أحدث المقالات

مقدمة ـــــــ

تقابل كلمة التنمية في اللغة العربية كلمة (Development) في الإنجليزية، وهي على وزن: تفعلة، مصدر باب التفعيل، مثل: تزكية وتغذية التي يلحظ فيها معنى الفعل المتعدّي، واذا تجاوزنا التعريف اللغوي، فعلينا أن نبحث في المعنى الاصطلاحي للتنمية الاقتصادية في علمي: الاقتصاد والاجتماع.

في الوقت الحاضر، لا يوجد اتفاق عام حول تعريف mالتنمية الاقتصاديةn في الكتب والمصنّفات، الاّ أنّ هناك نقطةً مشتركة في جميعها، وهي صدق النموّ والتطور على دول أمريكا وأوروبا الغربية واليابان وأستراليا وروسيا، بينما يرى بعضٌ عدم صدق ذلك على كوريا الجنوبية وسنغافورة ومثيلاتها من الناحية الاقتصادية.

ومن موارد الخلط في مثل هذه الأبحاث، الخلط بين mالتنمية الاقتصاديةn وmالتنمية الإنسانيةn، وقد سعينا في هذا المقال إلى تجنّب الوقوع في هذا الخلط، وتناول mالتنمية الاقتصاديةn فقط.

النقطة الأخرى التي أجد من الضروري الإشارة إليها قبل بدء البحث، هي الإجماع على فصل mالنمو الاقتصاديn عن mالتنمية الاقتصاديةn؛ ولهذا فالمؤشرات والدلائل التي يمكن ملاحظتها في النموّ الاقتصادي، غير مقبولة لفهم ومعرفة mالتنمية الاقتصاديةn؛ وعلى ما تقدّم، تكون mالتنمية الاقتصاديةn مغايرةً mللتنمية الإنسانيةn و mالنمو الاقتصاديn، وحتى mالنمو الاقتصادي المستمرn.

إذن، ما هي التنمية الاقتصادية؟

يرى بعضهم أنّ لمفهوم التنمية بُعداً قيمياً، يلحظ فيه ما هو المنشود، أو ما هو المنشود لاقتصاد المجتمع، وهذا الرأي قائم على الرأي القائل: إنّ التنمية الإنسانية هي المدار، وبالنتيجة تكون التنمية الإنسانية بمعنى ظهور إنسان متكامل بنحو يلحظ فيه الجانب mالمنشودn و mالبعد القيميn، هذا من جهة، ومن جهة أخرى mالتنميةn تعني الانتشار والتوسّع.

وبهذا المنظار أيضاً يوجد بُعد قيمي لكن ليس له علاقة بوصف كونه إنسانياً أو اقتصادياً و..

والإشكالية هنا على هذه الآراء أنّها لا تنسجم والإجماع الحاصل على التطوّر والتقدم الاقتصادي لدول أمريكا وإنجلترا وألمانيا واليابان وأستراليا وسائر الدول الغربية الأخرى؛ لأنّه رغم الإجماع المذكور، لا يوجد هناك إجماع على mجودةn الوضع الاقتصادي لإنجلترا أو باقي الدول الغربية، إذاً، ليس هناك تلازم أو مقاربة بين mالجودةn وmالتنميةn برأي الإجماع المذكور.

الخصائص المشتركة للدول المتقدّمة ـــــــ

نسعى على ضوء النقاط السابقة، وبعد نظرة تاريخية لوضع الدول المتطورة اقتصادياً: أمريكا والدول الغربية واليابان وأستراليا وروسيا، ويضيف بعضهم: كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان أيضاً، نسعى لبيان خصوصيات هذه الدول المشتركة بشكل سريع، لنقارنها بخصوصيات الدول المتخلّفة والنامية، مقدّمين عبر ذلك تعريفاً للتنمية الاقتصادية.

وهذا الأسلوب في التعريف يؤكّده المنطق الصوري، ويستلزم إدراك خصائص الواقع الخارجي، كما ينطبق بدقّة على قواعد المشاهد الثلاثة وتعريف الحوادث الاجتماعية، طبقاً لما جاء في الفصل الثاني من كتاب قواعد علم الاجتماع لدوركهايم.

كانت الدول المتقدّمة قبل عصر النهضة، أكثر تخلّفاً من سائر مناطق العالم من حيث البُنية العلمية، خاصة بالنسبة إلى ماضي الدول الإسلامية المزدهر، ثم ظهرت تغييرات في نظرتهم وأفكارهم فيما يتعلّق بالطبيعة والإنسان، فظهرت الفيزياء الحديثة، والاهتمام بالمنهج التجريبي، والاستفادة من الاكتشافات التجريبية في الإنتاج الاقتصادي، كما طرحت أفكار فلسفية جديدة تتعلّق بالإنسانية والثقافة والتربية والحكومة والسياسة والدين والحرية و.. وقد عاشوا في المجال السياسي، الحربَ الأهلية الأمريكية، والثورة البريطانية، والثورة الفرنسية، والثورة الروسية، فاستقرّت أسس الحكومات البرلمانية والرجوع إلى الرأي العام في تحديد أطر وأشكال الحكومات.

ومن التجارب الطويلة لهذه الدول، مشاركة الرجال والنساء ممّن تزيد أعمارهم عن سنّ الثامنة عشرة سنة في ميادين الإنتاج الاقتصادي، ومنحهم أجوراً كافية لتأمين حاجاتهم الضرورية من المأكل والملبس، وذلك مقابل عمل يمتدّ إلى 18 ساعة في اليوم، ومن ثم أصبح 12 ساعة يوميّاً، وقد أدّى ذلك إلى تراكم الثروة عند بعضهم، مما حدا بالرأسماليين إلى استثمار هذه الثروات في زيادة الإنتاج.

وقد وصف كارل ماركس في كتابه mرأس المالn هذا الوضع، وبيّن جذور تراكم الثروة، وقال: إنّ استمرار هذا الوضع سينتهي إلى الركود، وقد قام الرأسماليون ورجال السياسة في النظام من جهة، بفتح أسواق الدول الأخرى، حيث حصلوا على مواد خام منها بأسعار زهيدة، فيما أجبروا ــ من جهة أخرى ــ العمّال على تقليل ساعات العمل في بلدانهم، ورفع قدراتهم الشرائية، وبهذه الصورة حقّقوا ــ شيئاً فشيئاً ــ مستوى من الرفاه المتوسّط.

وبنظرة تاريخية عابرة إلى الدول الغربية المتقدّمة، وإلى طبيعة تراكم الثروة ورأس المال الخاصّ في روسيا واليابان، وإلى حصّة الأفراد في الإنتاج والاستهلاك ــ حيث تختلف نسبياً مع أوروبا الغربية وأمريكا ــ نحدّد خصائص تلك الدول كالتالي:

1 ــ أصبحت العلوم الطبيعية بعد عصر النهضة، الأساس في التقنية والإنتاج في جميع تلك الدول، وقد تطوّرت الفيزياء الحديثة والكيمياء و.. إلى التكنولوجيا، وظهرت صناعة الوسائل والأدوات، وبذلك رسمت ملامح الإنتاج الصناعي، وهذه الخصيصة نجدها في جميع الدول المتقدّمة، شرقيةً كانت أم غربية، فيما هي مفقودة في الدول النامية والمتخلّفة. ونذكّر هنا بأن نقل الشركات الصناعية إلى الدول النامية لم يأت بهذه الخصوصية أيضاً.

2 ــ كانت ثمرة مليارات الساعات من العمل الصناعي المتراكم في هذه الدول، هو ما نسمّيه بالاستثمار الصناعي، في حين أن من خصائص الدول النامية والمتخلّفة فقر الاستثمار الصناعي؛ فرأس المال الصناعي الموجود في تلك الدول الصناعية والخبرات التقنية والعلوم التجريبية كان الأساس لرأس المال، مما أدّى إلى رفع مستوى حجم الإنتاج وسرعته، فيما ظلّت الدول النامية تعاني من نقص العلوم التجريبية، وقلّة الخبرات التقنية، ورأس المال في إنتاجها الصناعي.

3 ــ كانت أغلب الدول المتقدّمة مسيحيةً، فيما أغلب الدول النامية المتخلّفة غير مسيحية.

4 ــ كانت أغلب الدول المتقدّمة دولاً استعماريّةً لفترة من الزمن، فيما كانت أغلب الدول النامية مستعمَرةً لفترة من التاريخ.

5 ــ في أغلب الدول المتقدّمة نظامٌ سياسي برلماني، أمّا أغلب الدول النامية والمتخلّفة فلا يوجد فيها نظام برلماني حقيقي.

6 ــ في أغلب الدول المتقدمة كان هناك فصل للدين عن الدنيا (العلمانية)، في حين أنه لا زالت العقائد الدينية في الدول النامية والمتخلّفة تؤثر بشكل فاعل على الأعمال الدنيوية، الاقتصادية والسياسية و..

ويمكن من خلال الدراسة المركّزة اكتشاف خصائص عديدة أخرى، إلاّ أنّ التي ذكرناها تبقى أبرزهها، والخصيصتان الأولى والثانية يمكن مشاهدتهما في جميع الدول المتقدّمة دون استثناء، في الوقت نفسه الذي تفتقدهما جميع الدول النامية والمتخلّفة، أمّا الخصائص الأخرى فليست جامعةً ولا مانعة.

أ ــ تقسّم الدول المتقدّمة إلى مجموعتين: إحداهما ذات ماضٍ استعماري، والأخرى ليس لها ماضٍ استعماري؛ فإنجلترا مثلاً لها ماضٍ استعماري في حين أن أستراليا ليست كذلك.

ب ــ ليست جميع الدول الاستعمارية السابقة متقدّمة، فالبرتغال ــ على سبيل المثال ــ مع أنها كانت من أوائل الدول الاستعمارية، إلاّ أنّها من الدول غير المتقدّمة في الإنتاج الصناعي.

ج ــ ليست جميع الدول النامية والمتخلّفة حالياً مستعمرات سابقة، ومثال ذلك إيران، وتركيا؛ فالدولة العثمانية لم تكن مستعمرةً، وكذلك دولة تركيا الجديدة التي أسّسها مصطفى كمال أتاتورك بعد الحرب العالمية الأولى، وإيران أيضاً لم تكن مستعمرةً.

د ــ ليست جميع الدول التي كانت مستعمرةً في الماضي، غير متقدّمةٍ حالياً، فأستراليا وكندا يقعان ضمن الدول غير المتخلّفة، رغم أنهما دول مستعمرة؛ فليست جميع المستعمرات السابقة دولاً متخلّفةً اليوم، ولا جميع الدول المتخلّفة اليوم كانت مستعمرات في الماضي.

هذه النقاط الأربع التي ذكرناها تخصّ الميزة الثالثة؛ فقضية الاستعمار لا يمكن أن تكون السبب القطعي والعامل الرئيس في التنمية أو التخلّف الاقتصاديين، أمّا كون تلك الدول مسيحيةً أو غير مسيحية، فهي كمسألة الاستعمار لا جامعة ولا مانعة؛ فليست جميع الدول المتقدّمة مسيحيةً؛ لأن اليابان دولة متقدّمة غير مسيحية، وليست جميع الدول المسيحية متقدّمةً؛ لأنّ دول أمريكا اللاتينية مسيحية، لكنها غير متقدّمة.

كما أنّ النظام السياسي البرلماني يصدق عليه ما تقدّم أيضاً، إذ ليس شرطاً أساسياً في التنمية الاقتصاية ــ وهذا طبعاً غير التنمية السياسية ــ فليست جميع الدول المتقدّمة اقتصادياً، لها نظام سياسي برلماني؛ مثل روسيا، وليست جميع الدول التي لها نظام سياسي برلماني، متقدّمة اقتصادياً، مثل تركيا.

أمّا حول علاقة التنمية الاقتصادية بالعلمانية، فليس هناك تلازم ضروري بين المفهومين؛ بل إنّ عالم الاجتماع المعروف ماكس فيبر يقول في كتابه mالأخلاق البروتستانتية والروح الرأسماليةn: mهناك نوع خاص من الالتزام في المسيحية هو السبب والعامل الرئيس في دعم ورفع متغيرات النشاط الاقتصادي والتوفير والاستثمار الصناعي والاختراعات الصناعية والاكتشافات العلميةn، وجميعها يعدّ الأساس للخاصيتين: الأولى والثانية اللتين ذكرناهما فيما يتعلّق بالدول المتقدّمة اقتصادياً، وقد أشرنا فيما سبق إلى علاقتهما بالتنمية الاقتصادية، وعليه:

1 ــ هناك اتفاق على اصطلاح التنمية الاقتصادية باعتباره صفةً لمجموعة خاصّة من الدول، من قبل جميع المفكّرين في العالم، وكذلك الرأي العام.

2 ــ هناك خاصيتان مشتركتان فقط بين جميع الدول المتقدّمة اقتصادياً، وهما الخاصية الأولى والثانية، وتفتقدهما جميع الدول المتخلّفة، وحسب المنطلق العلمي، فهاتان الخاصيتان موضوعيّتان جامعتان مانعتان في التنمية، وبالطبع لا يمكن اعتبار تبعاتهما خصائص مستقلّة بذاتها.

موقف الإسلام من مقدّمات التنمية الاقتصادية ومستلزماتها ـــــــ

تجب الإجابة عن السؤال التالي: ما هو موقف الإسلام من مقدّمات ومستلزمات وعوامل تحقيق هاتين الخاصيتين في المجتمع؟

من الضروري هنا، توضيح بعض النقاط فيما يتعلّق بالإسلام؛ حيث يسعى إلى:

1 ــ تأمين حاجات الفرد وأسرته.

2 ــ تنمية الاستفادة من الحياة وتوفير الحاجات الثانوية.

3 ــ جمع الثروات وتحويلها إلى مستوى أعلى من مجرّد تأمين الحاجات الأولية والثانوية للفرد وأسرته، حسب التقاليد والأعراف السائدة في المجتمع.

4 ــ جمع الثروات وتدويلها من أجل الحصول على ثروة أكبر.

5 ــ تأمين حاجات الفقراء والمساكين الضرورية ومتطلّبات المواطن والدولة.

من جهة أخرى، يرى الإسلام أنّ السعي الاقتصادي الحثيث والجهد في طلب المال الحلال والترفيه عن الأسرة والآخرين والإنفاق في سبيل الله، كلّها وسائل لكسب الثواب والسعادة الأخروية، والروايات والأحاديث تذمّ التقاعس عن طلب الرزق والاتكال في العيش على الغير([1])، لكنّ هناك روايات وأحاديث أخرى تدعو إلى عدم أخذ أرباح في المعاملات التجارية مع المؤمنين([2])، إلا المعاملات الكبيرة، التي يمكن كسب المصاريف اليومية من أرباحها ([3]).

ولا تقتصر المتطلّبات الاقتصادية في الروايات الإسلامية على المأكل والملبس، بل تشمل ــ أيضاً ــ الملبس حسب العرف المتداول، والدار الواسعة، ووسيلة النقل المناسبة، وصلة الرحم، ودفع الصدقات، والحج، والعمرة، وزيارة المشاهد المقدّسة، وبناء المؤسّسات الخيرية، والاستثمار في مجال التجارة أو الزراعة، وغرس الأشجار، فهذه الأعمال جميعها تعدّ من المتطلّبات الاقتصادية، التي حثّ عليها الإسلام وعلى طلب المال من أجلها([4]).

وإذا عمل الجميع بتلك النصائح، فسيبلغون مستوى الحياة المتوسّطة والمرفّهة نسبياً، لكنّ تجمّع الثروة بيد قلّة معدودة، هو ما تذمّه النصوص الدينية: >كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ< (الحشر: 7)، كما أنّ الإسلام منع بشدّة حالات الحرص والبخل والإسراف والتبذير، وعدّها من أسباب سقوط المجتمع وانحطاطه.

وهناك دوافع كثيرة تدعو إلى العمل والسعي، وحفظ الأموال والاهتمام بتأمين العيش لجميع الناس، وخاصّةً المؤمنين منهم، وهي ــ أي تلك الدوافع ــ من أهمّ عوامل التنمية الاقتصادية، أو هي من تبعات هذه التنمية، أمّا النقطة التي يجب الإشارة اليها، فهي رأي أولئك الذين يرون الإسلام مخالفاً للتنمية الاقتصادية.

الإسلام واستراتيجية التنمية الاقتصادية ـــــــ

تتطلّب التنمية الاقتصادية ــ بالمفهوم المعاصر ــ تراكم رأس المال الصناعي، من أجل وفرة الإنتاج، وتجربة الغرب وروسيا واليابان في هذا المجال، وتراكم الثروة بيد أقلية رأسمالية، حصلت عن طريق الاستثمار، شاهد على ذلك، والحقيقة، أنّ البحث يدور حول الاستراتيجية التي تنسجم مع الإسلام وتراكم رأس المال الصناعي وما يسبقه، وادّخار الفائض وتجميعه، وكيف يتيسّر تجميع الثروة وتراكم رأس المال الصناعي في الوقت نفسه الذي لا يكون فيه المال >دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ<(الحشر:7).

لقد أكّدت التعاليم الإسلامية كثيراً على الزراعة والتجارة([5])، وهذان الأمران لا يتحقّقان دون رأس مال، لذلك يمكن الخروج بالاستنتاج التالي: دعوة الناس إلى الزراعة والتجارة يستلزم وجود رأس مال زراعي وتجاري، إذاً، فرأس المال ممتدح في التصوّر الإسلامي([6])، لكنه يمكن أن يكون قصد الإسلام بذلك هو رأس المال بالحدّ الذي يكون فيه المباشر للعمل هو صاحب المشروع، ولذلك نرى النصوص الشرعية تلتزم أن لا يكون الشخص mأجير غيرهn([7])، وليس بالحدّ الذي يسمح بظهور أصحاب رؤوس مال كبار.

إذن، الإشكالية تكمن في علاقة تعاليم الإسلام بالتنمية الاقتصادية، mاستراتيجية التنمية الاقتصاديةn، وليست في دوافع العمل والسعي الفردي، للوصول إلى رفاه اقتصادي، والأفضل ــ ظاهراً ــ طرح خطّة استراتيجية التنمية الاقتصادية وعمومياتها على طاولة البحث، والتدقيق في أحكامها الفقهية والأخلاقية، ومن ثم الإجابة عنها على أساس المصادر الإسلامية، حتى تتضح جلياً.

تجارب النهوض الاقتصادي ـــــــ

كانت استراتيجة تكريس الثروة في الغرب، تمرّ عبر ادّخار أصحاب الصناعات جزءاً من الإنتاج، وذلك من خلال تحديد ساعات عمل العمّال ومقدار الفائدة بالنسبة للمنتج، وبالنتيجة يكون تحديد القيمة بشكل ضمني أو تحديد الحدّ الأدنى لسعر البضاعة على أساس التكلفة والحدّ الأدنى للفائدة المنظورة للمنتجين، ومن ثم يعيدون استثمارها، لذلك تراكمت لديهم أموال طائلة على مدى عقود متوالية، وقد أثّر رأس المال الصناعي المتراكم هذا في إنتاجهم المستقبلي تأثيراً عميقاً، وهو ما نسمّيه حالياً: mالتنمية الاقتصاديةn.

وقد رفضت روسيا بعد ثورة أكتوبر، النهج الغربي في تراكم رأس المال، ولما عجزوا عن ذلك أقاموا الحكومة الاشتراكية خطوةً على الطريق، لتقوم بتسعير البضائع الزراعية والصناعية وامتلاك جميع الإنتاج الزراعي والصناعي، ووضع برامج قسّمت فيها قوى العمل إلى أربعة أقسام:

1 ــ منتجي البضائع / المحاصيل الزراعية.

2 ــ منتجي البضائع الصناعية الاستهلاكية والوسيطة.

3 ــ القوى العاملة في قسم البنية الاقتصادية مثل الطرق، والصناعات العسكرية.

4 ــ القوى العاملة في مجال الخدمات، سواء الأعمال السياسية العليا أو المستوى الخدماتي الأدنى.

كان إنتاج المجموعتين: الأولى والثانية يجمع بواسطة الدولة، ويُسعّر بشكل تتساوى فيه القيمة مع عائدات جميع قوى العمل، وبالنتيجة كان يقسّم بين جميع القوى العاملة، وينتج عن ذلك ادّخار إنتاج المجموعة الثالثة، أي القوى العاملة في قسم البنية الاقتصادية والصناعية والعسكرية, وكان ذلك مصدر نموّ دائم في الإنتاج الروسي.

أما الصين، فإن استراتيجية الادّخار فيها رسمت بشكل يتناسب وعدد السكان وبعض التقاليد المتعارف عليها في التعاونيات التقليدية الشعبية، حيث ــ ولإيجاد رأس مال متراكم وإحداث سدود وأمثالها ــ كان على قوى العمل الفردية أن تعمل في قسم إنتاج البنى الاقتصادية، إزاء عملها لأيام في المزارع؛ فالمزارع ــ مثلاً ــ يعمل خمسة أيام في مزرعته، ويومين من الأسبوع في بناء الطرق، وبهذا الشكل، ادّخروا نسبةً من قوى العمل بغية تكوين بُنية اقتصاديّة، وفي المجال الصناعي أيضاً قاموا بالأمر نفسه.

أمّا الهنود، فبعد انتصارهم على الاستعمار البريطاني، لم يقبلوا بأيّ من الاستراتيجيات المذكورة في تراكم الثروة وتبديلها إلى رأس مال، ومن خلال دعم المنتجين القرويين وغير القرويين، وتقديم خبرات مناسبة لهم وحثّهم على إقامة تعاونيات بينهم، استطاعوا رفع مستوى الإنتاج في الوحدات الإنتاجية. وبعد أن اجتمع عدّة منتجين في تعاونية واحدة، وقاموا باستثمارات مشتركة وصغيرة، حدث تراكم واستثمار في التعاونيات الكثيرة والصغيرة المنتشرة في جميع أنحاء المجتمع الهندي؛ فخطا الهنود خطوات كبيرة في هذا المجال، واستطاعوا جذب نسبة عالية من علوم ما بعد عصر النهضة والتكنولوجيا الناتجة عنها، فجعلوها أساس إنتاجهم الاقتصادي، وبذلك استطاعوا تجميع رأس مال معتدّ به، واليوم تعدّ الهند خارج دائرة الدول المتخلّفة اقتصادياً، لكن هل يمكن اعتبارها من الدول المتقدّمة اقتصادياً؟ وهل يمكن القول بنجاح الاستراتيجية الهندية؟

الجواب هنا بالسلب؛ لأن علينا أن ننتظر مدّة حتّى نتمكن من إصدار حكم في ذلك([8]).

هناك أيضاً الاستراتيجية التنموية التي تبنّتها دول، مثل كوريا الجنوبية تايوان وسنغافورة؛ ففي هذه الدول، لم يكن رأس المال ناتجاً عن تراكم الإنتاج الداخلي، وإنّما كان سببه الاستثمارات الأجنبية المصدّرة من الخارج، والتي وظفت في العمل والإنتاج الصناعي.

وهنا يطرح هذا السؤال: ما هو رأي الإسلام في الاستراتيجيات الخمس التي ذكرناها، فما هو حكم الشرع المقدّس فيها، وما هو الحكم الذي يصدق عليها؟ هل هي حرام، مكروه، مباح، مستحب أم واجب؟

اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية ـــــــ

المسألة الأخرى التي يجب أن تُبحث مقدمةً لدراسة علاقة الإسلام بالتنمية الاقتصادية أو باعتبارها خطوة لمعرفة رأي الإسلام في ذلك، هي اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية بين المجتمعات الحالية لدول العالم الثالث، ومنها إيران، مع ظروف أوروبا وروسيا والصين والهند، الاقتصادية والاجتماعية في سنوات بداية التنمية الاقتصادية هناك.

ففي أوروبا في القرن السادس عشر وما بعد، كان العمّال يعلمون أنّ عليهم العمل ثماني عشرة أو اثنتي عشرة ساعة؛ ليستطيعوا تأمين معيشتهم، وهذه الحالة متشابهة في جميع الدول؛ لكن يظهر من المقارنة ما يلي:

أولاً: عدم وجود هجرة للقوى العاملة.

ثانياً: القناعة بحالتهم، قياساً بعمّال ومزارعي سائر الدول، وكذلك الفترة السابقة، حتى أنهم كانوا أكثر رضاً من عمّال العالم الثالث اليوم.

من جهة أخرى، أدرك الرأسماليون الأوروبيون أنّ الاستثمار في الصناعة يدرّ أرباحاً كثيرة، مقارنة بباقي المجالات، من حيث نسبة المخاطرة برأس المال، وعلى هذا الأساس قام الرأسماليون الأوروبيون باستثمارات صناعية، بدافع المنفعة الشخصية ومن باب الحرص والطمع؛ لكن العامل والمزارع والموظف اليوم ــ الذي يعيش في العالم الثالث ــ غير راضٍ عن وضعه المعيشي، عند مقارنته بالرفاه الذي كان يعيشه العامل أو المزارع أو الموظف الأمريكي أو الياباني أو الأوروبي الذي عمل على مدى أربعة قرون من الزمن، واستطاع جمع رأس مال كبير من خلال عمله ذلك؛ لذا فهو يضغط باستمرار على الدول، فيجبرها على القيام بإجراءات اقتصادية، كما أنّ رأسماليي العالم الثالث يعيشون ظروفاً خاصّة، تجعل من مصلحتهم الاستثمار في مجالات التجارة، لا الصناعة، فحتى لو كانت قدرته وخبرته قويةً في المجال الصناعي، لكن دوافعه الشخصية في الربح، ستجعله يتجه نحو الاستثمار في مجال التجارة الخارجية، والذي يتكوّن أغلبه من الاستيراد.

إذن، فالدوافع الفردية، وجشع الرأسمالي الأوروبي، جعلته منذ القرن السادس عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين، يستثمر أمواله في قطاع الصناعة. وكانت لهذا الدافع ظروفه الخاصة، لكن تلك الدوافع الشخصية لا يمكن أن تنتج عنها تلك النتائج نفسها في بيئة وظروف أخرى، فالوضع الحالي يجعل المستثمر يتجه نحو استيراد البضائع الاستهلاكية الأجنبية، والعمل على خلاف العملية التنموية.

هناك حلاّن لتجاوز هذا الوضع في دول العالم الثالث؛ لأنّ الاستثمار ــ كغيره من الأعمال الاجتماعية الأخرى ــ يخضع لتأثير عاملين، هما: دوافع العامل، وشروط بيئة العمل، إذاً، إمّا أن تتغيّر الدوافع او تتغيّر بيئة العمل.

الحلول المقترحة: ـــــــ

أ ــ تغيير الدوافع ـــــــ

عندما تتجاوز الدوافع الشخصية حدّ تأمين المتطلّبات الفردية والأسرية والأفراد الذين يتكفّلهم الشخص والإنفاق على المستضعفين، فإنّها تسمّى حرصاً، وهذا الحرص موجود ــ بشكل أكيد ــ لدى المستثمرين الكبار في مجال الصناعة، ويمكن استبداله بدوافع عزّة المسلمين ونفي التبعية الاقتصادية للكفار و.. وفي الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحالية التي يعيشها العالم الثالث، حيث إن الدوافع والمصالح الفردية توجّه المستثمر نحو الاستثمار في مجال استيراد البضائع الاستهلاكية، فإنّ دوافع الاستقلال الاقتصادي وعزّة المسلمين و.. يمكن أن تسوق الاستثمار نحو الموارد الأساسية للبنية الاقتصادية؛ ونتيجة لذلك ستتحقق التنمية الاقتصادية ويتربّى الأفراد على الأخلاق والفضائل والالتزام الإسلامي في آن واحد.

ب ــ تغيير الظروف البيئية ـــــــ

لتغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها العالم الثالث، لابدّ من تخطيط وبرمجة واسعة وعلى المدى البعيد في مجالات السياسات الجمركية والنقدية.

وعلى ضوء ما تقدّم؛ لابد من بيان حكم الإسلام فيما يتعلّق بالموردين بشكل واضح؛ لأن حكم الإسلام واضح فيما يتعلّق باستبدال الدوافع الفردية والمصالح الشخصية بدافع عزّة المسلمين واستقلالهم عن الكفار، لذا يبقى السؤال التالي: ما هو رأي الإسلام بالمركزيّة الاقتصادية وتنظيم الدولة للاقتصاد؟

طبقاً للأدلّة الواردة في نظرية ولاية الفقيه، وعلى ضوء عموم الأدلة الواردة في مسألة الاضطرار، يجوز للدولة السيطرة على الاقتصاد مادام بمستوى رفع الاضطرار أو للمصلحة، والمشكلة الوحيدة هي أن يتفق خبراء الاقتصاد حول حجم وكيفية هذه السيطرة، حتى تكون بحدّ المصلحة.

النتيجة ـــــــ

ينبغي أن يكون العمل المنتج فوق مستوى الحاجة المعاشية، من أجل التوسّع في الرزق والترفيه عن العيال، ومن أجل الإنفاق وإعانة المحتاجين، وحتى من أجل تأمين مستقبل الأبناء، وهذه هي الدوافع التي تسمّى بدوافع الرقي، وهو ما يمتدحه الدين الإسلامي، إذاً فالإسلام يحث على العمل الاقتصادي ولا يذمّه.

أمّا في جمع الثروة وتحويلها إلى رأس مال للاستثمار، فعندما تكون أكثر من حاجة الشخص وعائلته أو من يتكفّلهم، وكذلك أكثر من حدّ الإنفاق المستحب والواجب، فالإسلام يمتدحه ويؤكد الدافع إليها إذا كان لعزّة المسلمين وعلوّهم وتقدمهم اقتصادياً، لا بدافع الجشع والطمع.

أمّا من حيث استراتيجية الجمع، فمجموع الأحكام الفقهية يؤكد أنّ موضوع الأحكام الشرعية هو كيفية الكسب وطريقة الصرف أو الجمع، لا الكمية، لكن، هناك نقاط تجب مراعاتها في كيفية كسب المال، وهي على خلاف الاستراتيجية المطبّقة في أوروبا الغربية خلال القرون الماضية.

لكنّ أسلوبي الهند والصين في تجميع الثروة وتكوين رأس المال لا مانع منهما، ويمكن التلفيق بينهما مع العناصر الجديدة، ومن باب ولاية الفقيه، يمكن الاستفادة من سلطة الدولة والسياسات والبرامج المالية والنقدية التي تضعها، خصوصاً سياسة الضرائب، نتيجةً لتغيير ثقافة الناس ونظرتهم للضريبة؛ لأنّ ذلك يؤدي إلى توزيع جديد للثروة، وكذلك يوجّه الدوافع الشخصية في تحصيل المال إلى استثمارات في مجال الصناعات الأساسية والأم، وكذلك الصناعات الاستهلاكية الضرورية، كما يمكن أن تكون سلطة الدولة طريقاً للاستثمار بواسطة القطاع الخاص والقطاع الحكومي، فلا مانع من استخدام جميع الأساليب والطرق المنطقية للاستفادة من عمل الناس وثروتهم بشكل عادل؛ بهدف بناء أساس اقتصادي قويم.

بل حتى الاستفادة من القروض الخارجية جائزٌ شرعاً، ما لم يكن هناك خوف عقلاني من تسلّط الأجانب والكفار على البلاد، أو أجزاء من اقتصادها، وتحديد ذلك كلّه ــ ميدانيّاً ــ يحتاج إلى دراسات اقتصادية؛ فلو كانت مثل هذه الدراسات الميدانية تؤيد تلك المشاريع ويؤيدها المجتمع أيضاً، فليس هناك مانع من استخدام رأس المال الأجنبي لتنفيذها بنحو يجمع علماء الاقتصاد وخبرائه على عدم ضررها.

إذن، رأي الإسلام ليس فقط عدم معارضة التنمية بشكل مطلق، بل تأييدها، بشرط توافر معلومات دقيقة ومخطّطات صحيحة ومشاريع متكاملة إلى جانب السياسات الصحيحة؛ فالمفترض أن لا ننسب الضعف العلمي وعدم وجود برامج صحيحة أو تنفيذ دقيق، إلى مخالفة الإسلام للتنمية، فالإسلام والقيم الإسلامية تقف مع التنمية لا ضدّها.

*   *     *

الهوامش

(*) باحث من الحوزة العلمية.

[1] ــــ الحر العاملي. محمد بن الحسن، وسائل الشيعة 12: 37 ـ 38، تحقيق: الشيخ عبد الرحيم الرباني، بيروت، دار إحياء التراث العربي، كتاب التجارة، الباب 18، ح 1 ـ 8.

[2] ــــ المصدر نفسه: 193 ـ 194، الباب 10، ح 2 ـ 5.

[3] ــــ المصدر نفسه 1: 293.

[4] ــــ المصدر نفسه: 18، 40، 42، 44.

[5] ــــ المصدر نفسه 13: 191، الباب 1، ح1.

[6] ــــ المصدر نفسه 12: 18، الباب7، ح 1 ـ 8.

[7] ــــ المصدر نفسه 13: 243، الباب 2، ح 1، 2.

[8] ــــ انظر: برينغتون، الجذور الاجتماعية للديمقراطية والدكتاتورية، ترجمة: حسين بشيرية (بالفارسية).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً