أحدث المقالات

إخفاقات في العقل والمنهج

ترجمة: محمد عبد الرزاق

 الفرضيات ــــــ

انطلقت المدرسة التفكيكية في الوسط الشيعي من مبدأ الفصل بين سبل المعرفة الثلاثة ـ أي الوحي والعقل والإلهام ـ، وادَّعت أيضاً تنافر الدين مع الفلسفة والعرفان. وقد واجهت هذه الفكرة انتقادات كثيرة من قبل أنصار الفلسفة الإسلامية، دافعوا فيها عن تضامن الدين مع الفلسفة والعرفان داخل المنظومة الشيعية. وقد صدر مؤخَّراً كتاب «الإلهيات الإلهية والإلهيات الإنسانية» دفاعاً عن هذه المدرسة بالتحديد. وغرض المقال الحالي هو مناقشة ونقد ما ورد في هذا الكتاب نقداً منهجياً، وإثبات بطلان مقدماته الاستدلالية، وأنه لا يزال الطريق أمامه طويلاً في إثبات مدَّعياته. وقد تناولنا هذه المدَّعيات والبراهين على شكل استدلال منطقي بمقدمتين: الأولى: حكم بعض الفلاسفة ببطلان الفلسفة؛ والثانية: صحة هذا الحكم. إذاً فالفلسفة باطلة فعلاً. وسنتعرض في مقالنا إلى محورين:

1ـ إثبات كذب المقدّمة الأولى، وأن كلام الفلاسفة كان مبتوراً ومحرَّفاً أيضاً.

2ـ إنه لا يمكن للفيلسوف أن يرفض الفلسفة بما هو فيلسوف؛ لأن هذا إلغاء ذاتي، فإلغاء الفلسفة سيؤدي إلى إلغاء الفيلسوف نفسه.

كتاب «الإلهيات الإلهية والإلهيات الإنسانية» ــــــ

يتعين على الباحث الديني أن يكون ملمّاً بالأساليب والمنهجيات، واختيار ما يناسب منها إثبات آرائه، وتجنب ما هو خاطئ أو غير مناسب. وهدف المقال هو تقديم نقد منهجي لكتابٍ كنّا ننتظر صدوره منذ سنوات طويلة. ولا نقصد بالنقد المنهجي هنا نقض مدعى الكتاب، أو مخالفة المدرسة التفكيكية والدفاع عن الفلسفة الإسلامية، لكننا نسعى فقط إلى استعراض قدرات الكتاب في إثبات نظرياته، وتقييم صلاحيتها في الاستدلال على الأفكار المذكورة في الكتاب. تحمل المدرسة المعروفة هذه الأيام بالتفكيكية هموم تنقيح الدين من المزاعم الفلسفية والعرفانية، فراحت تتبنّى مهمة الكشف عن معارف الوحي الحقّة، من خلال تحقيق هدفين أساسيين؛ الأول: السعي إلى تفكيك الاتجاهات المعرفية الثلاثة في أذهان المتدينين، فصلاً بين كلٍّ من الوحي والعقل والكشف أو بين الدين والفلسفة والعرفان؛ أما الثاني فهو تقديم المعارف الحقة والقرآنية للعمل بها([1]). ومن هذه الفكرة يلخَّص الأستاذ حكيمي القواعد العامة للمدرسة التفكيكية بما يلي:

1ـ  «الفصل بين الفلسفة والعرفان والدين».

2ـ «القول بأصالة المعرفة الدينية».

3ـ «انبثاق المعرفة الدينية عن القرآن والحديث».

4ـ «الاعتماد على ظاهر الآيات والروايات».

5ـ «رفض التأويل بجميع أشكاله»([2]).

أما ما حصل على الواقع فهو انتقاد الفلسفة الإسلامية؛ بسبب منشئها اليوناني المستمدّ من الطبيعيات القديمة، والاختلاف المعترف به في الآراء بين الفلاسفة وغيرهم. وقد تناولنا هذه التفاصيل بالدراسة والتحليل سابقاً([3]).

كان أنصار هذه المدرسة في صدد  تقديم «نقد منهجي خالص وعلمي في دراسة كل موضوع فلسفي وعرفاني، وبدقة متناهية؛ بعيداً عن أساليب المغالطة والانحياز للوقوف عن كثب على السدى واللحمة في هيكل الإشكالات الفلسفية»([4]).

كنا نسمع خلال العقدين المنصرمين اقتراب موعد صدور كتاب «الإلهيات الإلهية والإلهيات الإنسانية»، وأنه سيقدَّم براهين مستحكمة وعقلية يدحض بها الفلسفة، ويثبث فشلها من جهة، وتفوق المدرسة التفكيكية من جهة أخرى. وقد صدر الكتاب في جزءين. وقد تناول الأستاذ في الجزء الأول([5])  ـ وهو «المدخل» ـ مواضيع متنوعة، في (442) صفحة، اشتملت على ذكر ونقل أقوال عديدة؛ ليعدّ الأجواء والأرضية المناسبة لأساس بحثه، حتّى جاء دور الجزء الثاني([6])، وهو في (942) صفحة، ولعله أضخم مؤلَّفاته أيضاً، فتعرَّض فيه لآراء أعداء الفلسفة، متّخذاً منها دليلاً على بطلان الفلسفة من أساسها. وكان للأستاذ حكيمي في هذا الكتاب خطوتان أساسيتان: الأولى: السعي في إثبات بطلان الفلسفة؛ والثانية: إن هذا البطلان هو الدليل على القول بالتفكيكية؛ بمعنى أنه يكتفي في إثبات مدعيات المدرسة التفكيكية وإمكانية القول بالتفكيك بين الوحي والعقل والإلهام بآلية واحدة هي التدليل على بطلان الفلسفة. علماً أنه لم ينسَ إلى جانب هذا المدَّعى مسألة نقد العرفان وإثبات بطلانه، وهكذا بطلان العلوم الواردة من اليونان والهند.

ولن يُعنى المقال الحالي بالخطوة الثانية، وهي زعم السنخية بين بطلان الفلسفة وإثبات التفكيكية، بل سنكتفي بدراسة الخطوة الأولى فقط. وإذا أردنا احتواء جميع فرضيات هذا الكتاب في استدلال بسيط صنّفناها كما يلي:

المقدمة الأول: يفتي العظماء ـ وفي مقدمتهم الفلاسفة ـ ببطلان الفلسفة.

المقدمة الثانية: صحّة فتوى العظماء.

النتيجة: إذاً فالفلسفة باطلة.

لقد سيقت الأسماء والآراء لإثبات المقدمة الأولى في هذا الكتاب بما يربو على الأربعين نموذجاً، معظمهم من روّاد الفلسفة والفلاسفة، كابن سينا، ونصير الدين الطوسي، وآقا علي حكيم، والعلامة الطباطبائي. أما بالنسبة للمقدمة الثانية فلم يهتّم بها كثيراً، لكنه يصرح ويلمّح أحياناً بأنّ تجاهل رأي هؤلاء العظماء خلاف العقل.

ويرمي مقالنا إلى تخطئة هاتين المقدمتين، وإثبات بطلانهما. فنقول: أولاً: إن صغرى هذا القياس كاذبة من أساسها. وثانياً: على فرض التسليم بها فلا دليل على ضرورة قبول رأي هؤلاء العظماء في هذا الموضوع. ثم إن قبول كلامهم هذا باطل ونقضٌ ذاتيٌّ أيضاً. وفي النتيجة سننفي وجود دليل مقنع في هذا الكتاب على صحة النظرية التفكيكية وإمكانها، أو بطلان الفلسفة، وأنه لا يزال التفكيك بحاجة إلى إثبات.

 

 1ـ حكم الفلاسفة ببطلان الفلسفة ــــــ

إن أساس مدَّعى هذا الكتاب المطوَّل مبنيٌّ على آراء اثنين وأربعين شخصية بارزة في الفلسفة والعرفان والفقه، حيث صرحوا بأن الفلسفة كذا وكذا؛ فتارة توصف بـ «مزخرفات الفلاسفة»([7])، و«مفتعلات الفلاسفة»([8])؛ وأخرى بالمواضيع «العقلية ـ الوهمية»([9]). كما وصفت أيضاً بـ«الخزعبلات والترّهات»([10]). وقد شغلت الآراء المنقولة وتكرارها مساحة واسعة من صفحات الكتاب. فعلى سبيل المثال: هناك تسع صفحات مخصَّصة بالكامل لنقل كلام العلامة الجعفري([11]). وكان هذا الكلام المكرَّر يحمل دلالة واحدة مفادها: بطلان الفلسفة. ويلاحظ أن آلية الكتاب تعتمد على سرد بعض النصوص بوصفها «رأياً» لهذا الفيلسوف أو ذاك، ومن ثم يخصَّص جملة من الصفحات للثناء والإطراء على «صاحب الرأي» المذكور، ثم يستعرض «نتيجة الرأي» للقارئ مرّة أخرى، فيحكم بلغة الخطاب ببطلان الفلسفة. فمثلاً: خصَّص الكاتب (127) صفحة لنقل كلام الملاّ صدرا في نقد الفلسفة وتحليله.

لكننا إذا شككنا بعض الشيء بهذه الأقوال المروية، ورجعنا إلى مصدرها الأصلي، سنلاحظ أن معظمها لن ينجح في اختبار السلامة. ويمكن بيان أبرز عيوب رواية تلك الأقوال في النقاط التالية:

أ ـ النقل الناقص.

ب ـ الخروج عن صلب الموضوع.

ج ـ إهمال التصريحات الأخرى للقائل.

د ـ نسبة الكلام بلا مصدر.

هـ ـ النقل الكاذب.

وعلى هذا الأساس لا يمكن الاستناد إلى الأقوال المروية، وقبول المقدمة الأولى. وإليك نماذج من تلك العيوب:

 

أ ـ النقل الناقص ــــــ

إن معظم الأقوال المروية في هذا الكتاب كانت ناقصة. وإذا رجعنا إلى مصدرها، وربطنا الصدر بالعجز، سنكتشف خلافَ مدَّعى صاحب الكتاب. ولإثبات ذلك ننقل ثلاثة أمثلة لكلٍّ من نصير الدين الطوسي، والطباطبائي، والآشتياني:

 

 حكم نصير الدين الطوسي  بوهمية الفلسفة ــــــ

ورد في الكتاب كلام مسهب للخواجة نصير الدين الطوسي يهاجم فيه الفلسفة. وكان الأستاذ قد نقله من مقدَّمة شرح الإشارات، وهو: لا يخلو هذان النوعان من الحكمة النظرية ـ أي الطبيعي والإلهي ـ من انغلاق شديد واشتباه عظيم. لماذا؟ لأن الوهم يعارض العقل في مأخذهما، والباطل يشاكل الحق في مباحثهما؛ ولذلك كانت مسائلهما معارك الآراء المتخالفة، ومصادم الأهواء المتقابلة، حتى لا يُرجى أن يتطابق عليها أهل زمان، ولا يكاد يتصالح عليها نوع الإنسان. ثم لابدّ من توفر ستّة شروط في طالبهما: 1ـ مزيد من تجريد العقل. 2ـ تمييز الذهن. 3ـ تصفية الفكر. 4ـ تدقيق النظر. 5ـ انقطاع عن الشهوات الجنسية. 6ـ الابتعاد عن وساوس الدنيا([12]). بعد هذا يتَّجه الأستاذ إلى وضع استنتاجاته من العبارة المذكورة، فيقضي بـ«وهمية وعقلية» مواضيع الفلسفة([13]). وكثيراً ما يؤكِّد الأستاذ على هذا المدَّعى في كتبه الأخرى، وهو بأن الطوسي معترف أيضاً بأن الفلسفة ليست عقلية، وإنما «عقلية ـ وهمية»([14]). وبالتالي يخلص إلى أن رأي الطوسي هو «أن مواضيع الفلسفة هي عبارة عن خليط من المفاهيم العقلية والأوهام»([15]).

أما إذا عدنا إلى أصل المصدر فسنجد الطوسي ينادي بتأييد الفلسفة، ويدعونا إلى إدراك أهميتها. فقد كان ابن سينا في بداية كتابه الطبيعيات يؤكِّد على إبعاد الفلسفة وحجبها عن الغرباء. أما الطوسي فعلَّق على هذا الكلام، وقد ذكر الأستاذ جانباً منه، ومفاده أن الفلسفة عرضة للخطأ المحتمل؛ لأنها تشد صراعاً بين الوهم والعقل. لكنّ الطوسي في تكملة كلامه ـ التي لم يذكرها الأستاذ ـ يكشف عن رأيه في الفلسفة ومدى أهميتها. وإليك نص كلامه الذي حذف منه؛ ليتسنى مع ذلك إصدار الحكم العادل: «إعلم أن هذين النوعين من الحكمة النظرية ـ أعني الطبيعي والإلهي ـ لا يخلوان عن انغلاق شديد واشتباه عظيم؛ إذ الوهم يعارض العقل في مأخذهما، والباطل يشاكل الحق في مباحثهما؛ ولذلك كانت مسائلهما معارك الآراء المتخالفة، ومصادم الأهواء المتقابلة، حتى لا يرجى أن يتطابق عليها أهل زمان، ولا يكاد يتصالح عليها نوع الإنسان. والناظر فيها يحتاج إلى مزيد تجريد للعقل، وتمييز للذهن، وتصفية للفكر، وتدقيق النظر، وانقطاع عن الشوائب الحية، وانفصال عن الوساوس، فإن من تيسَّر له الاستبصار فيهما فقد فاز فوزاً عظيماً، وإلاّ فقد خسر خسراناً مبيناً؛ لأن الفائز بهما مترقٍّ إلى مراتب الحكماء المحقِّقين ـ الذين هم أفاضل الناس ـ، والخاسر بهما نازل في منازل المتفلسفة المقلِّدين ـ الذين هم أراذل الخلق ـ، ولذلك وصّى الشيخ بالتحفُّظ على هذا القسم من كتابه كل التحفُّظ، وأمر بالضن به كل الضن([16]).

كما نقرأ للطوسي في مقدمة الجزء الأول من الكتاب نفسه وصف الفلسفة بأنها أسمى العلوم، وأن تعلُّمها يضمن للإنسان سعادته([17]). لكن الأستاذ نقل كلامه وحذف محوره الأصلي، واستنتج منه نتائج لا يمكن قبولها أصلاً.

 

  الآشتياني وتخطئة الملا صدرا ــــــ

ينقل صاحب الكتاب ـ في معرض حديثه عن عيوب مؤلَّفات الملا صدرا وآرائه ـ كلاماً عن مقدمة الشواهد الربوبية، وقد جاء فيه: كان الميرزا أبو الحسن جلوه هو أول من حاول تخطئة الملا صدرا، وتوجيه القدح والطعن للآخوند بصورة مباشرة، حين راح يستعرض في جلسات درسه مؤاخذاته على الآخوند([18]).

وحين رجعنا إلى النص الأصلي وجدنا أنه لم يكن ناقصاً فحسب، بل إن المتكلم ـ أي الآشتياني ـ كان بصدد انتقاد الميرزا جلوه، وليس بصدد تأييد موقفه. وإليك النص بالكامل: إن أول شخص ذهب إلى تخطئة الملا صدرا ـ تلميحاً ـ([19])، ورام القدح مباشرة بالآخوند، هو الميرزا أبو الحسن جلوه(1312هـ)؛ إذ كان يتعرض ـ أحياناً ـ([20]) في مجلس درسه لمؤاخذات الآخوند. وفي أيامنا هذه أيضاً كان آقا ضياء الدين الدري وآخرون من الطلبة ـ الذين لا أظنهم يدعون الفلسفة ـ قد تحاملوا بجهلهم وظلمهم للكشف عن سرقات الملا صدرا العلمية([21]).

ولسنا هنا في صدد تصحيح رأي الآشتياني وتخطئة الميرزا جلوه، لكن القضية ترتبط أولاً: بتقييد الآشتياني كلامه بقيدين، هما: «تلميحاً»؛ و«أحياناً»، أي إن ذلك لم يكن ديدناً للميرزا؛ وثانياً: إنه يريد أن يقول بأن نقد الميرزا كان وليداً للبس، وعجزه في إدراك فلسفة صدر المتألهين. لكن النص المنقول في كتاب الإلهيات الإلهية كان مطلقاً، ويوحي كذلك بتأييد ناقله لموقف الميرزا. فإن هذا الشكل من النقل ناقص من جهة، ومنحرف عن السياق الأصلي من جهة أخرى. علماً أن الكتاب المذكور يحتوي على الكثير من الأقوال المنقولة على هذه الشاكلة، والتي إن رجعنا إلى مصادرها الأمّ وجدناها تعاني من السقم ذاته.

 

رأي الطباطبائي في دوافع ترجمة الفلسفة اليونانية ــــــ

أما النموذج الثالث للنقل الناقص فهو كلام العلامة الطباطبائي. فلطالما كان يستشهد الأستاذ حكيمي بكلماته بحماسة وإطراء، واصفاً إياّه بـ «الحرية العلمية»([22]). ثم يخلص عبر ذلك إلى الحكم ببطلان الفلسفة.

وقد خصَّص الأستاذ (60) صفحة من كتابه للطباطبائي، نقل فيها آراءه المناهضة للفلسفة؛ إذ يرى الطباطبائي ـ حسب النقل ـ أنه «قد تكون أعمال ترجمة الإلهيات ترمي إلى غلق أبواب أهل البيت»([23]).

لقد تكرر هذا المضمون والكلام كثيراً في مؤلَّفات الأستاذ المختلفة، تدليلاً منه على مكايد الخلفاء بأهل البيت^([24]). وحين راجعنا مدوَّنة العلامة الطباطبائي عثرنا على تباين الأصل والنقل. فالكلام عائد لستة أسئلة طرحها أحدهم على العلامة في رسالة، وجاء في السؤال الأول: «هل كان الهدف من ترجمة الفلسفة اليونانية (الإلهيات) إلى العربية عقب بعثة الرسول| بقرون هو اطلاع المسلمين على علوم الأقوام الأخرى أم كان بدافع صدّ الناس عن الرجوع إلى أهل البيت^؟»([25]).

وكان جواب العلامة عن الأسئلة مفصَّلاً جداً، إلا أن الأستاذ حكيمي اكتفى بنقل جانب منه، وترك بقية الحديث الكاشفة عن رأي الطباطبائي فعلاً. وسننقل هنا موضع الشاهد، بدلاً من الإطالة في نقل النص بالكامل؛ لتتضح الفكرة: «يمكن أن يقال بأن الهدف من ترجمة الإلهيات هو غلق أبواب أهل البيت، لكن هل من الممكن أن يكون هذا الهدف المغرض للحكام، واستغلالهم عنصر الترجمة في نشر الإلهيات، سبباً في استغنائنا عن مواضيع الإلهيات، فيؤدي ذلك إلى تجنبها وهجرها بالكامل؟ إن نصوص الإلهيات عبارة عن بحوث عقلية محضة، محصلتها إثبات الصانع، وإثبات وجوب الوجود. إن الوحدانية وسائر صفات الكمال ولوازم الوجود الإلهية مستمدّة من النبوة والمعاد، وهي ما يصطلح عليه بمواضيع أصول الدين، التي لابد من إثباتها ـ ابتداءً ـ عن طريق العقل؛ كي تحرز حجية الكتاب والسنّة، وإلا سنقع في الاستدلال الدوري، وهو باطل. فحتى ما ورد في الكتاب والسنة من أصول الدين، كالاعتقاد بوجود الله ووحدانيته وغيرها، كان قد استدلّ عليها عن طريق العقل أيضاً([26]).

مع ذلك دأب الأستاذ على نقل هذا الكلام المقتطع في مؤلَّفاته، مستفيداً منه في باب إبطال الفلسفة. وكان السيد حسين أستاذ ولي قد أشكل على هذه الطريقة الاستدلالية، دون أن يخوض في جدالات المدرسة التفكيكية، فكتب يقول: «ذكر الكاتب جانباً من حديث العلامة يحمل ملامح تفكيكية، متجاهلاً في ذلك تكملة الحديث المناقضة لتلك الملامح»([27]). وبعدما أورد النص الكامل إلى جوار نص الأستاذ، وراح يقارن بين النصين، أضاف: «لست معنياً بصحة أو سقم الاتجاه التفكيكي، أو رجحان وبطلان الأساليب الفلسفية، وتداخل المعارف الفلسفية وغيرها مع المعارف القرآنية. فأنا أقول: على فرض صحة ذلك الاتجاه فلماذا يسعى في إثباته إلى نقل الكلام المبتور عن كبار الفلاسفة؟ ألا يخالف هذا الأسلوب أساليب أهل البيت في بيان الحقائق؟»([28]).

نحن أيضاً كنّا قد فصلنا القول في هذا الموضوع، وأثبتنا هفواته ـ ولاسيما الاقتطاع الحاصل في كلام العلامة ـ في مناسبة سابقة([29]). كذلك أشكل (محمد حسن وكيلي) على النقص الحاصل في الأقوال المنقولة، واصفاً كتب الأستاذ بأنها مليئة بهذا النوع من الأقوال، فقال: «ثمة كمّ هائل من المواضيع التاريخية التي تخالف الواقع. فقد عمد الكاتب ـ ولأسباب يعرفها هو ـ إلى تحريف التاريخ، وسوقه إلى ما يصب في صالح المدرسة التفكيكية، من خلال اقتطاع العبائر والترجمات الخاطئة»([30]).

 

  مفارقة من العيار الثقيل ــــــ

كان الأستاذ نفسه يذمّ عملية نقل الكلام ناقصاً، ونهى عما وصف بـ«التقطيع»، وذكر بأن أهم ما يميَّز العلامة الأميني ـ صاحب الغدير ـ هو الأمانة في النقل، فقال: «يبقى الأساس في الوثوق بالمؤلَّفات المعتمدة على النقل والرواية هو الأمانة، فإن لم تتوفَّر الأمانة فيهما فَقَدَتْ قيمتها بالمرّة. والمؤسف هو أن أكثر مَنْ يطلق عليهم ألقاب المحقِّق والمؤرَّخ والباحث هم بعيدون كل البعد عن أبجديات الاختصاص»([31]).

ثم ذكر أن أهم ما يتَّسم به عمل الأميني هو هذا «الإفحام»، وكشف «النصوص المجتزأة أو الكاذبة». وقال في  تعريف النقل المقتطع: «النقل المقتطع هو عبارة عن نقل جزء من الكلام أو النص التاريخي أو الفلسفي وحذف الجزء الآخر على الرغم من وحدة الموضوع وترابطه. فإذا تم النص أعطى دلالة مختلفة عن النص المقتطع، أو أن القارئ سيفهم أمراً مغايراً إن اطّلع على النص الكامل»([32]).

ثم راح الأستاذ ينصح المؤلِّفين والمحققين بأخذ الدرس من أمانة صاحب الغدير، ولاسيما في الكتب المختصّة بالتاريخ أو الفقه؛ وذلك لأن «الرواية الضعيفة، أو الخيانة في النقل، أو عدم التدقيق والرجوع إلى النسخ غير الموثَّقة، أو النقل بالتقطيع، كلُّ هذا سيؤدّي إلى تشويه الحقائق، وتدمير الثوابت، ووأد المعرفة، فيهدر العلم ويضلّ القارئ، ويمحى التاريخ، وتتشتَّت الأبحاث والدراسات»([33]).

وهذا ما حصل وشوهد أغلبه في مؤلَّفات الأستاذ الأخيرة، وخصوصاً كتابه «الإلهيات الإلهية». وعلى الرغم من اعترافه بعدم نقل كلام الطباطبائي كاملاً حول منشأ الفلسفة اليوناني، لكنه لا يسمي ذلك «تقطيعاً»؛ لأن كلام الطباطبائي في قسمين، لكل واحد مغزى مستقلّ([34]). والواقع أن هذا التعليل ليس سديداً، فليس لكلام العلامة إلاّ مغزى واحد، ولا يكتمل إلا إذا أثبت النصّ بالكامل. وكأن السائل كان يتصوَّر أن «دوافع الفلسفة غير المشروعة، وأمر الخلفاء بالترجمة، هو سببٌ في بطلان الفلسفة من أساسها»، لكن الطباطبائي يردّ بقوله: «على الرغم من دوافع الترجمة المغرضة تبقى الفلسفة صحيحة». وأكبر دليل على وجود التقطيع هو أن ما ينقله الأستاذ كان يقف قبل كلمة «لكن»، التي يفصَّل بعدها الطباطبائي قوله في الدفاع عن قواعد الفلسفة والمواضيع العقلية. ومعلوم أن «لكن» في عرف الأدباء للاستدراك ، وكأنّ حديث المتكلِّم لم يكتمل بعد، وله تتمة. فهذه التعابير وغيرها إنما يؤتى بها «من أجل رفع اللبس عن فهم العبارة الأولى»([35]). فحين يسترسل الكاتب في كتابة موضوع ما، ويحسّ بوجود كلام يحتمل الخطأ في الفهم، يستدرك بهذا التعبير، فيحول دون وقوع ذلك. وعليه لابد من إيراد النصّ بالكامل، ولا ينبغي قطعه عند كلمة «لكنْ». إذاً فإنّ النقل من الكلام المتضمَّن لألفاظ «لكنْ» وغيرها هو مصداق بارز للتقطيع.

 

   ب ـ الخروج عن صلب الموضوع ــــــ

خرجت بعض الأقوال التي استشهد بها الأستاذ في رفض الفلسفة والفلاسفة عن صلب وأساس موضوعها الأصلي، واكتسبت معنى آخر. وسنكتفي بذكر مثالين على ذلك:

 

  المثال الأول:  الميرفندرسكي والفلسفة الخطّاءة ــــــ

ينقل عن الأستاذ الميرفندرسكي ـ معجزة العصر والفيلسوف الزاهد ـ قوله: «قد يقع الفلاسفة أحياناً في الخطأ، سواء على صعيد العلم أم العمل، أما الأنبياء فلا يصدر عنهم الخطأ في كلا الصعيدين»([36]).

من هنا يصرّ الأستاذ على أن الميرفندرسكي يهاجم الفلاسفة، ويرى الفلسفة عرضة للخطأ. ثم يسأل بعد ذلك : «لماذا لا نستقي معارفنا من القرآن؟»([37]). والحال أن الميرفندرسكي يقول بأن الفلاسفة عرضة للخطأ، والأنبياء معصومون عنه. ثم يعدل في كلام الميرفندرسكي فيقول: «إن تعبير «أحياناً» إنما هو من باب المسامحة، وإلاّ فإن هذا الكم الهائل من المذاهب الفلسفية والمدارس الفكرية ـ قديماً وحديثاً، غرباً وشرقاً ـ يدل على وجود تضاد وأخطاء كثيرة ومستمرة»([38]).

في الواقع ليس هذا الكلام ـ المنقول بصورة مباشرة ـ للميرفندرسكي أصلاً، وإذا رجعنا إلى كلامه سنجد أنه لا يريد القول بأن الفلاسفة يخطئون، وإنما أراد بيان الفرق بين الفلاسفة والأنبياء، ومنبع معرفة كل واحد منهما، فقال: يروى أن عَمْرو بن العاص ذمّ أرسطوطاليس أمام النبي|، فغضب عليه، وقال: «مَهْ يا عمرو، إن أرسطوطاليس كان نبيّاً فجهله قومه». لكن مع هذا لا يصحّ أن يطلق عليه مفهوم «النبيّ» بالمعنى الحقيقي؛ للفروق التي ذكرناها، وسنذكر بقيتها تباعاً. أما تسمية الرسول| له فكانت من باب المجاز اللغوي؛ بما حازه من مراتب العلم، لكن المصدر مختلف، فذاك بالتفكير وهذا بلا تفكير، وذاك غير معصوم عن الخطأ وهذا لا يخطئ أبداً. وهناك  فوارق أخرى سنبيِّنها إن شاء الله تعالى وحده»([39]).

إذاً هو ينفذ إلى التفريق بين الاثنين من خلال مصادر معرفتهما، ليستدل على قابلية المعرفة البشرية للخطأ، وليس معنى ذلك أن الفلاسفة وقعوا في الخطأ فعلاً. لكن الأستاذ غيّر في كلامه، واستنتج منه ما لا يلتقي مع رؤية الميرفندرسكي إطلاقاً.

 

 المثال الثاني: دكاكين الفلاسفة ــــــ

نقل الأستاذ عقب كلام الطباطبائي كلاماً مسهباً لأحد تلامذته وأستاذ الفلسفة في قم حالياً، وهو الشيخ مصباح اليزدي، يؤيَّد فيه رأي أستاذه في أن حكام بني أمية وبني العباس «سعوا إلى نصب دكاكين فلسفية في مقابل مدرسة أهل البيت^»([40]).

لكنّ مراجعة كلامه في المصدر كشفت لنا أنه في صدد استعراض جملة عوامل أسهمت في ازدهار العلوم الإسلامية، ومنها: الفلسفة، فكان أحدها دور الخلفاء، الذين أسهموا ـ بقصد أو بغير قصد ـ في تحقيق تلك الأهداف. فكتب في مطلع حديثه عن الموضوع: «لقد دأب المسلمون ـ في ضوء إرشادات الرسول| وخلفائه المعصومين ـ على اكتساب مختلف العلوم، فترجموا تراث اليونان والرومان وإيران إلى اللغة العربية، واستخرجوا منه العناصر الفعّالة، واستكملوها بدراساتهم، وتوصَّلوا إلى اختراعات واكتشافات عديدة في مجالات الجبر والمثلَّثات وعلم الهيئة والمرايا والفيزياء والكيمياء»([41]). ثم تطرق بعد ذلك إلى عامل آخر هو دور الخلفاء المشار إليه، فكتب يقول ـ وهذا هو دليل حكيمي في الموضوع ـ: «تأسيساً عليه باتت الساحة الإسلامية تزخر بالعديد من الأفكار والفلسفات والعلوم والفنون، التي دخلت إليها بدوافع العدوّ والصديق، فأخذ المسلمون يحقِّقون ويبحثون ويفيدون منها، فأفرز لنا ذلك أسماء لامعة في سماء العلم والفلسفة على الصعيد الإسلامي. وبهذا تمّ تخصيب الثقافة الإسلامية»([42]).

 

  ج ـ  إهمال التصريحات الأخرى للقائل ــــــ

ورد في الكتاب أيضاً الاستشهاد ببعض أقوال العلماء، دون لحاظ مدارسهم ومذاهبهم الفكرية وما لهم من آراء أخرى، بحيث صار كلامهم المنقول يوحي بتبنيهم هذا الرأي أو ذاك في حقّ الفلسفة والفلاسفة. لكنك بمراجعة النصوص الأصلية تكتشف خلاف ذلك تماماً. فعلى سبيل المثال: تطرق الأستاذ إلى الشيخ البهائي، واصفاً إياه بأنه «من نوادر الدهر»، ونقل عنه أشعاراً تندد بالفلسفة وابن سينا، وتشجب مقارنة حكمة اليونان بحكمة الإيمان. وأضاف: إنّ البهائي كان يصف «كتاب الشفاء بأنه كأس السم»([43]). وإليك جانبٌ ممّا اختاره الكاتب من ديوان الشيخ البهائي:

إلى متى تبقى شقياً ومهانْ، جتر من درن اليونان؟([44]).

إلى متى نتناقش في الهيولى؟ خذ المعنى دعِ الصورة

من خلا قلبه من نور الإله بات للشيطان صخراً يستنجي به([45]).

شغفٌ في حكمة اليونان تبدي فتعلم حكمة الإيمان أيضاً([46]).

وهكذا يسترسل الكاتب في تخيُّر 35 بيتاً من مختلف صفحات ديوان الشيخ البهائي؛ ليثبت من خلالها معاداته للفلسفة، دون أن يلتفت إلى رأيه العام في العلوم الإسلامية، ومنها: الفلسفة. ويمكن توظيف هذه الطريقة من قبل المخالفين للفقه والأصول والتفسير والحديث، بل وحتى في مخالفة التفكيكية نفسها. ويمكن لهم ـ بجهد بسيط ـ الاستدلال على مدَّعياتهم بأشعار البهائي نفسه. وللتدليل على ذلك نذكر بعض النماذج الشعرية للبهائي في إطار هذه الطريقة المرفوضة، وتحديداً من ذات المصدر الذي رجع إليه حكيمي نفسه، حيث وجّه الشيخ البهائي في قصيدة «الخبز والحلوى» انتقادات إلى العلوم التقليدية،بما فيها الفقه والتفسير، وألقى بها جميعاً في سلّة المهملات:

هذه العلوم أقاويل في أقاويل، لا نفع منها ولا شرف يطال

ملل الخاطر منها قادم، (مولوي) يرفض هذا كلّه.

وما أروع قول العربي في حجاز الشعر قول يؤثر:

«كل من لم يعشق الوجه الحسن قرَّب الجلّ إليه والرسن»

فإذا قيل نفد العمر ولم يبق سوى سبعة أيام وستلقى باليقين

فماذا سيكون همك حينها، هل هو العلم يا سيد العارفين؟

أم  الفلسفة أم النحو أم الطب والنجوم؟

هل هو الهندسة أم الرمل أم الأعداد المشؤومة؟

ليس من علم سوى علم الغرام، وما خلاف ذلك ذنب وحرام([47]).

وله أيضاً أبيات أخرى يهاجم فيها العلوم الإسلامية، ومنها: الفقه والأصول والتفسير، واصفاً تعلَّمها بأنّه مضيعة للوقت:

إن هذا الفقه والتفسير أو علم الحديث هي أهواء لإبليس الخبيث([48]).

أو قوله أيضاً:

كم بهذا الفقه تمضي وتجول، تمحق العقل أيا ربّ الفضول؟([49]).

ثم يحكم على سائر العلوم التقليدية بالإعدام، فيقول: كل علم خاسر في خاسر فخذ العشق كعلم أوحد([50]). وإذا شاء أنصار الفلسفة والكلام الاستشهاد بكلام البهائي في مناهضة المدرسة التفكيكية ـ حسب طريقة الأستاذ هذه ـ لاستدلّوا بقوله: صار يعمل بالظواهر كالعوام، فعدوُّ الحكمة تارة، وعدوٌّ للكلام، تارة يطعن أرسطاليس وتارة أفلاطون، والحال أنّهم أبرياء([51]).

في الواقع لا يمكن استنباط رأي البهائي من النصوص الشعرية؛ فهو خيال شعري، وليس محل استدلال. كما لا يصح إغفال آرائه الأخرى، ومصادرة تراثه بهذه الطريقة. علماً أن الأستاذ حكيمي ذكر ببعض أبيات البهائي المؤيدة للفلسفة، وأخذ يحاول تأويلها، فقال: إن مراده من الفلسفة فيها هي «تلك التي توافق مسار الوحي دون تأويلات»([52]). لكنْ ما هو الدليل على هذا الكلام؟ وماذا سنقول عن الأشعار المناهضة للفقه والتفسير والحديث أو تلك التي تشنّ هجوماً عنيفاً على قلاع المدرسة التفكيكية، أي الاتجاه الظواهري؟

لابد من تتبُّع أسباب خلاف البهائي مع الفلسفة في مكان آخر. وكان السيد (جهان بخش) قد بحث في موقف البهائي الجدلي تجاه الفلسفة، ورأى أن ذلك صادر عن عاملين: الأول: هو السجالات القديمة بين «المتصوفة والفلاسفة»، ومن الطبيعي أن يخالف كل متصوَّف وعارف أساس الفلسفة، «وأن يعدّ الحكمة اليونانية ـ سيراً على خطى سلفه من العرفاء ـ آفة الإيمان والمؤمنين». والثاني: هو ذوقه ومزاجه العرفاني المتنافر مع جميع العلوم التقليدية أو الظاهرية، بما في ذلك الفقه والأصول والتفسير والحديث. ولهذا فهو يعد جميع العلوم، «سواء اليونانية أم الفارسية، مكية كانت أم مدنية، مدعاة للملل والأقاويل طالما أنها لا تنتمي لعوالم العشق وأمزجة العرفاء»([53]). وبعبارة أخرى: هو تارةً كعارف يخالف الفلاسفة خلافاً مدرسياً، فيعد العرفان متفوَّقاً على الفلسفة؛ وتارةً أخرى هو معارضٌ لجميع العلوم وأربابها ـ بما فيهم الفلاسفة ـ، فيميز بين طريق القلب وطريق العلوم التقليدية، حتى وإن كان الفقه والتفسير والأدلة النصية من ضمنها. من هنا تكون معارضة البهائي ممتدّةً أيضاً إلى عرين المدرسة التفكيكية. وعليه ليس من صالح الطرف الآخر الخوض في سجالات رفض الفلسفة.

وكذلك هو الكلام حول موقف الشيخ البهائي من ابن سينا، فإن سبب ذلك مختلف تماماً، وله محلٌّ خاص به. وحسب (حبيب آبادي) فقد كان بعض العلماء ـ كالمجلسي في البحار ـ يعدون ابن سينا سنّياً، وتحاملوا عليه لهذا السبب، ولاسيما الشيخ البهائي ـ أعلى الله مقامه ـ، فكان كثير الطعن على ابن سينا، والتعريض به في كتاباته، من قبيل: الإفراط في مذمته بقصائد الخبز والحلوى، والحليب والسكر، والتنديد بمؤلَّفاته أيضاً»([54]). علماً أنه لم يَرِدْ تصريحٌ في البحار بسنّية الشيخ الرئيس، لكن المجلسي ذهب إلى أبعد من ذلك، فوصف بعض آرائه بالمخالفة للأديان والشرائع، وعزا بعض تصريحاته المنسجمة مع الدين إلى خوفه من غضب الناس من حوله([55]).

وليس غرضنا من هذا مناقشة أو تبرير آراء الشيخ البهائي، وإنما الغرض هو بيان مدى التبعات الناجمة عن الاستدلال بكلام شخصٍ ما دون الالتفات إلى رؤيته العامة في الموضوع.

 

 د ـ  نسبة الكلام بلا مصدر ــــــ

كان ينتظر من الأستاذ في كتابه إذا ذكر «رأياً» لأحدٍ ما أن يستقيه من كلامه وكتبه، لكنّ ما حصل هو نسبة بعض الآراء إلى أشخاص دون أن ينقل عنهم كلاماً يؤيد ذلك، أو أن يتم الإرجاع إلى مؤلَّفاتهم. وهذا ما وقع فعلاً في نسبة الكلام إلى الشهيد الصدر؛ إذ نقل الأستاذ في كتابه ثلاثة نصوص تحت عنوان «رأي الشهيد الصدر»، لخَّص فيها شخصية «صاحب الرأي»، ثم استنتج في المحصَّلة تقييماً مفاده: «عدم اكتراث الشهيد الصدر ـ هذا العبقري ـ بالمقولات العرفانية»([56]). وعلى هذا الغرار جاء الدليل على بطلان الفلسفة ومنطق أرسطو. لكننا حين نرجع إلى أصول ومصادر هذه الأقوال لا نجد شيئاً منها عائداً للشهيد الصدر فعلاً. وإليك أُولى تلك النصوص: «لا يؤمن الشهيد الصدر بكفاءة المنطق الصوري، ووجّه انتقادات لآراء أرسطو»([57]).

أما مصدر هذا المدّعى فهو كتاب بعنوان «العقل الأحمر» [عقل سرخ]، وهو عبارة هن مجموعة من مقالات للأستاذ نفسه، أي ادّعى في هذا الكتاب مخالفة الشهيد الصدر للمنطق الأرسطي، وتجاوز الموضوع دون تقديم دليل يذكر([58])، ثم جاء بعد ذلك في هذا الكتاب ليجعل منه دليلاً ومصدراً لقوله.

أما بالنسبة للقول الثاني والثالث فمحصَّلهما هو «أن الشهيد الصدر لم يعبأ أبداً بالطريقة العرفانية في كسب المعرفة»([59])، وأنه كان يصبو إلى تأسيس فلسفة جديدة([60]). ومصدر هذين القولين مقالٌ بعنوان «لمحات من الفكر الفلسفي للشهيد محمد باقر الصدر»، لكاتبٍ اسمه «ج. أ. ح»، وكان هذا الكاتب المجهول أيضاً قد نسب مدَّعاه هذا إلى مقالٍ للسيد عمار أبو رغيف، بعنوان «نظرية المعرفة بين الشهيدين مطهري والصدر»([61]).

يلاحظ في نسبة هذا الكلام إلى الشهيد الصدر وجود إشكالين: الأول: إن كاتب المقال شخص مجهول تماماً؛ والثاني: إن ما نسب من آراء الشهيد لم تكن مأخوذة من كتاباته شخصياً، وإنما هي لشخص آخر. وإذا كان من المقرَّر استجلاء رأي الشهيد الصدر في موضوعة الفلسفة أو أية قضية أخرى فلابد من الرجوع والإرجاع إلى مؤلَّفاته هو، لا أن ننسب إليه الكلام والآراء عبر واسطتين.

وتكشف لنا مراجعة مؤلَّفات الشهيد الصدر أنه لم يكن في صدد انتقاد أرسطو، بل على العكس كان يحاول رفع غمامة التفسيرات الواهمة عن منطقه، ولاسيما في باب الاستقراء. فكتب في الخطأ الناجم عن فهم وتفسير الاستقراء الأرسطي: «وعلى هذا الضوء نعرف خطأ كثير من الباحثين المحدثين وغيرهم، إذ خُيَّل إليهم أن المنطق الأرسطي ينكر التعميمات الاستقرائية، ولا يعترف بالقضايا المستدلة بالاستقراء الناقص، ويرى أن الاستقراء إذا لم يكن شاملاً فهو يعجز عن إثبات التعميم. والواقع ـ كما تقدم ـ أن المنطق الأرسطي يؤمن بإمكان التوصل عن طريق الاستقراء الناقص إلى التعميم، ولكن لا على أساس التجميع العددي للأمثلة فحسب، بل على أساس مبدأ عقلي قبلي»([62]).

وقد لفت السيد الشهيد ـ مؤكِّداً ـ إلى أن أرسطو ـ وخلافاً للتصورُّ الشائع عند المخالفين ـ يعترف بالتجربة، وكان في صدد إصلاح ما طرأ عليها من أفكار خاطئة. ومن هنا يعلن تضامنه مع المنطق الأرسطي: «ونحن نؤمن بالمعرفة العقلية القبلية وفقاً للمنطق الأرسطي»([63]).

نلاحظ في هذا الكتاب مساعي حثيثة ترمي إلى إحياء الاستقراء الذي بات بعد عصر (هيوم) عرضة للهجمات الشرسة من قبل المخالفين له، ولا يزال يُعتقد بأن إثبات حجية الاستقراء لا مهرب فيها من السقوط في فخ الدور والمصادرة للمطلوب. ومع ذلك نجد الصدر يبذل جهوداً جبارة في تحقيق هذه المهمة الصعبة. وهذا ما أشار إليه مترجم الكتاب أيضاً حين قال: «يهدف المؤلِّف في كتابه هذا إلى تقديم دليل الاستقراء بوصفه دليلاً منطقياً ذا نتائج قطعية، مع إلغاء للقفزة الحاصلة من الخاص إلى العام في استقراء أرسطو»([64]). إذاً فالكلام هنا هو عن الإيضاح والاستكمال، وليس النقد والإنكار. فالصدر يفكِّر هنا بنظام أرسطي، ويرمي من خلاله إلى حلحلة المشاكل العالقة في طريق المنطق والفلسفة. وقد كشف أيضاً عن هذا الموضوع الكاتب (يحيى محمد) في ما قدَّمه من دراسة لكتاب السيد الشهيد، فقال في بيان فكرة كتاب «فلسفتنا»: إن هذا الكتاب ليس إلا دراسة فلسفية تدعم المدرسة الميتافيزيقية الأرسطية([65]).

لقد دافع الشهيد الصدر في «فلسفتنا» عن التقسيم الأرسطي للإدراك، ووضعه في شقّي التصور والتصديق؛ فجعل الاتجاه العقلي المؤمن بالقواعد العقلية والكلية السابقة والقضايا البديهية، كقاعدة النقيضين، وتفوُّق الكل على الجزء، في مقابل الاتجاه التجريبي، وكان يعتقد أيضاً بأن المذهب العقلي هو المعتمد والأساس الذي بنيت عليه الفلسفة الإسلامية وطريقة التفكير الإسلامي([66]). علماً أنه يحتمل عدم تطابق هذه النظرية مع شهوداتنا حين ولدنا لا نعرف شيئاً، كما تنص عليه الآية الشريفة:  {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78). لكنه يقول أيضاً بإمكانية تقديم تصوُّر آخر عنها، يقرَّبها من القرآن وشهوداتنا([67]). وفي الختام يدافع السيد الشهيد عن المنطق الأرسطي دفاعاً مستميتاً، فرأى أن تسيُّد هذا المنطق كان سبباً في خمود جذوة الشك لقرون عديدة، حتّى هبت عاصفة  التشكيك من جديد على أعتاب القرن السادس عشر([68]).

إنّ تجاهل كلّ هذه الآراء البيَّنة، واللجوء إلى كاتب مجهول الهوية، وجعله مصدراً وملاكاً في إصدار الأحكام، لهو أسلوبٌ مغاير تماماً للأساليب العلمية المتَّبعة.

 

   هـ ـ  النقل الكاذب ــــــ

يفترض في نقل الأقوال صدقها، كعنصر مفروغ عنه، ومن ثم يأتي الدور إلى دراسة مضامينها، والتحقُّق من دلالاتها. أما بالنسبة إلى بعض الأقوال المروية في هذا الكتاب فيبدو أنه لابّد من الوقوف والتأمل عند هذه النقطة بالتحديد؛ لأن تتبُّع المصادر كشف لنا عدم صدق كثير من الأقوال المنقولة. وإليك نموذجان على ذلك:

 

  الأنموذج الأوّل: الإمام الخميني يعارض المعاد الصدرائي ــــــ

في معرض حديثه عن رأي الملا صدرا في المعاد ذكر الأستاذ، بعد ترجمة خاطئة لنقد الإمام الخميني على فكرة الملا صدرا، أنه انطلق في نقده من «عقائد عوام الناس؛ لأن معتقدات المسلمين باقية على ما وصلت إليه من صدر الإسلام»([69]). ونرى من الأفضل هنا أن نترك الردّ على ذلك للإمام نفسه، حيث يقول: إن إثبات الصانع وتوحيده، وإثبات المعاد والنبوة، بل سائر المعارف، شأن عقليٌّ تماماً. وإن كان ورد في بعض عبارات المحدَّثين الأجلاء اعتماد الدليل النقلي في إثبات التوحيد فهذا أمر في غاية الغرابة، بل هو طامّة كبرى نستعيذ بالله منها. وهذا الكلام ليس بحاجة إلى تقبيح وتضعيف، وإلى الله المشتكى([70]).

لقد ادّعى الكاتب أن الإمام الخميني، ومع كل ما يمتلك من «فلسفة وعرفان»، يرفض المعاد عند الملا صدرا، معتبراً ذلك «مخالفاً لعقائد المسلمين المعروفة»([71]). وحين راجعنا النص الأصلي للكلام لم يكن هناك وجود للرفض والإنكار([72]). وكنا قد تناولنا هذه النماذج من الادعاءات مفصَّلاً في بحث سابق([73]). ولهذا سنعرض هنا عن الإطالة؛ لضيق المجال. لكن علينا أن نلتفت جيداً إلى أن رأي الإمام الخميني هو أنه «يقتصر الفرق بين مأثورات الأنبياء وكتب الحكماء على الألفاظ التفصيل والإجمال، كالفرق بين الفقه والروايات، فهو كامن في الألفاظ والتفصيل والإجمال، وليس مرتبطاً بالمعنى»([74]).

 

 الأنموذج الثاني:  الطباطبائي والتنافر بين الدين والفلسفة ــــــ

منذ سنوات والأستاذ ينسب إلى العلامة الطباطبائي هذه الكلمات بالنصّ: «إن الجمع بين القرآن والفلسفة من المجالات الأبدية، كالمجالات الرياضية، وعلاج الموت»([75]).

وقد روى هذا المضمون أيضاً بعبارات مختلفة، فاستنتج منها أنه «لا يمكن أن تلتقي هذه السبل الثلاثة أبداً، والجمع بينها هو من قبيل القضايا الممتنعة في الرياضيات، أو هو محال كالممتنعات الطبيعية ـ علاج الموت ـ»([76]).

وهكذا كان يؤكِّد ويصرّ في مؤلفاته الأخرى على أن العلامة «يرى الجمع بين القرآن والفلسفة أمراً مستحيلاً، كتغيير زوايا المثلث»([77]).

لكن مهما زيد في التأكد والطرق على هذا الادعاء لن يصبح من آراء العلامة أبداً. فإذا رجعنا إلى تفسير الميزان ـ أي المصدر الذي أرجعنا إليه الأستاذ نفسه ـ لم نعثر على أيّ أثر لهذا الكلام، بل ما وجدناه كان على العكس تماماً، أي إن العلامة كان يصرّ وبإلحاح على الوحدة الماهوية بين هذه الاتجاهات الثلاثة. أما ما ذكره العلاّمة هناك فكان في خصوص الصراع الدائم بين الفلاسفة والعرفاء والمتشرَّعة، وكأنهم لن يتصافوا أبداً. فاختلاف الفلاسفة مع العرفاء أو المتشرَّعة  غير الاختلاف المزعوم بين الفلسفة والعرفان. وكما يقول العلامة نفسه: …فغرضنا هو أنّ خطأ الفيلسوف وزلته لا ينبغي حمله على أصل الفلسفة([78]). يعتقد العلامة الطباطبائي بإمكانية، بل لا بدية، التمييز بين العلم وأهله، والحكم بإيجابيته أو سلبيته من خلال النظر إليه مستقلاًّ. ولهذا كان يرّد على السؤال المطروح في خصوص الروايات الواردة في ذمّ الفلاسفة بقوله: إن ما نقل من ذمّ أهل الفلسفة في خبر أو خبرين فعلى فرض صحته يبقى هو ذمٌّ لهم، وليس للفلسفة نفسها، وهذا من قبيل: الروايات الواردة في ذمّ فقهاء آخر الزمان، فهي للفقهاء، لا للفقه. وأيضاً من ذلك الروايات في ذم أهل الإسلام والقرآن في آخر الزمان: «لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه»، فهي لا تذمّ الإسلام أو القرآن([79]).

 

  المحصَّلة ــــــ

نخلص ممّا تقدّم إلى أن الأقوال التي نقلها الأستاذ من هذا الفيلسوف وذاك في مقاطعة الفلسفة غير صالحة للاستدلال، و«لا يصلح العطاّر ما أفسد الدهر». ويمكن التشكيك ـ نظراً للهفوات الموجودة ـ بمقدمة الاستدلال الأولى، وعدّها كاذبة أيضاً. ويمكننا القول هنا: إن الفلاسفة لم يقولوا ببطلان الفلسفة إطلاقاً.

 

2ـ حجية الفلاسفة في إبطال الفلسفة ــــــ

إذا افترضنا صحة الكلام المنقول في بطلان الفلسفة، فسلَّمنا بصحة المقدمة الأولى، يبقى الشكّ والترديد قائماً وبقوة حول حجّية فتوى الفلاسفة في إبطال الفلسفة. وسنحاول في هذا القسم الاستدلال على نفي الحجية بما يلي:

أـ الفلاسفة مقلِّدون.

ب ـ لا تقليد في العقليات.

ج ـ الفلاسفة وقعوا في الخطأ.

دـ الحكم ببطلان الفلسفة هو إلغاء للذات.

 

  أـ الفلاسفة المقلِّدون ــــــ

قطع الأستاذ حكيمي بإلغاء دور الفلاسفة، واصفاً إياهم بالمقلِّدين الذين لا رأي لهم، وديدنهم الببغائية، فقال: «إن واقع الفلاسفة ـ في الحوزة والجامعة ـ يدلّ على أنهم مجرد مقلِّدين، وإن اجتهاداتهم هي من قبيل اجتهادات «غالبية فقهاء الحنفية»، الذين يسيرون خلف ما توصل إليه أبو حنيفة، وليس لهم أيّ رأي مستقل([80]).

إذا كان هذا الحكم  الإطلاقي غير القابل للتعديل صحيحاً فلن يترك أية قيمة للفلاسفة. وعليه لا يمكن استفتاؤهم في صحّة الفلسفة أو بطلانها، أي ليس من قيمة لكلام حفنة من المقلِّدين في نفي الفلسفة.

 ب ـ  لا تقليد في العقليات ـــــ

كان من أبرز مؤاخذات الأستاذ على الفلاسفة هو كونهم «مجرد مقلِّدين لأربابهم لا غير»([81]). ولهذا أوصى بأن لا نتعامل مع «الفلسفة بعيون وآذان مطبقة»، وأن لا «نهاب أية شخصية عظيمة في تاريخ الفلسفة». وجاء في أوامره أيضاً: «لا تكونوا تابعين ومقلِّدين في القضايا العقلية، وكونوا أنتم مَنْ يفكر ويتوصل إلى النتائج»([82]). وقال في ذلك: «لا تعبُّد في العقليات»([83]). وعليه فحتى لو اجتمع فلاسفة العالم على الحكم ببطلان الفلسفة سيبقى لنا الحقّ ـ وفق نظرية الأستاذ ـ في أن يكون لنا رأي مخالف لهم، فنعرض عن قبول رأيهم.

 

 ج ـ وقوع الفلاسفة في الخطأ ــــــ

إذا كانت الفلسفة حقاً نشاطاً عبثيّاً أو مخالفاً للدين ففي هذه الحالة سيكون من العبث الاستماع إلى كلام مَنْ أمضى عمره في العبثيات وما يخالف الشرع. وحسب قول الأستاذ حكيمي فإن الطباطبائي كان يعتقد باستحالة التقاء الفلسفة مع القرآن إلى الأبد، ومع ذلك ظلّ حتى آخر أيام حياته مشغولاً بالفلسفة وأبحاثها. وفي هذه الحالة أيضاً كان قد أمضى عمره في قضايا عبثية من جهة، وترك القرآن من جهة أخرى. و حتى مع الأخذ بكلام الميرفندرسكي في صدور الخطأ عن الفلاسفة أحياناً، وما أجراه عليه الأستاذ من تعديل في أن الخطأ هو دينهم، إذاً فبأيّ دليل نقيم وزناً لهذا النوع من الناس الخطّائين؟ ولعل حكمهم ببطلان الفلسفة هو واحد من أخطائهم تلك.

 

 د ـ الحكم ببطلان الفلسفة إلغاءٌ للذات ــــــ

إن قيمة رأي الفلاسفة وحكمهم رهين بعلمهم بالفلسفة وما تتمتع به من وزن وحضور، أما إذا نفى أحدهم قيمة الفلسفة والحكم بحجّية كلامه في أمر معين ففي هذه الصورة يكون رأيه كرأي سائر الأفراد غير الفلاسفة. وفي الواقع يبقى حكم الفلاسفة راجحاً إذا كنّا نقول برجحان الفلسفة أصلاً. فإذا جاء فيلسوف ونقض الفلسفة من موقعه كفيلسوف فإن ذلك يعني نقضه نفسه أيضاً، وسيكون كلامه في حالة تناقض، وكأنه يقول «كلامي كلّه كذب» فينتج عن صدقه كذبه، وعن كذبه صدقه([84]). فكما أن الفقيه لا يمكنه إبطال الفقه كذلك الفيلسوف لا يمكنه الإعلان عن نقض الفلسفة. نعم، قد يرفض الفيلسوف مفهوماً من مفاهيم الفلسفة، لكنه لا يستطيع الحكم ببطلان جميع الفلسفة.

ويمكن تأويل المسألة بأن الفلاسفة، وبعد سيرهم في طرق الضلال، اكتشفوا خطأهم، فتراجعوا عنه، وأعلنوا لنا عن هذا الطريق الملتوي، فحذَّرونا من السير فيه. وإذا كان الأمر كذلك فلا بدّ من إحراز أن أصحاب هذا الكلام قد تابوا من التفلسف، وندموا عليه. لكن هذا يقودنا أيضاً إلى محاججة المتديِّنين بهذا المنطق نفسه، فيقال: هناك العشرات ممَّنْ تركوا التشيع أو الإسلام إذاً فالإسلام باطل. وبهذا الأسلوب نفسه ردّ العلامة الطباطبائي على القائلين بتوبة الفلاسفة، فقال: إذا كان عصرنا الحالي يشهد خروج الآلاف عن الدين والشريعة فهل هذا يعني أن يترك الناس دينهم؟ فهل هذه التوبات كافية في إثبات بطلان الدين؟([85]).

 

مفارقة أخرى ــــــ

في الواقع لم يفصح الأستاذ في هذا الكتاب وغيره عن موقف واضح تجاه الفلسفة والفلاسفة؛ فهو من جهة يوبَّخهم بألفاظ قاسية، فيقول عنهم: المتملِّقون، والمتسوَّلون على أبواب اليونانيين، ومن جهة أخرى يكرم صفة «الفيلسوف» وينعت بها مَنْ يشاء، فيضعها وساماً على صدر هذا وذاك. فقال عن الميرداماد: «الفيلسوف الكبير»([86])، ثم يثني على عظمة بعض الأعلام، كابن سينا، والملا صدرا، فيعدّهم من «فلاسفة الإسلام السبعة»([87])، ومنح الأستاذ محمد تقي شريعتي لقب «سقراط خراسان»([88])، ومدح «سقراط خراسان» هذا كثيراً([89])، كما أطلق على السيد جمال الدين الأفغاني لقب «الفيلسوف المجدَّد»([90])، واصفاً إياه بـ«المنظر الفلسفي»([91])، وقال عن السيد البروجردي: إنه «الفقيه الفيلسوف»([92])، ووضع أيضاً المحقِّق الحلي في «الطبقة الأولى من الفقهاء الفلاسفة»([93])، وكتب بالخط العريض «الفيلسوف النوبختي في عصر المهدي»، مصنَّفاً إياه في عداد أصحاب الإمام الحسن العسكري^([94])، وكذلك نعت الشهيد الصدر بـ«الفيلسوف»([95])، وقال عن الشيخ المفيد: إنه «كفيلسوف منظّر»، وطالب الأستاذ أيضاً أن نطلق على كلًّ من: هشام بن الحكم، وأبي إسحاق، وأبي سهل، وسائر النوبختيين، والسيد المرتضى، والعلامة الحلي، لقب الفيلسوف([96])، والأغرب من هذا كلّه أنه وصف عبد الجواد فلاطوري بـ«الفيلسوف التفكيكي»([97]).

لكننا نتساءل هنا ونقول: إذا كانت الفلسفة مجرَّد هالة من الأوهام والتخيل فما قيمة نعت أساطين المدرسة التفكيكية أو الفقهاء الكبار بالفلاسفة؟!

 

3ـ  منهجية صب الزيت على النار ــــــ

ليس الانتقاص والإساءة للفلاسفة هو ما يقلق القارئ الحريص لهذا الكتاب، ولا التلاعب بأقوال الأعلام والشخصيات البارزة، أو الجمع بين الانتقاص من الفلاسفة والإشادة بلقب «الفيلسوف»، بل يكمن الخطر الأساسي في أن الأستاذ استخدم منطقاً ومنهجاً لو استخدمه الآخرون لقضى على الحرث والنسل. فقد وظّف الأستاذ جميع الأسلحة في طعن الفلاسفة، غير مكترث بخطورة بعضها؛ إذ قد يكون بينها ما هو ذو حدّين، فيصيبه هو أيضاً، مما يجعل الانتصار للدين والتديُّن أمراً عسيراً. وكان من جملة تلك الأسلحة إقحام مقولة العلم والمساس بالمعطيات العلمية؛ إذ يصرّ الأستاذ على مهاجمة الفلاسفة عن طريق بعض المعتقدات الراسخة في مجال الطبيعيات، دون أن يعلم بأن تلك المعتقدات لا تختصّ بالفلاسفة وحدهم، ويشاركهم فيها عامّة المسلمين، من قبيل: انتقاده لفلكيات ابن سينا، والملا صدرا، والاستهزاء بعقيدة «إن السماء حيوان مطيع لله عزّ وجل»([98])، فيحتج قائلاً: «هل يوجد اليوم فلك من هذا النوع الحيواني، والمطيع لله عزّ وجلّ؟! هل من الصواب أن نسمي مخالفة هذه الأوهام والمزاعم مخالفة للعقل؟!»([99]).

ونسي الأستاذ أن هذا السلاح سيكون أكثر فتكاً بأصحابه؛ إذ سيكون بإمكان المخالفين الاستشهاد بالروايات التي منحت الشهاب والرعد والبرق والنار روحاً وإدراكاً. وبواسطة هذا المنطق يلغون المعتقدات الدينية، بل قد يتعاملون مع القرآن بالمنطق ذاته، حين قال للنار: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، ويردَّدون كلمة الأستاذ حكيمي: «هل من الصواب…». وهنا يأتي دور المثل القائل: «لا تبالغ في إيقاد النار للعدو؛ فتمسَّك».

لماذا حين حكم ابن سينا ـ وفقاً لأدلّة خارجة عن إطار البحث ـ بأن السماء حيوان مطيع لله اتهم «بالأوهام»، ويغضّ الطرف عن بعض العبارات الأكثر تصريحاً في الروايات، من قبيل: كلام الإمام السجاد× مخاطباً القمر: «أيها الخلق المطيع، الدائب السريع، المتردَّد في منازل التقدير، المتصرف في فلك التدبير»([100]). فهذه الكلمات تدل على كون القمر كائناً له فهمٌ وإدراك، فإذا كان هذا المعنى لا ينسجم مع معطيات العلم الحديث فليس ابن سينا وحده مَنْ يُلام على ذلك، بل يضاف إليه الشيخ البهائي ـ الذي يراه الأستاذ عدوّاً للفلسفة ـ حين دافع عن وجود أرواح للأفلاك السماوية. فحسب (الخواجوي) كان يستدلّ على ذلك ببعض الكائنات الضعيفة، كالذباب والنمل، فإذا كانت هذه الحشرات ذات أرواح وحيّة فما المانع أن يكون للأجرام العظيمة في السماء أرواح أيضاً([101]).

أما إذا كانت هذه المفاهيم منسجمة مع العلم ونظرياته فلماذا يقال عنها: «الأوهام»؟ فنحن إذا عملنا بالتأويل سنكون قد خالفنا الأسس  التفكيكية، وإن جوز ذلك لنا طبَّقناه أيضاً على كلام ابن سينا. وهكذا في قصة النبي نوح× المذكورة في القرآن الكريم، حين أُمرت السماء أن تقطع المطر، وأُمرت الأرض أن تبلع الماء، فإذا كان ابن سينا يستدلّ بهذه الآيات وظاهرها على وجود روح في الأرض والسماء، وأنهما موجودات مطيعة للخالق، اتُّهم ـ حسب القول المذكور ـ بالوهم  والأوهام، أما إذا التجأ إلى التأويل، وترك الظاهر، اتُّهم هذه المرّة بالتفلسف واليونانية، أو الإعراض عن القرآن. إذاً يبقى على القائلين بالتفكيك أن يحدَّدوا لنا موقفهم من هذا النوع من الآيات البينات، ليعمل الفلاسفة به ويسيروا عليه.

وأخيراً نقول عن هذا الكتاب الكبير بما يناهز الألف صفحة: إنه، وبدلاً من أن يسعى في تقديم أدلة مقنعة في الدفاع عن الاتجاه التفكيكي، ودحض ما وُجَّه إليه من انتقادات، بات يعيد ويحفل مراراً وتكراراً بتلك العبائر الغامضة. وفضلاً عن ذلك اتَّخذ صاحب الكتاب منهجية لا تصبّ في صالح التفكيكيين  من جهة، ولا في  صالح سائر الرؤى الدينية من جهة أخرى.

 

الهوامش

([1]) حكيمي، مكتب تفكيك: 47.

([2]) حكيمي، عقل خود بنياد ديني: 39 ـ 42.

([3]) إسلامي، مكتب معارفي خراسان وتفكر فلسفي.

([4]) رحيميان فردوسي، متأله قرآني: شيخ مجتبى قزويني خراساني، مقدمة حكيمي: 60.

([5]) إلهيات إلهي وإلهيات بشري (الفصل)، قم، دليل ما.

([6]) إلهيات إلهي وإلهيات بشري (الآراء)، قم، دليل ما.

([7]) المصدر السابق:  259.

([8]) المصدر السابق: 556.

([9]) المصدر السابق: 437.

([10]) المصدر السابق: 50، 103، 192، 556، 838، 903.

([11]) المصدر السابق: 860 ــ 869.

([12]) حكيمي، المصدر السابق: 140 ـ 141.

([13]) المصدر السابق: 170؛ وعلى غرارها في 290و437.

([14]) حكيمي، ﭘـيام جاودانه: 117 و272؛ المصدر نفسه؛ إلهيات إلهي..: 31، 135، 173، 412.

([15]) إلهيات إلهي…: 160:1388.

([16]) ابن سينا، الإشارات التنبيهات 2: 1، شرح الطوسي.

([17]) المصدر نفسه 1: 1.

([18]) حكيمي، إلهيات إلهي: 540.

([19]) لم يرد هذا التقييد في كلام الأستاذ حكيمي.

([20]) لم يرد هذا التقييد في كلام الأستاذ حكيمي.

([21]) صدر الدين الشيرازي، الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية، المقدمة: 67 ـ 68.

([22]) حكيمي، اجتهاد وتقليد در فلسفه: 202.

([23]) حكيمي، إلهيات إلهي: 709 و735.

([24]) حكيمي، مكتب تفكيك: 332؛ اجتهاد وتقليد در فلسفه 214؛ 138: 43؛ رحيميان فردوسي، متأله قرآني…، مقدمة حكيمي: 40 ـ 41.

([25]) طباطبائي، بررسي هاي إسلامي: 171.

([26]) المصدر نفسه: 173 ـ 174.

([27]) الميزان: 109.

([28]) المصدر نفسه: 110.

([29]) إسلامي، رؤياى خلوص: قراءة في أسس المدرسة التفكيكية: 218 ـ 228.

([30]) وكيلي، مكتب تفكيك در بوته نقد: 47 ـ 48.

([31]) حكيمي، حماسه غدير: 215.

([32]) المصدر السابق.

([33]) المصدر نفسه: 215 ـ 216.

([34]) حكيمي، إلهيات إلهي…: 735.

([35]) أنوري وعالي عباس آباد، فرهنـﮓ درست نويسي سخن: 33.

([36]) حكيمي، إلهيات إلهي…: 313 ـ 314.

([37]) المصدر السابق: 314.

([38]) المصدر السابق: 317.

([39]) فندرسكي، رسالة صناعية: 116.

([40]) حكيمي، إلهيات إلهي…: 749.

([41]) مصباح: آموزش فلسفه 1: 29.

([42]) المصدر السابق: 29 ـ 30.

([43]) حكيمي، عقل خود بنياد ديني: 43.

([44]) حكيمي، إلهيات إلهي…: 269.

([45]) المصدر السابق: 275.

([46]) المصدر السابق.

([47]) البهائي، كليات أشعار وآثار فارسي شيخ بهائي: 154.

([48]) المصدر السابق.

([49]) المصدر السابق: 155.

([50]) المصدر السابق: 185.

([51]) المصدر السابق: 192.

([52]) حكيمي، إلهيات إلهي…: 281.

([53]) البهائي، اعتقادات الشيخ البهائي: 100.

([54]) معلم حبيب آبادي، مكارم الآثار: زندﮔـي نامه شيخ رئيس: 344.

([55]) المجلسي، بحار الأنوار 8: 328.

([56]) حكيمي، إلهيات إلهي: 699.

([57]) المصدر السابق: 698.

([58]) حكيمي، عقل سرخ (عشرون مقالاً): 39.

([59]) المصدر السابق: إلهيات إلهي…: 698.

([60]) المصدر السابق: 699.

([61]) الفكر الإسلامي، 1991، (ج.أ.ح، لمحات من الفكر الفلسفي للشهيد محمد باقر الصدر): 305.

([62]) الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء: 36 ـ 37.

([63]) المصدر السابق: 39.

([64]) الصدر، مباني منطقي استقراء، مقدمة المترجم: ط ـ ي.

([65]) انظر: يحيى محمد، الأسس المنطقية للاستقراء، بحث وتعليق: 52.

([66]) انظر: الصدر، فلسفتنا: 70.

([67]) الصدر، فلسفتنا: 63.

([68]) المصدر السابق: 110.

([69]) حكيمي، إلهيات إلهي…: 812.

([70]) الإمام الخميني، آداب الصلاة: 200 ـ 201.

([71]) حكيمي، عقل سرخ: 62.

([72]) الإمام الخميني، مناهج الوصول إلى علم الأصول 1: 378.

([73]) إسلامي، رؤياي خلوص: 275.

([74]) الخميني، شرح الأربعين حديثاً: 193.

([75]) حكيمي، إلهيات إلهي: 452.

([76]) المصدر السابق: 723.

77 رحيميان فردوسي، متأله قرآني…: 132؛ انظر: 33؛ حكيمي، عقل خود بنياد ديني: 40؛ حكيمي، معاد جسماني در حكمه متعاليه 31؛ حكيمي، ﭘـيام جاودانه أحاديث حول القرآن وآفاقه: 80 ـ 85.

([78]) الطباطبائي، الميزان 5: 426.

([79]) الطباطبائي، بررسى هاي إسلامي: 175، انظر أيضاً: إسلامي، رؤياى خلوص: 194.

([80]) حكيمي، إلهيات إلهي: 557، انظر أيضاً: 165 و524.

([81]) المصدر السابق: 165.

([82]) حكيمي، ﭘـيام جاودانه…: 89.

([83]) معاد جسماني در حكمه متعاليه: 91.

([84]) راجع في ذلك: دوازده رسالة در بارادوكي دروغگو، صدر الدين وشتكى [وآخرون]، تصحيح: أحد فرامرز قراملكي وطيبة عارف نيا، طهران، مؤسسة حكمة وفلسفة إيران للدراسات، 1386.

([85]) الطباطبائي، شيعه: مجموعة مناظرات مع البروفسور هنري كوربن: 221.

([86]) حكيمي، إلهيات إلهي…: 286، 287 و291.

([87]) المصدر السابق: 286.

([88]) المصدر السابق: 254.

([89]) أسعدي، سقراط خراسان: 43.

([90]) حكيمي، إلهيات إلهي…: 560.

([91]) المصدر السابق: 562.

([92]) المصدر السابق: 568، 605 و608.

([93]) المصدر السابق: 177.

([94]) حكيمي، خورشيد مغرب: 23.

([95]) حكيمي، إلهيات إلهي…: 699.

([96]) حكيمي، مير حامد حسين: 61.

([97]) حكيمي، ﭘـيام جاودانه أحاديث حول القرآن وآفاقه: 276.

([98]) حكيمي، إلهيات إلهي…: 839.

([99]) المصدر السابق: 839.

([100]) الصحيفة السجادية، الدعاء 43.

([101]) خواجوي، ثمرة الفؤاد في نبذ من مسائل المعاد 4: 252.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً