أحدث المقالات

دراسةٌ مقارنة بين المنهجيتين التقليدية والحديثة

د. السيدصادق حقيقت(*)

مقدّمة ــــــ

الحضارة هي نظامٌ اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وإنما تتألّف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق([1]). قال ابن خلدون في مقدمته: «والحضارة ـ كما علمتَ ـ هي التفنُّن في الترف، واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنِّق من أصنافه وسائر فنونه، من الصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل»([2]).  وهو يرى الارتباط بين الحضارة وعلم العمران: «الحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل»([3]).

على غرار جميع الحضارات المرتبطة ببعضها فقد حصل بين الحضارتين الهخامنشية (الأخمينية)([4]) والفينيقية تبادلٌ ثقافي كبير.

قد يُعتبر الهخامنشيون من الفرس الآريين، وقد أسّسوا دولتهم الصغيرة في القرن التاسع قبل الميلاد في شرقي مدينة تستر (شوشتر، في جنوبي إيران، في محافظة خوزستان)، وكانوا أوّلاً يرزحون تحت الحكم المادي، وكان جدهم يسمّى بـ (الهخامنش) الذي تغلب على جميع القبائل الفارسية.

أما الفينيقيون فقد انحدروا من السامية، وقد هاجروا من الجزيرة العربية، حوالي ألفين وخمسمائة قبل الميلاد، إلى ما بين بحر المغرب وجبل لبنان. وهم اشتهروا باللقب الذي أطلقه الإغريق عليهم، ومعناه «شعاع الشمس الأحمر»، رغم أنّهم كانوا يفضلون التسمية بـ (الكنعانيين).

ما افترضته هذه المقالة هو وجود التبادل الحضاري بين هاتين الحضارتين. والسؤال الذي تحاول هذه المقالة الإجابة عنه هو: هل تؤثِّر الخلافات الموجودة بين المنهجية التقليدية والمنهجية الحديثة في دراسة الحضارات في نوعية النظر إلى موضوع تبادل الحضارات؟

المنهجية التقليدية تعتبر الحضارات منفصلة عن بعضها، إلاّ أن بينها تعاطياً وتعاضداً.

في حين أن المنهجية الحديثة، التي منها الهرمنوطيقا الوجودية، تعلّق كيان أيّ كائن مدرك على نوعيّة فهم الجانب الآخر.

لا شَكَّ في أن هانس غادامر ـ مؤلّف كتاب الحقيقة والمنهج([5])، وتلميذ مارتين هيدغر ـ من كبار فلاسفة القرن العشرين، وهو كبير مدرسة الهرمنوطيقا الوجودية، ومن الأخصائيين في حقل المنهجيات. وقدضمت الهرمنوطيقا أو علم التفسير مفكِّرين أفذاذاً، مثل: شلايرماخر، وديلتاي، إلاّ أن المهمّ والملحوظ في الهرمنوطيقا لدى غادامر وأستاذه مارتين هيدغر هو اتجاههما الوجودي. وبعبارة أخرى: إنهما يتحدثان عن نموذج للفهم، الذي يحاول أن يحدِّد كيان الإنسان؛ إذ إن كياننا وفق رؤيتهما قد أُنيط بعملية الفهم التي نؤدّيها نحن.

الحضارة الهخامنشية ــــــ

تأسّست الدولة الهخامنشية في سنة (550ق.م) بيد الفرس، الذين سيطروا على الدولة العيلامية، التي كانت قد أسقطتها حكومة بابل، فسكنت مجموعة من القبائل الهندية الأوروبية، التي كانت قد هاجرت إلى الجنوب في أوائل الألفية الثانية قبل الميلاد، في المناطق الإيرانية الشمالية (قرب نهري سيحون وجيحون)، واستطاعت أن تسيطر على جميع مناطق الدولة العيلامية في مدّةٍ زمينة قصيرة؛ بسبب استخدامها الحصان في الغابات وسيلة للتنقُّل، ووصلوا إلى الخليج الفارسي وبحر عمان، وسيطروا على الهند كذلك. واشتهرت هذه الجماعة التي هاجرت من الهند وأوروبا نحو الجنوب وإيران بـ (القبائل الهندو أوروبية)، وسمّوا أنفسهم بـ (الإريائيين)، وهي تعني الأُصَلاء والنجباء والشرفاء. كان الإريائيون يشتغلون في تربية المواشي والرَّعْي، ولذلك كانوا فرساناً ماهرين، ومحاربين أقوياء، وكانوا يطلقون على عدوّهم لقب (ديف)، وهي تعني الغول، أو الشيطان.

استطاع الملك جمشيد أن يهزم قبيلة (ديف)، إحدى القبائل المهاجرة، ويقيم حفل (النوروز)، الذي بقي طبقاً للروايات الإيرانية والهندية القديمة سائداً منذ زمن الملك جمشيد إلى اليوم([6]).

التوحيد بين الماديين والبارسيين، الذي تمّ بواسطة جهود سايروس (كوروش)(550ق.م) سبَّب في مضاعفة قوّة الإمبراطورية.

يعتبر أورمزدا، والعدالة، وأخيراً الصدق، العناصر الرئيسة للاتجاه الديني والسياسي لداريوس(541 ـ 486ق.م). وهي موضع اهتمام في التعاليم الزرادشتية، وهي ظاهرةٌ في النقوش الحجرية في بيستون (و هي أهم ما تبقّى من تراث الداريوسية).

وفي نفس الوقت نحن متأكِّدون من أن داريوس لم يكن من أتباع النبيّ زرادشت([7]).

والذي يلوح من النقوش الحجرية في بيستون ثلاثة أشياء: الأوّل: إن داريوس كان يؤمن بوجود علاقة وطيدة في الواقع السياسي بين الأكذوبة والبيانات، ولا سيَّما التي تعنى بالخطاب السياسي؛ والثاني: إن الكذب السياسي قد لعب دوراً بارزاً في الاضطرابات السياسية، ممّا أدّى إلى الانتفاضة والثورة والصراع؛ والثالث: إننا مزوّدون بقوّة تمييز الكذب والكاذبين([8]).

وقد حاول داريوس أن يدوِّن نظاماً قانونياً عادلاً لم يُسبق بمثله. وكما عبَّر أحد الباحثين: إن داريوس كان يعتبر الحقّ والعدل من ركائز المجتمع المدني، وأن من مسؤوليات الملوك القضاء بالعدل في شرائح المجتمع الإنساني، وكان يرى أن العدالة يجب أن تعمّ الأقوياء والضعفاء، والأحرار والعبيد، معاً.

وبما أن قوله كان يعدّ القانون الأسمى في البلاد فإنه كان يبذل منتهى جهوده لكي يقضي بين الناس بعدالةٍ وأمانة([9]).

كان داريوس يرى أن الذي يريد أن يقضي بين الناس بعدالةٍ عليه أن يراعي الأسس السائدة في الكون في مستويات ثلاثة: السياسة (أريكه)، الديانة (درئوجنه) والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية (زوركره).

ولكلّ هذه المصطلاحات الثلاثة جذور زرادشتية. والمهمّ هو أن المفهوم من القانون لدى داريوس كان ذا طابع ديني([10]). وقد كان هو يهتمّ بالتعايش السلمي بين الديانة والسياسة.

وانطلاقاً من المرسوم الداريوسي فإن تجميع القوانين السابقة كانت تشمل القوانين المعتمدة في دور العبادة لدى مختلف الديانات، ولم يكن مقتصراً على المراسيم الملكية.

 وقد حصلت الإمبراطورية الإيرانية في العهد الهخامنشي على أسطولٍ بحري مؤثِّر بواسطة رعاياها الفينيقيين والإغريق. وقد كانت هذه الأساطيل مركبة من السفن الحربية والسفن الطويلة لتحميل الحصان والفرسان، والسفن الصغيرة لتحميل الأطعمة والأشربة.

كانت الدولة الهخامنشية وريثة للحضارات المتقدّمة عليها، بما لها من المكتسبات العلمية والمعرفية باللغات الآكدية والسومرية والعيلامية والآرامية. إن المنجمين وعلماء الحساب البابليين كانوا مشهورين في عصرهم، وكانوا يعلمونهم النجوم وعلم الحساب، إلى جانب السحر والطلسمات والشعوذة. وكان الكهنة مسيطرين على حقل التعليم([11]). وبصورةٍ عامة كانوا أقوياء في زمن تسلُّم داريوس سدة الإمبراطورية.

إن الجانب المهمّ في حياة سايروس يعود إلى تحرير أسرى اليهود في بابل. وقد مدحته أسفار العهد العتيق. إنّ أسر اليهود من قبل نبوكدنصر يعتبر من الجرائم البشرية البشعة. وقد اعتبر الكتاب المقدّس سايروس مختار يهوه، ومخلص اليهود من الأسر.

هذا كتاب الأشعياء يحدِّثنا بقوله: «إنّ سايروس (كوروش) ناداني باسمي منذ شروق الشمس. إنّه عبدي ومندوبي الذي يدمر أعدائي. إنّي قد أعطيته روحي؛ لأنه الذي أتى بالصدق والأمانة، ولا يذهب حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً»([12]).

على حدّ تعبير پيار بريان([13]): ينقل التوراة عن سايروس قوله بأنه مختار يهوه.

كما أن البابليين كانوا يعتبرونه مختاراً من قبل مردوك([14]).

وكما يشرح الكاتب شهبازي «فإن المنزلة التي أحرزها الهخامنشيون في التاريخ تعود إلى علاقتهم الحميمة مع اليهود»([15]).

وبصورةٍ عامة يمكن القول: إن الحضارة الهخامنشية أسفرت عن إمبراطورية ضخمة قبل ثلاثة آلاف عام، وهي شهدت أنواعاً مختلفة من تعامل الحضارات المختلفة، والنزاع فيما بينها.

الحضارة الفينيقية ــــــ

الفينيقيّون هم أحد الشعوب السامية القديمة التي سكنت لبنان وسوريا، وأنشأت ممالك صغيرة، مثل: عكا وجبيل وصيدا وصور. وفي الفترة مابين 1000 ـ 700ق.م أنشأوا مستعمرةً لهم في قرطاج، وكانوا قوة مهيمنة في العالم القديم، حتى 146ق.م، إثر سقوطها عقب حروب بونية ثالثة.

هاجر الكنعانيون مع الأموريين حوالى 2500ق.م، لكنّهم استوطنوا سوريا الجنوبية. وتأثَّر الكنعانيون بالحضارة المصرية وحضارة مغرب البحر المتوسط. وانتشر الكنعانيون على طول الساحل الشمالي لسوريا. وأطلق اليونانيّون اسم (فينيقية) المُشتَقّ من فينيقيين، أي الأحمر الأرجواني، على القسم المتوسّط والشمال من ساحل سوريا، كما أطلقوا اسم (الفينيقي) على الكنعانيّين، سكّان هذا الساحل([16]).

وقيل: إن واحداً من كلّ ثلاثة لبنانيين (مسلمين؛ ومسيحيين) من أصول فينيقية. والمتّفق عليه شيئان: الأوّل: إن نشأة المدن الفينيقية ترجع إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد. والثاني: إن الفينيقيين هم كنعانيون ساميون من صلب سام بن نوح. وربطهم الطبري بالعماليق من العرب البائدة. فقد كانت ديانة الفينيقيين مجموعة من الطقوس والعبادات تقيمها المدن الفينيقية، وتختلف باختلاف الأمكنة التي تقام فيها، بالرغم من اشتراكها جميعاً في النظرة ذاتها للإله وللظواهر الكونيّة والطبيعيّة([17]).

وقد قيل: إن عظماء الرياضيات، طاليس، وفيثاغورس، وإقليدس، كانوا فينيقيين([18]).

والفينيقيّون أوّل أمّة بحرية في التاريخ، وقاموا بدور الوساطة التجارية بين الشرق والغرب، وساعدهم على ذلك الموقع المتوسط بين الشرق والغرب. ولكنّ أعظم نعمةٍ قدَّمتها الحضارة السورية للبشرية هي اختراع الأبجدية على يد الفينيقيين، الذين اقتبسوا إشاراتها من الهيروغليفية المصرية. قويت العلاقة بين مصر وفينيقيا في عهد الدولة القديمة. تدلّ عادات الدفن عند الفينيقيين على وجود فكرة الاعتقاد بالبعث والحياة بعد الموت، وهي الفكرة التي أخذوها عن المصريين القدماء([19]).

لقد كانت لتبعية الفينيقيين للهخامنشيين فائدتان تعودان إلى الإمبراطورية الإيرانية:

الأولى: إن إيران تمتعت بالقوى البحرية والأساطيل العظيمة بمساعدة الفينيقيين.

والثانية: إن هذه المواطنة أثبتت الاستقرار السياسي لدولة إيران تجاه اليونانيين وغيرهم([20])، فقد صنع الفينيقيون السفن الحربية وسفن الركاب بأمر من الإمبراطورية([21]).

المنهجية التقليدية في التبادل الحضاري بين الهخامنشيين والفينيقيين ــــــ

إذا كان مفروضنا في هذا المقال التبادل بين الحضارة الهخامنشية والفينيقية فالسؤال هو عن نوعية تأثير المنهجية التقليدية والحديثة على فهم أعمق وأكثر للموضوع. والنكتة المهمة هنا هي أن المنهجية التقليدية تفترض وجود الحضارات ككيانات مستقلّة تتعامل على أساس المصلحة والفائدة، فتتآلف بعض الحضارات مع بعضها، كما أن بعضها تتعارض فيما بينها، على أساس النفع الاقتصادي والسياسي. وبالنسبة إلى الحضارتين الهخامنشية والفينيقية كان التبادل والتعامل أكثر من التعارض والصدام؛ فإنهما تبادلتا في ما يلي:

1ـ المستوى السياسي: ففي سنة 514ق.م قُسِّمت إيران إلى ثلاث وثلاثين خشتره (أي المحافظة)، بيد داريوس، وكانت المدن الفينيقية تحت رعاية المحافظة الخامسة. ومن الجدير بالذكر أن الرؤساء في تلك المدن كانوا هم الفينيقيين أنفسهم([22]). إن التبادل السياسي بين كوروس والمدن الفينيقية كان يهدف إلى التوحُّد مقابل المصريين والإغريق([23])، وإن داريوس كان تلواً لكوروس في هذه السياسة، وكانت العلاقات بينهما والفينيقيين على مستوى عالٍ.

2ـ المستوى الاقتصادي: يقول الكتاب المقدس أن سايروس (كوروس) أذن لليهود الذين عادوا من المنفى في بابل بشراء الخشب من سكّان صور وصيدا لبناء الهيكل. لقد علم التجار الفينيقيون قيمة العلاقات مع الإمبراطورية العالمية، فأرسلوا ضرائبهم إلى الهخامنشية طوعاً، وبشكلٍ سنوي. والمهمّ في هذه الأثناء هي القوة البحرية والتجارية، فقد دعمت الإمبراطورية الهخامنشية التجّار الإيرانيين والشعوب الفينيقية الذين كانوا يسافرون إلى قرطاج وغيرها([24]).

والمثال لهذا الدعم هو أن زركسيس(485 ـ 465ق.م) بنى جسراً عظيماً في ضواحي الدردنيل والبحر الأسود بعد أن فشل المصريون والفينيقيون في تنفيذ هذه الخطّة([25])، فرحب الفينيقيون بالعلاقات الاقتصادية مع إيران.

3ـ العلاقات العسكرية: أخبرت الكتب التاريخية عن مساعدة قيِّمة من الأسطول الفينيقي لداريوس وزركسيس (خشايار) في الحرب ضدّ اليونانيين. فقد تكوّن الأسطول الفينيقي من ثلاثمائة سفينة([26]). لقد وافق أردشير الأول(465 ـ 424ق.م) وداريوس الثاني(425 ـ 404ق.م) على نوعٍ من الحكم الذاتي للفينيقيين إزاء التعامل البحري والاقتصادي([27]). وأخيراً ـ كما قلنا ـ فقد أمرت الحكومة الإيرانية ببناء المصانع للأساطيل في فينيقيا وشواطئ البوسفور والدردنيل([28]).

4ـ العلاقات الثقافية والدينية: لقد كانت للدولة الهخامنشية علاقات دينية وثقافية مع الدول الأخرى في مستويات أعمق وأفضل، فتم تنفيذ سياسات تصالحية مع جميع البلدان التي غزاها سايروس، دون تفريق في هذه السياسة السلمية بين اليهود وغيرهم. لقد عاشت جميع الفرق والمذاهب بسلامٍ وأمن في تلك الإمبراطورية. والعجب أن اليهود الذين لم يقبلوا غيرهم في التاريخ مدحوا سايروس كما يُمدَح الأنبياء.

والقضية الأخرى هي علاقات الهخامنشيين مع الأنبياء، فقد عير بعض الأمراء مكانة دانيال النبيّ عند داريوس (دانيال النبيّ، الباب 6، الآية 6)، فطلبوا من دانيال أن لا يعبد الله، وعندما رأى عبادته لله تعالى ألقَوْه في قفص الأسد، فلما رأى داريوس أن دانيال سلم من القفص عرف أنه نبيٌّ من أنبياء الله.

لقد كانت السياسة الدينية لداريوش على أساس السلام والتصالح مع الأمم والأديان والمذاهب الأخرى. فقد كان الناس في زمنه ـ على طراز زمن كوروس ـ أحراراً في الدين والدنيا. وحسب يونجه، ما كان داريوس ليفرض الدين والسياسة على الرعايا الإيرانيين والفينيقيين وغيرهم. وكان همُّه الأول الترتيبات السياسية والعدالة والإنصاف. والمهمّ أن الفينيقيين وغيرهم كانوا أحراراً في أعمالهم الدينية والقضائية وغيرها([29]). يقول پيير بريان: إن أعمال داريوس كانت مثل أعمال سايروس في بابل وسائر المدن([30])، فإن داريوس دفع النفقات للكنائس والمعابد لكل دين ومذهب، بلا فرق بينهم([31]). وكان الملوك الإيرانيون يعتمدون في ذاك الزمان تجاه الدول الأجنبية على التسامح والعدالة والإنصاف. ويدلّ عليه نصّ الكتاب المقدّس والكتب التاريخية، كهرودت وغيره.

والدليل الآخر أن الأقوام والأديان كانوا أحراراً في رسم النقوش على القطع النقدية، فإننا نرى صورة أبولون اليونانية على بعض مسكوكات ذاك الزمان، مما يدل على حرّية الأديان والمذاهب في زمن الهخامنشيين.

والسؤال الذي يمكن أن يخطر في بالنا: ما هو سبب هذا التسامح بالنسبة إلى الأديان والمذاهب؟

يذكر المؤرِّخون أن الآريين قد توجّهوا إلى فلاة إيران من المناطق الشمالية والشمال الغربية؛ وذلك هرباً من البرد والصقيع؛ وبحثاً عن موطن يرزقون فيه بالأمن والنعيم. فقد تحركت موجات من الآريين حوالي عام 1000ق.م إلى داخل إيران من الشمال والشمال الغربي، وبحلول عام 800ق.م كانوا قد احتلّوا الأرض.

وتشير الدراسات التاريخية إلى استمرار هذا النزوح وتوسّع الانتشار نحو الجنوب، حيث واجهت هذه الاقوام النازحة أقواماً مقيمة ومستوطنة قبلها بأكثر من 1500 عام، كالعيلاميين([32]).

ويمكن أن يقال في جواب ذاك السؤال: إنه كانت للآريين ميزات، منها: التسامح الديني، وعدم المركزية في الحكم. فقد أخذ الهخامنشيون والبارثية (إشكانيان) تلك الخصلتين. كما أن الساسانية قد رفضوهما.

ومن جملة سيرة الهخامنشيين في الحرب الاحترام بالنسبة إلى الرعايا، وسنّتهم، ودينهم، وأن لا يدمِّروا المساكن والمعابد.

نعم، قمبيز (كمبوجيه) هو استثناءٌ من هذه القاعدة.

فقد كتب هيرودت في حقّه: إنه قد أصيب بمرضٍ كالصَّرَع، وما كان له عقلٌ سليم.

كما كتب داريوس في النقوش الحجرية: إن الرعايا التجأوا منه إلى المغ والروحانيين.

والاستثناء الثاني هو إحراق معبد أتينا بيد زركسيس، فقد توهَّم أنه كان ناشئاً عن التعصُّب الديني. والحقّ أنه تحقق بعد إحراق الغابات المقدّسة المسمّاة بـ (السارد).

والاستثناء الثالث هو هيكل مردوخ في بابل في زمن زركسيس؛ فإنه كان بعد فوضى البابليين.

وباختصارٍ يمكن أن يقال: على أساس المنهجية التقليدية الحضارة الهخامنشية والفينيقية حضارتان مستقلّتان، هوية هذه غير هوية تلك، ولكنْ لهما تبادلات في مستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وقد كان هذا التبادل للمنافع للحضارتين في مقابل اليونان وغيرها.

التبادل الحضاري بين الهخامنشيين والفينيقيين: منهجيّة غادامر ــــــ

إذا شئنا أن نطبِّق هذه المنهجية على موضوع العلاقات الحضارية المتبادلة بين الهخامنشيين والفينيقيين فلنقُلْ: إنّ كيان الفينيقيين قد حدّد بوجود الهخامنشيين، ومثله كيان الفينيقيين، الذي حدَّده وجود الفينيقيين. هذا التطبيق سوف يؤدّي إلى هذه النتيجة القيمة، وهي أن المنهجيات الحديثة، بما فيها منهجية غادامر، من شأنها أن تزوِّدنا بفهم للتاريخ والحضارات الغابرة هو أعمق ممّا كانت ترفدنا به المنهجيات التقليدية؛ فإننا في حوارالحضارات نحاول أن نعي الآخرين، الذين هم بدورهم يريدون أن يفهمونا، وأن يفهموا غيرنا، ممّا يعبَّر عنه بـ «الهرمنوطيقا المتضاعفة».

في الهرمنوطيقا البسيطة نفهم الأشياء التي ليس لها فهمٌ، كالجمادات؛ وأما في الهرمنوطيقا المتضاعفة فإننا نفهم الإنسان، الذي بدوره يفهمنا ويفهم غيرنا.

فالتبادل الحضاري من جملة الهرمنوطيقا المتضاعفة؛ لأننا في حضارتنا نفهم الإنسان الذي له فهم. والنكتة المهمّة هنا هي أن وجودنا مشروطٌ بفهمنا إياهم، كما أن وجودهم منوطٌ بفهمهم إيّانا. وهذا يرتبط بما قد يُقال من أنّ هوية الإنسان أمرٌ روائي، وهو الذي يسمِّيه بل ريغور بـ (الهوية السردية)([33]).

الخاتمة ــــــ

لقد كان للحضارة الهخامنشية والفينيقية تعاملٌ وتبادل في المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والحربية. ووفق المنهجية التقليدية فإنّ كلتا الحضارتين قد تبادلتا في المستويات المذكورة لكسب الفوائد المادية. فالحضارة الهخامنشية احتاجت إلى الحضارة الفينيقية لأجل القوى والأساطيل البحرية؛ وعلى العكس فإن الحضارة الفينيقية احتاجت إلى الهخامنشية لكي تبقي مصونة من المهاجمين.

وعلى غرار الخطاب والحوار بين الحضارتين، يجب أن نبحث عن حوار الحضارات، بدل صدامها.

وكما يعتقد صاموئيل هنتنغتون فإن صدام الحضارات هو السياسة الغالبة في العالم، والمرحلة التكاملية الأخيرة في صراعات العصر الجديد؛ لما يلي:

 ـ إن الاختلافات الحضارية أساسية.

 ـ إن التفات الحضارة إلى إدراك ذواتها في حالة ازدياد.

 ـ إن تجديد الحياة المذهبية كوسيلة لسدّ فراغ انعدام الهوية في حال نموّ.

 ـ إن المعاملة من قبل الغرب يوجب نمو إدراك الذات في الحضارات الأخرى.

 ـ إن خصوصيات الاختلافات الثقافية لا تقبل التغيير.

 ـ إن منطق الميول الاقتصادية، ودور القواسم الثقافية المشتركة، في حال نموّ.

 ـ إن الخطوط المتجذّرة بين الحضارات حلَّت اليوم محلّ الحدود السياسية والأيديولوجية أيام الحرب الباردة. وهذه الخطوط هي الشرارة التي ستوجد الأزمات وسيلان الدماء. إن خصومة 1400 سنة بين الإسلام والغرب هي في حال ازدياد، والعلاقة بين الحضارة الإسلامية والغربية مجهَّزة لظهور الحوادث الدموية([34]).

يعتقد الجابري أن مقولة (صدام الحضارات)، من حيث مستواها الفكري والمعرفي، لا تتناسب ومكانة هنتنغتون العلمية ومنهجيته العالية. والأسباب التي دعَتْ إلى سطوع نجم هنتنغتون وأطروحته حول صدام الحضارات ليست أسباباً تتعلَّق بالقوّة والحجّية المعرفية، وتماسك البناء النظري، بل إنها تعني بكلّ بساطة التحوُّل الذي طرأ على السياسة الأمريكية في هذه المرحلة التي يقودها اليمين المتطرِّف (أو النيوليبراليون) ([35]). وكما حرّرت في كتاب حوار الحضارات وصدامها: إن نظرية صدام الحضارات تواجه مشاكل متعدِّدة من الجوانب المنهجية والفكرية والسياسية([36]).

في رأيي إن المشكلة الأهم التي تواجهها نظرية هنتنغتون هي إهمال المسائل السياسية والاقتصادية، قياساً إلى المسائل الثقافية والدينية، وتجاهل التعارض في نفس الأديان والمذاهب، كما رأينا في قضية داعش وجبهة النصرة وغيرهما. وأخيراً فإن نظرية صموئيل هنتنغتون تعدّ مشروعاً سياسياً لليبراليين الجُدُد في أمريكا.

ومن جانبٍ آخر إذا شئنا أن نفهم الموضوع فهماً وجودياً ـ كما رأينا في منهجية غادامر ـ يصير التبادل الحضاري أعمق وأكثر فائدة لحقوق الإنسان والسلام العالمي. ولا فرق في هذه القضية بين الشيعة وأهل السنّة، وبين المسلم والمسيحي، وبين الديني والعلماني.

وعلى هذا فإن كلّ حضارة رهينة في هويتها للحضارات الأخرى. وهذا هو الطريق للاحتراز من العنف والخلافات الطائفية. وهذا هو مطلب الإنسان الأساس في القرن الواحد والعشرين.

إن ما نحتاج اليه في هذا الزمن هو تنوُّع الثقافات، الذي سيمهِّد الأرضية الصالحة للتعاون، وسيوفِّر المجال للمثابرة والمشاورة، وللعقلية النقدية والأخلاقية، ولحوار أصحاب النظر والفكر، وسوف يفتح الطريق أمام السلام العادل والشامل، وإثراء الحضارات عبر الحوار، والعمل على إيجاد تفاهم مشترك بين الأديان والمذاهب.

الهوامش

(*) أستاذٌ مشرف في جامعة المفيد في إيران.

([1]) http://ar.rasekhoon.net/article/show/738463/

([2]) ابن خلدون، المقدّمة 1: 662، بيروت، دارالجليل، 1996.

([3]) المصدر نفسه.

([4]) Achaemenids.

([5]) Gadamer, H. G, Truth and Method, Translated by Joel Weinsheimer (and Donald G. Marshal), New York, Continuum, 1998.

([6]) http://arabic.tebyan.net/index.aspx?pid=55611

([7]) آلبرت تن آيك أومستد، تاريخ شاهنشاهي هخامنشي (تاريخ الملكية الإخمينية): 267، ترجمه إلى الفارسية: محمد مقدم، طهران، أمير كبير، 1372هـ.ش (1993م).

([8]) شروين وكيلي، داريوش دادگر (داريوس العادل): 422، طهران، شورآفرين، 1390 (2011م).

([9]) بتريوليوس يونجه، داريوش يكم پادشاه پارس ها (داريوس الأول ملك الفرس): 152، ترجمه إلى الفارسية: داوود منشي زاده، طهران، جامعة طهران، ۱۳۳5هـ.ش (1956م).

([10]) وكيلي، المصدر السابق: 244.

([11]) http://daneshnameh.roshd.ir/mavara/mavaraـindex.php?page=%

([12]) الأشعياء، الإصحاح 14.

([13]) Pierre Briant.

([14]) پيير بريان، تاريخ هخامنشيان (تاريخ الإخمينية) 10: 77، ترجمه إلى الفارسية: مهدي سمسار، طهران، توس، 1391هـ.ش (2012م).

([15]) عليرضا شاهپور شهبازي، كوروش بزرگ (كوروس العظيم): 18، طهران، جامعة البهلوي، 1349هـ.ش (1970م).

([16]) http://alـhakawati.la.utexas.edu/2011/12/28/%

([17]) http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9

([18]) إبراهيم ساسين، أهم إنجازات الحضارة الكنعانية ـ الفينيقية:

http://www.elloubnanioun.org/index.php/2012ـ07ـ23ـ19ـ56ـ07/226ـ2013ـ01ـ27ـ19ـ42ـ59

([19]) http://www.areejalbahr.com/vb/showthread.php?p=3056

([20]) ميرزا حسن بيرنيا، إيران باستان (إيران القديمة) 1: 423 ـ 425، طهران، دنياي كتاب، 1362هـ.ش (1983م).

([21]) المصدر السابق 2: 1359 ـ 1361.

([22]) ساباتينو موسكاتي، فينيقي ها (الفينيقيون): 46، ترجمه إلى الفارسية: رقيه بهزادي، طهران، پژوهنده، 1378هـ.ش (1999م).

([23]) نصرت الله بختورتاش، حكومتي كه براي جهان دستور مي نوشت (الدولة التي كانت تشرع للعالم): 104، طهران، بهجت، 1389هـ.ش (2000م).

([24]) المصدر السابق: 107.

([25]) المصدر السابق: 363.

([26]) المصدر نفسه.

([27]) موسكاتي، فينيقي ها (الفينيقيون): 46.

([28]) بختورتاش، حكومتي كه براي جهان دستور مي نوشت (الدولة التي كانت تشرع للعالم): 343.

([29]) يونجه، داريوش يكم پادشاه پارس ها (داريوس الأول ملك الفرس): 106.

([30]) بريان، تاريخ هخامنشيان (تاريخ الإخمينية) 10: 787.

([31]) مرتضى احتشام، إيران در زمان هخامنشيان (إيران في زمن الإخمينية): 315، طهران، كتابهاي حبيبي، 1355هـ.ش (1976م).

([32]) http://abdolkarimahwazi.persianblog.ir/post/17/

([33]) narrative identity.

([34]) مجتبى أميري، نظريه برخورد تمدنها ومنتقدانش (نظرية صدام الحضارات ومنتقدوها): 22 ـ 23، طهران، دفتر مطالعات سياسي وبين المللي، 1374هـ.ش (1995م).

([35]) عايد عمرو، «صموئيل هنتنجتون ونظرية صدام الحضارات في ميزان الجابري»:

http://elmeda.net/spip.php?article1876

([36]) سيد صادق حقيقت، حوار الحضارات وصدامها: 48 ـ 63، ترجمه إلى العربية: السيد علي الموسوي، بيروت، دار الهادي، 2001م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً