أحدث المقالات

حيدر حبّ الله(*)

تحرير وتنظيم بقلم: الشيخ سعيد نورا

تمهيد

قال الله تعالى: ﴿قَالَ مُوْسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف: 128 ـ 129).

نفتتح كلامنا بهذه الآيات القرآنيّة الكريمة؛ لنتحدّث عن مجموعة من المفاهيم العمليّة التي لها صلة بواقعنا وحياتنا اليوميّة، رغم أنّ ما تتضمنّه هذه الآيات الكريمة يتحدّث عن أمّةٍ من الناس مضى عليهم الكثير من السنين، فكلّنا يعرف تجربة بني إسرائيل ومعاناة نبيّ الله موسى× معهم، ونتلقّاها عادةً بوصفها قصّةً من القصص، وغالباً ما نتداول موضوع بني إسرائيل على أنّهم كانوا مجموعة من الأشخاص الذين اُكرموا، ولكنّهم لم يقدّموا جزاء إكرامهم، ولا بادلوا هذه الإكرام بما يلزم، وظلّوا على تيههم وضلالهم وانحرافهم تجاه دعوة موسى×.

نعم، في التصوير اليهودي اليوم، تواجه تجربة بني إسرائيل مع موسى وغيره من الأنبياء، الكثيَر من السلوكيّات غير الصحيحة منهم، في الوقت الذي كانوا فيه موحّدين ومندرجين في الإطار الديني الموسوي العام، فمشاكل بني إسرائيل في سلوكيّاتهم ظاهرة شبه متّفقٍ عليها، غاية الأمر أنّ التفسير اليهودي المحافظ لها يضعها ضمن سياق الأخطاء السلوكيّة تارةً أو الأنماط الأسلوبيّة والتعبيريّة أخرى أو الهفوات والسقطات المجتمعيّة التي تقع في مختلف المجتمعات ثالثة، دون أن يعني ذلك سقوط بني إسرائيل وهويّهم دينيّاً، بل ظلّوا يمثلون الأمّة الوحيدة الموحِّدة عبر تاريخٍ طويل، في حين لم يكن التوحيد سوى حالاتٍ فرديّة في سائر المجتمعات، فهناك أفراد موحِّدون وهناك اُمم موحِّدة، واليهود ميزتهم ـ في تصوّر الفكر اليهودي المحافظ اليوم ـ أنّهم الأمّة الموحِّدة الوحيدة آنذاك حيث لم تكن اُمم توحيديّة.. ولا نريد أن نخوض الساعةَ في مديات دقّة هذه الصورة أو عدم دقّتها، تبعاً لمقارنات ومقاربات بين الكتب السماويّة للأديان الإبراهيميّة الثلاثة نفسها، بل وبين المعطيات التاريخيّة أيضاً.

على أيّة حال، إنّ الآيتين المتقدّمتين تشتملان على مجموعة جيّدة من المفاهيم العمليّة، والتي يمكن استخلاصها منهما، لجعلهما مفتاحاً للوصول إلى هذه المفاهيم القرآنيّة.

استعجال النتائج وحرق المراحل وإفناء الذات

إنّ بني إسرائيل أمّةٌ كانت تعاني من العسف والجور والظلم في زمن فرعون، وكان لديهم أملٌ في أن يأتي نبيٌّ يُخلّصهم من هذه المشاكل التي كانوا فيها، وبالفعل فقد جاء موسى× بدعوته ومواجهته لفرعون، وخاض معه تجربةً طويلةً، ورغم ذلك مضت سنوات عديدة ولم يشعر بنو إسرائيل بشيء من تحسّن الأوضاع وانفراجها، من هنا جاء تململهم، فجاءت الآية الكريمة لتطرح أوّل رسالة تقرّر:

إنّ الإنسان في بعض الأحيان يستبطئ الحلول، فيشعر بأنّ الحلّ والفرج لم يأتِ، ورغم أنّ وليّ الله ونبيّه قد جاء، ولكنّ الفرج لم يأتِ بعد، وليس الأمر مقتصراً على عالم أو فقيه أو مصلح أو داعية معيّن، فقد يأتي مثل هؤلاء ولا ترتفع المشكلة، إنّما الأمر يرتبط بنبيٍّ من أنبياء الله عزّ اسمه، حيث جاء بدعوةٍ كبرى، وهو من أنبياء أولي العزم، ومع ذلك لم ترتفع المشاكل بمجيئه.

هذا ما أكّدته هذه الجملة من الآية الكريمة: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾، فقد كنّا في أذية وجور وظلم قبل أن تأتي يا نبيَّ الله، كما قد استمرّت هذه الأذيّة بعد مجيئك أيضاً، حيث إنّ مجيئك ـ يا نبيّ الله ـ لم يحلّ المشكلة ولم يغيّر الأوضاع.

إنّ هذا التعبير يكشف عن أنّ بني إسرائيل استعجلوا الحلّ، ولم يشعروا بالفرج وتحقّق الآمال المفقودة. والشعور باستعجال الحلول هي المشكلة التي تريد الآيات القرآنيّة أن تسلّط الضوء عليها، كأنّ الإنسان خُلق لكي يكون عجولاً، كما يصفه القرآن الكريم في مواضع أُخَر: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً﴾ (الإسراء: 11)، ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ﴾ (الأنبياء: 37).

إنّ أخطر شيء في أيّ حركةٍ دينيّة أو تغييريّة أو نهضويّة أن يستعجل أبناؤها الحلّ، ومن الواضح أنّ للأشياء أوقاتها وحساباتها عند الله عزّ اسمه، كما ورد في قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ (الأعلى: 1 ـ 3)، وقوله سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف: 34)، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ولٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (النحل: 61)، فهناك مقدّرات للأمور لا يمكن التجاوز عنها بسهولة، لكن بعد تحقّق المقدّرات لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون.. ومشكلة الكثيرين من الذين يعملون لله سبحانه وتعالى أنّهم بعجلتهم يحرقون المراحل، فيتخلّون عن المشروع كلّه، فحيث إنّهم لا يشعرون بأيّ تحسّن في الأوضاع يفقدون الأمل ويتركون العمل.

هذه الظاهرة (استعجال النتائج) التي واجهت ـ فيما يبدو ـ بني إسرائيل، أجاب عنها موسى× بالقول: ﴿قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾. إنّنا نلاحظ أنّ موسى لم يقدّم ـ في كلامه معهم ـ جواباً حاسماً جازماً بهلاك العدو على يد الله تبارك وتعالى، وإنما وظّف مفردة ﴿عَسَىٰ﴾، وهذه المفردة تدلّ عندهم على الترجّي، ومن هنا نلاحظ أنّ العديد من المفسّرين ميّز بين (عسى) الإلهيّة، و (عسى) البشريّة؛ وذلك لأنّ (عسى) بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى لا مجال للتخلّف فيها، فتعني الوجوب والحتم، ولا معنى في ساحته سبحانه للترجّي والشكوكيّة.

لكنّ المتكلّم في هذه الآية ليس هو الله وإنّما هو موسى×، حيث ربطهم بالأمل في إهلاك العدوّ من قبل الله تعالى، ولم يُعطهم وعداً جزميّاً، وإنما قال بأنّه من المحتمل أنّ الله عزّ وجلّ سيهلك عدوكم، وتعبيره بـ ﴿رَبُّكُمْ﴾ فيه إشارة إلى أنّ الذي سيهلك عدوّكم هو ربكم وراعي أموركم والمهتمّ بكم. وربُّكم الذي يتولّى أموركم هو الذي يفتح باب الأمل والرجاء في إهلاك عدوّكم.

إذن، ردّة فعل بني إسرائيل كانت استبطاء الحلول، بينما الجواب الإلهيّ على لسان موسى× كان له جانبان:

الجانب الأول: الرجاء، في البداية يخبرهم بأنّ الآمال لا تزال معقودةً، فالله الذي هو مدبّر شؤوننا، لعلّه بمقتضى ربوبيّته وعطفه علينا أن يهلك عدوّنا.

تحدّيات مرحلة الإمساك بالسلطة

الجانب الثاني: الخوف، وهو ما يُكمل موسى به حديثه حين يقول: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾، وهذا يعني أنّه سيأتي دوركم أيضاً كما قال تعالى: ﴿..وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاس‏..﴾ (آل عمران: 140)، ولن تقف الأمور هنا، فحينما يهلك اللهُ العدوّ ويأتي دوركم في السلطة لكي تكونوا خلفاء في الأرض، يتحقّق مفصل التحدّي وتأتي النقطة المركزيّة الأخرى التي تتحدّث عنها الآية الكريمة، فلا تقصر الآية القرآنية نظرها على بيان الأمل، وإنما تضيف قيداً آخر لموضوع الاستخلاف، وهو: ﴿فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾.

إنّ هذا يعني أنّ الاستخلافَ في الأرض ليس هو نهاية الطريق، بل هو البداية، فبعد أن يتمكّن الإنسان من مقادير الأمور في الأرض وتُؤمَّن له السلطة والمكنة فيها، هناك سينظر الله إلى فعل هذا الإنسان، ولا ينبغي أن يتشدّق الإنسان بتديّنه وورعه وتقواه وصدقه وإخلاصه حينما كان مستضعفاً ومظلوماً، فكثيرون في حال الضعف يلجؤون إلى الله، وإنّما التحدّي الذي يجعل الإنسان تحت المجهر والرؤية الإلهيّة هو حال كونه قويّاً عزيزاً خليفةً في الأرض ويمتلك مقدّرات الأمور وتُقبل عليه الدنيا، وحينها ينادي الله سبحانه وتعالى بني البشر قائلاً لهم في تلك اللحظات: ﴿فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾.

لقد كنتم تتهجّمون على فرعون وطريقته في التعامل والطغيان، والآن وقد توفّرت الأسباب بأيديكم، فما هو الذي تفعلونه؟ هنا التحدّي وسؤال المصداقيّة.

إذن، بداية الاستخلاف هي بداية التحدّي وليست نهايته، وكثيرون منّا يقولون: إنّ نهاية التحدّي هي بمجيء الفرج والخروج من مرحلة الظلم والجور، لكنّ الرؤية القرآنيّة تعتبر هذه مجرّد مرحلة من مراحل التحدّي، فيما المرحلة الثانية هي مرحلة الدخول في الإمساك بالسلطة وامتلاك عناصر القوّة؛ فإنّ القوّة أيضاً تحدٍّ كما هو الضعف عند الإنسان، ومشكلة الإنسان مع الله ـ كما يشرحها القرآن الكريم ـ هي مرحلة القوّة لا مرحلة الضعف فقط، ومن هنا يقدّم القرآن الكريم لنا تصويراً للإنسان في حياته الفرديّة والجماعيّة في مرحلتي الضعف والقوّة، ومرحلتي الخوف والأمان، وهو تصويرٌ أخّاذ وجادّ جداً، طارحاً أكثر من مشهديّة له:

أ ـ حال الإنسان في ظلمات البرّ والبحر، حيث يقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ والْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام: 63 ـ 64).

ب ـ حال الإنسان عند طلب الولد، حيث يقول سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الأعراف: 189 ـ 190).

ج ـ حال الإنسان عند الفقر، حيث يقول جلّ جلاله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ (التوبة: 75 ـ 77).

د ـ حال الإنسان في البحر العاصف، حيث يقول عزّ من قائل: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾ (يونس: 22 ـ 23).

إنّ لجوء الإنسان في لحظات الشدّة إلى الله شيءٌ طبيعيّ لا يحمل امتيازاً؛ لأنّ فطرة الإنسان وحاله الطبيعيّ هو اللجوء في حال الشدّة والضعف إلى القوّة المطلقة، وهذا ما يعتبره الفلاسفة أحد الأدلّة على وجود الله، أي شعوره النابع من اللاوعي بالاحتياج إلى القوّة المطلقة، فيما يسمّيه الفلاسفة ببرهان الفطرة.. بل المهم هو بقاء العلاقة مع الله تبارك وتعالى في حالة زوال الشدّة والاضطرار؛ لذلك قال لهم موسى: إنّ الاستخلاف في الأرض هو بداية أخرى لاختباركم؛ لينظر ويراقب ويرصد أعمالكم.

النصّ القرآني ومفاهيم ستة في مجال التحوّل والاستخلاف

وبهذا يمكننا استنتاج أنّ الآية القرآنيّة الكريمة تريد التأكيد على عدّة مفاهيم:

المفهوم الأوّل: لا ينبغي استعجال الحلول، ومن ثمّ التخلّي عن المشروع الإلهيّ بمجرّد أنّ الفرج لم يأتِ أو تأخّر؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى قد نظم ابتلاء الإنسان بشكل جعل الحلول ـ أحياناً ـ بالنسبة إليه بعيدة حتى يختبره أكثر فأكثر.

إنّ ظاهرة استعجال النتائج مرفوضة قرآنيّاً، وهي من الظواهر الخطرة ـ خاصّةً في عالمنا العربي والإسلامي ـ التي غالباً ما يتخلّى الناس فيها عن المشاريع الكبرى؛ لأنهم يشعرون ببطء الوصول إلى النتائج المرجوّة؛ ولأنّ الإنسان مبنيٌّ على طبيعة الاستعجال هذه، فإنه يتخلّى ويخرج عن الإطار كما خرج بنو إسرائيل.

المفهوم الثاني: إنّ المواجهة في لحظات الأذية تكون بالاستعانة والصبر كما أشارت لذلك الآية التي سبقت هذه الآية، وهذا يعني أنّ علينا في لحظات الشدّة الأخذ بمفهومين:

1 ـ مفهوم الاستعانة بالله، والذي نصّت عليه الآية الكريمة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾(الفاتحة: 5)‏.

2 ـ مفهوم الصبر في لحظات الشدّة والصعوبة.

وهذا ما أشار إليه موسى× في بداية الآية، وكأنّها تقول: إنّ وصولكم للسلطة الاستخلافيّة على الأرض إنما هو بتمليك إلهيّ؛ لأنّ الأرض في الأساس له عزّ اسمه، فيملّكها لزيد أو لعمر مثلاً، وعلى الإنسان أن يصبر ويستعين بالله تعالى لكي يصل إلى وراثة الأرض وراثة بروحٍ إلهيّة هذه المرّة، وهذه الوراثة هي بنفسها بداية تحدٍّ جديد.

إذا لاحظنا سياق الآية، سنجد أنّ القرآن يحدّثنا عن البلاءات العديدة التي تنزل على قوم فرعون نظير نزول القُمّل والضفادع والدم وغير ذلك.. ثم بعد ذلك أهلكهم، وخرج بنو إسرائيل من البحر، لتبدأ إرهاصات مرحلة الاستخلاف في الأرض، وهي مرحلة الأمان من جور فرعون. ثم يشير القرآن إلى ما فعلوه في بدايات هذه المرحلة، حيث قال: ﴿وَجاوَزْنا بِبَني‏ إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى‏ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى‏ أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ (الأعراف: 138)، وكأنّه يريد أن يقول بأنّ الإنسان بطبيعته في لحظات الشدّة يلتجئ إلى الله، ويرى معاجزه، وبعد أن تتحقّق المعاجز الإلهيّة ينسى أو يتناسى ذلك الضيق الذي مرّ به وكيفيّة لجوئه إلى الله، ومن هنا فبمجرّد أن رأى بنو إسرائيل هؤلاء القوم الذين يعكفون على أصنامٍ لهم عابدين، طلبوا من موسى ذلك، أي نسوا ذلك الإله الذي وقف معهم في لحظات الشدّة. وهذا هو طبع الإنسان؛ إذ يرتبط في لحظات الشدّة بالله تعالى ارتباطاً وثيقاً، لكن بمجرّد أن يحصل الاستخلاف ويدخل مرحلة القوّة ينسى هذا الارتباط، ويشرع بالبحث عن البدائل الموجودة بين الناس، وينسى أنّ الذي يملك البديل الصحيح والسليم هو الله، حيث أخرجه من المظلوميّة إلى هذه الحال.

المفهوم الثالث: ارتباط الوعود الإلهيّة بالصبر والاستعانة عبر مفهوم التقوى، حيث ربط بين تحقّق الوعود الإلهيّة والصبر والاستعانة، فإذا أردنا تحقّق الوعود الإلهية علينا أن نصبر ونستعين بالله لتكون العاقبة لنا، حيث قال: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ واصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

المفهوم الرابع: إنّ الخروج من مرحلة المعارضة والمظلوميّة إلى مرحلة السلطة والقوّة ليس نهاية المسيرة، بل هو بداية التحدّي؛ حيث قال: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾.

من هنا قسّم علماء الأخلاق الصبرَ إلى صبرٍ على البلاء وصبرٍ على الرخاء([1])، وربما يكون الصبر على الرخاء في بعض الحالات أشدّ من الصبر على البلاء، فإن الفطرة هي التي تدفع الإنسان نحو الصبر والاستعانة بالله في حالات الشدّة والضعف، بينما في حالات الرخاء تكون هذه الفطرة نائمةً، وبهذا يكون التحدّي في مرحلة الرخاء أشدّ منه في مرحلة البلاء؛ لأنّ الإنسان في مرحلة الرخاء يقع في غيبوبة عن الذات الإلهيّة فيغرق وينتهي.

المفهوم الخامس: المراقبة الإلهيّة عند تحقّق البديل، فهل إنّ الإنسان حينما يفرَّج عنه ويُستخلف في الأرض يمارس نفسَ الأفعال المذمومة التي فعلها غيره، ويضع عليها عناوين وأغلفة جديدة أو أنّه سيُحدث تغيّراً حقيقيّاً في الثقافة الإيمانيّة والسلوكيّة البشريّة، وهذا ما أشارت إليه الآية من خلال التعبير بـ: ﴿فَيَنْظُرَ كَيْفَ..﴾.

المفهوم السادس: مصائر الأمور بيد الله والخيارات واقعةُ تحت سلطانه، حيث قال: ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾، فعندما لا يكون الإنسان في موضع الوراثة في الأرض فهذا راجع إلى القرار الإلهيّ الذي يمكّنه من أن يكون خليفة في الأرض، فهناك امتحانات إلهيّة لاستعداد الشخصيّة الفرديّة والاجتماعيّة لمرحلة الاستخلاف، وهي مسألة تتعلّق بالله سبحانه وتعالى.

الخاتمة

وخلاصة الكلام: إن ما أرادته الآية القرآنيّة الكريمة هو التأكيد على:

أوّلاً: عدم استعجال الحلول؛ لأنّ هذه مشكلة مشاكلنا في عالمنا الإسلامي، وعلينا أن نعطي الأمور أوقاتها إذا كانت سائرةً بشكلٍ سويّ.

ثانياً: دوام الارتباط بالله في حالتَي: الشدّة والرخاء.

ثالثاً: إدراك أنّ مرحلة القوّة هي تحدٍّ أساس قد يفوق تحدّيات مرحلة الضعف.

رابعاً: إنّ وصول الإنسان إلى السلطة ولو باسم الله والدين، لا يعني أنّه بات فوق المساءلات والتحدّيات، بل هو خاضعٌ لمفهوم ﴿كَيْفَ تَعْمَلُوْنَ﴾..

فأداؤه وسلوكه هما اللذان يحدّدان نوعيّة خلافته في الأرض وصدقيّتها، وليس عنوانه الديني، ولا حسبه، ولا نسبه، ولا تاريخه الجهادي المنتمي إلى مجرّد الماضي على ما فيه من حُسنٍ وفضيلة، ولا نوعيّة لباسه، ولا مجرّد الشعارات التي يقدّمها.. بل أداؤه المستقبلي والحالي في إحلال القِيَم، ونشر العدالة الاجتماعيّة، وبسط القسط، وتعبيد الطريق أمام الناس لسلوك سبيل الله سبحانه، بدل صدّهم عن الله بقوله أو فعله.

ولعلّ في هذه القصّة التي ذكرها لنا القرآن الكريم عن بني إسرائيل ما يشير إلى ضرورة الاهتمام بالمراحل اللاحقة وليس فقط بالمرحلة التي نحن فيها، وأن نعدّ أنفسنا إعداداً روحيّاً للدخول في مرحلة الرخاء؛ كي نكون بالمستوى المطلوب إن شاء الله.

(*) محاضرة اُلقيت في وفدٍ عراقي، في مدينة قم، بتاريخ: 1 ـ 3 ـ 2013م، وقد راجعها الشيخ حبّ الله مجرياً عليها بعض التعديلات.

([1]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: أباحامد الغزالي، إحياء علوم الدين 4: 69.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً