أحدث المقالات

وفق منهج القراءة الأركونية

قراءةٌ نقدية

د. رياض محمد علي الشواي(*)

مقدّمة

في العصر الراهن تعدَّدت الرؤى والمشارب الفكرية في تجليات الحداثة وما بعد الحداثة، مما أحدث تحولات جذرية وآثاراً مهمة في فهم الدين وعلاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى؛ بسبب التحولات الفكرية في أوساط المتنورين والمفكرين. إن ما يميِّز العالم الجديد هو التنوع الفكري، والنماذج المتغيِّرة تبعاً لتغيُّر جغرافيا الأفكار ومدى انتشارها، ممّا يستتبع تغيُّرات على مستوى الأحكام الشرعية الناتجة عن فهم الشريعة وعن القراءة في عالم متغير.

ويعتبر القرآن والسنّة هما المصدران الرئيسان للتشريع واستنباط الأحكام الشرعية([1]). وهنا هل النص القرآني يخضع لمفهوم العصرنة أم التغريب؟ يفرِّق برنارد لويس بين مفهومي العصرنة والتغريب، فيرى أن الأخذ بمظاهر العصر الحديث يطلق عليه مصطلح (عصرنة)، أما إذا تمّ الأخذ بالجوانب الثقافية فيطلق عليه مصطلح (تغريب)، في إشارة إلى العناصر الثقافية المتضمنة للعقلانية والاختلافات الاجتماعية لهذه الثقافة([2]).

ومن أهم أولئك المتنورين المفكِّر الجزائري محمد أركون، أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة السوربون، الذي حاول إعادة النظر في تفاسير وشروحات النصّ المقدّس بشكلٍ عام، والنصّ القرآني بشكلٍ خاص، مرتكزاً مشروعه على مناهج حديثة، كعلم النفس والألسنيات والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وعلم التاريخ، حيث اهتمّ بنقد وتفكيك الخطاب الديني كنتاج أبستمولوجي كنتيجة لتلك التحوُّلات الفكرية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفية، منتقداً الدراسات الإسلامية التقليدية، وداعياً لإعادة قراءة التراث الإسلامي ـ بما فيه النصّ القرآني ـ وفق مناهج وآليات ومشروعات فكرية خاصة بها، من أهمّها: مشروع (اللامفكَّر فيه) ومشروع (الإسلاميات التطبيقية). ووجَّه نقده إلى الفقهاء في ممارستهم للاجتهاد بطرائق تقليدية، داعياً إلى توظيف علم الاجتماع وعلم النفس والفينومونولوجيا والإنثروبولوجيا واللسانيات والسوسيولوجيا والتفكيك التاريخي في دراسة النصّ القرآني، داعياً بلورتها كأحكام شرعية مختلفة عن الأحكام المبنيّة على قراءات قديمة، أُنتجت بوسائل وأدوات لا تواكب التطوُّر الفكري.

مدخل إلى فقه القرآن

تترادف المفردات التي تتعلّق بفقه القرآن، فيطلق عليه «الفقه القرآني أو فقه القرآن، أو فقه آيات الأحكام أو أحكام القرآن»([3]). ويرى حبُّ الله أنها مترادفات لفقهٍ يتّخذ من النصّ القرآني موضوعاً لاستنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم. وهنا يحتاج الفقه القرآني إلى خبرةٍ تفسيرية؛ وأخرى فقهية، تقوم بالاجتهاد في آيات الأحكام لإنتاج فقه قرآني مختصّ بدراسة آيات الأحكام. فما يتوصل إليه الفقه ليس نهائياً، بل يشترك فيه العقل ببحثٍ فقهي وبنيةٍ اجتهادية ترافق عملية الاستنباط الشرعي، ولا يكتفى بدراسة النصّ القرآني بعيداً عن العقلانية([4]).

وتعرَّف آيات الأحكام بأنها «كلّ آية أمكن للمجتهد (الأصولي والفقيه) أن يستعين بها أو كان يترقَّب أن يستعين بها في التوصُّل إلى حكمٍ شرعي إلهي أو إلى مقدّمة لحكم شرعي أو نقطة تتصل بفهم أو إثبات حكم شرعي إلهي، سواء كان ذلك كلّه بطريق مباشر أم غير مباشر»([5]). ويدعو حبُّ الله إلى إيجاد بحوث متخصّصة وفق نظام الدورات الفقهية الكاملة أو شبه الكاملة، منتقداً ضعف العمق البحثي التقليدي بالنظر إلى اتّساع الفقه وحاجة التأليف إلى موضوعات بشكلٍ محدَّث، مقترحاً أن يراعي البحث الفقهي الأساس الموضوعي والبعد التاريخي النزولي للآيات في فقه القرآن، بشكلٍ ييسِّر عملية فهم القرآن الكريم، ولتكون قدرة الفقيه أكبر وأدق في استنباط الأحكام الشرعية. وإن اعتبار فهم القرآن غير ممكن، ولا يعرفه إلاّ الله والمعصوم، سيجعل فقه القرآن مستحيلاً([6]). ووفقاً لآراء حبّ الله حين نستعرض أفكار محمد أركون ـ المتأتية لاحقاً في هذا البحث ـ فهناك ما هو مقبولٌ في أفكار أركون؛ وهناك ما يرفض تماماً.

المثقفون والتحديث الفقهي

يحاول الحداثيون والعلمانيون تجريد الدين والشريعة من القداسة، وإبرازه كظاهرة دينية، وربطه بالمادّيات برؤى أيديولوجية؛ في حين يعتبر الإسلاميون المتدينون أن الفقه والشريعة ذات قدسية، وأن أحكامها الفقهية قادرة على إدارة شؤون الحياة، وهي ذات مصالح خفيّة ينبغي التعبُّد بها للحصول على مردودٍ دنيوي وأخروي؛ بينما يعتقد المثقفون بإدراك العلة من كلّ ما يقومون به؛ فإنْ اقتنعوا به قاموا بأدائه والعمل به؛ وإنْ لم يقتنعوا به في حدود العقل أو بإدراكه بالتجربة الحسّية والبشرية لم يتمّ العمل به، وخاصّةً حين يتم القول بدنيوية الفقه واعتباره أمراً عقلائياً أرضياً بشرياً تماماً، أما الأمر الأخروي والغيبي فهو محاطٌ بهالة من الأسرار، سواء أُدركت الحكمة من تحريمه أو حليته أم لا. وهذا مثار جدل كبير وإشكال في الأوساط الثقافية. الإشكال يكمن في مدى خضوع الأحكام الفقهية للقدرات العقلية المستنبطة من القرآن والسنّة، ومدى وضوح دَوْر العقل والجهد العقلي بمجرّداته في التوصل إلى الأحكام وإدراك المنافع والمفاسد.

إن غموض مفهوم الدنيوية ينطوي على مجموعة من الأبعاد، منها: أن يعتبر الدين أعمق من الفقه حين يستهدف جوهر وروح الإنسان. فرسالة الدين الظاهرية والسطحية تظهر في الأحكام الفقهية، وبالتالي يتصف ويصبغ بالدنيوية؛ لكونه ظاهراً وسطحياً. أما الجوانب الباطنية فتعطي معرفة وفهماً أعمق للدين، بحيث يعطي الفقه نضجاً روحياً. نشأ في تلك الفكرة تيّارٌ يرى بأن الفقه لا توجد فيه أيّ مصالح أخروية، وإنما أوجد فقط من أجل جعل الحياة يسيرة ذات أبعاد دنيوية تنظيمية؛ في حين يرى آخرون أن الفقه قادرٌ على تنظيم شؤون الحياة في عباداته ومعاملاته، وفي الوقت ذاته ينطوي على مردود أخروي، وإنْ لم يطبق الفقه يستحقّ الإنسان على تركه عقاباً أخروياً([7]).

مفهوم النصّ الديني عند أركون

يقسم أركون النصّ الديني إلى قسمين أساسين، هما:

النصّ الأوّلي، ويطلق عليه أيضاً: النصّ الأصلي، وهو القرآن. وهو نصٌّ مغلق غير خاضع لأيّ نقاش، فهو نصٌّ مطلق الفهم يحتاج إلى تفسير. وقد تشكلّت أزمة جديدة هي وجود تفاسير تقليدية لهذا النصّ. في حين يرى بأن النصّ القرآني نصٌّ متشعب يحتاج إلى تفاسير متعدّدة، حيث إن الإشكال يقع في غلق النصّ بهذا التفسير. كما يكتسب النصّ التفسيري أيضاً صفة القداسة، كما هو الحال في النصّ الأصلي المؤسّس، وهو القرآن.

أما النوع الآخر من النصوص فهي النصوص الفرعية، كالحديث النبوي، الذي يضيف معنىً إلى المعنى الأصلي للنصّ.

تعريف محمد أركون للقرآن

القرآن لغةً مشتقّ من مصدر الفعل قرأ. وهذه التسمية تدلّ على معنى التلاوة. ولا يفترض وجود نصّ مكتوب من قبل النبيّ محمد|([8]). فهو خطاب مسموع، لا مقروء، أي إن النبي محمد سلَّم هذا النصّ مسموعاً. وبالتالي يستخدم له مصطلح الخطاب القرآني، للتعبير عن القرآن في وضعه الشفوي قبل عملية التدوين، التي لم تحصل ـ حَسْب رأي أركون ـ إلاّ في عهد الخليفة عثمان بن عفان([9]). في حين أن التدوين كما تشير كثيرٌ من المصادر بدأ في عهد الرسول|، وجُمع في عهد الخليفة الأول أبو بكر في مصحفٍ واحد. فعندما دُوِّن أصبح نصّاً مكتوباً، يطلق عليه مصطلح (نصّ قرآني).

إذن هناك مستويان في كلام الله حَسْب وجهة نظر أركون، هما: كلام الله المطلق، وكلام الله النسبي. والكلام المطلق هو النصّ الشفهي المسموع؛ أما النصّ المكتوب فهو كلامٌ نسبي.

الكلام المطلق هو كلام الله الذي لا ينفذ، وجاء على هيئة الوحي الذي نزل على الرسول| بشكلٍ متقطع، وهو جزءٌ من كتاب آخر، وهو اللوح المحفوظ، أو ما يسميه أركون أيضاً بـ (أمّ الكتاب)، الذي يحتوي كلام الله بمجهولات وأسرار، ولا يمكن الوصول إليه، وهو النموذج المثالي([10]): «فكلام الله لا ينفذ، ولا يمكن استنفاذه، ونحن لا نعرفه بكليته؛ فأنواع الوحي التي أوحيت بالتتالي إلى موسى وأنبياء التوراة، ثم إلى عيسى، وأخيراً إلى محمد، ليست إلا أجزاء متقطعة من كلام الله الكلّي، ونظرية الكتاب السماوي التي نجهلها ليست إلاّ رمزاً للقول بأن هناك كتاباً آخر يحتوي على كليانية كلام الله (أمّ الكتاب)»([11]).

وأما الكلام النسبي فهو تجسُّد كلام الله في لغةٍ بشرية هي اللغة العربية، وهو الموجود على الورق في مجلّد يسمّى بالمصحف([12])، وهو (المدونة الرسمية المغلقة)([13]).

التفسير عند أركون

يرى أركون أن هناك مشكلات في التفسير الكلاسيكي للنص القرآني، كما هو الحال في تفسير النصوص الأرثوذوكسية التي تعطي النصّ التفسيري طابع القداسة([14]). وقد وصف أركون النص التفسيري بالأرثوذوكسي؛ سعياً منه لتحرير النصّ الثاني ـ أي النصّ التفسيري ـ من صفة القداسة، كما جرى على النصوص التفسيرية الأرثوذوكسية، التي كانت تعطى صفة القداسة، حيث يخضع النصّ التفسيري إلى مسلَّمات لاهوتية قروسطية([15])، في إشارة إلى إعطاء الوصاية وحصر فهم النصّ القرآني في فئةٍ معينة، لديها وحدها القدرة على فهم الإسلام، وهي الفئة التي تحتكر تبيين الرسالة الإسلامية من منظورها، فيعيش المجتمع الإسلامي تحت وصاية فهمها. وهذه الوصاية هي نفسها الوصاية التي مورست في المسيحية، والتي تمّ التحرُّر من ربقتها بعد عمليات الإصلاح الديني في أوروبا بالثورة على مبادئ الكنيسة وسطوة رجال الدين.

إن المفسِّرين قاموا بتفسير القرآن تفسيراً كلاسيكياً قديماً، واضعين للقرآن قوالب جامدة([16])؛ حيث إن أدوات التفسير وفهم النصّ لديهم يجب أن تستمدّ من فهمهم لألسنية النصّ والقراءة بمنطق العلوم في عصرهم([17]). ويرى أركون أن هذه التفسيرات نابعةٌ من التراث الفكري لكلّ مذهب من المذاهب الإسلامية([18])، فهي سياقات ثقافية تعدّدت فيها القراءات والروايات([19]).

إن عدم موافقة أركون لقراءة الخطاب القرآني بطريقة التفسير الكلاسيكي تعتبر بمثابة دعوة إلى عدم الاستفادة من التفسيرات، على الرغم من أنه يشيد ببعض المفسِّرين، كالفخر الرازي، إلا أنه يأخذ بعين الاعتبار مسألة التفسير والقطيعة الحاصلة في مجال المعرفة البشرية([20]).

إن النظر إلى نوعٍ واحد من أنواع تفسيرات وتأويلات القرآن يعتبر نظرةً غير صائبة؛ فهناك مذاهب ومدارس ذات انتماءات وأساليب تفسيرية ومذهبية. فكلّ مذهبٍ من المذاهب يفسِّر القرآن وفق قناعاته المذهبية للتفسير واستنباط الأحكام الشرعية منه، كالتفسير الباطني والرمزي لدى الإسماعيليين، والتفسير الظاهري والباطني اعتماداً على روايات أهل البيت عند الشيعة، والمدارس العقلية للأشاعرة والمعتزلة. وقد تلوَّن كلّ مفسِّر من المفسرين حسب انتماءاته التفسيرية. ولكلّ مفسِّر مشربه ومذاقه الخاص. وقد تنوعت الاتجاهات الأدبية بمختلف اتجاهاتها الفقهية أو الفلسفية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو التاريخية أو العلمية([21]).

إن رفض أركون لمناهج الأقدمين؛ لمجرَّد كونه قديماً، أمرٌ غير صائب، وغير علمي، وغير منهجي؛ فقد دلت بعض الدراسات اللسانية الحديثة على تقاربٍ بين علم أصول الفقه وبين المنتجات الحديثة للسانيات التداولية. وقد قدَّم محمد محمد يونس علي بحثاً في منهجية أصول الفقه كعلمٍ إسلامي حائز على كلّ الشروط الضرورية لوصفه بالعلمية من منظور لساني، متوصلاً إلى نتيجة تدلِّل على القدرة والعبقرية التخاطبية التي اهتدى إليها العقل الإسلامي منذ بداياته الأولى([22]).

القراءة الحداثية للقرآن عند أركون

يرى محمد أركون أن المقدَّس لدى المسيحيين هو المسيح نفسه، وهو يعتبر طبيعة فوق بشرية، حيث تجسَّد فيه الأب، وروح القدس، وكلمة الله، أي إن الله قد تجسد في طبيعة بشرية، وهو المسيح×. أما عند المسلمين فالنبي محمد| ما هو إلاّ بشر لا يعطى صفة القداسة كالتي أعطيت للمسيح. فما يعادل المسيح عند المسلمين هو القرآن. وفي الواقع إن القرآن هو نصٌّ سماوي كنصّ الإنجيل والتوراة من قبله، وقد خضعا للنقد والتحليل والتفكيك، فما المانع من أن يشمل هذا النقد القرآن باعتباره نصّاً أُنتج بصورةٍ بشرية، مثله مثل التوراة والإنجيل، على الرغم من كونه ـ أي القرآن ـ مدوَّنة نصّية مغلقة، غير خاضع للتغيير والتبديل أو إعادة الإنتاج؟!

هذا النصّ القرآني، أو المدوَّنة المغلقة، تمّ تسييجه بسياج دوغمائي، وهو غير خاضع للنقد عند المسلمين، رغم كونه نصّاً تاريخياً ينبغي أن يدرس وينقد تاريخياً، وأحكامه وثقافته في زمكان النصّ يجب أن تخضع إلى رؤيةٍ ومنهجية إنثروبولوجية في دراسته. ويمكن إعادة قراءة القرآن بمقتضيات الثقافة التي أنتج بها، فهو مجموعة نصّية، مثله مثل أيّ نصّ بشري تمّ إنتاجه في إطارٍ ثقافي خاصّ به، يدرس بمنهج إنثروبولوجي.

ويستعين أركون بمناهج غربية حداثية، منها: المنهج الإنثروبولوجي، في عمليات التفكيك والدراسة والنقد، كما درس الإنجيل والمسيحية بها مسبقاً. أركون يسعى إلى أن يسقط على القرآن والإسلام وما يتعلق به من خصوصيات تطبيقاً عامّاً لما جرى من أحداث وأوضاع كنسية وحروب دعت إلى تحرير الإنسان الغربي من الوصاية الدينية، وقد مورست من قبل رجال الدين والكنيسة، بالدعوة إلى استخدام العقل وعقلنة الدين والتدين. في حين أن الإسلام دينٌ لا يتعارض مع العلم، فقد صنع للمسلمين تاريخاً مشرفاً، ونهض بالأمة العربية والإسلامية علمياً وثقافياً وفكرياً.

يدعو أركون لقراءة القرآن بمنهج فيللولوجي من خلال علم الألسنيات، حيث إن القرآن الكريم قد كتب بلغةٍ بشرية. فعندما يصبح القرآن نصّاً لغوياً كتب باللغة العربية بعد ترجمته من خطاب شفهي إلى نصّ مكتوب، معتمداً على ذاكرة البشر، يمكن إخضاعه إلى التحليل الألسني؛ انطلاقاً من كونه ظهر باللغة العربية. ويرى أركون أن القرآن يعتمد على اللغة العربية لأنه مكوَّن من حروف وكلمات وتراكيب لغوية نزلت في قريش بلغة زمكان محدّد، وبلغة أرضية، وإنْ كانت اللغة تعبِّر عما يريده الله. وهو يقترب من فهم النصّ القرآني لغوياً؛ إذ أوجد مقاربةً لفهم العربي لزمن النصّ بظهور ذاتي رهين بمدى القرب في عصر النصّ وفضائه التاريخي. فبالبعد عن عصر النصّ ينبغي الظهور للنصّ بظهور ذاتي([23]) أو ظهور موضوعي([24]) لزمكان النصّ. وهذا المعنى يشير له أيضاً حبّ الله في مقالته المدخل إلى الفقه القرآني([25]). والحاجة هنا أيضاً للتفكيك التاريخي؛ لكونه قد نزل في زمكان معين، وينبغي أن يخضع للنقد، شأنه شأن الرسالات السماوية السابقة، وهما: التوراة والإنجيل، اللذان خضعا للنقد، ولم يعطيا صفة القداسة.

إن التطوُّر اللغوي واستخدامات اللغة في الوقت الراهن تفضي بالضرورة إلى وجود تغييرات في فهم النصّ بمرور الزمن. وبالتالي لا بُدَّ من وجود آليات للسعي إلى التطابق الفعلي والواقعي مع ذلك العصر، بأبعاد اللغة المستخدمة([26]) ومفرداتها وذوقها الأدبي والفنّي والجمالي بثقافة العربي ونمط المعيشة، لتَمَثُّل نمط التعايش مع النصّ. فاستعمال العربي مثلاً لمفردة ثياب تختلف دلالاتها واستعمالاتها اللغوية لدينا؛ ففي زمن النصّ تعني القلب وإرادة القلب في لغة العرب، والنصّ القرآني يقول: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ (المدَّثر: 4)، فالدلالة هنا مرتبطةٌ بالقلب. وحين يخاطب النصّ القرآني أبا لهب في قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ (المسد: 1)، كيف كان المسلمون الأوائل يقرؤونها؟ وكيف هو وقعها زمكانياً؟ وهل الشخص في مأمنٍ، وهو يقرأ تلك الآيات، من دلالة النصّ الوجدانية وفهم الآخر لهذا النصّ، وإحساسه الداخلي به، وبالتالي يجب استظهار اللغة بدلالاتها الوجدانية وسياقاتها مع جميع القرائن والشواهد ببنية فيلولوجية وزمكانية.

يستعين أركون بالمبادئ اللاهوتية، ويرى عدم وجود وحدة نصية في كثير من سور القرآن الكريم، كما هو الحال في قراءته لسورة الكهف. فعلى الرغم من أنه يرى وجود هذه الوحدة موجودة في سورة البقرة، رغم طولها، إلاّ أنه لا يراها في سورة الكهف. فحَسْب نظرة أركون بدأت السورة مدنية في أوّل ثماني آيات منها، ثم جاءت موضوعاتها متعلقة بنهاية الفترة المكّية. وهنا يبدو أنه قد تأثَّر بمقالات المستشرق نولدكه. ثم يقرأ آيات سورة الكهف من الآية 9 إلى 25، التي تتحدّث عن قصة أصحاب الكهف، التي يرى أنها مقتبسة ومنقولة عن المخيال الثقافي والموروث للشرق القديم([27])، التي رُبَما نقلها ـ أي أركون ـ عن المستشرق الفرنسي بلاشير، ويقول: «إن أساطير جلجامش والإسكندر الكبير والسبعة النائمين في الكهف تجد لها أصداء واضحة في القرآن»([28])، فهي دعوى استشراقية أقيمت وأشكلت على القرآن.

ويرى أن الآيات في سورة الكهف من الآية 27 حتّى الآية 59 لا علاقة لها بقصة الكهف، وبقصة النبي موسى والخضر، وعزّزت بثلاث عشرة آية حول الرجل الذي له جنتان من أعناب. ثم يقول بأن السورة من الآية 99 حتّى الآية 110 مختومةٌ بخطابٍ تبشيري مكرّر للمؤمنين والكافرين والجنة والنار. والجدير بالذكر أن أركون يشير إلى وجود شذوذ لغويّ في سورة الكهف في كلمة (سنين).

هناك من المفسِّرين مَنْ تحدَّث عن التناسب والوحدة الموضوعية للقرآن والنظم الموجود في القرآن الكريم، وأثبتوا هذا التناسب. ومن السور التي تعرض لها الرازي سورة الكهف، التي ينبغي لأركون أن يناقش ما كتبه الرازي حولها؛ فالرازي لم يتحدث فقط عن الوحدة داخل السورة، بل أوجد الروابط بين سورة الكهف وما سبقها، وهي سورة الإسراء، وما تلاها، وهي سورة مريم([29]).

ويردّ دعوى أركون بعدم وجود اتصال بين مقاطع السورة أنه في المقطع الأول مثلاً أداة (أم) في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ﴾ (الكهف: 9)، وهي تدلّ على وجود علاقة مع الجزء السابق، من البديل التناوبي المعدوم في الواقع، وقد قال الرازي: «اعلم أن القوم تعجّبوا من قصة أصحاب الكهف، فسألوا عنها على سبيل الامتحان، فقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً﴾»([30]).

وفي الآية 27 يقول الرازي: «اعلم أنه من هذه الآية إلى قصة موسى والخضر كلام واحد في قصة واحدة»([31])، وهذا يدل على أن قصة موسى والخضر مشمولة بهذا الكلام الواحد. ويقول الرازي: «وإن كان كلاماً مستقلاًّ في نفسه، إلاّ أنه يعين على ما هو المقصود في القصتين السابقتين»([32]). وختم الرازي استدلالاته على الروابط في السورة بالمقطع الأخيرة للسورة؛ ليعزز آخرها أولها بقوله: «اعلم أن الله تعالى لما ذكر في السورة أنواع الدلائل والبينات، وشرح أقاصيص الأولين، نبَّه على كمال حال القرآن، فقال: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ (الكهف: 109)»([33]).

قدّم أركون قراءةً تحليلية لسورة الفاتحة أيضاً، إضافة إلى قراءته لسورة الكهف، وبحوثه حول القصص في القرآن الكريم في ضوء سورة الكهف. يدعو أركون إلى قراءة القرآن قراءة علمية بمقاسات جديدة، تستبدل المناهج القديمة بمناهج أخرى حديثة، بإعادة قراءة مناهج الأقدمين؛ لكونها قراءات أنتجت في زمان ومكان وبيئة ثقافية وفكرية محدّدة، لها ميزاتها الثقافية والسياسية. هذا الإنتاج الثقافي الذي يدعو له أركون جاء من منطلق عدم وجود علمٍ قائم كامل وصالح لكل زمان ومكان، فلا بُدَّ من استبدالها بقراءاتٍ منهجية تعتمد على مفهوم التجديد. فالمفسّرون القدماء، كالطبري والسيوطي، اعتمدوا أدوات وأساليب قديمة، ولا بُدَّ أن تكون القراءة وفق معطيات التقدُّم العلمي والتقني والواقع المتطوّر الذي تعيشه العلوم في مختلف نواحي الحياة. ويشاطره هذا الرأي المفكِّر علي حرب، الذي يثني على أركون بقوله: «إن قدرة القرآن التأويلية لا يمكن أن تنفد، فهو نصٌّ مفتوح، وكلام لا يتوقّف عن توليد المعنى، وهو أمرٌ يُعَدّ إعجازاً نصّياً»([34]).

في ما يتعلق بالنص القرآني والوحدة القرائية أشكل أركون على المفسِّرين بأنهم جعلوا الروايات الواهية والإسرائيليات بمنزلة النصّ القرآني، بدلالة وجود أسماء أهل الكهف بمسمّياتهم الإغريقية وكهفهم وكلبهم وقريتهم ومدينتهم، مما يستدعي غربلة هذا التراث، بوصفه للتفسير الإسلامي التقليدي بأنه «تاريخوي علموي، بل وحتّى مادي»([35]).

وفي دعوى أن هناك خلفية استشراقية بأن القرآن ذو طابعٍ بشري، وليس إلهياً، وخاصة أنه يُشكل على القرآن كما يشكل على المستشرقين بأن قصص القرآن مأخوذةٌ أصلاً من التوراة، وأخرى من الإنجيل، إضافةً إلى المخيال الثقافي والبيئة المحيطة، فلا غَرْوَ بأن يقول أركون ذلك متأثِّراً بنظرية أستاذه فلهاوزن الخاصة بتعدّد المصادر في الكتب المقدسة، ونظرية المستشرق الألماني نولدكه الخاصّة بالترتيب الزمني لسور القرآن الكريم.

وليس هاهنا مقامٌ للردّ على هذه الشبهات الاستشراقية، فقد رُدَّ عليها بالتفصيل في مواضع متعددة، وتبين زيفها وبطلان ادّعاءاتها. كان واضحاً تبني أركون لمواقف المستشرقين، حيث تتلمذ على يدهم، مما أثَّر في تكوين الخلفية الفكرية لأركون، على الرغم من انتقاده لهم ولدراستهم للإسلام.

الإسلاميات التطبيقية

استطاع محمد أركون أن يقدّم مشروعه الفكري انطلاقاً من فهمه العميق للمعارف والعلوم الحديثة النظرية، فحاول أن يكوِّن لها واقعاً عملياً، ويطبِّقها كمناهج حديثة على القرآن الكريم والنصّ القرآني، بآليات ومنهجيات غير منفكَّة عن كونها غربية معاصرة، تصلح أن تطبق على النصّ المقدس في الإنجيل أو التوراة بالدرجة الأولى. وقد حاول أن يُوجِد قراءة حداثية للقرآن، تستوعب كل معطيات الحداثة الغربية؛ سعياً إلى إيجاد حلٍّ لإخراج الفكر الإسلامي من حالة الجمود والركود، بإسلاميات تطبيقية، منتقداً العقل الشرعي الأصولي، ومستعيناً بكلّ مستجدّات المجال المعرفي الغربي، بمنهجيات علمية إشكالية، أي على مستوى الإشكال وطرح الأسئلة المحيِّرة.

بحث أركون عن أهمّ الوسائل التي يمكن أن تكشف عن البنية التأويلية الخلاّقة للنصّ القرآني، والتعرف على خصائصه بقراءةٍ جديدة علمية، وتفسير حداثي غير تقليدي موروث من قبل الأقدمين، الذين فسروا النصّ القرآني تبعاً لمعطيات ومنهجيات تقليدية. حاول أركون أن يوجِد مقاربة سيميائية وألسنية، معتمداً على القراءة التاريخية والسوسيولوجية والبنيوية للنصّ القرآني، مستثمراً تلك المناهج التي طُبِّقت مسبقاً في قراءة النصّ المقدَّس على التوراة والإنجيل.

استوحى محمد أركون فكرة الإسلاميات التطبيقية من الإنثروبولوجي الفرنسي روجيه باستيد Roger Bastide بقوله: «استوحينا هذه التسمية من كتاب صغير لروجيه باستيد بعنوان (الإنثروبولوجيا التطبيقية)»([36]). ويعرِّف أركون الإسلاميات التطبيقية بأنها «ممارسة عملية متعدّدة الاختصاصات، وهذا نابعٌ من اهتمامات المعاصرة، فهي تريد أن تكون متضامنة مع حاجات الفكر المعاصر ومخاطره»([37]).

ويُلاحَظ أن أركون يركِّز على جانب الممارسة التطبيقية للفكر المعاصر والمعرفة الحداثية، فجاء التعريف بصورة عملية موضّحاً كيفية العمل بصورة تطبيقية. فما ترمي إليه هذه الإسلامية في مستويات تمتدّ تأثيراتها على الأحكام واستنباط الأحكام الشرعية، وخاصّة عندما يرى أركون بأن «الإسلاميات التطبيقية تنطلق من واقع المسلمين وحاضرهم ومشاكلهم، فبالتالي هي بحاجةٍ إلى ما يتعلَّق بها من تعاليم دينية وأغراض أخرى، كالأغراض السياسية مثلاً، كعاملٍ من عوامل التأثير في الحركة التاريخية الشاملة للمجتمعات»([38]).

جاء مشروع أركون لإسلاميات تطبيقية في إطار نقده للعلوم الكلاسيكية، التي تصف فقط ما هو موجود فقط بشكلٍ أكاديمي، ليخرج من إسلاميات بمفهوم ضيّق نحو مشروع إصلاح إبستمولوجي، عاب فيه على الإسلام الكلاسيكي، وعلى اكتفاء المسلمين بالمدونات الكلاسيكية، وهو ما يطلق عليه أركون اسم الإسلام الأرثوذوكسي، في إشارة إلى البناء الإنساني للإسلام، مشيراً إلى نشأته وتجربته الشخصية في هذا المجال في الجزائر، ومعايشته لهذا الواقع في إطار فهم الإسلام وممارسته لثقافة الاكتفاء بشرح النصّ، وفهم الإسلام كظاهرةٍ دينية، من خلال المؤسّسات الحاكمة التي تشكِّل الوعي الديني والهوية الإسلامية لأتباعها.

ومع وجود الاختلاف الثقافي والعقائدي بين البشر، وهو ما يميز هذه الشعوب، يدعو إلى إعمال مكتسبات العلوم الاجتماعية والإنسانية، وخاصة علم الإنثروبولوجيا، في فهم ما يحصل في العالم الإسلامي بشكلٍ يفسح المجال للمجتمعات المتحرّرة في أن تعبّر عن اختلافاتها العَقْدية، بعيداً عن الإطار الضيّق المحدود للفهم. فتكريس الموقف الأصولي هو احتكار للمجال الديني، في حين أن البحث الإنثروبولوجي والفلسفي ـ في نظر أركون ـ ظلّ بعيداً عن هذه المعركة، فهو ينظر بمنظارٍ أكاديمي يأخذ بعين الاعتبار الرهانات التنويرية للعلوم الإنسانية في تحليل الظاهرة الدينية.

يستخدم أركون العلوم الاجتماعية باعتبارها جزءاً من العلوم الإنسانية، التي يسجِّل فيها ملاحظاته النقدية المقاربة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الدينية. ويحاول أن يناقش الإسلام كظاهرةٍ عامة لها طابعٌ اجتماعي. فبدلاً من التحرك في إطار أكاديمي بَحْت عند الباحثين في الدراسات الاجتماعية يحاول أن يخرق بعض القوانين في هذه الدراسات، بتحويل المنظومة الفكرية إلى مفاهيم علمية بلغةٍ علمية رصينة، يمكنها أن تُخْرِج الإسلام من شرنقة ثنائية الإسلام والمتيافيزيقيا. فالإسلام في نظره لا يزال حبيس ثنائية سبقته، وهي التجربة التوحيدية اليهودية والمسيحية، التي ينبغي الاستفادة منها. وفي ظلّ العلوم الاجتماعية واعتباره علماً استشراقياً تعامل أركون معه على هذا النحو في ظلّ البحوث التي لا تربط بين السلوك التديُّني عند نقد النصّ الديني بشكلٍ علمي رصين.

أراد أركون أن يطبّق إسلاميته التطبيقية، متجاوزاً عيوب مقاربات المستشرقين للظاهرة الدينية التي تتحرك في مستويين، هما: الحدث الإسلامي؛ والظاهرة القرآنية. ويعتبر أن أيّ تفكير لا بُدَّ أن يمرّ في الحدث الإسلامي والقرآني والبنية العمودية للوحي الإسلامي، التي تؤثّر في ظاهرة التديُّن والنفوذ والسلطة. فالخطاب الديني يدرسه أركون في ضوء تاريخيته، بما في ذلك النصّ القرآني.

وبتطبيق الإسلاميات التطبيقية، وما تنطوي عليه من نقدٍ للعقل التشريعي، تتمّ الدعوة إلى التحرُّر مما هو مقدَّس، ورفض وصاية وولاية رجال الدين على الدين، حيث يتعارض الفقه ضمنياً مع المفاهيم الإنثروبولوجية إذا لم تكن هناك لغةٌ مهيئة في ثقافة الفرد([39]). كما يرى أنه قبل ذلك لا بُدَّ من وجود نظرةٍ فلسفية تفكيكية تحليلية، تجعل مسؤولية المثقَّف قراءة الدين قراءة تفكيكية حرّة، ترجمت بـ (تحرير الوعي الإسلامي نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة)، وهو الخروج من القفص العقائدي والسجن الديني واللاهوتي المغلق، بالتحرُّر من الانتماءات الدينية بوعيٍ إسلامي، يتَّخذ من المنهج التفكيكي أسلوباً يخرج به من الانغلاق التاريخي، والانطلاق بحجج واقعية منطقية([40]).

يعتبر أركون أن النصّ القرآني مغلق من حيث إمكانية التغيير والتعديل فيه، ولكنْ هناك نصوصٌ قرآنية وآيات توصف بأنها مغلقة، وأخرى تمثِّل آيات ونصوص منفتحة، كقوله تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 62). فالانفتاح هنا يشمل غير المسلمين. بينما قوله: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران: 85)، هو نصّ مغلق بسياج عقائدي. وبالتالي تتنوع النصوص القرآنية حَسْب وجهة نظر أركون بآيات مغلقة وأخرى مفتوحة. وكذلك يقوم الفقهاء بإغلاق النصّ القرآني ببعض العقائد والأفكار، كفكرة الفرقة الناجية وباقي الملل في النار. وهنا يحاول أركون أن يبلور إيماناً واسعاً يتّسع للجميع، دون (سياج دوغمائي مغلق)، يشمل كل الأديان والمذاهب على أساس نواة أخلاقية كبرى؛ إذ رغم اختلاف العقائد والطقوس فإن جميع المذاهب والأديان تحرّم وتجرّم الكذب والغشّ والسرقة والذبح([41]).

وفي هذا الإطار يرفض محمد أركون أن يطلق على الأديان أهل كتاب، حيث يرى بأن المسلمين لا يشملهم مصطلح (أهل الكتاب). وبالتالي يغيِّر هذا المصطلح إلى مصطلح (مجتمع الكتاب)، ليُدخِل المسلمين ومَنْ معهم من الأديان السماوية تحت مظلّة هذا المصطلح([42]). وهنا لم يكن هذا المصطلح إلاّ لفظة أطلقها أركون لتجمع (أهل الكتاب والمسلمين)، وأراد بها تكوين خطاب يجمعهم. إلاّ أن القبول بهذا اللفظ يتبعه جملة تغييرات جَذْرية مهمة في إطار المفاهيم والمصطلحات الفقهية المتداولة لمصطلح أهل الكتاب، وما يرتبط بها من أحكام فقهية.

يرتبط القرآن بزمكان النصّ، حيث يعتقد بأن محيط وزمان وتاريخ النصّ وظروف النزول لا بُدَّ أن يكون حاضراً لفهم القرآن والسياق التاريخي للقرآن في عصر النزول، وبالتالي تحتاج إلى مدخل تاريخي لفهم النصّ وأسباب النزول بالاعتماد على المنهج التفكيك التاريخي للنصّ القرآني. إذا كان النصّ كتاباً سماوياً لجميع البشر إلى يوم الدين فإذا حبس النصّ برهانات تاريخية يصبح ظاهرة تاريخية، ويكون النصّ غير منفكٍّ عن التاريخ، والنصّ لا يكون بذلك صالحاً لهذا الزمن، إنما يراهن على وَعْي الفقيه بمدخل النصّ تاريخياً، والاستعانة بمناهج إنثروبولوجية وسوسيولوجية كمداخل بحثية في دراسة النصّ بثقافة المجتمع الذي نزلت فيه الآيات القرآنية، لتصبح عادات وأعراف تاريخية تحرّر من أيّ إشكال أيديولوجي، وبالتالي يعطي الفقيه فهماً جيداً لمخارج النصّ القرآني.

الوحي في نظر أركون

يعتقد أركون أن الوحي رؤيةٌ قد رآها النبي محمد| في شكل مختلف، وقد عبَّر| عنها بلغةٍ بشرية مفهومة بوصفه لها بحروف اللغة العربية. «الوحي عند أركون لا يمثِّل حقيقة يمكن أن نتعرّف عليها، وإنما هو موجود من خلال تأثُّره. نعم، ربما يحاول أركون أن يكون هوسرلياً ظاهراتياً([43])، يعتقد أن الحقيقة إنما هي الظواهر، ومهما يكن المقصود فلن نصل إلى حقيقة ما وراء الأثر، وإذا كان الأمر كما يقول فكيف تكون ظاهرة خارقة للطبيعة؟»([44]). يرى السعدي أن الوحي إعجازٌ، وبالتالي فإن وجهة النظر العقلية والمادية لأركون لا تتوافق مع ميتافيزيقيا السعدي، الذي يعتقد أن الوحي إعجازٌ يفوق طاقة الفهم البشري وخوارق الطبيعة. إن أركون لا يرى أن الوحي مقتصرٌ على القرآن الكريم فقط، بل هو وحيٌ لأنبياء آخرين، ولكن النبيّ محمد| هو آخر مَنْ نزل عليه الوحي، وقد أبرز النبيّ محمد لغة الوحي التي هي نداء الله([45]).

إن اللغة التي ظهر بها الوحي ـ كما يرى أركون ـ لغةٌ لا تتَّسم بالثبات، وتقبل مئات القراءات؛ لأنها عبارة عن رموز. فالتدوين لا يراعي الخصوصيات الشفوية التي لا يمكن أن يتمّ تدوينها أو يُعبَّر عنها بلغة الكتابة. وقد أغفل أركون أن هناك آيات كثيرة تدلّ على أن النبي| لم ينقل المعنى، بل نقله كما هو؛ بدلالة كثيرٍ من الآيات، كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ (القيامة: 18)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ﴾ (الحاقّة: 44)، وهي تدلّ على أن النبي تلقى القرآن لفظاً، وليس معنى.

«إن القوة التي تُنزل الحقيقة والمعنى العقلي، وتميط اللثام بشأنها عن مرتبة عقل النبيّ الأكرم، هي التي تنزلها بالكشف الصوري، وتطبعها على صفحة عالم الخيال والمثال والحسّ. ولا يعني هذا أن تلك القوة حاضرة في أدنى مراتب الوجود، وأن النبي| هو الذي يعطيها مضمون الوحي وشكله، وأنه من دون ذلك لا يَسَع الناس فهم وإدراك ذلك المعنى العقلي السامي. فهل يعجز مبدأ الغيب ـ الذي يرسل الوحي ويكشف للنبيّ المعنى والمضمون بالكشف المعنوي ـ عن تنزيل ذلك المعنى وإدخاله في وعاء خيال النبيّ بالكشف الصوري، وجعله قابلاً لفهم الجميع؟ وهل يدرك النبيّ في هذا المجال ـ على مستوى الوحي ـ أكثر من قدرة مبدأ الوحي الغيبي؟ وهل يجهل ذلك المبدأ علم النبيّ وثقافة الناس الذين نزل الوحي لتكاملهم، وخاصّة إذا افترض أن النبي كان قبل ذلك أمّياً لم يقرأ ولم يكتب؟»([46]).

وهناك إشكالٌ يطرح أيضاً على مَنْ يقول بأن القرآن هو ظاهرةٌ لغوية ولفظ فقط، فكيف يكون القرآن لفظاً في حين أن هناك آياتٌ تصرح بأن هناك أكثر من حقيقة للقرآن، وربما هو ليس حروفاً ولفظاً. ففي قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ (الحشر: 21) ما هي حقيقة القرآن الذي لو أُنزل على جبلٍ؟ هل هو قرآن بلفظ وشكل عربي لغوي أم له حقيقة أخرى؟ وما هي الحقيقة الأخرى التي يشير إليها الإمام عليّ× في حربه مع معاوية بقوله: (أنا القرآن الناطق)؟ هنا لا يشير الإمام عليّ إلى المصحف الذي بين أيدينا، وربما يكون الإمام نفسه جزءاً من قرآنٍ بحقيقة أخرى.

وهناك اعتقادٌ أيضاً بأن للنبيّ محمد| أكثر من حقيقة؛ فله حقيقة أرضية بشرية؛ وله حقيقة نورانية. ويعتقد بأنه يتواصل في عالم المثال بعالم نوراني يأخذ فيه الوحي في ذلك العالم، فقبل أن يخلق آدم كان النبي في عالم الأنوار، وهو ما يستفاد منه في حديث الإسراء والمعراج، حيث قال تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (النجم: 8 ـ 18) ، وكان جبرائيل غير قادر على التقدُّم، ولو تقدَّم لاحترق.

أما نزول الوحي فلا يقتصر على جبرائيل، بل الله تعالى يخلق الصوت في شيءٍ ما يكلِّم به مَنْ يريد من أنبيائه ورسله أو مخلوقاته، كتكليمه للنبي موسى، وإيحائه للنحل. وهناك عقيدةٌ أخرى متعلقة بروح القدس، وأن النبي محمد| مؤيَّد بروح القدس، وروح القدس قوّة فوق قوة جبرائيل نفسه، وقد أيَّده الله بها.

وفي الردّ على أركون، عندما ينزل الوحي متوافقاً مع الواقع الثقافي والحضاري للمجتمع، ومتوافقاً مع لغة الخطاب للشعب الذي بعث فيه، فهو ضرورةٌ لوجود لغة تخاطب مفهومة وواضحة. قد يبدو بأن اللغة الظاهرية تقيِّد المحتوى بأطر شكليّة، إلاّ أنها لا تقيِّد محتواه بنطاقه الضيق. وعندما تدرّجت آيات القرآن الكريم من السهل إلى المركب، ومن البسيط إلى المعقد، كان انطلاقاً من الثقافة واللغة التي جعلت الأمة الإسلامية تتوسّع في أفق مدركاتها الثقافية وترقِّيها علمياً، وهو ما أشارت إليه السيدة فاطمة الزهراء÷ في خطبتها، بأن الله تعالى أنقذ الأمة بالنبي محمد|، ورفعها بعد أن كانوا أذلّة خاسئين. فالهدف من الوحي هو الارتقاء العلمي والثقافي، الذي هو بمنزلة العقل الفاعل للمجتمع. وهذا ما يشهد له الواقع وتدعِّمه التجارب.

إن الغيب والوحي يعتبر علماً متعالياً عن المعارف البشرية، وهو علم ميتافيزيقي برؤية ملكوتية للغيب. فالنبي يسعى إلى تحرير الناس من ربقة التعلّق بالماديات والدنيويات، «فلا ينصب همّه على بيان شؤون هذا العالم وإعماره، وخصوصاً أن الناس (…) متعلِّقين ويميلون إلى التعلُّق بالدنيويات والماديات»([47]).

هل القرآن صحيحٌ؟!

يعتبر أركون أن البحث في مسألة الصحة الإلهية للقرآن مسألة مهمة في منظور تجديد الفكر الإسلامي، فيقول: «إن مجرد طرح مسألة الصحة الإلهية للقرآن اليوم تعني ممارسة عملٍ من أعمال الفكر الحيّ المنعش، ليس داخل إطار الفكر الإسلامي فقط، وإنما داخل المنظور الأكثر اتساعاً لتجديد الفكر الديني ككلّ»([48]). وبالتالي تكشف هذه العبارة التشكيك في صحّة القرآن، الذي يُعَدّ من أهمّ مرتكزات المشروع الأركوني اللازم لتجديد الفكر الديني، وأساساً من أسس تجديد الفكر الإسلامي، مستفيداً من البحوث العلمية الابتكارية النقدية التي أُسِّس لها في اليهودية و المسيحية([49])، وخاصةً أن القرآن مليء بالبراهين التي تدعو للتحرّي. كما يستشهد أركون بآيات متعدّدة، كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً﴾ (الإسراء: 90 ـ 93)، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً﴾ (الفرقان: 4 ـ 8)، وقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاَء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ ﴾ (العنكبوت: 47)، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ (فاطر: 31)، ويرى بأن كل تلك الآيات تدعو إلى النظر في صحة القرآن، وتحوي إشارات تشكيكية في النصوص القرآنية التي يدعو النصّ القرآني نفسه للتحقُّق منه.

إن الاعتقاد بأن القرآن بشري، أو مسّه التحريف، أو بوجود إشكال في النصّ القرآني، أو الشكّ في سقوط أجزاء من النصّ القرآني، أو الاعتقاد بأن النصّ القرآني ظهر بلغة بشرية وهو من صنع البشر، يترتّب عليه عدّة اعتبارات فقهية. رغم أن أركون حين يرى بأن القرآن صناعة بشرية لا يتنافى في كونه يعبِّر عما يريده الله، فالقرآن الذي بين أيدينا وإنْ كان بشرياً، إلا أنه يعبِّر عن الله.

عندما يشكّ في النص القرآني، ويفترض وجود خلل أو سقوط شيء من القرآن، فإن هناك تردّداً في دلالات النصّ، وبالتالي يفضي ذلك إلى سقوط حجّية الدلالة القرآنية. إلا أن السيد الخوئي قد قال: «حتى لو ثبت التحريف ـ وهو غير ثابت ـ لا يمنع عن الأخذ بظهورات القرآن الكريم»([50]). ولكنّ القول بوجود تحريف سيربك حتماً أيّ اجتهاد لفقه القرآن. ولا يبقى إلاّ أن يتمّ الأخذ بالقدر المتيقَّن من الدلالات القرآنية في تحصيل النتائج الفقهية المستندة إلى القرآن.

ويرتبط الفقه القرآني ارتباطاً وثيقاً بنظريات اللغة بدلالاتها ومجازاتها واستعاراتها وكناياتها المختلفة، التي وردت في القرآن بمختلف أساليب البيان والتعبير والبلاغة. فالفقيه إذا لم يعتبر أن جميع تلك المفردات بتكراراتها ومجازاتها وما يتعلق بها صادرة من الله فلن تكون النتائج الفقهية بالدلالات اللغوية صحيحة([51]). فلو أخذنا مثال المسح في الوضوء والغسل، نجد أن تأويلات هذه النصوص الفقهية خاضعة لدلالات لغوية بالغة الدقّة، متعلقة بتشكيل اللغة العربية، فمع الاعتقاد بوجود خللٍ لغوي ستتغيَّر الأحكام المترتِّبة على هذه الإشارات اللغوية بترتيب الوضوء وكيفيته. إن وجود مباحث الألفاظ في أصول الفقه القرآني يقيِّد ويحدّ من عمل الفقيه بنظره إلى لغة القرآن، سواءً كانت تعبيراتها حقيقية أو مجازية، الذي سيؤثّر مباشرةً في فهم آيات الأحكام([52]).

القرآن الكريم ينفي عن نفسه البشرية، فهو وحيٌ يوحى، حيث لم تؤثِّر فيه نظرة النبي محمد| واجتهاده الخاصّ ورؤيته الشخصية، بقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ (الشورى: 7)، وقوله تعالى ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 2)، وقوله تعالى ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ (الأنعام: 19)، وقوله تعالى ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ (طه: 114)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: 203).

خاتمة

تتولّد مجموعة من الإشكاليات في فهم الحداثيين للقرآن. وعند التسليم بآرائهم، وبالخصوص آراء المفكِّر محمد أركون، تتعمّق الأسئلة أكثر فأكثر، مما يجعلنا نزداد حيرةً أكثر؛ لتفتح المجال أمام مباحث جديدة وأبواب متفرّعة ينبغي بحثها. فهل نحن أمام الإسلام في كينونته الذاتية، أم نحن أمام إسلام تاريخي ساهمت في تكوينه فترات تاريخية زمكانية، فانطبع بطابع اجتماعي تارةً، ولا بُدَّ من مداخل سوسيولوجية وإنثروبولوجية، أو بطابع سياسي ومذهبي تارةً أخرى؟

يحاول أركون نزع القداسة والإلهية لآيات القرآن الكريم، وإكسابها صفة البشرية؛ لإمكان التفكير فيه، ونقده كنصٍّ تاريخي كتب بلغة عربية تحتاج إلى التأويل والتفكيك والنقد والتحليل من منظور حداثي أكاديمي، بمراجعة نقدية، في ضوء منهجيات متقدّمة متطوّرة، وقد سبق أن طُبِّقت في الغرب على الكتاب المقدَّس، وأراد أن يطبِّقها على الإسلام ونصّه القرآني المقدَّس.

الهوامش

(*) باحثٌ في الدراسات القرآنيّة الحديثة. من العراق.

([1]) أبو القاسم فنائي، الفقه الإسلامي وتحديات العصر الحديث، ترجمة: حسن مطر، مجلة نصوص معاصرة، 14 أغسطس 2017.

)[2]) Lewis, B. (2002). What Went Wrong? The clash between Islam and Modernity in the middle east. London: Weidenfeld & Nicolson.

([3]) حيدر حبّ الله، المدخل إلى الفقه القرآني، مجلة نصوص معاصرة، 19 سبتمبر 2015م.

([4]) المصدر نفسه.

([5]) المصدر نفسه.

([6]) المصدر نفسه.

([7]) مسعود إمامي، المثقفون الدينيون وتحديث الفقه، ترجمة: صالح البدراوي، مجلة نصوص معاصرة، 22 ديسمبر 2014م.

([8]) محمد أركون، الفكر الإسلامي، نقدٌ واجتهاد: 73، ترجمة: هاشم صالح، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1993.

([9]) المصدر نفسه.

([10]) محمد أركون، قراءات في القرآن (الوصية الفكرية الأخيرة لمحمد أركون): 146، دار الساقي، بيروت، 2017.

([11]) محمد أركون، العلمنة والدين: 82، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، ط3، 1996.

([12]) محمد أركون، الفكر الإسلامي، نقدٌ واجتهاد: 50.

([13]) المصدر السابق: 77.

([14]) محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي: 65، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 1999م.

([15]) محمد أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟: 90، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، ط2، 1995.

([16]) محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟: 284، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، 2000م.

([17]) محمد أركون، نافذة على الإسلام: 70، ترجمة: صياح الجهيم، دار عطية للنشر، بيروت، 1996م.

([18]) محمد أركون، القرآن، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني: 39، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، ط2، 2005.

([19]) محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي: 337.

([20]) أحمد فاضل السعدي، القراءة الأركونية للقرآن، دراسةٌ نقدية: 240، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي (سلسلة الدراسات القرآنية)، بيروت، 2012م.

([21]) محمد عابد، التجديد في التفسير القرآني الشيعي، ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي، مجلة نصوص معاصرة، 15 فبراير 2015م.

([22]) محمد محمد يونس علي، علم التخاطب الإسلامي، دراسة لسانية لمناهج علماء الأصول في فهم النصّ، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2006، مقدّمة الطبعة العربية.

([23]) الظهور الذاتي: هو الظهور سواءً كان تصورياً أو تصديقياً، يُراد به الظهور في ذهن إنسان معين. ويتأثّر بالعوامل والظروف الشخصية للذهن، والتي تختلف من فردٍ إلى آخر تبعاً لأنسه الذهني وعلاقاته.

([24]) الظهور الموضوعي: وهو الظهور بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العامّ، وله واقعٌ محدَّد، ويتمثَّل في كلّ ذهن يتحرك بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام.

([25]) حيدر حبّ الله، المدخل إلى الفقه القرآني، مجلة نصوص معاصرة، 19 سبتمبر 2015م.

([26]) المصدر السابق.

([27]) محمد أركون، الفكر الاسلامي، قراءةٌ علمية: 84، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، ط2، 1996م.

([28]) المصدر نفسه.

([29]) فخر الدين محمد الرازي، مفاتيح الغيب (المشتهر بالتفسير الكبير) 7: 254.

([30]) المصدر السابق 7: 428.

([31]) المصدر السابق 7: 454.

([32]) المصدر السابق 7: 477.

([33]) المصدر نفسه.

([34]) علي حرب، نقد النصّ: 83، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، ط4، 2005.

([35]) محمد أركون، القرآن، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني: 161ـ 163.

([36]) محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي: 275، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط3، 1998.

([37]) محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي: 57.

([38]) فارح مسرحي، الحداثة في فكر محمد أركون: 107، منشورات الاختلاف، الجزائر، والدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2006.

([39]) محمد أركون، ندوة فكرية تحت عنوان «التنوير إرث المستقبل»، قدّمها محمد أركون، في دولة الكويت، 15 أغسطس 2008م.

https: //www. youtube. com/watch?v=NckzaLg8fVE

([40]) محمد أركون، تحرير الوعي الإسلامي، نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، 2011م.

([41]) المصدر نفسه.

([42]) محمد أركون، قراءات في القرآن (الوصية الفكرية الأخيرة لمحمد أركون): 145.

([43]) الفينومينولوجيا أو الظاهراتية هي مدرسة فلسفية ترتكز على الخبرة الحدسية للظواهر، ثم الانطلاق نحو تحليل الظاهرة؛ سعياً إلى فهم أعمق لوجود الإنسان والعالم.

([44]) أحمد فاضل السعدي، القراءة الأركونية للقرآن، دراسة نقدية: 403.

([45]) محمد أركون، القرآن، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني: 9 ـ 20.

([46]) حسين علي المنتظري، القرآن والوحي، دراسةٌ فلسفية ودينية، ترجمة: السيد حسن مطر، مجلة نصوص معاصرة، 27 مارس 2015م.

([47]) المصدر نفسه.

([48]) محمد أركون، قراءات في القرآن (الوصية الفكرية الأخيرة لمحمد أركون): 125.

([49]) المصدر نفسه.

([50]) حيدر حبّ الله، المدخل إلى الفقه القرآني، مجلة نصوص معاصرة، 19 سبتمبر 2015م.

([51]) المصدر نفسه.

([52]) المصدر نفسه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً