن الأخذ بها.

5ـ وأمّا نظرية الاشتراك في الليل فإنّ أوّل مَنْ صدع بها هو السيد الخوئي. وطبقاً لهذه النظرية فإنّ رؤية الهلال في منطقة تكفي لإثبات دخول الشهر بالنسبة إلى جميع المناطق المشاركة لمنطقة الرؤية ولو في جزءٍ من الليل، حتّى لو اقترن أوّل الليل في منطقة مع آخر الليل في منطقةٍ أخرى.

وهذه النظريّة تفتقر إلى الدعامة الروائيّة أيضاً، فليس هناك دليلٌ من الروايات عليها. وبالإضافة إلى ذلك هناك الكثير من التناقضات الواضحة في المسار الاستدلالي الذي أفاده السيد الخوئي لإثبات هذه النظريّة، وهي أمور تعرِّض أصل النظريّة إلى التساؤل والتشكيك. وعليه لا يمكن التمسُّك بهذه النظرية أيضاً.

6ـ وأمّا نظرية الاشتراك في الأرض فقد طُرحت أوّل الأمر من قبل السيد محمد سعيد الحكيم ـ الفقيه المعاصر، الذي لا يزال على قيد الحياة ـ. وطبقاً لهذه النظرية إذا كانت المنطقة التي شوهد الهلال فيها جزءاً من العالم القديم، وهو عبارة عن القارّات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأوروبا) كان ذلك كافياً في ثبوت دخول الشهر لجميع هذه القارّات الثلاث، دون العالم الجديد، المؤلَّف من القارّتين الأمريكيّتين الجنوبية والشمالية. كما أنّ رؤية الهلال في منطقة من الأمريكيتين يكفي في ثبوت الشهر في جميع أرجاء تينك القارّتين، دون القارّات الثلاث الأخرى.

إنّ هذه النظرية، ومن خلال تعابير من قبيل: «أهل بلدٍ آخر»، أو «أهل الأمصار»، أو «أرض أخرى»، تجعل الملاك في التفصيل بين البلدان في إثبات الحكم ـ خلافاً للنظريّتين السابقتين ـ في عامل أرضيّ، لا في عامل سماويّ، كما هو الحال بالنسبة إلى نظريّة الاشتراك في الأفق أو نظرية الاشتراك في الليل، والدليل الأهمّ على مقبوليتها هو امتلاكها للدعامة الروائيّة.

7ـ هناك مؤيِّدات روائيّة أخرى للنظريّة المختارة، أعني اتّحاد القارات الثلاث في إثبات بداية الشهر القمري، خلافاً لسائر الضوابط والملاكات في تقسيم الآفاق. ومن أوضح تلك الروايات وأبسطها تلك الرواية التي تتحدث عن المقارنة والمفاضلة بين زوّار الإمام الحسين في كربلاء والحاضرين في جبل عرفات في يوم عرفة، فهي تضاعف من قوّة وإتقان هذه النظرية في مقابل النظريّتين الأخريين. وهناك مؤيِّدات أخرى أيضاً، ولكنّها تحتاج إلى تفصيلٍ أكبر، وعليه لا يتَّسع المجال إلى ذكرها في هذا المقال المختصر.

الهوامش:

(*) طالبةٌ في مرحلة الماجستير في جامعة طهران.

(**) أستاذٌ مساعد في جامعة طهران.

([1]) انظر: اليزدي، العروة الوثقى 2: 225؛ منتظري، التعليقة على العروة الوثقى: 418.

([2]) انظر: مستمسك العروة الوثقى 8: 470.

([3]) انظر: السيستاني، منهاج الصالحين 1: 336.

([4]) المبسوط 1: 268.

([5]) الوسيلة: 141.

([6]) شرائع الإسلام 1: 181.

([7]) تذكرة الفقهاء 6: 122.

([8]) الدروس 1: 284 ـ 285.

([9]) مسالك الأفهام 2: 52.

([10]) مدارك الأحكام 6: 171.

([11]) تذكرة الفقهاء 6: 122.

([12]) مهذَّب الأحكام 10: 273.

([13]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 10: 254، ح13346.

([14]) المصدر السابق، ح13347.

([15]) المصدر السابق: 264 ـ 265، ح13381.

([16]) المصدر السابق: 292 ـ 293، ح13447.

([17]) المصدر السابق: 297، ح13459.

([18]) رسالة حول مسألة رؤية الهلال: 7.

([19]) منهاج الصالحين 1: 278.

([20]) المستند في شرح العروة الوثقى 2: 116 ـ 119.

([21]) الأفق أو الآفاق: 36.

([22]) انظر: المصدر السابق: 34.

([23]) المصدر نفسه.

([24]) المصدر السابق: 38.

([25]) انظر: الخوئي، منهاج الصالحين 1: 283 ـ 284.

([26]) محمد سعيد الحكيم، منهاج الصالحين 1: 346 ـ 347.

([27]) مصباح المنهاج، كتاب الصوم: 324 ـ 325.

([28]) مجمع الاستفتاءات الجديدة والمسائل المستحدثة: 22 ـ 23.

([29]) انظر: جواهر الكلام 16: 361.

([30]) انظر: منتهى المطلب 9: 255.

([31]) انظر: رؤية الهلال 2: 769.

([32]) انظر: مَنْ لا يحضره الفقيه 2: 580، ح3171.

([33]) موقع معارف إسلامي، 313 أمير.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً