أحدث المقالات

حيدر حب الله(*)

تمهيد

تعدّ مسألة الإعلام الفكري والثقافي من المسائل المهمّة وبالغة الخطورة في العصر الحاضر، وقد عالجها الفقهاء المسلمون تحت عناوين، من أشهرها عنوان «كتب الضلال»، لكنّ تركيزهم كان أكثر على حفظ هذه الكتب، فهل يجوز للإنسان أن يحتفظ بهذه الكتب أو لا؟ إلى جانب بعض الجوانب الأخرى. علماً أنّ (الكتاب) عندهم ليس سوى مثال بارز لكلّ نشاط إعلامي تواصلي. وعندما نستخدم في هذا البحث كلمة (كتب الضلال) فنحن نعني المفهوم العام لكلّ إعلام أو نشر أو.. ضالّ.

ولا أريد أن أخوض في تاريخ هذه المسألة التي ترجع عند الإماميّة إلى نصوص الشيخ المفيد والطوسي وغيرهما، والتي طرحت في البداية بعنوان كتب الكفر، ثم ما لبثت أن اتسعت تدريجياً لتتمركز حول كتب الضلال، ولتطرح عناوين كتب البدعة والكتب المنسوخة والكتب المحرّفة وكتب السخرية والهجو، وكتب السحر والقيافة والشعوذة، ثم ما لبثت أن طرحت الاستثناءات كحالة الردّ على الضلال، واتسعت ليلتفتوا لوجود مصالح في بقاء هذه الكتب أيضاً في الجملة.

وقد ازدادت أهمّية هذه المسألة اليوم، وصار مجال تطبيقها أوسع بكثير من الماضي، وبتنا نواجه مجموعة أسئلة سوف نحاول أن نجيب عنها في هذا البحث إن شاء الله، مثل:

1 ـ ما هو الضلال أساساً؟ وما هو المفهوم الذي تدور عليه الأحكام المتصلة ببحثنا؟ هل هو مفهوم الكفر أو الضلال أو البدعة أو الانحراف أو الحضّ على الفساد أو ماذا؟ وكيف نحدّد هذه المفاهيم؟ وما هي معاييرها؟ ومن يحدّد هذه المعايير؟ وكيف؟

2 ـ هل يجوز للفرد الاحتفاظ في مكتبته الشخصية مثلاً بكتب الضلال أو لا؟ وهل يجوز له إعارتها والسماح لغيره باستخدامها؟

3 ـ هل يجوز للدولة أو المجتمع الاحتفاظ أو القبول بوجود كتب الضلال فيهما وتحت سلطتهما أو يجب عليهما اتخاذ إجراء معيّن إزاء ذلك؟ وما هي طبيعة هذا الإجراء؟ وهل يحقّ للدولة دعم هذه الكتب أو الصحف على مستوى الورق والطباعة و..؟

4 ـ هل يختصّ الأمر بكتب الضلال أو يشمل مختلف أنواع الإعلام الضالّ، كالإعلام المرئيّ والمسموع، والصحف والنشريّات والدوريات والكتب والإعلانات والمحاضرات والخطب و..؟ بل وكذلك العمل المسرحي والتمثيلي والتصويري، وكلّ وسائل التعبير والإعلام؟ وسيطال الأمر نشاط المفكّرين والخطباء والتجّار والقصّاصين والشّعراء والممثلين والمصوّرين والرسّامين والمبرمجين والعاملين في مجال الانترنت أو لا؟.. فما هو الموقف من هذا كلّه؟

5 ـ ما حكم مطالعة كتب الضلال للفرد؟ وما حكم مطالعتها للمجتمع؟

6 ـ هل يجوز تأليف كتب الضلال؟ وهل يجوز طرح الأفكار الضالّة في المجتمع؟

7 ـ ما هو حكم نشر الضلال وتوزيعه وترويجه بمختلف الوسائل الإعلاميّة؟ وما هي مسؤوليّة دُور النشر والتوزيع ومحطّات البثّ الفضائي و.. في هذا المجال؟ هل يجوز نشر مقال ضلالي؟ هل يجوز ذلك مع وضع الردّ عليه معه؟ هل يجوز استضافة صاحب فكر ضالّ وغير إسلامي على القنوات الإعلاميّة ليطرح أفكاره أو استضافته في المحافل العلمية أو يجب مقاطعته تماماً بكلّ الأشكال؟ هل الإرجاع الى مصادر ضالّة أثناء تأليف كتاب في ببلوغرافيا أو نحو ذلك مشكلٌ شرعاً؟ وهل تعريف الناس بذلك جائزٌ أو لا؟ هل يصبح النشر والدعاية جائزين لأنّ الآخر سيُظهر فكره على كلّ حال؟

8 ـ هل يجوز تدريس أو تعليم كتب أو موضوعات الضلال؟ وهل يجوز تدريس الفكر الإلحادي مثلاً مع ردّه أو بدون ردّه؟ وما هو موقف وزارات التربية والتعليم وإدارات المدارس والجامعات من إثارة هذه الأفكار في الكتاب الدراسي؟

9 ـ هل حرّية الإعلام الفكري والثقافي مكفولة في الإسلام أو مرفوضة تماماً أو أنّ في الأمر تفصيلاً؟ وما هو؟

10ـ هل هناك عناوين أوّلية وثانوية تحكم كلّ هذه الموضوعات؟ وما هي أبرز العناوين الثانوية ومبرّراتها؟

11ـ هل المشكلة مع الفكر الضالّ في أصل وجوده أو فيما إذا خُشي من استلزامه تقويض الانتماء الديني للمجتمع، تماماً كحال الغرب لو خَشِيَ تقويض أصول الديمقراطيّة في المجتمع؟

12ـ ما هو الموقف: هل هو حظر دعم الضلال أو حظر السكوت عنه أو حظر السماح له بالوجود مطلقاً؟

13ـ ما هي الطروحات الفقهيّة في هذا المجال؟ وماذا تعطينا المقارنة بين الفقه والمشهد الغربي في هذا النوع من الحرّيات؟

إلى غير ذلك من التساؤلات التي تأتي على هذا الصعيد.

ولابد أن أشير إلى أنّ بحثنا يدور فقط في مجال الإعلام الفكري والثقافي، وليس غير ذلك، فنحن لا نتحدّث عن الحرّيات السياسية والدينية والحزبيّة وغير ذلك، وإنما عن حرّية إعلاميّة صرفة مجالها قضايا الفكر على أنواعه، فالموضوعات مختلفة وفي الوقت عينه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً.

ما هو الضلال؟

النقطة الأخطر والأكثر أهميّةً في هذا الموضوع كلّه، وهي النقطة التي لم يدرسها الفقهاء هنا غالباً سوى بتعريفات أكثر هلاميةً من العنوان نفسه، وإنّما فرضوها واضحة وانطلقوا مباشرةً لبيان الحكم دون الموضوع، مع بعض الإشارات لبعض الأمثلة من الكتب كالتوراة والإنجيل.. هي: تعريف الضلال وحدوده؟ فما هو الضلال الذي يحرم حفظ كتبه؟ وما هو الضلال الذي يحرم نشره؟ وهكذا.. فهل هو كتب الكفر وأهل الديانات الأخرى؟ أو كتب المذاهب كلّها أو بعضها؟ أو كتب السخرية والهجاء للدين والحقّ كما لاحظنا هذه التوسعة عند بعض؟ أو يشمل كتب السحر والقيافة والشعوذة وغيرها؟ أو هو كلّ ما خالف الحقّ واقعاً كما يظهر من المحقّق النراقي؟([1])، وأيّ حقّ يقصد؟ هل كلّ حقّ في كلّ العلوم أو في خصوص العلوم الدينيّة أو في خصوص العقيدة؟ وماذا لو اختلف المجتهدان بحيث جزم أحدهما ببطلان ما قاله الآخر فيكون له علم بأنّه خالف الحقّ؟ أو.. بل إنّك قد تجد بعضهم يرى كتب الحقّ ضلالاً إذا أوجبت ضلال الناس كبعض كتب العرفاء. بل قد نجد الشيخ المطهري يستبدل فكرة كتب الضلال بكتب الإضلال([2]). وبعضهم يربط الموضوع بقصد المؤلّف لا بواقع الكتاب وتأثيراته.

وفقاً للمعايير الدينية العامّة هناك أشياء يمكن بشكل سريع إقحامها في مفهوم الضلال، مثل إنكار وجود الله. وهناك وفقاً للمعايير الإسلامية ما يعدّ ضلالاً بوضوح، مثل إنكار التوحيد أو إنكار نبوّة محمد، وهناك ـ وفقاً للمعايير المذهبية ـ ما يعدّ ضلالاً مثل إنكار الإمامة عند الشيعة، وإنكار إسلام وعدالة كبار الصحابة عند أهل السنّة، لكن هذه حالات محدودة وليس لها ضابط واضح.

ثم يوجد هنا سؤال: هل يوجد مقياس حتى نضع من خلاله كتباً في عداد الضلال أو فكرةً في عداد الضلال ونُخرج أخرى؟ وما هو هذا المقياس؟

لو رجعنا إلى الجذر اللغوي ورأينا الضلال مقابلاً للهداية ومرادفاً للتيه والحيرة وانحراف الطريق، فسوف نقع في مشكلة عظيمة، وهي أنّ كلّ فقيه سوف يرى سائر الفقهاء ضالّين، وستُدرج كتبهم في كتب الضلال، وهكذا كلّ فريقٍ كلامي أو فلسفي أو حديثي أو تاريخي أو سياسي أو غير ذلك سيرى الآخرين ضالّين؛ لأنّ المفردة تتحمّل هذا المعنى، فكلّ من أخطأ فقد ضلّ الطريق وفقاً للغة العربيّة.

إنّ هذا المفهوم يساوي سدّ باب الاجتهاد، وهو أمرٌ يقع على خلاف اتفاق الأمّة، ولا يمكن لأحد القبول به، ولا نظنّ أحداً يلتزم بهذا المعنى.

إذن، فما هو الضلال؟

إنّني أعتقد بأنّه يجب حذف هذه الكلمة من بحثنا؛ لأنّها سبب الإيهام، وإذا كانت بعض الأمثلة نجزم بدخولها في المفهوم هنا كإنكار وجود الله مثلاً، فهذا لا يمنحنا معياراً ومقياساً يمكن اتّباعه من الناحية القانونية، لهذا حذفنا هذا العنوان من دراستنا هذه، واستبدلنا الموضوع بعنوان (حريّة الإعلام الفكري والثقافي).

وأعتقد بأنّ هذه المفاهيم، مثل الضلال والبدعة وغيرها، تمّ استغلالها بطريقة هلاميّة غير واضحة من قبل بعض التيارات الدينية والسياسية في التاريخ الإسلامي؛ لتصفية الحساب مع الأقليّات الدينية والمذهبيّة والفكريّة، لاسيما مثل المعتزلة والشيعة والصوفيّة والفلاسفة، الأمر الذي زاد الموضوع ضبابيةً وغموضاً في مفهومه وحدوده عبر التاريخ. وقد رأينا أنّه كيف ألّف الحنابلة وغيرهم الكتب وأصدروا الفتاوى في تحريم كتب علم الكلام بوصفها رمزاً لكتب الضلال، وها هو ابن قدامة المقدسي يؤلّف رسالته المشهورة (تحريم النظر في كتب الكلام)، الأمر الذي أوصل إلى حوادث إحراق كتب الفلسفة علناً، في قضايا مشهورة مشهودة في التاريخ الإسلامي، يعرف بعضها كلّ من اطّلع على تاريخ حياة الإمام الغزالي والفيلسوف ابن رشد وغيرهما.

إنّ تحريم النظر قرار حاسم اتخذه العديد من الفقهاء المسلمين، فلنلاحظ هذا النصّ للبهوتي وهو يقول: «ولا يجوز النظر في كتب أهل الكتاب نصّاً.. ولا النظر في كتب أهل البدع، ولا النظر في الكتب المشتملة على الحقّ والباطل، ولا روايتها؛ لما في ذلك من ضرر إفساد العقائد»([3]). ومن هنا أفتى الشاطبي بتحريم قراءة بعض كتب أبي طالب المكّي؛ لما فيها من شطحات الصوفيّة، وحرّم ابن حجر على غير الراسخين في العلم النظر في هذه الكتب، وهو ما فعله كثيرون منهم بعض المنفتحين اجتهاديّاً مثل الشيخ محمد رشيد رضا وغيره.

وعليه، فالسبيل الوحيد هنا أمامنا هو أن نذهب مباشرةً إلى الأدلّة، ثمّ بعد ذلك نستخرج حدود الموضوع ودائرته بطريقة أفضل؛ لأنّ عنوان الضلال يغلب في الظنّ أنّه من وضع الفقهاء وابتكارهم، وسوف يتجلّى هذا الموضوع أكثر قريباً فانتظر.

الأدلّة العامة على الموقف من حرية الإعلام الفكري والثقافي

ثمّة أدلّة أساسيّة كانت مرجع الفقه الإسلامي في موضوعه هذا، وعلينا استخراجها وغيرها لمحاولة اكتشاف مديات دائرتها، وهي:

1 ـ القرآن الكريم أو المستند القرآني

توجد مجموعة من الآيات تحدّث الفقهاء عنها هنا، وهي:

1ـ 1ـ آية لهو الحديث، مناقشات في الارتباط بموضوعة الإعلام الفكري

الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (لقمان: 6).

لقد اعتُبرت هذه الآية القرآنيّة أساسيّةً هنا، لا سيما بملاحظة ما ورد في سبب نزولها؛ حيث ذكروا أنّ ابن الحارث سعى للسفر إلى بلاد فارس في عهد النبيّ‘ كي يأتي هناك بكتب الأساطير، ثم يروّج لها في بلاد العرب بهدف الوقوف بوجه المدّ الإسلامي والدعوة الإسلاميّة([4]).

وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة أنها اعتبرت شراء لهو الحديث وكلّ كلام لهويّ لا فائدة منه حراماً لأجل إضلال الناس، ويستحقّ صاحبُه عليه العذاب، فأيّ كتاب أو نشريّة أو برنامج تلفزيوني يشتمل على ذلك فهو مشمول للآية الكريمة.

لكن لو تأمّلنا الآية الكريمة، وصرفنا النظر عن أسباب النزول؛ لضعفها التاريخي، أو أخذناها بعين الاعتبار، سنجد ما يلي:

أولاً: إنّ الآية الكريمة تحرّم ترويج الضلال ولهو الحديث، ولكنّها لا تحرّم حفظها أو السماح بها مع ردّها علميّاً أو الاستماع إليها أو مطالعتها أو شرائها أو ما شابه ذلك، فالمفهوم الذي تقدّمه الآية الكريمة مفهوم محدّد يمثل حكماً تكليفياً للشخص نفسه، ولا يحدّد موقف الآخرين تجاهه أو تجاه ما يروّج له.

ثانياً: إنّ قيد ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾، يفرض علينا تحديداً آخر؛ لأنّ هناك فرقاً بين الشخص يكتب كتاباً وينشره بقصد إضلال الناس، وآخر لا يكتبه بهذا القصد، بل يكتبه لغرضٍ يراه هو صحيحاً، كأن يجتهد فيرى قضيّةً كلاميّة ما حقاً، ويكون اجتهاده مخطئاً، فمثل هذا الشخص لا يصحّ أن نقول فيه بأنّ غرضه إضلال الناس، وأنه يفعل ذلك ليضلّ عن سبيل الله، فغرضُ الفاعل له تأثير هنا في الحكم عليه بالعذاب، وإلا كان معذوراً، ولمّا رتّبت الآية عليه العذاب المهين لزم الشكّ في شمول دلالة مطلعها على مطلق الإضلال ولو بنحو الاشتباه المعذور فيه، الأمر الذي يفرض علينا الأخذ بالقدر المتيقّن من دلالة الآية وهو: إضلاله الناس حال كونه غير معذور، وإلا شمل الحكم الكثير من الفقهاء والمتكلّمين والأصوليّين والإخباريين والمفسّرين، لاسيّما الذين يختلفون فيما بينهم في قضايا كبرى مؤثرة في الفهم الديني عامّة.

ثالثاً: إنّ قيد ﴿وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا﴾ يبيّن لنا قسماً آخر من الصورة، فالضمير في «ويتّخذها» يرجع الى «سبيل الله»، فيكون المعنى: إنّ من يشتري لهو الحديث يريد إضلال الناس، ويهدف أيضاً وضع (سبيل الله) في موقع الاستهزاء والتحقير… وهذا معناه أنّ السياق عدوانيٌّ، فهو هنا لا يطرح أفكاره في مناخ بحث علميّ، أما من يطرح أفكاره في مناخ بحث علمي بقصد إثبات شيء وإبطال شيء، دون أن يدخل في سياق الاستهزاء والتحقير، فليس داخلاً في دلالة الآية الكريمة.

رابعاً: لو توقّفنا قليلاً عند قيد ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، لنفهم المراد منه، فسوف نجد أنفسنا أمام احتمالين في تفسيره:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المراد بالعلم ما نفهمه اليوم من الكلمة، والذي يقابله الجهل وعدم العلم، فيكون المعنى هكذا: من الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ الناس وهو لا يعلم ذلك، فيكون جاهلاً بأنّه يُضلّ الناس؛ لأنّ كلمة ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ يرجع الجار والمجرور فيها إلى ﴿يُضِلَّ﴾، فيكون المعنى: يضلّ وهو جاهل، أو يُضلّ وهو لا يدري أنّه يُضلّ.

وهذا المعنى يبدو غير منسجم مع القواعد المقرّرة عقليّاً ونقلياً في الثواب والعقاب، فإذا كان هذا الشخص لا يعلم بأنّ ما يشتريه هو ضلال، ولا يعلم أنّه يضلّ الناس بذلك، فكيف يترتّب العذاب في حقّه بلا أيّ قيد؟ والمفروض أنّه جاهل ولا تكليف على الجاهل، ولهذا يمكن فرض استبعاد هذا الاحتمال كما ذكره بعض الفقهاء المعاصرين([5]).

الاحتمال الثاني: ما طرحه بعض المعاصرين من أنّ المراد بهذا القيد: من غير وعي، بل عن سفاهة وهوى، فكلّ من يفعل ذلك منطلقاً من قلّة وعيه ومن هواه وسفاهته، فهو الذي يكون مورداً للآية الكريمة([6]).

وكأنّ المراد بهذا الاحتمال تفسير عدم العلم بالجهالة التي فسّرت بالسفاهة.

ولعلّ التفسير الأقرب لقوله: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، أي بلا بيّنة، فيكون المعنى: إنّ هذا الشخص يضلّ الناس ويُبعدهم عن طريق الله تعالى دون أن يملك فيما يفعله بينةً أو معطى يُثبت ما يراه، فليس المراد من عدم العلم هنا أنّه يُضلّ وهو جاهل بأنّه يُضلّ، حتى نتكلّم عن تكليف الجاهل وعن قبح عقابه، وإنّما المراد أنه يُضل دون أن يكون على علم ومعرفة وبيّنة بالأمر الذي يُضلّ عنه أو إليه.

وهذا التفسير الذي قلناه، وإن التقى في النهاية مع التفسير الثاني الذي طرحه بعض المعاصرين لكنّه يختلف عنه في كيفية التخريج وشرح المسألة.

ويشهد لحصيلة الفهم الجامع بين ما قلناه وما ذكره بعض المعاصرين، استخدامُ هذا التعبير في القرآن عدّة مرات، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ (الانعام: 119)، وقال سبحانه: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ (الأنعام: 140)، وقال سبحانه: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام: 143ـ 144)، وقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هًدَىً وَلَا كِتَاْبٍ مُنِيْر ثَاْنِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيْلِ الله..﴾ (الحج: 8 ـ 9؛ وانظر: الحج: 3، ولقمان: 20)، حيث يتضح بالمقارنة أنّ المراد بالعلم البيّنة والمستند والمعطى الموضوعي، في مقابل الهوى والاستحسانات الذاتية والميول والمصالح.

لكنّ السؤال الأبرز هنا هو أنّ مثل هذا القيد هل هو قيد افتراضي يُطلقه المولى بوصفه مولى تشريعياً أو هو إخبار عن أنّ الذين يضلّون عن سبيل الله لا علم لهم بما يقولون، وهو ما يُنتج أنّ ما يتوهّمونه بيّنةً وعلماً ليس سوى ظنوناً وتخمينات؟

الظاهر من الآية القرآنيّة الإخبار، لكن ليس الإخبار عن كلّ من يختلف مع الدين، وانّما هو إخبار عن وجود أشخاص هذه حالتهم، مع السكوت عن آخرين ممّن يضلّون الناس أيضاً، فلا تكون الآية الكريمة شاملة لحالات كون الضالّ لغيره عالماً مطّلعاً لكنّه قد التبس عليه الأمر في قضيّة ما ـ بصرف النظر عن وجوده خارجاً أو لا ـ، فكلّ ما تقوله الآية هو أنّ هناك بعض الناس ممّن لا دراية له ولا علم لديه بالأمور يضلّ عن طريق الله، وهو لايملك أيّ معطى علمي يفسّر موقفه هذا، أمّا لو فُرض وجود شخص يملك هذه المعطيات ـ ولو كان مخطئاً ـ فإنّ الآية لا تشمله، فأنت لو قلت لزيد: لو ضربت عمراً بتهمة السرقة بلا علمٍ سأعاقبك، فإنّ هذا الكلام لا يشمل حالة ما إذا كانت لدى زيد معطيات علميّة موضوعيّة لإثبات سرقة زيد، غايته التبس الأمر التباساً دقيقاً عليه، كما يحصل مع بعض المفكّرين والمجتهدين والقضاة وغيرهم.

هذا الموضوع يفتح على ظاهرة مهمّة في فهم السياق الذي أتت الآيات القرآنية فيه، فهل احتجاجات العرب كانت في العصر النبوي موضوعيّةً علميّة أو هي أنانيّة وعناد وحقد ومنطلقات هوى؟ بعبارة ثانية: هل يشبه الضلال العربي آنذاك ضلال المفكّر اليوم في عصر التعقيدات العلميّة والشكوك النوعيّة أو أنّ ذاك الضلال ناتجٌ في الغالب عن هوى النفوس، لا عن طبيعة التباسات القضيّة العلميّة، فيما ضلال اليوم قد تجد فيه الحالتين معاً؟ وهل كان خصوم الأنبياء مفكّرين لهم وجهة نظر أو أنّ مواجهتهم للأنبياء كانت ناتجةً في الغالب عن عناد ومصالح، فيما هم يعلمون الحقّ في نفوسهم، أو يرونه في كتبهم المقدّسة ويكتمونه، كما تشير إلى الحالتين (العلم والكتمان) بعض النصوص القرآنية، وكما هو مقتضى الحال الطبيعي لمن يرى المعجزة أمام عينيه؟ هذا موضوع هام يفتح على فهم الكثير من النصوص القرآنية الواردة في التعنيف على الكافرين، لا نخوض فيه الساعة.

والمتحصّل هو أن قيد ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ يفرض عدم شمول الآية لحالات الضلال والإضلال الناتجين عن طبيعة تعقيدات القضايا العلميّة.

خامساً: ما هو المراد من ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في الآية الكريمة؟

يذكر بعض العلماء أنّ المراد به القرآن الكريم([7])، وبملاحظة أسباب النزول يكون المعنى هو الضلالة التي تواجه القرآن وتقابل طريق الأنبياء([8]).

ولن نعتمد على أسباب النزول؛ لعدم ثبوتها التاريخي، لكن لو راجعنا تعبير (سبيل الله) الوارد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، سنرى أنّ المراد هو خطّ الدين التوحيدي الذي جاء به الأنبياء، فكلّ حرفٍ عن هذا الخطّ هو إضلالٌ عن سبيل الله.

لكن السؤال هنا يظهر: هل المراد صرف الناس عن الدين الحقّ عبر توجيههم للوثنية في مقابل التوحيد، فيقال: صرفناهم عن الإسلام، أو أنّه يشمل حالات الصرف الجزئي، كأن تضلّه عن الالتزام بحكم شرعي خاصّ ورد في الإسلام؟ فهل الآية تشمل الحالة الثانية أو لا؟ بعبارة أخرى: هل سبيل الله كلٌّ لا يتجزأ أو لا؟ هل سبيل الله خطّ ولوازمه كلّ تلك المجموعة من التكاليف و.. أو هو نفس مجموع العقائد والتكاليف وغيرها من الأمور؟

لو لاحظنا أسباب النزول أو السياقات التاريخية التي جاءت فيها مثل هذه النصوص، لكان يفترض الاقتصار على المعنى الأضيق؛ لأنّ هذه هي ظاهرة الصدّ والإضلال التي كانت آنذاك، بل إنّ السياق القرآني نفسه يساعد هنا على هذا الافتراض؛ فإنّ الآية اللاحقة فوراً والتي تكمل الحديث عن هذا الموضوع تقول: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾(لقمان: 7)، حيث قد يُستوحي من هذا الترتيب أنّ الحديث مع ظاهرة شخص لا يؤمن بالقرآن ولا يستمع لتلاوته، ويريد صرف الناس عن أساس المشروع النبوي التوحيدي.

ومع ذلك قد يقال: لا مانع من القول بإطلاق النصّ؛ ليكون الصدّ الكلّي عن سبيل الله أبرز مصاديقه وأجلاها.

سادساً: ورد في الآية الكريمة تعبير شراء لهو الحديث، إلا أنّه لا يبعد التعميم لمطلق الحصول على لهو الحديث بغاية الإضلال ولو لم يكن بمعنى الشراء والبيع، بل لا يبعد أن يكون الشراء بمعنى عام وأبرز مصاديقه الشراء المالي، ويعني مقابلة شيئين بمعاوضة، بحيث يعني الحصول على الشيء، ونكتة الغاية في الآية تسمح لوحدها بالتعميم.

ونتيجة الكلام حول هذه الآية الكريمة أنّها تُصدر حكماً تحريمياً عقابياً أخروياً بحقّ كلّ شخص يسعى لتوظيف أيّ حديث لهوي وعبثي وباطل في صراط إضلال الناس ـ عن هوى وأمثاله ـ عن سبيل الله واتخاذ هذه السبيل هزواً. وأما ما هو أوسع من ذلك، فلا تشمله الآية حسب الظاهر.

وعليه، فلا معنى لإقحام هذه الآية في بحث حكم كتب الضلال، من حيث الحفظ أو نحو ذلك بصرف النظر عن قصد الإضلال، كما لا علاقة لها بحظر حرّية الإعلام الفكري والثقافي، لأنّها تتحدّث عن الفاعل لا عن موقفنا تجاهه.

1ـ 2ـ آية اجتناب قول الزور، مناقشة فرضية الصلة بالإعلام الثقافي

الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (الحج: 30)، حيث فُهم منها تحريم كتب الضلال([9]).

إلا أنّ الاستدلال بهذه الآية الكريمة يواجه مشاكل:

المشكلة الأولى: إنّ ظاهر اجتناب قول الزور هو عدم تقوّله، فأنت تقول: اجتنب شهادة الزور، واجتنب قول الكذب، واجتنب الخيانة، واجتنب الكلام الهزل.. ويفهم منه أنّني أطلب منك عدم قيامك به، لا عدم استماعه أو عدم رؤيته أو عدم نقله للآخرين أو منع الآخرين من قوله وما شابه ذلك، فهذا هو المقدار المتيقّن من دلالة هذا النصّ. ولا يفهم العرف من اجتناب قول الزور حرمةَ سماع شهادة الزور في المحكمة، فهذا المعنى يحوي قدراً من التكلّف؛ لأنّ اجتناب كلّ شيء بحسبه، والعرف يفهم من اجتناب قول الزور تركه.

ولهذا ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد من قول الزور هنا هو تلبية أهل الجاهلية والتي تعدّ شركاً، حيث كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك([10]).

المشكلة الثانية: إنّ سياق الآيات الكريمة هنا يساعد على ما افترضناه من تفسير لها، فالآية تقع في سياق آيات الحج، ولو لاحظناها بأكملها ثم لاحظنا الآية اللاحقة لها المرتبطة ـ إعرابياً ـ بها سنجد ما يلي:

قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ (الحج: 30 ـ 31).

وهذا يعني أنّ الآية تأمر ـ في سياق سلسلة من آيات الحج ـ باجتناب الأوثان وقول الزور، والعرب كانت تلطّخ دم الذبيحة بالأوثان، وتُطلق التلبية الشركيّة وغيرها، ولهذا لاحظنا أنّ الآية اللاحقة قالت: ﴿حُنَفَاء لِلَّهِ﴾، نصباً على الحال، أي اجتنبوا الأوثان وقول الزور حال كونكم حنفاء لله غير مشركين به، وهذا يعطي أنّ المراد هو شيء متصل بالشرك، فيتعزّز احتمال أنّ المراد بهذه الآية النهي عن الظواهر الشركيّة في الحج، وإصلاحّ الحج دينياً.

وبناءً عليه، فإذا أراد المفسّر أو الفقيه تخطّي هذا السياق، ليأخذ كلمة: (قول الزور) لوحدها بوصفها قاعدة عامة والحجّ أحد مصاديقها، إذا أمكنه ذلك لم يمكنه إلا أن يجعل النهي عن ارتكاب قول الزور مثل الغناء أو الكذب أو الشهادة الباطلة أو الفكر الضالّ أو القول الضالّ الباطل.. أما توسعة المورد لحالة ما إذا لم يكن الشخص هو قائل الزور، فهذه تعدية مبالغٌ بها لا يمكن من النصّ أخذها ضمن هذا الترتيب، فالآية تنهى عن قول الزور وقول الضلال، أمّا قراءته وحفظه وعدم منعه وغير ذلك فهذا ليس بقول، كما أنّ من يقول الزور بظنّ أنّه الحقّ لا يكون مشمولاً لهذا النصّ على مستوى المؤاخذة وتحمّل المسؤوليّة؛ لأنّ المفروض أنّه يراه حقّاً، فلا يرى أنّ الآية تخاطبه أساساً، بل يكون معذوراً حينئذٍ شرط عدم التقصير.

فغاية ما تفيد الآية ـ لو عمّمناها ـ حرمة قول الضلال، بأن يقول الشخص الضلالَ، ويتبنّاه ويدعو إليه، أما نشر ما قاله الآخر من ضلال أو نقله أو حفظه في كتب أو السماح للآخر أن يقول، فهذه كلّها لا علاقة للآية بها إطلاقاً.

المشكلة الثالثة: لو أخذنا بالتفسير الإطلاقي المدّعى للآية الكريمة، لزم الإفتاء بما لا يقبل به المستدلّ نفسه، فإطلاق الاجتناب يستدعي حرمة سماع الضلال والكذب وشهادة الزور، وحتى الحوار مع الكافرين والضالّين وأمثالهم، بل عندما يفسَّر الزور بمطلق الباطل ـ كما اُريد ـ يلزم أنّ ما يراه المفسّر أو الفقيه باطلاً عند مفسّرٍ أو فقيه آخر، أن يتجنّبه تماماً، وهل يلتزم أحدٌ بمثل ذلك؟!

فالإنصاف أنّ هذه الآية القرآنيّة لا علاقة لها بموضع بحثنا، إلا بالمقدار الذي أشرنا إليه، وهو حرمة أن يقول الإنسان الضلال ويختاره ويسير معه ويدافع عنه ويقوم بتقويته، وهذه الحرمة لا تنجّز فيها إلا بعد فرض علمه بكونه ضلالاً، لا مطلقاً، وهذا المقدار من واضحات الشرع، ولا يحتاج للاستدلال عليه إلى آيةٍ بعينها، وأمّا موقف الآخرين من الضلال ونشره، فهو ما لا علاقة للآية الكريمة به.

1ـ 3ـ آية افتراء الكذب على الله، مطالعة نقديّة في محاولة المحقّق النجفي

الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا﴾ (النساء: 50).

استند المحقّق النجفي إلى هذه الآية الكريمة هنا([11])، ويفترض على هذا المنوال أن تندرج سائر الآيات المتصلة بالافتراء على الله تعالى في موضوع بحثنا.

لكنّ محاولة المحقّق النجفي هنا غير واضحة أبداً؛ فالآية أجنبية تماماً عن موضوع بحثنا، فهي ناظرة الى الكذب على الله والتقوّل عليه وإضلال الناس بذلك، وأيّ ربط بين هذا وبين الأبعاد القانونية لظاهرة الإعلام الفكري والثقافي أو كتب الضلال؟! فغاية ما تفيده هو حرمة الكذب على الله سبحانه، وادّعاء أشياء لم يقلها تعالى، وإضلال الآخرين عبر اختلاق أمور تُنسب إلى الله كذباً وزوراً وافتراءً، وهذا واضح جلّي بلا حاجة لاثباته بمثل هذه الآية الكريمة، وأين هذا من منح التيارات الفكريّة الدينية حقّها في الاجتهاد والإعراب عنه، وتداول الوسائل الإعلاميّة لهذا الأمر وغير ذلك؟

1ـ 4ـ  آية تدوين الكتب المختَلَقة على الله، نقد الاستدلال وتفنيد المقاربة

الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ (البقرة: 79).

استند الشيخ النجفي هنا أيضاً إلى هذه الآية الكريمة([12]) دون بيان واضح.

فغاية ما تفيده هذه الآية هو حرمة أن يكتب الإنسان ما هو كذب على الله، فتفيد في حرمة نسبة شيء إليه تعالى كذباً وافتراءً، ليأخذ مقابل ذلك المال، كما أنّ الآية تشير إلى أنّ هؤلاء يعرفون كذبهم على الله وأنّهم كانوا يفعلون ذلك مقابل ثمنٍ قليل، فلا تشمل المخطئ أو نحوه ممّن قد ينسب شيئاً إلى الله تعالى وهو لا يعلم ذلك، ويكون معذوراً في اجتهاده الكلامي أو الفقهي أو الفلسفي، وهذا واضح.

1ـ 5ـ آية النهي عن التعاون على الإثم، وقفة تحليليّة وتقويميّة

الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (المائدة: 2).

هذه الآية قد تشكّل دليلاً على مثل حرمة التعاون أو الإعانة على طباعة كتب أو نشريّات الضلال، وكذلك توزيعها ونشرها وبثها في وسائل الإعلام، وكذلك شراءها أو الدعاية لها وتعريف الناس بها وغير ذلك مما يعدّ إعانةً لهذه الإصدارات والأفكار على الحضور والقوّة ونحو ذلك، فيكون ذلك كلّه محرّماً([13]).

ولا نريد هنا الدخول في بحث ما عَبّر عنه بعضهم بقاعدة «حرمة الإعانة على الإثم»، والتي رفضها جملة من العلماء، لكن ما نريد التأكيد عليه هو الجانب الصغروي والمصداقي للموضوع من جهة، ومساحات دلالة الآية من جهة ثانية:

1 ـ أما مساحات الدلالة، فغاية ما تدلّ عليه هو حرمة الإعانة، لكنّها لا تدلّ على لزوم الوقوف قهراً وقسراً وبالقوّة في وجه انتشار أفكار الضلال، بمعنى هي لا تدلّ على أيّ حكم بشأن مصادرة أو إغلاق مراكز أو كتب الضلال ونشريّاته وإعلامه؛ لأن عدم المصادرة ليس إعانة عرفاً؛ لأنّ الإعانة مفهوم إيجابي.

كما وليس في الآية أيّ بيان لجرم يعاقب عليه صاحبه، فلا يمكن بها إثبات مشروعيّة الحدّ من الحريات عندما يقوم الآخر بترويج وإنتاج الضلال، غايته تطالب بعدم مساعدته، وهذا مفهوم مختلف عن مفهوم عدم الوقوف بوجهه.

بل حتى الردّ العلمي والسلمي عليه لا علاقة للآية الكريمة به إلا بعد إثبات أنه برّ وتقوى فيثبت لزومه بالآية.

2 ـ وأما البعد الصغروي في الآية الكريمة، فيمكن القول فيه: إنّ ظاهرة انتشار الأفكار الضالّة والمنحرفة أو نشرها لم تعد له صورة واحدة، بل له على أرض الواقع صور وحالات كثيرة أشير الى بعضها، وسوف تتضح فكرتنا هذه في نهاية هذا البحث إن شاء الله تعالى.

الصورة الأولى: أن يكون نشر أو توزيع أو شراء أو.. يوجب واقعاً ضعف الإيمان وتراجع الحالة الإيمانية، ومن الواضح هنا هو الحرمة.

الصورة الثانية: أن يكون ذلك موجباً لها، لكنّه واقعٌ على أيّة حال، سواء صدر منّي أم صدر من غيري، ونختار النشر معتمدين طريقةً تخفّف من نشره الموجب للضعف تماماً، بمعنى أنّ هنا حالتين: حالة نشر الغير له، وفيها درجة من الإضعاف للدين، وحالة نشري له بطريقة خاصّة توجب درجةً أضعف من الإضعاف للدين، وفي هذه الحال لا يحرز ـ عقلائياً ـ وجود حرمة فعليّة، إن لم نحرز حُسنه وندّعي ضرورته. فهذا تماماً كأن نقوم بتأسيس نوادٍ رياضية نعلم بأنّه سيقع فيها الحرام وتوجب بعض الحرام، لكنّنا نقوم بذلك للحيلولة دون ذهاب الشباب ناحية الإدمان على المخدّرات، فلا يكون فعلي هذا حراماً، بل قد يكون واجباً.

إنّ السياسات الثقافيّة على مستوى الدول أو المجتمعات تلاحظ هذا الأمر بالضرورة؛ لأنّ غياب الفكر الآخر ـ ولو كان ضالاً ـ غياباً تاماً، مع علمي بعدم قدرتي على تغييبه، قد تكون له انعكاسات سلبية أعظم أحياناً، وسيأتي بعون الله مزيد توضيح.

والفقهاء يقبلون بمبدأ التمييز بين الصور والحالات بالطريقة التي أقولها هنا؛ لأنّهم ومنذ العصر الأوّل يقبلون أن نذكر شبهات الخصم ثم نجيب عليها، مع أنّ ذلك نشرٌ لها شئنا أم أبينا، ولكنّهم لمّا أردفوها بالنقد اعتبروا أنّ هذا النشر لا يصدق عليه عنوان الإعانة على الإثم، ومن ثمّ فليس كلّ نشر أو توزيع أو ترخيص هو حرام، إنّما الخلاف يصبح مصداقياً تابعاً لطبيعة رؤية الفقيه لمصالح الواقع وتوازناته.

والحاصل: إنّ الآية غاية ما تفيد هو إثبات حرمة بعض الموارد في الجملة. علماً أنّ الآية واردة في الإثم والعدوان، فلا يكون لها ظهور في حالات الاختلاف الاجتهاديّ حتى في القضايا الفلسفيّة والكلامية، عندما لا ينطلق هذا الاختلاف من بُعد ذاتي وأناني وعدواني، فلو صنّف بعضهم كتاباً فلسفياً وبحث بطريقة علميّة صرفة مسألة وحدة الوجود، فحتى لو كانت النتيجة خاطئة من وجهة نظرنا، لا يُفهم من الآية حرمة طبع كتابه؛ لعدم إحراز عنوان الإثم والعدوان في فعله حتى يكون فعلنا إعانة على الإثم والعدوان، فمفهوم الإثم والعدوان مغايرٌ عرفاً لمفهوم الحقّ والخطأ والصواب والباطل وغير ذلك فليلاحظ.

ونتيجة البحث في المستند القرآني، أنّ القرآن الكريم لا يتعرّض لهذا الموضوع إطلاقاً، ولا يتحدّث عن الأبعاد القانونيّة في التعامل مع ظاهرة الإعلام الفكري والثقافي، وأنّ الآيات القرآنية التي استند إليها بعض الفقهاء هنا، ذات دلالات بعيدة، فليس في النص القرآني أيّ بلورة قانونيّة واضحة تحكي مباشرةً أو بطريقة شبه مباشرة عن قضيّة الحريات الفكريّة والثقافيّة، كلّ ما يعالجه النصّ القرآني هو:

أ ـ تحريم أن يُنتج الانسان الضلال والباطل وهو ملتفت له، أو يدافع عن الباطل بلا بيّنة، وكلّ نشاط ينطلق فيه الإنسان بغاية دعم الضلال والانحراف عالماً به فهو غير شرعي ومنبوذ قرآنياً.

ب ـ إنّ الإطار القرآني لموضوع الضلال يصعب تعميمه لظاهرة الاختلاف في الاجتهادات الكلاميّة بين المسلمين، فضلاً عن الاجتهادات التفسيرية والحديثية والفقهيّة إذا لم يكن الأمر عدوانياً ويكون الإنسان فيه عالماً بالباطل ومعانداً، ففي هذه الحال يحرم عليه ذلك.

ج ـ إنّ القرآن لا يعطينا أيّ وظيفة تجاه الفكر الضالّ عدا السعي لإبطاله وهداية الناس إلى الحقّ، وعدم إعانة صاحب هذا الفكر إذا كان عدوانيّاً في مقولاته، مع علمك بكونه ضالاً، وكون إعانتك له إعانةً موجبةً بالفعل لتقويته. أمّا منعه أو إغلاق مراكزه أو مصادرة أعماله، فهذا ما يصعب جداً أخذه من السياق القرآني هنا، فأين نصّ القرآن على مصادرة الأعمال الفكرية الضالّة أو إغلاق المراكز الفكرية الضالّة بالقوّة أو حرق كتب الضلال وإتلافها، أو منع التيارات الضالّة من أن تتحرّك في المجتمع لتُبدي وجهة نظرها؟ كلّ ما قاله هو أنّه توجّه للضالّين أنفسهم والمعاندين والمفترين والمكذّبين والمتقوّلين على الله، وطلب منهم أن يكفّوا عن مسيرتهم هذه، وإلا فإنّ في الآخرة عذاباً سوف ينتظرهم، عندما لا يكونون معذورين، فالقرآن أعطى المؤشر العام، وهو الحذر من الضلال، أمّا التفاصيل القانونيّة فلم يشر إليها إطلاقاً.

هذا، وسوف نشير لاحقاً لفكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وارتباطها بما نحن فيه، وسيظهر ـ بعون الله ـ أنّ أمر القرآن والدين والعقل بهذه الفريضة لا يثبت النتائج التي طرحها أنصار الحظر أو التحفّظ الإعلامي للفكر الضالّ.

2ـ السنّة الشريفة، أو المستند الحديثي

وعلى غرار الاستناد لنصوص الكتاب الكريم، قام بعض الفقهاء بالاستناد إلى نصوص السنّة الشريفة، وهنا تُذكر مجموعة من الروايات التي لابد لنا من رصدها والتأمّل فيها، وأبرزها:

الرواية الأولى: خبر عبد الملك بن أعين، قال: قلت لأبي عبدالله×: إنّي قد ابتليت بهذا العلم، فأريد الحاجة، فإذا نظرت إلى الطالع، ورأيت الطالع الشرّ، جلست ولم أذهب فيها، وإذا رأيت الطالع الخير ذهبت في الحاجة، فقال لي: «تقضي؟»، قلت: نعم، قال: «أحرق كتبك»([14])، وفي دعوات الراوندي أنّ الإمام سأله: «إليك حاجة تُقضى؟»([15]).

والاستدلال بهذه الرواية يقوم على افتراض أنّها دالّة على حرمة حفظ كتب الضلال ولزوم إحراقها وإتلافها، فيُفهم منه بالأولويّة حرمة كلّ أشكال الدعم لها والإبقاء، وحيث لا فرق بين كتب علم التنجيم وغيرها، فيُلتزم بالحكم في كلّ أنواع كتب وإصدارات ونشريات وبرامج الضلال كيفما كانت.

إلا أنّ الاستدلال بهذه الرواية يواجه جملة مشاكل، أبرزها:

أولاً: قد يقال ـ كما احتمله الشيخ الأنصاري ـ بأنّ الأمر بإحراق الكتب لم يكن بنحو الحكم الإلهي المولوي بقدر ما كان إرشاداً لمعالجة المشكلة التي يواجهه عبد الملك بن أعين نفسه الذي وصف نفسه بأنه قد ابتلى بهذا العلم؛ فالأمر بالإحراق هدفه تخليصه من هذا الإبتلاء والمرض بشكل تامّ لا غير، لا أنّه حكم شرعي قائم بنفسه مطلقاً في هذا المجال([16]).

وهذا الفهم للرواية ليس بالبعيد، غايته أنّ تساؤلاً يبقى هنا، وهو لماذا أمره الإمام بإتلاف كتبه، وفي ذلك إتلافٌ لماله، مع أنّه كان بالإمكان أن يأمره ببيعها ولو لمن يثق بأنها لا تضرّه، فالعدول عن حالة حفظ المال إلى حالة إتلافه، يشي بأنّ القضية ليست لمجرّد تخليصه من المشكلة، إذ ذلك يتحقّق ببيع الكتب، فلو لم يكن في أصل وجودها مشكلة لما أمره بالإتلاف. فهذا المقدار لوحده غير كافٍ في ترجيح افتراض الإرشاديّة، ما لم نقل بأنّ أمره بالإحراق نوعٌ من البعد التربوي والنفسي المساعد على الإحساس الذاتي بالخلاص وقطع الارتباط وإحساس التطهّر من هذه الكتب، كما ليس بالبعيد.

ثانياً: ما ذكره الشيخ الأنصاري أيضاً، من أنّ في الرواية استفصالاً، بين حالة القضاء على أساس هذه الكتب وعدمها، فإنّه لما سأله الإمام عن أنّه يقضي أو لا، فأجابه بالإيجاب، حكم بإحراق الكتب. وهذا معناه أنّ الحكم بالإحراق ليس دائميّاً، فعلى تقدير عدم القضاء كان الاحتفاظ بهذه الكتب جائزاً، فلا تُثبت الرواية حكماً كلّياً بحرمة حفظ كتب الضلال([17]).

وهذه الملاحظة جديرة، فإنّ كتب الضلال لا مانع من وجودها وبقائها في حدّ نفسه ما لم يترتب عليها الأثر الفاسد منها، فلو كان في وجودها ونشرها وتداولها ترتيب الأثر الفاسد منها، وهو الإضلال، كان ذلك حراماً، لا مطلقاً. وإلا فلو كان يجب حرقها مطلقاً لما كان هناك داعٍ للسؤال من طرف الإمام.

ثالثاً: إنّ سند هذه الرواية فيه محمد بن علي ماجيلويه (ابن الأخ)، ولم تثبت وثاقته عندنا، كما أنّ فيه محمد بن خالد البرقي ولم تثبت وثاقته عندنا أيضاً([18])، فلم يصحّ سند هذه الرواية التي تفرّد الشيخ الصدوق بنقلها، وفاقاً للسيد الخوئي.

الرواية الثانية: صحيحة أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر× قال: «من علّم باب هدى فله مثل أجر من عمل به ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئاً، ومن علّم باب ضلال، كان عليه مثل أوزار من عمل به، ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً»([19]).

وقد روي هذا الخبر بعينه ـ مع اختلافٍ يسير ـ عن الإمام نفسه بطريق محمد بن مسلم في محاسن البرقي([20]). وقد استدلّ بهذا الخبر المحقّق النراقي([21])، على موضوع كتب الضلال.

لكن قد يناقش الحديث من جهات:

أولاً: إنّ غايته حرمة تعليم الضلال، لكنّه لا يفيد مصادرة كتب الضلال أو منع أصحابها من أن تكون لهم حريّتهم في القول، كما لا تفيد حرمة حفظ كتب الضلال ونحو ذلك.

ثانياً: إنّ المفهوم من هذا الحديث هو تعليم السلوك إلى الضلال والهدى كما أفاده بعض محشّي الكافي([22])، فتختصّ بحالة ذلك الذي يضلّ الناس بفتح باب ضلال لهم، لا الذي يضلّ في قضيّة معينة، فالإضلال على نوعين: جزئي موردي، وهذا لا تحكي عنه الرواية، وكلّي مفتاحي، وهو الذي تتكلّم عنه الرواية، بحيث يكون الإضلال باباً لسلسلة ضلالات، فإنّ الثاني هو المنهيّ عنه، فتكون كحال تأسيس اتجاه ضلالي وتعليمه، ليجرّ إلى سلسلةٍ من الانحرافات.

وعليه، فالمستفاد من هذه الرواية حرمة أن يعلّم الإنسان الضلال، فيضلّ الناس عن الحقّ، ولابد من فرض عدم خصوصيّة في التعليم، بحيث يكون المعنى أنّه من أوصل باب الضلال إلى الناس بحيث عملوا به وهو يعلم أنّه ضلال حرُم عليه ذلك، نعم لو لم يكن يعلم كان معذوراً، كما هي الحال في اختلافات المجتهدين في العلوم الإسلامية.

كما ومنه يُعلم أنّ التعليم أو الإيصال غير المفضي إلى فتح باب ضلال الآخرين كالتعليم بهدف المعرفة أو للنقد، مع عدم وجود خطورة في البين، ليس فيه أيّ مشكلة.

الرواية الثالثة: مرسلة الحراني، عن الصادق×، وهي الرواية الطويلة التي صدّر بها الشيخ الأنصاري كتاب المكاسب، حيث جاء فيها النصّ التالي ـ في جملة المحرّمات في التجارات ـ: «.. وكلّ منهي عنه مما يتقرّب به لغير الله أو يقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي أو باب من الأبواب يقوى فيه باب من أبواب الضلالة، أو بابٌ من أبواب الباطل، أو باب يوهن به الحقّ، فهو حرام محرّم، حرام بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلّب فيه، إلا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك»([23]).

حيث استدلّ به بعض الفقهاء([24])، واعتبره الشيخ المطهري مفيداً لنفس دليل العقل بقلع مادة الفساد، لا أنه يشتمل على فكرة إضافيّة([25]).

ويمكن النقاش هنا:

اولاً: إنّ الرواية مرسلة، بل لاسند لها أساساً، وكلّ وجوه تقويتها تمّت مناقشتها عند متأخّري المتأخرين فلا نطيل، فلا يعتدّ بها لوحدها.

قال المحقّق الإيرواني: «هذه الرواية مخدوشة بالإرسال، وعدم اعتناء أصحاب الجوامع بنقلها، مع بُعد عدم اطّلاعهم عليها، مع ما هي عليه في متنها من القلق والاضطراب، وقد أشبهت في التشقيق والتقسيم كتب المصنّفين، فالاعتماد عليها ـ ما لم يعتضد بمعاضد خارجي ـ مشكل»([26]).

ثانياً: إنّ الرواية تجيز ذلك كلّه عند الضرورة، وفكرة الضرورة في الحياة الثقافية والفكريّة العامة يختلف تطبيقها عن فكرة الضرورة في الحياة الفردية، ومن ثم يحتاج الأمر لحساب المصالح والمفاسد العامّة على هذا الصعيد، وهو ما سوف نتعرّض له لاحقاً بعون الله تعالى.

ومن هنا، قَبِل المحقّق النراقي بهذه الكتب عندما يُحتاج إليها لغرض رفع المستوى العلمي وتحصيل البحث والمناظرة وامتلاك البصيرة بالاطلاع على الآراء والمذاهب وغير ذلك([27])، مما يعدّ عندهم مصداقاً لمصلحة مجوّزة، فلو استطعنا بيان مصاديق أخرى لمصالح مجوّزة كان حكمها حكم هذه الموارد التي عيّنها الفقهاء.

فالمحقّق النجفي جعل استثناء حالة نقض هذه الكتب مشروعاً، انطلاقاً من أنّ نقضها إتلافٌ لها كلّها، والذي هو أولى من إتلاف واحدٍ منها([28]). إنّ هذا الفهم (المصلحي) من صاحب الجواهر صحيح تماماً، غايته أنّه لابد لنا في عصرنا هذا من اكتشاف الطرق التي تصلح أن تكون ـ ولو كانت في ظاهرها ترخيصاً بنشر الضلال ـ أفْعَلَ في الحدّ منه، وهذه الطرق لا نصّ على اختصاصها بالنقض، بل هي اجتهادات بشريّة قد تتغيّر تبعاً لتغيّر الزمان والمكان والظرف والحال.

الرواية الرابعة: ما نقله العلامة الحلّي، حيث قال: خرج رسول الله‘ يوماً من داره، فوجد في يد عمر صحيفة، فقال: «ما هي؟» فقال: من التوراة. فغضب عليه ورماها من يده، وقال: «لو كان موسى أو عيسى حييّن لما وسعهما إلا اتّباعي»([29]).

وقد نقل العلامة الحلّي الروايةَ نفسها في كتابٍ آخر له، ذاكراً أنّ الذي خرج هو علي×([30]). وهذه الرواية موجود ذيلها الذي هو قول النبي في الآخر، في كتاب تفسير القرآن العظيم لابن كثير، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، بلا أيّ إشارة للأمر بالإلقاء([31])، كما عثرنا على هذه الرواية عند أبي طالب المكّي (386هـ) في قوت القلوب([32]) منقولةً بنفس طريقة نقل ابن كثير لها.

ولكن بالتفتيش عن أصل هذا الخبر، يظهر وجوده في مصادر الفقه السنّي أيضاً، فقد نقله النووي في المجموع وغيره، وأضافوا كلمات أخرى للرسول يخاطب بها عمر بن الخطاب، من مثل قوله له: «أفي شكّ أنت يا ابن الخطاب؟» أو قوله: «أمتهوّكون أنتم؟»، أو قوله: «ألم آتَ بها بيضاء نقيّة؟»([33]).

وقد خرّج علماء الحديث من أهل السنّة هذا الخبر الذي نقلوا وجوده في مصادر الحديث عندهم كمسند أحمد، وسنن الدارمي، والسنّة لابن أبي عاصم، وذمّ الكلام للهروي، والمنتقى للضياء المقدسي([34]).

وللحديث أكثر من طريق وكلّها محلّ نظرٍ سنديّ، وقد حقّقها ابن حجر في فتح الباري، والألباني في إرواء الغليل([35])، وهي مختلفة في تفاصيل القصّة، وفي اسم الشخص الذي نهره النبيّ أو عاتبه ونحو ذلك.

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث أنّ الرسول أمر بإلقاء هذه الكتب، وذلك لأجل خصوصيّة الإضلال، فيكون حفظها حراماً، وإلقاؤها وطرحها واجباً.

وقد تناقش الرواية:

أولاً: بعدم وجودها أساساً عند الشيعة الإماميّة، فلا سند لها، ولم تظهر إلا في كلمات العلامة الحلي (725هـ) في الكتب الفقهيّة، وهذا ما يؤكّد أنّ مصادرها وطرقها سنيّةٌ بامتياز.

وإذا رجعنا إلى أسانيدها السنّية، رأينا أنّها تحوي ضعافاً أو من الذين طُعن فيهم وغُمزوا بطريقةٍ أو بأخرى، مثل مجالد، وعبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، والقاسم بن محمد الأسدي. كما ورد الحديث في عدد من المصادر منقطعاً أو معضلاً. ودعوى تعاضد طرقه التي تقارب الأربعة غير نافعة، بعد الاختلاف في المتن، كيف وبعض الروايات تحكي القصّة عن حفصة، ولا علاقة لعمر بها، فهي حادثةٌ أخرى، فلا يكون الحديث المرويّ حول قصة حفصة ممّا يعتضد به الحديث المرويّ عن قصة عمر بن الخطاب؛ لبُعد احتمال وحدة القصّة وحصول سهو واشتباه في الاسم إلى هذا الحدّ. فإثبات هذا الحديث سنديّاً مشكلٌ.

ثانياً: إنّ كلّ سياقات هذا الحديث بصيغه المتعدّدة توحي بخوف النبي‘ من ضلالهم بعد مجيء هذه الكتب إليهم، وهم حديثو عهد بالإسلام، فيكون المورد خاصّاً بحالة خوف تحقّق الضلال من وجود هذه الكتب بين أظهرهم، بل قد يكون حكماً ولائيّاً.

ثالثاً: إنّ بعض الروايات الناقلة لهذه القصّة، غاية ما فيها أنّ النبي حذّرهم من هذه الكتب، ودعاهم إلى عدم الشك، وليس فيها أيّ أمر بإتلافها أو إحراقها، فلم يصدر من النبي موقفٌ قانوني إزاء وجود هذه الكتب، غاية ما قال هو أنّكم لو تركتموني ضللتم، وأنني أتيتكم بها بيضاء نقيّة، وإيّاكم والشك، وإنّني اُوتيت جوامع الكلم ونحو ذلك من التعابير، فهذه دعوةٌ لنفسه وترك غيره، وهي لا تفيد حرمة كتب الضلال أو لزوم إتلافها ومصادرتها، بوصف ذلك عنواناً مستقلّاً في الشريعة الإسلاميّة.

رابعاً: إنّ المقدار المستفاد من هذه القصّة هو خوف حصول الضلال بالخروج عن الإسلام والتحوّل نحو اليهودية أو النصرانيّة، فلا يمكن من هذه الحادثة القول بحرمة حفظ مختلف كتب الضلال حتى التي لا توجب خروجاً عن أصل الإسلام نحو دينٍ آخر. وقد رأينا كيف أنّ الأمر بإحراق الكتب كان لجهة الخوف من الشرك والكفر في موضوع النجوم، كذلك الحال في النصوص القرآنيّة التي تقدّمت إذ هذا هو القدر المتيقّن منها ذلك، فإثبات التعميم لكلّ ما يعتبر بدعةً أو ضلالاً صعبٌ جدّاً.

ونتيجة البحث في المستند الحديثي، أنّ غاية ما في الباب بضع روايات تبلغ حوالي الأربع فقط، وكلّها ـ عدا واحدة ـ ضعيفة السند، فبناءً على حجيّة الخبر المطمأنّ بصدوره، يصعب تحصيل الاطمئنان بالصدور هنا من مثل الروايات المتقدّمة القليلة، والتي إحداها ـ وهي رواية التحف ـ مهجورة في كتب الحديث، ولا سند لها، فضلاً عما عرفت في البقيّة.

ولو تخطّينا هذا الأمر، فالمقدار المتيقّن من مجموع الروايات هو الدعوة أو الترويج للضلال، بحيث يُخشى حقّاً نتيجة ذلك إضلال الناس عن كلّيات الدين وأساسيّات الإسلام، أما ما هو أزيد من ذلك فمن الصعب الوثوق بصدوره وفقاً لما تقدّم، وأعتقد أنّ النصوص القرآنيّة ـ على فرض دلالتها ـ تُعطي هذا المقدار أيضاً، ولهذا ذكر المطهري أنه لو تركنا فكرة الإضلال نفسها فلا دليل من كتابٍ أو سنّة على حكمٍ هنا([36]).

مؤشّر عكسي في التراث الروائي

على أنّ هنا ملاحظة أخرى، وهي أنّ أتباع مدرسة أهل البيت^ عاشوا لثلاثة قرون مع سائر المذاهب الإسلاميّة الأخرى، وشهدوا عصر الترجمات وظهور التيارات والمقالات وتعدّد المصنّفات والاتجاهات، وقد كانت كتب المذاهب موجودة منتشرة، ومع ذلك لم نجد أسئلةً حقيقيّة تتعلّق بإمكانيّة شرائها أو استنساخها أو اقتنائها أو لزوم إتلافها أو مصادرتها وسرقتها لإتلافها ونحو ذلك، ولم يبيّن في أيّ نصّ لزوم سجن أو حبس مروّجي الضلال بصفتهم هذه، بل الذي وجدناه في سيرة الأئمّة هو الاحتجاجات والدعوات للمناظرات حتى في العصر العلوي وزمن الحكم الذي عاشه الإمام عليّ والإمام الحسن عليهما السلام، والتحذير من التأثر بضلالات الآخرين، ولم نسمع يوماً من الإمام الرضا× دعوةً أو فكرة تدور حول حظر أو التضييق ولو على بعض المذاهب الأخرى (على الأقلّ الضعيفة منها) التي كانت تطرح نفسها علناً في بلاط الخليفة العباسي، وأنه كان المفترض حظر هذه الظواهر، ومنعهم من اجتهاداتهم التي هي في غالبها اجتهادات كلاميّة وأصوليّة وفقهيّة جذريّة. ولم نسمع بنصّ ذي أهميّة يرفض فيه الأئمّة حركة الترجمة من اللغات العالميّة إلى اللغة العربيّة في مجال الفكر الفلسفي وغيره، ولا أنّهم أدانوا السلطة على سماحها بذلك، رغم وجود احتمال في أن يكون ذلك عمديّاً من السلطة بهدف تضعيف موقع التيارات العلويّة ومدرسة أهل البيت، كما يراه بعض الباحثين المعاصرين([37]).

كما أنّ بعض الروايات المعروفة التي تتّصل بكتب بعض الشيعة الذين خرجوا عن المذهب الإثني عشري، كبني فضال، توحي بأنّ الإبقاء على هذه الكتب ليس محرّماً، وإنّما على المؤمن أن يأخذ برواياتهم، وأن يترك أفكارهم ولا يعتقد بها، ولا يعمل بمضمونها، ولم تقل هذه المرويّات بأنّ المطلوب هو إتلاف هذه الكتب وإعدام وجودها حتى من بيوت الشيعة.

إنّ فقدان النصوص في هذا المجال، وفقدان أيّ إجراء مضادّ ضدّ من يطرح فكرةً أخرى ـ كالخوارج في العصر العلوي ـ وفقدان الأسئلة والأجوبة حول هذه الموضوعات، وكذلك عدم السماع عن النبيّ محمّد أنّه أحرق أو أتلف كتب اليهود أو النصارى أو غيرهم عندما كان يتغلّب عليهم.. هذا كلّه يؤكّد ـ مع فقدان النصّ القرآني، وفقدان نصوص تتعلّق بهذا الموضوع حول سياسة الإمام المهدي عندما يبسط يده ـ يؤكّد أنّ المعيار هو عدم إضلال الإنسان للآخرين، وعدم الترويج للضلال عن أساسيّات الدين، أمّا سائر التفاصيل، كالمنع والحظر والإتلاف وحرمة الإبقاء على كتب الضلال ونحو ذلك، فلا يلمسها الإنسان من مراجعة الكتاب والسنّة في هذا السياق.

وهذا كلّه يربك الإنسان ويعيقه عن تحصيل الوثوق والبيّنة بوجود حكم شرعي أوّلي في الإسلام يتصل بالتعامل مع التراث العلمي والثقافي الباطل بطريقة المصادرة أو المنع أو الإحراق أو غير ذلك، كلّ ما هنالك أنّه يوجد مبدأ عدم إضلال الناس، وفي المقابل مبدأ السعي لهدايتهم، أمّا الإجراءات القانونيّة لتفعيل هذين المبدأين، فهي غير واردة في النصوص المعتمدة، فيُرجع فيها للعقل البشري في تشخيص المصالح والمفاسد الزمنيّة والظرفيّة، كما سنوضح ذلك إن شاء الله، ولعلّ ثقافة القمع هذه جاءت من الإرث المظلم للدول التي مرّت على تاريخ المسلمين وعرفت بالظلم والقمع والقهر وكمّ الأفواه وغير ذلك، ككثير من حقب الدولة الأمويّة والعباسيّة وغيرهما، والله العالم.

3 ـ مستند الإجماع الفقهي، أو مرجعيّة التراث

تعرّض بعض الفقهاء لدعوى الإجماع وعدم الخلاف على الحكم بحرمة حفظ كتب الضلال، فضلاً عن الكثير من أنواع التقلّبات الأخرى فيها، كما يظهر بمراجعة كلماتهم([38]).

ولعلّ وجهة النظر الأبرز التي تخرق الإجماع الشيعي في مسألة حفظ كتب الضلال، والظاهر أنّه مِن بعده اُعيد النظر بين المتأخّرين في موضوع الحرمة بعنوانه، هي وجهة نظر الشيخ يوسف البحراني (1186هـ)، حيث ناقش في أصل حرمة حفظ كتب الضلال بقوله: «وعندي في الحكم من أصله توقّف؛ لعدم النصّ، والتحريم والوجوب ونحوهما أحكام شرعيّة، يتوقّف القول بها على الدليل الشرعي، ومجرّد هذه التعليلات الشائعة في كلامهم، لا تصلح عندي لتأسيس الأحكام الشرعيّة»([39]). ثم شنّ نقداً على أصول الفقه بعد ذلك. حتى أنّ كلام المحدّث البحراني هنا عدّه السيد جواد العاملي من مصاديق الضلال على بعض الآراء! حيث قال: «ومن الضلال المحض الذي يجب إتلافه على مذهب الشهيد الثاني، كلامُ صاحب الحدائق في المسألة في آخر عبارته، حيث افترى على أصحابنا وأساطين مذهبنا بأنهم اتبعوا الشافعي في تدوين الأصول استحساناً، وطوّل في ذلك غاية التطويل وملأ القرطاس من الأباطيل..»([40]).

إنّ كلام المحدّث البحراني والسيد العاملي هنا، يمكن أن نستخلص منه:

أولاً: الظاهر أنّ الاستناد إلى النصوص القرآنية والحديثية لإثبات موقفٍ شرعي في مسألة حفظ كتب الضلال لم يكن معهوداً إلى زمن المحدّث البحراني، كما يُستوحى من عبارته، حيث ذكر أنّ وجوههم عبارة عن تعليلات، سيأتي التعرّض لها إن شاء الله.

وهذا الكلام صحيح؛ فإنّ الأدلّة القرآنية والحديثية التي تقدّمت معنا، إنّما عُرفت واشتهرت منذ القرن الثالث عشر الهجري، مع صاحب مفتاح الكرامة وصاحب الجواهر وصاحب المستند، وبعدهم الشيخ الأنصاري الى يومنا هذا، وإلا فغالب من سبق من الفقهاء إما لا يذكر دليلاً أو يستند للإجماع أو لبعض التعليلات القادمة.

ثانياً: من الواضح أنّ النزعة الإخبارية للشيخ البحراني هي التي دفعته لما اختار، بعد فقدان النصوص المباشرة في الموضوع، لكن سيأتي أنّه حتى على مسلك الإخباريين ـ وبصرف النظر عن المناقشات القادمة ـ يمكن جعل بعض الأدلّة القادمة دليلاً، بل إنّ مثل النهي عن الإعانة على الإثم ـ لو فهمناه من الآية القرآنية المتقدّمة ـ يصحّ استدلالاً نصّياً في المقام، حتى على مباني الإخباريين، بصرف النظر عن المناقشات السابقة.

ثالثاً: إنّ نصّ السيد العاملي يشير إلى سلبية الذهنية التي حملها بعض الفقهاء عبر التاريخ تجاه التيارات التي كانت تختلف معهم اختلافاً جذرياً، ولهذا من المنطقي اعتبار جملة من كتب (أو نصوص داخل كتب) فقهاء أو مفسّرين أو فلاسفة أو محدّثين أو غيرهم، اعتبارها كتب ضلال أو نصوص ضلالٍ يجب إتلافها ويحرم حفظها، وفقاً لبعض الذهنيات، فإذا كان اتهام بعض علماء الإماميّة المتقدّمين بأنّهم أخذوا علم أصول الفقه من السنّة.. ضلالاً، وكأنّ العلماء أئمّة معصومون يوجب التعرّض لهم هتكَ حرمة الدين، فإنّ مفهوم الضلال ـ على هذا ـ سوف يكون في سعة عظيمة.

وعلى أيّة حال، فالاستناد للإجماع هنا لا قيمة له من ناحية وضوح مدركيّته في الذهن الفقهي، فإنّ مستنده إن لم يكن ما تقدّم من نصوص الكتاب والسنّة، فهو ما سيأتي من الوجوه والأدلّة المركوزة في الذهن الفقهي كما سوف نلاحظ.

هذا إذا أحرزنا وجود إجماع في المسألة([41])، وصرفنا النظر عن مناقشة جملة من المتأخّرين للموضوع منذ عصر الشيخ البحراني. على أنّه لو تمّ الإجماع فإنّ القدر المتيقّن منه هو حالة خوف حصول الضلال للناس بلا مصلحة أهمّ أو ضرورة وقتيّة.

4 ـ المستند العقلي والاعتباري، وقفات تفكيك وتأمّل

ذُكرت في هذا السياق هنا مجموعة من الأدلّة التي قد تكون عقليةً أو اعتباريّة، ولابدّ من المرور عليها والنظر فيها وفي مساحتها، بل إنّ بعض الفقهاء ـ مثل السيد أحمد الخوانساري([42]) ـ اعتبر أنّ أهمّ الأدلّة هنا هو حكم العقل.

4 ـ 1 ـ حكم العقل بلزوم قلع مادّة الفساد، وقفة ومناقشات

الدليل الأول: حكم العقل بلزوم قلع مادّة الفساد([43]).

ويتألّف هذا الدليل من مقدّمتين:

المقدّمة الأولى: إنّ كتب الضلال تمثل مادّة فساد؛ إذ إنها تفضي إلى تضليل المجتمع.

المقدّمة الثانية: إنّ القاعدة العقليّة العامة تقول: يجب قلع واجتثاث مادّة الفساد، ودفع الظلم والانحراف.

وعبر ترتيب هاتين المقدّمتين تظهر النتيجة التالية: إنّ كتب الضلال يجب قلعها ومحوها وإبادة وجودها في المجتمع، ومن ثم فكلّ حفظٍ لها أو نشر أو تعليم أو تعلّم او دعاية أو طباعة أو إعلام أو إعلان أو أيّ شيء آخر يتعلّق بالضلال، كتباً أو نشريات أو صحفاً أو إعلاماً على انواعه.. ينبغي إبادة وجوده قلعاً لمادّة الفساد، والسعي لمنع انعقاده أصلاً بأيّ شكلٍ من الأشكال.

وقد سجّلت اعتراضات هنا، وقد تسجّل، وأهمها ما ذكره السيّد الخوئي من أنّه لو صحّت الكبرى في هذا الدليل العقلي (لزوم قلع مادة الفساد مطلقاً)، للزم عقلاً أن يمنع الله تعالى الفساد تكويناً، ولو بالجبر وسلب القدرة، مع أنّ بناء نظام هذا العالم كان على عكس ذلك، حيث بُني على الحريّة والاختيار. نعم لو اُريد لزوم إطاعته سبحانه وتعالى بقلع مادّة الفساد لكان جيداً، إلا أنّنا لا نملك أمراً إلهياً دالاً على وجوب قلع مادة الفساد إلا في موارد محدودة، مثل كسر الأصنام والصلبان وهياكل العبادة لا غير([44]).

ومثل هذا الاعتراض، بل روحه موجود عند المحقّق الإيرواني، حيث ذكر أنّ قلع مادّة الفساد لو كان حكماً عقلياً عاماً للزم الحكم بوجوب قتل كلّ كافر، بل كلّ مضلّ عن سبيل الله، بل للزم الحكم بوجوب حفظ مال الغير عن التلف وغير ذلك من الموارد التي لا يمكن الالتزام بها([45]).

وقد علّق الشيخ المنتظري هنا بأنّ أحكام العقل على قسمين:

الأول: ما يحكم به بملاحظة المصالح والمفاسد نفس الأمرية، كحكمه بحُسن العدل وقبح الظلم، وهذا النوع من أحكام العقل تجري فيه الملازمة، فيحكم الشرع على وفقه، لتبعيّة الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد.

الثاني: ما يحكم به العقل متأخّراً عن الأوامر الشرعيّة، كحكمه بوجوب إطاعة أوامر المولى سبحانه، وهذا لا معنى لقانون الملازمة فيه؛ لاستلزامه التسلسل وغيره([46]).

وهذا معناه أنّ المستدلّين هنا يفترض أن يلتزموا بكون الحكم العقلي هنا من النوع الأوّل؛ لأنّ قاعدة اللطف ليست مطلقة؛ لعدم جريانها في النوع الثاني، ما لم نقل إنّ مقتضاها هو أن يأمر المولى بقلع مادّة الفساد لا أن يقلع بنفسه مادّة الفساد، فإنّ هذا هو اللطف المتقوّم بعدم الإلجاء، فيثبت الحكم الشرعي هنا دون أن يجري على الله تعالى([47]).

ويمكن هنا التعليق على ما تفضّل به الشيخ المنتظري، وذلك:

أوّلاً: إنّ ما ذكره السيد الخوئي صحيحٌ على القاعدة، لكن بهذه الطريقة؛ لأنه إذا فرض أنّ أصل وجود هذه الكتب ظلمٌ، فكيف أبقاها الله تعالى دون أن يرفعها، فيستكشف من ذلك أنّ أصل الوجود ـ بما هو هو ـ ليس ظلماً، وإنّما يمكن أن يفضي إلى الظلم بتوسّط أفعال العباد، وهنا يقع تنازع المصالح، حيث يرى المولى سبحانه أنّ المصلحة تكمن في خلق الإنسان في محيط يشكّل مزيجاً من الخير والشرّ، ليكون منطق الابتلاء على أساس حريّة الاختيار، فلا توجد هنا أحكام إطلاقيّة بالطريقة التي تعاطى بها الفقهاء في أكثر من موضع، وإنّما توجد بالنسبة إليه سبحانه مصالح متزاحمة في هدف الخلق وغايات الإيجاد ومآلات الوجود والصيرورة الخَلقيّة.

وهذا الكلام لا يختصّ بكتب الضلال، بل يجري في واقع الظلم المحض الذي يمارسه العباد، فكيف لم يرفعه الله تعالى تكويناً وأجاز وجوده خارجاً؟ إنّ هذا كلّه يجرّنا هنا إلى أنّ القانون العام في الفعل الإلهي هو الخير والمصلحة، لكنّ هذه العناوين ليست واضحةً لنا على أرض الواقع؛ لكثرة التزاحمات وغياب قدرة العقل على تشخيص المصالح الممتدّة في الزمان والمكان على مستوى هدف الخلقة، فكون شيء ظلماً بنظرةٍ أوّلية يمكن أن يجعله خيراً بنظرة ثانية للبشرية لا يدركها العقل.

ولهذا، فنحن نوافق المحقّق النراقي([48]) الذي ذهب إلى أنّ مثل قاعدة اللطف التي كانت أحد أعمدة الفهم العقلي للفعل الإلهي عند العدليّة، هي قاعدة صحيحة تامّة، إلا أنّ تعيين مصاديقها أمرٌ مستحيل عملاً؛ نظراً لمحدوديّة الفهم البشري للمصالح البشريّة عبر التاريخ وفي هدفيّة الخلقة، ولعلّه لهذا يُفهم من كلمات بعض علماء العدليّة أنفسهم إنكار قاعدة اللطف أساساً، كما قد يستوحى من الإمام الخميني([49]).

وربما يكون مقصود المنكرين من العدليّة هو عجز هذه القاعدة عن التطبيق بالنسبة للذهن البشري المحدود الإطلاع، فما يترائى أنّه ظلم بعنوانٍ ما قد يكون مصلحةً بعنوان آخر. وبه نعرف أنّ حفظ كتب الضلال من الصعب الالتزام بكونه ظلماً على الإطلاق حتى يجري في حقّ المولى سبحانه وتعالى.

ثانياً: إنّ ما ذكره الشيخ المنتظري من أنّ قاعدة اللطف تفرض الأمر الإلهي بقلع مادّة الفساد، لا أن يقلع اللهُ نفسُه مادّةَ الفساد خارجاً، فيثبت الحكم علينا هنا دونه على الله تعالى، هروباً من محذور الإلجاء.. إنّ كلامه يواجه مشكلةً أيضاً، وهي هل هذا هو الفرد الوحيد لتطبيق قاعدة اللطف على المولى سبحانه دون إلجاء؟

إنّ عدم وجود كتب الضلال ليس سوى أمر طريقي لعدم الضلال خارجاً، فلماذا لم يستخدم الله تعالى قدرته للحيلولة دون تحقّق الضلال خارجاً من دون إلجاء؟ كأن يواصل بعث الرسل ويخلق أمام أعين الناس كلّ يوم المعجزات ويبعث عليهم الرؤى والمنامات الموقظة من الضلالة، ويحقّق القدح للحقّ في عقولهم ولو في النوم عندما تحصل لهم شكوك، بل على نظريّة عدم منافاة العصمة للاختيار لماذا لم يوجدنا معصومين حيث لا جبر حينئذٍ؟!

إنّ هذا كلّه يكشف لنا عن عقم كلّ هذه المقاربات، وعدم صحّة المدخل الذي ولجه بعض العلماء في هذا الموضوع وأمثاله.

ثالثاً: إنّ المقدار الذي نفهمه باليقين وبالعيان هو أنّ الله تعالى قد بنى نظام الحياة الإنسانية على الاختيار التكويني، وهذا معناه بطلان أيّ دليل يزعم شمول الحكم العقلي للمولى سبحانه بطريقة قطعيّة، وإلا لما حصل التخلّف، وعليه فغاية ما يمكننا فهمه هو أنّ الله تعالى لا يرضى بالكفر والضلال، لكنّه مع ذلك لا يمارس قدرته المطلقة في المنع، والشيء المؤكّد أنّه أراد ارتفاع الكفر والضلال، بحيث يعمل البشر على رفعهما من بينهم، أما كيف هي الوسيلة المعيّنة لهم لذلك، فلم توضع وسيلة خاصّة، ولا يوجد إطلاق في الوسائل كما ألمح المحقّق الإيرواني، فنستكشف من هذا كلّه أنّ مواجهة الكفر والضلال واجبة بحكم العقل؛ لأنّهما ظلم، أما كيفية المواجهة فلا حكم مصداقي موحّد للعقل فيها، ولهذا تجد الناشطين الاجتماعيّين والمصلحين الدينيّين وأهل الفكر والنظر في كلّ زمان، يختلفون فيما بينهم في طرائق مواجهة الفكر الخاطئ أو التوجّهات الخاطئة، فبعضهم يرى السماح لها، وبعضهم يقيّد، وبعضهم يحظر مطلقاً، وبعضهم لديه قوانين مختلفة في التفصيل، وهذا كلّه مؤيّد لكون العقل الإنساني لا يرى لزاماً بقول واحد شيئاً اسمه منع وإتلاف كتب الضلال بقول مطلق إلا ما خرج بالدليل. كلّ ما يحكم به العقل هو المواجهة التي تكون مُنتجةً، بحساب الزمان والمكان والظرف والحال، ولا تنافي تشريعاً إلهياً عاماً ثابتاً.

وينتج عن ذلك:

أ ـ مبدأ وجوب دفع الضلال والكفر ورفعهما.

ب ـ اشتراط هذا المبدأ بعدم منافاته في تطبيقاته للشرع أو لأيّ حكم عقلي.

ج ـ مراعاة قانون تزاحم المصالح في تطبيق هذا المبدأ.

وعليه، فلو أراد من يريد تطبيق هذا المبدأ مصادرة كتب الضلال من شخص محترم النفس والمال لم يجز له؛ لأنّ المبدأ مقيّد بعدم استخدام الوسيلة التي يُفرض أنّها مسبقاً من محرّمات الشرع أو مخالفة له، والشرع يمنع عن التصرّف في أموال الآخرين بغير إذن، ولم يرد استثناء لهذا المنع في خصوص كتب الضلال. وهكذا لو أردنا مواجهة الضلال بالقتل أو السجن أو نحو ذلك في حقّ من لا يجوز قتله أو سجنه وهكذا، فلولا المانع الشرعي لجاز ذلك، لكنّ المانع هو الذي قيّد حركتنا.

قد تقول: هذا تخصيص في حكم العقل، وهو لا يجوز، بل هو تقييدٌ شرعي لحكم العقل، وهو خلاف قانون الملازمة، بل فيه منافاة لمبدأ عدم معارضة الشرع للعقل.

والجواب: إنّ ما يحكم به العقل حكماً إطلاقياً غير قابل للتخصيص أو المعارضة ليس سوى الكلّيات العامّة، كمبدأ قبح الظلم وحسن العدل، أما تطبيقات هذه الكلّيات على مواردها الخارجيّة فليس فيه إطلاقيّات، وإلا لحرم الكذب مطلقاً وما خالفه الشرع فأجازه لمصلحة، بناء على أنّ حكم العقل بحرمة الكذب بنحو الحكم التامّ، ولحرم قتل النفس مطلقاً ولو في الجهاد الشرعي..

إنّ هذا كلّه يجعلنا نميّز بين القاعدة الكبرى وبين التجلّيات الميدانية للقاعدة، فإذا أدرك العقل تمام زوايا الحالة الميدانية استطاع تطبيق القاعدة، إلا أنّه في الغالب لا يقدر، فكيف يقدر مع وجود النصوص الدينية التي تشمل بإطلاقاتها وعموماتها هذا المورد، كحرمة إتلاف مال الغير، بل حرمة إتلاف مال النفس تبذيراً واستخفافاً، تماماً كعجزه عن تطبيق القاعدة في مورد الفعل الإلهي كما ذكر المحقّق النراقي.

والمتحصّل: إنّ مواجهة الكفر والضلال واجبةٌ بحكم العقل؛ لأنّ الكفر ظلمٌ، أما أسلوب المواجهة فليس فيه حكم عقلي مبدئي مطلق، بل هو خاضع للقواعد المؤثرة في النصوص ولقانون التزاحم معاً، شرط أخذ المصالح الفردية والنوعية معاً بعين الاعتبار، وبهذا يتم فهم إشكال المحقّق الإيرواني بشكل أفضل.

رابعاً: إنّ كلّ ما تقدّم يُثبت أنّ الكفر والضلال هذا هو حكمهما، أمّا كتب الكفر والضلال فلا يصدق عليها عنوان الظلم إطلاقاً، وإنّما تكون محكومةً بذلك في نظر العقل بملاحظة آثارها، وعليه فلو لم يكن في بقائها محذور، كما لو كانت في مكتبة عالم نقّاد أو كان فيه محذور غايته حصلت المزاحمة بما هو الأهم، فلا يحرز أساساً حكم عقلي هنا بحرمة الحفظ أو وجوب الإتلاف، فتسريتهم البحث من أصل الضلال إلى كتبه وما يعبِّر عنه لم يكن دقيقاً، وإلا لو حكم العقل بحرمة الحفظ حكماً غير قابل للتخصيص، لما جاز الحفظ حتى للنقض والردّ، فيُعلم أنّ الحكم هنا مربوط بالغايات والمآلات والمصالح والمفاسد، لا بنحو إطلاقي منصبّ على العنوان بنفسه.

هذا مضافاً إلى أنّ هذا الدليل لابدّ أن يجري في كلّ مورد وقع فيه خلاف فقهي أو كلامي بين العلماء، وكان أحد الطرفين جازماً ببطلان عقيدة أو فتوى الطرف الآخر، لصدق عنوان الفساد والضلال عليه، ولا أظنّهم يلتزمون بهذا.

وحصيلة الكلام إنّه لم يثبت وجود حكم عقلي قاطع يمكن إحراز تطبيقه المباشر على المورد الذي نحن فيه، يقضي بقلع مادّة الفساد، بمعنى لزوم إتلاف كلّ ضلال، إنّما غايته هو المبدأ، أما التطبيقات فهي خاضعة للمزاحمات الشرعيّة وغيرها.

4 ـ 2 ـ حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، تعليق ونقد

الدليل الثاني: أن يُستند لحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، فإنّه مع ترك كتب الضلال وإعلامه ومنحهم الحريّة.. يُحتمل الضرر، والذي هو تقوية الضلال وإضلال الناس، فيلزم دفعه.

وهذا الدليل قمنا باستخراجه من دليل السيد المرتضى والشيخ ابن إدريس على وجوب الأمر بالمعروف عقلاً([50]).

إلا أنّه يرد عليه أنّه:

أ ـ لو اُريد الضرر الدنيوي على الشخص نفسه، فإنّ غايته إثبات لزوم إتلافه لكتب الضلال التي عنده، إذ إتلافه لما عند غيره فيه أيضاً احتمال الضرر الأخروي بالتصرّف في أموال الغير بغير إذنه، فلا يصحّ إعمال حكم العقل في هذه الحال مع تعارض احتمالي الضرر، ما لم يجر قانون المزاحمة.

وأما إذا أريد الضرر الدنيوي على المجتمع والآخرين بضلالهم من تأثير هذا الإعلام الضالّ والفكر الضالّ، فلا دليل عقلياً يُلزم برفع الضرر عن الآخرين بعنوانه، وإلا لزم على كلّ غنيّ التصدّق دائماً بكلّ أمواله على الفقراء لرفع الضرر اللاحق بهم، وغير ذلك من الحالات..

هذه كلّه لو سُلّم أنّ الضلال هو في الدنيا ضررٌ في حدّ نفسه، لو صرفنا النظر عن الآخرة، إذ قد يقال بأنّه عدم منفعة أو فوات مصلحةٍ فقط.

وافتراض أنّ الضرر الدنيوي المحتمل هو نزول العذاب أو غير ذلك، فإنّ هذا الضرر المحتمل لو اُريد البناء عليه لزم الحكم بحرمة كلّ فعل مشكوك الحرمة ووجوب كلّ فعل مشكوك الوجوب، لاحتمال أنّ فعل الحرام الواقعي له أثر تكويني ضارّ، ولو بنزول العذاب، وهذا ما لا أظنّ أنّه يلتزم به أحدٌ على الإطلاق، بمن في ذلك من قال بالاحتياط من الإخباريين. وهو مثل القول بحرمة التواجد في بلاد غير المسلمين؛ لاحتمال أن ينزل العذاب عليهم فيها نتيجة كفرهم، أو القول بحرمة السكن في البلاد التي تقع على خطّ الزلازل أو قريبة من البراكين؛ لاحتمال وقوع الزلازل أو فوران البركان فيها أو نحو ذلك! فهل مثل هذه الاحتمالات يعمل عليها أو يتمّ تجاهلها عند العقلاء بل حتى المتشرّعة؟

ب ـ أمّا لو اُريد الضرر الأخروي، فهو متفرّع على ورود النهي الشرعي عن حفظ كتب الضلال، والمفروض عدم توفّره كما تقدّم، فيكون المورد مجرى أصالة البراءة الشرعيّة والعقليّة المؤمِّنة، والكاشفة عن عدم ثبوت الضرر الأخروي.

وعليه، فهذا الدليل غير واضح عقلاً بهذا الإطلاق، بل لو صحّ للزم تبنّي بعض المواقف التي يُعلم بعدمها، كما هي الحال في الملاحظة التي أسلفناها عن المحقّق الإيرواني في الدليل المتقدّم.

4 ـ 3 ـ حكم العقل بلزوم دفع المنكر ورفعه، مناقشة نقديّة

الدليل الثالث: الاستناد إلى حكم العقل بلزوم دفع المنكر، وإتلاف كتب الضلال أو ما بحكم الإتلاف دفعٌ للمنكر الذي هو الضلال عن سبيل الله.

ويفترض هذا الدليل ـ كما شرحه الشيخ يوسف الصانعي ـ جملة قضايا ومقدّمات، وهي:

1 ـ كتب الضلال منكر.

2 ـ دفع المنكر واجب.

3 ـ الرفع و الدفع واحد بحكم العقل أو في قوّة الواحد.

وبهذا تكون النتيجة هي لزوم رفع المنكر أيضاً([51]).

وأورد ـ ويمكن أن يورد ـ على هذا الاستدلال أمور:

أولاً: ما ذكره الشيخ يوسف الصانعي، من التشكيك في كون الرفع والدفع بحكمٍ واحد عند العقل، فإنّ الدفع يرجع إلى التصميم واتخاذ القرار، فيما الرفع يعود إلى مرحلة العمل([52]).

وهذا الإيراد بهذه الطريقة صحيح؛ إلا أنّ غايته إمكان تطوير الاستدلال بالقول بأنّ العقل يحكم بلزوم دفع المنكر ورفعه، فإنّ مآل قول المستدلّين بالوحدة بينهما، هو شمول حكم العقل لهما معاً.

ثانياً: لو تأملنا قليلاً، فلن نجد هذا الدليل سوى إعادة تعبير آخر أخصّ للدليل الأوّل، وهو لزوم قلع مادّة الفساد، فإنّ روح ذلك الدليل ترجع إلى ضرورة قلع الفساد بالكلّية، ومن الواضح أنّ المنكر فسادٌ، فيجب قلعه، سواء بعد تحقّقه أو بالمنع عن تحقّقه، ولسنا في الأحكام العقلية نبحث عن تفسير نصّ لنتحاكم في كلمة قلع أو قطع، من حيث إفادتها وجود المقلوع سابقاً وعدمه، بل روح الدليل هو المهم، وهو انعدام الفساد والمنكر خارجاً، وعليه فكلّ ما تقدّم من مناقشات هناك يجري هنا أيضاً.

ثالثاً: ما ذكره الشيخ الصانعي أيضاً، من أنّ كتب الضلال ليست منكراً في حدّ نفسها، وإنما هي مما يترتّب عليه المنكر لو استُخدم بطريقةٍ غير صحيحة، فلا يجري الدليل العقلي فيها بنفسها([53]).

لكن لعلّ مراد المستدل هذا بعينه، ولهذا جعل الدفع للضلال برفع كتبه، فلاحظ.

رابعاً: ما ذكره الشيخ الصانعي أيضاً، من أنّ بعض ما يسمّى بكتب الضلال ليس منكراً؛ إذ لو اجتهد صاحبها وبحث واقتنع بمضمونها فألّفها ونشرها في الأسواق، فهو معذور، ولا دليل على جواز معاقبته أو لزوم الدفع في هذه الحال والحيلولة بينه وبين تأليفها، ما لم يُعلم أنّ مضمونها مما لا يرضى الشارع بوقوعه على أيّ حال، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى([54]).

وهذا الكلام مبنيٌّ على قصديّة المنكر، كما ذهبوا إليه في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث اشترطوا في مورده كون المأمور والمنهيّ عالماً بالوجوب والتحريم، ومع ذلك خالفهما، وإلا لم يكن أمره ونهيه إلا من باب إرشاد الضالّ وتعليم الجاهل، لا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد حقّقنا في محلّه أنّ هذا المبنى غير صحيح على إطلاقه، وكان لنا تفصيل في المسألة يمكن مراجعته هناك([55]). علماً أنّه لو لم يتمّ الإشكال المتقدّم الذي ذكره الشيخ الصانعي لكانت كتب الضلال منكراً في حدّ نفسه، فدفع المنكر هنا لا علاقة له بالفاعل بل بالكتب نفسها، ولو تمّ إشكاله هناك ـ وهو تام ـ أتى حينئذٍ إشكاله هنا؛ لأنّ هذا الإشكال هنا راجع إلى فاعليّة المؤلّف لكتب الضلال، لا لكتب الضلال نفسها في الخارج، فليلاحظ جيداً.

خامساً: قد حقّقنا في مباحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتفصيل أنّ الأمر والنهي واجبان، وأنّ وسائلهما هي كلّ وسيلة هي في حدّ نفسها حلال شرعاً وعقلاً، فكلّ وسيلة هي في حدّ نفسها حرام لا تقع من وسائل الأمر والنهي، وهنا لو تمّ هذا الدليل العقلي صحّت أيّ طريقة في مواجهة كتب الضلال لا تكون في حدّ نفسها محرّمةً كالردّ العلمي على هذه الكتب، أمّا الوسائل التي هي في حدّ نفسها محرّمة كإتلاف كتب الآخرين أو أعمالهم العلميّة والالكترونيّة والبرمجيّة أو سجنهم أو ضربهم أو غير ذلك فهو مشكل جداً.

نعم، بناءً على عموم ولاية الفقيه وإطلاقها على النفوس والأموال والأعراض ربما أمكن الحكم بالجواز في المقام كما أشرنا إليه في مباحث فقه الأمر بالمعروف([56]).

4 ـ 4 ـ اعتبار حفظ كتب الضلال و.. نوعاً من الرضا بها، قراءة نقديّة

الدليل الرابع: وهو من الوجوه الاعتباريّة، ويقول: إنّ حفظ كتب الضلال، فضلاً عن نشرها وغيره، يدلّ على الرضا بما فيها والقبول بالعمل بها، ومن الواضح قبح ذلك وحرمته([57]).

وقد علّق الشيخ يوسف البحراني هنا غامزاً بالقول: «ولا يخفى ما فيه»([58]).

ويرد على هذا الدليل:

أوّلاً: لا تلازم إطلاقاً بين حفظها والرضا بها أو الاعتقاد بمضمونها، وهل وجود كتابٍ في البيت يعني الرضا بما فيه، حتى لو لم يكن القصد من إبقائه هو نقده.

ينبغي لنا التوقّف عند هذه النقطة؛ لأنّ بعض أشكال الذهن المتشرّعي تعيش هذه الثقافة؛ لأنها لم تألف بشكل صحيح الحياة العلميّة السليمة، فلو وضعت الدولة الإسلاميّة خطةً ثقافية للتنمية وأرادت تحريك عجلة البحث العلمي، فسوف ترى أنها مضطرّة ـ في بعض الأحيان على الأقلّ ـ أن تسمح بنشر وحضور الفكر الآخر الذي يحوي قراءات أخرى للدين؛ لأنّ ذلك سوف يكون محفّزاً لخلق نشاط فكري وجدلي، ينجم عنه بعد عقدٍ أو عقدين من الزمان قفزة نوعية في البحوث العلميّة الدينية، بما يجرّ في نهاية المطاف إلى خدمة الفكر الديني. ولهذا ذكر المطهري هنا أن الفكر الإنساني لم يتطوّر أبداً إلا بوجود الفكر المخالف له([59]).

نعم، متى لا تقوم الدولة بذلك؟ عندما يكون المتديّنون عاجزين عن الحضور الفاعل في الساحة الفكرية، أما عندما يملكون قوةً علميّة فإنّ الدولة ترى أنّ السماح للآخر يمكنه أن يعطي هذا الطرف الآخر حجمه الطبيعي، مما يُفقده الجاذبيّة الوهميّة لجيل الشباب مثلاً.

إنّ هذا النمط من التخطيط والتفكير لا يعيشه بعض المتديّنين العاديين الذين يتحرّكون في سياق ثقافة مسجديّة، لا ثقافة وطن أو محافل علميّة أو ثقافة منافس حضاري للمدارس الفكريّة المختلفة، أو ثقافة بناء صروح علميّة كبرى في المجتمع الإسلامي تملك خبرة الأفكار العالميّة كلّها، وتخوض حواراً فكريّاً واعياً وعميقاً معها..

إنّ الدولة هنا غير راضيةٍ بمضمون الفكر المنحرف الذي نُشر، بل هي ترى أنّ نشرها له قد يساعد على إضعافه وخفض نسبة جمهوره، بدل قمعه الذي قد يشعرها في بعض الأحيان أنّ جمهوره سوف يزداد انطلاقاً من التعاطف معه، الأمر الذي قد يبعث على حالة غاضبة من الدين قد ترى الدولة عدم صلاحها.

ويمكن لي أن اُعطي أنموذجاً للآخر للتدليل على أنّ حفظ أو نشر أو السماح بالفكر الضالّ بالوجود لا يعبّر عن الرضا به أو القبول، وهذا المثال هو أن تقوم الحوزات العلميّة والمعاهد الدينية بتدريس وتعليم فكر الأديان والمذاهب الأخرى على نطاق واسع، فنحن لو نظرنا للموضوع من إحدى الزوايا سوف نرى أنّ هذا الأمر ـ كما حصل فعلاً ـ سيترك آثاراً سلبية على بعض الطلاب الذين سيتأثّرون بدرجة أو بأخرى بالمدارس الفلسفية الأخرى أو بالمدارس الدينية والمذهبية الأخرى، صحيحٌ أنّ هناك محذوراً في الجملة، وهو تأثر البعض بالفكر الضالّ حتى لو أردفنا معه نقده أحياناً، لكن في المقابل ترى الحوزة العلمية أنّها مجبرة على ذلك؛ لأنها تريد تربية جيل علمائي قادر على النهوض بوجه التيارات الفكرية الأخرى.

إنّ بعض المعاهد المعاصرة قد أرسلت لهذا الغرض طلابها للخارج كي يدرسوا الغرب من مصدره، ليكون النقد أكثر جدية وعلمية وفاعلية، بعد الملاحظات التي سجّلت على الفكر الإسلامي في ضعف عناصر نقده للغرب في بعض الجوانب، وقد تأثر بعض الطلاب المبتعثين للغرب به، لكنّ الحصيلة العامة كانت تربية جيل خبير بالفكر الغربي، وقادر ـ بلغة علمية، لا خطابية وفتوائية وتعبوية، مع احترامنا لكلّ اللغات ـ على التأثير في الجامعات والمحافل العلمية المختلفة..

إنّ قراءة توازنات المصالح والمفاسد قد تفرض أحياناً تقديم هذه الخسارة المحدودة بغية تحقيق الأهداف الكبرى، فلا يعني ذلك رضا الحوزة بالفكر الغربي المادّي مثلاً.

لو تأمّلنا اليوم في هذه المسألة، نفهم أنّه لا ترابط إطلاقاً بالضرورة بين حفظ كتب الضلال أو نشرها أو السماح بنشرها من جهة، وبين الرضا بها، وأنّ هذا الخلط بين الأمرين ناتج عن طريقه تديّنية بسيطة في تناول الأمور، وإذا كانت هذه الطريقة مقنعة في عصر المحقّق الأردبيلي مثلاً، فهي بالتأكيد غير مقنعة اليوم.

كيف يمكن نقد الآخر دون فهمه؟ وكيف يمكن فهمه دون تربية جيل متعلّم؟ وكيف يمكن ضمان تربية جيل يتعلّم فكره دون أن أتورّط قهراً بمن يتأثر به؟ عندما تكون الأمور بحجم نشاط في قرية أو مسجد سيكون ذلك ممكناً، لكن عندما نتحدّث عن سياسات ثقافية استراتيجيّة لدول أو مؤسّسات علميّة أو حوزات ومعاهد دينية أو مراكز وجامعات فكريّة كبرى، فإنّ الأمر سيظهر بطريقة مختلفة تماماً، لا سيما عندما نعرف أنّ الآخر في عصرنا حاضر وموجود وسينشر كتبه شئنا أم أبينا، فإنّ نظام المصالح والمفاسد يقضي ـ أحياناً ـ أن ننشر نحن فكره مع نقده، قبل أن ينتشر فكره منفصلاً عن نقده..

هذه رؤى في العمل الثقافي تختلف كثيراً عن الرؤيّة الأوليّة التي جاءت في هذا الدليل.

وسأذكر هنا مثالاً تقريباً لهذه الذهنية في وزن المصالح والمفاسد، وهي كلام للشهيد الصدر في رسالة له إلى السيد محمد الغروي ضمّنها موقفاً من التلفزيون، حيث كان السيد الصدر يستشكل شرعاً في اقتناء التلفزيون، لكنّه أجاز بيعه، وعندما برّر في هذه الرسالة ذلك قال: «وأمّا مسألة التلفزيون، فنحن سمحنا ببيعه وشرائه التجاري؛ لأنّ المنع من ذلك لا يؤدّي إلى التقليل من استعماله، بل يؤدّي فقط إلى زيادة أرباح التاجر غير الورع؛ إذ في الواقع الخارجي لا يمكن أن نفترض أنّ الباعة كلّهم متدينون، فإذا افترضنا بائعَين أحدهما متديّن دون الآخر، وكان معدّل ما يبيعه كلّ منهما عشرة، فإذا منعنا من البيع، فسوف يمتنع أحدهما دون الآخر، وهذا يعني أنّ الآخر سوف يبيع عشرين، وبهذا لم نصنع شيئاً إلا تكثير أرباح التاجر الثاني، وهذا بخلاف المنع من الاقتناء؛ فإنّه يؤدّي إلى تقليل المقتنين ولو في الجملة. هذا كلّه بناء على عدم إدراج التلفزيون في آلات اللهو وكون المنع عنه بعنوان تقليل الفساد لا بالعنوان الأوّلي، وأما لو كان من آلات اللهو لكان بيعه ممنوعاً بالعنوان الأوّلي، سواء ترتب عليه تقليل الفساد أو لا..»([60]).

إنّ هذه العقليّة هي التي نتكلّم عنها الآن، إنّ الإعلام الضالّ وكتبه لا يوجد تحريم لوجوده بالعنوان الأوّلي، إنّما التحريم لإضلال الناس، والباقي كلّه مقدّمات، وهنا إذا أردنا تقليل الفساد الناجم عنه فليس السبيل الوحيد هو المنع المطلق الشامل لوجوده بالضرورة؛ لأنّه حيث سيظلّ موجوداً عبر نشر الآخرين له، فإنّ حظر تداوله شرعاً لن ينجم عنه تأثير يُذكر سوى زيادة جهل المتديّنين بالشبهات المعاصرة وانزوائهم وانغلاقهم وفشلهم المعرفي في المواجهة؛ لهذا تجدهم يستخدمون سلاح التعبئة والفتوى والتحريض تعويضاً عن الضعف العلميّ، فمنع نشر هذه الكتب سيعني تفرّد الآخر بنشرها، وستصل للقارئ بلا نقدٍ لها أو بلا أن يرى وجهات النظر الأخرى، بينما لو تعامل المتديّنون بذهنيّة الحضور ليأخذوا ثقة الطرف الآخر عبر نشر الرأيين معاً، واستخدام أساليب احترام الأفكار مع نقدها، فإنّ درجة التأثير على المدى البعيد قد تكون أفضل ولو في بعض الأحيان.

وهذا مثل من أفتى من الفقهاء المعاصرين ـ كما سمعنا ـ بجواز أخذ الضريبة على الخمر للبلديات التي يضع المؤمنون يدهم عليها؛ لأنّ تنزّه المؤمنين عن أخذها وبيدهم وزارة السياحة وكذا البلديات مثلاً، سوف يخفض قيمة الخمر في الأسواق، وستصبح في متناول الناس أكثر، فيكون التأثير أكثر سلبيةً، والمفروض عدم إمكان منعها بالمطلق.

ومن هذا السياق، تأتي الملاحظة على إفتاء بعض المرجعيّات في العالم العربي بحرمة دخول وظائف الدولة على الشيعة، الأمر الذي فسح المجال لغيرهم بالسيطرة على كلّ مرافق الدولة وترك آثاراً غير محمودة في أكثر من موقع، بينما نجد الفقه الشيعي اليوم يعيد النظر في هذا الموضوع، انطلاقاً من كون المصلحة في الحضور أكبر من الانزواء والخروج.

إنّ هذا كلّه يؤكّد أنّ هذا المنطلق المصلحي هو الحاكم في مثل موردنا، حيث لا نصّ بالخصوص على آليّة محدّدة في التعامل مع كتب الضلال وإعلامه، لا إطلاق تعميم فتوائي بأنّ كلّ من حَفِظَ كتاب الضلال أو سمح بها فهو يرضى بما فيها، الأمر الذي يُحدث انغلاقاً رهيباً على المدى البعيد في الوعي الثقافي في الوسط الإسلامي أو المذهبي.

وهذا كلّه ما يؤكّد أكثر فأكثر مدى أهميّة الوعي الزماني والمكاني في الاجتهاد، وفي الإفتاء وصياغة الفتوى، وأنّ الأمور لا تأخذ شكلاً واحداً، بل هي متغيّرة بطبعها تبعاً للظروف، وأنّه لا يوجد نصّ ديني حاسم ولا حكم عقلي قاطع ومطلق في الآليّات التي ينبغي اتباعها في هذا الصدد، فعلينا نحن ممارسة النظر في الآليات من الزاوية المقاصديّة العامّة، آخذين بعين الاعتبار تمام الحيثيات التي لها دور في الموضوع؛ لنتوصّل بعصف الأفكار وتراكم الخبرات ـ بما فيها الميدانيّة وليس فقط الفتوائية والاجتهاديّة ـ إلى اختيار الوسيلة الأفضل في هذه المرحلة أو تلك، وفي هذا المكان أو ذاك، وقد تختلف الوسائل تبعاً لاختلاف الظروف والزمان والمكان والمجتمعات والأحوال، فلا ندّعي حصريّة طريقتنا، ولا طريقة غيرنا، على الامتداد الزمكاني فلاحظ وانتبه.

هذا كلّه بصرف النظر عما أثاره بعض المعاصرين من التشكيك في أصل الحكم بحرمة الرضا، وأنّ غايته القبح الباطني([61])، وكلامه يحتاج لبحث لا حاجة له بعدما تقدّم.

4 ـ 5 ـ إدراج كتب الضلال وإعلامه في مفهوم البدعة وأهل البدع

الدليل الخامس: ما يلوح من كلمات بعض الفقهاء، من أنّ كتب الضلال هي كتبُ بدعة، ولابدّ من مواجهة أهل البدع، ورفع هذه الكتب يكون حينئذٍ من مصاديق النهي عن المنكر الواجب شرعاً([62]).

ويناقش:

أولاً: إنّ ما في النصوص الحديثية المعتبرة في مواجهة أهل البدع هو سبّهم وغيبتهم وبهتانهم وقطع العلاقة معهم وإظهار العلم عندهم، وليس في نصوص البدعة وأهلها ما يفيد منعهم من النشر أو مصادرة كتبهم أو إغلاق صحفهم وأجهزة إعلامهم، أو سجنهم ومنعهم من إبداء الرأي وغير ذلك. نعم لا يجوز الدعوة لهم وتقوية بدعهم وضلالاتهم أو السكوت عنها.

ثانياً: ما ذكره بعض المعاصرين، من أنّ مفهوم أهل البدع أخصّ من مفهوم الضلال؛ إذ ليس كلّ ضلال بدعة في الدين، بل البدعة هي زيادة أو إنقاص في الإسلام أو إحداث دين أو معتقد ليس من الإسلام في شيء([63]).

وما أفاده صحيح، فهل كلّ اجتهاد بدعة؟! وهل كلّ رأي خالف الإجماع أو الشهرة في التفسير أو الكلام أو الفقه أو الأصول هو بدعة؟ وهل كلّ رأي مخالفٍ للسلطة السياسية أو الدينية هو بدعة؟ وقد حقّقنا في محلّه مفهوم البدعة إثباتاً، وقلنا بأنّه مفهوم ضيّق ومن الصعب إثباته في الخارج، فليراجع([64]).

ثالثاً: قد حقّقنا في محلّه عدم ثبوت مرتبة اسمها اليد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنى العنف والضرب والسجن والتصرّف في أموال الآخرين بغير إذنهم، ومنعهم من ممارسة حرياتهم الثابتة لهم بحسب العنوان الأوّلي([65])، ومعه فلا يفيد هذا الدليل أيّ إجراء معارض لأهل البدع غير المواجهة العلميّة والجائزة شرعاً في المرحلة السابقة، ما لم يتحقّق في حقّهم عنوان قضائي أو جزائي كالارتداد وغير ذلك فيمكن ترتيب تلك الأحكام في ضمن دائرتها وشروطها، بناءً على ثبوتها.

4 ـ 6 ـ مرجعيّة الحكم بوجوب إضعاف أهل الضلال ومجاهدتهم

الدليل السادس: ما ذكره الشيخ النجفي من التمسّك بما دلّ على وجوب مجاهدة أهل الضلال وإضعافهم بكلّ ما يمكن، وتدمير مذهبهم بتدمير أهله، على حدّ تعبيره([66]).

ويمكن مناقشة ذلك:

أولاً: إذا تحقّقت شروط الجهاد مع الكفّار أو أهل البغي، فقد يمكن قبول هذا الدليل، أما مع عدم تحقّقها فما هو الموجب للأخذ بهذا الدليل؟! وقد أثبتنا في محلّه أنّه لا يوجد في الإسلام جهادٌ ابتدائي([67])، كما حقّقنا بأنّه ليس كلّ مخالفة لإمام المسلمين أو اختلاف مع مذهب الحقّ، هو بغيٌ، ولا أنّ كلّ معارضة سياسية أو فكريّة هي بغيٌ موجب لتطبيق أحكام الجهاد والعنف في مورده، فينحصر المورد بحالات الدفاع أو التمرّد المسلّح والعدواني على الدولة الإسلاميّة الشرعيّة([68]).

ثانياً: هل كلّ كتب الضلال مرتبطة بالكفّار وأهل البغي الذين ثبت وجوب محاربتهم؟! إنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى.. إنّ هذا الدليل غاية ما يُثبت أنّ كتب الضلال (وإعلامه) المرتبطة بمؤامرة من العدوّ بحيث تخضع لمنطق الحرب يمكن التعاطي معها لا تلك التي يستفيد العدو من وجودها أو لا علاقة لها بقضايا الحرب والجهاد. فروح هذا الدليل تعاني من مشكلة تسرية الحكم في القضايا العسكرية والجهادية إلى القضايا الثقافية والفكرية، فهل كتب أهل السنّة بين الشيعة مرتبطة بقضايا الجهاد؟

والحصيلة: إنّه لو ساعدت هذه الكتب المعتدين على بلاد المسلمين فكانت جزءاً من الحرب، أمكن الحديث معها بهذه الطريقة، وإلا فمن الصعب تسرية الحكم. فلا يوجد في الشريعة عنوان اسمه أهل الضلال يمكنه أن يمتاز عن سائر العناوين حتى تترتب عليه الآثار، مثل عنوان الإسلام والكفر.

مأزق نظريّة الحظر بين حقّ الاجتهاد ومواجهة الفساد (تعليق منهجي عام)

إنّ جوهر المشكلة في أكثر الأدلة العقليّة والاعتباريّة هي في مبدأ التمييز بين الاجتهاد المشروع في كلّ العلوم الإسلامية، بل الواجب فيها، وبين فكرة الضلال والبدع والكفر والفساد والباطل، حيث لا توجد محدّدات واضحة وعلميّة في هذا السياق، فلو قلنا:

أ ـ بأنّ كل ما نقطع بضلاله وخطئه فهو كتب ضلال لزم الشمول لكتب الكثير من المفسّرين والفقهاء والمحدّثين و.. أليس في كتب الحديث ضلال؟ أليس في كتب التفسير ضلال؟ أليس في كتب أصول الفقه والعقيدة حتى داخل المذهب الواحد ضلال؟ إنّ مفهوم الضلال هذا هنا واسع، ومن المستبعد أن يلتزم به أحد، ونتيجته هي ما نقلناه من كلام السيد العاملي في مفتاح الكرامة في حقّ الشيخ البحراني في الحدائق! فيلزم إتلاف ومنع ومصادرة وحرمة طباعة كلّ هذه الكتب!

ب ـ أمّا إذا قلنا بأنّ كتب الضلال هي الكتب التي تواجه أصول الإسلام صراحةً، بحيث تريد إبطال نبوّة النبي أو إمامة الإمام أو ألوهيّة الله أو توحيده أو نحو ذلك، فهذا المعنى يحتاج:

أولاً: إلى أن تكون هذه الكتب ذات لغة نقديّة لا تفسيريّة، فهناك فرقٌ بين من ينكر الإمامة ويبطلها وبين من يقول: إنني أفهم من الإمامة ما كان في شؤون الدين لا الدنيا، فإنّ الأوّل يريد هدم الإمامة صريحاً، فيما الثاني يريد تفسيرها بتفسير غير متعارف مثلاً، ولا يقاس الأوّل بالثاني، بناء على هذا التفسير للقضيّة. وأما القصود فهي موضوع آخر.

كما يحتاج هذا المعنى ـ ثانياً ـ إلى تحديد ما هي أصول الإسلام وما تعيينها؟ وما هو المقدار المتيقّن منها؟ وما هي أصول المذهب؟ إنّ هذا موضوع مهم جداً هنا، فهل العصمة من أصول المذهب لو كانت في غير التبليغ؟ ولماذا؟ وهل لأنّ العلماء أجمعوا عليها صارت من أصول المذهب؟ وهل عدالة الصحابة من أصول المذهب ولماذا؟ وهل كل قطعيّ هو من أصول المذهب أو كلّ إجماعي هو كذلك.. وكيف؟ فنحن نتحدّث في المذهب والدين في لوح الواقع لا في اللوح التاريخي لظهوره عبر مئات السنين فتأمّل جيداً، فهل لأنّ الشيخ الصدوق قال بجواز السهو على النبي لم يعد نفي السهو من أصول المذهب، أو أنّه ظلّ من أصوله، ومن ثم لزم إتلاف كتب الصدوق؟!

إنّ مفهوم أصول المذهب ـ أصول الدين ـ مسلّمات الدين والمذهب، وغير ذلك من العناوين، فيها قدر متيقّن محدود جداً، لكنّ مساحةً واسعةً منها لم نفهم كيف أدرجت في الأصول أو المسلّم أو غير ذلك؟ هل بالشهرة بين العلماء أو بورود النصّ القرآني أو بماذا؟

لا ينبغي الاستخفاف بهذه التساؤلات أبداً، فأجوبتها ليست سهلة إطلاقاً، وهل يحقّ لكلّ عالم توصّل إلى اعتبار شيء ما من الأصول أو المسلّم وخالفه شخص آخر أن يمارس معه حكم كتب الضلال أو لا؟

لماذا كان إنكار العصمة للنبي وأهل بيته ضلالاً بينما الإطاحة بعشرات آلاف الروايات عنهم نتيجة مبنى أصولي ورجالي ـ كما هي الحال مع مثل السيد الخوئي والشيخ آصف محسني والشيخ حسن صاحب المعالم و.. ـ ليس ضلالاً؟! ولماذا كان القول بتاريخيّة التشريع ضلالاً بينما ما ذهب إليه الإخباريون من سقوط حجيّة ظهورات القرآن وتعطيل هذا الكتاب الكريم تعطيلاً نسبيّاً ليس ضلالاً؟! لماذا كانت نظرية تأثير المعرفة البشرية في المعرفة الدينية ضلالاً بينما لم يكن القول بتعطيل إقامة النظام الإسلامي وصلاة الجمعة والجهاد الابتدائي والحدود والتعزيزات في عصر الغيبة ضلالاً؟! لماذا كان إنكار كسر ضلع الزهراء ضلالاً بينما لم تكن فتاوى تحريم التطبير وجملة من مظاهر العزاء ضلالاً؟! ولماذا كانت فتاوى التطبير ضلالاً بينما قول أمثال الشيخ التبريزي بعدم وجود دليل على علم أهل البيت في الموضوعات لم يكن ضلالاً؟! لماذا كان القول بعدم وجود المحسّن بن علي والسقط ضلالاً تصادر المجلات التي تطبعه، بينما القول بأنّ أهل البيت هم مظهر تمام الأسماء والصفات ليس ضلالاً؟!

إلى عشرات من أمثلة الازدواجيّة في تطبيق هذه المفاهيم المطاّطة والهلاميّة، ولو تأمّلنا قليلاً لرأينا المرجع في كلّ ذلك هو حالة الخوف على وجود الدين في لحظةٍ ما، وأنّ المصلحة تقتضي الوقوف بوجه هذه الفكرة أو تلك أو هذا التيار أو ذاك.

إنّنا نعتقد بأنّ مساحة الاجتهاد في الفكر الديني واسعة، فليس الفقهاء وحدهم وفيما بينهم إذا اختلفوا تبقى حصانتهم، بل اختلاف المتكلّمين والفلاسفة والمحدّثين والرجاليين والمؤرّخين والمفسّرين واللغويين والعرفاء والأصوليين والباحثين المحدثين في فهم الدين يبقي على حصانتهم أيضاً، فلا يوجد دليل على التمييز، ولا شأن لنا بالنوايا، فهذه كلّها اجتهادات من حقّ من يختلف معها أن ينتقدها، لكن لم يثبت بدليل شرعي أنّ من حقّه منع حريات أصحابها ما داموا يعلنون الشهادتين في الحدّ الأدنى، ولم يقم دليل مقنع على عكس ذلك، بعيداً عن اللغة العاطفيّة، وكما أنّ قراءة كتب الفقهاء على اختلافهم الواسع فيما بينهم، ليس موجباً للقلق على الدين، وكذا تقليد هذا أو ذاك منهم، فكذلك قراءة اجتهادات سائر العلماء، ما دام الجميع تحت سقف العنوان العريض، وهو الإيمان بالتوحيد والرسالة، ولكلّ واحدٍ فهمه وأدلّته، وكما ترى أنت أدلّتهم واهية قد يرون هم أنّ أدلتك أوهن من بيت العنكبوت، فلا نستطيع التعامل بعين واحدة والكيل بمكيالين، مع الإقرار الأوّلي بأنّ لكلّ قاعدة استثناء يحتاج هو لمبرّره وعنوانه الطارئ، لا أنّه هو القاعدة الأصليّة، نعم من حقّ الجميع النقد والتفنيد والدفاع عمّا يراه حقّاً في الفقه وغيره.

إذن، فالمرجع الحقيقي للمسألة هو تشخيص الموضوع ومدى الخطورة على الدين، وتعيين الأفضل في أسلوب المواجهة، لا وجود نصّ أو حكم أوّلي متعلّق مباشرةً بالإعلام الضالّ، لهذا نجدهم يتأرجحون في المصاديق؛ لأنّ المرجعيّة عندهم ليست وجود نصّ إطلاقي، بل وجود مبدأ قانوني وهو مبدأ الدفاع وحفظ الإسلام وأصوله وقيمه ومواجهة الكفر والضلال والبدعة وآثارها، أما الأسلوب فيخضع للتشخيص، تبعاً للأفق الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي للمرجع أو السلطة السياسية والدينية من جهة، وتبعاً لطبيعة الظروف والإمكانات والمصالح والمفاسد من جهة أخرى.

هذا ما نريد إثباته: إنّ المسألة ترجع لتشخيص الموضوع، فقد أرى أنّ ترك هذه الكتب أصلح مع ردّها، وقد أرى منعها أصلح تبعاً للظروف والملابسات وإلا فالأصل عنوانان: حقّ الاجتهاد بالمعنى الواسع الذي قلناه، وحقّ مواجهة الكفر والضلال، لا أنّ الأصل هو حظر هذه الكتب ومنعها لكن بالعنوان الثانوي نسمح بها، فإنّ إثبات هذا الأصل مشكلٌ جداً.

وقد أشار الشيخ المطهري مقرّاً بأن الفقهاء لم يتناولوا هذه القضية هنا من زاوية اعتقاد كلّ فريق بصواب ما يكتب وأنه اجتهاد في الدين([69]).

لسنا نعاني عقدة من حظر الحريات الإعلامية أو الفكرية، فالغرب نفسه يضع لنفسه عناوين يحظر من خلالها هذه الحريات، مثل مبدأ عدم نشر الكراهية الذي حظر فيه قانونياً فضائيات عربية وإسلامية لمجرّد مواجهتها لليهود ودعوتها لإخراجهم من فلسطين، وحاكم بسبب (معاداة السامية) الكثيرين من أمثال المفكّر الفرنسي روجيه غارودي.. إنّما نحن نبحث عن المبدأ: هل هو في الحظر أو في السماح؟

والذي يبدو لي أنّ الشريعة تعلن مبدأ المواجهة، لكن ليس فيها نصّ قانوني حاسم بالحظر أو بطريقة محدّدة في التعامل ونحو ذلك. نعم يُفهم منها تحريم الضلال ودعمه مع العلم به، لا تحريم تركه مع الردّ عليه.

نتائج البحث في النصوص والموروث (النظريّة المختارة في المبادئ العامة)

هذه هي مجمل نصوص الفقه الإسلامي إزاء قضية كتب الضلال، ويمكن أن نستخلص من البحث فيها النتائج التالية:

1 ـ حرمة إضلال النفس والغير، وحرمة كلّ سبيل تكون نتيجته إضلال النفس أو الغير حرمةً منجّزةً عندما يصدر ذلك عن عمد وعلم أو عن تقصير.

2 ـ حرمة دعم الضلال والإضلال بمختلف أشكال الدعم (المادّي والفكري والمعنوي) الموجبة بحسب المآل لتقوية الفساد والكفر والانحراف الفكري والأخلاقي. وبعبارة أخرى: حرمة تقوية الباطل كيفما كان.

3 ـ عدم ثبوت الحقّ باستخدام أسلوب غير جائز في نفسه في مواجهة الضلال، سوى مثل الأساليب اللسانية التي نصّت عليها صحيحة داوود بن سرحان كالسبّ والبهتان والغيبة ونحو ذلك بصرف النظر عن تفاصيل النقاش فيها أيضاً؛ لأنّنا لا نأخذ بهذه الصحيحة ولا نلتزم بمضمونها وفاقاً لغير واحدٍ من الفقهاء المتأخّرين. وإذا كان المورد من موارد حدّ من الحدود أو عقوبة محدّدة في الشرع أو اندرج في باب الجهاد، وتحقّقت الشروط كافّة فيه، أمكن تطبيقها لو تحقّق مصداقها.

4 ـ وجوب استخدام كلّ وسيلة حماية من الضلال تكون منتجة، للنفس والغير، ولا تكون حراماً في حدّ نفسها بالنسبة للغير.

5 ـ التمييز الدقيق بين مبدأ حريّة الاجتهاد المشروعة، ومبدأ البدعة والضلالة، ورفض أشكال الخلط بينهما.

6 ـ مرجعيّة نظرية التزاحم والأولويات وحساب المصالح والمفاسد في إدارة عملية مواجهة الضلال، واختيار الطرق والأساليب والوسائل الأفضل وفقاً للزمان والمكان والظرف والحال، ورفض وجود مبدأ شرعي أوّلي بإعدام الضلال كيفما كان. فإذا كان أسلوبٌ ما يفضي إلى تقوية الضلال في زمن معيّن لزم اتباع أسلوب آخر، وربما انعكس الأمر في ظرف زمني مختلف.

الموقف الشرعي من الضلال ومواجهته والعلاقة معه (النظريّة المختارة)

وفي ضوء هذه النتائج، يمكننا البحث في الفكر والإعلام الضالّ ضمن أربعة محاور:

1 ـ إنتاج الضلال.

2 ـ توزيع الضلال ونشره.

3 ـ استهلاك الضلال واستخدامه.

4 ـ مواجهة الضلال.

1 ـ إنتاج الضلال

المقصود بالإنتاج هنا أن يولّد الإنسان الفكر الضالّ وكلّ العناصر الداعمة لعمليّة الإنتاج هذه، وذلك من نوع تأسيس مؤسّسات أو مراكز أو حلقات لإنتاج الأفكار المعارضة للإسلام، فأيّ دعم مادّي أو معنوي لقيامة مثل هذه المشاريع يكون حراماً شرعاً؛ لأنّه دعمٌ للكفر والانحراف، شرط علم الفاعل بذلك، أمّا لو ظنّ أنّه على حقّ مشتبهاً غير مقصّر في المقدّمات، فيكون معذوراً، على التفاصيل المذكورة في محلّه. وفي هذا السياق أيضاً العمل الفكري في هذه المؤسّسات، وكذلك تأليف كتب الضلال ونحو ذلك.

وقد يقال هنا بأنّ نفس التأليف ليس حراماً في ذاته، وإنّما الحرمة في نشره؛ لكون الحرمة الحقيقيّة كامنةً في تضليل الناس وصدّهم عن سبيل الله، والتأليف ليس كذلك، وكذا الحال في تأسيس مراكز الأبحاث أو غيرها، ما لم يُقرن بالنشر والتوزيع والإعلام؛ لعدم صدق التضليل عليه حينئذٍ عادةً، وهو الصحيح.

والآية القرآنية الأولى التي استعرضناها سابقاً تفيد هنا أنّ كلّ سعي لإضلال الناس عن الدين بغير حجّة شرعيّة أو معذورية خاصّة يكون حراماً منجّزاً، فلو فعل ذلك معتقداً أنّه الإسلام أو لا لغرض التضليل لا يكون حراماً.

ولو ألّف ضلالاً وأنتج برامج ضالّة أمكن الاحتفاظ بها شرط عدم نشرها بما يفضي إلى الإضلال، كما صار واضحاً. كما أنه لو أنتج ضلالاً بغية نقده، على طريقة «إن قلت قلت» لم يكن محرّماً أيضاً؛ لأنه لا يقع في صراط قصد التضليل، وبهذا تتضح البوصلة في مختلف أمثلة وحالات هذه القضيّة فلا نطيل.

2 ـ توزيع الضلال ونشره

المقصود بالتوزيع هنا االقيام بإيصال الضلال إلى الغير ـ مع العلم بكونه ضلالاً ـ بأيّ طريقة من الطرق بغية تضليله، أو مع العلم بحصول الضلال له، أو قيام الحجّة المعتبرة على ذلك، وقد حكم الفقهاء هنا بحرمة استنساخ كتب الضلال([70]).

ومن الواضح ـ بمقتضى ما تقدّم من دلالة الآيات الكريمة المتقدّمة وغيرها ـ أنّ ذلك حرامٌ غير جائز، ولا يقتصر على النسخ، بل يشمل اليوم طباعة الكتب مع توزيعها والدعاية لها، وبث البرامج الإعلامية ونشر الأفكار الضالّة في الصحف ووسائل الإعلام وشبكة الانترنت وغير ذلك. وكذا تعليم الضلال وتدريسه للترويج له والدفاع عنه، وأيّ وسيلة أخرى توصل الفكرة الضالّة إلى الناس فيضلّون بسببها عادةً، فإنّ هذا كله حرام؛ لما تقدّم.

وهنا لابد من توضيحات أيضاً:

أولاً: يشترط في ثبوت الحرمة وتنجّزها هنا أن لا يكون صاحب النشر هذا معتقداً عن جهل بلا تقصير أنّ هذا هو الحقّ، وأنّه بذلك يدعو للحقّ وللصراط المستقيم، وإلا فلو اجتهد بطريقة وصل فيها إلى نتيجة باطلة كان معذوراً إذا لم يقصّر في المقدّمات، والإنسان على نفسه بصيرة، وكذا لو اتبع غيره في ذلك وكانت له الحجّة والعذر في اتباعه له، كحال المقلّدين للمراجع وعلماء الدين.

ثانياً: لو اشتملت الكتب أو المشاريع الإعلامية على ما فيه حقّ وباطل، كاستضافة شخصين على التلفاز أحدهما يحمل فكراً ضالاً والآخر ينتقده، أو تمّ استضافة شخص يُعلم بأنّه يثير وسط عشرات مقولات الحقّ التي ينطق بها، يثير باطلاً ما، فهل يحرم في هذه الحال أيضاً أو لا؟ ولو علمت الصحافة على أنواعها السياسيّة والفنية والفكريّة، أنّ فيما تنقله أفكاراً ضالّة لبعض الأشخاص، فهل يجوز النقل أو لا؟

والجواب: إنّ العبرة هنا بالقصد، فإذا قصد الناشر أو الموزّع إضلال الناس حرم، أما إذا لم يقصد ذلك، فإن كان ذلك موجباً عادةً ونوعاً حصول الضلال لهم بلا مصلحة مقابلة حَرُم أيضاً، وإلا فمجرّد احتمال الضلال احتمالاً صرفاً مع وجود مصالح نوعيّة في العرض والنشر لا يوجب حرمةً ولا دليل فيه على الحرمة؛ لأنّ الحرمة إنما هي للغاية وهي تضليل الناس، فإذا لم يحرز حصول ذلك فلا دليل على التحريم.

ثالثاً: إذا كان في اتّباع سياسة عرض الرأي والرأي الآخر في مختلف وسائل الإعلام مصالح، لكن في المقابل احتمل حصول الضلال لبعض الناس بذلك فلا دليل على الحرمة لأجل الاحتمال. وأما لو علم إجمالاً بحصول الضلال لبعضهم مثلاً، كأن يتأثر بالشخصيّة المستضافة لبرنامج الحوار الإعلامي والتي تحمل الفكر الضالّ، ولا يتأثر بنقده، ففي هذه الحال قد يقال بالحرمة أيضاً تنجيزاً للعلم الإجمالي الموجود في المقام.

وقد يقال في مقابل ذلك بمرجعيّة قانون التزاحم، بأن يدور الأمر بين سياسة إعلامية لا تنفتح أبداً على الرأي والرأي الآخر، وسياسة إعلامية منفتحة قد يؤدّي انفتاحها هذا إلى بعض الآثار السلبيّة في مقابل خلق حالة وعي عام وحصول تنمية ثقافية ونهضة وعي في عام في هذا السياق. وهنا ينظر فيما هو الأرجح لمصالح الدين في كلّ عصر ومصر، إذ لو أخذت مثل هذه العلوم الإجمالية على إطلاقها لحكم بحرمة نشر كثير من كتب علماء المسلمين بل وعلماء المذهب الواحد، ككتب الفلاسفة والمتصوّفة والعرفاء والمفسّرين، بل وحتى بعض كتب الفقهاء والمحدّثين التي فيها أدلّة الآخرين من سائر المذاهب مثلاً ـ على فرض أنّ هذه يصدق عليها ضلالات ـ فالقضية تختلف، فلو كنّا في زمن تروج فيه أساطير التصوّف ويحدث انحراف عن الشرع بسببها، لربما أمكن الحكم بحرمة نشرها لتأثّر الشباب بها، لكنّه في زمن آخر لا يكون كذلك، ولو عُلم في الجملة بحصول حالة تأثر لواحدٍ من الناس، إذ ما من كتاب إلا ويعلم إجمالاً بتسبّبه بضلال ولو جزئي ولو لواحد من الناس، كيف وبعض كتب الفقهاء ومقولاتهم استخدمت مادة للتشنيع على الدين نفسه!

3 ـ استهلاك الضلال

ونقصد باستهلاك الضلال ما كان من نوع مطالعة كتب أو مجلات أو نشريات أو صحف أو بيانات ضالّة، وكذا استماع محاضرات أو خطب أو دروس أو كلمات ضالّة، ومنه مشاهدة التلفاز والانترنت مما يشتمل على ضلال وفساد، ومن ذلك تعلّم الضلال والتعرّف عليه وقراءته من مصادره، لا سيما من دون قراءة نقده مرفقاً به.

يظهر من السيد علي الطباطبائي أنّ من لا يطمئنّ بثباته على دينه وإيمانه يحرم عليه استهلاك الضلال، إذ لا يطمئن من تأثره بها، فلا يجوز له مراجعتها، والدليل على ذلك هو لزوم دفع الضرر المحتمل([71]).

كما ذكر بعض الفقهاء المعاصرين هنا أنّه بعد اختيار العقيدة عن وعي وإيمان يلزم الاجتناب عما يُفسدها لدفع الضرر المحتمل، أما قبل اختيارها فيمكنه البحث في الآراء للوصول إلى الحقّ؛ استناداً إلى الآيات والأحاديث الآمرة بالتدبّر والتفكّر والتأمّل والتفتيش و..([72]).

إلا أنّ في كلا الكلامين نظر، وذلك أنّه تارةً نحن نريد أن نعطي رأينا لهذا الشخص حال كوننا معتقدين بضرر هذا الفكر؛ لاعتقادنا بضلاله، وأخرى نريد أن ننظر في حاله هو ، وفي كلا الحالين المرجع لنا هو دفع الضرر المحتمل.

أ ـ أما بالنسبة لنا حال اعتقادنا بضلال هذا الفكر، فنحن سنقول لهذا الشخص: لا يجوز لك مطالعة هذه الكتب؛ لاحتمال تضرّرك منها، والعقل يحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل.

لكنّ السؤال: ما هو الذي يُلزم هذا الشخص بالاستماع لنا والأخذ منّا؟ سنرى النتيجة قريباً فانتظر.

ب ـ وأما بالنسبة إليه هو، فإن كان شاكّاً واقعاً ومتردّداً حقيقةً في الحقّ بين المذاهب والاتجاهات، فإنّ عقله ـ والذي هو المرجع له ـ يُلزمه بالبحث والفحص، حتى لو كان هو بنفسه يسير على دين أو مذهب أو اتجاه خاصّ فعلياً؛ لأنّ تردّده معناه احتمال كونه الآن على ضلال، فبقاؤه دون بحث هو الذي فيه احتمال الضرر بالتقصير في البحث، لا العكس.

وأما إذا لم يكن متردّداً، فمن الواضح أنه لا يجب عليه بحكم العقل أن يبحث بعد افتراض علمه بصحّة ما هو عليه في مذهبه الفكري؛ أما أنّه لا يجوز له البحث فهذا فيه نظر؛ لأنّ التأثر بالفكر الآخر ليس دائماً مثل التأثر بالسلوك المنحرف؛ فإنّ الشخص الذي يصادف منحرفين فاسقين يصبح مثلهم مع إدراك عقله لخطأ ما هو عليه نظريّاً، وإن لم يستجب هو نفسه عملياً لهذا الإدارك العقلي، فالانحراف السلوكي عادةً ما لا يكون ناشئاً عن وعي علمي ـ ولو بجهل مركّب ـ بقدر ما يكون ناشئ عن رغبات أو مصالح، وهذا على خلاف المسألة الفكريّة، فإنّ هذا الشخص عندما ينظر في الاتجاهات الأخرى التي يعتبرها ضلالاً، فإنّ تحوّله إليها وتأثره بها معناه انعدام قناعته السابقة وصيرورته مقتنعاً بضلال ما كان عليه، وأنه الآن قد اهتدى، فكما يحتمل الضرر بعدوله، يحتمل ـ ولو بشكل بسيط ـ أن يتأثر بما في هذه الكتب، فينكشف له ضررُ بقائه على ما هو عليه، وإلا فإذا لم يحتمل هذا الانكشاف أساساً، بحيث لا يحتمل أنه لو قرأ هذه الكتب فسوف ينكشف له ضلال ما هو عليه وتركه لما هو عليه لأجل هذه الكتب، ففي هذه الحال لا يحتمل الضرر إذاً حتى يأمره العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، فهو أمام أمرين: إمّا لن يتأثر بهذه الكتب فلا احتمال عنده للضرر حتى يجب دفعه، وإما سوف يتأثر بها، وهذا معناه أنّه هو الآن على ضلال، فكيف نحرّم عليه البحث دفعاً للضرر؟!

نعم، يحتمل أن يتأثر بها لا من باب القناعة بل من باب آخر، وهنا غايته إلزامه تكليفاً بأن يتمحّض للبحث العلمي والتقييم العلمي لهذه الكتب ولا ينجرّ عاطفيّاً، فإذا ضلّ عوقب على هذا، ويعاقب ـ نتيجة سوء اختياره ـ على الضلال، وإلا فبأيّ وجه سيمنعه عقله من البحث.

بل لو صحّ هذا، لما جاز للكافرين من اليهود والنصارى والمجوس، وكذا لأهل المذاهب الأخرى، وكذا لأهل المقالات الأخرى داخل المذهب الواحد.. لما جاز لهم أن يطالعوا كتب الحقّ؛ لأنّهم حال إرادتهم المطالعة سيُلزمهم عقلهم بالحرمة دفعاً للضرر المحتمل؛ لأنّ المفروض أنّهم يرون ما هو الحقّ الواقعي ضلالاً، فهل يُلتزم بذلك؟! ألا تكشف طريقة معالجتنا المدرسيّة للموضوع أنّ هناك مفارقات فيه.

والمتحصّل أنّه يجوز للإنسان مطالعة أو الاطلاع على الضلال شرط تقويم سلوكه الذاتي، بحيث يروّض نفسه على التعامل الموضوعي مع الأفكار، فإذا بنى على ذلك وجهّز نفسه لم يحكم عقله عليه بحرمة الاطّلاع، لاسيما لو كان شاكّاً حقيقةً بالأمور.

ومن ذلك يُعلم أنّ عقل الإنسان نفسه هو المرجع هنا، لا عالم الدين الذي اختار لنفسه إيماناً خاصّاً، فمن زاوية عالم الدين يحقّ له الإفتاء بالحرمة، لكنّ هذا الإفتاء لا يمكنه أن يصادم واقع ما يحكم به العقل من زاوية الفرد نفسه، فلو كان شاكّاً في الحقّ كيف يمكن أن يحكم العقل عليه بحرمة الاطلاع على ما يراه غيره ـ وهو مرجع الدين ـ ضلالاً؟ فلاحظ جيداً. فالأمر مجرّد تشخيص من الفقيه وليس فتوى، ولا وجه لكونه ملزماً وفقاً للصورة التي رسمناها، وإن كانت الفتوى هذه أو البيان هذا، حقاً من حقوق الفقيه؛ لأنّه يرى أنّه يحمي المؤمنين من الهلاكة والانحراف انطلاقاً من تشخيصه، لكنّها فتاوى أو بيانات إرشاديّة توجيهيّة لا تُلزم المكلّف في مجال التشخيص، فمثلاً لو قال الفقيه: إنّ كتب فلان هي كتب ضلال عقائدي، أو إنّ كتب التيار الفكري الفلاني هي كتب ضلال، فما هو الملزم لاتباع قوله ما دام لا يوجد تقليد في العقائد أو الأفكار؟ وكونه من أهل الخبرة لا يكفي، إذ يعارضه الخبراء الآخرون الذين ذهبوا إلى عكس قوله من علماء الأديان والمذاهب والفرق والتيارات الأخرى، فما لم يرجّح المكلّف بنفسه فلن يكون قول الفقيه ملزماً له إلا بالكبرى، والتي هي وجوب حفظ نفسه من الضلال عن الحقّ والانحراف والغواية، والمفروض أنّ هذه الكبرى يدركها بعقله العملي بلا حاجة لفتوى الفقيه.

ومثل هذا موجود في بعض المسائل الفقهية كأصل مسألة التقليد التي يرجع فيها الناس للتقليد، بل وكذا تقليد الأعلم أيضاً، فإنّها أمور لا معنى لحجيّة التقليد فيها كما تعرّضنا له في بعض المواضع من كتابنا المتواضع (إضاءات).

وأشير أخيراً إلى أنّه قد يحاول بعض الباحثين المعاصرين الاستناد إلى التحريم القرآني في مجالسة الذين يسخرون بآيات الله حتى يخوضوا في حديث غيره، وادّعاء أنّ هذا الحكم يشمل مطالعة الكتب أو النشريات أو المنشورات التي تهزأ بالدين وتسخر منه. وهذا غريب؛ فإنّ مجرّد المطالعة لا يعبّر عن إقرار كما قلنا سابقاً، ولا يعبّر ترك المطالعة عن موقف دائماً، بخلاف ما جاء في الآية فإنّه يعبر عن موقف من الكافرين الذين يمارسون السخرية بالدين في مواجهته، فالتعدية قياس ظنّي باطل، غير مستوفٍ للشروط أيضاً. على أنّ الآية حكمت بترك مجالستهم، لا بمنعهم عن الكلام، حتى يستدلّ بها بعض على منع كتب الضلال في أسواق المسلمين، مضافاً إلى أنّه ليس كلّ كتاب ضلال هو كتاب سخرية كما هو واضح.

4 ـ مواجهة الضلال وأساليب التعامل معه

من خلال مجموع ما تقدّم، نعرف الموقف من مواجهة الضلال، وأنه واجبٌ شرعاً، وتجوز فيه كلّ الوسائل المشروعة سلفاً دون غيرها، ونحن حيث لم نكن نبني إلا على حجيّة الخبر المطمأنّ بصدوره، فلا نطمئنّ بصدور خبر داوود بن سرحان؛ لتفرّد الكليني بنقله، وعدم تداوله بعده من قبل أحد حتى القرن العاشر الهجري، وليس له إلا سند واحد، مضافاً لبعض الملاحظات المتنيّة.

أمّا كيف نواجه الضلال اليوم في الداخل الإسلامي؟ نحن أمام اتجاهين في هذا الصدد:

الاتجاه الأوّل: اتجاه القطع والتخاصم، وهو الاتجاه الذي يؤمن بضرورة قطع الارتباط مع ظاهرة الضلال وممارسة حجر اجتماعي وسياسي واقتصادي عليها حيث أمكن، وشنّ هجوم تسقيطي عليها بمختلف الوسائل المتاحة، كاستصدار فتاوى أو مصادرة أعمالها العلميّة، والحيلولة دون مراجعة الناس لها، وحظر التواصل العلميّ مع هؤلاء، وتشويه صورتهم كي تسقط من أعين الناس، ولو عبر استخدام الكذب والبهتان، بل قد يصل الأمر إلى السجن والطرد والنفي والقتل وإغلاق مراكزهم ومصادرة أعمالهم ونحو ذلك، من قطع رواتبهم وطردهم من وظائفهم والتضييق المالي عليهم. هذا كله طبعاً إلى جانب النقد العلمي والبحثي.

الاتجاه الثاني: اتجاه الوصل والتحاور، وهذا الاتجاه يرى أنّ الطريقة الأولى غير مجدية اليوم إلا في حالات نادرة جداً ومحدودة للغاية، وأنّ السبيل الأفضل يكون عبر استخدام سياسة ثقافيّة استراتيجية يمكن تلخيص بعض خطوطها فيما يلي:

1 ـ القيام بنهضة فوريّة وشاملة في المراكز الدينية والمعاهد والحوزات العلميّة، بهدف إعداد كادر علمي جديد ومتمكّن من الدراسات المعاصرة والمناخات الفكرية العصرية التي تولّد أغلب هذه الأفكار، وهذا لا يكون إلا بنشاط يحتاج إلى سنوات متعددة، يكون جاداً ومدعوماً من قبل المرجعيات الدينية العليا والسلطات السياسيّة حيث يمكن. ثم توزيع أدوار هذا الكادر الضخم على مختلف المجالات الإعلاميّة كالتأليف والصحافة والإعلام المرئي والمسموع ووسائل التواصل الاجتماعي وغير ذلك، بحيث نملك جيشاً مجهزاً للمواجهة الفكرية النبيلة بعدّة وعتاد ممتازين.

2 ـ العمل التربوي على تكريس ما أسميناه في كتاب (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بمبدأ الوسطيّة في حمل الهمّ الديني، وهو المبدأ الذي يربّي العلماء والدعاة والعاملين على الهدوء النفسي والتخطيط الاستراتيجي، والتخلّي عن الانفعال والتوتر، وترك الخطابات المتشنّجة والموتورة، واستبدال ذلك بالأساليب الهادئة والموضوعية والرصينة، كونها تملك تأثيراً كبيراً اليوم في الجيل الصاعد، وهذا ما يحتاج إلى نشاط أخلاقي وتربوي ليس بالسهل، لخلق ثقافة جديدة مختلفة تماماً.

3 ـ الترويج لاستخدام المنطق العلمي، دون الأيديولوجي أو المصلحي، وهو المنطق الذي علّمنا إيّاه القرآن الكريم في قول الحقّ ولو على أنفسنا، وفي قول الحقّ ولو لصالح من نتخاصم معه وغير ذلك، وهذا المبدأ عندما يتمّ العمل عليه في خطابنا الثقافي سوف يساعد على خلق مصداقية كبيرة لنا، بدل أن نستخدم منطق تعتيم عيوبنا، وتعتيم حسنات الآخر، وعرض الآخر مشوّهاً، وتبرير أخطائنا وتبسيطها، وعدم الاعتراف بالحقّ ولا بنقاط الضعف، في مقابل عدم السعي لتبرير خطأ الآخر ولا حمله على الأحسن، ومع تضخيم خطئه وعدم الاعتراف له بعنصر إيجابي..

إنّ هذا الكيل بمكيالين هو الذي يشوّه اليوم صورة الدين والمؤسّسة الدينية والعاملين والحركيين الدينيين، إنّنا بحاجة لطريقة مثل السيد الصدر الهادئة في النقد العلمي حتى للاتجاهات الإلحادية، وأن لا يأخذنا الانفعال، بل نخطّط بهدوء وبشكل علمي سليم، إنها حرب، وليس المهم فيها الصراخ والضجيج، بقدر ما المهم فيها هو الإعداد والتخطيط.

4 ـ السعي لاستخدام المنطق البرهاني، دون الدخول في المنطق السجالي الجدلي إلا عند الضرورة؛ لأنّ المنطق البرهاني يقوّي بُنيتنا العلمية، ويقدّمنا أصحاب مشاريع فكريّة حقيقية في الأمّة، بدل المنطق الجدلي الذي يقدّمنا ردود أفعال غاضبة فقط.. إنّ الجمع بين النقد والبناء ـ كما فعل مثل السيد الصدر في اقتصادنا والأسس المنطقيّة ـ ضرورة كبيرة لنا اليوم.

وفي هذا الإطار، اُشير إلى فشل منهج تقطيع النصوص والنقد (الجُملي) للفكر، وهو منهج قزّمنا وحدّ من اُفقنا الفكري كثيراًَ، وحوّلنا إلى ما يشبه محاكم التفتيش في القرون الوسطى، فصار كلّ همّنا أن نكشف عقيدة فلان، ونستدرجه لنرى هل يقول بكذا أو لا؟ فإذا انكشف مزّقنا صورته، وأسقطناه في الحياة العامّة بأيّ وسيلة ممكنة، حتى لو كانت غير نبيلة وغير شريفة في ذاتها.

5 ـ القيام بوضع سياسة ثقافيّة استراتيجية تتحمّل الرأي الآخر، ولا تعيش التشنّج من الفكرة الغريبة والجديدة، بقدر ما تعيش روح التأمّل فيها، ثمّ نقدها على تقدير عدم الاقتناع بها، إنّ الاعتراف بالآخر لا يعني تصحيح فكره، بقدر ما يعني أنّه موجود قائم يمارس فعل البحث، وأنّ له الحقّ في ذلك، وأنّ المطلوب منّي اليوم هو الدفاع عن فكري بامتلاك الوسائل الأكثر تطوّراً منه في التأثير.

لكنّ هذا لا يعني أنّنا نقبل بغير البحث العلمي ـ مهما كان ضعيفاً ـ من الآخر، فنحن لا نقبل منه بالسخرية أو الاستهزاء أو التجديف بمقدّساتنا، وهذه قناعتنا وحقّنا، لكنّ النقد العلمي من الآخر على أفكارنا لا يساوق السخرية دوماً، على أنّ من لا يريد أن يُستهزأ بفكره وعقيدته عليه أن لا يمارس الاستهزاء بعقيدة الآخرين، وإلا فمن طَرق الباب فعليه أن يسمع الجواب.

6 ـ لا نستبعد منطق المؤامرة، فالمسلمون يعيشون التآمر عليهم منذ قرنين وأكثر، لكنّ هذا لا يعني استخدام حجّة المؤامرة ـ دون دليل علمي وشرعي وقضائي ـ لاتهام الآخرين، ومن يثبت تآمره على الأمّة والوطن فمن حقّنا محاكمته دون أن يرفّ لنا جفن.

وختاماً

أعتقد أنّ هذه هي السبيل الأفضل اليوم لمواجهة كلّ ظواهر الشواذ الفكري والضلال الديني في الأمّة، أمّا منطق التكفير والتجهيل والتقزيم والتفسيق والتخوين والتجريح والتعنيف والفحش والبذاءة والإهانات والتآمر والبهتان.. فقد باتت له اليوم تأثيرات سلبية جداً على الأجيال الصاعدة. وليس إذا رفضنا ممارسة هذه الأساليب أو قمعَ كتب الضلال، فنحن نمارس السكوت، ونتخاذل عن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إنّنا نؤمن بالمواجهة لما نختلف معه في الرأي، إلا أنّ الكلام كلّه إنّما هو في كيفية المواجهة وأساليبها الناجعة في هذه اللحظة أو تلك، بعد عدم وجود نصّ ديني يحدّد الأساليب ويلزمُنا بها، فينبغي عدم الخلط بين الأمور.

أقول: هذا ما أراه صلاحاً اليوم، ولكلّ أمر استثناء، ولا يجوز لنا التعويض عن ضعفنا وتخاذلنا ونقصنا بهجو الآخرين ولعنهم، فلنسأل أنفسنا سؤالاً: ألم يترك الناس الدين بسببنا؟ إنّهم لم يتركوه عن قناعة، بل تركوه عن ضغطٍ نفسي، وبعضهم لم يفرّ من الدين فقط، بل شرع بالانتقام منه ومحاربته.

إنّنا بحاجة لعلم المستقبليّات؛ لتكون لنا رؤية بعيدة المدى للمستقبل، فنخطّط له من موقع القوّة لا الضعف إن شاء الله. والله وليّ التوفيق.

 

 الهوامش:

(*) نشر هذا البحث في المجلّد الخامس من كتاب (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر)، للمؤلّف، وذلك عام 2015م.

([1] ) انظر: مستند الشيعة 14: 158.

([2] ) مرتضى مطهري، مجموعه آثار (مجموعة الأعمال الكاملة) 30: 566.

([3] ) كشاف القناع 1: 525 ـ 526.

([4] ) انظر: مجمع البيان 8: 76.

([5] ) يوسف الصانعي، مقاربات في التجديد الفقهي: 68.

([6] ) المصدر نفسه: 68 ـ 69.

([7] ) انظر: الطباطبائي، الميزان 16: 208.

([8] ) مقاربات في التجديد الفقهي: 68.

([9] ) انظر: النجفي، جواهر الكلام 22: 57.

([10] ) راجع: الطبرسي، جوامع الجامع 2: 558؛ ومجمع البيان 7: 148.

([11] ) جواهر الكلام 22: 57.

([12] ) المصدر نفسه 22: 56.

([13] ) راجع: مفتاح الكرامة 12: 207.

([14] ) كتاب من لا يحضره الفقيه 2: 267.

([15] ) الدعوات (سلوة الحزين): 112.

([16] ) الأنصاري، المكاسب 1: 234؛ وانظر: مصطفى الخميني، مستند تحرير الوسيلة 1: 412؛ ومرتضى مطهري، مجموعه آثار 30: 571.

([17] ) المكاسب 1: 234؛ وانظر: مصباح الفقاهة 1: 405؛ ومباني منهاج الصالحين 7: 290.

([18] ) انظر: حيدر حب الله، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع 4: 152 ـ 159.

([19] ) الكافي 1: 35؛ وتحف العقول: 297.

([20] ) المحاسن 1: 27.

([21] ) مستند الشيعة 14: 157.

([22] ) محمد بن حيدر النائيني، الحاشية على أصول الكافي: 109.

([23] ) تحف العقول: 333.

([24] ) راجع: مفتاح الكرامة 12: 206؛ ومستند الشيعة 14: 157؛ وجواهر الكلام 22: 56؛ والأنصاري، المكاسب: 29.

([25] ) مجموعه آثار 30: 572.

([26] ) الإيرواني، حاشية المكاسب 1: 17.

([27] ) انظر: مستند الشيعة 14: 158.

([28] ) انظر: جواهر الكلام 22: 57.

([29] ) تذكرة الفقهاء 9: 390؛ ومنتهى المطلب 2: 982.

([30] ) نهاية الإحكام 2: 471.

([31] ) راجع: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 1: 386، و3: 105؛ والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن 13: 355.

([32] ) أبو طالب المكّي، قوت القلوب 2: 139.

([33] ) انظر: المجموع 15: 328؛ وابن قدامة، المغني 6: 240؛ والبهوتي، كشاف القناع 1: 525، و 4: 300.

([34] ) راجع: المسند 3: 387؛ وسنن الدارمي 1: 115؛ وابن أبي عاصم، السنّة 5: 2؛ وابن عبد البر، جامع بيان العلم 2: 42؛ والهروي، ذمّ الكلام 4: 67؛ والضياء المقدسي، المنتقى 2: 33 وغيرها من المصادر.

([35] ) فتح الباري 13: 438؛ وإرواء الغليل 6: 34 ـ 38.

(1) مجموعه آثار 30: 567.

([37] ) انظر ـ على سبيل المثال ـ: النمازي الشاهرودي، تاريخ الفلسفة والتصوّف: 118 ـ 122.

([38] ) انظر ـ على سبيل المثال ـ: منتهى المطلب 2: 1013؛ ومجمع الفائدة والبرهان 8: 76؛ ورياض المسائل 1: 503 وغير ذلك.

([39] ) البحراني، الحدائق الناضرة 18: 141.

([40] ) مفتاح الكرامة 12: 209.

([41]) لمراجعة المسار التاريخي لمسألة كتب الضلال، يمكن الإطلاع على: محمد علي سلطاني، كتب ضالّة، ضمن: كتاب نقد ونقد كتاب: 379 ـ 428. نشر: مؤسسه خانه كتاب، إيران، الطبعة الأولى، 2007م.

([42] ) انظر: الخوانساري، جامع المدارك 3: 21.

([43] ) راجع: الأنصاري، المكاسب 1: 233؛ وجامع المدارك 3: 21.

([44] ) انظر: الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 402؛ ومباني منهاج الصالحين 7: 288.

([45] ) الإيرواني، حاشية المكاسب 1: 25.

([46] ) المنتظري، دراسات في المكاسب المحرّمة 3: 92.

([47] ) المصدر نفسه 2: 353 ـ 354.

([48] ) عوائد الأيّام: 197، 705 ـ 709.

([49] ) أنوار الهداية 1: 257.

([50] ) انظر: المرتضى، الذخيرة في علم الكلام: 553؛ وابن إدريس الحلّي، السرائر 2: 22.

([51] ) الصانعي، مقاربات في التجديد الفقهي: 79.

([52] ) المصدر نفسه.

([53] ) المصدر نفسه: 80.

([54] ) المصدر نفسه.

([55] ) حيدر حبّ الله، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 399 ـ 411.

([56] ) انظر: المصدر نفسه: 481 ـ 482.

([57] ) راجع: الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 8: 76؛ ومفتاح الكرامة 12: 207.

([58] ) الحدائق الناضرة 18: 142.

([59] ) مجموعه آثار 30: 575 ـ 576.

([60] ) انظر نصّ الرسالة عند: أحمد أبو زيد، محمد باقر الصدر، السيرة والمسيرة 3: 386.

([61] ) الصانعي، مقاربات في التجديد الفقهي: 82.

([62] ) انظر: الدروس الشرعيّة: 326؛ ومجمع الفائدة والبرهان 8: 75؛ ومفتاح الكرامة 4: 62.

([63] ) مقاربات في التجديد الفقهي: 82 ـ 83.

([64] ) حيدر حب الله، فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 411 ـ 431.

([65] ) انظر: المصدر نفسه: 470 ـ 516.

([66] ) جواهر الكلام 22: 57.

([67] ) انظر: حيدر حب الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 1: 59 ـ 200، و4: 287 ـ 335.

([68] ) انظر: المصدر نفسه 3: 393 ـ 451.

([69] ) انظر: مجموعه آثار 30: 574 ـ 575.

([70] ) انظر: مفتاح الكرامة 4: 62.

([71] ) رياض المسائل 1: 503.

([72] ) الصانعي، مقاربات في التجديد الفقهي: 86.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً