أحدث المقالات

د. أبو القاسم فنائي(*)

ترجمة: حسن علي مطر

هـ ـ المعيار الخامس: عدم الانسجام مع القيم والواجبات الأخلاقية

تعتبر القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية من أهمّ معايير فصل «الظرف» عن «المظروف». لقد عمدنا في الفصل الثاني من كتابنا (دين در ترازوي أخلاق)([1]) إلى تقسيم القِيَم الأخلاقية إلى قسمين، وهما: قِيَم أخلاق الإيمان أو أخلاق التفكير والتحقيق؛ وقِيَم أخلاق السلوك. كما عمدنا في الفصول اللاحقة من ذلك الكتاب، والفصول المتقدِّمة من هذا الكتاب، إلى التذكير بأن الشريعة في مقام الثبوت تنسجم مع القِيَم الأخلاقية. وعلى الرغم من ذلك يمكن لفهم الناس للشريعة أن لا ينسجم مع القِيَم الأخلاقية، وفي مثل هذه الحالة لا بُدَّ من الحكم على فهم الناس بالبطلان. إلاّ أن الشيء الذي يتمّ إبطاله عند عدم الانسجام مع القِيَم الأخلاقية ليس هو «ذات الشريعة»، وإنما فهم وتفسير الناس للشريعة. ومن الممكن من الناحية «الأخلاقية» إبطال الفتاوى الفقهية، بمعنى أن هذه الفتاوى إنما تكون نافذةً ومعتبرة شريطة انسجامها وتطابقها مع القِيَم الأخلاقية. إن نسبة الأحكام المخالفة للأخلاق إلى الله سبحانه وتعالى من أكبر الخطيئات والذنوب التي لا تغتفر، ولا يمكن لآيةٍ أو رواية أن ترفع المسؤولية عن كاهل الشخص في هذا السياق، حتّى إذا دلَّتْ بظاهرها على مثل هذه الأحكام.

وبعبارةٍ أخرى: إن الحكم غير المنسجم مع القِيَم الأخلاقية ليس جزءاً من أحكام الدين المطلق وما فوق التاريخي. ولو عثر في النصوص الدينية على مثل هذا الحكم،فيجب القول: إما أن هذا النصّ مختلق، أو إذا كان معتبراً فيجب القول بأن ذلك الحكم قد تمَّ تحميله وفرضه على الدين من خارجه، أو إذا كان ذلك الحكم ـ في ظلّ الظروف والشرائط الزمانية والمكانية في صدر الإسلام ـ منسجماً مع القِيَم الأخلاقية، ولم يَعُدْ الآن منسجماً مع القِيَم الراهنة، وجب اعتبار ذلك الحكم بوصفه حكماً مرحلياً ومؤقّتاً. وعلى أيّ حال لا يمكن ـ بل لا يجب ـ اعتبار هذا الحكم حكماً أبدياً وما فوق تاريخي، أو جزءاً من ذاتيّات الشريعة.

ويعتبر جواز الاسترقاق والاتّجار بالعبيد نموذجاً واضحاً لهذه الأحكام. إن  الاسترقاق وبيع وشراء البشر يعتبر عملاً مخالفاً للأخلاق، ولا ينسجم مع إنسانية الإنسان؛ لأن العبد ليس سوى أداةٍ لتلبية مآرب وأهداف المالك والسيد، واعتبار الإنسان أداةً وآلة يتنافى مع كرامته الإنسانية وقيمته الذاتية. وأساساً إن القيمة الذاتية للإنسان لا يمكن قياسها بالموازين الاقتصادية. وخيرُ دليلٍ يثبت عدم أخلاقية الاستعباد أن لا أحد يستسيغ أن يعامله الآخرون معاملة العبيد. وأما إذا كنّا نعيش في عالمٍ يعترف بنظام الاسترقاق، ويبيح الاتّجار بالبشر، ويسمح للآخرين باسترقاق المسلمين، فإن الإسلام لا يستطيع أن يمنع المسلمين من العمل بمبدأ المواجهة بالمثل في مثل هذه الحالة. إن «جواز المواجهة بالمثل» ينسجم مع العدالة بوصفها كفّة قِيَم الأخلاق الاجتماعية([2]). إن «جواز المواجهة بالمثل» أحد أحكام الدين المطلق؛ لأنه على جميع الظروف والشرائط ينسجم مع قِيَم الأخلاق في حدِّها الأدنى، وأما جواز الاستعباد وبيع وشراء العبيد فهو من بين أحكام الدين الذي يتمّ تطبيقه على العالم الذي يسوده هذا العمل. وعليه فإن تسرية هذا الحكم إلى العالم الذي يعتبر الاستعباد جريمةً تُعَدّ تسريةً غير موجَّهة ولا مبرَّرة. يُضاف إلى ذلك أن الإسلام لا يستطيع إصلاح العالم الذي يسوده الاستعباد في ليلةٍ وضحاها، وغاية ما كان بإمكان النبيّ الأكرم أن يقوم به هو العمل على النسخ التدريجي للاسترقاق. والمشكلة الكامنة هاهنا هي أن الفقهاء والمفسِّرين للنصوص الدينية ـ وبسبب فهمهم الخاطئ لمعنى كمال الدين والشريعة ـ فهموا الخطوات الأولى للنبيّ الأكرم على أنها خطواتٌ نهائية، بمعنى اعتبارها الحدّ الأعلى ممّا يمكن ويجب فعله في هذا الشأن.

وبعبارةٍ أخرى: يجب ترجمة النصوص الدالّة على جواز الاسترقاق والاستعباد ترجمةً ثقافية، وإن الترجمة الثقافية لهذه النصوص تقول لنا: يجب أن نرفع اليد عن عنوان «الاستعباد»، وأن نحمل هذه النصوص على «جواز المواجهة بالمثل»، بمعنى أن لهذه النصوص مدلولين مختلفين: فالمدلول العامّ لهذه النصوص هو «جواز المواجهة بالمثل»، ولو عمدنا إلى تطبيق هذا المدلول على العالم الجديد الذي يمنع الاستعباد، سنصل إلى «حرمة» الاستعباد، وليس إلى «جوازه»؛ وأما المدلول الخاصّ لهذه النصوص ـ الذي هو مقتضى تطبيق المدلول العامّ لها على العالم القديم ـ فهو عبارةٌ عن «جواز» الاستعباد. إلاّ أن هذا المدلول مشروطٌ، وليس مطلقاً، ولا يمكن تطبيقه على العالم الجديد الذي يُمْنَع فيه الاستعباد.

خلاصةُ القول: إننا من خلال ترجمة النصوص الدالة على جواز الاستعباد ترجمةً ثقافية يمكن لنا أن نستنبط ثلاثة أحكام مختلفة، وهي:

1ـ جواز المواجهة بالمثل. وإن هذا الحكم أحد الأحكام المطلقة للدين المطلق وما فوق التاريخي.

2ـ حرمة الاستعباد ومنع الاتّجار بالعبيد. وإن هذا الحكم واحدٌ من الأحكام المشروطة للدين، الذي تمّ تطبيقه على العالم الجديد الذي يُمنع فيه من الاستعباد.

3ـ جواز الاستعباد والاتّجار بالعبيد. وإن هذا الحكم واحدٌ من الأحكام المشروطة للدين، الذي تمّ تطبيقه على العالم القديم الذي كان نظام الاستعباد فيه قائماً.

إن الحكم الثاني والثالث يحصلان من تطبيق الحكم الأوّل على الشرائط والظروف الزمانية والمكانية المختلفة، وإن فعلية كلٍّ من هذين الحكمين رهنٌ بتحقُّق شرطهما. وعلى هذا الأساس لو أن العالم الراهن تخلّى عن مكانه لصالح عالمٍ آخر يبيح لغير المسلم أن يستعبد مسلماً لن يمكن للإسلام أن يمنع المسلمين من المواجهة بالمثل أيضاً.

إن القِيَم الأخلاقية «مطلقةٌ» و«قابلةٌ للتعميم»، بمعنى أن موضوعها هو الإنسان بما هو إنسان، وأن التديُّن أو اللاتديُّن، وكون هذا الإنسان مسلماً أو غير مسلم، أو كونه سنّياً أو شيعياً، أو فقيهاً أو غير فقيه، أو رجلاً أو امرأة، لا يصلح لتخصيص تلك القِيَم وتقييدها. وحيث إن للشريعة إطاراً أخلاقياً فإن فهم أحكام الشرع التي لا تكون مطلقةً، ولا قابلة لتعميم، سوف لا تنسجم مع القِيَم الأخلاقية. وعليه فإن النصوص الدينية الدالّة بحَسَب الظاهر على التفريق بين المسلم وغير المسلم، وبين الشيعي والسنّي، وبين الفقيه وغير الفقيه، وبين الرجل والمرأة، لا بُدَّ من ترجمتها ثقافياً؛ لأن هذا القسم من النصوص الدينية يعبِّر في واقع الأمر عن أحكام الدين المطبَّقة على العالم القديم، دون أحكام الدين المطلق وما فوق التاريخي. وإن تسرية تلك الأحكام إلى العالم الجديد بِدْعةٌ في الدين، ومخالفةٌ للشرع.

إن القِيَم الأخلاقية تضع بأيدينا معياراً لتحديد وتفكيك القراءات الصحيحة للدين من القراءات الخاطئة له. إن الدين الحقّ يتطابق مع العقل والوجدان الأخلاقي للإنسان مئة بالمئة، وعليه فإن كلّ فهمٍ للدين لا ينسجم مع العقل والوجدان الأخلاقي للناس الذين يعيشون في العالم الجديد لا يكون قابلاً للتطبيق والاتّباع في هذا العالم، مهما كان ذلك الفهم منسجماً مع العقل والوجدن الأخلاقي للناس الذين كانوا يعيشون في العالم القديم، وأمكن لذلك تطبيقه واتّباعه في ذلك العالم. إن مجرّد انسجام بعض الفتاوى الفقهية مع العقلانية القديمة لا يدلّ على اعتبارها الأبدي ونفوذها على جميع الناس على مرّ التاريخ. إن الفتاوى والأفهام الفقهية وغير الفقهية للنصوص الدينية إذا أريد لها أن تطبَّق على العالم الجديد وفي هذه الدنيا فلا بُدَّ من عرضها على العقل والوجدان الأخلاقي لسكّان هذا العالم، فليس هناك ما يُجْبِر سكّان هذا العالم على اتّباع عقل ووجدان سكّان العالم القديم أبداً. إن هذا الأمر سيكون مصداقاً للطاعة العمياء للأسلاف، وهو ما شجبه القرآن صراحةً. فكما لا يحقّ لنا أن نحاكم سكّان العالم القديم من خلال العقلانية الجديد، كذلك لا يحقّ لسكّان العالم القديم، الذين يفكِّرون ويتّخذون القرارات ويعملون على أساس معايير العقلانية القديمة، أن يصدروا لنا نفس الوصفة والحكم القديم أيضاً([3]).

إن من أكبر الانحرافات والبِدَع التي تعرَّض لها التفكير الديني هو تحريف النسبة القائمة بين الفقه والأخلاق. ولو قلنا بأن هذا هو مكمن جذور الكثير من الكوارث التي تحصل باسم الدين لن يكون ما قلناه أمراً جزافياً. إن الفقه الخالي من الأخلاق، أو الفقه الذي يريد أن يحلّ محلّ الأخلاق، إنما هو سيفٌ في كفّ حارسٍ ثَمِلٍ. نحن لا ننكر ضرورة الفقه، وحاجة المجتمع الإسلاميّ إلى الفقهاء والمجتهدين، بَيْدَ أننا نعتقد جازمين بأن الفقه إنما يمكنه أن يلعب دَوْره المناسب في حياة المؤمنين إذا لم يخرج عن دائرة الأخلاق. إن الفقه الذي لا يراعي الخطوط الأخلاقية الحمراء، ويروم أن يحلّ محلّ الأخلاق، سيتحوَّل إلى أداةٍ بيد الظالمين والمتكبِّرين والمتجبِّرين، ولن يؤدّي بنا ذلك لغير الفقر والبؤس والحرمان والعنف والجريمة والجَوْر والاستبداد([4]).

و ـ المعيار السادس: عدم الانسجام مع ضروريات ومقوّمات العالم الجديد

إن للعالم الجديد ضروريات ومقوّمات، لا مندوحة لمَنْ يعيش فيه سوى القبول بها. ليس أمام الناس سوى الاختيار بين العالم القديم والعالم الجديد، وأيّاً كان اختيارهم سيكون لهم قراءةٌ خاصّة للدين تنسجم مع ذلك العالم الذي اختاروه. ولو أراد شخص تعميم أحكام الدين المطبَّقة على العلم القديم وتطبيقها على العالم الجديد (أو العكس) فإنه سيُمْنَى بالفشل، ولن تكون نتيجة سَعْيه سوى الفشل والتخلُّف، وخراب الدين والدنيا معاً.

وكما سبق أن ذكرنا فإن العقلانية الجديدة والأخلاق العلمانية أو ما فوق الدينية من المقوِّمات والعناصر التي لا يمكن اجتنابها في العالم الجديد، وإن أموراً من قبيل: حقوق الإنسان والديمقراطية والحرّية والمساواة والحياد الأيديولوجي من قِبَل الحكومات تُعَدّ من ضروريات هذا العالم. إن الحكومات الفردية والشمولية والمقدّسة، والتي ترى نفسها فوق النقد لا تلبّي حاجة الناس في العالم الجديد بالشكل اللائق والمناسب، ولن يكتب لها النجاح أو البقاء. وإن الأسلوب الصحيح لحلّ مشاكل هذا العلم يكمن في الرجوع إلى العقل الجَمْعي. وعليه فمن دون الاعتراف بهذه الأمور لا يمكن الحياة في هذه الدنيا بشكلٍ يليق بكرامة الإنسان. وعليه حتّى لو كانت هناك ألف آيةٍ ورواية لا تنسجم بحَسَب الظاهر مع الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة بين الناس وسائر ضروريات ومقوّمات العالم الجديد، وكانت تدلّ على المحاباة بين الناس في الحقوق والاختيارات، مع ذلك لا يمكن لنا إلغاء هذه الأمور ونفيها استناداً إلى تلك الآيات والروايات، وندّعي في الوقت نفسه أن الحرّية والديمقراطية لا تنسجم مع الإسلام، ولا يمكن أن تكون جزءاً من القِيَم الإسلامية، أو القول بأن حقوق الإنسان الإسلامية تختلف عن حقوق الإنسان الغربية، أو أن الديمقراطية الدينية تختلف عن الديمقراطية ما فوق الدينية والعلمانية. إن مثل هذه الآيات والروايات ـ إنْ وُجِدَتْ ـ إنما تبيِّن أحكام الدين المطبَّق على العالم القديم، دون أحكام الدين المطلق وما فوق التاريخي. من هنا لا يمكن تسرية مفادها إلى العالم الجديد دون ترجمتها ثقافياً.

وعلى هذا الأساس عندما نقول بوجوب أن يكون فهمنا للدين «عصرياً»، وأن يكون منسجماً مع الثقافة والحضارة الجديدة، لا نعني بذلك أن نجعل الثقافة والحضارة الجديدة معياراً للحكم في باب ذاتيّات وعَرَضيات الدين، وجعله ملاكاً لتفكيك ظرف الدين عن ذات الدين، وأن نعتبر مجرَّد شيوع وسيادة ظاهرة في العالم الجديد دليلاً على جوازها وحلِّيتها ومشروعيتها من وجهة نظر الدين، بل مرادنا من ذلك أن فهمنا الراهن للدين شجرةٌ ضاربة بجذورها في العقلانية التقليدية، وقد نمَتْ وترعرعت في صلب الثقافة والحضارة القديمة، وقد تناغمت طوال القرون الماضية وتوازنت مع عناصر هذه الثقافة والحضارة، وإن القراءة السائدة للدين في مجتمعنا قراءةٌ للدين الذي تمّ تطبيقه على العالم القديم. علينا أن نحترس من فرض وتحميل ثقافة وحضارة العالم القديم على الناس الذين يعيشون في العالم الجديد بشكلٍ متفاوت ومختلف جَذْرياً؛ بحجّة الحفاظ على الدين وتحت غطاء الدفاع عنه، واعتبار عبادة القديم وعبادة الله أو التخلُّف والتديُّن والتقوى والتمسُّك بالأصول شيئاً واحداً، وإحلالها محلّ الدين، والعمل باسم الدين على منع المجتمع من التقدُّم والتطوُّر. هناك فرقٌ بين القول بتعارض الدين مع الثقافة والحضارة الجديدة والقول بتعارض الثقافة والحضارة الجديدة وبين الثقافة والحضارة القديمة. وإن التعارض من النوع الثاني لا رَبْطَ له بالدين بتاتاً، وإن إقحام الدين في هذا النوع من التعارض ينطوي على إساءة توظيف الدين واستغلاله.

عندما يبرز شخصٌ لينتقد الحضارة الجديدة من موضع الدين وباسم الدين، ويعمل على نفي أصل هذه الحضارة أو مظاهرها، عليه أن يعطي جواباً واضحاً لهذه الأسئلة التالية:

ـ «هل الدين بذاته هو الذي يبطل الحضارة الجديدة ومظاهرها أم الثقافة والحضارة القديمة التي تلفَّعت برداء الدين، وأصبحت جزءاً منه في ظلّ قراءةٍ للدين الذي عُجِن وامتزج بتلك الحضارة والثقافة، هي التي تُبطل الحضارة الجديدة ومظاهرها؟».

ـ «هل مبناه في النقد ومعياره في الحكم بشأن الحضارة الجديدة هو الدين المطلق وما فوق التاريخي أو الدين الذي تمّ تطبيقه على العالم القديم؟».

ليس من حقِّنا الحكم بشأن العالم الجديد ومظاهره إلاّ من خلال «الدين المطلق» أو «ما فوق التاريخي»، وليس من خلال «الدين الذي تمّ تطبيقه» على العالم القديم. والمسألة الجديرة بالاهتمام هي عدم وجود تعارض بين العلم والدين. وإذا كان هناك من تعارض فهو بين العلم والجهل، أو بين العلم وشبه العلم. إن النظريات العلمية تتنافس وتتبارى فيما بينها، وإن الحكم بينها يقوم على أساليب خاصّة بها، وعلى أيّ حالٍ فإن النزاعات غير الدينية أو ما فوق الدينية لا تقبل الحلّ والفصل من خلال الرجوع إلى الدين والنصوص الدينية، أو إلى مَنْ يُفسِّر الدين، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، فقد أثبتت التجارب التاريخية أن تحويل النزاعات غير الدينية وما فوق الدينية إلى نزاعاتٍ دينية يُعتبر من أهمّ أسباب دوام واستمرار هذه النزاعات.

يجب عدم اعتبار التخلُّف وعبادة الأسلاف مرادفاً للإخلاص والتديّن والزهد والتقوى. عندما نقول بوجوب فصل الدين عن ظرفه القديم، ونقول بعدم وجوب فرض ذلك الظرف ـ باسم الدين ـ على الناس الذين يعيشون في ظرفٍ آخر، إنما نعني بذلك أن الظرف الأول للدين أمر عُرْفي لا ينطوي على أيّ قداسةٍ أو أصالة. إذن «لا ينبغي مخالفة العالم الجديد ومظاهره استناداً إلى الظرف القديم للدين». لا مانع من نقد العالم الجديد الذي يمثِّل ظرفاً جديداً للدين، شريطة أن يقترن هذا النقد أوّلاً: بنقد الظرف القديم للدين؛ وثانياً: أن يكون الدين نفسه هو المعيار والمبنى في حكمنا بهذا الشأن، وليس الظرف القديم، وأن يكون المعيار هو الدين المطلق، وليس الدين الذي تمّ تطبيقه وصبّه في ظرف العالم القديم. ولكي يكون الدين هو الحَكَم في هذه الموارد يجب أوّلاً تجريده من ظرفه القديم. وعلى هذا الأساس تكون الترجمة الثقافية للنصوص الدينية، وعصرنة الفكر الديني أو إعادة صياغته عقلانياً، مقدّمة على العمل على جعل العصر دينياً. من المناسب نقد الظرف الجديد للدين، كما هو الحال بالنسبة إلى نقد الظرف القديم له، ولكي نحصل على الدين المطلق لا مندوحة لنا من نقد الأفهام المختلفة للدين، والتي لا تظهر إلاّ كنتيجةٍ للامتزاج مع مختلف الظروف. ومن المناسب مقارنة مختلف الظروف ودراستها بشكلٍ مقارن. إنما الشيء الخاطئ، والذي لا يمكن القبول به، عبارةٌ عن تسرية قداسة الدين إلى ظرفٍ خاصّ من ظروف الدين، والفهم والتفسير الديني المنسجم والمتناغم مع ذلك الظرف، والعمل على تسرية خصائص الدين إلى ظرفه الأوّل، وتسرية قداسة وخلود ذات الدين إلى ظروفه، وإلى الفهم الديني القائم على ذلك الظرف.

ولا بُدَّ من إبداء حساسيّةٍ كبيرة تجاه مَنْ يريد ـ تحت غطاء الدفاع عن الدين، في حين أن الحقيقة تكمن في عيشه ضمن العالم القديم، واعتياده على الثقافة والنهج والتفكير والسلوك القديم، أو لأن مصالحه الشخصية أو الفئوية أو منصبه ومنزلته لا يكتب لها البقاء إلاّ في ظلّ العالم القديم، والحال أن الحقيقة تكمن في السذاجة وعبادة الظاهر وعبادة الأسلاف أو عبادة الدنيا أو عبادة الأعداء([5]) ـ مخالفة الثقافة والحضارة والعقلانية ومنهج الحياة والمعيشة الجديدة.

ز ـ المعيار السابع: عدم الانسجام مع النواحي الحسنة والإيجابية والمفيدة للعالم الجديد

إن من بين مواطن ضعف التفكير الفقهي الشائع التحفُّظُ المفرط. يذهب البعض إلى جعل الأصل هو عدم مشروعية الأشياء الجديدة، ويخالفون المظاهر  الحسنة والموجبة والمفيدة في العالم الجديد باسم الدين، إلاّ إذا كانت هناك مشابهةٌ وسنخية بين هذه المظاهر وبين ما كان يحدث في العالم القديم. وإن السِّيَر والمواثيق والعقود والمؤسّسات الحديثة التي تبلورت بين الناس بالتدريج، ولم يكن لها من وجود في عصر النبيّ الأكرم والأئمّة الأطهار، هي من هذا القبيل.

إن الكثير من القوانين العُرْفية تُعَدّ من الأمور الجيّدة والإيجابية والنافعة في العالم الجديد، إذا لم نقُلْ: إن بعضها من ضروريات ومقوّمات هذا العالم. ونحن نُطلق على هذه المجموعة من القوانين اسم «شريعة العُرْف». إن شريعة العُرْف تنبثق عن إرادة الشارع العُرْفي، لا عن إرادة الشارع القُدْسي. بَيْدَ أن الكثير من الفقهاء؛ حيث يعتقدون بأن الأصل الأوّلي يقوم على عدم حجّية ومشروعية العُرْف، لا تكون هذه القوانين معتبرةً، ولا مشروعية لها، إلاّ إذا كان لها نظيرٌ في صدر الإسلام وعصر الأئمة الأطهار، ويثبت تقريرهم لها، ولو بالسكوت عنها؛ حيث يقوم ادّعاؤهم على أن اعتبار شريعة العُرْف من ناحية الشرع رهنٌ بإمضاء أو سكوت الشارع عند حدوثها أمامه، وإن إمضاء أو سكوت الشارع إنما يمكن كشفه وإحرازه إذا كان ذلك العُرْف شائعاً بين الناس في عصر حضور المعصومين، مع إحراز سكوت المعصوم عنه أو تأييده له. وعلى أساس هذا المبنى يذهب بعض الفقهاء إلى القول بعدم مشروعيّة عقودٍ، من قبيل: الضمان، وحقوقٍ، من قبيل: حقّ التأليف، أو الملكية المعنوية وبراءة الاختراع، وما إلى ذلك.

ولكنْ كما رأينا في الفصول السابقة، ليس هناك دليلٌ مقنع لصالح «أصالة عدم حجّية الظنّ». إنما الأصل الأوّلي في هذا الباب، والمستفاد من العقل العُرْفي وعُرْف العقلاء، هو أن الظنون العقلائية حجّة، وإن هذه الظنون لا تُخْتَزَل في ظهور الكلام وخبر الواحد. وفي ما يتعلَّق بالعُرْف يجب القول: إن الأصل الأوّلي يقوم على حجّية العُرْف، وإن القوانين العُرْفية في النظرة الأولى موجَّهة ومشروعة، إلاّ إذا قام على خلافها دليلٌ معتبر آخر أقوى منها في «الدين المطلق»، وليس في «الدين الذي تمّ تطبيقه» على العالم القديم. لا معنى لأن يقول شخصٌ: «إن الإسلام يُخالِف مظاهر الحضارة الجديدة، إلاّ تلك التي أمضاها الشارع، وثبتت حلّيتها وجوازها بنحوٍ خاصّ وبالأدلة النقلية»، بل إن الأصل الأوّلي يقول: «إن القوانين العُرْفية نافذةٌ ومعتبرة ومشروعة، إلاّ إذا ثبت خلافها». طبقاً لهذا الأصل يجب القول: «إن الإسلام يوافق مظاهر الحضارة الجديدة، إلاّ إذا ثبتت حرمتها وعدم مشروعيتها بحكم الدين المطلق وما وراء التاريخي». إن القول بشريعة العُرْف واتّباع معاييرها لا يحتاج إلى دليلٍ، إنما الذي يحتاج إلى دليلٍ هو المنع من القول بشريعة العُرْف وحرمة اتّباع معاييرها. ثمّ إنه لا بُدَّ في هذا المورد من الالتفات إلى جهة وعلّة التحريم، بمعنى أنه لا بُدَّ من التمكُّن من إثبات أن التحريم مورد البحث حكمٌ من أحكام الدين المطلق وما فوق التاريخي. وعلى هذا الأساس لا يمكن مخالفة العُرْف الجديد من خلال الاستناد إلى العُرْف القديم، كما أن مجرّد عدم شيوع عُرْفٍ في صدر الإسلام لا يشكِّل دليلاً صالحاً لرفض العُرْف الجديد، واعتبار عدم مشروعيته.

فعلى سبيل المثال: اتّفقت كلمة الفقهاء في القرون الماضية على حرمة بيع وشراء الدم، وتمّ ادّعاء الإجماع في هذا الشأن. وقال عددٌ من الفقهاء المعاصرين: إن ما قيل في حرمة بيع وشراء الدم يعود سببه إلى عدم وجود منفعةٍ محلَّلة وعقلانية لهذه المعاملة في الأزمنة السابقة؛ حيث لم يكن تزريق الدم للمرضى والجرحى معمولاً به في تلك الأزمنة. أما اليوم؛ حيث نشهد الكثير من الفوائد الحيوية المترتِّبة على الدم، فيكون بيعه وشراؤه جائزاً من الناحية الشرعية. وهذا يعني أن الدم لا «موضوعيّة» له، وإن حرمة بيعه وشرائه حكمٌ مشروط ومتعلّق بالدين الذي تمّ تطبيقه على العالم القديم. إنما الذي له موضوعية، ويُعتبر واحداً من أحكام «الدين المطلق»، هو المنع من بيع وشراء البضاعة التي تكون لها فائدةٌ محلَّلة وعقلائية.

وعليه فإن النصوص الدينية الدالّة على حرمة بيع وشراء الدم، إنْ وُجِدَتْ، يجب ترجمتها ثقافياً، وإن هذه الترجمة الثقافية ستقول لنا: إن ظاهر هذه النصوص ـ (إن بقي ظهورها على حاله) ـ وعمومها وإطلاقها الزماني لا حجّية له؛ لأن العقلاء لا يتمسَّكون بمثل هذا الظهور، فمن وجهة نظرهم لا تجري أصالة العموم وأصالة الإطلاق في هذه الموارد([6]). ثم إنه يمكن التشكيك في أصل هذا الفهم، والقول بوجوب الرجوع إلى الشرع والنقل في كلّ أمرٍ، واتّباع كلّ سيرةٍ عُرْفية، وتشريع أيّ قانون، والاستفادة من كلّ شيء؛ فإن مثل هذا الأمر مخالفٌ للعقل وسيرة العقلاء في العالم.

النموذج الآخر الذي يمكن ذكره لهذا المعيار أساليب اكتشاف الجرائم ومكافحتها. يمكن القول بكلّ ثقةٍ: إن هذه الأساليب هي من الأمور العُرْفية والعقلائية والتجريبية، ولا شأن لها بالأمور الدينية وغير الدينية أو الإسلامية وغير الإسلامية. إن قوانين المحاكم قد تكون عادلةً أو ظالمة، ولكنّها لا تكون إسلامية وغير إسلامية. إن هدف الشارع من التشريع أو إمضاء الأحكام القضائية القائمة في مجتمع صدر الإسلام هو إحقاق الحقّ وإجراء العدالة من جهةٍ، والحدّ من وقوع الجرائم من جهةٍ أخرى. من هنا فإن كلّ منهجٍ أو أسلوب يعمل على إيصال المنظومة والمؤسّسة القضائية إلى هذين الهدفين يكون مطلوباً من قِبَل الشارع. ولو أن تطبيق الأساليب التقليدية في كشف الجرائم ومكافحتها يؤدّي إلى إبعاد المجتمع الديني عن هذين الهدفين سيكون إجراء هذه الأساليب غير مشروع وبِدْعة في الدين.

إن فلسفةَ العقوبة وتبريرها من الناحية العقلانية، وكذلك الآداب والتقاليد والحدود والثغور الأخلاقية للعقوبة، أحدُ البحوث الهامّة في فلسفة السياسة، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة الحقوق. إن أسلوب كشف وإثبات الجريمة، ومعاملة المتهمين والمجرمين، وتحديد العقوبة المناسبة، وكيفية تنفيذ العقوبة، يخضع للنقد والتقييم العقلاني والأخلاقي، وينقسم من الناحية الأخلاقية إلى: حسنٍ؛ وقبيحٍ، وصحيحٍ؛ وخاطئٍ. يمكن القول، وبكلّ ثقةٍ: إن الاجتهاد في باب الأحكام القضائية والجزائية في الإسلام إذا لم يقُمْ على إدراكٍ كافٍ لهذه المباحث سيكون فاقداً للاعتبار، وإن الفقهاء الذين يتوجَّهون إلى النصوص الدينية، دون التحقيق الكافي بشأن هذه البحوث، ويسعَوْن إلى استنباط النظام القضائي للإسلام، لا يكونون قد «استفرغوا الوسع» في هذا الشأن، وسيكون سعيهم ناقصاً وغير تامّ، ولذلك فإن فتاواهم ـ حتّى على أساس الموازين التقليدية للاجتهاد ـ ستكون فاقدةً للاعتبار.

إن تطبيق العدالة القضائية يتوقَّف إلى حدٍّ كبير على اكتشاف الحقيقة، وإن أسلوب اكتشاف الحقيقة لا يتّصف بالإسلامية وغير الإسلامية. فالناس بمرور الزمن، وإثر التطوّر العلمي والتجريبي، قد أبدعوا وسائل أكثر تطوُّراً وأدقّ وأوثق في كشف الجرائم وإثبات الجرم أو تبرئة المتَّهم، وإن الاستفادة منها تقتضيها العقلانية والعدالة. فاليوم يمكن من طريق التحليل المخبري بواسطة الـ (دي. أن. أي)، وسائر الأساليب التي تستعمل في كشف الحقيقة، أن يصل القاضي وهيئة المحلَّفين إلى الحقيقة بثقةٍ أكبر، وإن هذه الأساليب تقرِّبنا بشكلٍ أكبر قياساً إلى الأساليب التقليدية، من قبيل: وضع المتَّهم تحت القَسَم أو شهادة الشهود. وعليه لا معنى لأن يُقال: لا يزال القاضي مكلَّفاً ومُلْزَماً بالحكم على أساس الشهادة والقَسَم، ولا يحقّ له الاستفادة من الأساليب والطرق الحديثة لاكتشاف الحقيقة([7]).

الأمر الآخر المؤثِّر بشكلٍ أفضل وأدقّ في تطبيق العدالة هو إقامة المحاكم «الخاصّة» أو «التخصُّصية»؛ لأن تجربة القاضي وإشرافه وإحاطته بالموضوع المختلف بشأنه إنما يكون من خلال النشاط في هذا النوع من المحاكم، لا من طريق التحقيق والدراسة والبحث في كتاب الحدود والديات والقوانين الجزائية للإسلام. في هذه الشرائط لا يمكن الدفاع أبداً عن الادّعاء القائل بأننا في الإسلام لا نمتلك غير المحكمة العامّة، ومن زاوية الفقه الإسلامي يمكن للقاضي الجامع للشرائط أن يحكم ويقضي بشأن جميع الملفات، أيّاً كان مجالها. إن القاضي الجامع للشرائط هو القاضي الذي يعمل على توظيف جميع الوسائل والأساليب العقلائية التي هي في متناول البشر لكشف الحقيقة، ولا شَكَّ في أن تجربة القاضي تؤثِّر في اقترابه من الحقيقة.

يُضاف إلى ذلك أنه لا يمكن القول: حيث لم يكن هناك في صدر الإسلام شيءٌ باسم المفتِّش والمستجوب أو المدّعي العام، وكان القاضي لا يمثِّل إلاّ شخصاً واحداً، ولم يكن هناك شخصٌ يتولّى مهمة الدفاع عن المتَّهم أو هيئة المحلَّفين كذلك، إذن لا بُدَّ أن يكون الأمر على هذه الشاكلة في العصر الراهن. إن الفصل والتفكيك بين المهامّ والمسؤوليات القضائية، والتأكيد على ضرورة تواجد المحامي والهيئة المحلَّفة في محاكم العالم المعاصر، إنما يهدف إلى ضمان تحقيق العدالة بشكلٍ أفضل وأدقّ، والتقليل من احتمال وقوع الظلم والخطأ، وهذه القِيَم فاقدةٌ للمصالح والمفاسد الغيبية.

تقوم فرضية الذين يخالفون هذه الأمور باسم الإسلام على أن إجراء العدالة يتوقَّف على الأمور التالية:

1ـ عدالة القاضي.

2ـ علم القاضي أو ظنّه المعتبر بالحكم.

3ـ علم القاضي أو ظنّه المعتبر بموضوع الحكم.

هذا، وإن العلم أو الظنّ المعتبر بالحكم يأتي من طريق الفقه، ويأتي الظنّ المعتبر بالموضوع من طريق الشهادة أو القَسَم([8]).

أما اليوم فالذي يُقال هو:

أوّلاً: إن عدالة القاضي لا تعني امتلاك ملكة نفسانية باسم العدالة، بل تعني توظيف الأساليب والأدوات العادلة التي تساعد على اكتشاف الجريمة. والعدالة رهنٌ بالتناسب بين الجريمة والعقاب. وإن تشخيص ما إذا كان أسلوب المحاكمات عادلاً أم ظالماً، وما إذا كانت العقوبة المحدّدة تناسب الجرم المرتكب أم لا، يقع على عاتق الوجدان الاجتماعي العامّ.

وثانياً: إن تطبيق العدالة على نحوٍ أفضل وأدقّ يقتضي عدم الاقتصار في إثبات الجرم أو البراءة على القاضي فقط، وإنما لا بُدَّ بالإضافة إلى ذلك من إشراك هيئة المحلَّفين، التي تمثِّل الوجدان العامّ للمجتمع([9]).

وثالثاً: إن تطبيق الحكم على الموضوع، بالإضافة إلى معرفة الحكم، بحاجةٍ إلى تخصُّصٍ وكفاءة في تشخيص الموضوع، وإن هذا التخصُّص وتلك الكفاءة لا يأتيان من طريق معرفة الحكم والقانون. كما أن الظنون المعتبرة في مقام القضاء والحكم لا تختزل بالظنّ الحاصل من شهادة الشهود أو اليمين الصادر عن المتَّهم([10]).

ح ـ المعيار الثامن: عدم الانسجام مع الحقائق التجريبية

إن من بين المعايير التي يمكن استعمالها للتفكيك والفصل بين الظرف والمظروف، أو فصل الدين الذي تمّ تطبيقه والتاريخي عن الدين المطلق وما فوق التاريخي، عدمُ الانسجام مع الواقعيات التجريبية، وهذا يعني تدخُّل العلوم التجريبية ـ الأعمّ من العلوم الطبيعية والإنسانية ـ في فهم الدين واستنباط الأحكام.

فعلى سبيل المثال: يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾ (الإسراء: 78). وكما هو واضحٌ فإن هذه الآية تتحدَّث عن مواقيت الصلاة اليومية. وفي منطقةٍ مثل: الحجاز، والبلدان الأخرى التي يكون فيها موضع محدّد ومتعارف لطلوع الشمس وغروبها، يمكن لنا أن نتَّبع هذا المعيار المذكور في هذه الآية. وأما في البلدان القريبة من القطب الشمالي، من قبيل: فنلندا والسويد والنرويج، والتي يكون أغلب أوقات السنة فيها ليلاً، ولا يكون للشمس وجودٌ في سمائها، والتي يكون فيها فصل الصيف قصيراً جدّاً، وتكون الشمس ظاهرةً في هذا الفصل دائماً، لا يمكن لزوال الشمس أن يكون معياراً لتحديد أوقات الصلاة. إن هذه الحقيقة ترشدنا إلى أن تعيين زوال الشمس كمعيارٍ لتحديد أوقات الصلاة إنما كان بسبب الظروف الإقليمية والمنطقة الجغرافية التي ظهر فيها الدين الإسلامي للمرّة الأولى، وبحَسَب المصطلح: إن هذا الشرط يُعَدّ جزءاً من ظرف الدين، وواحداً من أحكام الدين التي تمّ تطبيقها على منطقةٍ جغرافية خاصّة. وعلى هذا الأساس فإن مثل هذا المعيار إنما يمكن تطبيقه لتعيين وقت الصلاة على منطقةٍ ما وتسريته على المناطق الأخرى التي تتَّصف بنفس أوصافها الجغرافية التي يكون فيها لطلوع الشمس وغروبها وزوالها مواقيت متعارفة. وأما في المناطق الأخرى، التي لا يكون فيها الأمر كذلك، فيجب تعيين الوقت الأوّل لصلاة الظهر بمعيارٍ آخر.

وهذه المسألة تصدق بشأن الصوم أيضاً. ففي ما يتعلَّق بالصوم يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿…ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ…﴾ (البقرة: 187). إلاّ أن الفقيه غير المطَّلع على العلوم التجريبية إلاّ بشكلٍ محدود، ولا يعلم بما عليه الواقع في القطب الشمالي، يتمسَّك بعموم وإطلاق هذه الآية، ويصدر الفتوى على النحو التالي: «يجب على كلّ مسلم أن يمسك عن تناول الطعام والشراب في أيّام شهر رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس». فلو أراد المكلَّفون من المسلمين الذين يقيمون في مناطق القطب الشمالي أن يعملوا على طبق هذه الفتوى فإنهم سوف يموتون من الجوع والعطش لا محالة. إن هذه الحقيقة التجريبية تثبت أن المعلومات الفيزيائية والفَلَكية والجغرافية ـ والعلوم الطبيعية والإنسانية بشكلٍ عام ـ من جملة مقدّمات الاستنباط الفقهي، وإن الفقيه الذي يعلم بوجود القطب الشمالي ووضعه الجغرافي يدرك أن القَيْد الوارد في هذه الآية الشريفة إنما يشمل المناطق التي يكون فيها الليل والنهار متعاقبين بشكلٍ طبيعي، وسوف يعمل في فتواه على استثناء سكّان القطب الشمالي، وسوف يحدِّد أوقات الصلاة والصيام بالنسبة لهم من خلال استخدام معيارٍ آخر.

وعلى هذا الأساس يمكن لنا أن نستنتج أن أحكام «الدين التي تمّ تطبيقه» قابلةٌ للإبطال من الناحية التجريبية، وكلّما لم يمكن تطبيق الحكم الشرعي بجميع قيوده وشرائطه على موردٍ ما وجب في الحدّ الأدنى عَدُّ قيد وشرط ذلك الحكم جزءاً من «الدين الذي تمّ تطبيقه»، وليس جزءاً من «الدين المطلق». وبطبيعة الحال إن هذا المثال ليس ناظراً إلى الاختلاف القائم بين العالم القديم والعالم الجديد، ولكنه يُظْهِر بوضوحٍ مدى خطأ التصوُّر السائد بشأن عدم إدخال العلوم التجريبية في استنباط الأحكام الشرعية، وعدم القول بمشروعية توظيف هذه العلوم في الاجتهاد([11]). كما يُثبت هذا المثال أن مشكلة عدم الانسجام بين الفتاوى الفقهية وبين العلوم التجريبية لا يختصّ بباب المعاملات، بل هناك مثل هذه التعارضات في باب العبادات أيضاً. وعلى أيّ حالٍ فإن هذا المعيار يقتضي منا أن نقيِّم فهمنا للنصوص الدينية من خلال عرضها على الحقائق التجريبية.

ط ـ المعيار التاسع: عدم الانسجام مع أصول الدين

إن فروع الدين في مقام الثبوت (في اللوح المحفوظ) تابعةٌ لأصول الدين، إلاّ أن فهم المتديِّنين والمختصِّين في الشأن الديني لفروع الدين (في مقام الإثبات) قد لا ينسجم مع أصول الدين. وعلى هذا الأساس؛ لكي نحول دون حصول الخطأ في فهم فروع الدين، وفي تفسير النصوص الدينية ذات الشأن، لا بُدَّ لنا من عرض فهمنا لفروع الدين على أصول الدين. وهذا يعني أن قراءتنا لفروع الدين قابلةٌ «للإبطال» في ضوء أصول الدين. لا يمكن القول: إن تقييم فروع الدين من مسؤولية الله، وليس من مسؤوليتنا؛ لأن الادّعاء لا يقوم على القول بأن تقييم فروع الدين من خلال أصول الدين من مسؤوليتنا، بل يقوم على القول بأن الله تعالى حيث قد قيَّم فروع دينه من خلال أصول دينه يجب علينا بدَوْرنا أن نقيِّم فهمنا لفروع الدين من خلال فهمنا لأصول الدين. فمثلاً: لا يمكن الادّعاء بأن الله واحد، وأن التوحيد جزءٌ من أصول الدين، ثم العمل على استنباط حكمٍ أو أحكام من فروع الدين تستلزم الشرك، أو أن نستنبط من فروع الدين أحكاماً تعطي لبعض الأفراد العاديين من الناس مراتب وحقوقاً وامتيازات على مستوى مرتبة الإله أو أزيد، ونجعل الله ممثِّلاً عنهم في السماء. إن وحدانية الله تعني أن «الإنسان ليس الله، بل هو عبدٌ لله»، وأن جميع الناس من ناحية الحقوق والامتيازات متساوون، كما أنهم متكافئون في التمتُّع بالقدرات والفرص والإمكانات والحرّيات الاجتماعية، وأن الله وحده هو الذي ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ (الأنبياء: 23)؛ وذلك لعدم صدق احتمال الخطأ في حقِّه. إن معنى التوحيد هو أن الله وحده الذي يكون كلامه فصل الخطاب، والمعيار في تمييز الحقّ من الباطل، وتكون إرادته معياراً للوجوب والحرمة.

وعلى هذا الأساس فإن قراءة فروع الدين بشكلٍ يجعل لله ممثِّلاً خاصّاً على الأرض، يتمتَّع بحقوق وامتيازات تفوق حقوق وامتيازات سائر الناس، ويُعتَبَر حكمه هو حكم الله، ومخالفته مخالفة لله، لا تنسجم مع أصل التوحيد، حتّى لو قامت لصالحها ـ على فرض المحال ـ مئات الآيات والروايات. إن عبادة علماء الدين وعبادة الزعيم الديني يعني الاتّباع الأعمى والمطلق لكلام وأوامر علماء الدين وزعماء الدين، وهذا يُعَدّ من أقسام الشِّرْك في العبودية([12])، وإن الذي يرى مثل هذا الحقّ والمرتبة لأفراد، ويدعو الآخرين إلى إطاعته أو إطاعة غيره بشكلٍ مطلق، يكون في واقع الأمر مشركاً. وحيث إن الشرك بصريح القرآن ظلمٌ عظيم لا يمكن لله أن يأمر به أبداً. إلاّ أن امتناع صدور الأمر بالشرك من قِبَل الله شيءٌ، وامتناع الفَهْم الشِّرْكي للنصوص الدينية المبيِّنة لأوامر الله تعالى شيءٌ آخر. فمن المحال أن يأمر الله بالشرك، بَيْدَ أن الفهم الشركي للنصوص الدينية المبيّنة لأوامر الله ليس محالاً أبداً. لا يمكن الادّعاء بأن أوامر الله في اللوح المحفوظ؛ حيث لا تشتمل على الأمر بالشرك، فإن القراءة المشركة للنصوص الدينية سوف تكون مستحيلةً أيضاً؛ إذ لا وجود لمثل هذه الملازمة. وإن هذه الحقيقة تفرض علينا أن نعمل بشكلٍ مسبق على تقييم أفهامنا للأوامر والنواهي الإلهية، من خلال عرضها على أصول الدين؛ للحيلولة دون أن ننسب إلى الله حكماً منافياً للتوحيد والعدل والحكمة وسائر الأوصاف الإلهيّة الأخرى. وكما ذكرنا مراراً وتكراراً: إن إبطال الأفهام غير المنسجمة مع هذه المعايير لا يتوقَّف على حصول  القطع واليقين، بل يكفي مجرّد الظنّ القويّ في مثل هذه الموارد.

ي ـ المعيار العاشر: عدم الانسجام مع أهداف ومقاصد الشريعة

إن من بين العيوب التي يعاني منها المنهج والأسلوب السائد في البحث الفقهي في الحوزات العلمية أن هذا الأسلوب يتجاهل نسبة «أحكام الشرع» إلى «أهداف الشرع».  وبطبيعة الحال إن الفرضية القائلة بأن «أحكام الدين تابعةٌ لأهداف الدين» تحظى بالقبول من قِبَل عامّة الفقهاء والباحثين في الشأن الفقهي، إلاّ أن هذا القبول النظري لا يلعب أيّ دَوْرٍ في الاستنباط على المستوى العملي، ولذلك يكون القول به وعدم القول به سواء. ويبدو أن الذي يمنع من توظيف هذا الافتراض في الاستنباط الفقهي أمران، وهما:

1ـ يقوم الاعتقاد من جهةٍ على أن عملية التناغم والمواءمة بين أحكام الدين وأهدافه من مسؤوليات الشارع، وليس من مسؤوليات المجتهدين والمقلِّدين.

2ـ يقوم الاعتقاد من جهةٍ أخرى على القول بأن كشف أهداف الدين على نحو القطع واليقين محالٌ، كما أن الظنّ العقلي والتجريبي في هذا المورد ليس كافياً.

بَيْدَ أن بالإمكان المناقشة في هذه الفرضيات. فصحيحٌ أن مناغمة أحكام الدين مع أهداف الدين من مسؤولية الشارع، إلاّ أن مناغمة الفقه (بمعنى فهم واستنباط أحكام الدين) مع أهداف الدين من مسؤولية المجتهدين والمقلِّدين. وعلى هذا الأساس لا بُدَّ من أضافة الأدلّة التي تبيِّن «أهداف» الدين إلى الأدلة والمصادر التي يجب الرجوع إليها في عملية استنباط «أحكام» الدين.

في رؤيةٍ عامة يمكن تقسيم أهداف الدين إلى: الأهداف الأخروية (المعنوية)؛ والأهداف الدنيوية (المادّية). ومن الواضح أن الأهداف الدنيوية والمادّية للدين تابعةٌ للأهداف الأخروية والمعنوية، بمعنى أن الدين إنما يبحث في الأهداف الدنيوية وحياة الدنيا بمقدار ما لذلك من التأثير في الحياة الأخروية والمعنوية للإنسان، وإذا لم يعمل الدين على بحثها فإن حياته الأخروية والمعنوية سوف تُصاب بالضرر. إن جوهر المعنوية وطريق الدخول إلى عالم المعنى ـ من وجهة نظر الدين ـ يكمن في التمتُّع بالتجربة الدينية والسعادة الأخروية للإنسان، بمعنى الحصول على مثل هذه التجربة. وعلى هذا الأساس يمكن الادّعاء أن أهمّ هدف للدين إعداد الظروف والشرائط للحصول على مثل هذه التجربة، والمحافظة عليها، ورفع الموانع من أمامها. إن هذه التجربة تسمّى في لغة الدين «لقاء الله». وإن ضمان السعادة الأخروية، والاقتراب من الله، والحصول على التجربة الدينية، وازدهار الشعور الديني بين الناس، يُعَدّ من أهمّ مقاصد الشريعة. وعلى هذا الأساس فإن أحكام الدين التي يؤدّي اتّباعها إلى تعريض سعادة الإنسان للخطر، والتي تدعوهم إلى الغفلة عن ذكر الله، وحرمانهم من التجربة الدينية، وتقضي على شعورهم الديني، أو تصل به إلى مرحلة التخدير، لن تكون منسجمةً مع مقاصد الشريعة.

إن الإطار العامّ الذي يرسمه الدين للحياة الدنيوية إطارٌ لا يعيش فيه الفرد حالة الغفلة عن الله والبُعْد عن المعنوية. إن النموذج الديني للحياة نموذجٌ يتمحور حول الله والمعنويات، بَيْدَ أن الناس في إطار هذا النموذج أحرارٌ في تنظيم حياتهم الفردية والجماعية على أساسٍ من العقل والتجربة الفردية والجماعية، بمعنى أن الدين يكتفي بالحدّ الأدنى من التدخُّل في الحياة الدنيا؛ لأن هذا المقدار من التدخُّل يكفي لتلبية أهدافه. ولو كان تدخُّل الدين في الأمور الدنيوية بشكلٍ أكبر من هذا المقدار فإنه سيقضي على كلٍّ من الحياة الدنيوية والأخروية للإنسان في وقتٍ واحد.

وفي الوقت نفسه إن النموذج الديني للحياة يقترن بلوازم واقتضاءات نظرية وعملية خاصّة؛ فإن هذا النموذج يقتضي من الناس ـ على سبيل المثال ـ أن يراعوا في سلوكهم القِيَم والمعايير الأخلاقية؛ لأن نقض هذه القِيَم والمعايير يُبْعِدهم عن الله، ويحرمهم من خوض التجربة الدينية، ويؤثِّر سلباً على حياتهم الأخروية والمعنوية. وهذا هو مكمن السرّ في تأكيد الدين على العدل والإحسان في التعامل مع الآخرين([13]). وكما سبق أن ذكرنا فإن أصل العدالة يعكس الأخلاق الاجتماعية في حدِّها الأدنى. إن تعريف العدالة وتعيين مصاديقها ليس تعبُّدياً ودينياً، ولو أن الدين قد أكَّد في مرحلةٍ من التاريخ على روابط وعلاقات خاصة بوصفها روابط وعلاقات عادلة، ونصح أتباعه بها، فإن هذا التأكيد والنصح يجب أن يأخذ في اعتباره تأكيداً ونصحاً بجوهر العدالة وروحها، لا بوصف أن هذه الروابط والعلاقات الخاصّة ستبقى عادلة إلى الأبد، وفي جميع الأوضاع والأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية. إن مقتضى أصل العدالة في مختلف المجتمعات ليس على نَسَقٍ واحد؛ فإن العلاقات التي تعتبر عادلةً في مجتمعٍ ما قد تعتبر جائرةً في مجتمعٍ آخر، وتبعد الإنسان عن الله والمعنويات، وتعرِّض سعادته الأخروية إلى الضياع والانهيار.

وعلى هذا الأساس فإن الإصرار على العدالة كإحدى مقاصد الشريعة لا يعني ثبات شكلٍ خاصّ من العلاقات والروابط الاجتماعية، وتَبَعاً لذلك لا يعني تأبيد أحكام الدين الناظرة إلى تطبيق أصل العدالة على الموارد الخاصّة. ولذلك لو أن فهم الشريعة كان منافياً للعدالة أو سائر أهداف الدين سيكون ساقطاً عن الاعتبار.

إن من بين مقاصد الشريعة إقامة العدالة في المجتمع الإنساني، وبناءً على ذلك يكون الدين في مقام الثبوت عادلاً، وتكون الشريعة في اللوح المحفوظ على منهج العدل. ولكنّ الناس قد يُخطئون في فهم الشريعة، فيستنبطون لذلك أحكاماً ظالمة من النصوص الدينية. وللحيلولة دون حدوث هذا الخطأ يتعيَّن على المؤمنين أن يقيِّموا تفسيراتهم وأفهامهم للشريعة بميزان العدالة، بمعنى أن الأفهام والقراءات المختلفة للشريعة «قابلةٌ للإبطال» في ضوء أصل العدالة. إلاّ أن الأمر لا ينتهي عند هذا الحدّ؛ وذلك لأن المؤمنين في ما يتعلَّق بتقييم فهمهم للنصوص الدينية من خلال أصل العدالة يحتاجون إلى نظريةٍ ما فوق دينية في باب العدالة، وهي نظرية تبيِّن أصول ومعايير العدالة، وتعمل على تعريف وتفسير العدالة، دون الرجوع إلى أحكام الدين. وعليه بالاستناد إلى الفرضية القائلة بأن أحكام الدين في مقام الثبوت عادلةً لا يمكن الادّعاء بأن العدالة الإسلامية تختلف عن العدالة غير الإسلامية، ولا يمكن الادّعاء بأن علينا الرجوع إلى النصوص المبيّنة للأحكام الفقهية لاكتشاف نظرية العدالة الإسلامية؛ فإن العدالة مقولةٌ ما فوق دينية.

إن القول بوجوب تطبيق أحكام الدين من أجل تطبيق العدالة صحيحٌ. ولكن كلامنا لا يدور حول ما إذا كانت «أحكام» الدين عادلة أم لا. إن عدالة الله تعني أن إرادته تابعةٌ لأصل العدالة. إنما البحث يدور حول أن عدالة أحكام الدين في اللوح المحفوظ لا تعمل من تلقاء نفسها على ضمان عدالة «الأفهام» و«الاستنباطات» الفقهية من النصوص المبيّنة للأحكام الدينية. ومن جهةٍ أخرى إن تطبيق الأحكام الدينية هو أدنى ما يمكن فعله من أجل تحقُّق العدالة وبناء المجتمع العادل([14]).

وعلى سبيل المثال: إن القراءة الدينية التي تقسِّم الناس إلى: مواطنين من الدرجة الأولى؛ ومواطنين من الدرجة الثانية، وتعمل على تقسيم السلطات والإمكانات السياسية والاجتماعية بشكلٍ غير متكافئ بين المواطنين، وتمنح المسؤولين حقوقاً دون تكاليف، وتعطي المحكومين تكاليف دون حقوق، تتعارض مع أصل العدالة، ولا يمكن لنا أن ننسب مثل هذه القراءة إلى الله الذي يتَّصف بأنه عادلٌ، حتّى لو قام على تأييد ذلك ـ فرضاً وفرض المحال ليس محالاً ـ مئات الآيات والروايات. فلو اعتبرنا العدالة إحدى مقاصد الشريعة وجب علينا أن نسلب الحجّية عن الآيات والروايات الدالة بحَسَب الظاهر على جعل حكمٍ جائر من قِبَل الله سبحانه وتعالى. ولكي نثبت عدم عدالة حكمٍ من الأحكام ليس من اللازم تحصيل القطع واليقين، بل يكفي في ذلك حصول الظنّ المعتبر، كما أن الظنّ المعتبر لا يقتصر تحصيله على الظنّ الحاصل من ظاهر الكلام وخبر الواحد، بل يشمل حتّى الظنون العقلية والتجريبية أيضاً. كما أن العدالة لا تنحصر في العدالة الاقتصادية فقط، وإن قيمة وأهمّية العدالة السياسية ليست أدنى من قيمة وأهمّية العدالة الاقتصادية أبداً. إن العدالة السياسية تعني التوزيع العادل للسلطات والحريات، كما أن العدالة الاقتصادية تعني التوزيع العادل للثروة. وعليه فإن العدالة لا تتعارض مع الحرّية؛ كي يضطرّ الناس إلى اختيار إحداهما. وبطبيعة الحال يبدو أن الجمع بين العدالة الاقتصادية والعدالة السياسية مشكلاً، ومن هنا يذهب بعض الفلاسفة والمنظِّرين إلى الاعتقاد بأن على الناس أن يختاروا من بين العدالة الاقتصادية والعدالة السياسية إحداهما. ويتمّ تعريف الاشتراكية والليبرالية لنا في الحقيقة بوصفهما طريقين مختلفين لتحقيق هذه الغاية. وإن مكمن الاختلاف بين هاتين الرؤيتين في الأولوية التي يقولان بها تجاه كلٍّ من العدالة السياسية أو العدالة الاقتصادية. ومن المحتمل أن يحظى التلفيق بين هاتين الرؤيتين ـ من الناحية العملية ـ بالكثير من الأتباع والأنصار والمؤيِّدين.

إن تغيير الأحكام الشرعية، وتقديم تفسير جديد للنصوص الدينية؛ بسبب عدم جدوائية تلك الأحكام أو عدم فاعلية التفسير التقليدي لهذه النصوص في تلبية مقاصد الشريعية، لا يمكن اعتباره مصداقاً لـ «التعدّي» على الحدود الإلهية؛ لأن التعدّي على الحدود الإلهية يعني تجاوز مقدار العقوبة التي حدَّدها الله لمعاقبة المجرم وتأديبه، واستبدالها بعقوبة أشدّ منها، لا عدم تطبيقها وإقامتها؛ بسبب عدم جدوائيتها في حلّ المشكلة، أو بسبب عدم تناغم تلك العقوبة مع أهداف الشريعة وغاياتها، ومع القِيَم الأخلاقية. إذا كانت أحكام الشرع في اللوح المحفوظ تابعةً لأهداف الشرع فإن هذه الأحكام إنما يُكْتَب لها البقاء ما دامت تلعب دَوْراً إيجابياً ومؤثِّراً في تحقيق تلك الأهداف. وعلى هذا الأساس لو كان تطبيق الحكم الشرعي في موردٍ يُبعد الفرد أو المجتمع عن مقاصد الشريعة، أو يؤدّي إلى نتائج عكسيّة، أو حتّى إذا فقد حكمٌ خاصِّيته وتأثيره المطلوب، أو إذا تمّ اكتشاف وسيلةٍ وأداةٍ أفضل وأكثر تأثيراً وأقلّ كلفةً في تحقيق مقاصد الشريعة، ففي هذه الحالة لن يكون هناك حكمٌ، حتّى يُقال بأن عدم تطبيقه يُعتَبَر تجاوزاً للحدود الإلهيّة.

ك ـ المعيار الحادي عشر: عدم الانسجام مع ما يريده الإنسان من الدين

لقد قام زعماء الكنيسة بمحاكمة غاليلو؛ بسبب قوله: «إن الأرض تدور حول الشمس»؛ إذ تصوَّروا أن هذا الكلام يخالف مضمون الكتاب المقدَّس، الذي يعتبرونه كلام الله. هذا في حين أن كلام غاليلو إنما كان يخالف علم الهيئة البطليموسية، و«ظاهر» كلمات الكتاب المقدَّس، ولم يكن مخالفاً للدين في مقام الثبوت، أو الدين المطلق وما فوق التاريخي. إلاّ أنهم في الفهم التقليدي للكتاب المقدَّس كانوا يتصوَّرون الهيئة البطليموسية جزءاً من الدين، في حين أنها لم تكن سوى ظرفٍ للدين، وليست جزءاً منه. في حين أن التعارض والاختلاف القائم في هذا المورد إنما كان بين الهيئة الجديدة والهيئة القديمة، ولم يكن لهذا الخلاف أيّ صلةٍ بالدين.

وكان غاليلو يقول لهم، في الدفاع عن نفسه ورؤيته: «إن الكتاب المقدَّس إنما جاء ليعلِّمنا كيف نتحرَّك نحو السماء، لا ليقول لنا كيف تتحرَّك السماء»، وقد كان مراده من ذلك أن الكتاب المقدَّس إذا كان يشتمل على كلماتٍ تدلّ على حركة الشمس حول الأرض يجب اعتبار هذا القسم من دلالة الآيات ظرفاً للدين، وليس جزءاً منه، وكان ذلك من باب مسايرة المخاطبين الأوائل للكتاب المقدَّس في اعتقادهم بمثل هذه النظرية. لا أن يكون علم الهيئة جزءاً من الدين، ولا أن يكون تعليم النظريات النجومية والفلكية جزءاً من رسالة الأنبياء.

وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن ما يتوقَّعه الإنسان من الدين إنما يكون معياراً مناسباً للفصل بين الظرف والمظروف، إذا كان «معقولاً» و«منطقياً»، فكلّ شيءٍ لا ينسجم مع التوقُّع المعقول والمنطقي للإنسان من الدين لن يكون جزءاً من الدين، وإنما هو مجرَّد ظرفٍ للدين. إن التوقُّعات المعقولة والمنطقية من الدين في الحقيقة هي ذات الأهداف الإلهية التي جاء الدين من أجل تحقيقها. هناك ارتباطٌ مباشر بين «توقُّعاتنا» المعقولة والمبرّرة من الدين وبين «دائرة» الدين، بمعنى أننا مكلَّفون بمواءمة ومناغمة توقُّعاتنا من الدين مع دائرة الدين. من هنا إذا كانت توقُّعاتنا من الدين معقولةً أمكن لها مساعدتنا في اكتشافة دائرة الدين. لا يمكن تحديد دائرة الدين من خلال مضمون ومفاد النصوص الدينية؛ لأن جزءاً مما هو موجود في هذه النصوص خارجٌ قطعاً ويقيناً عن دائرة الدين، وداخلٌ في ظرف الدين. ومضافاً إلى ذلك إن للأنبياء وأولياء الدين ـ كما رأينا في الفصل السابق ـ شؤوناً وحيثيات مختلفة، وإن كلماتهم ومواقفهم وإنْ كانت متناغمة ومنسجمة مع الوحي، إلاّ أنها لا تنشأ عن الوحي دائماً. ولذلك يجب علينا قبل الرجوع إلى النصوص الدينية أن نكوِّن نظريةً ورؤية واضحة ومنقَّحة بشأن دائرة الدين، وإن توقُّعاتنا من الدين إنما يمكن لها مساعدتنا في كشف دائرة ومجال الدين إذا كانت معقولةً.

وأما أن نتوقَّع من الدين أو الوحي أن يحلّ محلّ العقل والتجارب البشرية، ويحلّ لنا مشاكلنا العلمية وما وراء الدينية، فهو توقُّعٌ غيرُ معقولٍ وغيرُ مبرَّر؛ لأن مثل هذا التوقُّع من الدين لا يمكن تلبيته. وهكذا فإن توقُّع أن يحلّ الفقه محلّ الإدارة والتخطيط العملي وأخلاق الإدارة، وإغناء المسلمين عن الإدارة العلمية والتخطيط العقلاني وأخلاق الإدارة، توقُّعٌ غيرُ معقولٍ وغيرُ مبرَّر. كما أن توقُّع أن يحلّ الفقه المشاكل الأخلاقية والحقوقية للمسلمين، وأن يُلبّي حاجتهم الأخلاقية والحقوقية، وأن يغنيهم عن علم الأخلاق وعلم الحقوق، وأن يحلّ النقل ـ بشكلٍ عامّ ـ محلّ العقل والعُرْف والتجربة في حياة الإنسان، هو توقُّعٌ غيرُ معقولٍ، وبعيدٌ عن الرؤية الواقعية.

لا يمكن تحديد دائرة الدين من خلال التوقُّعات «اللامعقولة» للإنسان من الدين. فالدين إنما نزل لتلبية الحاجة الدينية للإنسان، وليس لتلبية جميع حاجاته. وبطبيعة الحال إن الناس إنما يقبلون على الدين بتوقُّعاتٍ مختلفة، إلاّ أن الذي يتمّ تلبيته منها ـ من خلال الرجوع إلى الدين ـ هو التوقُّعات المعقولة والمنطقية. إن التوقُّع المبرَّر والمعقول من الدين هو التوقُّع الذي يمكن تلبيته من خلال الدين. ولا نرى حاجةً للتذكير بأن تحقُّق هذا الأمر رهنٌ بأن يراعي الإنسان المعايير العقلانية في فهم وتفسير الدين، وأثناء العمل بتعاليم الدين، ومتابعة تلبية سائر توقُّعاته الأخرى من الطرق والمصادر المناسبة الأخرى.

إن الفقه والحقوق والأخلاق ثلاثة علوم مختلفة، ولكلٍّ منها نوعٌ من الحكم يختلف في ماهيّته عن الآخر، ولا يمكن لأحدها أن يحلّ محلّ الآخر. إن علم الفقه ناظرٌ إلى «شريعة الوحي»، ويتكفَّل باكتشاف الواجبات والمحرَّمات الشرعية؛ وأما علم الأخلاق فناظرٌ إلى جانب من «شريعة العقل»، وأما علم الحقوق فناظرٌ إلى «شريعة العُرْف»([15]). إن الواجبات والمحظورات الفقهية هي غير الواجبات والمحظورات الأخلاقية والحقوقية، وتنشأ من مصادر مختلفة. إن منشأ الواجبات والمحظورات الفقهية هو إرادة إله الفقه أو الإله الشارع، في حين أن منشأ الواجبات والمحظورات الأخلاقية هو إرادة إله الأخلاق أو الشاهد المثالي، بل إن منشأ الواجبات والمحظورات الحقوقية هو إرادة العُرْف أو المقنِّن والمشرِّع العُرْفي.

إن توقُّع أن يحلّ علم الفقه محلّ علم الأخلاق وعلم الحقوق ينشأ عن تصوُّر خاطئ في مجال ماهيّة الفقه وآليته([16]). إن الشيء الذي يطلبه الله تعالى من المؤمنين هو مراعاة أحكامه «الإلزامية»، وأما في الموارد التي لا يكون فيها حكمٌ إلزامي صادر عن الله تعالى فالمؤمنون أحرارٌ في تنظيم أمورهم الفردية والاجتماعية فيه على أساس العقل والتجربة والحسابات العقلانية والتخطيط العلمي.

وبعبارةٍ أخرى: يجوز للمؤمنين في إطار الأحكام الإلزامية للدين المطلق أن يمارسوا التقنين، وأن يوجبوا على أنفسهم شيئاً أو يحرِّموا على أنفسهم عملاً من خلال العقد الاجتماعي، وما داموا لا ينسبون القانون مورد البحث إلى الله تعالى لا يكون ما يقومون به مخالفاً للشرع أبداً. إن ما يُقال من عدم وجود مجلس للتقنين في الإسلام، وأن كل التشريعات والقوانين قد تمَّتْ المصادقة عليها في السماء بشكلٍ مسبق، وليس أمامنا سوى التعرُّف على أحكام الله والعمل على تطبيقها، إنما هو كلامُ حقٍّ يُراد به باطلٌ. أجل، نحن من الناحية الدينية مكلَّفون بالتعرُّف على أحكام الله الإلزامية، والعمل على طبقها. ولكنْ في الوقت نفسه عندما لا يكون لله حكمٌ ملزِمٌ يكون لنا كامل الحرّية في التقنين على أساس العقل والتجربة البشرية، وأن نسعى إلى تطبيق هذه القوانين. وإن نفوذ واعتبار هذه القوانين رَهْنٌ بإمضاء الناس أو الممثِّلين عنهم، وليس رَهْناً بإمضاء الفقهاء والمجتهدين. لم تأتِ الشريعة لتحلّ محلّ العُرْف. كما ليس من شأن المجلس التقنيني العمل على تشريع الحكم الشرعي.

إن الادّعاء بأننا لا نمتلك مجلساً تشريعياً في الإسلام، وأن الديمقراطية لا تنسجم مع الإسلام، قائمٌ على تصوُّرٍ خاطئ لمجال الشريعة والفقه. صحيحٌ أن التشريع والتقنين حقّ الله، إلاّ أن هذا الكلام لا يعني أن الناس لا يحقّ لهم التشريع أبداً، وفي أيّ مجالٍ من المجالات. إنما هذا الكلام يعني أن أحكام الله الإلزامية متقدّمة على القوانين البشرية، ولا يعني أنه عندما لا يكون لله حكمٌ مُلزِمٌ في موردٍ لا يحقّ للناس ممارسة التشريع في ذلك المورد أيضاً. إن سكوت الله تعالى وعدم جعل الحكم الإلزامي من قِبَله في موردٍ ما هو عين الاعتراف بحقّ الناس في التشريع في ذلك المورد. إن معنى سكوت الله أنه لم يُعْمِل حقّه في التشريع في ذلك المورد، وأنه أعطى ذلك الحقّ للناس. وعليه فعندما لا يُعمل الله هذا الحقّ يحقّ للناس أن يمارسوا دَوْرهم في التشريع والتقنين في ذلك المورد. وأساساً إن إنكار حقّ التقنين والتشريع وسلبه عن الناس هو عين إنكار الحقّ الطبيعي والفطري لهم في تعيين مصيرهم الفردي والجماعي.

لا ينبغي التنزُّل بشأن ومنزلة المجلس التشريعي والتقنيني إلى مستوى اكتشاف الأحكام الشرعية، والتخطيط لتطبيق الأحكام الشرعية؛ فإن اكتشاف الأحكام الشرعية والتخطيط لتطبيقها إنما هو من مهامّ الفقهاء، وليس من مهامّ الممثِّلين عن الشعب. يحقّ للناس في الموارد التي لا يكون لله فيها حكمٌ ملزِمٌ أن يعملوا على وضع القوانين بإرادتهم واختيارهم، وأن يقوموا على أساسها بتنظيم وإدارة حياتهم الفردية والاجتماعية. وعلى هذه الشاكلة يحقّ لهم أن ينتخبوا ممثِّلين عنهم، وأن يفوِّضوا لهم حقّ التقنين بالنيابة عنهم. وإن نفوذ واعتبار هذه القوانين لا يتوقَّف على إمضاء الشرع، وبعبارةٍ أخرى: إننا نعلم مُسْبَقاً أن هذه القوانين ممضاةٌ سَلَفاً من قِبَل الشرع.

إن القوانين العُرْفية والحقوق القائمة على العُرْف (شريعة العُرْف) معتبرةٌ ونافذة في حدّ ذاتها، ولا تحتاج في نفوذها واعتبارها إلى دليلٍ آخر. وإن مجرّد سكوت الله تعالى عن شريعة العُرْف يكفي للعمل بقوانين هذه الشريعة. إن تعارض شريعة العُرْف مع المباحات والمكروهات والمستحبّات الشرعية، وكذلك تعارضها مع أصل البراءة وأصل الإباحة، ومعارضتها لعُرْف العالم التقليدي (ومع الأحكام الإلزامية للدين التاريخي، والذي تمّ تطبيقه على عالَم ما قبل الحداثة)، لا يستوجب إبطالها أو القول بعدم مشروعيتها. إن شريعة العُرْف تنبثق عن إرادة الشارع العُرْفي، وليس عن إرادة الشارع القُدْسي. وعليه لا يمكن ولا يجب نسبة أحكام شريعة العُرْف إلى الله. إن المؤمنين بحكم إيمانهم لا يحقّ لهم تحليل حرام الله، ولكنْ يحقّ لهم ويمكنهم أن يحرِّموا على أنفسهم حلال الله، وذلك دون نسبة هذا التحريم إلى الله بطبيعة الحال. والإيمان والتوحيد لا يقتضي أكثر من ذلك. فالمؤمنون مختارون بين أن يعملوا بالمكروهات والمستحبّات والمكروهات أو أن لا يعملوا بها، وعليه يمكن لهم من خلال جعل قانونٍ، والمصادقة عليه وإمضائه، أن يوجبوا أو يحرِّموا على أنفسهم من الناحية العُرْفية (والأخلاقية) أمراً مكروهاً أو مباحاً أو مستحبّاً من الناحية الشرعية، بشرط عدم نسبة هذه القوانين إلى الله سبحانه وتعالى.

خلاصة القول: إنه في غير الواجبات والمحرَّمات الشرعية يحقّ للإنسان أن يُباشر التقنين، ولا يحقّ لأحدٍ أن يسلب عنه هذا الحقّ، بل إن سلب هذا الحقّ عن الناس مخالفٌ للشرع. وإن القيد الوحيد الذي يحدّ حقّ الإنسان في التقنين هو القِيَم والإلزامات الأخلاقية من جهةٍ؛ وحكم الله المُلْزِم من جهةٍ أخرى. وأما في إطار الإلزامات الأخلاقية والشرعية فيحقّ للناس أن يمارسوا التقنين، شريطة عدم نسبة هذا التقنين إلى الله، وعدم اعتباره جزءاً من الدين. إن التقنين والتشريع في دائرة المباحات الشرعية لا يعني تغيير الحكم الشرعي؛ لعدم كون الحلّية والإباحة حكماً أصلاً. بل إن هذه المفاهيم إنما تنتزع من عدم الحكم الإلزامي، أو من سكوت الشارع.

وعليه فإننا مكلَّفون بمناغمة توقُّعاتنا من الفقه والفقهاء مع غاية وآلية الفقه والتخصُّص الفقهي. إن الفقه ليس حلاّلاً لجميع مشاكل الناس، ولا يمكنه لوحده أن يضمن سعادة المسلمين في الدنيا والآخرة، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، فلو حلّ الفقه محلّ العلوم الأخرى، من قبيل: الحقوق والأخلاق والإدارة والسياسة والاقتصاد، فإن هذا سيؤدّي إلى ضياع دنيا المسلمين وآخرتهم. إن مثل هذا التوقُّع من الفقه والفقهاء توقُّعٌ غيرُ مبرَّرٍ وغيرُ معقول. وإن النظريات الصادرة من قِبَل الفقهاء في إطار الإجابة عن هذا النوع من التوقُّعات ليس في الحقيقة تنظيراً فقهيّاً وتخصُّصياً، بل هو تنظيرٌ مزاجيّ، ورؤية غير منقَّحة وغير علمية. إن التخصُّص الفقهي والتخصُّص في خصوص معرفة الحكم الإلزامي العامّ يُعتبر شرطاً شرعياً. وإن تطبيق هذه الأحكام على الموضوعات والأوضاع والأحوال الخاصّة في عالم الخارج، وكذلك إحراز شرائط فعلية تلك الأحكام، خارجٌ عن دائرة التخصُّص الفقهي. إن الفقيه بما هو فقيهٌ لا يمكنه ولا يحقّ له أن يبدي رأيه بشأن عالم الخارج، بمعنى أن إبداء رأيه في هذا الشأن لا يستند إلى الشرع، وليس هناك ما يُلْزِم الآخرين باتباعه في هذا النوع من الآراء.

إن الكثير من الآراء الواردة في النصوص الدينية بشأن الطبّ والسياسة والاقتصاد والإدارة والأخلاق وما إلى ذلك إنما هي في الحقيقة خارجةٌ عن دائرة الدين، ومستندةٌ إلى العقل والتجربة. وإن اعتبار هذه الأمور بوصفها من الدين يُعَدّ نوعاً من البِدْعة في الدين.

ل ـ المعيار الثاني عشر: عدم الانسجام مع العُرْف المعاصر

إن من بين الملاكات الأخرى التي يمكن اقتراحها للتفكيك بين الظرف والمظروف ملاك عدم الانسجام مع «العُرْف المعاصر»، أو إمضائية الحكم الشرعي. إن هذا المعيار يقوم على التفكيك والفصل بين الأحكام التأسيسية والأحكام الإمضائية. إن الكثير من أحكام الإسلام ـ ولا سيَّما في باب المعاملات ـ عبارةٌ عن إمضاء شريعة العُرْف السائدة في عصر نزول الوحي، بمعنى إمضاء الأحكام التي كانت سائدةً قبل ظهور الإسلام، وكانت تمثِّل العُرْف السائد في ذلك العصر. وقد عمد الإسلام إلى إمضاء تلك العُرْفيات وتأييدها، كما هي أو بعد إجراء بعض التعديلات الطفيفة عليها. وإذا كان الحكم إمضائياً يحتمل قويّاً أن يكون ذلك الحكم من مختصّات ذلك العالم الخاصّ، بمعنى أن احتمالَ أن يكون ذلك الحكم من الأحكام التاريخية، والتي تمّ تطبيقها على ذلك العالم، وليس من أحكام الدين المطلق وما فوق التاريخي قويٌّ جدّاً، وفي الحدّ الأدنى تكون تسرية ذلك الحكم إلى الأزمنة والأمكنة والعوالم المختلفة غير ممكنةٍ بسهولةٍ. وفي مورد الأحكام الإمضائية يكون إطلاق وتقييد واستمرار وعدم استمرار إمضاء الشارع تابعاً لإطلاق وتقييد واستمرار وعدم استمرار الحكم الممضى. وعلى هذا الأساس لا يمكن من خلال التمسُّك بالعموم والإطلاق الزماني للألفاظ، وقاعدة اشتراك المكلَّفين في الأحكام، أن نثبت وجود واستمرار ذلك الحكم، حتّى بعد زوال ذلك العُرْف. إن الفقهاء؛ لكي يتمكَّنوا من تعميم هذه الأحكام على سائر الأزمنة والأمكنة، يحتاجون إلى أدلّةٍ مقنعةٍ خاصّة. ولكي يثبتوا دوام واستمرار هذه الأحكام يجب عليهم الرجوع إلى العُرْف «المعاصر»، ليروا هل هذا العُرْف لا يزال يحمل مثل هذا العقد والتواضع، ولا يزال ملتزماً ومتمسّكاً بمثل هذا الحكم أم لا؟ وفي حالة استمرار ذلك العُرْف إلى عصرنا الراهن يمكن الادّعاء بأن ذلك الحكم لا يزال مورد قبول وإمضاء الشارع؛ وأما في حالة زوال وتغيُّر ذلك العُرْف ستكون نسبة هذا الحكم إلى الشرع بِدْعة في الدين([17]).

إن القول باعتبار عُرْف صدر الإسلام من قِبَل الشارع، أو سكوته عن هذا العُرْف، لا يعني إضفاء القداسة عليه، ووجوب فرضه على العُرْف في الأزمنة المتأخِّرة. بل الأمر على العكس من ذلك؛ فإن النموذج والقاعدة العامة التي تستنبط وتستخرج من مثل هذا التعاطي هو أن الإسلام ينسجم مع العُرْف «المعاصر» ويتقبَّله. وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن السكوت السابق من قِبَل الشارع تجاه عُرْف الأزمنة المتأخِّرة يعني إمضاء هذا العُرْف من قِبَله أيضاً، بل يمكن لنا أن نستنبط من آياتٍ، من قبيل: ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ (الأعراف: 199)([18])، أن الشارع قد أمضى عُرْف الأزمنة المتأخِّرة بشكلٍ سابق أيضاً، حيث سكت عن هذا المورد. إن شريعة العُرْف في حالة تحوُّل وتغيُّر تدريجي، ولا يمكن المنع من تحوُّلها وتغيُّرها بحجّة ثبات الأحكام الشرعية، بل على العكس، يجب القبول بأن ثبات أو تحوُّل الأحكام الإمضائية للشريعة المقدّسة رَهْنٌ بثبوت وتحوُّل الشريعة العُرْفية، بمعنى أن قداسة الشريعة لا تستوجب بقاء الأحكام الإمضائية لهذه الشريعة ثابتةً أيضاً، بل على العكس فإن إمضاء حكمٍ عُرْفي من قِبَل الشريعة المقدَّسة يعني أن الشريعة المقدَّسة، تَبَعاً للشريعة العُرْفية، ستكون عُرْضةً للقبض والبسط. ولا توجد أيّ ملازمةٍ ميتافيزيقية أو منطقية بين القداسة والثبات والاستمرار.

في الفصول المتقدِّمة رأينا أن بعض المتكلِّمين والفقهاء؛ كي يُثبتوا حاجة البشر إلى الدين، يُصرّون ويؤكِّدون على تغيُّر القوانين البشرية وثبات الأحكام الشرعية، معتبرين ثبات الحكم الشرعية مزيّةً. في حين أن الثبات والتحوُّل في حدّ ذاته لا ينطوي على أيّ قيمةٍ؛ لأن القانون مجرّد وسيلةٍ للوصول إلى الهدف، وإن قيمة القانون إنما هي قيمةٌ آلية. وإن الوسيلة إنما تكون ذات قيمة ما دامت تلبّي الحاجة التي صنعت من أجلها بشكلٍ جيّد، وعلى نحوٍ أفضل وأكثر تأثيراً من أيّ وسيلةٍ أخرى تكون بمتناول أيدينا. وإن الإصرار على الوسائل والأدوات القديمة وغير الفاعلة مخالفٌ للعقلانية الآلية. إن الحاجات التي تستوجب ضرورة وجود وسيادة القانون في المجتمع البشري تتمّ تلبيتها من خلال التلفيق بين القوانين الثابتة والقوانين المتغيِّرة. وعليه فإن النظام الحقوقي المطلوب والمناسب هو النظام الذي يعمل بنحوٍ متناغم على التلفيق بين القوانين الثابتة (الأصول والمحكمات) والقوانين المتغيِّرة (الفروع والمتشابهات). وبعبارةٍ أخرى: إن تغيُّر القوانين البشرية ليس ناشئاً من جهل البشر؛ كي يتمّ التمسُّك بعلم الله بالغيب لحلّ هذه المشكلة واحتواء هذا النقص. إن تغيُّر القوانين أمرٌ تقتضيه الطبيعة المتحوِّلة لعالم الطبيعة والمجتمع الإنساني، ويقتضيه اكتشاف القوانين الأفضل والوسائل الأجدى والأكثر تأثيراً. إن علم الله للغيب لا يَسَعه تبديل القانون المتغيِّر في حدّ ذاته إلى قانونٍ ثابت بالعَرَض. هذا، مع التذكير بأن الفهمَ القائل بأن الشريعة الإلهية يمكن أن تحلّ محلّ شريعة العُرْف فهمٌ خاطئ.

وكما سبق أن ذكرنا فإن الشريعة المقدَّسة بمعنى مجموع الواجبات والمحرَّمات الإلهية. وبأدنى تأمُّلٍ في هذه الواجبات والمحرَّمات يمكن أن نفهم أن هذه الأحكام تنبثق عن مبادئ مختلفة ومتنوِّعة، وأن الغرض من تشريعها من قِبَل الله لم يكن هو إدارة المجتمع من المَهْد إلى اللَّحْد. فعلى سبيل المثال: يعمد الله أحياناً إلى إيجاب أو تحريم فعلٍ ما؛ من أجل معاقبة قومٍ، أو تكريماً للنبيّ أو وليّه، وأحياناً من أجل سؤال شخصٍ استحوذ عليه الفضول، أو يعمد أحياناً إلى نسخ حكم واستبداله بحكمٍ آخر. ومن الواضح أن فلسفة الحكم في هذه الموارد ليست سوى إدارة المجتمع الإنساني، ورفع حاجة البشر إلى النظم وبسط القانون. بَيْدَ أن تلك المجموعة من القوانين الشرعية ذات الصبغة الاجتماعية، والتي تكون آليّتها إيجاد النظم وتنظيم العلاقات الاجتماعية، أو حلّ وفصل الخصومات والنزاعات وإحقاق الحقوق، والحيلولة دون ارتكاب الجرائم، وما إلى ذلك، ليست «تأسيسيّة»، ولا تنبثق عن مصلحةٍ غيبية، بل تهدف إلى تقديم حلولٍ عاجلة من خلال إمضاء القوانين العُرْفية التي كانت قائمةً في صدر الإسلام. وعليه فإن إمضاء هذه القوانين لا يعني إضفاء القداسة عليها، وتخليدها. إن إمضاء القوانين العُرْفية رَهْنٌ ببقاء تلك القوانين، بغضّ النظر عن إمضائها، دون العكس. لو أن المقنِّن حوَّل القوانين العُرْفية المؤقَّتة إلى قوانين مقدَّسة ومطلقة وأبدية سيكون ما قام به في واقع الأمر نقضاً للغرض.

5ـ الكلمة الأخيرة

1ـ إن نظرية امتزاج «الظرف» و«المظروف، أو امتزاج «الدين الذي تمّ تطبيقه» بـ «الدين المطلق»، أو امتزاج «الدين التاريخي» بـ «الدين ما فوق التاريخي»، وتَبَعاً لذلك ضرورة الترجمة الثقافية للنصوص الدينية، هي في الأصل نظريّةٌ تتعلّق بـ «فلسفة الفقه» و«أخلاق الاجتهاد والبحث الفقهي»، وليست نظريّةً «فقهية» أو «أصولية». فلو قبلنا بهذه النظرية ستكون ترجمة النصوص الدينية ثقافياً ـ بوصفها طريقاً وحيداً للفصل والتفكيك بين الظرف والمظروف، أو الفصل بين الدين الذي تمّ تطبيقه والدين المطلق ـ كخطوةٍ أولى على طريق الاجتهاد الفقهي وفهم الشريعة أمراً ضروريّاً. وبعبارةٍ أخرى: طبقاً لهذه النظرية فإن تلك المجموعة من الأفهام الفقهية التي لا تفصل بين الظرف والمظروف، والتي تعمل على تسرية أحكام الدين الذي تمّ تطبيقه على العالم القديم إلى العالم الجديد، وتعمل من خلال ذلك على فرض نَمَط حياة المتقدِّمين وثقافتهم وحضارتهم ـ باسم الدين ـ على سكّان العالم الجديد، تعتبر غيرَ مبرَّرةٍ وغيرَ قابلةٍ للاتّباع. إن الاجتهاد الفقهي ـ من دون الفصل بين ظرف الدين وذات الدين ـ لا يكون اجتهاداً ناقصاً وغير مبرَّر فحَسْب، بل لا يمكن عدُّه اجتهاداً أصلاً، وإنما هو تقليدٌ للآباء والأسلاف. وإن الذين يمارسون الاجتهاد على هذا المنوال يبادرون في الحقيقة إلى الإفتاء قبل الفحص والبحث الكافي عن الدليل. وعليه فإن الفتاوى الصادرة عن هؤلاء المجتهدين غير مبرَّرةٍ حتّى على الموازين التقليدية للاجتهاد أيضاً؛ إذ إن من بين الشروط في اعتبار الفتوى ـ طبقاً لهذه الموازين ـ أن تكون صادرةً بعد الفحص والبحث الكافي عن الدليل. وعلى أيّ حال إن عدم التفكيك بين الظرف والمظروف يعتبر خير دليلٍ على عدم جدوائية الاجتهاد المصطلح.

2ـ إن حدود هذه النظرية لا تقتصر على الفقه وفهم الأحكام الشرعية، بل تشمل فهم وتفسير سائر أبعاد الدين وأجزائه الأخرى أيضاً. إن هذه النظرية تعمل على بيان أصلٍ تفسيري هرمنيوطيقي عامّ، وتحتوي على توصيةٍ لجميع الذين يرومون فهم الدين، بمعنى أنها خطابٌ لكلٍّ من: العلماء؛ وعامّة المؤمنين. والنصيحة العامة التي يمكن الحصول عليها من هذه النظرية هي ضرورة فصل ظرف الدين عن ذات الدين في تفسر النصوص الدينية وفهم العقائد والأحكام الدينية؛ لأن الذي لا يقوم بهذا الشيء لا يكون ناقضاً للمعايير العقلانية والمعرفية فحَسْب، بل يكون مبتدعاً في الدين أيضاً.

وكمثالٍ تطبيقي لهذه النظرية في أصول الدين وتفسير القرآن يمكن لنا أن نأخذ بنظر الاعتبار الآيات والروايات الحاكية عن أوصاف الجنّة والنعيم؛ فإن الذي لا يلتفت إلى امتزاج الظرف بالمظروف سوف يذهب به التوهُّم إلى أن الجنّة الموصوفة في الآيات والروايات واحدةٌ للجميع، وأن على الجميع أن يذهبوا إلى جنّةٍ واحدة. في حين أن هذه الجنة بالنسبة إلى البعض بمنزلة الجحيم، وفي الحدّ الأدنى لا تخلق لديهم الدافع إلى الإيمان والعمل الصالح واجتناب الذنوب. فالجنّة التي لا شمس فيها، والتي تجري من تحتها الأنهار، إنما تعتبر مثاليةً ومطلوبةً لأولئك الذين يعيشون في الصحراء الجافّة والحارقة والتي لا ينبت فيها الزرع، وأما بالنسبة إلى الذين يعيشون في إنجلترا أو البندقية فخيرٌ منها جهنّم.

وأما إذا لاحظنا امتزاج الظرف والمظروف يمكن لنا أن نميِّز بين الجنة المطلقة، والجنّة المنشودة للعرب وسكّان البادية في شبه الجزيرة العربية، وعليه نقول بأن الآيات التالية تصف الجنّة التي هي جزءٌ من الدين المطلق:

ـ ﴿…لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ…﴾ (النحل: 31؛ الفرقان: 16).

ـ ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ (الطور: 22).

ـ ﴿…وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ…﴾ (الزخرف: 71).

وأما في الآيات التالية فيتمّ توصيف الجنّة التي هي جزءٌ من الدين الذي تمّ تطبيقه على المجتمع الذي يعتبر مثل هذه الجنة أمراً مثالياً ونموذجياً:

ـ ﴿وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ…﴾ (البقرة: 25).

ـ ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾ (الإنسان: 13).

ـ ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ (الرحمن: 72).

وفي هذا المورد والموارد المشابهة له لا يمكن حمل المطلق على المقيّد. وعلى هذا الأساس يمكن توظيف واستعمال الترجمة الثقافية على شكل معيارٍ للتفكيك والفصل بين «المحكم» و«المتشابه» أيضاً. إن محكمات النصوص الدينية هي تلك المجموعة من التعاليم الدينية التي لا تحتاج إلى ترجمةٍ ثقافية، وأما متشابِهات هذه النصوص فهي تلك المجموعة من التعاليم الدينية التي يتوقَّف فهمها على ترجمتها ثقافياً.

وعلى الرغم من ذلك فإن الفقهاء والمجتهدين مخاطَبون بهذه النظريّة قبل غيرهم. فيجب على هؤلاء المجتهدين أن يفصلوا أصل أو روح الحكم عن شكله التطبيقي في صدر الإسلام، وأن يُبْدُوا حساسيةً تجاه الخصائص الزمانية والمكانية والثقافية والمعاشية لمختلف العوالم. فعلى سبيل المثال: إن قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ… تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: 60) يُبيِّن حكماً عاماً ومتعلِّقاً بالدين المطلق وما فوق التاريخي، ولذلك يمكن تطبيقه في جميع الأزمنة والأمكنة. إلاّ أن قوله في ذات هذه الآية: ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ يمثِّل تطبيقاً لذلك الحكم العامّ على خصوص المجتمع الذي يتَّخذ من الخيل أداةً فاعلة في الحرب، ومن هنا يكون هذا الحكم من أحكام الدين الذي تمَّ تطبيقه على ذلك المجتمع.

كما أن «الصلاة إلى القبلة» حكمٌ عامّ من أحكام الدين المطلق، إلاّ أن «الصلاة باتجاه الكعبة، أو الحَرَم المكّي، أو إلى مكّة، أو إلى شبه الجزيرة العربية، أو إلى ناحية الجنوب الغربي أو الجنوب الشرقي، أو إلى الكرة الأرضية بالنسبة إلى سكّان الكواكب الأخرى أو روّاد الفضاء» تمثِّل تطبيقاً لذلك الحكم العامّ على مختلف الظروف والشرائط، والكلّ جزءٌ من أحكام الدين الذي يتمّ تطبيقه على المصاديق والجزئيّات.

وإن «وجوب الغسل» حكمٌ عامّ يتعلَّق بالدين المطلق، إلا أن خصوص «الغسل الارتماسي» أو «الغسل الترتيبي» هو تطبيقٌ لذلك الحكم العامّ على ظروف وشرائط خاصّة، وكلاهما يتعلَّق بالدين الذي تمّ تطبيقه على تلك الشرائط والظروف.

وإن «الصلاة مع الطهارة» تكليفٌ من تكاليف الدين المطلق، وأما «الطهارة بالوضوء» أو «الطهارة بالتيمُّم» فهما من تكاليف الدين الذي يتمّ تطبيقه على مختلف الظروف والشرائط؛ فالأوّل يتعلَّق بالعالم الذي يتوفَّر فيه الماء، ولا يكون في استعماله ضررٌ على المكلف، ولا يكون حفظ الماء فيه واجباً لمصارف أهمّ من الوضوء؛ والثاني يتعلَّق بالعالم الذي يشحّ أو ينعدم فيه الماء، أو إذا كان متوفِّراً فهو يضرّ بالمكلَّف، أو يكون الحفاظ عليه لازماً بالنظر إلى وجود المصارف الأهمّ.

وإن «جواز المواجهة والتعامل مع العدوّ بالمثل» حكمٌ من أحكام الدين المطلق، إلاّ أن «جواز امتلاك العبيد والاسترقاق» يمثِّل تطبيقاً لذلك الحكم العامّ على العالم الذي يجيز فيه العدوّ غير المسلم استرقاق المسلمين.

وإن «وجوب الزكاة» حكمٌ من أحكام الدين المطلق، إلاّ أن «حصر وجوب الزكاة بالحنطة والشعير والزبيب وغيرها» يمثِّل تطبيقاً لذلك الحكم العامّ على المجتمع الزراعي، فهو جزءٌ من أحكام الدين الذي يتمّ تطبيقه على ذلك المجتمع. وعليه فإن حمل المطلق على المقيّد، وتسرية حكم المقيّد بهذه القيود إلى المجتمع الصناعي أو المجتمعات المنتجة لمحاصيل مختلفة، وتَبَعاً لذلك نفي وجوب الزكاة في هذه المجتمعات، غيرُ مبرَّرٍ، وإن سيرة العقلاء لا تقوم على حمل المطلق على المقيّد في مثل هذه الموارد.

إن «حرمة الاحتكار» حكمٌ من أحكام الدين المطلق، إلاّ أن «حرمة احتكار الحنطة والشعير والأرزّ والملح» من أحكام الدين الذي تمّ تطبيقه على مجتمع صدر الإسلام.

وإن «حرمة بيع وشراء البضاعة التي لا تترتَّب عليها منفعةٌ عقلائية ومحلَّلة» حكمٌ من أحكام الدين المطلق وما فوق التاريخي، إلاّ أن «منع بيع وشراء الدم» تطبيقٌ لذلك الحكم العامّ على مرحلة من التاريخ لم يكن فيها تزريق الدم شائعاً، ولذلك يكون حكماً متعلّقاً بالدين الذي تمّ تطبيقه على تلك المرحلة.

وإن «حرمة القمار» و«إباحة الرياضة» كلاهما من الأحكام العامّة للدين المطلق، إلاّ أن «حرمة الشطرنج» تطبيقٌ لحكم القمار العامّ على عالَم كان فيه الشطرنج يُعَدّ نوعاً من القمار، وإن «حلية الشطرنج» تطبيقٌ لحكم الرياضة العامّ على ظروف وشرائط يُعَدّ فيها اللعب بالشطرنج نوعاً من أنواع الرياضة الفكريّة. ولذلك تكون حرمة وحلّية اللعب بالشطرنج كلاهما من أحكام الدين الذي يتمّ تطبيقه على مختلف العوالم.

3ـ إن تحديد ما هو الحكم المتعلّق بالدين المطلق، والحكم الذي هو تطبيق لحكم الدين المطلق على عالمٍ خاصّ، يقع على عاتق عُرْف العقلاء المعاصرين، لا على عاتق عُرْف الفقهاء والمجتهدين، ولا على عاتق عُرْف العقلاء في عالَم ما قبل الحداثة، بمعنى أن الفقهاء والمجتهدين إذا أرادوا الفصل بين الدين المطلق وما فوق التاريخي عن الدين التاريخي والذي يتمّ تطبيقه على مختلف العوالم يجب عليهم الرجوع إلى عُرْف العقلاء المعاصرين، وإن التخصُّص الفقهي والحوزوي لا يكفي أبداً في هذا الأمر. وعليه لا بُدَّ لفصل الظرف عن المظروف، أو تفكيك «الدين المطلق» عن «الدين الذي يتمّ تطبيقه على مختلف العوالم»، لا بُدَّ من التعرُّف على العالم الجديد بشكلٍ جيِّد، والعالم الجديد لا يعرفه إلاّ أولئك الذين يعيشون فيه، ومارسوا تجربة العيش فيه([19]). إن العالم الجديد لا يمكن التعرُّف عليه إلاّ من زاوية العلوم الحديثة والأخلاق والعقلانية الجديدة. إن من بين الأدلة على عدم كفاءة الاجتهاد المصطلح في الحوزات أن هذا الاجتهاد لا يمكنه فصل الظرف عن المظروف، ولا يمتلك أيّ معيارٍ أو ضابطةٍ أو منهجٍ لتمييز أحكام الدين المطلق من أحكام الدين الذي يتمّ تطبيقه على مختلف العوالم. إن الذي يكتفي في فهم تفسير القرآن والسنّة بالصرف والنحو والأصول والرجال والدراية، ويرى نفسه في غنىً عن العلوم الحديثة، ستكون حصيلة اجتهاده خليطاً من الظرف والمظروف أو الدين المطلق والدين الذي تمّ تطبيقه على العالم القديم. وعليه لن نحصل من هذا الطريق على الدين الخالص أو الدين المطلق والخالد وما فوق التاريخي، الذي يمكن تطبيقه على جميع الأزمنة والأمكنة، واتّباعه في جميع العوالم. إن «فتوى كلّ فقيهٍ إنما هي تطبيقٌ للدين على العالَم الذي يعيش فيه». وعليه فإن فتاوى الفقهاء الذين يعيشون في العالَم القديم إنما تكون نافذةً ومعتبرة في حقّ سكّان ذلك العالَم، وأما سكّان العالَم الجديد فليس هناك ما يُلزمهم باتّباعها أبداً، إلاّ بالمقدار الذي يشترك فيه العالم الجديد مع العالم القديم في ما يتعلَّق بتلك الفتاوى.

4ـ طبقاً لنظرية الفصل بين الظرف والمظروف تحصل العلوم الجديدة والعلمانية (ما فوق الدينية) على مكانتها اللائقة في «فهم» و«تفسير» الدين، وتبرز كإحدى المقدّمات الضرورية للاجتهاد. إن العلوم الجديدة تمثِّل جزءاً من العالم الجديد، وتعمل على تعريف هذا العالم لنا. ومن هنا لا يمكن فهم الدين في العالم الجديد بشكلٍ صحيح إلاّ من خلال التعرُّف على هذه العلوم([20]). إن المسألة الأولى التي يتعيَّن على المجتهدين حَسْم أمرهم حيالها هي تعيين نسبة الدين والمعرفة الدينية تجاه العقل والعقلانية الجديدة؛ لأن العقل والعقلانية الجديدة، كما تُعَدّ مؤسِّسة للعالم الجديد، تمثِّل مرآةً لهذا العالَم أيضاً، ولا يحقّ الحكم من الناحية الدينية على العالَم الجديد إلاّ لأولئك الذين يعيشون في هذه الدنيا. وعلى هذا الأساس فإن منهج الفهم الصحيح للدين يكمن في اجتماع المتخصِّصين من الحوزة العلمية والجامعة، والتعاون فيما بينهم على فصل الدين عن العالَم القديم، ثم العمل على تطبيقه على العالَم الحديث([21]). وفي هذا المورد لا توجد أولوية لأيٍّ من التخصُّصات الحوزوية والجامعية، ولا يتمتَّع أيٌّ منها بحقّ التقدُّم من الناحية المعرفية، ولا يملك أيٌّ من أصحاب هذين النوعين من التخصُّص في هذا الشأن مرجعيّةً وحقّاً في النقض على الآخرين. إن معرفة الإسلام وإنْ كانت أمراً تخصُّصياً، إلاّ أن التخصُّص اللازم لمعرفة الإسلام لا يأتي من مجرّد دراسة العلوم الحوزوية فقط. كما أن رأي الإسلام غير معروف مسبقاً، بمعنى أن حكم الإسلام هو ما يتَّفق عليه الطرفان بعد البحث والدراسة الكافية، وعلى نحوٍ نسبيّ.

5ـ إن النصوص الدينية بيانٌ لخليطٍ من تعاليم الدين المطلق وتعاليم الدين الذي تمّ تطبيقه على العالم القديم، ولا تقتصر على بيان تعاليم أحدهما فقط. من هنا فإن الفهم والتفسير الصحيح لهذه النصوص بحاجةٍ ماسّة إلى الترجمة الثقافية، ولا يحقّ لنا أن نعمل على تسرية أيّ حكمٍ إلى العالم الجديد قبل القيام بأيّ ترجمةٍ ثقافية للنصوص الدينية، وقبل فصل الظرف عن المظروف؛ إذ يُعتبر هذا غير مبرَّرٍ من الناحية العقلانية، ومعصية من الناحية الأخلاقية والدينية. ولا يخفى أنه لا يوجد هناك أصلٌ أوّليّ يُلزمنا عند الشكّ في كون الحكم مطلقاً أو مقيّداً بحمله على المطلق أو المقيّد. كما أن نسبة الاحتياط إلى كلا طرفي القضية متكافئة، وإن إطلاق الحكم المقيّد بحَسَب الواقع فيه من المخالفة للشرع كتلك المخالفة للشرع والابتداع في الدين عند تقييد الحكم المطلق بحَسَب الواقع.

6ـ إن الاجتهاد بالمعنى العامّ للكلمة سَعْيٌ يقوم على مرحلتين؛ والمرحلة الأولى من الاجتهاد عبارةٌ عن الترجمة الثقافية للنصوص الدينية، والتي يتمّ من خلالها فصل الدين عن ظرفه القديم، ونتيجة هذه المرحلة من الاجتهاد هي الدين المطلق أو ما فوق التاريخي أو الدين الخالص؛ وأما المرحلة الثانية من الاجتهاد فهي عبارةٌ عن صبّ الدين في الظرف المناسب للعصر، وفي هذه المرحلة يتمّ تطبيق الدين المطلق على العالم الجديد، ونتيجة هذه المرحلة من الاجتهاد قراءةٌ خاصّة للدين، تكون قابلةً للدفاع في العالم المعاصر من الناحية النظرية، ومن الممكن الالتزام بها واتّباعها من الناحية العملية. وإن هذه القراءة للدين تختلف إلى حدٍّ كبير عن القراءة التي تمّ تطبيقها على العالم القديم. والمسألة الهامّة هي أن للعلوم البشرية وغير الدينية وما فوق الدينية الحديثة حضوراً حاسماً، ولا يمكن إنكاره في كلتا المرحلتين من الاجتهاد.

7ـ إن التفكير الديني يشتمل على فرضيات ما فوق دينية أو علمانية. وإن أهمّ وأعمّ هذه الفرضيات عبارةٌ عن القِيَم والمعايير العقلانية التي تشكِّل مبنىً للتبرير العقلاني للمتبنَّيات، كما تشكِّل مبنىً لتبرير القرارات والسلوكيات. إن هذه القِيَم والمعايير تفصل المتبنَّيات والقرارات والسلوكيات الإنسانية عن المتبنيات والقرارات والسلوكيات الحيوانية وغير الإنسانية أو المعارضة للإنسانية، وتعمل على تفسير إنسانية الإنسان، وتقوم بتجسيد الهوية الإنسانية، وترسم للإنسانية إطارها. وإن فهمنا للنصوص الدينية إنما يكون مبرَّراً ومعقولاً ومقبولاً في ظلّ هذه المعايير. وعلى هذا الأساس لا بُدَّ من القبول بهذه المعايير بشكلٍ سابق على فهم الدين. وهذا يعني تقدُّم «شريعة العقل» على «شريعة النقل» أو «شريعة الوحي».

وهذا هو المعنى الصحيح لـ «الفلسفة الإنسانية»([22])، أو «محورية الإنسان»، أو «أصالة الإنسان». إن هذا التفسير للفلسفة الإنسانية هو عين التديُّن، بل جوهره وأساسه، وليس بينه وبين «الرؤية الإلهية» أيّ منافاةٍ؛ لأن المقتضيات المعيارية للهوية الإنسانية هي أحكام الشاهد المثالي، وحكم الشاهد المثالي هو حكم الله، كما هو حكم العقل([23]). وعلى هذا الأساس لا يمكن لنا أن ننسب حكماً إلى الدين، واعتباره من الدين، دون تنقيح معايير وقِيَم العقلانية النظرية والعملية، ومن دون مواءمة التفكير الديني مع هذه المعايير.

8ـ إن نظرية امتزاج الظرف والمظروف، وضرورة الترجمة الثقافية للنصوص الدينية، هي في الأصل نظريةٌ ترتبط بفلسفة الفقه وأخلاق الاجتهاد؛ إذ تترتَّب عليها نتائج فقهية وأصولية متعدِّدة. وقد تعرَّضنا في هذا الفصل إلى بعض التداعيات والنتائج الفقهية المترتِّبة على هذه النظرية. وبعد الالتزام بهذه النظرية لا يعود من الممكن القول بـ «حجّية الظهور مطلقاً»، بمعنى أن حجّية الظهور ـ طبقاً لهذه النظرية ـ تكون مقيّدة بالمورد الذي يكون فيه النصّ موضع البحث مبيّناً لحكم «الدين المطلق»، وليس مبيّناً لحكم «الدين الذي تمّ تطبيقة» على العالَم القديم. فعلى سبيل المثال: عندما يكون حكم المطلق مرتبطاً بالدين المطلق، وحكم المقيّد مرتبطاً بالدين الذي تمّ تطبيقه على العالَم القديم، لا يمكن حمل المطلق على المقيّد، بمعنى أن المطلق في هذه الموارد يكون مقدّماً على المقيّد؛ لأن ظهوره العُرْفي أقوى.

والمثال الواضح لهذه القاعدة الأصولية هو حكم الزكاة والاحتكار؛ فإن وجوب الزكاة وحرمة الاحتكار كلاهما من أحكام الدين المطلق، أما النصوص التي تحدّ الزكاة والاحتكار بموارد خاصّة فهي تبيِّن تطبيق ذلك الحكم على مجتمع صدر الإسلام. ولهذا السبب لا يمكن في هذين الموردين حمل المطلق على المقيّد، والوصول إلى نتيجةٍ مفادُها أن الزكاة واجبةٌ في تلك الموارد، حتّى في عصرنا، وأن الاحتكار في عصرنا يشمل تلك الموارد المحرَّمة فقط. إن الأصل العُرْفي أو العقلائي لحمل المطلق على المقيّد غير قابلٍ للتطبيق في ما نحن فيه؛ إذ كلّ شخصٍ عاقل يلتفت إلى امتزاج الظرف والمظروف يُدرك عدم إمكان حمل المطلق على المقيّد في مثل هذه الموارد. وبعبارةٍ أخرى: لا توجد قاعدة في عُرْف العقلاء تلزمهم بحمل المطلق على المقيّد حتّى في هذه الموارد.

9ـ إن عدم انسجام القراءة الرسميّة للدين مع الثقافة والحضارة المعاصرة إنما يعود سببه في الأصل إلى عدم انسجامها مع العقلانية الجديدة والمعايير المذكورة. وفي الحقيقة إن هذه القراءة تتعارض مع ذات الدين؛ لأن الدين الحقّ أو الدين المطلق وما فوق التاريخي منسجمٌ مع المعايير المذكورة.

الهوامش

(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.

([1]) الدين في ميزان الأخلاق.

([2]) وفي ذلك جاء في القرآن الكريم: ﴿فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 194).

([3]) إن تديُّن العصر يتوقّف على عصرنة التفكير الديني، وعصرنة التفكير الديني تتوقّف على اعتناق عقلانية وأخلاق العصر الجديد. ومن خلال افتراض العقلانية والأخلاق التقليدية لا يمكن عصرنة الفكر الديني، ولا يمكن جعل العصر الجديد دينياً.

([4]) لا بُدَّ من التنويه هنا إلى أن الدافع وراء مطالبة بعض المستنيرين بـ «إسلامٍ خالٍ من علماء الدين» يعود إلى أن قاطبة علماء الدين إنما ينادون ويدعون ويبلِّغون لـ «الإسلام المخالف للعقلانية» والمعنوية.

([5]) عبادة العدوّ عبارةٌ عن اقتباس أفعال وأقوال العدوّ الحقيقي أو الموهوم بوصفها معياراً للحقّ والباطل. يقول عبدة الأعداء: انظروا إلى الأعداء، واعملوا بعكس ما يقولونه أو يفعلونه. فإذا قال العدوّ: إن حقوق الإنسان حسنةٌ عليكم أن تقولوا: إن حقوق الإنسان سيّئةٌ وقبيحة، وهكذا.

([6]) علينا القول بعبارةٍ أدقّ وأفضل: إن العموم والإطلاق الزماني غير العموم والإطلاق بالنسبة إلى العوالم المختلفة. ومن العموم والإطلاق الزماني لموضوع حكمٍ أو ذات الحكم لا يمكن أن نستنتج شمول ذلك الحكم للعوالم المختلفة والمتفاوتة. وإن كلّ حكمٍ لا يقبل التعميم إلاّ بالنسبة إلى العوالم المشابهة.

([7]) انظر في هذا الشأن: عدالت نجاد، باب مسدود اجتهاد: 56. (مصدر فارسي).

([8]) هناك اختلافٌ بين الفقهاء حول ما إذا كان يمكن للقاضي أن يحكم طبقاً لعلمه أم لا.

([9]) إن الهيئة المحلَّفة تمثِّل الوجدان العام، ويتمّ انتخابها من بين الناس العاديين بشكلٍ عشوائي، ولا تمثِّل الهيئة الحاكمة ومختلف المؤسَّسات الحكومية. إن مهمة هذه الهيئة ليست إنشاء الحكم، بل تشخيص ما إذا كان المتَّهم مجرماً أم لا. وهو نوعٌ من التشخيص الموضوعي، وهو أمرٌ عُرْفي وعقلائي، وليس شرعياً أو تعبُّدياً. إن شأن القاضي في العالم الجديد هو في الغالب إدارة المحكمة، وليس تشخيص ما إذا كان المتَّهم مجرماً حقّاً أم بريئاً، إن شأن القاضي، الذي هو نوعٌ من توزيع الأدوار الاجتماعية، من الأمور ما فوق الدينية، ولا تتَّصف بالإسلامية وغير الإسلامية.

([10]) في العالم المعاصر لا يشتمل القسم الذي يؤدِّيه المتَّهم على الاعتبار اللازم؛ لأن هذا القسم لا يورث الظنّ المعتبر في أذهان المتعارفين من الناس، ولا يكون طريقاً موثوقاً يصحّ الاعتماد عليه لكشف الحقيقة أو الاقتراب منها. وكذلك إن شهادة الشهود إنما تكون معتبرةً إذا كانت مصحوبةً بالقرائن والشواهد الأخرى، والتي يتمّ تأييدها من طرقٍ أخرى.

([11]) والمثال الأفضل الذي يمكن ذكره لهذا المعيار هو القول: إذا أمكن لنا أن نثبت بالأدلة التجريبية أن بعض الأحكام الجزائية في الدين لو تمّ تطبيقها في العالم الجديد لن تلبي أهداف الدين وغاياته، وسوف تنافي فلسفة العقوبة، فعندها يجب ـ استناداً إلى تلك الأدلة ـ رفع اليد عن تلك الأدلة النقلية التي لو افترضنا وجودها تدلّ على تأبيد الأحكام. هذا إذا تجاوزنا التشكيك في القول بأن أصل تشريع العقوبات في صدر الإسلام يهدف إلى التقليل من الجرائم، أو المنع من ارتكابها، أو أن الغرض منها هو تطبيق العدالة؛ وذلك لوجود الشواهد على أن الحدود الشرعية لا يمكن تسميتها عقوبات بالمعنى الحديث للكلمة. فعلى سبيل المثال: إن القاعدة الفقهية المعروفة «تدرأ الحدود بالشبهات»، والتي يؤمن بها الفقهاء قاطبةً، تقول: إن الحدّ الشرعي يُدْرَأ ويسقط عند أدنى شكٍّ أو شبهة في تحقُّق شرائطها وموضوعها. يُضاف إلى ذلك الروايات التي تظهر النبيّ الأكرم أو الإمام عليّ وهما يسعيان جاهدين إلى حثّ المتَّهم على عدم الإقرار بارتكاب الجُرْم؛ كي لا يكون هناك مبرِّرٌ لإقامة الحدّ عليه. ومن هنا لم تكن هناك من حاجةٍ في ذلك الزمان إلى وجود المفتِّش والمدَّعي العامّ أو المحامي.

([12]) لقد منع القرآن الكريم في بعض آياته من عبادة علماء الدين، ومن ذلك: قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾ (التوبة: 31). انظر في هذا الشأن: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 9: 239.

([13]) قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90).

([14]) على سبيل المثال: إن معاقبة السارقين هو أدنى وغاية ما يمكن فعله للحدّ من السرقة. إن هذه العقوبة لا تتمتَّع لوحدها بالتأثير اللازم والمطلوب في تقليل حالات السرقة، بل إن التنمية الاقتصادية، وتقليص الهوّة الطبقية بين أبناء المجتمع، ومكافحة الفقر، وتوفير الحدّ الأدنى من المعيشة للمواطنين، والعمل على تصحيح نظام التربية والتعليم، وتعزيز الوجدان الأخلاقي لدى الأفراد، ورفع المستوى التربوي وإيجاد فضيلة القناعة لديهم، بأجمعها، من العناصر المؤثِّرة في الحدّ من السرقة.

([15]) لا بُدَّ من التذكير هنا بأمرين: الأمر الأوّل: إن علم الأخلاق بالمعنى الخاصّ للكلمة (أخلاق السلوك) إنما يشمل قسماً من «شريعة العقل»، وكما سبق أن ذكرنا فإن القسم الآخر من «شريعة العقل» الناظر إلى أدب مقام التفكير والتحقيق هو موضوع فرع آخر من الفلسفة باسم «علم المعرفة». والأمر الثاني: إن علم الفقه بالقياس إلى علم الأخلاق وعلم الحقوق علمٌ مستهلِك، بمعنى أن هذين العلمين يوفِّران بعضاً من المبادئ التصورية والتصديقية لعلم الفقه، ومن هنا لا يمكن لعلم الفقه أن يحلّ محلّ علم الأخلاق وعلم الحقوق.

([16]) في ما يتعلَّق باختلاف علم الحقوق عن علم الفقه، وعدم إمكان تحوُّل الأول إلى الثاني، انظر: غليون، علم فقه وعلم حقوق، مجلة كيان، العدد 46: 22 ـ 25، ترجمه إلى الفارسية: مرتضى رحماني، 1378هـ.ش.

([17]) يذهب الدكتور مهدي الحائري اليزدي إلى الاعتقاد بأن الأحكام في باب المعاملات «إمضائية»، وفي هذا المورد يكون الشارع تابعاً لعُرْف العقلاء، دون العكس. وإذا تغيّر عُرْف العقلاء لن يكون لعُرْف العقلاء السابق وجودٌ حتّى يمكن إمضاؤه، بمعنى أن توقيت أو استمرارية هذه الأحكام تابعٌ لتوقيت أو دوام عُرْف العقلاء. ولذلك كي نشخِّص ما إذا كانت الأحكام في باب المعاملات مؤقّتة أو دائمة لا بُدَّ من الرجوع إلى عُرْف العقلاء في الزمان «المعاصر»؛ للوقوف على ما إذا كان هذا العُرْف ـ بغضّ النظر عن إمضاء الشارع ـ سائداً بينهم حتّى هذه اللحظة أم لا. فإذا لم يَعُدْ هذا العُرْف باقياً بين العقلاء فإن إمضاء الشارع له سيكون من قبيل: السالبة بانتفاء الموضوع. (انظر: مهدي الحائري اليزدي، حكمت أحكام فقهي ، مجلة كيان، العدد 46: 2 ـ 4، 1378هـ.ش.

([18]) إن هذه الآية إنما تدلّ على المطلوب إذا كان المراد من «العُرْف» فيها هو ما نريده أو نفهمه منها في العصر الراهن. مع الشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان على هذا التنويه.

([19]) ومن الملفت أن نعلم أن الفقهاء يستندون ـ في تعميم الأحكام الشرعية على جميع الأزمنة والأمكنة ـ إلى العُرْف وسيرة العقلاء أيضاً؛ لأن التبرير الوحيد الذي يمتلكونه في هذا الشأن هو العموم والإطلاق الزماني والمكاني للآيات والروايات. ويقوم ادّعاؤنا على أننا لا نستطيع أن نستنبط من سلوك العُرْف أو سيرة العقلاء في التمسّك بالعموم والإطلاق قاعدةً عامّة تشمل مثل هذه الموارد أيضاً؛ لأن العقلاء على علمٍ بالاختلاف القائم بين العالم القديم والعالم الجديد، وهذا العلم إما أن يمنع من انعقاد ظهور العموم والإطلاق الزماني والمكاني للآيات والروايات الدالّة على هذه الأحكام في أذهانهم، أو أن يمنع من حجّية هذا الظهور. وعلى أيّ حال إن تعميم أحكام الدين الذي تمّ تطبيقه على العالم القديم وتسريته إلى العالم الجديد يفتقر إلى المبنى العُرْفي والعقلائي.

([20]) لا زلنا للأسف الشديد نشهد في بعض البلدان الإسلامية نَفْخاً في ذات القربة المثقوبة، حيث يعمد إلى حلّ التعارض بين الفقه التقليدي والعلوم الإنسانية من خلال التشكيك في اعتبار ومشروعية هذه العلوم، وبدلاً من العمل على أنسنة العلوم الإسلامية يسعَوْن إلى أسلمة العلوم الإنسانية. متجاهلين حقيقة أنه إذا كان هناك تعارضٌ في البين فهو قائمٌ بين العلوم الإنسانية ما قبل الحديثة والعلوم الإنسانية الحديثة، وإن الفقه التقليدي إنما هو تقليديٌّ؛ لاستعارته فرضياته في المعرفة الإنسانية من العلوم الإنسانية العائدة إلى ما قبل الحداثة.

([21]) وهذا هو المعنى الحقيقي للوحدة بين الحوزة والجامعة.

([22]) humanism.

([23]) للاطلاع على المزيد في هذا الشأن انظر كتابنا: (دين در ترازوي أخلاق «الدين في ميزان الأخلاق»)، الفصلين السادس والسابع.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً