أحدث المقالات

    مقدّمة

كان للاستنساخ دورٌ أساسي في تكاثر الأحياء الموجودة على وجه البسيطة منذ بداية الحياة عليها، وخصوصاً في مجال الزراعة. فكلّما يتمّ تركيب نبات يدلّ ذلك على القيام بعملية استنساخ؛ لأنّ السلسلة الجينية للنبات الجديد الناشئ عن التركيب تكون مطابقة للسلسلة الجينية للنبات الأمّ.

بعض الحيوانات لا تتوالد إلاّ عن طريق الاستنساخ. ولا نعني البكتيريا والمخمّرات فحسب، بل هنالك أحياء أكبر من ذلك، مثل: بعض أنواع الحلزون والروبيان، التي تتكاثر عن طريق الاستنساخ([1]).

ضمن كلّ ألف ولادة هنالك ما يقارب 3 إلى 4 حالات ولادة توأمية. في هذا النوع من الولادة؛ ولأسبابٍ ما، فإنّ البويضة الملقّحة تنشطر إلى نصفين أو أكثر، حيث ينتج عنه مواليد متشابهة، وبسلسلة جينية متماثلة.

يقوم العلماء في عملية الاستنساخ باستخدام هذه الطريقة في التكاثر بشكلٍ مختبري. وهذه العملية تتمّ بالاستعانة بالعلم والتقنية الحديثة، حيث يتمّ الاستنساخ البشري واستنساخ الأعضاء البشرية بطريقة مختبرية. ولكنْ هنالك أسئلة مهمّة يطرحها الفقهاء، وهي بحاجة إلى أجوبة دقيقة وواضحة.

ومن هذه الأسئلة:

1ـ ما هي أدلّة حرمة الاستنساخ البشري؟

2ـ ما هي أدلّة جواز الاستنساخ البشري؟

3ـ هل أنّ الاستنساخ جائزٌ بشكلٍ مطلق؟

4ـ ما هي فوائد وأضرار الاستنساخ؟

5ـ إذا فرضنا جواز الاستنساخ البشري فما هو ملاك ومبنى النَّسَب حينها؟

 

     توضيح الاصطلاحات

من أجل التعرُّف بدقّة ووضوحٍ على الاستنساخ نتناول أولاً المعنى اللغوي، والاصطلاحات ذات الصلة به:

الاستنساخ: كلمة الاستنساخ تعادل كلمة cloning في اللغة الإنجليزية. في القواميس الإنجليزية نجد أنّ كلمة clone مشتقّة من كلمة klon، والتي تعني «شتلة». وقد جاءت بالمعنيين التاليين:

الأول: النبات أو الحيوان الذي يولَد بشكلٍ مختبريٍّ (اصطناعي) من خلية نبات أو حيوان آخر، والمولود الجديد يشبه النسخة الأصليّة.

الثاني: الشخص الذي هو في الحقيقة مشابهٌ ونسخة لشخصٍ آخر.

في اللغة العربية تستخدم كلمة «استنساخ» في مقابل كلمة clone. استنساخ، من باب استفعال، مشتقٌّ من «نسخ»، والنسخ يعني:

1ـ إزالة وإبطال الشيء.

2ـ الكتابة والنقل.

3ـ الانتقال.

الخلية cell: هي أصغر جزء من المادة الحية، وتعتبر الوحدة الأساسية في البنية المادية. فجميع الكائنات الحية تتألّف من خلايا. وكلّ خلية في الجسم تحتوي على نواة nucleus، ما عدا كريات الدم الحمراء.

الكروموزوم أو الكروموسوم chromosome: نواة الخلية تحتوي على الكروموزوم. خلايا جسم الإنسان تحتوي على 46 كروموزوماً، أي 23 زوجاً.

الجين أو الجينة gen: الكروموزومات تحتوي على الجينات التي تقوم بنقل الصفات الوراثية.

التكاثر في الطبيعة: يتمّ التكاثر في الطبيعة بطريقتين:

1ـ التكاثر الجنسي sexual: أثناء عملية التلقيح (اتحاد الأمشاج) يتّصل الحيمن (الحيوان المنوي) بالبويضة، ويكوّنان خليةً تحتوي على 23 زوجاً من الكروموزومات. الخلية الأولى الناشئة من عملية التلقيح هذه يطلق عليها اسم zygote (الزيجة أو اللاقحة)، والتي تعني باللغة اليونانية «المخلوق الصغير». وفي هكذا نوع من التكاثر يلعب الذكر والأنثى الدور الأساسي.

2ـ التكاثر اللاّجنسي un sexual: في التكاثر اللاّجنسي لا يكون لـ (المشيج)، أي الخلية الجنسية، دورٌ، ولكنّ الخلايا غير الجنسية تنشطر وتنشئ خلايا جديدة. فنمو البراعم في النباتات، وتكوين توأمين أو أكثر في الرحم، وعملية استنساخ الأجنّة، تعتبر من أمثلة التكاثر غير الجنسي.

ومن أمثلة طرق التكاثر غير الجنسي: الانشطار، إنتاج البراعم، الفطريات (العِهْن)، زراعة أقلام النباتات، ولادة الباكر، والاستنساخ.

في عملية الاستنساخ، وعند تلقيح البويضة وإنتاج اللاقحة، تُستأصل نواة البويضة، وتفصل عنها، وتُزرع مكانها نواة خليّة غير جنسية، تحتوي على 23 زوجاً من الكروموزومات. إنتاج اللاقحة تعتبر المرحلة الأولى من عملية الاستنساخ. لذلك فإنّ الاستنساخ عبارة عن عملية غير جنسية، يتمّ فيها زرع نواة خلية غير جنسية بصورة مباشرة في باطن البويضة، ولا يكون للحيمن حينها أيّ دورٍ يذكر([2]).

تعتبر اللاقحة، بغضّ النظر عن منشأها، المرحلة الأولى من عملية النمو، حيث يتمّ وضع اللاقحة في داخل الرحم؛ لكي يتكامل نموها، وتصبح على شكل موجودٍ حيّ. في عملية الاستنساخ يطلق على الشخص الذي أُخذت منه الخلية غير الجنسية اسم (النسخة الأصلية)، وعلى المولود بهذه الطريقة اسم (المستنسخ).

الخلايا الأساسية: هي الخلايا الموجودة في جسم الثدييات، التي من ضمنها الإنسان، حيث لها القابلية على الانشطار، والتحوّل إلى خلايا خاصّة ومتمايزة.

وسوف نتناول الاستنساخ في هذه المقالة في ثلاثة محاور:

1ـ استنساخ النباتات والحيوانات.

2ـ استنساخ الأعضاء البشرية (الاستنساخ العلاجي).

3ـ الاستنساخ البشري.

 

    المحور الأول: استنساخ النباتات والحيوانات

في ما يخصّ هذا النوع من الاستنساخ فإنّ الموافقين عليه أكثر من مخالفيه.

في مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي، الذي انعقد مؤخّراً في مدينة جدّة، ذُكر بخصوص الاستنساخ النباتي ما يلي: يجوز شرعاً الأخذ بتقنيّات الاستنساخ والهندسة الوراثية في النبات. والميزان في حدود الضوابط الشرعية، بما يحقّق المصالح، ويدرأ المفاسد([3]).

وكذلك فإنّ الدكتور وهبة الزحيلي ارتأى جواز ذلك، بناءً على تحقُّق المصلحة البشرية منه، حيث قال: والرأي الشرعي هو القول بإباحة الاستنساخ في عالم النبات والحيوان…؛ تحقيقاً لمصلحة الإنسان، وإيجاد وفرة أكثر([4]).

 

     أدلّة المعارضين

معارضو مسألة الاستنساخ النباتي والحيواني يقولون:

1ـ يعتبر هذا العمل مماثلاً للاستنساخ البشري. فهو تدخُّل في عمل الخالق، ويمكن القول بأنّه تغيير للسير الطبيعي في تكاثر وتناسل الحيوانات.

2ـ من ناحية أخرى فإنّ الله عزّ وجلّ قد خلق حيوانات مختلفة ومتنوّعة. وهذا التنوّع يعتبر دليلاً على عظمته وحكمته تعالى، حيث إنّ مصلحة البشر تنصبّ فيه. والاستهتار بهذا التنوُّع تتمخّض عنه مخاطر كثيرة لبني البشر([5]).

يعبّر يوسف المحمدي عن رأيه في مسألة استنساخ الحيوانات قائلاً: بسبب المفاسد والأضرار والأخطار الناشئة عن هكذا تجارب فإنّ أدلّة المانعين هي الأرجح. وكذلك فإنّ الإبهام الحاصل في مستقبل هكذا بحوث وعواقبها، كما حدث في قضية جنون البقر، تدفعنا للقول بأنّ الحرمة هي الأرجح([6]).

وفي خصوص مسألة استنساخ النباتات، وبعد أن ذكر أنّ العلماء ارتأَوْا جواز ذلك؛ استناداً إلى المصلحة البشرية، بيَّن رأيه قائلاً: في قضية الهندسة الوراثية في النباتات فإنّ عدم الجواز هو المرجَّح؛ وذلك لأنّ التلاعب والتغيير في الجينات الوراثية تترتّب عليه مخاطر تؤدّي إلى أضرارٍ فادحة. ومن ناحية أخرى فإنّ التنوّع الموجود ناشئ من حكمة إلهية، وإذا ما حاول أحدٌ أن يستخدم هذه الطريقة الحديثة، بدون أيّ تقيّد أو ضمانة، فإنّه سيتسبّب بحدوث أضرار فادحةً، مثل: جنون البقر([7]).

أحد علماء الشيعة المخالفين لهذه العملية هو الشيخ محمد مهدي شمس الدين. فقد عبَّر عن رأيه بالقول: أمّا في مقام الإفتاء عن الاستنساخ هذا العمل محرَّم تحريماً مطلقاً في تطبيقه على الحيوانات، وفي شكلٍ خاصٍّ ـ وهذا مورد الفتوى ـ في تطبيقه على البشر، قطعاً ويقيناً([8]).

وعن سؤالٍ وُجّه للشيخ صانعي: هل يجوز التلاعب بالجينات وتغيير التركيبات الوراثية للكائنات الحية، سواءً كانت نباتية أو حيوانية، والتي قد تؤدّي إلى أخطار احتمالية للطبيعة والبيئة؟ أجاب قائلاً: عموماً فإنّ أيّ تطوّرٍ علميٍّ لا يؤدّي إلى ضررٍ وخسائرٍ للفرد وللمجتمع فهو في حدِّ ذاته يعتبر جائزاً، والأصل هو الإباحة. والأخطار المحتملة من هذا التطوّر إذا كانت متوقّعة من علماء الطبيعة والبيئة فإنّ احتمال الخطر والضرر للآخرين والتصرُّف في حقوقهم… هو حرامٌ وغير جائز. نعم، إلاّ إذا كانت الأضرار بسيطة ولا أهمّية لها، فلا يترتّب عليها الحرمة.

وأمّا في جوابه عن سؤال بخصوص استنساخ الحيوانات فقد أشار إلى الجواز، وعدم المنع([9]).

وأمّا الشيخ نوري الهمداني فإنّه يعتقد بأنّ الاستنساخ الحيواني إذا ما تمّ بشكلٍ مشروعٍ فلا إشكال فيه. وعموماً فهو يحكم بجواز الاستنساخ في غير الإنسان([10]).

 

     مناقشة أدّلة مخالفي استنساخ النباتات والحيوانات

أهم أدلّة المخالفين لاستنساخ النباتات والحيوانات تتمركز في ثلاثة محاور:

1ـ التغيير في خلقة الله تعالى.

2ـ عدم التنوّع.

3ـ عدم المصلحة وحدوث مفاسد.

بالنسبة إلى ما يخصّ التغيير في الخلقة فإنّه يجب القول: إنّ الاستنساخ لا يعتبر تغييراً في الخلقة، بل إنّ التغيير حصل في طريقة الخلقة؛ لأنّ مراحل الخلقة مستمرة حسب الطريقة الطبيعية لها.

ومن ناحية أخرى فإنّ هدف العلماء من القيام بهذه التقنية هو إيجاد جيلٍ من النبات والحيوان يقدّم للبشرية محصولاً أوفر، ولا يصحّ المنع من ذلك بسبب أضرار محتملة. وعلى أقلّ تقديرٍ فإنّه لا يوجد لدينا دليلٌ شرعيٌّ قطعي يدلّ على حرمة ذلك في ما يخصّ النبات والحيوان. وقولنا: إنّ هذا العمل لا مصلحة فيه هو قولٌ غير علميٍّ.

وأمّا بخصوص التنوّع فإنّ هذا الدليل يمكن مناقشته في مجال الاستنساخ البشري؛ لأنّ القرآن الكريم يشير إلى أنّ تنوّع الانسان هو صفةٌ من صفاته: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ وألْوَانِكُمْ﴾ (الروم: 22). ولكنّ التنوّع والاختلاف غير واردٍ في ما يخصّ النبات والحيوان.

وفي ما يخصّ المصلحة فهنالك مصالح وأهداف واضحة في استنساخ النباتات والحيوانات. وقد أثمر بعضها. لذلك فإنّ دليل عدم المصلحة مرفوضٌ أيضاً.

 

      المحور الثاني: استنساخ الأعضاء البشرية (الاستنساخ العلاجي)

توصّلت العلوم الطبيعية الجينية إلى نتيجة مهمّة، وهي أنّه باستخدام الأجهزة والمعدّات الصناعية يمكن استئصال خلية من بعض أعضاء الجسم، وزراعتها في مكان آخر، مع كافة مكوّناتها ـ وهذا من إبداعات العلوم الحديثة ـ، بحيث إنّه يتمّ تهيئة غذائها؛ لكي تنمو بطريقةٍ تقنية، وتنتج خلايا متشابهة ومتلاصقة، بحيث يمكننا حينها إيجاد جزء من الجلد، أو من العضو الذي استأصلنا منه الخلية، أي إنّنا سوف نحصل على جلدٍ جديدٍ يعتبر نسخةً مماثلة للجلد الأصلي. ويتمّ استخدام هذا الجلد أو العضو الجديد لعلاج الأعضاء التالفة لمَنْ استُئصلت منه الخلية، أو لأيّ شخصٍ آخر هو بحاجة إليه. هذه الطريقة إذاً تساعدنا على إيجاد عضوٍ جديدٍ يستخدم لعلاج المرضى ذوي الحالات المستعصية والمعضلة([11]).

ويمكن القول: إنّ الاستنساخ العلاجي هو من موارد الاستنساخ التي لها مؤيِّدون أكثر من غيرها، حيث يتمّ من خلاله زراعة الأعضاء للمرضى. إلاّ أنّ هنالك اختلافات في الآراء حوله.

      أولاً: رأي علماء السنة

عموماً هنالك نظريّتان يتبنّاها أهل السنة:

 

      1ـ معارضة الاستنساخ العلاجي

أكثر المعارضين للاستنساخ العلاجي هم الذين يخالفون الاستنساخ بشكل كلّي، إلى درجة أنّهم يعتقدون أنّه أمرٌ لاجدوى منه وعبث، كالشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.

يعتقد بعض المعارضين أيضاً بأنّه أكبر المفسدات في الأرض، وأنّ جميع أنواعه محرّمة. ويعتقدون أنّ أقلّ عقوبة تنزل بمَنْ يقوم بذلك هو قطع يديه ورجليه([12]).

ويعتبر الدكتور عبدالله الفقيه هذا القسم من الاستنساخ حراماً، وأنّ هذا العمل يعتبر تعريضاً بالجنين، وبيعاً وشراءً للأعضاء البشرية. وكذلك ينشأ عنه أجنّة لا مصير لها سوى الموت([13]).

وعليه فإننا نلاحظ أنّ معارضي الاستنساخ العلاجي يحرِّمونه؛ استناداً إلى عموم أدلّة حرمة الاستنساخ البشري. لذلك فإنّ بعض علماء أهل السنة، وحسب قواعدهم العامّة، قد حرّموا جميع أنواع الاستنساخ، واعتبروه أمراً غير جائز.

 

     2ـ قبول الاستنساخ العلاجي

في ما يخصّ الاستنساخ العلاجي، وبناءً على الفوائد المترتِّبة عليه، اعتبره البعض جائزاً. وعلى سبيل المثال: فإنّ مفتي الديار المصرية يقول في هذا المورد: لكن يمكن أحياناً أن يكون الاستنساخ مقبولاً، وهذا فيما إذا كان يستخدم في مجال زرع الأعضاء([14]).

وقد اعتبر علي محيي الدين القره‌ داغي وعلي يوسف المحمدي الاستنساخَ العلاجي جائزاً، ولكنّهما ذكرا شرطاً لصحّته، وهو أنّه يجب أن لا يترتّب عليه ضررٌ، حينها يدخل في القواعد العامّة الحاكمة بجواز استئصال الأعضاء؛ لزراعتها([15]).

وأمّا الدكتور وهبة الزحيلي فهو يعتقد أنّ الاستنساخ العلاجي ما دامت فيه مصلحة للإنسان فهو جائز([16]).

وقد قيّد عارف علي عارف جواز الاستنساخ العلاجي بالحالات الضرورية، ولحلّ مسائل العقم. لذلك فإذا اعتبرنا أنّ زرع الأعضاء من الحالات الضرورية سيكون رأيه القبول أيضاً([17]).

 

     ثانياً: رأي علماء الإمامية

هنالك عددٌ قليلٌ بين علماء الإمامية من المعارضين لمسألة الاستنساخ العلاجي. وهؤلاء المعارضون قد اعترضوا على ماهيّته عموماً، واعتبروه محرّماً. وسوف نناقش أدلّتهم في باب الاستنساخ البشري.

عندما لا يوجد لدينا دليلٌ على حرمة أصل عملية الاستنساخ فإنّه لا فرق في ذلك بين الاستنساخ العلاجي أو البشري. ولا إشكال في ذلك([18]).

ولكن هنالك أمرٌ مطروح للنقاش هنا، كما ذكرنا سابقاً. فإنّه في المرحلة الأخيرة من الاستنساخ العلاجي يتمّ إخراج كتلة من الخلايا الموجودة داخل الجسم النامي؛ لكي تستخدم للزراعة من أجل الحصول على خلايا أساسية. لذلك فإنّ المشكلة تكمن في عملية إخراج الكتلة الخليوية، والتي تؤدّي إلى تلف وقتل الجنين، وتحول دون بقائه كإنسان؛ حيث يطرح السؤال التالي نفسه: هل يصدق على هكذا عمل أنّه قتلٌ أو لا؟

يمكننا القول باختصار: إنّه بالاستناد إلى أدلّة حرمة القتل لا يمكننا اعتبار الاستنساخ العلاجي قتلاً. وفي الواقع إنّنا حتّى لو وسّعنا دائرة مفهوم القتل لا يمكننا أن ندّعي حرمة إتلاف الجسم النامي؛ لأن التوسّع في مفهوم الجسم النامي، وجعله كالجنين، لا يمكن توجيهه؛ حيث إنّ الجنين ذو قوامٍ، ولا يصدق ذلك على الجسم النامي قبل مرحلة التكوّر (استقراره في الرحم)([19]).

وكذلك لا يمكن إلغاء الخصوصية هنا، وهي أنّ هذا الجسم النامي ذو قوامٍ، وكونه موجوداً في الرحم يعتبر أمراً متحقِّقاً، فكيف يمكن غضّ النظر عنه؟ على الأقل يمكن القول: إنّ لهذه الخصوصية دخلٌ في الحكم([20]).

المبحث التالي الذي نتناوله للنقاش، بعد معرفة الجواز، هو الآثار الحكمية الناشئة عن الاستنساخ العلاجي، والتي هي باختصار:

1ـ عندما تنمو الخلايا المستخرَجة من جسم إنسان في عملية الاستنساخ، وتتحول إلى جلدٍ أو عضوٍ آخر، فهذا العضو الجديد في الواقع هو جزءٌ من جسم ذلك الشخص الذي استخرجت الخلايا منه. لذلك فإنّ أحكام حرمة لمس أعضاء غير المحارم والنظر إليها سوف تشمله، وعليه يكون الحكم هو حرمة لمسه أو النظر إليه من قِبَل الأجنبي([21]).

2ـ الأحكام المترتّبة على هذا العضو الجديد هي نفس الأحكام التي تترتّب على سائر أعضاء الجسم، وخيار التصرُّف فيها يرجع إلى صاحبها؛ حيث إنّه يستطيع بيعها أو إهدائها إلى أيّ شخصٍ أراد، أو أن يجعلها تحت تصرُّف أيّ شخصٍ شاء، مقابل أجرٍ مدفوع([22]).

3ـ لا يوجد لدينا دليلٌ على نجاسة العضو المنتَج بسبب تغذية أو نموّ الخلايا([23]).

4ـ هنالك سؤال يطرح نفسه هنا، وهو: هل يجوز زراعة أعضاء الحيوان للإنسان؟

يقول السيد علي الخامنئي في هذه القضية: لا مانع من ذلك، ولكنّ الصلاة فيه محل إشكال، إلاّ إذا كانت هذه الاعضاء ممّا تحلّها الحياة، وعند زراعتها في جسم الإنسان تبقي حيّة، وتصبح جزءاً من جسم الإنسان. وفي الحكم المذكور لا يوجد فرقٌ في ثبوته لكافّة أنواع الحيوانات، حتّى نجس العين منها([24]).

 

     المحور الثالث: الاستنساخ البشري

يعتبر الاستنساخ البشري أهمّ أنواع الاستنساخ. وتدور حوله آراء ونظريات عديدة؛ كونه يتعلّق بعمدة المسائل التكوينية في النواحي المختلفة لحياة الإنسان الفردية والاجتماعية. ودارت حوله أسئلة متنوّعة في مجال علم الكلام، وعلم الأخلاق، وعلم الاجتماع، وجعل علم الفقه يواجه أزماتٍ حادّةٍ، حيث وضع الفقهاء المعاصرين في معترك مسائل مختلفة.

في هذا المضمار؛ وبتحريم أصل عملية الاستنساخ، أراح بعض الفقهاء أنفسهم من مسؤولية الإجابة عن الأسئلة المتمخِّضة عنه، وتفريعاتها التي تبتني على جوازه.

ولكن فقهاء الإمامية، وخلافاً للأديان الأخرى، وخلافاً لبعض المذاهب الإسلامية، قد حكموا بجوازه، حتّى أنّه يمكننا القول: إنّ أصل الجواز متَّفق عليه بين علماء الشيعة؛ وذلك لأن القلائل الذين خالفوا الاستنساخ البشري لم يستندوا في ذلك إلى دليلٍ خاصٍّ، بل إنّ سبب قلقهم هو عواقب هذا العمل، وعليه حكموا بحرمته([25]).

والمعارضون، الذين هم غالباً من أهل السنّة، قد حرّموا جميع أنواع الاستنساخ في بني البشر، واعتبروه أمراً غير مشروع. وتمّ التأكيد على هذا الحكم مراراً وتكراراً من قِبَل شخصيّات دينية، وفي مؤتمرات علمية.

وعلى سبيل المثال: صرّح الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور عبدالله الفقيه، والشيخ نصر فريد واصل، والدكتور وهبة مصطفي الزحيلي، وشخصيّات إسلامية عديدة أخرى، بحرمة هذا العمل، من خلال خطبٍ وأحاديث وتصريحاتٍ كثيرة.

وفي ما يلي نشير إلى أدلّة المعارضين للاستنساخ البشري:

 

    أولاً: مخالفة الاستنساخ للآيات القرآنية

يشير الله تعالى في آيتين في القرآن الكريم إلى التغيير في الخلقة وتبديلها. وينسب عمل التغيير في الخلقة إلى الشيطان. وفي الآية الثالثة استفاد البعض أنّ هذا العمل يعتبر تحدّياً له عزّ وجلّ.

 

الآية الأولى: ﴿وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً﴾  (النساء: 119).

ومحلّ الاستدلال في هذا القسم هو الآية: ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾، فقد ارتأى علماء أهل السنّة حرمة الاستنساخ من مفاهيم هذه الآية الشريفة، وتوصّلوا إلى النتائج التالية:

1ـ التغيير في خلقة الله عزّ وجلّ ينافي الفطرة السليمة التي خلق اللهُ الانسانَ على أساسها. فعندما حرّم الإسلام تغيير الجلد فقط، واعتبره من موجبات تغيير الخلقة، فمن باب أَوْلى يكون الاستنساخ ـ الذي يُوجد تغييراً في النسل ـ حراماً([26]).

2ـ استنتج عارف علي عارف([27]) الحرمة بعد أن ذكر هاتين المقدّمتين:

الأولى: يعتبر الاستنساخ تغييراً ظاهراً في خلقة الله، وهو عملٌ من الشيطان.

الثانية: كلُّ أمرٍ مفسدٍ يكون للشيطان يدٌ فيه، وتغيير خلقة الله وفطرته التي فطر الناس عليها يعتبر أمراً فاسداً، وهو محرَّم.

النتيجة: إنّ الاستنساخ محرّم.

3ـ يقول يوسف المحمّدي([28]): الاستنساخ يعتبر تدخّلاً في تغيير خلقة الله تعالى، ويدخل ضمن قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾، لذلك فهو محرَّم.

4ـ أمّا كارم السيد غنيم([29]) فقد استدل بالآية الشريفة على حرمة الاستنساخ بهذا الشكل: الإنسان هو خليفة الله في الأرض، ويجب عليه أن يقوم بالمحبّة والمودّة، اللتين لا تتحقّقان إلاّ عن طريق الزواج. والاستنساخ هو طريقٌ غير الطريق الذي حدَّده الله عزّ وجلّ. ففي هذه العملية قد غيَّر الإنسان سنّة الله، ونوعاً ما فإنّه قد غيَّر في الخلقة. وهذا التغيير ينجرّ نحو الفساد، وليس الصلاح.

 

    تحليل ونقد تحليل الآية

تشير الآية إلى أفعال عرب الجاهلية؛ فإنّ عرب الجاهلية كانت تشقّ آذان البحائر والسوائب؛ لتحريم لحومها([30]). فقد كانوا يقومون بهذا العمل باعتباره من «شعائر الله»، بينما يعتبر عملهم هذا في الحقيقة بدعةً، ويناقض الأحكام الشرعية.

ويعتبر العلامة الطباطبائي أنّ التغيير في خلقة الله هو الخروج من حكم الفطرة، والترك للدين الحنيف، حيث قال: وليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة، وترك الدين الحنيف([31]).

وأمّا صاحب تفسير المنار فقد اعتبر تغيير خلق الله أمراً عامّاً، يشمل التغيير المادّي (الحسّي) والتغيير المعنوي. ويذكر عملية الإخصاء كمثالٍ للتغيير الحسّي. وكذلك اعتبر الوشم وما شاكله من التزيّن من أعمال تغيير خلقة الله. واستنتج من قضية التغييرات الحسّية أنّ التغييرات الظاهرية، التي توجب وتستحقّ الذمّ، والتي هي من أفعال الشيطان، تعتبر من أعمال التشويه، إلاّ ما جاءنا من السنّة الشريفة، كالختان والخضاب، فلا يعتبر مصداقاً للتشويه. والمقصود من التغيير المعنوي في خلق الله هو تغيير دين الله عزّ وجلّ([32]).

لذلك يمكننا القول: إنّ هنالك ثلاثة احتمالات لتغيير خلق الله:

1ـ التغييرات الحسّية والظاهرية.

2ـ تغيير دين الله.

3ـ الخروج من حكم الفطرة وتغييرها.

ولا يعتبر أيٌّ من المعاني المتقدّمة دليلاً على حرمة الاستنساخ؛ وذلك:

إذا كان الاستدلال كاملاً فإنّ استنساخ الحيوانات أيضاً يجب أن يكون محرّماً. بينما نجد الكثير من علماء السنة يجوِّزون ذلك.

وإذا فرضنا أنّ الآية تشمل الإنسان أيضاً فإنّ هذا السؤال يطرح نفسه: أيّ تغيير يحصل في ظاهر الشخص المستنسَخ يصدق عليه أنّه تغييرٌ في خلق الله؟

ظاهر الشخص المستنسخ لا اختلاف فيه مع ظاهر باقي البشر، فالإنسان الذي يشبه نسخته الأصلية بنسبة 97% أيّ تغيير قد نشأ عليه؟

وإذا كان المراد من تغيير خلق الله هو التغيير في كيفية التكاثر والتوالد فهذا لا يكون دليلاً على مدّعاهم؛ لأنّ الاستنساخ بحدّ ذاته كاشفٌ عن قانون من القوانين الطبيعية الإلهية، ولا يشتمل على عملٍ يخالف الدين.

 

الآية الثانية: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30).

ومحلّ الاستدلال في هذا القسم هو الآية: ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾. والاستدلال بهذه الآية يشبه الاستدلال بالآية التي سبقتها. والذين اعتبروا أنّ الاستنساخ تبديلٌ لخلق الله وفق الآية السابقة اعتبروه أيضاً تبديلاً لخلق الله وفق هذه الآية.

 

    تحليلٌ ونقد

من المناسب أن نستعرض بعض آراء المفسّرين:

يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الآية: سنة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الإنسانية طريقة متعينة، يقتضيها النظام بالحقّ، وتكشف عنها تجهيزات وجوده بالحقّ. وهذا الحق هو القوانين الثابتة غير المتغيِّرة التي تحكم في النظام الكوني، الذي أحد أجزائه النظام الإنساني، وتدبّره، وتسوقه إلى غاياته، وهو الذي قضى به الله سبحانه، فكان حتماً مقضيّاً…([33]). فما للإنسان من جهة أنّه إنسان إلاّ سعادة واحدة وشقاء واحد، فمن الضروري حينئذٍ أن يكون تجاه عمله سنة واحدة ثابتة، يهديه إليها هادٍ واحدٍ ثابتٍ، وليكن ذاك الهادي هو الفطرة ونوع الخلقة. ولذلك عقّب قوله: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ بقوله: ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ([34]).

ويقول الزمخشري في قوله تعالى: ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾: يعني هذا أنّ خلقة الإنسان تمّت بشكلٍ تستوعب قبول التوحيد ودين الإسلام، وهذه القابلية هي الفطرة بعينها، والتي لا تستحقّ التغيير والتبديل([35]).

ولكنْ هنالك أمور يجب علينا أن لا ننساها، وهي:

1ـ إنّ الاستنساخ لا يعتبر تغييراً في نوع خلقة الإنسان، بل إنّه طريقة تختلف عن الطريقة المتداولة في التناسل. فإنّ الفرق يكمن في نوع الطريقتين، وهو أساساً يكون في بداية عملية التناسل فقط، وإلاّ فإنّه في جميع مراحل الخلقة يكون النوع الجديد مشاركاً للنوع المعروف في كيفيّته؛ أي إنّه عندما تتخصّب بويضة المرأة بواسطة الخليّة الذكرية، وتستقرّ في داخل الرحم، يبدأ الجنين بطيّ تسعة أشهرٍ؛ لكي تكتمل خلقته، ويتحوّل إلى إنسان كامل، في كلا الطريقتين على حدٍّ سواء.

2ـ يقول الكثير من الفقهاء والمفسِّرين: إنّ المراد من تبديل وتغيير خلقة الله هو تغيير الفطرة التوحيدية التي أودعها الله جلّ شأنه في ذات الإنسان. والآية تشير إلى هذه الفطرة: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾. وإذا كان المراد غير هذا المعنى فإنّ السير الطبيعي للحياة سوف يختلّ حينها؛ لأنّه حسب هذا الفهم والاستنباط يتوجّب علينا الامتناع عن قطع أيّ شجرة أو شقّ أيّ جبلٍ أو تجفيف أيّ نهرٍ؛ حيث يصدق على هذه الأفعال وما شاكلها كونها تغييراً لخلقة الله([36]).

3ـ إذا قلنا: إنّ هذه الآية تختصّ بالإنسان والحيوان فقط عندئذٍ كيف يمكننا إثبات أنّ الاستنساخ هو مصداقٌ مفروغ عنه في تغيير وتبديل الخلقة؟ وعلى فرض قبول كونه مصداقاً لتغيير وتبديل الخلقة فإنّه لا يمكننا الاستدلال بالآية عليه؛ لتعارضه مع الاحتمال الآخر.

 

الآية الثالثة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾  (الحجّ: 71).

ووفق ما تشير إليه هذه الآية لا أحد يمكنه أن يخلق كائناً حيّاً سوى الله عزّ وجلّ. وهذه الآية تتعلَّق بخلقة النبيّ عيسى×. وقد استنتج البعض منها أنّ الله تعالى خلق المسيح× بدون أب. وفي عملية الاستنساخ يريد الإنسان أن يتحدّى الله جلّ شأنه عن طريق إيجاد إنسان بلا أب. وعليه فإنّ الاستنساخ حرامٌ. ذكر هذا الدليل كارم السيد غنيم([37]).

 

   تحليلٌ ونقد

دليل التحدّي لقدرة الله تعالى يعتبر أوهن أدلّة حرمة الاستنساخ. وقد تمّ تفنيده حتّى من قِبَل القائلين بالحرمة.

يقول نصر فريد واصل في نقض هذا الدليل: إنّ الاستنساخ ليس خلقاً…([38]). فهو يعتقد أنّ الاستنساخ في الواقع ليس خلقاً، حتّى يقوم الإنسان بواسطته بتحدّي الله تعالى.

ويقول كارم السيد غنيم في موضعٍ آخر كلاماً يتضادّ مع ما ذكره: الاستنساخ طريق غير الذي عيَّنه الله. فالإنسان من خلال عملية الاستنساخ قد غيَّر سنّة الله، ولكنه لم يخلق إنساناً من خلاله. فالاستنساخ مجرّد تغيير في سنّة الله([39]).

لذلك فإنّنا نلاحظ أنّ القائلين بهذا الدليل غفلوا عن كون الاستنساخ كاشفاً لقانون الطبيعة، وليس خلقاً؛ لأنّ الخلق هو إيجاد شيء من العدم، ولكنّ الاكتشاف هو معرفة قانون الخلقة. فقد استطاع الإنسان إلى وقتنا الراهن أن يكتشف بعض قوانين الطبيعة فقط، وهنالك الكثير من القوانين الأخرى لا زالت مجهولة عنده([40]).

تكمن قدرة الإنسان في كشف القوانين فحسب. لذا فإنّه لا يمكنه أصلاً أن يخلق شيئاً، حتّى ذبابة، كما ورد في الآية الشريفة. ومضافاً إلى ذلك فإنّه في عملية الاستنساخ؛ ومن أجل اكتمال الخلقة، يجب إكمال جميع مراحلها في فترة تسعة أشهرٍ، ومضيّ هذه المدّة لا دخلَ لأحدٍ فيه غير الله عزّ وجلّ، حيث إنّه إذا أراد ذلك فإنّ خلقته سوف تكتمل، وتتحوّل إلى إنسان متكامل، كما أشارت إليه الآية أيضاً.

 

     ثانياً: مخالفة الاستنساخ للعقل

يمنع الدكتور نور الدين الخادمي الاستنساخ؛ قياساً، عند مقارنته مع بعض أنواع النكاح، من باب الأولوية، ويقول: عندما يحكم العقل ومنطق الشريعة بحرمة بعض أنواع النكاح؛ لما يترتّب عليها من مهالك ومفاسد، كنكاح الشغار، ونكاح التحليل، وغيرها، والتي تعتبر درجةً أدنى من عملية الاستنساخ، فمن الأوْلى أن يكون التناسل عن طريق عملية الاستنساخ ممنوعاً، وغير مقبولٍ من قِبَل العقل السليم؛ حيث إنّه يخالف المنطق الثابت، والقواعد الحسيّة والواقعية، وروح الأدلّة([41]).

 

    تحليلٌ ونقد

1ـ دليل العقل عند أهل السنّة يرجع إلى القياس. فيكون الجواب عن هذا الدليل هو نفس الجواب عن القياس.

2ـ الدليل العقلي يكون ثابتاً عندما يكون مقبولاً عند العقلاء، ويوافق آراءهم. وإذا وُجد هكذا مبنىً فإنّه أيضاً غير مقبولٍ؛ لكونه فرضاً واحتمالاً، وليس قطعاً.

 

     ثالثاً: مخالفة الاستنساخ للإجماع

يقول الدكتور نور الدين الخادمي: هنالك إجماع على حرمة الاستنساخ. وقد تمّ بيان هذا الاجماع عن طريق مقامات علمية وسياسية مختلفة. لذا فإنّ هذا الإجماع يعتبر إجماعاً شرعياً علمياً، واتّفاقاً شاملاً، على وجوب منع الاستنساخ([42]).

 

     تحليلٌ ونقد

تعريف الإجماع في رأي أهل السنة هو اتّفاق المجتهدين من الأمّة الإسلامية في عصرٍ من العصور على حكمٍ شرعيٍّ بعد وفاة الرسول([43]).

وأهم محاور التعريف:

1ـ اتّفاق المجتهدين.

2ـ كون هذا الحكم الشرعيّ يقبل التجديد والاجتهاد، مثل: الاستنساخ، وإجارة الرحم.

3ـ أن يتّفق عليه جميع المجتهدين، دون استثناء.

4ـ كون المجتهدين من الأمة الإسلامية.

5ـ عدم وجود اتّفاق على الحكم في عهد الرسول|؛ لأنّ الاتفاق عليه في عهد الرسالة دليلٌ على كونه ناشئاً عن الوحي([44]).

 

    مناقشة الدليل

1ـ هنالك مخالفون من الأمّة الإسلاميّة في هذا المجال، مثل: علماء الإمامية؛ لأنّ الإجماع في رأي الشيعة يعني الكشف عن قول المعصوم×([45]).

2ـ هنالك مخالفون أيضاً من أهل السنّة بشكل خاصٍّ، مثل: أحمد الجحّي الكردي، الذي يعتبر الاستنساخ جائزاً في دائرة الزوجيّة، عندما تترتّب عليه مصلحة.

3ـ وفق رأي الشيعة فإنّ الإجماع المذكور لا حجيّة له.

وباختصارٍ لا يمكن اعتبار الإجماع دليلاً على حرمة الاستنساخ.

 

    رابعاً: مخالفة الاستنساخ للقياس

عند أهل السنة بمكن الاعتماد على القياس المعتبر في استنباط أحكام المسائل المستحدثة.

ويقول المعارضون لعملية الاستنساخ([46]): لا يمكننا الاستفادة من القياس لتأييد عملية الاستنساخ؛ لأنه لا مثيل له كي نقيسه عليه. والادّعاء بأنّ خلقة آدم والمسيح‘ كانت عن طريقٍ غير جنسيّ، وأنّها عملية استنساخ، يعتبر باطلاً؛ لأنّ آدم والمسيح‘ خلقوا على أساس قدرة وإرادة الله سبحانه وتعالى.

ولكنْ يمكن الاستفادة من القياس لمنع الاستنساخ؛ لوجود بعض المسائل التي يمكننا قياسه عليها، كطرق التناسل المنحرفة، مثل: نكاح الاستبضاع، إجارة رحم المرأة وبنك الأجنّة؛ وكذلك أنواع النكاح الباطل، مثل: النكاح في العدّة، نكاح المتعة، ونكاح المحارم؛ والمسائل التي تؤدّي إلى هتك الأنساب، وتنافي الهدف من الزواج. فما هو الاختلاف بين الاستنساخ وظاهر الاستبضاع في الجاهلية؟! كلاهما يشتركان في إدخال ما هو أجنبيّ في العلقة الزوجية، ويؤدّيان إلى الجهل بالنسب. وما هو الاختلاف بين الاستنساخ ونكاح التحليل، وإجارة الرحم، وتجميد الخلايا الجنسية؟! جميعها تشترك في اختلاط الأنساب([47]).

 

    تحليلٌ ونقد

هنالك مبنيان في خصوص القياس:

1ـ يعتبر البعض أنّ القياس دليلٌ شرعيٌّ، وضعه الشارع لكشف بعض الأحكام التي لا نصّ صريح عليها، ولا إجماع. وعرّفوه هكذا: استواء فرع غير منصوص على حكمه مع أصلٍ منصوصٍ على حكمه؛ لتساويهما في علّة هذا الحكم.

2ـ يعتبر البعض الآخر أنّ القياس هو فعل وعمل المجتهد، وعرّفوه هكذا: إلحاق فرع غير منصوص على حكمه بأصلٍ منصوصٍ على حكمه؛ لتساويهما في علّة ذلك الحكم([48]).

القياس يتّكئ على أربعة أركان:

1ـ الأصل، وهو عبارة عن الشيء الذي ثبت حكمه عن طريق النصّ أو الإجماع.

2ـ الفرع، وهو عبارة عن الشيء الذي يلحق بالأصل من أجل أن يكون حكمه معلوماً.

3ـ حكم الأصل، وهو عبارة عن حكمٍ شرعيٍّ ناشئ عن النصّ أو الإجماع.

4ـ العلّة، وهي عبارة عن الوصف الذي يبتني عليه حكم الأصل.

 

   إيرادات على آرائهم

أـ من شروط الأصل في القياس هو كون حكمه معلوماً عن طريق الإجماع أو النصّ، ولكنّهم هنا شبَّهوا الاستنساخ بإجارة الرحم، رغم عدم وجود نصٍّ أو إجماعٍ يدلّ على الحرمة.

ب ـ من شروط الفرع عدم وجود نصٍّ أو إجماعٍ عليه، بينما يعتقد أهل السنّة بأنّ الإجماع على حرمة الاستنساخ متحقِّق، ويقدَّم هذا الإجماع على القياس. وعليه فإنّ القياس الحاصل غير متكامل الشروط([49]).

 

     خامساً: مخالفة الاستنساخ للعرف

يقول نور الدين الخادمي في خصوص هذا الدليل: على الرغم من كون الاستنساخ أمراً جديداً، وأنّ العرف لا معرفة له بهذه الطريقة في التناسل، ولكنْ كون هذه المسألة في المجتمعات الغربية ـ التي لا تتقيَّد كثيراً بالمسائل الاخلاقية ـ تُعتبر خطراً للبشرية، حسب رأي الشخصيات السياسية والعلمية، يعتبر كافياً. عندما ننظر إلى الاستنساخ من منظار العرف الشرعي يتّضح لنا أنّه لا يوجد شكّ ولا شبهة لمنعه وتحريمه؛ لأنّ العرف الشرعي ليس فقط كونه غير مخالف للأصل أو للحكم، بل إنّه يتزاحم مع جميع الأهداف، وجميع الأحكام الشرعية، والحقوق الاجتماعية والفردية([50]).

 

    تحليلٌ ونقد

قبل أن نتطرَّق إلى مناقشة هذا الدليل نستعرض معنى العرف من وجهة نظر أهل السنّة:

فالعرف عبارةٌ عن الأمر الذي يعرفه الناس، ويعتادون عليه في حياتهم، وأقوالهم، وأفعالهم، وتصرّفاتهم. لذلك يطلق عليه «العادة» أيضاً([51]).

 

    مناقشة الدليل

1ـ لا يمكن للعرف أن يوجد حكماً شرعياً، وخصوصاً في مثل هذه المسائل، التي لا معرفة للعُرْف فيها. ومهمّة العرف هو تشخيص الموضوع، وليس بيان الحكم.

2ـ باعتراف علماء الأصول من أهل السنّة أنفسهم فإنّه من الممكن أن يتغيّر العرف باختلاف الزمان والمكان([52]). فلربما لا يجيز العرفُ الاستنساخَ في الوقت الراهن ـ على فرض ذلك ـ، ولكنّه قد يجيزه في المستقبل.

3ـ كيف يمكن القول بضرسٍ قاطعٍ أنّ العرف لا يقبل الاستنساخ مطلقاً، حتّى في دائرة الزوجية؟!

4ـ وسّع الدكتور الخادمي في عبارته نطاق العرف ليشمل غير المسلمين، وهذا بدوره يخالف الكثير من الأحكام الشرعية الأخرى. وما أكثر الأمور التي تكون عند غير المسلمين عادةً وعرفاً، ولكنّها لا تعتبر كذلك في عرف المسلمين.

 

      سادساً: مخالفة الاستنساخ لأهداف الشريعة

مقاصد الشريعة عبارة عن مجموعة من المعاني والأهداف التي تشمل الأحكام والأدلة الشرعية. وبعبارة أخرى: إنّ مقاصد الشريعة هي الهدف والغاية العليا للتشريع والتقنين الإسلامي، والذي يتمحور في حفظ الدين، النفس، العقل، النسل، والمال([53]).

يقول نور الدين الخادمي في توضيح هذا الدليل: عند النظر إلى حقيقة الاستنساخ، وبتأمّلٍ وتفكُّرٍ بسيطين، نفهم أنّ الاستنساخ يُوجِد خللاً في المقاصد الشرعية([54]).

المقصود من حفظ الدين هو إقامة أركان الإسلام وشعائره ومظاهره، وصيانة أحكامه وتعاليمه من التحريف، والنقص، والتعطيل.

المقصود من حفظ النفس ـ مثلاً ـ هو تحريم الاستنساخ؛ لأنّه يدنِّس كرامة الإنسان، ويعرّض سلامته للخطر.

والمقصود من حفظ العقل هو الحفاظ على العقل الإنساني، وعلى الأعمال التي نقوم بها لبنائه. وكذلك السعي لحفظ سلامته من الهلاك والفساد والانحراف.

والمقصود من حفظ النسب هو تحقُّق التكاثر والتناسل، الذي يُعَدُّ نسباً من وجهة نظر الشرع([55]).

ويقول الشيخ نصر فريد واصل في هذا الشأن: الاستنساخ ليس خلقاً جديداً، لكنّه تغيير لنواميس الله تعالى. هنالك خمسة أصولٍ عامّة في المجتمع إذا ما حصل خللٌ فيها فإنّ النظام الاجتماعي برمّته سوف يختلّ: النفس، العقل، النسب، الدين، والمال. وفكرة الاستنساخ توجد خللاً في أربعةٍ من هذه الأصول، يعني في النفس، العقل، النسب، والدين([56]).

     تحليلٌ ونقد

1ـ حفظ الدين: يقال: إنّه في عملية الاستنساخ يتمّ تحريف بعض الأحكام الشرعية، كأحكام الإرث، والتجاوز على الدين.

والجواب: يمكن تصوّر هذا الفرض إذا ما حلّ الاستنساخ محلّ التناسل الطبيعي، ولا يقوم حينها أحدٌ بأداء عملية التناسل الطبيعي. ولكن إذا تمّ الاستنساخ في دائرة الزوجية فلا تبرز هكذا مشكلات.

ومن المؤكّد أنّه إذا كان الاحتمال العقلائي يشير إلى كون غزارة التوالد تسبّب أخطاراً حينئذٍ يجب أن يتوقَّف؛ لأنّنا إذا راجعنا الشرع نجده يمنع ذلك([57]).

2ـ حفظ النفس: وفق هذا الدليل فإنّ الاستنساخ يؤدّي إلى تدنيس وتهديد كرامة الإنسان.

والجواب: ما هو الفرق بين الإنسان الناشئ من تلقيح بويضة المرأة بواسطة حيمن الرجل وبين الإنسان الناشئ من عملية الاستنساخ؟! كلاهما يشتركان في الإنسانية، وإذا فرضنا وجود عاملٍ يدنِّس كرامة الإنسان فإنّهما يشتركان فيه([58]).

ويمكن القول: إنّ الإنسان المستنسخ ربما يكون فيه نقصٌ يقلّ احتمال وجوده في الإنسان المولود من عملية التوالد الطبيعية.

ويجاب عنه: إنّ الفرض هو في صحّة وسلامة الإنسان المستنسخ، وإذا كان هذا الإنسان ناقصاً فحينها لا يرغب شخصٌ في الإنجاب بهذه الطريقة.

3ـ حفظ النسب: الاستنساخ يتسبَّب في تضييع النسب.

والجواب عند ذلك:

1ـ بما أنّ الأمّ والأب ذوا مفهومٍ عرفي فحينما يكون الاستنساخ في دائرة الزوجية من المتيقَّن أنّ العرف يعتبر المولود من هذا الاستنساخ تابعاً لصاحب الخليّة وصاحبة الرحم.

2ـ في موارد أخرى يمكن وضع ملاك ومناط واحد يتمّ من خلاله تعيين النسب. فنقول مثلاً: صاحب الخلية مثل صاحب النطفة. فصاحب النطفة هو الأب في أيّ رحمٍ كانت، سواءٌ بطريق شرعيٍّ أم غير شرعيٍّ. وكذا يأتي الكلام في صاحب الخلية. ومن المعلوم أيضاً أنّ الاستنساخ لا يخلّ بالعقل، ولا بالناموس([59]).

     سابعاً: الاستنساخ وقاعدة (درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح)

يعتقد المعارضون أنّ الاستنساخ يوجب الإخلال بالعلاقات الاجتماعية والعاطفية للإنسان، ويؤدي أحياناً إلى زوال عاطفة الأمّ والأب. ونفس هذه الآثار كذلك تترتّب على الشخص المستنسخ. لذلك فإنّ الإسلام لا يجوّز هذا العمل؛ حيث إنّه يعرّض المصلحة الإسلامية والعلاقات العاطفية الفطرية والعلاقات الاجتماعية للخطر. فعلى الرغم من وجود مصلحة شخصيّة من الاستنساخ لبعض الناس، الذين لا يمكنهم الإنجاب، إلاّ أنّ المصلحة العامّة للمجتمع مقدّمة على المصلحة الشخصية. لذا يطلق على هكذا موارد: درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح([60]).

وبناءً على هذه القاعدة فإنّ الاستنساخ غير جائز؛ لتسبّبه بمفاسد عامّة.

وسوف نردّ على هذا الدليل مع الدليل اللاحق؛ لأنهما متشابهان.

 

    ثامناً: الاستنساخ وقاعدة (إنّ ما زاد ضرره على نفعه فهو حرامٌ)

قال البعض؛ استناداً إلى هذه القاعدة: الأبحاث التي تجري في القضايا الجينيّة والاستنساخ يكون ضررها أكثر من نفعها. لذا فإنّ الاستنساخ حسب القاعدة المذكورة داخلٌ في المحرّمات([61]).

 

   تحليلٌ ونقد

يكون الاستدلال بهذين الدليلين صحيحاً إذا قطعنا بكون الاستنساخ يؤدّي إلى الضرر والفساد. ولكن بمجرّد الظنّ والاحتمال لا مجال لإجراء هاتين القاعدتين. ومن جهة أخرى، وحسب القاعدة الأولى، كانت النتيجة التي توصَّل اليها المعارضون أنّ الاستنساخ ليس جائزاً حتّى في دائرة الزوجية؛ وذلك للمفاسد التي تنشأ عنه. ونقول: إنّ العقل السليم في هذه الموارد يحكم بمنع الحالات الفاسدة من هذا العمل فقط، وليس جميع الحالات.

 

    تاسعاً: الأصل الأوّلي هو التحريم

رغم كون الأصل الأوّلي في الأشياء هو الإباحة، إلاّ أنّه في ما يخصّ الفروج والأنساب ـ بالنسبة إلى الإنسان ـ فإنّ الفقهاء قد عدلوا عن الأصل الأوّلي، وقالوا: الأصل في الفروج الحرمة، ما لم يوجد لدينا دليلٌ بالإباحة؛ وذلك بسبب المخاطر التي يحتمل حصولها. وبما أنّ الاستنساخ ذو صلةٍ بالأنساب والفروج، فحينئذٍ يكون الأصل فيه المنع والتحريم، إلى أن يتوفّر لدينا دليلٌ على الحلية والإباحة. لذلك فإنّه إذا أدّى الاستنساخ إلى اختلاط وزوال النسب فسوف يكون محرَّماً؛ ولكنّه إذا لم يؤدِّ إلى ذلك يكون الحكم حينها منوطاً بالمصالح والمفاسد المترتِّبة عليه؛ أي إذا كانت المصلحة فيه أكثر من المفسدة يكون محلَّلاً، وإذا كان العكس صحيحاً سيكون محرّماً.

وعلى سبيل المثال: عندما يكون الاستنساخ في دائرة الزوجية، ويتمّ بين الأمّ والأب، سيكون جائزاً؛ لأنّه لا يسبب اختلاط الأنساب. ولكنّه عندما يكون بين امرأتين، أو بين رجلٍ وامرأة أجنبية، سيكون غير جائزٍ؛ لأنّه يتسبّب باختلاط الأنساب.

ونتيجةً لذلك فإنّ الاستنساخ يكون جائزاً في حالة واحدة، وهي إذا وجدت علقة زوجية بين صاحب الخلية وصاحبة البويضة، وبشرط عدم غلبة المفسدة على المصلحة. وإذا لم تكن هنالك علقة زوجية بينهما فلا يكون جائزاً([62]).

 

   تحليلٌ ونقد

1ـ الأصل الأوّلي هو الإباحة والجواز، وهو مبنى أكثر الأصحاب؛ حيث إنّهم يتمسّّكون بهذا الأصل ما لم تثبت الحرمة وعدم الجواز؛ لأنّ الله تعالى جعل الفَرَج والسعة لعباده.

وإذا أردنا أن نكون محتاطين يجب علينا القول: إنّ الأصل الأوّلي هو الاحتياط، على الرغم من أنّ الاحتياط في الكثير من الموارد يخالف نفسه. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: 59)، وإنّ الحكم بعدم الجواز أو منع الناس ممّا هو جائزٌ ومحلّل؛ بحجّة الاحتياط، يمكن أن يكون مصداقاً لهذه الآية الشريفة([63]).

2ـ على فرض التسليم بقبول أصل الحرمة فإنه في الاستنساخ لا يُلمَس خلطٌ في النسب أو زواله. وبالإمكان تحديد جميع الموارد بملاك محدَّد.

3ـ هذا الدليل هو أخصّ من المدَّعى، وليس بالإمكان تحريم الاستنساخ مطلقاً. كما قال أحمد الكردي بجوازه إذا ما حصل في دائرة الزوجية.

 

     عاشراً: انتفاء المصلحة في الاستنساخ

هذا الدليل ناشئٌ من فكرة أنّ الاستنساخ عديم المصلحة، ولا فائدة متحقّقة منه للإنسان. إذا تصوّرنا مصلحةً في الاستنساخ فلا يمكننا نفيها. وباستطاعتنا القول: إنّ عملية استنساخ الإنسان لا تتعدّى كونها تجربة علمية، يتمّ من خلالها إثبات قدرة الإنسان في المسائل العلمية([64]).

 

   تحليلٌ ونقد

القول بكون الاستنساخ عديم المصلحة والمنفعة هو ادّعاء بلا دقّةٍ ولا فهمٍ صحيحٍ له؛ فقد ذُكرت موارد كثيرة لفوائده، إليك بعضاً منها:

1ـ ولادة أطفال للزوجين العقيمين.

2ـ ولادة أطفال للزوجين اللذين يفقدان القدرة على الإنجاب؛ بسبب موت الطفل في رحم أمّه، أو سقطه.

3ـ الوقاية من الأمراض الوراثية.

4ـ ولادة جيلٍ سالمٍ وخالٍ من الأمراض([65]).

وهذه مجرّد موارد محدودة من فوائد وأهداف الاستنساخ. وبالإضافة إلى ذلك فإنّه حين افتراض عدم المصلحة في أمرٍ ما لا يمكن الحكم بكونه حراماً. فهل أنّ عدم المصلحة يعتبر دليلاً على تحقُّق مفسدة؟! وحتّى على فرض عدم وجود أيّ مصلحةٍ تُذكر فلا يمكن القول بالحرمة حينها.

 

    حادي عشر: تدنيس كرامة الإنسان

الذين اعتمدوا على هذا الدليل لإثبات حرمة الاستنساخ ينقسمون إلى قسمَيْن. وكلّ قسم له نظرية خاصّة حول تدنيس كرامة الإنسان فيه.

1ـ يعتقد البعض([66]) أنّه عندما تكون النسخة الأصلية بحاجة إلى زراعة عضوٍ؛ بسبب المرض، يتمّ استئصال عضوٍ من النسخة المستنسخة التي هي إنسان صاحب كرامة. وبهذا العمل يتمّ تدنيس كرامة الإنسان، والله تعالى يقول في كتابه الكريم: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70).

2ـ يعتقد البعض الآخر([67]) أنّ دور الرجل والمرأة في إنتاج النسل يعتبر دوراً فعّالاً يتشاركان فيه. فالجنين يرث صفاتهما كلَيْهما؛ وكلاهما يشعران بوجود رسالة على عاتقَيْهما، يتوجَّب عليهما إيصالها. وعندما يتمّ إنجاب طفلٍ عن طريق الاستنساخ فهذا يعني خروج أحدهما من هذا الدور الحياتي. وهو بحدِّ ذاته إهانةٌ لهما.

 

      تحليلٌ ونقد

1ـ الدليل الأوّل يعتبر أخصّ من المدّعى. فنحن نبحث عن دليلٍ يوضّح حكم الاستنساخ. ولكن في هذا الدليل تمّت الإشارة لموردٍ من استخدام الاستنساخ البشري، وادُّعي أنّه يدنّس كرامة الإنسان. لذلك لو سلّمنا بقبوله فسوف يكون هذا المورد فقط محرّماً، ولا يمكن التعريض بالاستنساخ قاطبةً.

2ـ في الدليل الأوّل أيضاً ادُّعي ما يمكن ادّعاؤه في كلّ ظاهرة جديدة يتعرّض لها الإنسان. وكأنّ هذا الادّعاء ناشئٌ من أصلٍ مسلَّمٍ استنتجوا منه قولهم، مع أنّ الاستنساخ لا ينحصر في المورد المذكور.

3ـ بالنسبة للدليل الثاني نقول: حينما يكون أحد الزوجين غير قادرٍ على الإنجاب، ونجري عملية التلقيح المختبري (الاصطناعي)؛ حيث حينها يخرج أحد الزوجين من عملية التكاثر، هل يمكن القول: إنّ كرامة الإنسان قد دُنّست؟! بينما نلاحظ أنّ أهل السنّة يجيزون التلقيح المختبري في دائرة الزوجية.

4ـ عندما يقرِّر الزوجان الإنجابَ عن طريق الاستنساخ فإنّهما يعلمان بأنّ دور أحدهما سوف يضعف. وحينئذٍ إذا تبنّينا هذا الدليل فإنّه سوف يشمل حالةً واحدةً فقط، وهي كون الخلية الذكرية لا تؤخَذ من الرجل، بل من المرأة صاحبة البويضة، فيتلاشي دور الرجل في التناسل عندئذٍ. ويترتّب عليه أيضاً أن يكون الدليل أخصّ من المدّعى، ولا يمكن تحريم الاستنساخ بشكلٍ مطلق.

5ـ ربما يطرح البعض هذا السؤال: هل أنّ الاستنساخ يعتبر إهانةً للشخص المستنسَخ؟ وفي هذه الحالة تدنَّس كرامة الإنسان.

نقول في الجواب: ما هو الفرق بين الإنسان المولود من خلال عملية النكاح والمولود من خلال عملية الاستنساخ، بحيث يؤدّي إلى تدنيس كرامة الإنسان؟!([68]). فهل أنّ معنى ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ هو أنّ الكرامة تكون للإنسان المولود من خلال النطفة فقط؟! من أين يُفهم هذا القيد؟!([69]).

 

    ثاني عشر: الاستنساخ هو عبوديةٌ من نوعٍ جديد

يمكن إيجاد أُناسٍ أذكياء وأقوياء عن طريق الاستنساخ. وهذا يعتبر تغييراً في التوازن البشري الذي أودعه الله تعالى في الإنسان. اختلال هذا التوازن يؤدّي إلى ترجيح بعض الناس على غيرهم. وبعبارة أخرى: إنّ هذا نوعٌ جديد من العبودية والاستعمار([70]).

 

   تحليلٌ ونقد

1ـ هذا الدليل يبتني على تصوّر أنّ بالإمكان استنساخ العشرات، بل المئات، من الأشخاص بطريقة ميكانيكية ميسَّرة، وبمبالغ زهيدة. وهذا غير صحيح([71]).

2ـ لا يمكننا أن نصادر القضية بأكملها من أجل احتمال موردٍ قد يتمّ استغلالها فيه.

3ـ في المسير الطبيعي للحياة البشرية تقع إدارة العالم على عاتق الأذكياء والمبدعين. وقضية أفضلية مجموعة من الأشخاص على الآخرين لا صلة لها بكيفيّة ولادتهم.

 

     ثالث عشر: الاستنساخ وسيلةٌ خاطئة لهدفٍ صحيح

مبنى هذا الدليل أنّ الهدف (الغاية) والوسيلة لا بدّ أن يكونا كلاهما مقبولين؛ لأنّ الغاية لا تبرِّر الوسيلة.

وفي قضية الاستنساخ نحرز صحّة الهدف، وهو التناسل، إلاّ أنّ العملية تتمّ بطريقة غير جنسية، وغير متداولة، أي إنّ الوسيلة خاطئة. وهذا يجعل منه أمراً غير مقبول([72]).

 

    تحليلٌ ونقد

1ـ هذا الإشكال هو نفسه الذي طُرح في قضية تغيير سنّة الله عزّ وجلّ، فقد قال البعض هناك: ولادة الإنسان بطريقة لا تستخدم فيها نطفة الرجل والمرأة يعتبر تغييراً في سنة الله. وقد أجبنا عنه.

2ـ لا يوجد لدينا أيّ دليلٍ على وجوب تقيُّد عملية التناسل بالطريقة الكلاسيكية.

3ـ الإنسان المولود بطريقة الاستنساخ لا يختلف عن الإنسان المولود بالطريقة الكلاسيكية، أو بالتلقيح المختبري، إلاّ في مقطعٍ من سير عملية التوالد. وهو بشكلٍ عامّ مشابهٌ للولادة الطبيعية.

4ـ كون هذه الطريقة جديدة وحديثة لا يصحّح القول بأنّها وسيلة غير صحيحة. فهل أنّ ملاك صحّة الوسيلة وشرعيّتها منوطٌ بكونها متداولة؟!

5ـ لا يتمّ الاستدلال بهذا الدليل إلاّ إذا أحرزنا أنّ طريقة الاستنساخ بحدِّ ذاتها غير مشروعة.

 

 رابع عشر: منافاة الاستنساخ للتنوُّع

خلق الله تعالى الكونَ على أساس قاعدة التنوّع. وعلى هذا الأساس وردت العبارات التي تشير إلى التنوّع بعد خلق الأشياء، والمنّة على الخلق، عدّة مرّات في القرآن الكريم. مثلاً: مسألة اختلاف الألوان هي تعبيرٌ عن التنوّع في الخلقة: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (فاطر: 27 ـ 28).

التنوّع يعني الاختلاف في الأنواع، أي إنّه عبارة عن وجود أشياء مختلفة ومتنوّعة. ولا يعني تكرار نفس الشيء. لذلك نلاحظ أنّ كلّ إنسان يختلف عن باقي البشر. ولكن في الاستنساخ لا يتحقّق هذا التنوّع؛ لأنّه مبتنٍ على تكرار نفس الشخص. وهذا بحدِّ ذاته يؤدّي إلى حصول مشاكل اجتماعية. فكيف يمكن للزوج أن يعرف زوجته؟! وكيف نعرف صفات شخصٍ ما؟! لذلك فإنّ استخدام الاستنساخ في مجال تكاثر البشر غير جائز. والشيخ يوسف القرضاوي من المتمسِّكين بهذا الدليل؛ لإثبات حرمة الاستنساخ([73]).

 

   تحليلٌ ونقد

1ـ يبتني هذا الدليل على المقدّمة التالية: إنّ الاستنساخ يكون منتشراً بشكلٍ كبير، واستخدامه من قِبَل الناس يكون ميسَّراً إلى الحدّ الذي يصبح طريقةً متداولة في العالم، تُرجَّح على طريقة التناسل الطبيعية.

ولكنّ احتمال حدوث هكذا أمرٍ ضعيفٌ جداً؛ لأنّ مسألة الاستنساخ سوف لن تصل إلى هذه المرحلة بسهولة؛ حيث إنّ استخدام هذه التقنية يستلزم جهوداً ومساعي ماديّة ومعنويّة هائلة. وكذلك فإنّه ليس من الممكن أن يرجّح الإنسان طريقة الاستنساخ على التناسل الطبيعي، إذا ما أمكنه القيام به؛ فإنّ الطريقة الطبيعية ليست للتوالد فحسب، بل يتمّ من خلالها إشباع الرغبات الجنسية للزوجين. إضافة إلى ذلك فإنّه في عملية الاستنساخ توجد مشقّة وجهود مضنية ناشئة عن مراجعة المتخصّصين، ودفع مبالغ طائلة، ويتمّ فيها إهدار للوقت بشكلٍ كبير. والأهمّ هو أنّ الغالبية العظمى من الناس؛ ولأسباب كثيرة، لا يمكنهم فعل ذلك([74]).

2ـ هذا الدليل ليس تامّاً؛ حيث يؤخَذ عليه أنّه لا يجيز الاستنساخ إذا كان بشكلٍ غزير. وأمّا إذا تمّ بشكلٍ محدود فهو يجيزه! وعليه لا يمكن له أن يمنع أصل مسألة الاستنساخ.

 

   خامس عشر: منافاة الاستنساخ لسنّة الزواج

يستند هذا الدليل إلى مقدّمتين:

الأولى: خلق الله تعالى الكائنات الحيّة ـ إنساناً أو حيواناً أو نباتاً ـ على شكلِ أزواج: ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً﴾ (النبأ: 8)، ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى﴾ (النجم: 45)، ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الذاريات: 49).

الثانية: الزواج سنّة شرعية وفطرية شرّعها الله للتناسل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً﴾ (الروم: 21).

فتكون النتيجة من هاتين المقدّمتين ما يلي:

1ـ الاستنساخ ينافي مسألة الزواج وقانون الزوجية.

2ـ الاستنساخ يلبّي حاجة أحد الجنسين فقط، والاكتفاء بجنسٍ واحد في التوالد يخالف الفطرة الإلهية.

3ـ على الإنسان بعنوانه خليفة الله في الأرض أن يسعى لتحقيق المودّة والرحمة، ولا يتمّ تحقيق ذلك إلاّ بواسطة الزواج.

4ـ ولادة الإنسان بطريقةٍ تغاير امتزاج نطفتي الرجل والمرأة تعتبر أمراً مخالفاً للطريقة التي عيَّنها الله للبشر.

5ـ هذا العمل يؤدّي إلى اضمحلال الغريزة الجنسية التي أودعها الله في البشر.

فعندما يتمكّن الإنسان من أن يحصل على مولودٍ بدون أن يتزوَّج، أو بدون أن ينكح، فسوف تحدث هذه النتائج في المجتمع، ممّا يؤدّي إلى ضياع السنن الإلهية في المجتمع([75]).

الهدف والدافع الأساس المفروض من الزواج في هذا الدليل يكون محدوداً في التناسل فحسب. فبناءً على هذا الرأي إذا أمكن التناسل بدون الزواج فسوف تتلاشى هذه السنّة. وبعبارة أخرى: إنّ النقطتين الأساسيّتين لهذا الاستدلال هما:

أوّلاً: الهدف الأصلي من الزواج والدافع الأساس له هو الإنجاب.

ثانياً: الاستنساخ البشري يستلزم عدم الزواج، وهذا يعني عدم نيل الرحمة والمودّة التي وضعها الله في الزواج([76]).

 

    تحليلٌ ونقد

1ـ الدافع الأساس من الزواج لا ينحصر في التناسل؛ حيث إنّ إشباع الغرائز الجنسية، والتي عبّر عنها الخواجة نصير الدين الطوسي بـ «امتلاء أوعية المني»، هي أوّل وأهمّ دافع من وراء الزواج. وهذا الدافع القويّ يحمل في طيّاته أيضاً عواطف خاصّة، يتمّ تأمينها في ظلّ الزواج([77]).

2ـ هل أنّ التلقيح المختبري (الاصطناعي)، الذي يتمّ فيه أخذ نطفة الرجل وبويضة المرأة من دون مضاجعة ـ بغضّ النظر عن كونه محرَّماً أو محلَّلاً ـ، والذي هو من طرق التناسل، قد قضى على سنّة الزواج، ويعدّ منافياً للقوانين والسنن الإلهية؟!

3ـ جعل الله الزواج سبباً للرحمة والتكامل بين الرجل والمرأة، ونتيجته تقوية صلة المحبّة بينهما. وهو لا ينافي الطرق الحديثة في التناسل، بل في بعض الأحيان تكون هذه الطرق حافزاً على توثيق العلقة الزوجيّة وترسيخها([78]).

4ـ عندما يتحدّث القرآن الكريم عن الخلقة فإنّه لا يشير إلى قضية الإنجاب والتناسل، بل يشير إلى السكينة التي تطفئ ثورة الحاجة الجنسية، كما قال تعالى في سورة الروم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ (الروم: 21). وكلمة «لِتَسْكُنُوا» هنا تعني حصول الاطمئنان، واللام التي دخلت عليها يمكن اعتبارها لام التعليل. لذا فإنّ وجود كلٍّ من الزوجين يعتبر «سَكَناً» للآخر، وداعياً إلى الاطمئنان وسلوة العيش.

إذاً يكون الدافع الأوّل للزواج هو حصول الاطمئنان والسكينة، وليس الإنجاب([79]).

5ـ الاستنساخ البشري لا يبتني على عدم حاجة أحد الجنسين. فهو منطقياً لا يستلزم جنساً واحداً، ولا ينفي ذلك. يعني إنّه لا يتوجّب أن تؤخذ خلية أنثوية أو ذكرية للقيام بعملية الاستنساخ البشري. فهذا المورد مسكوتٌ عنه من ناحية علمية. وعليه فلا توجد ملازمة منطقية بين الاستنساخ البشري وضياع سنّة الزواج([80]).

6ـ إذا كان الزوجان عاجزين عن الإنجاب، وتحقَّق ذلك لهما عن طريق الاستنساخ، فسوف لا يشملهما هذا الدليل؛ لأنّه حينئذٍ لا يتمّ ضياع سنّة الزواج ووجود العائلة، بل هذا العمل سوف يكون سبباً في المودّة والرحمة بين الزوجين، وفي ترسيخ الأواصر العائلية.

 

      سادس عشر: الاستنساخ يُجهز على الاستقلال الشخصي

فطرة الله في خلقة الإنسان تبتني على التنوّع، بمعنى أنّ لكلّ إنسان شخصية مستقلّة وصفات خاصة لا يتحلّى بها غيره. وعندما يتمّ استنساخ شخصٍ بجميع خصوصيّاته الجينية فسوف يكون هذا العمل نقضاً للسنّة الإلهية في خلقة الإنسان. وإضافة إلى هذا فإنّ الاستنساخ قد يغيِّر صفات وخصوصيّات الإنسان([81]).

 

   تحليلٌ ونقد

1ـ يعتبر هذا الدليل نوعاً ما من آثار عدم التنوّع في العالم. فالاستنساخ يكون دخيلاً في الصفات الظاهرية والجينية فقط، ولكنْ لا دور له في بناء المجتمع وشخصية الفرد. وبعبارة أخرى: إذا كان المراد من هذا الدليل أنّ الأفعال والشخصيّات سوف تكون متّحدة، وأنّ الاستقلال الشخصي سوف يضمحل، فهذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ الإنسان هو الذي يعيِّن شخصيته، ويختار أفعاله.

2ـ إذا كان المقصود من هذا الدليل هو أوجه الشبه الظاهرية، التي تؤدّي إلى زوال الاستقلال الشخصي ـ على فرض قبول هكذا فكرة ـ، فهذه المعضلة موجودة بشكلٍ عمليٍّ في التوائم المتشابهة. فإذا كان الشبه الحاصل من الاستنساخ يصل إلى درجة 97% فإنّ الشبه في التوائم المتشابهة يصل إلى درجة 99%. وهذا شيءٌ متَّفق عليه بين الجميع، وهو كون التشابه في التوائم أكثر من الاستنساخ([82]).

 

   سابع عشر: الإبهام في كيفية الإرث

من الأدلّة التي استند إليها معارضو الاستنساخ أنّه يدمِّر رحاب الأُسرة، ويوجد غموضاً في العلاقة بين أعضائها. ويسري هذا الإبهام إلى الأحكام الفقهية، كالإرث. وعندما لا تُحدّد العلقة بين الأشخاص فإنّ مسائل الإرث ذات الصلة بهم يحدث فيها إبهام أيضاً. مثلاً: إنّ الإنسان الذي استنسخ من خلية الأنثى هل يرِثُ زوجَها؟([83]).

وأمّا عبد الهادي مصباح فإنّه يعترض على الاستنساخ بطرح هذا السؤال: هل أنّ المولود الذي يتعلَّق بأحد الوالدين من الناحية الوراثية بإمكانه أنْ يرث؟

 

    تحليلٌ ونقد

1ـ هذا الإشكال هو أحد فروع الإبهام في العلاقات العائلية للمستنسَخ. وعندما لا يمكن توضيح علاقة هذا الشخص مع الآخرين فإنّ هذا الإشكال يكون وارداً.

2ـ رغم كون الإرث أحد أبواب الفقه المهمّة، ولكنْ عندما تكون علاقة الشخصين واضحة فسوف يرثان؛ وعندما لا تكون هذه العلاقة واضحة بشكلٍ دقيق فلا يرثان، حالهما حال الأشخاص الذين لا يرثون. وعدم الإرث هذا سوف لا يكون وازعاً لمنع الاستنساخ.

3ـ في ما يخصّ إمكانية استحقاق المستنسَخ للإرث أو عدمها علينا أن نحدّد ملاكنا في تعيين العلاقات وماهيّتها. وفي هذا المورد يمكننا تعيين كيفية إرثه بمراجعة القواعد والأدلّة الفقهية. وهذا بحدِّ ذاته يتطلّب تدوين مقالة مستقلة ومفصّلة.

 

    نتيجة البحث

عند التأمّل في أدلّة المعارضين والمؤيِّدين للاستنساخ يمكننا القول:

1ـ لا شكّ في كون الاستنساخ في مجال النباتات والحيوانات جائزاً ومباحاً.

2ـ وفي ما يخصّ استنساخ الأعضاء البشرية فإنّنا لم نعثر على دليلٍ يمنعه.

3ـ وأمّا الاستنساخ البشري فبعد التأمّل في أدلّة المعارضين لم نجد دليلاً قطعيّاً يشير إلى حرمته ومنعه منعاً باتّاً. ومن ناحية أخرى يمكن الاستناد في عدم تحريمه إلى أصالة البراءة، وأصالة الإباحة، وإطلاقات الأدلّة، التي يستعين بها علماء المسلمين في إصدار أحكامهم، ويعلّمونها لطلاّب العلم. ونفس هذه الإطلاقات تحفِّز المسلمين على طلب العلم، والتوسّع فيه، وتعتبره فريضة على كلّ مسلم ومسلمة.

فهذه دلائل تشير إلى جواز وشرعيّة الاستنساخ. وإنّ الأخذ بالشيء يعني الأخذ بلوازمه؛ حيث إنّ الشارع المقدّس إذا اعتبر طلب العلم أمراً مباحاً فعليه أن يحكم؛ بالتبع، بإباحة لوازمه. ومن المتيقَّن أنّ الاستنساخ في كافّة أقسامه يعتبر أنموذجاً للنمو والتطوّر البشري.

نعم، نحن أيضاً نثمِّن مساعي العلماء في هذا المضمار. ونعتقد أنّ هذا السلاح المهم يجب أن يكون بأيدي العقلاء من البشر، حتّى لا يكون كغيره من موارد العلم الحسّاسة وسيلةً للاستغلال السيّء من قِبَل أعداء البشرية.

 

الهوامش

([1]) صارمي، الاستنساخ: 1.

([2]) سالاري، حسن، 36.

([3]) الاستنساخ بين الإسلام والمسيحية، مجموعة مقالات: 423.

([4]) محمد حسين فضل الله وآخرون، الاستنساخ جدل العلم والدين: 120.

([5]) علي محمد يوسف المحمدي، بحوث فقهية في مسائل طبية معاصرة: 269.

([6]) المصدر السابق: 270.

([7]) المصدر السابق: 274.

([8]) محمد مهدي شمس الدين، الاستنساخ بين الإسلام والمسيحية، مجموعة مقالات: 132.

([9]) الاستفتاءات الطبية: 83 ـ 84.

([10]) موقع آية الله نوري الهمداني: www.noorihamadani.com

([11]) أحمد مبلغي، مناقشة فقهية للاستنساخ ـ دراسة معاصرة في الفقه الإسلامي، السنة الثانية عشرة، العدد 46: 137 ـ 138، شتاء سنة 1384هـ.ش.

([12]) محمد حسين فضل الله وآخرون، جدل العلم والدين والأخلاق: 352.

([13]) هذه الفتوى موجودة في هذا الموقع:  www.is\amweb.net\ver2\fatwa

([14]) الاستنساخ بين الإسلام والمسيحية: 305، مركز الدراسات والأبحاث الاسلامية.

([15]) علي محي الدين القره ‌داغي؛ علي محمد يوسف المحمدي، فقه القضايا الطبية المعاصرة: 413.

([16]) محمد حسين فضل الله وآخرون، الاستنساخ جدل العلم والدين، الفصل الرابع: 120.

([17]) مقالة عارف علي عارف في هذا الموقع: www.eiiit.org\article

([18]) عزّ الدين الزنجاني، أسئلة وأجوبة ـ دراسة معاصرة في الفقه الإسلامي، السنة الثانية عشرة، العدد 46: 32، شتاء سنة 1384هـ.ش.

([19]) أحمد مبلغي، بحث فقهي في الاستنساخ العلاجي ـ دراسة معاصرة في الفقه الإسلامي، السنة الثانية عشرة، العدد 46: 143، شتاء سنة 1384هـ.ش.

([20]) المصدر السابق: 145

([21]) محمد مؤمن، الاستنساخ ـ دراسة معاصرة في الفقه الإسلامي، السنة الثانية عشرة، العدد 46: 81، شتاء سنة 1384هـ.ش.

([22]) المصدر السابق: 83.

([23]) المصدر نفسه.

([24])  فتوى سماحته موجودة في هذا الموقع: www.leader.ir

([25]) محمد حسن النجفي، مقالة، دراسة معاصرة في الفقه الإسلامي، السنة الثانية عشرة، العدد 46: 6، شتاء سنة 1384هـ.ش.

([26]) نصر فريد واصل، الاستنساخ بين الإسلام والمسيحية، مجموعة مقالات: 305.

([27]) مقالة عارف علي عارف موجودة في هذا الموقع: www.eiiit.org\article

([28]) علي محمد يوسف المحمدي، بحوث فقهية في مسائل طبية معاصرة: 260.

([29]) كارم السيد غنيم، الاستنساخ والإنجاب بين تجريب العلماء وتشريع السماء: 153.

([30]) محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان 5: 84.

([31]) المصدر السابق: 85.

([32]) محمد رشيد رضا، تفسير المنار 5: 428.

([33]) تفسير الميزان 15: 47.

([34]) المصدر السابق 16: 179.

([35]) الزمخشري، تفسير الكشّاف 3: 479.

([36]) مقالة للسيد محمد حسين فضل الله في هذا الموقع: www.arabic.bayyenat.org

([37]) الاستنساخ والإنجاب بين تجريب العلماء وتشريع السماء: 140.

([38]) نصر فريد واصل، الاستنساخ بين الإسلام والمسيحية، مجموعة مقالات: 206.

([39]) الاستنساخ والإنجاب بين تجريب العلماء وتشريع السماء: 153.

([40]) ماهر أحمد الصوفي، الاستنساخ البشري بين الحقيقة والوهم: 15.

([41]) نور الدين مختار الخادمي، الاستنساخ بدعة العصر: 67.

([42]) المصدر نفسه.

([43]) عبد الرحمن فاضل عبد الواحد، أصول الفقه: 88.

([44]) نور الدين مختار الخادمي، تعليم علم الأصول: 168.

([45]) محمد الموسوي البجنوردي، مصادر التشريع عند الإمامية والسنّة: 39.

([46]) أحمد الجحّي الكردي، بحوث وفتاوى فقهية معاصرة: 369.

([47]) الاستنساخ بدعة العصر: 65.

([48]) فاضل عبد الواحد، أصول الفقه: 106.

([49]) المصدر السابق: 109.

([50]) الاستنساخ بدعة العصر: 66.

([51]) الخادمي، تعليم علم الأصول: 192.

([52]) فاضل عبد الواحد، أصول الفقه: 171.

([53]) الخادمي، تعليم علم الأصول: 263.

([54]) الاستنساخ بدعة العصر: 69.

([55]) الخادمي، تعليم علم الأصول: 421 ـ 424.

([56]) نصر فريد واصل، الاستنساخ بين الإسلام والمسيحية، مجموعة مقالات: 306.

([57])  محمد مؤمن، حوار ـ دراسة معاصرة في الفقه الإسلامي، السنة الثانية عشرة، العدد 46: 14، شتاء سنة 1384هـ.ش.

([58]) مقالة للسيد محمد حسين فضل الله في هذا الموقع:  www.arabic.bayyenat.org

([59]) محمد هادي معرفت، دراسة معاصرة في الفقه الإسلامي، السنة الثانية عشرة، العدد 46: 30، شتاء سنة 1384هـ.ش.

([60]) داوود سلمان السعدي، الاستنساخ بين العلم والفقه: 408.

([61]) جمال نادر، الاستنساخ حقائق علمية وفتاوى شرعية: 15.

([62]) أحمد الجحّي الكردي، بحوث وفتاوى فقهية معاصرة: 368 ـ 369.

([63]) محمد اليزدي، طرق التناسل البشري الحديثة من وجهة نظر الفقه والحقوق: 68.

([64]) ذكر هذا الدليل على حرمة الاستنساخ كلٌّ من: عبد الهادي مصباح، الاستنساخ بين العلم والدين: 49؛ كارم السيد غنيم، الاستنساخ والإنجاب بين تجريب العلماء وتشريع السماء: 153.

([65]) محمد آصف محسني، الفقه والمسائل الطبية: 412.

([66]) استند إلى هذا الدليل: عبد القادر أبو فارس، فتاوى شرعية 2: 742؛ عبد الهادي مصباح، الاستنساخ بين العلم والدين: 55.

([67]) داوود سلمان السعدي، الاستنساخ بين العلم والفقه: 408.

([68]) مقالة للسيد محمد حسين فضل الله موجودة في هذا الموقع: www.arabic.bayyenat.org

([69]) محمد هادي معرفت، حوار ـ دراسة معاصرة في الفقه الإسلامي، السنة الثانية عشرة، العدد 46: 28، شتاء سنة 1384هـ.ش.

([70]) ذكر هذا الدليل على حرمة الاستنساخ عارف علي عارف، المقالة موجودة في هذا الموقع: www.eiiit.org/article

([71]) حسن إسلامي، الاستنساخ البشري من وجهة نظر أهل السنة ـ دراسة معاصرة في الفقه الإسلامي، السنة الثانية عشرة، العدد 45: 125، خريف سنة 1384هـ.ش.

([72]) علي محمد يوسف المحمدي، بحوث فقهية في مسائل طبية معاصرة: 260.

([73]) داوود سليمان السعدي، الاستنساخ بين العلم والفقه: 4 ـ 6؛ وهنالك مقالة للقرضاوي أيضاً في هذا الموقع: www.qaradawi.net

([74]) مقالة للسيد محمد حسين فضل الله موجودة في هذا الموقع: www.arabic.bayyenat.org

([75]) ذكر هذا الدليل على حرمة الاستنساخ كلٌّ من: محمد عبد القادر أبو فارس، فتاوى شرعية: 742؛ عبد الهادي مصباح، الاستنساخ بين العلم والدين: 49؛ كارم السيد غنيم، الاستنساخ والإنجاب بين تجريب العلماء وتشريع السماء: 153؛ مقالة ليوسف القرضاوي موجودة في هذا الموقع: www.qaradawi.net

([76]) حسن إسلامي، الاستنساخ البشري من وجهة نظر أهل السنة ـ دراسة معاصرة في الفقه الإسلامي، السنة الثانية عشرة، العدد 45: 104، خريف سنة 1384هـ.ش.

([77]) المصدر السابق: 106.

([78]) مقالة للسيد محمد حسين فضل الله موجودة في هذا الموقع: www.bayyenat.org

([79]) إسلامي، الاستنساخ البشري من وجهة نظر أهل السنة ـ دراسة معاصرة في الفقه الإسلامي، السنة الثانية عشرة، العدد 45: 107، خريف سنة 1384هـ.ش.

([80]) المصدر السابق: 111.

([81]) عارف علي عارف، مقالة موجودة في هذا الموقع:  www.eiiite.org/article

([82]) عبدالله معز خطاب، الاستنساخ البشري هل هو ضد المشيئة الإلهية: 742.

([83]) نصر فريد واصل، الاستنساخ بين الإسلام والمسيحية، مجموعة مقالات: 306.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً