أحدث المقالات

مقدمة

 

العولمة والتي هي صياغة إيديولوجية للحضارة الغربية من فكر وثقافة واقتصاد وسياسة للسيطرة على العالم أجمع باستخدام الوسائل الإعلامية ، والشركات الرأسمالية الكبرى لتطبيق هذه الحضارة وتعميمها على العالم ، طرحت تساؤلات كبرى في منطقتنا الغالب عليها حال الانفعال لا الفعل ، وفرضت إشكالياتها الخاصة بجغرافيتها وثقافتها وهويتها علينا كإشكاليات بالأصل هي ليست بالأصالة   هواجس إشكالية .

 

وكان من ضمن هذه الإشكاليات الأقليات وهاجس اندماجها وحقوقها رغم أن المنطقة تاريخيا اشتهرت بالتعدد والتعايش الاجتماعي ، لكن غالبا كانت الصراعات السياسية تلبس ثوب الدين لتشرعن سلطتها ، وتخدر المجتمعات لتحقق هدفها في السيطرة والمكنة ، فتنشأ نتيجة الصراعات السياسي الذي استغل المذاهب والأديان في صراعه انقسامات اجتماعية أثرت بشكل عميق ومتراكم على قيم كالتعايش والتسامح والتعدد.

 

وطالما تردد مصطلح الأقليات في الآونة الأخيرة، وهو مصطلحا طارئا على ثقافتنا، بل يحمل في دواخله بذور الأزمة والفتن دوما، فالثقافة الاسلامية التي تتماهى مع فطرة الإنسان لا تعرف أقليات وأكثريات، بل تعرف مواطنا له حقوق وعليه واجبات، ولا يختلف واحد عن مثيله إلا بالكفاءة أو ما وصفه القرآن بالتقوى، هذا فضلا عن قوانين ناظمة لأصحاب الديانات الأخرى تحفظ وجودهم في المجتمع وحقوقهم في الممارسة والمشاركة كأجزاء فاعلة ومؤثرة في المجتمع .

 

والتقوى هنا ليست مصطلحا خاصا بالمؤمنين، بل هو ينساق على الجميع، فمن يلتزم القوانين ويبتعد عن المخالفات يعتبر من المتقين في حق وطنه، وهكذا أي أن للتقوى مصاديق كثيرة، ومراتب تشكيكية من جهة ومختلفة من جهة أخرى.

 

الأقليات مصطلح الضرورة :

 

يعتبر مصطلح الأقليات طارئا وليس أصيلا، بل هو تمييز واضح بين الناس على أساس عرقي أو مذهبي أو ما شابه.

 

أما الأصل الذي يفترض أن نتبناه كواقع وحقيقة فهو المواطنة، التي يعيش في ظلها جميع الناس وفق أسس ومعايير الحق والواجب، حتى لو لم يكونوا من حملة جنسية البلد الذي يقطنون فيه، لأن المعيار هو الحق والواجب والالتزام بآداب وقوانين الدولة التي يحيا في ظلها الجميع.

 

 

فالشيعة ليسوا أقلية في بلد أكثريته سنية، بل هم مواطنون تحكمهم هذه المعايير، والسنة ليسوا أقلية في بلد أكثريته شيعية، والمسيحيون كذلك وهكذا، فالأصل ليس للمذهب ولا للعرق ولا لأي شيء يكون سببا في التفرقة بين الناس، إنما الأصل في التمييز هو الكفاءة والالتزام بالحق والواجب، وعند الله بالتقوى، وهي لا يعلمها إلا هو، وأما التقوى التي تخص المواطنة، فهي ما يحدده مدى التزام المواطن بواجباته، وأدائه لها بكفاءة، ومدى حرصه على قيام دولة القانون والمؤسسات.

 

والترويج لثقافة الأقليات هو بمنزلة من يحب أن تشيع الفاحشة بيننا، لأنها ثقافة لا تحمل إلا الفتنة ، وسياسيا كان واضحا في الصراعات اللجوء للأقليات كمصطلح ضرورة لتحقيق مكاسب وتمكين طرف على طرف آخر بحجة حقوق الأقليات خاصة الدينية منها ، لإحداث ربكة إجتماعية وضرب أسس التعايش فيها لغايات كثيرة أهمها توفير فرص أكبر للهيمة والنفوذ والتقسيم وإشغال المجتمعات بالصراعات عن الاصلاحات والتنمية والنهضة.

 

وما يفترض أن نتبناه وفق ثقافتنا الاسلامية هو مبدأ المواطنة الصالحة في نظام الدولة، ومبدأ التقوى في نظام الله، وهو ما سينعكس تلقائيا على سلوك الأفراد ويرسخ التعايش السلمي في المجتمع، مهما تمايزت عروقه ومشاربه الفكرية ومذاهبه.

 

فترسيخ ثقافة المواطنة هو الذي يحفظ سلامة المجتمع وتعايشه، وهو دور السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في كل دولة إضافة إلى دور المؤسسات الدينية المحوري في التأصيل لفقه المواطنة.

ولكن هل فعلا تؤدي السلطات هذه المهمة، أم أنها تلعب على التمايزات بكل أشكالها؟

 

وهل هناك نظرية إسلامية واضحة حول مشروع الدولة والمواطنة ؟

 

 

الأكثرية والتحول السياسي للأقليات

 

في الديموقراطيات الغربية تطرح فكرة الأقليات على بساط البحث في الممارسات السياسية، وكيفية توصيفها من حيثية الحقوق والواجبات، وحقها في التمثيل البرلماني، وهو ما يدمجها في النسيج الاجتماعي لتكون جزءاً من وطن، وفاعلة في بناء الدولة.

لكن للأقليات منشأ بيئياً وحيثيات ثقافية وما نريد تناوله هو كيفية استغلال موضوع الأقليات سياسياً في التغيير الديموغرافي، من أجل توجيه الديموقراطيات باتجاه تكريس سلطة الاستبداد، وهو ما يجرمه القانون الدولي.

فهناك أقليات كانت تاريخياً أكثرية، إلا أنها تخالف في إجماعها سياسياً السلطة القائمة، وهو ما دفع بهذه السلطات إلى اللجوء إلى أساليب عدة، أعنفها كان الإبادة الجماعية، لتحويل هذه الأكثرية العددية إلى أقلية وكبح جماحها السياسي، وهناك أساليب أخرى. وفي وقتنا الحالي، وفي ظل قيام الدول الحديثة وترسيم حدودها الجغرافية وتخصيص هوية وطنية لكل دولة يحملها أبناؤها المنتمون إليها، أصبحت وسيلة التجنيس السياسي للتغيير الديموغرافي لتحويل الأكثريات المخالفة سياسياً لسلطة الدولة إلى أقليات، هي السمة الغالبة لتوجيه الديموقراطية القائمة باتجاه تكريس سلطة هذه الأنظمة وهي، واقعاً، ما يجرمه القانون الدولي.

 

ورغم أن الغرب وأميركا يمنحان الجنسية وفق معايير محددة تقوم جلها على الكفاءة وحسن السير والسلوك، فإن التجنيس في بعض هذه الدول يقوم على أساس مذهبي أو عرقي أو غيره، ولا يأخذ في الحسبان مسألة الكفاءة وحسن السير والسلوك، وهو ما يدلل على أن همّ هذه الأنظمة شراء الأكثرية العددية التي تكرس سلطتها، وليس همها التنمية وبناء دولة قانون ومؤسسات ونهوض ديموقراطية فعلية، بل هي تمارس ديموقراطية تصنع نتائجها مسبقا من خلال تشكيل شعب يتناسب والمقاس الذي يبقيها في السلطة.

 

لكن انعكاس هذا التجنيس السياسي القائم وفق هذه المعايير سيكون سيئا على تركيبة المجتمع الثقافية والمعرفية، وهو ما سيسبب خللا واضحا في مخرجات هذه الدولة، بل قد يشكل في بعض الدول تهديدا للاستقرار الأمني والمجتمعي، ويتفاعل بطريقة معاكسة تقوض بنيان هذا النظام على المدى البعيد.

 

هكذا ولد فكرياً

 

لكل مفهوم أو مصطلح ظروف ولادة ينشأ فيها ويترعرع، ويكون له مبناه وانعكاسه في عالم السياسة والمجتمع وعوالم أخرى.

والأقليات كذلك، إذ انه كمفهوم سياسي له بيئة ومحيط ومجموعة أحداث تمخض عنها وتم بناؤه في ظلها ليحل أزمة سياسية في تلك الحقبة.

وأهمية معرفة منشأ المفهوم من الناحية الفكرية تكمن في أنها تعطينا الأبعاد والأهداف التي وضع المفهوم لأجلها، والحاضنة الفلسفية التي ترعرع في حضنها كي نستوعب مقاصده وانعكاساته، ومدى ملاءمته لبيئتنا السياسية. فإعلان الأمم المتحدة حول حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية (أو عرقية) ودينية ولغوية، أكد على أهمية الحفاظ على حقوق الأقليات ومساواتهم في الحقوق مع الأغلبية. وهناك تعريف للأقليات يقول: الأقلية هي جماعة من مواطني الدولة تشكل أقلية عددية لا تحظى بصفة السيطرة أو الغلبة في الدولة، ويتميزون عن بقية أعضاء المجتمع عرقياً أو لغوياً أو دينياً، وهم يميلون إلى التضامن معاً، ويحرصون، وقد يكون هذا الحرص كامناً، على البقاء، ويهدفون إلى تحقيق المساواة مع الأغلبية واقعاً وقانوناً.

وللأقليات ظروف جدلية نشأ المصطلح فيها، حيث تذكر لنا دراسة لجاد الكريم الجداعي أن جذور هذه المسألة قديمة في تاريخنا، ترجع إلى ما قبل الفتوحات الإسلامية. فالإسلام الذي تقوم رؤيته على ثلاثة أركان مهمة هي: التوحيد أو الوحدة والتعدد والكونية، أبقى على الديانات والمذاهب التوحيدية، وجعل أتباعها في ذمة المسلمين. وأنتج الانشقاق الإسلامي.. مذاهب إسلامية تعمقت الفروق فيما بينها حتى طالت بعض مسائل العقيدة ذاتها. ودخلت في الإسلام أقوام شتى تعرّب بعضها واحتفظ بعضها الآخر بهويته الإثنية أو اللغوية الثقافية. وضمت الدولة الإسلامية مللاً ونحلاً وديانات ومذاهب وقوميات شتى دخلت جميعها، كلياً أو جزئياً، في النسيج الاجتماعي السياسي والثقافي العربي الإسلامي. وتؤكد آليات تشظي الدولة الإسلامية على أساس أقوامي حيناً ومذهبي حيناً آخر، أو عليهما معاً في معظم الأحيان، على عمق هذه المسألة في بنيتها. ومع سيطرة العثمانيين على مقاليد «الخلافة الإسلامية» أقاموا نظاماً مللياً قوامه المركزية العسكرية واللامركزية الإدارية انطلقت منه عملية تسييس مسألة الأقليات التي أخذت تتعمق طرداً مع تعمق الاختراق الرأسمالي ونشوء نظام «الامتيازات» ونظام «حماية الأقليات»، وصولاً إلى الاستعمار الكولونيالي وسياسته القائمة على مبدأ:«فرّق تسد». ولكن البنى القابلة للتفريق هي وحدها التي يمكن تفريقها.

ولكن كيف تم استغلال «الأقليات» وفي أي بيئة أُقرت حقوقها؟

 

تسييس «حقوق الأقليات»

 

في دراسة لباحث الجباعي حول مسألة الأقليات، يذكر أن أغلب الباحثين الغربيين والعرب يرجعون ازدياد الاهتمام بظاهرة الأقليات إلى مطلع القرن التاسع عشر، حينما تضمنت اتفاقيات فيينا (1814 ــــ 1815) نصوصا تدعو إلى الحرية الدينية والمساواة السياسية. ثم تطور ذلك الاهتمام الى تكثيف نشاط الحركة اليهودية، في الربع الأول من القرن العشرين، لحماية الأقليات عامة واليهودية منها خاصة، ومنحها المساواة في الحقوق المدنية والسياسية في الدول التي كانت تنكر عليها هذه الحقوق. وتزايد هذا الاهتمام بمناداة الحركة الاشتراكية العالمية بحق تقرير المصير عام 1918.

وبعد ذلك أشارت اتفاقيات مؤتمر السلام في فرساي (1919 ــــ 1920)، في إطار عصبة الأمم، إلى الحقوق الثقافية والقومية للأقليات. ثم وضعت الأمم المتحدة إعلان حقوق الإنسان (1948/12/10) الذي منع التمييز على أساس العرق أو الدين أو اللون أو الاتجاه السياسي، وصولا إلى إعلان الأمم المتحدة الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية الصادر في 1999/12/10.

والعودة إلى هذه المعاهدات والمواثيق، تؤكد أن مسألة الأقليات كانت مندرجة دوما في النزاعات المحلية والإقليمية والدولية. سواء في محاولات إذكاء هذه النزاعات أو في محاولات إخمادها. وفي معاهدة سايكس بيكو تم تقسيم المنطقة العربية ورسم حدود جغرافية قلقة لها، تستطيع من خلالها دول الاستعمار استغلال مسألة الأقليات والتركيز على جانب الاختلاف لا التماثل، من أجل إذكاء الصراعات، سواء الداخلية أو الخارجية، مما يسمح لها بالتدخل تحت عنوان حماية حقوق الأقليات لتتمكن من تحقيق أهدافها ومصالحها.

وفي ظل هذه البيئة المأزومة رسمت معالم حقوق الأقليات ضمن ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما يرسخ فكرة تكريس الفرقة، وليس تأصيل الوحدة في المجتمع الواحد، من خلال إبراز معالم الاختلاف بين أطيافه المختلفة رغم ما يستبطنه الاختلاف من تماثل في الذات الإنسانية، وما يلازمه من مبدأ المساواة بين الجميع باختلاف أطيافهم في الحقوق والواجبات. فلا يمكننا أن ننكر أن الأسرة الواحدة يتمايز أفرادها بعضهم عن بعض، لأن اختلاف البشر طبيعة تكوينية لا يمكن نكرانها، إلا أن هذا الاختلاف يوازيه تماثل مبني على أساس وحدة النوع الإنساني. ولكن مسألة الأقليات كي يتم تسييسها واستغلالها في تكريس النظام الرأسمالي من خلال بسط النفوذ والهيمنة الفكرية قبل العسكرية، لابد فيها من إبراز معالم الاختلاف وتثويرها وإذكاء نارها كي تحول محيطها إلى هشيم، لتقدم بذلك كل الذرائع لتدخل الخارج لحماية أقليات الداخل بحجة الحفاظ على حقوقها.

 

ولكن هل يعني ذلك إنكار هذه الحقوق وعدم الاعتراف بها، أم كيف يمكننا التعاطي مع هذه المسألة بتوازن؟

 

المواطنة الحل الأمثل

 

الأقليات من الموضوعات النسبية التي يعتمد تحديدها على جغرافية كل أقلية، بمعنى أنه قد تعتبر جماعة أقلية في حدود جغرافية معينة، إلا أن هذه الجماعة نفسها هي أكثرية في دولة أخرى. وهو ما يشير إلى حتمية الاختلاف بين بني البشر التي تستبطن حتمية التماثل، فلا اختلاف مطلق، ولا تماثل مطلق، وهو ما يترتب عليه بناء منظومة حقوقية تحفظ حقوق الجميع نتيجة التمايزات بينهم، وأهم مبدأ يقوم بذلك هو المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات في دولة القانون والمؤسسات، هذه المساواة تقوم على أساس التماثل بين البشر في الذات الإنسانية، وضرورة حفظ الكرامة الإنسانية، وما يترتب على هذا الحفظ من مجموعة حقوق تشكل سوراً لهذه الكرامة يحميها من الانتهاكات، وإن اختلفوا دينياً أو مذهبياً أو فكرياً أو غير ذلك.

والملاحظ في ظل النظام الرأسمالي العالمي أن التركيز دوماً على الاختلاف وإبرازه كحالة خلافية دافعة للتنازع، حيث يتم إذكاء الفتنة وفقاً لديموغرافية كل دولة على حدة، ففي مصر على سبيل المثال، التمايز قائم على أساس طائفي غالباً بين المسلمين والمسيحيين، وفي الخليج بين السنة والشيعة، وفي المنطقة بين العرب والفرس، وهكذا يتم اختيار الاختلاف الذي يبذر بذور الخلاف ويذكي نار الفتنة تحت شعار فرّق تسد.

وما يذكره لنا التاريخ من تعايش سلمي بين هؤلاء واجتماعهم غالباً على أساس المشتركات لهو دليل على أصالة التعايش بينهم، وأن الخلاف عادة ما تستدعيه عوامل خارجية، سواء كانت تنطلق من داخل الجسد كالمتعصبين والمتشددين، أو التي تنطلق من خارجه كالمتآمرين. وهو ما يتطلب معالجة موضوعية لمسألة الأقليات تحفظ حقوقهم من جهة، وتمنع أي استغلال خارجي لأي خلاف داخلي من خلال منظمات محلية حقوقية كمؤسسات مجتمع مدني لها ارتباط بمؤسسات دولية رقابية لها فاعليتها القانونية وتأثيرها على مستوى القرار وحياديتها، من دون أن يتم استغلال هذه الانتهاكات ضد الدولة المعنية، بحيث يتم الرصد في تقرير من مراقبين محليين محايدين ورفعه إلى تلك المؤسسات الدولية ، شريطة أن تكون مستقلة وغير خاضعة وتابعة سياسيا ، ومن ثم تقديم الحلول للدولة المعنية عبر الراصدين المحليين أنفسهم، من دون أي تدخل خارجي.

وبذلك تصبح مسألة الأقليات مسألة حقوقية إنسانية حقيقية وليست جسراً لعبور المتنفعين الرأسماليين للاستغلال والهيمنة.

 

فالأقليات تم استغلالها في الصراعات السياسية التي ألبست أثوابا مذهبية واستخدمت الأقليات أداة وذريعة يمكن استغلالها في الصراعات لشرعنة التدخلات بحجة حفظ حقوق الأقليات في دول ذات سيادة تامة .

 

ولسد باب الذرائع السياسية في استغلال الأقليات ذريعة في الصراعات السياسية الوجودية ، تكون دولة المواطنة القائمة على أساس الحقوق والواجبات وهن ما يتطلب حث بحثي فقهي في كل المدارس للخروج بنظرية سياسية مؤسسة وفق معطيات الراهن السياسي والاجتماعي والاقتصادي .

 

ولا يمكننا إرجاء الأسباب كلها للعوامل الخارجية ، بل لابد أيضا من تسليط ضوء قوي على العوامل الداخلية والتي من أهمها الاعتراف بأن تراثنا يحتاج إعادة قراءة بطريقة توظيفية لإشكاليات الراهن في سبيل نظم البناء الفقهي الداخلي وفق منهج المقاصد ، وبما يمكننا من نظم نظرية ورؤية للدولة ومقوماتها وأطر تشكيلات المجتمع فيها من حقوق وواجبات وحريات ،وعلاقة الدولة بالمجتمع وواجباتها ووظيفتها وحدود ضبطها للفرد والمجتمع ، والمؤسسات التي ترسي استقرارها بكل مكوناتها .

 

خاصة أن منطقتنا اليوم تعيش صراعات وجودية تستهدف مكوناتها الدينية المختلفة وجغرافيتها وهويتها وحضاراتها ، وهي مرحلة تاريخية مهمة تتطلب من كل المؤسسات والجهود أن تتظافر لتقديم أجوبة كلية على كل الإشكاليات العالقة منها والفاعلة في تكريس المشكلات والانقسامات الاجتماعية .

 

نحو تأصيل لفقه المواطنة

 

لا يمكننا في ظل قيام الدولة الحديثة أن نتكلم عن مفاهيم جديدة على الساحة الفقهية كمفهوم المواطنة ونحن ما زلنا نعيش جدل فقهي  لاستخراج نظرية فقهية جديدة حول مفهوم المواطنة وفق مقومات الدولة الحديثة، وجدل حول معالم الدولة ومقومات نهضتها وآليات الحكم فيها .

 

وطالما أن الفقه يقف إلى الآن ببعض أحكامه موقف النقيض من فكرة المواطنة ستبقى الأقليات تعاني من الاضطهاد في دول الأكثريات أو تستغل كذريعة في تفتيت الدول وتنفيذ المشاريع السياسية الساعية للهيمنة والسيطرة على مواقع النفوذ الاقتصادي والحضاري .

 

ومنها الأقليات الشيعية التي أيضا تعيش حالة التناقض الذاتي بين سلطة الفقيه وحدودها وسلطة الدولة وحدودها سواء في الوعي أو اللاوعي,وهو ما سينعكس على ممارساته وسلوكه العملي داخل وطنه ويبقى كفرد شيعي في قفص الاتهام بالانتماء إلى الخارج والتشكيك في مواطنته والذي يؤدي إلى التشكيك في الانتماء.علما أن الفقه جاء لهيمن ويسيطر على سلوكيات الانسان المكلف لتكون في الحياة ضمن دائرة الرؤية الالهية داخلة فيها لا خارجة عنها لتستقيم حياته الدنيوية وتستقيم معها الحياة الاخروية أي أن الدين جاء ليخدم الانسان ويقوم حياته وفق الرؤية الالهية.

 

لعل من الاشكاليات المهمة التي تقف حجر عثرة في التكريس الفقهي لمفهوم المواطنة هو تعارضة الظاهر مع المفهوم القرآني والحديثي “الأمة” وكيفية الخروج بتوليفة فقهية حقيقية بين مفهوم المواطنة ومفهوم الأمة.

 

ويمكن بحث الموضوع من باب نظرية الشهيد محمد باقر الصدر والتي انتقل فيها من فقه الاحكام إلى فقه النظريات أو مايمكن تجاوزا تسميته الفقه الموضوعي.

 

بحيث نعرض مفهوم المواطنة بشكله الحداثاوي ضمن صياغة الدولة الحديثة على القرآن والأحاديث المعتبرة لكي نعرف رأي الشريعة في هذا الموضوع خاصة أن الخطوط العامة والكلية للدولة كمفاهيم وصياغات أولية مارسها الرسول صلى الله عليه وآله في بناء الدولة الاسلامية كحاكم ومارسها أمير المؤمنين عليه السلام حينما تولى مسؤولية الخلافة,وحتى باقي الأئمة رسموا لأصحابهم من خلال مجموعة من التساؤلات والاستفسارات التي طرحت عليهم في ما يخص التعامل مع الدولة وكيفية ممارسة الحياة العامة للفرد الشيعي في ظل الدولة القائمة حيث لم يعترضوا على فكرة قيام الدولة والعيش في ظلها كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات بل كان الامام الصادق عليه السلام واضحا مع احد أصحابه الذي قال له “كنت في عهد الامويين أسن السيوف لحربكم واليوم تبت وها هم بنو العباس يطلبون مني سن السيوف لحرب الروم “وكان رد الامام الصادق أن يسن السيوف ضد الروم ولا يفعل ذلك ضدهم.وهو تمييز واضح لأسس المواطنة الصالحة القائمة على نصرة الحق لا الرجال.

 

ولعل من أبرز التساؤلات التي يمكن طرحها لصياغة رؤية واضحة فقهيا حول موضوع المواطنة هي:

 

1.كيف يمكن أن نكرس مفهوم المواطنة الصالحة دون أن يتعارض مع مفهوم الأمة؟وهل يمكن أن نشكل رؤية تكون المواطنة مرتبطة بمفهوم الأمة ارتباط الخصوص والعموم بحيث تشكل المواطنة الدائرة الاصغر التي هي جزء من الدائرة الاكبر أي الأمة ,وتترتب أولويات وأهداف المواطنة لتصب في طول أولويات وأهداف الأمة في ظل وجود حكومات مستبدة وتربطها مصالح مع أعداء للأمة الاسلامية وهو ما يطرح استفهاما حول مدى قبول هذه الحكومات بمشروع مواطني بهذه الطريقة؟

 

2.كيف يمكن أن نحدد صلاحيات المرجع وحدود علاقته بالمقلدين من مختلف البلاد الاسلامية والغير اسلامية حتى يستطيع الفرد الشيعي أن يميز بين حدود سلطة المرجع وسلطة الدولة؟

 

3.هل نستطيع أن ننظر لفقه مناطقي يأخذ في الحسبان ظروف وأعراف كل دولة على حدة بحيث يقوم الفقيه برسم الحدود العامة والكلية لكل منطقة على حدة من خلال اتصاله بعلماء ومثقفي ومفكري كل بلد ويترك لهم تحديد المصاديق وإدارة الأمور لتخف سلطته على الفرد من جهة وتنمي الحس المواطني من جهة أخرى ويقل بذلك التناقد الذاتي الذي يعيشه الفرد الشيعي بين سلطة الفقيه وسلطة الدولة.

 

4.إلى أي مدى يمكن ان نستفيد من إيجابيات التجربة المسيحية في هذا الصدد؟

 

هي تساؤلات تطرح على طاولة البحث علها تشكل مفتاحا أوليا للنهوض بنظرية قادرة على طرح موضوع المواطنة بشكل عصري وضمن الثوابت الدينية.

 

 

وهنا قد يطرح تساؤلا مهما فيما يتعلق بالأقليات ومنها الأقليات الدينية كونها الأكثر استهدافا والأكثر استغلالا في الصراعات السياسية :

 

  • ما هي العلاقة بين هوية هذه الأقليات وانتمائها مع موضوع المواطنة ؟
  • وكيف يمكن وضع بنية متكاملة ومتناسقة بين الهوية والانتماء والمواطنة ؟

 

الهوية والانتماء والمواطنة

 

 

كمدخلية مهمة أجدني مضطرة لكشف اللثام عن غموض المصطلحات, والوقوف على تعريفاتها ومن ثم الولوج تدريجيا لبناء الفكرة.

 

فالهوية لها تعريفات عديدة ,فهي تعني جوهر الشيئ وحقيقته ، ويعرفها الجرجاني في كتابه التعريفات: هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب[1]

 

فهوية الانسان ..أو الثقافة..أو الحضارة..هي جوهرها وحقيقتها.ولما كان في كل شيء من الأشياء – إنسانا أو ثقافة أو حضارة – الثوابت والمتغيرات,فإن هوية الشيء هي ثوابته التي تتجدد لا تتغير,تنجلي وتفصح عن ذاتها دون أن تخلي مكانا لنقيضها,طالما بقيت الذات على قيد الحياة.[2]

 

والهوية دائما مجموع ثلاثة عناصر:العقيدة التي توفر رؤية للوجود,واللسان الذي يجري التعبير به,والتراث الثقافي الطويل المدى[3].

 

أما الانتماء فلقد وضح ” اريك فروم ” الحاجة الى الانتماء كأول وأهم الحاجات الى الارتباط بالجذور ، والحاجة الى الهوية والى أطار توجيهى كى تكتمل الحاجات الإنسانية الموضوعية التى أصبحت جزء من الطبيعة الإنسانية خلال عمليات التطور والارتقاء ، والتى يحاول كل إنسان فيها السعى نحو الكمال وتحقيق الذات .

ويمكن تعريف الانتماء بأنه العلاقة الايجابية والحياتية التى تؤدى الى التحقق المتبادل تنتفى منها المنفعة بمفهوم الربح والخسارة ، وترتقى الى العطاء بلا حدود الذى يصل الى حد التضحية ، ويتجلى الانتماء بصورة عالية عندما يتعرض الوطن لأى اعتداء خارجى ، والانتماء قد يكون طبيعى فطرى خاصة عند الإنسان العادى بفعل الوجود الانسانى واستمرار البقاء فى ظل الوطن وضمن النظام الاجتماعى ، وقد يكون انتماء عاطفيا تجاه موقف أو ظروف طارئة ، ولكن أرقى انتماء هو الانتماء المنطقى الناتج عن المعرفة وإعمال العقل ، ونسبة المنتمون منطقيا قليلة ولكنها دائما فاعلة ومؤثرة فى حركة المجتمعات “[4].

 

أما المواطنة نسبة إلى الوطن وهو مولد الإنسان والبلد الذي هو فيه، ويتسع معنى المواطنة ليتمثل التعلق بالبلد والانتماء إلى ثراته التاريخي ولغته وعاداته.

 

يشكل مفهوم المواطنة في سياق حركة المجتمع وتحولاته، وفي صلب هذه الحركة تنسج العلاقات وتتبادل المنافع وتخلق الحاجات وتبرز الحقوق وتتجلى الواجبات والمسؤوليات، ومن تفعل كل هده العناصر يتولد موروث مشترك من المبادئ والقيم والعادات والسلوكات، يسهم في تشكيل شخصية المواطن ويمنحها خصائص تميزها عن غيرها. وبهذا يصبح الموروث المشترك حماية وأمانا للوطن والمواطن.

 

فالمواطنة حقوق وواجبات وهي أداة لبناء مواطن قادر على العيش بسلام وتسامح مع غيره على أساس المساواة وتكافؤ الفرص والعدل، قصد المساهمة في بناء وتنمية الوطن والحفاظ على العيش المشترك فيه. [5]

 

وإذا ما أردنا الخروج برؤية قد تشكل منطلقا بعد الاطلالة المفاهيمية لكل من الهوية والانتماء والمواطنة ,نستطيع القول أن الهوية هي المحدد الأساس في قضية الانتماء وتتسع وتضيق هذه الهوية حسب استعمالاتها وحسب ما يراد منها.

 

ولكن سأسلط الضوء على فكرة قد تشكل منطلقا نحو بحثها بشكل أعمق وأكمل لتأصيل فقهي لمبدأ المواطنة,إذ أننا لا ننكر وجود تعارض بين المواطنة ضمن معطيات الدولة الحديثة والرأي الفقهي بخصوصها, إذ يقف الفقه غالبا موقف النقيض لفكرة المواطنة لأنها تتعارض مع مفهوم الأمة الذي جاء به القرآن,خاصة في ظل غياب لكثير من التشريعات الاسلامية في أنظمة الحكم في الدول الاسلامية وهيمنة عقليات خارجية غربية ذات نفوذ عالمي يصوغ السياسات العالمية وفق مصلحته وتعميق نفوذه وهيمنته على مسارات هذه الانظمة,هذه الظروف والحيثيات تحول دون الولوج في مسألة المواطنة وإذ أننا لا ننكر وجود فقهاء طرقوا هذا الباب وبدؤوا مسيرة البحث الفقهي في نظرية المواطنة ضمن أطر الدولة الحديثة.

 

فالهوية تحدد ثقافة وعادات وتقاليد وقيم وعقيدة الانسان وتصوغها في أطر تكرس من انتمائه لهذه الثقافة والقيم والعقيدة على المستوى المعنوي وتضيف له انتماء جغرافي مكاني تحده الحدود الجغرافية ,وزماني تحده الحدود الاجتماعية بقيمها وعاداتها وتقاليدها وتفرض عليه صبغات معينة تصبغ بها هويته.

 

فتؤسس الهوية لصيغة انتمائية للوطن يكون ترتيب الأولويات فيها في طول أولويات الأمة ومداره الحق لا الرجال والحدود.هذا بالطبع ما يجب أن تقوم به الهوية الجامعة للابعاد الثقافية والقيمية والعقدية وغيرها.

 

فهي من جهة تشكل شخصية الفرد والمجتمع وتعزز من انتمائه للزمان والمكان الذي تحده حدود جغرافية ترسم له وطنا, ومن جهة أخرى ترتب له أولوياته لتكون في طول أولويات الأمة.

 

بالطبع قد يكون كلاما تنظيريا ويحتاج إلى استقراء علمي موضوعي يوضح فيه هذه الفرضيات المطروحة,ولكن نحتاج دوما للتنظير لننطلق منه إلى الاثبات أو النفي وهي خطوة في طريق الألف ميل عل ذلك يكون حافزا للبحث.

وعل أهم ما يمكن أن يقف حجر عثرة في ذلك هو الجدلية التي يعيشها الفرد بين حدود سلطة الدين وحدود سلطة الوطن الذي يديره نظام وقانون قد يكون في كثير من أطره بعيدا عن روح التشريع الاسلامي , وأيضا قد يكون هذا النظام وهذه القوانين تتعارض مع أولويات الأمة التي كرسها القرآن كمفهوم.

لذلك نحن نحتاج أن نفكك هذه الجدلية ونضع حدودا لا تتداخل ونرسم جغرافيتها وفق أطر علمية تعمق الرؤية وتعيد قراءة النصوص الدينية من جهة وفق رؤية عصرية لا تضر بالثوابت , ومن جهة أخرى تحاول أن تضع أطرا ونظما توجه فيها الاولويات لتكون قدر الامكان في طول اولويات الامة لا في عرضها.

 

الغرب ومبدأ المواطنة :

رغم أن الغرب الذي طرح فكرة المواطنة كحل للتباينات الانتمائية والهويانية في مجتمعاته,وكخطوة عملية للتعايش بين هذه الاطياف المتباينة,إلا أن واقع الامر مازال يحاكي تناقضا تعيشه تلك المجتمعات,بسبب الهوية الأم التي صاغت شخصية الانسان واضطرته الظروف للرحيل عن أرضه ليحط رحاله في أرض أخرى أخذ جنسيتها لأنه مطابق للشروط إلا أنه حافظ على هويته التي كرست الانتماء للاصل.

وقد برز هذا الصراع على السطح في قضية الجهاديين الغربيين من المسلمين ، خاصة أولئك الذين ولدوا في الغرب وترعرعوا في نظامه القانوني إلا أنهم مسلمون في هويتهم الدينية وغربيون في انتمائهم الوطني ، ومع ذلك طغت الهوية الاسلامية وفق فهم متطرف لها على هوية وطنهم ، وهو ما خلق إشكالية جديدة لدى الحكومات الغربية وطرح تساؤلات محورية حول المسلمين في الغرب وخطورة وجودهم على الدول الغربية واستقرار المجتمعات فيها .

فبالنسبة لموضوع الجهاديين الغربيين  المسألة طرفانية :

الطرف الأول ( الجهاديون ) : بنية التشريع النصية المعطلة  للعقل التي تعتمد النص كما هو في فهم الأحكام الشرعية ، وتقتفي أثر السلف دون الأخذ في الحسبان لأثر الزمان والمكان ومحاكاة الواقعز.

الطرف الثاني : الغرب والاسلاموفوبيا وأزمة الهوية والذات .

الأول : تبنى وتربى في بيئة فكرية تؤمن بالتعبد بالنص وتعطيل العقل ( غالبا طغت مدرسة بن حنبل وفرعها ابن تيمية)

التعبد بالنص أي الأخذ بظاهر ألفاظ النص سواء الحديثي أو القرآني دون اعتبارات عقلية وقراءة تاريخية للنص.

الثاني ( الغرب ):

أولا :لم يفرق مبكرا بين النظرية الاسلامية والممارسة وبين الخلفيات العقدية والفكرية المختلفة بين المدارس الاسلامية.

ثانيا : دعم الاسلاموفوبيا من خلفية سياسية على حساب المعرفية فكرست لدى المهاجر المسلم حالة العودة الى الذات والانكفاء عليها ، بل والتطرف في ذلك كثمرة واقعية لصراع أزمة الهوية التي عاشها المهاجر المسلم ومع تنامي الشعور بالظلم والتمييز يتنامى الشعور بالانتقام .

هذا فضلا عن الأحكام الشرعية المتطرفة التي تعتبر هذه الدول دول كافرة ومن فيها كفرة ، وهو ما يساعد في لاوعي هؤلاء على نشوء بذور التطرف من جهة ، والرفض الداخلي في الاندماج بتلك المجتمعات من جهة أخرى ، مما يجعله مهيأ للانفصال والانقضاض عند أول فرصة يحسبها هو حقيقية .

واستطاع الغرب توظيف هذه الفئة عند حاجته السياسية ليدعم موقفه الاستعماري من جهة ،ويزيد من حركة الاسلاموفوبيا واقعيا من خلال رصد تجربتها على الأرض عبر هذه الفئة من المجاهدين الغربيين ليثبت أن الأصل لا يغلب محاولات الثقافة بعد الهجرة .

فاستغلال الغرب لهذه النماذج المتطرفة وغضه البصر عن هجرتها نحو المناطق المشتعلة لأنه يحتاجها كوقود لمعاركه التي يخوضها للهيمنة والتكسب ، خلق ثغرة كبيرة في المجتمعات الغربية بينها وبين المسلمين المتواجدين في تلك المجتمعات كأحد مكونات المجتمع ومواطني الدولة .

وهي ثغرة ثقة تمس الاستقرار الاجتماعي لجنبتها الأمنية .

وهو ما يظهر أحد أهم وأبرز مواطن الخلل عند الطرفين :

١- الجهاديون وتراثهم الذي اعتمدوه كدين يدان به يكفر المجتمعات المخالفة وبالتالي يبيح دمها.

٢- الغربيون الذين استغلوا هذه الفئات وتركوا لها الحرية تحت رقابتهم للذهاب والقتال في مواقع اشتباكهم ليحققوا بذلك مصالحهم وخططهم في الهيمنة وفرض مشاريعهم التقسيمية على المنطقة .

هذا الاستغلال يأتي ضمن السياقات المعرفية والفلسفية التي يعتمدها الغرب ، حيث من أهم نظرياته الأخلاقية التي تسير نظامه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي هو نظرية المنفعة الأخلاقية التي لا تعتمد قيما إنسانية في نسج العلاقات الإنسانية ، بل تستخدم الإنسان كوسيلة في مشاريعها .

هذه النظرية الأخلاقية تضرب منظومة القيم والمعايير وبالتالي تخلق إشكاليات مستمرة في المجتمع والجهاديون الغربيون أحد تجليات السلوك المنفعي في الغرب.

 

العالم الإسلامي ومبدأ المواطنة:

ولكننا في العالم الاسلامي قد لا نواجه هذه الصعوبات التي واجهها الغرب مع الانتماءات المختلفة ، لوجود هوية جامعة ثقافيا وجغرافيا ، ذات قيم إنسانية تجتمع حولها الفطرة الانسانية والإنسان بما هو إنسان  لا كوسيلة وإنما كغاية ، وتكرس أولوياتها على أساس هذه القيم والمبادئ رغم وجود تفاوت في بعض المناحي الحياتية التي ينظمها الفقه وفق مدارس مختلفة, إلا أنه أيضا تفاوتا لا يضر بالقيم والأطر العامة الكلية وإن خلق تباينا في الممارسات التي تنعكس على واقع المجتمع, وهو ما وضع الاسلام له حلا بالتعايش مع هذه التباينات طالما هي لا تضر بالأمن والاستقرار الاجتماعي ولا تقوض نظام الدولة وأسسها التي يفترض أن تكون مبنية على أساس التوحيد الالهي الجامع لكافة الاديان السماوية.

ففي صحيفة المدينة كفل رسول الله صلى الله عليه وآله حق المشرك- هذا فضلا عن أصحاب الديانات السماوية – في حرية اعتقاده على أن لا يمارس هذا الاعتقاد في المجتمع بشكل علني ولا يدعو إليه وأن يكون مواطنا داخلا في نسيج المجتمع المسلم له حقوق وعليه واجبات,وهو ما يوحي بضرورة الالتزام بقانون الدولة من جهة المواطن والتزام الدولة بحفظ حرية المواطن طالما هي لا تضر بأمنها واستقرارها وتقوض مبناها,ومراعاتها لحقوق جميع مواطنيها دون تمييز عرقي أو ديني أو غيره.

لذلك تأسيس ثقافة المواطنة لا اعتقده يحتاج جهد كبير إلا في ناحية تضافر الجهود كافة من الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والنخب والبرلمان من أجل صياغة لأسس المواطنة الصالحة التي ترسخ العدالة والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتطبق القانون على الجميع, وهي أسس كلية ومقاصد كبرى للشريعة الاسلامية لا تتعارض معها بل تلتقي وتصب في طول مبادئها.

أما أن يدعم دستور الدولة المواطنة ويرسخ مواد تحفظ الحريات والحقوق والمساواة والعدالة وتضعها في تشريعات دستورية إلا أنها على مستوى الممارسة بعيدة كل البعد عن ذلك بل تكرس للتمييز على أساس القبيلة والمذهب والفئة وغيرها, فإن ذلك يولد رد فعل من قبل الذين مورس عليهم التمييز ويجعلهم ينكفؤون على ذواتهم ويلجؤون إلى طائفتهم أو قبيلتهم لأخذ حقوقهم واستراجاع ما سلب منهم رغم أن الدستور كفله لهم.

وهو ما يؤسس لدولة يحكمها العرقنة وليس دولة مؤسسات وقانون,لذلك تقع على الدولة المسؤولية الكبرى في ترسيخ مفهوم المواطنة من خلال المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتطبيق القانون على الجميع,ومن قبل البرلمان في التشريعات التي يتقدم بها لتكون حافظة لحقوق جميع المواطنين ومكرسة لواجباتهم دون تمييز,

حتى لا يكون هناك فجوة بين التنظير والتطبيق تعمل على خلق ثغرات في جسد المجتمع تضغط فيما بعد الأقليات المضطهدة إما للجوء إلى الخارج أو للتواطيء معه من أجل تحسين ظروفها المعيشية .

ولبناء جسور ثقة بين السلطات والشعب بكافة أطيافه ، ولإزالة الفروقات بين أطياف المجتمع خاصة تلك الدينية التي يمكن استغلالها كثوب تلبسه الصراعات السياسية في تفتيت المجتمعات.

أما مؤسسات المجتمع المدني فيأتي دورها في ترشيد الوعي الجماهيري والضغط باتجاه تكريس ثقافة المواطنة وتفعيل الديموقراطية ومواد الدستور بما يشكل وسيلة ضغط شعبية بل وسيلة رقابة شعبية تمنع السلطات من أن تمارس نفوذها وترجح مصلحتها على مصلحة الوطن والمواطنين .

وخلاصة الكلام أننا نحتاج إلى تأصيل فقهي لموضوعة المواطنة وهو ما يتطلب من المتخصصين في هذا الشأن إعادة قراءة النصوص بصيغ تتناسب والزمان والمكان,ونحتاج إلى إعادة بناء الدولة على أسس مؤسساتية وقانونية تمارس ما وضعه الدستور ولا يبقى فقط حبرا على ورق,وهو ما يتطلب تضافر جهود السلطة التشريعية والتنفيذية ومؤسسات المجتمع المدني في ترسيخ مبدأ المواطنة من خلال تطبيق ما أقرته الدساتير سواء الشرعية أو المدنبة خاصة فيما يتعلق بالحريات والحقوق والواجبات والعدالة والمساواة.

 

الهوامش:

[1] التعريفات –الشريف الجرجاني-,دار عالم الكتب-بيروت الطبعة الاولى-1407 ه- 1987م ص 314

[2] مخاطر العولمة على الهوية الثقافية.د.محمد عمارة-دار نهضة مصر للطباعة والنشر –الطبعة الأولى – فبرلير 1999م

[3] العولمة وعالم بلا هوية – محمود سمير المنير-دار الكلمة للنشر والتوزيع,المنصورة – مصر- الطبعة الأولى-1421 – 2000 –ص 146

[4] فتحي سيد فرج-الحوار المتمدن-المجتمع المدني – العدد 1588 – 2006 / 6 / 21

[5] محمد شخمان-المواطنة-جمعية المشعل للثقافة والفن

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً