أحدث المقالات

التجربة العرفانية والبنية المعرفية

عرفان الإمام علي(ع) أنموذجاً

 

الشيخ عبدالله الجوادي الآملي(*)

العلاقة بين الحياة والفكر والدافع

الحياة نمط خاص من الوجود، وهي مبدأ ظهور العلم والقدرة، والعنصر المنسّق بين الفكر العلمي والدافع العملي، إذ يتولى الأوّل عملية الإشراف على الثاني، ليتجلّى الدافع العملي بوصفه جهداً عينيّاً لتوجيه الفكر العلمي.

وكلما كانت الحياة أقوى سما الفكر العلمي، واشتدت قدرة الدافع العملي، كذلك إذا تعزَّز الفكر والدافع كانا كاشفين لكمال الحياة وقوتها. ورغم أنّنا نستطيع قياس قدرة كل منهما على أساس قوة الآخر، بيد أنّ المنهج المتين والعميق في الاستدلال هو اكتشاف السبب (الحياة) من خلال المسبّب (الفكر والدافع)، والمنهج اليسير هو اكتشاف المسبب، أي الفكر والدافع من خلال السبب وهو الحياة؛ لأنّه من الصعب التوصّل إلى حقيقة الحياة، ولكن يمكن التعرّف إلى حياة شخص معيّن والخوض في تفاصيلها إلى حدٍّ ما عبر دراسة علمه وعمله؛ ذلك أنّ الدافع العملي ينتظم تحت توجيه الفكر العلمي، وإن ارتقاءه أو تدهوره إلى الحضيض رهن بتسامي الفكر العلمي أو تقهقره. فـ العزم العملي يتحقق دائماً بهداية الجزم العلمي، وبالعلم يقاس العمل في ميزان الحق والباطل والصدق والكذب والحسن والقبح. لهذا فإنّ الأقرب إلى النظم الصناعي والمنطقي أن يخصّص البحث لدراسة الفكر العلمي، والتخلّي عن الحديث في نطاق الدافع العملي.

 

العلم الحصولي والعلم الحضوري

يمكن تقسيم الفكر العلمي إلى صِيَغٍ متعدّدة، إحداها تقسيمه بلحاظ المعلوم، لأن المعلوم إمّا وجود، أو مفهوم بمعناه الأعم الذي يشمل الماهيّة أيضاً؛ فإذا كان وجوداً وتعلّق العلم بهذا الوجود أصبح علماً شهودياً و”حضورياً”؛ ذلك أنّ العينية على أساس أصالة الوجود هي الهوية عينها، ولن يحصل لها وجود في الذهن، وإلاّ وجب حصول انقلاب الذات بمعنى الهوية، ويستلزم هذا الانقلاب ـ سواء بمعنى الماهية أم الهوية ـ جمع النقيضين، وهذا ممتنع.

وعليه، فإنّ العلم بالوجود ليس أمامه من سبيل إلاّ حضور العالم في محضر المعلوم والشهود العيني والحضوري، ولن يأتي المعلوم عند العالم مطلقاً، وإلاّ انقلب المعلوم العيني إلى مفهوم ذهني، وهو انقلاب يستحيل حدوثه.

أمّا إذا كان المعلوم مفهوماً بالمعنى الأعم، فإنّ العلم يكون حصولياً وصورياً، أي تحصل صورة من المعلوم عند العالِم، ليدرك هذا الأخير محيطه من خلال الصورة الذهنية. ومن هنا يصبح العلم ذا شقيّن: علم بالواسطة، وعلم من دونها؛ إذ ليست ثمة وساطة بين العالم والمعلوم في العلم الحضوري، بينما تصبح الصورة الذهنية هي الواسطة بين العالم والمعلوم في العلم الحصولي، ويدرك العالِم من خلالها الموجود العيني. يقال لما يحضر من العالم من دون وساطة في العلم الحصولي: إنه معلوم بالذات، فيما يقال لما يحصل بالوساطة: إنّه معلوم بالعرض. وبالطبع فإنّ علم النفس بعين المفهوم الذهني هو علم حضوري ومن دون وساطة رغم أنّ علمها بما هو خارج الذهن هو علم حصولي.

من هنا يتّضح معنى كون العلم الحضوري هو مرجع كل العلوم؛ لأنّ المفهوم الذهني رغم كونه علماً حصولياً بلحاظ تناوله لموجود عيني وخارجي، هو علم حضوري وشهودي بلحاظ حضور ذاته في محضر النفس ومشهد الذهن، غير أنّ مثل هذا العلم الشهودي ليس هو المقصود في بحثنا، بل إنّ المراد من الفكر الحضوري في هذا البحث هو العلم الشهودي المطروق في العرفان، وهو شهود العين الواقع والحضور من دون وساطة أيّ هو مفهوم وماهية؛ نحو شهود الروح وحضور الشؤون العلمية والعملية للنفس حيث لا وجود لأيّ حائل بين العالم والمعلوم العيني، رغم أنّ النفس تستطيع انتزاع مفاهيم متعددة بعد مشاهدة شؤونها العلمية والعملية وتحصل على العلم بها مجدداً عن طريق المفهوم. فهذا العلم هو حصولي، وذلك الحاصل من دون حجاب المفهوم هو علم حضوري. وعليه فإنّ شطريْ العلم: الحضوري والحصولي يمكن تصويرهما بلحاظ النفس وشؤونها العلمية والعملية، وبلحاظ الخروج من الذهن والأشياء والأشخاص العينية.

بالطبع إنّ الطريق الأصيل لشهود الخارج وحضور العين هو تقوية شهود النفس وحضور الروح؛ فكلما كانت معرفة النفس بذاتها ومبدئها ومنتهاها، ووعيها بالرابط الوجودي بين أول العالَم وآخره أقوى، كان شهودها بإزاء الأعيان الخارجية أقوى، ومن هنا تُكتشف قدرة الحياة وشدّتها.

 

العلم الحصولي معرّض للخطأ والبطلان

لوجود الوساطة بين العالم والمعلوم في العلم الحصولي ـ وهي وساطة مفهومية تكشف عن الواقع ـ يواجه هذا العلم الصواب والخطأ، والحق والباطل، والصدق والكذب. ولعدم وجود مثل هذه الوساطة في العلم الشهودي بين الشاهد والمشهود فإنّ معنى الصواب والحق والصدق يتخذ شكل الثبات والاستمرار والاتقان العيني، وليس الانطباق، بحيث لا يترك مجالاً للخطأ والباطل والكذب، ذلك لأنّ الشيء المعيّن لا يقارن بنفسه أولاً، ثم لا يُسلب من نفسه ثانياً. ولهذا لا يجد الخطأ وأمثاله طريقاً الى العلم الحضوري.

أجل، ينطبق هذا الموضوع على حالة النفس الانسانية التي تنظر شهودياً إلى مثال منفصل أو عقل منفصل أو برؤية خاصة إلى محتوى الوجود المادي الخارجي، وليس إلى مثال متصل؛ حيث من المحتمل أن يصبح شهوده خطأ، وكشفه كذباً، وحضوره غَيبة.

 

الإدراك الحضوري والحصولي للروح

ثمّة نوعان من البشر من حيث السير البدني وحركته الطبيعية: فهناك القويّ المقتدر الذي يستطيع أن يتحرك ويسير بنفسه ويقود الآخرين في الوقت نفسه، ويحثُّهم على السير والحركة خلفه. وهناك الضعيف العاجز الذي لا يملك القدرة على تحريك نفسه، فضلاً عن قيادة الآخرين وتحفيزهم على الحركة، وهذا النمط الثاني من الناس لا يتحرك إلاّ تحت قيادة الآخرين.

من ناحية السير الروحي و“الحركة ما فوق الطبيعية” هناك أيضاً صنفان من الناس: فمنهم من يتّسم بالقدرة والقوة في معرفة النفس، وهؤلاء بالإضافة إلى معرفتهم لأنفسهم على النحو الأفضل، فهم يسعون الى تعريف الآخرين بذواتهم وهوياتهم عبر سَوْق البراهين المتعدّدة على أصل وجود الروح وتجردها واشتمالها على الشؤون العلمية والعملية، وتوضيح ما يرونه بقوة في نطاق وجودهم ـ كعلم حضوري ـ إلى الفئة الثانية من الناس الذين يتصفون بالضعف في معرفة النفس والعجز عن سبر أغوار الروح، حتى تدرك هذه الفئة ـ الثانية ـ بالعلم الحصولي تفاصيل ما غفلت عنه من أصل وجود الروح وتجردها واشتمالها على الشؤون النظرية والعملية وما الى ذلك.

تكتسب هذه الفئة ـ الثانية ـ أسرار عالم الوجود ـ إن تعرّفت عليها ـ عبر المفهوم الحصولي، بعكس الطائفة الأولى التي تتميز بالقدرة على معرفة النفس، فهي تعي الأسرار الكامنة في الوجود عبر المصداق الحضوري؛ لأنّها تعرفت إلى هويتها بالعلم الشهودي. ولمّا كان العلم والوعي يشكّلان محور الحياة فليعلم من يتعرف إلى هويته، من خلال تعليم الآخر له، أنّ أصل الحياة العلمية رهنٌ بإحياء الآخر وأنّ يقظته رهنٌ بإيقاظ الآخرين.

 

مراتب المعرفة

إنّ ما يكتسب بطريق الإحساس السمعي والبصري وأمثالهما هو مجرد ترتّب المحمول على الموضوع، ولا يمكن إثبات ضرورة الترتّب به، كما لا يمكن إثبات الحصر أيضاً، أي أنّه لا يمكن إثبات أنّ الموضوع الذي يترتب عليه هذا المحمول الخاص هو الموضوع الوحيد، بحيث لا يسعنا أن نجد هذا المحمول في غير الموضوع المفترض.

إذاً، فإنّ المعرفة الحسّية تستخدم بخصوص المحسوسات المادية، من دون الموجودات المجرّدة، ولا يصح حكمها إزاء الموجود المجرد نفياً أو إثباتاً، بل إنّها تعجز أحياناً عن إثبات بعض الأمور الحسية؛ نحو إثبات الضرورة وإنحصار المحمول في الموضوع المفترض“، بحيث لا يظهر المحمول المذكور أبداً في غير الموضوع المفترض.

بناءً على هذا فإنّ مرتبة “المعرفة الحسية” من منظور علم المعرفة هي أضعف مراحل المعرفة. وبالطبع هناك تفاوت بين الأفراد في المعرفة الحسية ولهذا قيل: ليس الخبر كالمعاينة(1).

المعرفة العقلية التي تستخدم في الحكمة والكلام وسائر العلوم الاستدلالية تفوق بمراتب المعرفة الحسية”، ثم تأتي في الدرجة الأعلى المعرفة القلبية التي يستفاد منها في العرفان، ثم تقف على قمة الهرم المعرفي المعرفة الوحيانية، وهي رغم كونها من سنخ العلم الشهودي والمعرفة الحضورية، إلاّ أنّها ـ وتحت تاثير العصمة ـ مصانة من أضرار الخلط بين المتصل والمنفصل، وعواقب الالتقاط بين العقل الجزئي والكلي، وغبار نفوذ ابليس، والسهو والنسيان، وغير ذلك من الآفات.

وهذه الحصانة تجعلها معياراً لتقييم سائر أنواع المعرفة، وهي القمة التي يتربع عليها الإمام علي بن أبي طالب(ع)، ويتحدّث منها ويعرّف بها ويتكئ عليها.

 

تفاوت العرفان مع الكلام والحكمة

 

أهل العلم وآل المعلوم

للعرفان، كالعلوم الأخرى، موضوع ومسائل ومبادئ ومنهج، ويختلف في أبعاده العديدة مع العلوم العقلية الأخرى كالحكمة والكلام.

وما نريد أن نطرحه هنا هو امتياز العرفان عن بقية العلوم من حيث المنهج، ذلك أنّ العلوم الاستدلالية الأخرى، مثل الحكمة والكلام، تتوفر جميعها على بعد مشترك رغم التمايز الموجود في ما بينها، وهو أنها تستمد من العلم الحصولي، وتستعين بالمفهوم، وتعتمد على الوجود الذهني، وتستند على البرهان العقلي أو النقلي. بيد أنّ ما يميّز العرفان هو اعتماده العلم الحضوري؛ ولهذا فهو يستعين بالعلم الشهودي ويستند عليه، وفي حال وجود برهان عقلي أو دليل نقلي معتبر بعد الإثبات الشهودي والإحراز الحضوري، فهو لا يساق من أجل الإثبات، وإنما لا يعدو كونه مؤيداً ومعزّزاً لأصل الموضوع. لذا لا يمكن الوصول إلى الواقع الخارجي بالاستدلال العقلي أو النقلي؛ فرغم الفارق الهائل بين الوجود الذهني والعلم، والفاصل الكبير بينهما، إلاّ أنّ ما هو موجود في نطاق النفس لا يعبّر عن متن الواقع رغم ما يُطرح على أنه واقع وعين. بل إنّ ما يفكر به الحكيم أو المتكلم على أنّه واقع وخارج إنّما يتّضح بالتحليل الدقيق أنَّه كذلك على الحمل الأولّي والحمل الشائع للموجود الذهني، وإلاّ فهو ليس واقعياً ولا خارجياً. وعليه فإنّ الحكيم والمتكلم يرتبطان مع المصداق من وراء حجاب المفهوم، ومع العين من وراء حجاب الذهن، وليس لديهما أدنى ارتباط مع المصداق والموجود العيني من دون هذا الحجاب.

 

تمايز العلم عن المعلوم

التباين والاختلاف بين العلم والمعلوم يتّسع أحياناً ويضيق أحياناً أخرى. فحينما تكون للمعلوم العيني ماهية معينة فإنها تتّخذ مكانها في إطار النفس رغم أنّ الوجود العيني الأصيل لها لا يرقى إلى الذهن، ومن هنا يمكن الاطّلاع على الماهية الخارجية التي يمكن تصورها في الذهن، رغم أنّه لا يترتب عليها أي أثر، لأنّه لا يخطر على الذهن أي أثر لذلك الوجود العيني، وأنّ ما يطرأ على الذهن هو الماهية التي لا أثر لها لأنّها اعتبارية. ولكن حينما يتجرد المعلوم العيني من الماهية ومن الجنس والفصل فليس هويته فقط لا تطرأ على الذهن، بل حتى ماهيته التي تحكي عنها لا تطرأ على الذهن أيضاً على أساس قاعدة سالبة بانتفاء الموضوع، وإنّ ما يطرأ على الذهن مفهوم يختلف عن المصداق العيني والموجود الخارجي للأسباب الآتية:

أولاً: المفهوم عامّ كلي، وذلك الموجود العيني شخص كالواجب تعالى، والكلّي غير الشخص.

ثانياً: المفهوم غائب، والموجود العيني كالواجب تعالى حاضر على الدوام، والغائب غير الحاضر.

ثالثاً: المفهوم الذهني مسبوق بالجهل وملحوق بالسهو والنسيان، أي أنّه محكوم بالتغيّر، أمّا الموجود العيني كالله سبحانه وتعالى فإنَّه منزَّه عن أي تغيّر، ولا ريب في أنّ المتغير يختلف عن الذي لا يكون عرضة للتغيّر.

وبناءً عليه، فإنّ ما يكتسبه أهل الاستدلال الفلسفي والكلامي في الحالات الحسّاسة والمهمة من المعارف التوحيدية يختلف عمّا يتوصل إليه أهل العرفان بالشهود الوجداني. فإن أي شاهد محدود لا يستطيع اكتناه مشهود غير محدود؛ ولهذا فانّ معرفة العرفاء تقترن دائماً بإقرارهم، وشهودهم مقرون بالغَيْبة، بل إنّ الإقرار والغيبة يصلان إلى حدود لا متناهية، في حين أنّ هناك حدود معينة لمشهودهم، لأن الشاهد المحدود ينظر إلى المشهود اللامحدود بقدر حدوده لا بقدر المشهود اللامتناهي.

 

الجهاد الأكبر وهجرة العارف الكبرى

بعد أن اتّضح قياس العقل الاستدلالي إزاء قلب الشاهد، فإنّ هوية الإنسان المتشوّق للشهود تحتاج إلى الجهاد الأكبر لكي تجتاز مفهوم الصادق إلى المصداق عينه، وتتجاوز الذهن إلى الخارج، وتهاجر من الحصول إلى الحضور؛ لأن ما قامت به حتى الآن هو الجهاد الأصغر أو الأوسط، فمحاربة العدو الخارجي الذي يطمح إلى الاستيلاء على الوطن هو جهاد أصغر، ومحاربة العقل والنفس الأمارة التي تتسم بالشهوة والغضب هو جهاد أوسط، ومعركة القلب والعقل، وصراع الحضور والحصول، ودفاع شهود العين أمام فهم الذهن هو جهاد أكبر يؤدي إلى هجرة كبرى.

إنّ فن الأخلاق هو جهاد أوسط لتربية المجاهد الذي ينتشل نفسه من براثن الهوى وينقذها من مرديات الأهواء حتى يصل إلى حيّز القسط والعدل الآمن؛ أمّا فن العرفان فهو الذي يربّي ـ في مقام الجهاد الأكبر ـ المجاهد الذي يخلّص نفسه من العلم الحصولي، وينتشلها من البرهان العقلي، وينقذها من الحدود المظلمة للمفهوم والضيقة للذهن، ويأخذها الى منطقة شاسعة المساحة مترامية الأطراف، فيتذوق ـ المجاهد ـ طعم الشهود وينتشي بعطر المصداق العيني.

إنّ رسالة المجاهد المنتصر في ميدان الجهاد الأكبر إلى المقهور الذي غلبته الآفاق الضيقة للمفهوم الذهني والاستدلال العقلي هي أنّ العقل يستعمل لفهم الأوليات فقط ليس أكثر، أمّا المواضيع النظرية والمعقدة فلابدّ من مشاهدتها ببصيرة القلب لا فهمها بدليل العقل، ويمكن أن يتطلّع إلى الحقائق مَن فُتحت عيون قلبه، والأعمى من يستعين بعصا الاستدلال وبمساعدة البرهان كما يستعين المكفوف بيديه ورجليه ليفهم بعض خصائص ما يلمسه من دون أن يعلم لونه(2).

وإذا سعى هذا المكفوف إلى النظر، فان النجاح سيكون حليفه لرؤية من أمامه، وسوف لن يحتاج بعد ذلك إلى العصا ولا إلى استخدام لمساته للتعرف على الأشياء. وبطبيعة الحال فإنّ المسافة طويلة حتى بلوغ الانتصار في الجهاد الأكبر، وأمام المجاهد سنوات عديدة من الصبر حتى يشمّ رائحة يوسف، ومن لوازم ذلك ذهاب البصر وحلول العمى الظاهري، لكي تتفتح باصرة القلب، وتتحسّس شامة الباطن ويتفجر ينبوع النفس ليجري كوثر الشهود.

روى السيد حيدر الآملي عن رسول الله (ص) أنّه قال: خلق الله العقل لأداء حق العبودية، لا لإدراك الربوبية(3).

فلا يمكن التوصل لمعرفة الله بالدليل العقلي، ومن يحاول ذلك بطريق الحكمة والكلام تشمله الآية الكريمة حسب ما يرى السيد حيدر الآملي: ]ألم ترَ أنّهم في كل وادٍ يهيمون[ [الشعراء/225].

ولا يقتصر الكثير من نقده على تشبيه الحكيم بالمتكلم، بل يجعل الاشراقي كالمشائي مشمولاً بالغضب العرفاني، ويرى أنّ كلاً منهما كالمكفوف المتحير الذي يعضّ على إصبع الندم، مصداقاً لخطبة أمير المؤمنين (ع) التي أوردها في نقد المتشبهين بالعلماء(4).

 

دور البرهان في العرفان

رغم أن العلم الحضوري أقوى من العلم الحصولي، وأنّ الإدراك الشهودي أرقى من الإدراك المفهومي، فإنَّ الوصول إليه ليس يسيراً؛ مع أنّ بعض السالكين الواصلين عدّوا ذلك سهلاً، ورأوا أنّه أيسر من طرق الحكمة والكلام المعقدة.

حينما يصل العارف إلى شهود الحقائق في ظل العناية الإلهية، فإنّ الشك والتردد لا يجدان طريقهما إلى ثباتها واستقرارها وعينيتها ما دام العارف في حال الحضور، كما أنّه في هذه الحال لا يتوفر على فرصة تعليم الآخرين ونقل شهوده إليهم؛ ولكن حينما يتراجع من الحضور إلى الحصول ويعود من الشهود إلى الغيبة فلربما داخله الشك، سواء كان مشهوده في نطاق المثال المتصل أم في منطقة المثال المنفصل، ولإزالة هذا الاحتمال لابدّ من اللجوء إلى البرهان القطعي المعقول، كما إذا أراد نقل ما تلقّاه إلى الآخرين وتعليمهم إياه، فإنّه يحتاج إلى ثقافة الحوار التي تقترن بالاستدلال العقلي.

إذاً، فإنّ البراهين العقلية للعرفان هي بمنزلة آلة المنطق إزاء الحكمة والكلام؛ إذ يمكن بها تمييز الصحيح من السقيم، كما يمكن بها نقل المعارف إلى الآخرين الذين لا يتلقونها إلاّ حينما يصبح المشهود العرفاني معقولاً فلسفياً، أو أن يمتلك العارف البصير من القوة ما يستطيع أن يتوغل بها في قلوب أصحابه ويوصل قلوبهم لشهود ما يشهده، وعندها سوف يرون ما يرى.

 

المعلوم بالذات وبالعرض

إن تسمية الموجود الأصيل والحقيقي بالمعلوم بالعرض، وتسمية الموجود الظلّي والاعتباري بالموجود بالذات في العلم الحصولي هو كارتداء المعطف بالمقلوب ولبس النعل بطريقة معكوسة، فهو لا يضر الكائن العيني الأصيل، ولا يرفع من شأن الكائن الظلّي؛ لأنّ مثل هذه التسمية الناشئة عن نقص علم العالم وضعف معلوماته لن تؤدّي إلى وهن الموجود العيني إطلاقاً؛ لأنّ التوزيع على الذات والعرض في هذا التقسيم يعود إلى أنّ وعي العالم للمفهوم الظلّي والاعتباري أكثر من فهمه للموجود الأصيل الحقيقي. فذلك المعلوم بالعرض هو في الحقيقة موجود بالذات، وهذا المعلوم بالذات موجود بالعرض، وهذا التصور أدّى في النهاية إلى أن يسلّط الضوء على ما هو ظلّي أكثر مما هو أصيل.

أمّا في العلم الحضوري فإنّ الأصيل هو المعلوم بالذات، والظلّي هو ترجمة حصول ذلك الموجود الأصيل أو الشهود الحضوري، وهو بالنتيجة معلوم بالذات أيضاً، لأنّ المفهوم الذي يُنتزع من الشهود حاضر ذاتاً في نطاق الذهن؛ مثلما تحضر روح العالِم في العلم الشهودي في إطار العين، وتشهد الموجود الأصيل عينه.

فلا يوجد في العلم الحضوري ـ إذاً ـ معلوم بالعرض، فما لم ينتزع مفهوم من المشهود لن يكون هناك أكثر من علم عيني واحد مقرون بالمعلوم، وحينما ينتزع مفهوم ظلّي من ذلك المشهود العيني، فسيصبح المفهوم المنتزع معلوماً بالذات أيضاً.

 

مكاسب العلم الحضوري

لا يتوقف الفرق بين العلم الحضوري والعلم الحصولي عند حدود الوعي وكيفيته، فللعلم الحضوري مكاسب كثيرة، والإشارة الى بعضها تحفّز على الانصراف لكسب العلم الحضوري وتفضيله على الحصولي، وتقديم العرفان على الحكمة والكلام، منها أنّ أي تقرير علمي أو اتجاه عملي يناله أصحاب العلم الحصولي كالحكيم والمتكلم يتناول بالذات الموجود الذهني والمفهوم الظلّي، وبالعرض الموجود العيني والمصداق الأصيل، ذلك أنّ جميع جهود الروح وتفاعلاتها تقوم على أساس وعيها وإدراكها، وأن النفس الإنسانية تؤمن بالشيء وتتعلّق به وتكافح من أجله حينما يكون معلوماً حقيقياً وبالذات، أمّا إذا كان معلوماً بالعرض فليس له نصيب مما ذكرنا.

وعليه، فإنّ إيمان الحكيم والمتكلّم ينصرف إلى المعلوم بالذات ـ أي المفهوم الذهني بالذات ـ والموجود الأصيل الخارجي بالعرض، وبالنتيجة فهما يؤمنان بالغيب لا أكثر؛ غير أنّ إيمان العارف ينصرف إلى الموجود الأصيل الخارجي بالذات، وهو من سنخ الإيمان بالشهادة، إذ يعدّ أكمل من الإيمان بالغيب وليس من صنفه، وما جاء في وصف المؤمنين والمفلحين من أنهم ]يؤمنون بالغيب[ هو في الحقيقة بيان المرتبة الأدنى للايمان، وإلاّ فإنّ المرتبة الأعلى والأجلّ هي درجة الإيمان بالشهادة.

مجمل القول هو أنَّ حياة الحكيم والمتكلم تتحرك في مدار الصورة الذهنية وحول محور المفهوم بمعناه الأعم، وكلما استأنس الحكيم أو المتكلم مع الصورة الذهنية والمفهوم الحاصل منها، ابتعد عن الموجود الأصيل العيني والمصداق الخارجي، مثله مثل الطفل الذي ينظر في المرآة إلى صورة الشجرة المثمرة ويتعلّق بها ويشتدّ حبّه لها، فكلما ازداد ارتباطه بها ابتعد عن الشجرة الحقيقية وثمرتها الواقعية.

من هنا يتّضح أحد معاني كون العلم (الحصولي) يمثّل حجاباً كبيراً أو حجاباً أكبر، رغم ما قيل من معاني اأخرى لهذه المقولة الرائعة.

تنبيه: يقول بعض العارفين: أي علم يكسب في الدنيا هو علم الأبدان، وأي علم يكسب ما بعد الموت هو علم الأديان… وإن رؤية نور المصباح هي علم الأبدان أما الاحتراق فيه فهو علم الأديان(5). فمن يشهد بموته الاختياري حقائق البرزخ وآثاره كما يشهدها الأموات بالموت الطبيعي هو على معرفة بعلم الأديان.

 

منزلة الحكمة

نلفت الإنتباه هنا إلى أنّنا لو تعرّضنا بالنقد للعقل البرهاني ـ في ما مضى من البحث، أو في ما سنتحدّث عنه لاحقاً ـ أو تحدّثنا عن وهنه وفتوره وضعفه وإخفاقه، فهو في سياق تقييم البرهان العقلي بالنسبة إلى الشهود العرفاني، ومن باب المقارنة بين عصا الاستدلال وعطاء الشهود، وإلاّ فإن البرهان العقلي يأتي في القمة إذا ما قورن مع الإدراكات الحسية والخيالية والوهمية، وبيده زمام القيادة.

فالحياة الحكيمة، القائمة على أساس الفكر البرهاني والمستندة إلى الدليل العقلي المتقن، تفوق سائر أقسام الحياة التي لا نصيب لها إلاّ الحس والخيال والوهم.

ولدى دراستنا للعلوم الاستدلالية، نجد أن بعضهم رأى أن العلوم الرياضيَّة تأتي في القمة، إلاّ أن الدراسة العلمية ـ المعرفية تؤكد أنّ اليقين البرهاني ليس وفيراً في العلوم التجريبية بل نادر، وأنّ الدور الفعّال للعلوم الحسية والتجريبية يتجلى في أنها تقود إلى الطمأنينة والظن لا إلى الجزم العلمي.

أمّا العلوم الرياضية، فرغم وفرة مسائلها الجزمية واليقينية، فإنَّها تحتاج إلى الحكمة الإلهية في مبادئها الأساسية كعلمي الوجود والمعرفة وأمثالهما، كما أنّها محدودة في إطار نفوذها، فهي لا تنفع مثلاً مع الموجود العيني والخارجي المنزَّه عن كل كمية ومقدار. وإذا تمّت الاستعانة أحياناً بالمعادلات الرياضية لحل بعض علوم ما وراء الطبيعة والاستفادة منها لتحرير المسائل التجريدية البحتة وتحليلها، فإنّما يجري ذلك بعد ترقيق الموضوع المنـزه عن الكمية والمقدار، وبعد تشبيه المعقول بالمحسوس، وإلاّ فإنّ الموجود المجرد الذي لا يحدّه زمان ومكان وطول وعرض وعمق، لا يمكن أن يُقاس بالحساب والهندسة، إنّما يعالج فقط بالبرهان العقلي الخالص.

وهنا تتّضح سلطة الفلسفة الإلهية وموقعها المتميز إزاء سائر العلوم الاستدلالية، نحو العلوم الطبيعية والرياضية والمنطقية والأخلاقية. وبطبيعة الحال فإنها تعاني من النقص والضعف حيال العلم الشهودي على قاعدة: حسنات الأبرار سيئات المقربين(6).

 

الفرق بين العرفان والتجربة الدينية

اتّضح، في مطاوي البحث المقصود من العرفان، مقابل الحكمة والكلام، ولكن لكي لا نقع في الخلط بينه وبين بعض الحالات الوجدانية التي يُعبّر عنها أحياناً بأنّها تجربة دينية، يلزم الانتباه إلى أنّ المقصود من العرفان هو شهود الواقع ومعاينة الحقيقة العينية، لا بالوسائل الحسّية وآلات المثال المتّصل؛ لأنّ ما يشاهد بالمثال المتّصل بالنفس هو من مختلقات النفس ومخلوقات الروح، ولا دليل على سلامته من دسّ الروح وجعلها وتحريفها؛ كأضغاث الأحلام التي تنسجها النفس أثناء نوم البدن، ثم يستعيد ذكرها البدن بعد صحوته. فمثل هذه المشاهدات النفسيَّة في حالة المنام قد تحدث لبعض البسطاء والسذّج من المرتاضين أو السالكين، وليس بمقدور كائن من كان أن يميّز هذه المشهودات عن مشهودات المثال المنفصل.

إنّ دور البرهان العقلي العميق لتحديد صحّة مكتشفات أهل المعرفة من سقمها هو دور كبير؛ لأنهم، وبعد الخروج من الخلسة وزوال حالة النَّوم وأمثالها، يتأملون في مستوى اعتبار مشهوداتهم؛ فيقطعون الشكّ أحياناً بميزان الوحي والنقل المعتبر، ويعالجونه أحياناً أخرى من خلال مقياس البرهان العقلي. ولهذا قيل: إنّ وِزان الفلسفة للعرفان كوِزان المنطق للفلسفة؛ بمعنى أنّ البراهين المتقنة للحكمة لتقييم صواب وخطئها مشهودات أهل المعرفة، هي بمنزلة القواعد المنطقية لتقييم صحة أفكار أهل الحكمة من سقمها.

إذاً فالمراد من العرفان، في هذا البحث ونعني العرفان الذي يفوق حُرمة الكلام ويتفوق على قيمة الحكمة، هو شهود الواقع ومعاينة الحقيقة الخارجية المنزّهة عن نسج الحسّ والخيال ودسائس النفس في منطقة المثال المتصل.

 

النظرة الكونية العرفانية للإمام علي(ع)

 

العلم الشهودي بالكتاب التدويني والتكويني الإلهي

بعد أن اتّضحت النظرة العقلية للوجود من قبيل الإدراك الحصولي عند الحكيم والمتكلم، والنظرة الشهودية للكون التي تحصل من خلال الإدراك الحضوري للعارف، وظهر رجحان الادراك الشهودي على العلم الحصولي، يجدر بنا أن نستعين بالقرآن الكريم وسنّة المعصومين (عليهم السلام) لمعرفة النظرة الكونية للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، لكي نقف من ثمّ على كيفية حياته وحقيقتها وسنخ سيرته وسنته(ع).

إنّ القرآن الكريم الذي يعدّ أهم كتاب سماوي له الهيمنة والسيطرة والسلطة على جميع الصحف الإلهية السابقة: ]مصدقاً لما بين يديه[ [البقرة/97]، و ]مهيمناً عليه[ [المائدة/47]، وهو الحبل الإلهي الممدود، أحد طرفيه، وهو العربي المبين، بيد الناس، وطرفه الآخر عند الله تعالى، وهو المنزّه عن الوضع واللّغة والاعتبار والمفهوم والمعنى الذهني: ]إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون * وانّه في أم الكتاب لدينا لعليّ حكيم[ الزخرف/3و4].

هذه الصحيفة المهيمنة، مع ما فيها من بطون وتأويلات وظهور وتنزيلات، هي مشهودة لدى إنسان كامل كعلي بن أبي طالب (ع)، فقد ورد عن رسول الله (صلى لله عليه وآله وسلم) بعد أن سُئل عن قول الله عز وجل: ]قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب[ [الرعد/43]، قال: ذاك أخي علي بن أبي طالب(7).

ولما كانت معارف القرآن معلومة بتمامها لدى علي بن أبي طالب (ع)، فإنّ علمه بالمعارف القرآنية ليس من قبيل العلم الحصولي، وإنّما من صنف العلم الحضوري والشهودي.

ولما كان القرآن الكريم هو كتاب الله التدويني، والعالم الخارجي هو كتابه التكويني، وأنّ هاتين الصحيفتين متناسقتان ومنسجمتان تماماً ـ بحيث لو تمثّل القرآن بصورة، تكوينية، لأصبح هذا العالم المشهود، ولو تجلّى العالم المشهود على هيئة كتاب مدوّن، لأصبح هذا القرآن الكريم ـ فإنّ من يتوفر على العلم الشهودي بجميع أبعاد القرآن يتوفر أيضاً على علم حضوري بأسرار عالم التكوين ورموزه.

 

مشاهدة كتاب الأبرار

صنّف القرآن الكريم المتّقين والحائزين على درجة القرب الإلهي في منزلة أصحاب الميمنة والأبرار والمقربين، وعدّ منزلة المقربين الدرجة الأعلى، ومن علاماتها إشراف المقربين واطّلاعهم على خفايا الأبرار وعلى ما هو مسطور في صحائف أعمالهم من عقائد وأفعال وأخلاق: ]إنّ كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون[ [المطففين/18 ـ 21]. وظاهر الشهود في هذه الآيات هو العلم الحضوري وليس الحصولي.

رغم أنّ الآيات المذكورة لا تثبت صراحة العلم الحضوري للمقربين حيال جميع جوانب العالم التكويني، إلاّ أنها تثبت علمهم الشهودي لمساحة واسعة من صحف عقائد الإنسان وأخلاقه وأعماله، ويشمل شهود المقربين كل ما هو أدنى مرتبة من درجتهم الوجودية، بحيث إنّ شخصية كعلي بن أبي طالب (ع) ـ الذي يعدّ من أكمل مصاديق المقربين ـ يضحي مطلعاً شهودياً على باطن أعمال المجتمع الانساني وظاهره، وعلى كل من هو أدنى مرتبة منه من الناحية الوجودية.

 

شهود القيامة

بشّر القرآن الكريم أصحاب العلم اليقيني بأنّهم سيصبحون من ذوي الأبصار، وقال: ]كلاّ لو تعلمون علمَ اليقين * لترونَ الجحيم * ثم لترونّها عين اليقين[ [التكاثر/5 ـ 7]. والمراد من رؤية الجحيم ليس إدراك دراية عبر البرهان العقلي، ولا إدراك رواية عبر الدليل النقلي المعتبر؛ لأن من شروط هذه الرؤية التوفر على علم اليقين؛ أي أنّ من له علم اليقين بجهنم يتوفر على شرط الانتقال من الفهم إلى النظر ومن العلم إلى الوجود، وبالتالي الهجرة من العلم الحصولي إلى العلم الحضوري سواءٌ توصّل إلى هذا اليقين بالبرهان العقلي أم بالدليل النقلي القطعي عن المعصوم (ع). ولا يقصد بالرؤية الأولى أنَّها تأتي ما بعد الموت، لأنّ الملحد يرى أيضاً جهنم في تلك المرحلة، ويكون حينئذٍ على علم حضوري بوجودها.

إذاً، يعدّ القرآن الكريم الرؤية الشهودية ممكنة لبعضهم، وهي أعلى مرتبة من الدراية العقلية والرواية النقلية، ولا ريب في أن علي بن أبي طالب (ع) هو أبرز مصداق تتوافر فيه الشروط لرؤية الجحيم؛ ولمّا كان الكثير من الآيات الكريمة يتطرَّق إلى ساحة جهنم وإلى الإنذار منها بشكل منفرد، وكان هذا ينطوي على بعد تربوي وارشادي؛ فان لبعض المؤمنين ومَثَلهم الأعلى علي بن أبي طالب (ع) القدرة على شهود القيامة بما فيها النعيم والجحيم، وكل ما هو أدنى مرتبة من القيامة.

ونكتفي بهذا القدر من ذكر الشواهد القرآنية، رغم وجود أدلّة أخرى يمكن استنباطها من القرآن المجيد عن العلوم الشهودية للأولياء، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب (ع)، كقوله تعالى: ]وقل اعملوا فسَيرى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون[ [التوبة/105]، حيث يعدّ الإمام علي(ع) المصداق البارز للمؤمنين في هذه الأمة ويمكنه مشاهدة أعمال الجميع(8).

 

النبي(ص) وعلي(ع) سواء في الشهود العرفاني

قال النبي(ص) عن العلم الشهودي لعلي بن أبي طالب(ع): خلقت أنا وعلي من نور واحد(9). وكون النبي(ص) وأمير المؤمنين(ع) مخلوقين من نور واحد أمر ضبطته الجوامع الروائية، وأنّ حياتهما واحدة ومماتهما واحد، وأنّ النظرة الكونية النبوية هي نظرة شهودية وليست حصولية، كما أنّ حياته(ص) كانت من نمط حياة العارف وليس الحكيم أو المتكلم، فإنّ علي بن أبي طالب(ع)، المخلوق من نور واحد مع النبي(ص) كان ينطلق من نظرة شهودية للكون وليست حصولية، وحياته على غرار حياة النبي(ص) هي حياة العارف وليس الحكيم أو المتكلم، رغم أنّه لم يحظ بنصيب من النبوة والرسالة التشريعية؛ ويمكن استنتاج تساوي هاتين الذاتين النوريتين في الشهود العرفاني من قوله تعالى ]وأنفسنا وأنفسكم[ [آل عمران/61].

ويلاحظ هذا التقارن في الشهود والحياة في أحاديث أخرى كقوله(ص): يا علي، ما عرف الله إلاّ أنا وأنت وما عرفني إلاّ الله وأنت وما عرفك إلاّ الله وأنا(10)، فمن لا يعرفه إلاّ الله، ولا يعرف الله إلاّ هو حقيق على روحه أن تحلّق في الذرى وتتبوأ القمة، وحقيق على مثل هذه الروح الكاملة أن تشاهد أسرار العالم بتجرد عقلي تام، ليصبح علي بن أبي طالب(ع) نظيراً للنبي(ص)، ويفيد ذلك قوله(ص): علي مني بمنزلة رأسي من بدني(11). هذا كلُّه مع احتفاظ النبي(ص) بمنزلته بوصفه رسولاً.

نكتفي بهذا القدر من نقل الأحاديث النبوية، مع أنّ المتتبع الماهر يستطيع استظهار النظرة الكونية الشهودية العَلَوية من خلال الأحاديث الواردة في حقّه(ع).

 

علمه الشهودي (ع) عن لسانه

نذكر، في ما يأتي نماذج من كلام أمير المؤمنين(ع) عن نفسه، أو عن المسائل العلمية ليتّضح شهوده العلمي؛ وقبل ذلك نشير إلى أن أي كلام له(ع) ينطوي على مديح أو ثناء لذاته، فإنّه يأتي في سياق الكشف عن شخصيته الحقوقية، أي ولايته وخلافته الإلهية التي تُعدّ أمانة دينية لا بد من صيانتها وحمايتها والحفاظ عليها، هذه الحماية التي تتّخذ أشكالاً شتى من قبيل التبيين والتعليل والتسديد والدفاع وما إلى ذلك، ولا يأتي من باب تزكية المرء نفسه(12)، لكي يصبح مذموماً. ومهما يكن فانّ ما جاء عنه عن شهوده العلمي كثير نشير، في ما يأتي إلى القليل منه:

1 ـ القرآن الناطق والوحي الممثل

قال(ع): أنا القرآن الناطق(13) وقال أيضاً: أنا كلام الله الناطق(14) وأيضاً: أنا علم الله.. ولسان الله الناطق(15).

سبق وذكرنا أنّ للقرآن الكريم درجات كثيرة، بعضها أنّه منزّه عن كونه عبريَّاً أو عربيَّاً أو سريانياً أو فارسياً، حينما يكون في مرتبة ]علي حكيم[ [الزخرف/4]، وله إشراف شهودي على جميع المراتب التي تقع دونه، ولا شكّ في أنّ للقرآن الناطق والوحي الممثل إطّلاع حضوري على أسرار العالم، بمعنى أنه عالم بها، وأن علمه من سنخ الحضور لا الحصول؛ ومثلما يكون العلم الإلهي بها بالذات وبالأصالة، فإنّ علم خليفته وعبده الصالح الذي يعدّ مظهر علم الله وآيته سيكون هكذا بالعرض.

2 ـ المفاخر السبعة

قال(ع): … ولقد أعطيت السبع، لم يسبقني إليها أحد: عُلّمت الأسماء، والحكومة بين العباد، وتفسير الكتاب، وقسمة الحق من المغانم بين بني آدم، فما شذّ عني من العلم شيء إلاّ وقد علّمنيه المبارك، ولقد أعطيت حرفاً يفتح ألف حرف، ولقد أُعطَيتْ زوجتي مصحفاً فيه من العلم ما لم يسبقها إليه أحد خاصة من الله ورسوله(16).

المآثر السبعة التي أشير اليها في هذا الحديث هي من سنخ العلم، المبدأ الفاعل لهذا التعليم هو الله تبارك وتعالى؛ وبما أنّ الوجود النبوي والعلَوي المقدس منبثق من نور واحد، لذا فان ما جاء في كلام الامام علي(ع) من أنّ علمه غير مسبوق من أحد لا يقصد به النبي(ص) وإنّما الآخرين غيره؛ والمراد من تعليم الأسماء، هو ما جاء في قصة آدم(ع)، لأن هذه القصة تتحدث عن مقام الإنسانية الكامل، وآدم(ع) أحد مصاديقها من دون أن تنحصر به(17)؛ أمّا بخصوص ما ذكره من شأن فاطمة الزهراء (عليها السلام) فهو من سنخ العلم الإلهي الخاص الذي أفاض به الله على هذا الانسان الكامل بعنايته وببركة الرسول(ص). ولمّا كان تعليم الأسماء هو بمعنى تعليم حقائق الأشياء، وهذا الأخير هو علم شهودي وليس حصولياً، فإنه(ع) أحاط بحقائق العالم على نحو العلم الحضوري، أمّا ذكر المفاخر الأخرى فهو من قبيل ذكر الخاص بعد العام، أو المقيّد بعد المطلق، أو الجزء بعد الكل، لأنها تندرج جميعها تحت عنوان الأسماء الإلهية الحسنى.

3 ـ شهود الملكوت

قال (ع): ولقد نظرت في الملكوت بإذنِ ربيّ، فما غاب عنّي ما كان قبلي ولا ما يأتي بعدي(18). وقال: سبحانك ما أعظم ما يرى من خلقك وما أصغر كل عظمة في جنب قدرتك وما أهول ما يرى من ملكوتك(19). إنّ النظر في ملكوت السماوات والأرض هو ما حفّز ورّغب إليه الله سبحانه وتعالى في قوله: ]أوَلَم يَنظروا في ملكوت السموات والأرض[ [الأعراف/185]، وهو النظر العقلي وليس الحسّي، لأن هذه الآية تدعو الجميع للنظر إلى الملكوت سواءٌ كان المخاطب مبصراً أم مكفوفاً؛ فالناظر هنا هو الأعمى والمبصر على السواء، والمنظور هو الملكوت الذي ينظر إليه بالعقل، لا بالحس أو النظر المادي.

ويصل النظر أحياناً إلى مستوى الرؤية والبصر، وقد لا يصل أحياناً أخرى، غير أنّ بعضه ـ أي النظر ـ ينتهي إلى الرؤية والبصر على نحوٍ مؤكد.

وما جاء في البيان العلَوي هو من هذا القبيل الذي ينتهي إلى الرؤية، لأنّ هذا النظر الخاص الذي يتم بإذن الله عزوجل يفضي إلى حضور جميع الأشياء والأشخاص ولا يخفى عليه شيء، لهذا قال (ع): فما غاب عنّي ما كان قبلي ولا ما يأتي بعدي، أي أنّه(ع) أحاط بكل أمور العالم حتى أصبحت جميعها في محضره ومشهده من دون أن يغيب عنه شيء، وهذا هو العلم الشهودي بالأشياء الذي يحظى به الإنسان الكامل، وهو ما عبّرت عنه الآية الكريمة فـي حـقّ إبراهيم الخليل (ع): ]وكذلك نري إبراهيمَ ملكوت السمواتِ والأرض وليكونَ من الموقنين[ [الأنعام/75]، إذ تطرح هذه الآية رؤية خليل الله للملكوت. ولمثل هذا الشهود آثار كبيرة أحدها الوصول إلى اليقين الثابت وليس المقطعي.

فإذا عبّر الإمام علي (ع) عن نفسه بأنّه: علم الله، وقلب الله، ولسان الله الناطق(20)، وإذا قال عنه الامام الصادق (ع): إنَّه …عيبة غيب الله وموضع سرّه…(21)، إنّما يراد من ذلك:

أولاً: سعة العلم العلَوي وشموله لكل ما هو موجود.

وثانياً: كون هذا العلم شهودياً وحضورياً.

وما جاء عن الإمام الصادق (ع) في هذا الصدد مسبوق بما ورد عن الرسول(ص) عن علي (ع) حيث قال: علي … وهو عيبة علمي(22)، ولما كان علم النبي (ص) علماً إلهياً، فان علي بن أبي طالب (ع) هو صندوق العلم الإلهي وهو ما أراد به الإمام الصادق(ع) في الحديث الآنف، حيث يعدّ (ع) المصداق البارز للإمام المبين الذي أحصى الله فيه كل شيء كما جاء عن رسول الله (ص) بأنّ علي بن أبي طالب (ع) هو المراد من الإمام المبين في الآية: ]وكلَّ شيءٍ أحصيناهُ في إمام مبين[ [يس/12](23)؛ لكونه صندوق الأسرار الإلهي، وقد أودعت في قلبه أسرار عالم الوجود بإذن الله. ويستفاد من هذا التعبير في ما ذهبنا إليه من سعة العلم العلَوي وكونه علماً شهودياً، لأنّ حقائق الأشياء وليست صورها ومفاهيمها الذهنية قد أُحصيت في سعة وجوده.

4 ـ المعرفة الشهودية للمبدأ

إنّ أهم معرفة هي تلك التي تتعلّق بأهم معروف، وهو الله سبحانه وتعالى؛ لذلك فإنّ أسمى معرفة هي التي ترتبط به تعالى. كما قال أمير المؤمنين (ع): معرفة الله سبحانه أعلى المعارف(24) وقال أيضاً: من عرف الله كملت معرفته(25).

ولمّا كانت المعرفة الشهودية هي أفضل أنواع المعرفة، لأنّ ما يكتسبه العالم من العلم الحصولي لا يعدو كونه مفهوماً ليس إلاّ، فإنّ الإمام (ع) سعى إلى أن تكون معرفته بالله تعالى هي من النوع الشهودي وليس الحصولي.

عن الإمام الصادق (ع) قال: بينما أميرالمؤمنين (ع) يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له ذِعلَب، ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك؟ قال: ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد رباً لم أره. فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال: ويلك يا ذِعْلَب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان(26). وهذا يعني أن الهوية الإلهية فضلاً عن أنّها منزّهة عن الطبيعة لكونها لا تدرك بالحسّ، فإنّها منزّهة أيضاً عن عالم المثال؛ لأنها لا تُدرك بالخيال والمثال سواء كان متصلاً أم منفصلاً، والاّ لكان لها مقدار وحالة رغم أنّها لا تتوفر على المادة، ومثل هذا الوصف محال للموجود الغني المطلق.

والطريق الوحيد لإدراك الذات القدسية الإلهية هو الشهود القلبي الذي لا يتحقّق إلاّ لقلب المؤمن الراسخ في حقيقة إيمانه. ومعلوم أنّ حقيقة الإيمان التي تعدّ الشرط الأول لشهود الله تعالى ليست من سنخ المحسوس أو المتخيَّل، لذا لا يمكن أن تدرك بالحسّ أو أن يجري تصورها بالتمثل الخيالي.

إنّ معبوداً مثل هذا العارف هو مشهوده الحقيقي. أمّا من لم يبلغ مثل هذه المنزلة، فإنّ معبوده سيكون معقوله وليس مشهوده، وهذه العبادة من نمط عبادة الزهاد وأمثالها وليست العبادة العرفانية؛ ذلك أن البرهان العقلي أو الدليل النقلي المتّقن لا يمر عبر منطقة المفهوم ولا يبلغ قمّة الشهود، وإنّما تلوح له عن بُعد الحالة الشهودية، ولا شكّ في أنّ الآثار المترتّبة على مثل هذا الادراك ليست من النوع العرفاني.

مهما يكن، فإنّ علي بن أبي طالب (ع) كان يعبد الله بقلب مملوء بحقيقة المعرفة وبشهود حقيقي يشمل جميع الشؤون العبادية العلمية منها والعملية، ويرى الله تعالى أكثر شفافية من أي مرئي حسّي، لأنّ البصر الحسي يخطئ كثيراً، بينما البصيرة الإيمانية للانسان المعصوم منزّهة عن أي خطأ واشتباه، لهذا قال (ع): الله هو الحقّ المبين أحقّ وأبين مما ترى العيون(27).

ما ينبغي ذكره، هنا، أنّ الله تعالى هو المبدأ الفاعل والغائي للجميع ما عدا ذاته، بحيث يبدأ من هذه الذات النظام العلّي والمعلولي من ناحية المبدأ الفاعلي، وينتهي إليها من ناحية المبدأ الغائي، فهو ـ إذاً ـ علّة العلل نزولاً وصعوداً، أولاً وآخراً.

ومن الثابت أيضاً أن العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، ولهذا قيل: ذوات الأسباب لا تعرف إلاّ بأسبابها(28)، أي أنَّه ليس العلم بالسبب فقط يؤدّي إلى العلم بالمسبّب، بل إن الطريق الوحيد للعلم بالمسبّب هو العلم بالسبب. ومثلما يستفاد من هذه القاعدة في العلم الحصولي، ويستعان بها في صناعة برهان المنطق للفصل بين البرهان اللمّي عن البرهان الإنّي وتمييزه عن بقية البراهين، فإنّها تستخدم أيضاً في العلم الحضوري. فمن حَضَرته العلّة وأدركها شهودياً فسيحضره المعلول، وإذا اتخذ هذا الموضوع صبغة عرفانية عبر إرجاع العلية إلى التشؤن، واتّخذ المصدر والصادر شكل المظهر والظاهر، فإن شهود الظاهر سيصبح جوهراً لشهود كل المظاهر، وأنّ من يرى الله بعين الإيمان فإنّه سيرى جميع مظاهره بأشعّة النظرة العرفانية نفسها، وسيصبح علمه بأسرار الكون ورموزه تجلياً و”تشؤناً” شهودياً وليس حصولياً.

ورغم أنّ المعرفة هي مادة الحياة وركيزة الاقتدار، فإنَّ أنّ تأثيرها يتوقف على المعروف نفسه، فكلّما كان هذا الاخير قوياً كانت آثاره الحياتية أكثر إشعاعاً وأشدّ، ولما كان أي معروف لا يبلغ إلى مستوى الله تعالى، كما لا تبلغ أيّة معرفة مرتبة معرفته تعالى، فإنّ أيّ حياة لا يمكن أن تناظر الحياة التوحيدية.

من هنا قال علي بن أبي طالب (ع) عن المعرفة التوحيدية: التوحيد حياة النفس(29)، ومن حق من يتسامى إلى هذه الحياة أن ينادي الناس ويدعوهم الى سؤاله: سلوني قبل أن تفقدوني(30)، لينشدّ إليه عقلاء العالم ويتجهوا نحوه وينصتوا إليه، لأنّه ينطق كما ينطق القرآن الكريم، فهو القرآن الناطق الذي استطاع بشهود المتكلم أن يكشف عن جميع كلماته ليفسرها ويبيّنها ويعلّلها، ودلائل اقتداره العملي المستلّة من حياته التوحيدية واضحة تماماً؛ الأمر الذي لا يتَّسع المجال لذكره في هذه الرسالة التي تبحث في الشهود العلمي والحياة العرفانية للامام علي (ع).

5 ـ المعرفة الشهودية للمعاد

لما كان المعاد بمعنى العَود نحو قرب المبدأ، وليس الرجوع إلى الدنيا على نحو التناسخ أو غير ذلك، فإنّ من عرف المبدأ الفاعل لعالم الإمكان لا تنقصه معرفة المعاد وضرورة الرجوع إلى المبدأ، بيد أنّ الذي عرف الله بالبرهان الحصولي، وعلم به عن طريق المفهوم العقلي، فإنّ معرفته بالمعاد تتيسر له بطريق البرهان الحصولي. ومن عرف الله في حدود مقام الاحسان، أي من مقام كأنّ وليس من مقام أنّ، فإنّ معرفته بالمعاد إليه لا تتجاوز هذه المرتبة، أي مرتبة الاحسان ومقام كأنّ، أمّا من عرف الله بطريق الشهود التام، أي مقام أنّ فإنّ معرفته بالمعاد ترقى إلى منزلة الشهود الكامل، أي مقام أنّ وليس كأن” ولا أدنى من ذلك المتمثل بالبرهان العقلي.

وقد بلغ الإمام علي (ع) المرتبة العليا من ناحية شهود المبدأ الفاعل، أي بداية الوجود؛ لذلك فإنّ معرفته بالمبدأ الغائي ـ أي خاتمة الوجود ـ تصل كذلك إلى المرتبة العليا والنصاب التام، لا إلى منزلة الاحسان ـ أي مقام كأن ـ ولا إلى ما هو أدنى من ذلك، أي البرهان العقلي والمفهوم الحصولي. ولا يقصد الإمام الصادق (ع) في قوله: … ولقد كان يعمل عمل رجلٍ كأنّه ينظر إلى الجنة والنار(31)، إنّها المنزلة النهائية لأمير المؤمنين؛ لأنّ قمة شهوده (ع) مقام أنّ وليس كأنّ، فهو القائل عن شهود معاده: لو كشف لي الغطاء ما ازددتُ يقيناً(32).

وفي هذا البيان إشارة إلى نفي وجود الحجاب وعدم وجود الغطاء بينه (ع) وبين شهود المعاد، ولا أثر لهذا الغطاء عليه يوم يُرفع عن أنظار الآخرين، ولا يقصد به أنّه محكوم بهذا الغطاء، ومتى ما رفع عنه لن يزداد يقيناً.

خلاصة الأمر هي أنّ العلم الحضوري للإمام علي (ع) بالمعاد يمكن استنباطه من كلامه (ع)، فضلاً عن طريق التلازم بين مبدأ الوجود ومنتهاه، والتناسق بين شهود المبدأ الفاعل والمبدأ الغائي.

وعليه، فإنّ إيمان علي بن أبي طالب (ع) بالقيامة هو من سنخ الإيمان بالشهادة لا الإيمان بالغيب؛ لأنّ المعاد بالنسبة إليه (ع) ليس من قبيل الاأمور البرهانية للحكيم أو المتكلم، ولا من صنف الاأمور النقلية للمحدّث لكي تكون من صنف الإيمان بالغيب، إنّما هو من سنخ الإيمان لولايته وإمامته ومن قبيل الإيمان بالشهادة.

ومثلما قلنا، إنّ إيمانه (ع) بالمبدأ الفاعل لعالم الخلقة هو من سنخ الإيمان بالشهادة لا الإيمان بالغيب، فإنّ إيمانه (ع) بالمبدأ الغائي هو أيضاً من قبيل الإيمان بالشهادة. والإيمان بالغيب هو الحد الأدنى للتكليف، وإلاّ فإنّ ما هو ضروري ولازم هو الايمان باُصول الدين وفروعه، سواءٌ كانت تلك المعارف مشهودة أم معقولة، وسواءٌ كان الايمان بها من سنخ الإيمان بالشهادة أم الإيمان بالغيب.

6 ـ المعرفة العرفانية بالرسالة

لمّا كان الوحي والنبوة والرسالة بياناً للهداية والحكمة الإلهية، وأنّ هداية الرسول(ص) هي فعل الله الخاص من زاوية الحكمة والكلام، وظهوره الخاص في مرأى العرفان، وأنّ من رأى الله ببصيرته فسيرى أفعاله ومظاهره، فلا شكّ في أنّ علي بن ابي طالب (ع) قد توصل إلى مشاهدة الوحي والرسول الالهي وإنزال الصحيفة الربوبية حتى قال لذعلب: إنَّه لا يعبد رباً لم يره، لأنّ المبدأ الحاكم على المسببات هو أنّ رؤيتها موقوفة على رؤية أسبابها: ذوات الأسباب لا تعرف إلاّ بأسبابها(33)، فمن المتيقن ـ طبقاً لهذه القاعدة ـ أنّ أميرالمؤمنين (ع) قد شاهد شعاع الوحي الإلهي.

إضافة الى هذا الدليل العام، ثمّة دليل خاص يمكن الإشارة إليه إجمالاً، فقد قال أمير المؤمنين (ع) في هذا الخصوص: ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الاسلام غير رسول الله (ص) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نـزل الوحي عليه (ص)، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته. إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبي ولكنك لوزير وانّك لعلى خير(34).

يمكن استنباط الكثير من الأمور من هذا النص العلَوي القصير، نكتفي بذكر بعضها:

1 ـ إن الوحي والرسالة موجودان نوريان، ولهما نور معنوي يمكن مشاهدته بالبصيرة.

2 ـ إن للنبوة عطر خاص.

3 ـ كما يُبصر قلب ولي الله، فهو يشمّ أيضاً، أي أنّ لقلب الولي بصر وشمّ، وبالنتيجة فهو يرى ويشمّ.

4 ـ إضافة للرؤية والشم، فإن لقلب الولي سمعاً أيضاً؛ إذ سمع رنّة الشيطان.

5 ـ لقلب الإنسان العارف جميع الكمالات الإمكانية، بلا ترتّب أو تكثّر.

6 ـ إن الدين ونور الوحي والرسالة واستشمام رائحة النبوة، وسماع رنّة الشيطان هي من خصوصيات مقام الولاية، ولا تختصّ بصاحب الرسالة التشريعية فقط.

7 ـ إن علي بن أبي طالب (ع) الذي يتمتّع بجميع الكمالات الوجودية المذكورة، يفتقد إلى منزلة النبوة والرسالة التشريعية، وله منزلة الوزارة للرسول (ص).

8 ـ إيمان علي بن أبي طالب (ع) بالوحي والرسالة والنبوة هو من سنخ الإيمان بالشهادة وليس الإيمان بالغيب، مثلما هو إيمان النبي (ص)؛ اذ هو من قبيل الإيمان بالشهادة لا الايمان بالغيب؛ لأنّ الوحي والملَك الذي حمل اليه الوحي وسائر المآثر الغيبية نـزلت على قلبه المطهر: ]نزلَ بهِ الروحُ الأمينُ على قلبك لتكونَ من المنذَرين[ [الشعراء/193]؛ فالمعارف التي نزلت على قلبه الطاهر (ص)، إنّما هي معارف مشهودة وليست غائبة عنه (ص)، وإيمانه بها هو من سنخ الإيمان بالشهادة. أمّا الإيمان المشترك الذي وصف به النبي (ص) وسائر المؤمنين فيراد به المعنى الجامع بين الغيب والشهادة، ولا يُقصد به الإيمان بالغيب حصراً.

7 ـ مشاهدة الملائكة

يمكن أن نسوق البرهانين السابقين لإثبات أنّ إيمان علي بن أبي طالب (ع) بالملائكة وشهوده لها هو من سنخ الإيمان بالشهادة، وليس من سنخ الإيمان بالغيب:

الأول: إنّ رؤية الله بالبصيرة وحقيقة الإيمان تستلزمان شهود المظاهر الإلهية،لأن العلم بالسبّب يؤدي إلى العلم بالمسبب، سواءٌ بيّنا هذا الموضوع وفق نظام العلّة والمعلول ـ حسب اصطلاحي الحكمة والكلام ـ أم وضّحناه على قاعدة الظهور والتشؤن والتجلي بالأسماء والصفات ـ حسب اصطلاح العرفان ـ، ذلك أن العلم بالمصدر والظاهر هو سبب للعلم بالصادر والمظهر، وقد تطرّقنا إلى تفصيل ذلك في ما سلف من البحث.

أما الثاني: فقوله (ع) في كيفة غُسل النبي (ص): … ولقد وليت غسله (ص) والملائكة أعواني فضجّت الدار والأفنية، ملأ يهبط وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه، حتى واريناه في ضريحه(35).

يمكن أن نستظهر مواضيع عديدة من هذا الحديث القصير:

1 ـ علم علي بن أبي طالب (ع) بمعارف الملائكة.

2 ـ ضجّت الدار والأفنية بأنين الملائكة وبكائهم، رغم أنّ الآخرين أيضاً ضجوا لوفاته (ص).

3 ـ شارك الكثير من الملائكة في تجهيز الرسول (ص) وغسله، فمنهم هابط ومنهم صاعد.

4 ـ شارك الملائكة في الصلاة علىجنازة النبي (ص).

5 ـ إنه (ع) كان يسمع الأصوات الخفية للملائكة وهم يصلّون ويسلّمون على النبي (ص)، وما فارقت سمعه هذه الأصوات حتى دفن (ص).

عليه، فقد شهد علي بن أبي طالب (ع) الملائكة وهي تشارك في تجهيز رسول الله (ص)، كما شهد هبوطها وعروجها، ومساعدتها في الغسل ومشاركتها في الصلاة وسمع ضجيجها عليه (ص). ولهذا فإنّ إيمانه (ع) بالملائكة هو من سنخ الإيمان بالشهادة لا بالغيب.

8 ـ العلم الشهودي بالمعارف الدينية

إضافة إلى البرهان العلمي، يمكن الاستدلال على أنّ علم علي بن أبي طالب(ع) بما أنزل الله على نبيه (ص) هو علم شهودي وليس حصولياً من دون أن يتخلله أي شك في هذه الكلمة القصيرة التي وردت عنه (ع) حينما قال: ما شككت في الحقّ مذ أريته(36) أو تردُّد أزاءها. إذ يمكن أن نستنتج من هذه العبارة ما يأتي:

1 ـ ان علم علي بن أبي طالب (ع) هو من سنخ الرؤية القلبية، وليس الرواية النقلية أو الدراية العقلية، وتعليمه من باب البيان وليس النقل والحكاية أو العقل والدراية.

2 ـ لمّا كانت هذه الرؤية صادرة من القلب وليس من القالب، وكانت رسالة القلب لا العين، فإنها منزَّهة عن صفة الطبيعة ومتصفة بالوجود الجمعي والتجرّدي.

3 ـ المتّصف بالتجرد التام ـ كالذي يناله إنسان كامل مثل أمير المؤمنين (ع) ـ هو فوق الوسوسة والإغواء والضلال والزلّة والنسيان وما إلى ذلك، ولهذا لا يجد الشيطان طريقه إلى هذه المساحة التي تعدّ منطقة فراغ عند المخلَصين؛ لأنه تعالى جعلها حرماً آمناً، ولم يجعل للشيطان إليها سبيلاً. وهو ما أقرّ به الشيطان نفسه: ]إلاّ عبادكَ منهم المخلصين[ [الحجر/40]؛ فحينما لا يجد إبليس وجنوده طريقاً إلى هذه المنطقة المحمية، فلن تجد فيها باطلاً وكذباً وزوراً وغروراً وفرية ومغالطة، لأنّ المغالطة بأشكالها هي من إيحاء الشيطان: ]إنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم[  [الأنفال/121].

4 ـ المساحة التي لا يتحرك فيها إلاّ الحقّ والصدق لن يدخلها الشك؛ لأنّ الشك يظهر عندما يتنافس في تلك المساحة أمران، بحيث يتردّد الفرد في تنفيذ أيّ منهما، أمّا حينما ينفرد الشيء في تلك المساحة، فإنّ الفرد سيستيقن أنّ ما يدركه هو من ذلك الشيء لا سواه. ولمّا كان الباطل لا يجد طريقاً إلى مقام الإخلاص المحض، فإنّ الشك العلمي أو التَّردُّد العملي لن يتسرّب إليه مطلقاً، ولن تجد في تلك المساحة إلاّ الجزم العلمي أو العزم العملي.

لهذا كان علي بن أبي طالب (ع) صاحب جزم علمي (شهودي) في إدراك الحق، وصاحب عزم عملي (إخلاص) في العمل به، من دون أن تتحول أو تتغير فيه هذه الحالة؛ لأنّه من المستحيل على المعصوم التحول من الحق إلى الباطل ومن الصدق الى الكذب ومن الشهود إلى الاشتباه.

وأخيراً، من المفيد الإشارة إلى أنّه إذا لم يَرد ظهور في العلم الشهودي لعلي بن أبي طالب (ع) في الأحاديث الواردة عنه وعن المعصومينo، فإنها تفيد بالتأكيد في تأييد هذا الأمر، كقوله (ع): إني لعلى بيّنة من ربّي ومنهاج من نبيي وإنّي لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطاً(37).

فـالبينة والطريق الواضح مصطلحان يعبّران عن العلم الشهودي له (ع)، كما يعبّر عن ذلك قوله لابنته اُم كلثوم لمّا حضرته الوفاة: يا بنية لا تبكينّ فوالله لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت … أرى ملائكة السماء والنبيين بعضهم في أثر بعض وقوفاً إلى أن يتلقوني، وهذا أخي محمد رسول الله (ص) جالس عندي…(38).

 

الهوامش:

 


(*) فيلسوف إيراني معاصر. ترجمة عباس الأسدي

(1) من لا يحضره الفقيه: 4: 378، ح. 5788.

(2) زبدة الحقائق، عين القضاة الهمداني: 27 و28، مع التلخيص.

(3) جامع الأسرار: 485.

(4) جامع الأسرار: 472 ـ 480.

(5) المولوي، فيه ما فيه: 228.

(6) بحار الانوار 25: 204.

(7) نور الثقلين: 523، ح. 2، ح211 و217.

(8) نور الثقلين: 54، ح. 2، ح. 328 و329.

(9) الخصال للصدوق: 31.

(10)  مختصر بصائر الدرجات: 125، مناقب ابن شهرآشوب 3: 267، إرشاد القلوب: 209.

(11) مناقب الخوارزمي: 148 و174.

(12)  نهج البلاغة: الرسالة 28، الفقرة 10.

(13)  ينابيع المودة 1: 214، ح. 5.

(14)  بحار الانوار 82: 199.

(15)  توحيد الصدوق: 164، ح. 1.

(16) بصائر الدرجات: 220، ح2.

(17) راجع: التسنيم، ج3، ذيل الآية 30 من سورة البقرة.

(18) أمالي الشيخ الطوسي: 205، ح. 351.

(19) نهج البلاغة: الخطبة 109، الفقرة 7.

(20) توحيد الصدوق: 164، ح. 1.

(21) الإقبال 2: 278.

(22) مناقب الخوارزمي: 87، ح. 77.

(23) تفسير القمي 2: 212، ينابيع المودة 1: 230.

(24) الغرر والدرر للآمدي: ح. 1674.

(25) المصدر نفسه، ح. 7999.

(26) الكافي1: 138، نهج البلاغة: الخطبة 179.

(27) نهج البلاغة: الخطبة 155، الفقرة 2.

(28) الأسفار 1: 26.

(29) الغرر والدرر: ح. 540.

(30) نهج البلاغة: الخطبة 189.

(31) الكافي 8: 163 و173.

(32) بحار الانوار 40: 153.

(33)  الأسفار 1: 26.

(34) نهج البلاغة، الخطبة 192.

(35) نهج البلاغة: الخطبة 197.

(36) المصدر نفسه، الخطبة 4.

(37) المصدر نفسه، الخطبة 97.

(38) بحار الأنوار 42، 201 و202.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً