أحدث المقالات

عرض المسألة:

من الأصول المقبولة دائماً عند العقلاء أنّ على كل شخص يُلحق خسارةً بآخر أن يقوم بتعويض هذه الخسارة له. إن قاعدة الإتلاف الفقهية قد نشأت من هذا الأصل العقلي، وهذا ما يؤيده المشرّع الإسلامي أيضاً، أما إذا ما دقّقنا في آثار الفقهاء المكتوبة فسنجد أنهم قد أصدروا ـ أحياناً ـ آراء تخالف هذا الأصل العقلي، ومن ذلك ما قالوه من أنه إذا قام شخصٌ ما بسجن عاملٍ وحرمانه من القيام بالعمل لمدّة معينة، فلا يُعتبر مسؤولاً، ولا يترتب عليه أن يعوض عنه أيّة خسارة([1])، والحال أنه لا يوجد من الناحية العرفية أدنى شك في أن الحرمان من العمل يعتبر نوعاً من الخسارة، ورغم ذلك اكتفى الفقهاء بمنع الحرمان من العمل ولم يعتبروا تعويض الخسارة الحاصلة عن ذلك أمراً لازماً، فاختاروا رفع المسؤولية عن الفاعل، لكنّهم ـ في مقابل ذلك ـ اعترفوا بضمان منافع العبد إذا ما تمّ سجنه، كما اعترفوا بحقوق الأجير الذي يُسجن مدّة إجارته ولا يتمكّن من العمل؛ إذ إنّه يعتبر مستحقاً لأجره.

من هنا، ولرفع هذا التناقض الواضح، يجب أن نجد جواباً مستدلاً هنا، إضافةً إلى ذلك، فإن تقييد العامل يعتبر من أوضح أشكال المنع من العمل، فحين يتم رفض ادعاء لحوق الخسارة بالعامل، فمن المنطقي أن يتمّ فى الموارد الأخرى ـ كحالة البطالة التي تلحق بالشخص القادر على العمل ـ قبول حقّ العامل الحصول على تعويض عن الخسارة التي تلحق به جرّاء البقاء من غير عمل.

من المشهور أن الحرمان من العمل له آثار و تبعات مضرّة على الفرد والمجتمع على السواء؛ فالدخل الناتج من العمل غالباً ما يكون مورد العيش الوحيد للفرد ولأسرته التي تؤمن معيشتها من خلاله، من هنا فسلب هذا الحقّ يؤدي إلى إيجاد حالةٍ من العُسر والحرج لدى الفرد المحروم وأسرته، فيخرّب عليه حياته وحياة أسرته، ويسلب من المجتمع الإحساس بالأمن، ويحرمه من الإنتاج والتطوّر.

يسعى هذا البحث جاهداً لتحليل آراء الفقهاء المشهورة، فاتحاً باب النقاش بما يتناسب مع الأسس الفقهية، ومتجانساً مع سيرة العقلاء والعرف أيضاً.

إن عدم وجود دليل على تحمّل المسؤولية في مثل هذه الحالة يشكّل البرهان الأساس للرأي المعروف بين الفقهاء، بمعنى أنه ونظراً لعدم وجود أيّ من أسباب الضمان وتحمّل المسؤولية هنا فلا يوجد دليل للحكم بالمسؤولية؛ لذلك فإذا أردنا أن نردّ نظرية رفع المسؤولية يكفي أن نثبت وجود هكذا دليل، وأن نردّ كل إشكال عليه.

وغالباً ما تمّت دراسة هذا الموضوع بين الفقهاء من زاوية انطباق دليل المسؤولية عليه أو عدمه؛ لكن بما أن الهدف الرئيس لنا هنا هو فتح نافذة لإثبات المسؤولية في جميع حالات الحرمان من العمل، بما يشمل المنع من العمل بالحبس وغيره، سنقوم بدراسة الأسس والأدلّة الأشمل من خصوص المورد.

أدلّة نظرية الضمان وتحميل المسؤولية

1 ـ قاعدة الإتلاف

وفقاً لقاعدة الإتلاف، فإنّ كلّ من يتلف مال الآخر عليه أن يقوم بدفع الخسارة الواردة عليه، وتعويضه المال الذي تمّ إتلافه، ومن البديهي أنّ المال في هذه القاعدة يضمّ الملك العيني والمنفعة أيضاً، وعليه، فإن إتلاف المنفعة ـ كإتلاف الملك العيني ـ يوجب تحمّل المسؤولية، ومن الواضح أنّ من بين مجموعة المنافع ـ بل أهمّها ـ طاقة العمل عند الإنسان.

وعلى الرغم من أن الإنسان لا يعتبر مشمولاً لقاعدة الإتلاف ـ حيث إنّ دفع الدية له إنّما يتمّ لأدلّة خاصّة تختلف عن قاعدة الإتلاف ـ لكنّ ذلك لا يمكن أن يؤدي إلى اعتبار منافعه مستثناةً من هذه القاعدة أيضاً؛ وذلك لأن هذه المنافع ينطبق عليها عنوان المال، وفي حال إتلافها يتحمّل المتلِف مسؤولية تعويض الخسارة الواردة.

ولكي نزيد المسألة جلاءً نؤكّد أنّ هناك حالتين لتلف المنافع: الأولى الاستيفاء غير المشروع، والثانية تفويت المنفعة وإهدارها.

يقرّ الفقهاء أن الإتلاف من نوع الاستيفاء يوجب تحمّل المسؤولية، واستيفاء قدرة الإنسان على العمل يكون عن طريق إجباره على القيام بأعمال لا يريدها أو إجباره على السخرة([2]).

إنّ إهدار منفعة الإنسان تتمّ عن طريق حرمانه من العمل، فقيام فردٍ ما بمنع شخصٍ قادر على العمل من القيام بالعمل، خلال مدّةٍ ما ـ سواء أكان ذلك عن طريق منعه أو احتجازه في مكانٍ ما من أجل منعه عن العمل وحرمانه من تحقيق مكاسب ومداخيل ـ يوجب انطباق عنوان إتلاف القوى وفرص العمل عليه؛ وعليه، فقيامه بهكذا عمل يحمّله مسؤولية المنافع التي خسرها الطرف الآخر؛ وذلك لانطباق عنوان إتلاف مال الغير على ذلك.

من هنا، تتمحور المسؤولية في قاعدة الإتلاف حول إتلاف مال الغير، وهو ما لا يتلازم مع كون المال تحت تصرّف الآخر، وفي هذا المجال لا يعتبر الحكم بالمسؤولية منحصراً في تفويت المنفعة بواسطة الحبس، بل يشمل إيجاد مانع يؤدّي ـ حسب رأي العرف ـ إلى منع شخصٍ قادر على العمل من القيام بعمله، على أن يكون المسبِّب هو الشخص المانع.

من هذا المنظار، إذا قام أحدهم بقطع التيار الكهربائي عن أحد الأفران بهدف تعطيل عمل العاملين في هذا الفرن، ومنعهم عن القيام بتحضير الخبز، أو قام بواسطة التهديد واستعمال القوة بمنع المرضى من زيارة الطبيب في عيادته وحرمانه من العمل، أو قام بتلفيق تهمةٍ إلى أحد العمّال وتزوير مستندات، ممّا أدى إلى سجنه وحرمانه من العمل مدّةً معينة.. ففي هذه الحالات جميعها يتحمّل الشخص المانع مسؤولية المداخيل التي لولا تصرّفاته لكسبها الأفراد المذكورون، ذلك كلّه بغض النظر عن كونه قد قام بعمله هذا عن عمدٍ أم غيره.

يحصل الإتلاف بشكلٍ مباشر في حالات حجز أو حبس العامل ومنعه بشكل مباشر من العمل، أمّا في سائر الموارد التي يصدق عليها الحرمان من العمل، فإن الفرد الذي يوجد حالةً تسبّب البطالة عن العمل لعاملٍ ما فإن ذلك يحتّم عليه المسؤولية من باب الإتلاف، وكما أثبتنا في مكانه يتحمّل المسؤولية في حال كونه مقصراً، أمّا لو قام برعاية الجوانب كافّة وقام بعمله بدقة واحتياط تام لكن أدى ذلك إلى أن يعطّل الآخرَ عن العمل فلا يكون ملزماً بدفع الخسارة له؛ لأنه لا يعتبر مقصّراً.

دراسة الإشكالات المطروحة على الاستناد لقاعدة الإتلاف

سعى جمعٌ من الفقهاء الرافضين للاستناد إلى قاعدة الإتلاف هنا لتحميل مسؤولية الحرمان من العمل، لمناقشة هذه القاعدة عبر سبُل متعدّدة، ومن أهمّ هذه الإشكاليات التي طرحوها نذكر:

الإشكال الأول: إن عمل الإنسان قبل المقايضة لا يعتبر مالاً

يرى بعض الفقهاء أن المنفعة لا تعتبر مالاً إلا عندما تظهر على شكل موجود خارجي أو فرضي([3])، كما عندما يتم إجبار شخص ما على عمل السخرة مما يدلّ على وجود منافعه، ولكن يتمّ تضييعها، ولقد حكم الفقهاء على ذلك بالمسؤولية وقالوا: إذ قام رجل واستخدم إنساناً ما، فعليه أن يقوم بدفع أجرته له، وهذا ما قد أجمع جميع الفقهاء عليه؛ و ذلك لأن منفعة العامل هنا يتم تقييمها ومن يأخذ هذه المنفعة يعتبر حكمه كآخذ مال الآخرين، وذلك لأن قيمة هذه المنفعة تقدّر بالمال([4]). وكذلك عندما توجد المنفعة على شكل فرضي ـ يأتي ذكره ـ ضمن عقدٍ، وتحت عنوان مقايضة، فتعتبر في هذا المجال عوضاً أو بدلاً، وفي هذه الحالة تعتبر بحكم المال، من هنا كان من يُستأجر مؤجراً للمنفعة الفرضية([5])، وحكم مسؤولية الإتلاف يشمل هذه المنفعة إذا ما تمّ إتلافها وتضييعها، لذلك قيل: يحكم بالمسؤولية في حالة كون شخص ما أجيراً ويُحبس أو يُوقف، لا سيما إذا ما كان أجيراً خاصاً، وقادراً؛ وذلك لأنّ المنافع تعتبر ـ وفق عقد الإيجار ـ من الناحية الشرعية موجودةً وقابلة للتقدير، ويتمّ دفع الأجرة كمقابل لذلك([6]).

وعليه، يمكن أن نحكم بالمسؤولية فقط عندما يتعلّق الأمر بتلف الأموال، والحال أن منفعة الإنسان قبل المقايضة تعتبر معدومةً، فلا يمكن الحديث عن تلفٍ في هذه الحالة([7]).

وما يمكن أن نلاحظه على هذا الإشكال هو أن تعريف المال عند الفقهاء، يستند إلى نظر العرف وأهل اللغة، فيشمل تمام المنافع بشكل كلّي، وذلك لأن المال من وجهة نظر العرف يعتبر كلّ ما يمكن أن يرغب به الناس ويتنافسون من أجل الحصول عليه ويبذلون من أجل ذلك نقودهم وممتلكاتهم الثمينة([8])، ومن البديهي أن تكون قدرة العمل وطاقته من أهمّ الأموال التي يمتلكها البشر، بغض النظر عن كونها قد وقعت ضمن عقد إيجار أم لا؛ لأن عقد الإجارة والعقود المشابهة له لا يمكن أن يكون لها دور في إضفاء صفة المالية على الأشياء، بل إنّما تقوم بنقل مالكية المنفعة من طرف إلى طرف آخر في العقد. وعندها يكون تلهّف الأفراد على القيام بتأجير طاقاتهم دليلاً على كونها ذات قيمة وأنّ القوّة العاملة لها صفة الماليّة.

كما لا يصحّ ادّعاء أنّ عقد الإجارة قد أخذ بعين الاعتبار تقدير المنفعة وقام بعملية تمليك وتملّك، وهذا التقدير يدلّ على صحّة تمليك وتملّك المنفعة التي لا تعتبر مالاً قبل عقد الإيجار، وذلك لأنه في نظر العقلاء صحيح أن الإستئجار يكون من أجل كسب المنافع، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار حصول المنافع في شرط الإجارة، وهذا يعني أن العرف لا يأخذ المنفعة بعين الاعتبار، بل يأخذ الإجارة كذلك؛ وذلك نظراً لما ستولّده من منافع، ولا يمكن للعرف أن يردّ ملكية شيءٍ موجود خارج ظرفه الزماني([9])، وبصورةٍ عامّة، تكتسب الأشياء صفة الماليّة عندما يرغب الناس بها، وهذا المفهوم لا ينحصر بالأعيان الخارجية، بل نجد أن هناك أشياء لا وجود لها بتاتاً خارجاً وإنّما وجودها منحصرٌ بعالم الذمة ومع ذلك تكون لها صفة المالية، ومثال ذلك، المباع فى عملية البيع المؤجل والثمن في عملية البيع بالدين قبل المقايضة؛ إذ لا وجود لهما، ومع ذلك لا يوجد شك في صحّة المقايضة وامتلاكهما لصفة المال.

والنتيجة أنه في كلّ الموارد التـي يعتبر فيها الشيء مالاً في المستقبل بحكم العادة، ونظراً لكون العرف يقدّر هذا الاقتضاء، فإنه يجب أن نعتبر هذا الشيء مالاً أو في حكم المال؛ فإتلافه يوجب المسؤولية أيضاً([10]).

امّا إذا ما قيل: إن موضوع المسؤولية هو إتلاف المال الفعلي الموجود، فيما عمل الإنسان ـ على رغم كونه مالاً ـ لكنّه ليس فعلياً بل هو مال بالقوة، فلا يمكن أن يكون محلاً للمسؤولية.

فنقول في مقام الإجابة:

أولاً: دليل تحمّل المسؤولية من قبل فردٍ منع آخرَ من العمل هو عين قيامه بعمله هذا من انتقال المال إلى حالته الفعلية والاستفادة من الصلاحية والمقدرة على العمل، وبالنتيجة أدّى ذلك إلى تلف المال وإهداره.

وتفصيل ذلك: أن حصول المنافع يتمّ بشكل تدريجي ويستلزم عبور ثلاث مراحل: 1 ـ مرحلة كونه بالقوة 2 ـ مرحلة اقترابه من الفعلية وإمكان تحقّقه بالفعل. 3 ـ مرحلة انتقاله إلى الفعلية بسبب الاستيفاء أو بسبب الإضاعة.

وكما يكون استيفاء المنفعة تدريجياً يكون الإتلاف تدريجياً كذلك؛ فالمنفعة عند وصولها إلى المرحلة الثانية واستعدادها إلى الانتقال إلى الحالة الفعلية يمكن أن يعيقها مانعٌ ما ويمنعها من الوصول إلى الفعلية، وعندها لا تصل إلى الفعلية و لا تظهر، إضافةً إلى ذلك يمكن أنّ لا يعتبر العرف المنفعة فعليةً حتى لو وصلت إلى المرحلة الثانية واقتربت من الظهور والفعلية.

ثانياً: إذا كان موضوع المسؤولية ـ بناءً على هذا الرأي ـ هو المال الفعلي، وفرضنا أن عمل الإنسان مالٌ غير فعلي؛ فإن هذا الإشكال سوف يبقى موجوداً حتى عندما يتمّ عمل شخص ما كالأجير عند غيره؛ وذلك لأنه قبل الاستيفاء لا يعتبر مالاً فعلياً، وتمليكه لا يمكن أن يؤثر على فعليته، هذا والحال أنّ الفقهاء يعتبرون أن من يقوم بمنع العامل من العمل خلال مدّة العقد يتحمّل المسؤولية([11]).

ثالثاً: عندما تتهيء أسباب ومقتضيات حصول أمرٍ ما، فإن هذا الأمر غالباً ما يحصل ويتحقّق، وليس الأمر كذلك بأن نتجاهل الأسباب والمقتضيات الموجودة ونعتبرها وكأنها غير موجودة، من هنا لا يمكننا أن نعتبر قدرة فردٍ ما على العمل غير موجودة على رغم وجود تمام أسبابها ومقتضياتها الجاهزة للظهور، بل لا بد من القول: إنّ المنافع التي تؤدي إلى بروز المسؤولية هي تلك التي غالباً ما تكون ـ من وجهة نظر العرف ـ فعليةً أو يتوقّع حدوثها وانتقالها إلى الفعلية. فالمنفعة من حيث الوصول إلى الفعلية على قسمين:

القسم الأول: انتفاعي، وهو يقتضي الوصول إلى مرحلة الفعلية وبحكم العادة في المستقبل، ومثال ذلك، صلاحية البيت للسكن أو صلاحية العامل للعمل. و.. ويقرّ القانون والعرف بوجود هكذا منافع، ولذلك يعتبر عقد الإيجار وسيلةً لنقل ملكية هذه المجموعة من المنافع، وهو عقدٌ يعتبر في النظام الحقوقي الإسلامي عقد تمليك، وعلى أساسه يجب أن يكون موضوع التمليك في زمان العقد محدّداً، وإذا ما قام شخص بإتلاف هذه المنافع فإنه يترتب عليه أن يعوّض عن الخسارة الناشئة عن عمله([12]).

وعليه، فإذا قام أحدٌ باعتراض عامل خلال ذهابه إلى محلّ عمله ومنعه من الوصول إلى مكان العمل، ومن ثمّ منعه القيام بعمله وتحقيق مدخوله الذي عادة ما يكسبه من خلال جهده الذي يبذله، فإنه في هذه الحالة يتحقق الإتلاف وتجب المسؤولية بشكل إلزامي.

القسم الثاني: المنافع التي يحتمل أن تصل في المستقبل إلى حالة الفعلية ويتمّ استيفاؤها من قبل شخص أو أن لا يتمّ ذلك؛ فإن التصرف بهذه المنافع من خلال عقد تمليك غير ممكن حصوله ومسؤولية تلفه لا يمكن قبولها، ومثال ذلك ما إذا قام فردٌ ما بحبس شخصٍ آخر لمدّة معينة، فإنّه لا يحقّ له الادعاء بالخسارة، لا سيما إذا كان هذا الشخص لا يملك أية مهارة أو فنّ ولا يجيد أيّ عمل؛ حيث لا توجد علاقة علّية أو سببية بين عمل هذا الشخص وتضييع المنفعة، بمعنى أنه حتى لو حسبنا ـ فرضاً ـ أنّ عمل الحبس لم يتمّ، فإن اكتساب المنفعة، أي قيامه بالعمل يظلّ محتملاً؛ من هنا فإن التفويت لا يمكن اعتباره منحصراً بهذا الفرد ومن ثمّ استناده إليه، والحال مسؤولية الإتلاف ـ عرفاً ـ لا بدّ أن تُسند إلى المتّهم بالإتلاف؛ من هنا حدّد جميع الفقهاء الذين حكموا بمسؤولية المنافع التي تمّ خسرانها.. حددوا هذه المنافع بالأفراد العاملين والكاسبين فقط([13]).

الإشكال الثاني: عدم صدق الإتلاف على تضييع المنافع

يرى بعض الفقهاء أنّه لا يتحقق عنوان الإتلاف حتى مع خسارة المنافع وعدم استيفائها؛ وذلك لأن الإتلاف يعني «انعدام الشيء الموجود»، لا «المنع من إيجاد شيء»([14])؛ وبناءً على هذا، لا يصدق الإتلاف على مثل منع العامل من العمل، حتى أنّ بعضهم يرى أنه لا يصدق التفويت في حالة خسارة المنافع التي لا يتمّ استيفاؤها وقبضها من قبل شخص آخر([15])، وعلى فرض أنه يمكن صدق تفويت المنفعة على منع العامل من العمل فإن التفويت بحدّ ذاته لا يعتبر من الأسباب التي تؤدي إلى المسؤولية والضمان، من هذه الجهة حصرت مجموعة من الفقهاء إتلاف المنفعة بالاستيفاء غير المشروع.

ويمكننا أن نجيب على هذا الإشكال بعدّة أجوبة:

الجواب الأول: يستفاد من بعض الروايات أن قاعدة الإتلاف أمر أرفع من الإتلاف وإفساد الأموال، فهي تشمل كلّ نوع من سلب سلطة الأفراد على أموالهم بشكل دائم([16])؛ وبناء على هذا، فإن حصر قاعدة الإتلاف بإعدام الموجود غير صحيح، إذا ما خرجت المنافع من يد المالك، سواء كان ذلك بواسطة التفويت أو الإستيفاء، بعبارة أخرى: حينما يُجبر عاملٌ على ترك عمله أو على الدخول في عالم البطالة عن العمل مدّة معينة من عمره فيعتبر أنه قد أصبح عاجزاً غير قادر على الاستفادة من قدرته على العمل، وبالتالي تعتبر منافعه تالفة.

وعليه، فتخصيص إتلاف المنافع بالاستيفاء غير المشروع غير صحيح؛ وذلك لتحقّقه في حالة التفويت وعدم الاستيفاء.

إضافةً إلى ذلك، فإنّ مرجع صدق مثل هذه المفاهيم ـ كالإتلاف ـ هو العرف، وفي هذا المجال لا يعدّ الاجتهاد الشخصي أو الدقّة العقلية معياراً؛ ومثال ذلك ما إذا قام شخص بمنع سائق سيارة الأجرة عن العمل على سيارته، فهل يصدق عليه عنوان إتلاف المنفعة؟ هل أن العرف لا يعتبره مسؤولاً؟

قيل هنا: إنّما يقع الضمان وتحمّل المسؤولية عبر الاستيفاء، بل وحتى التفويت، كما في حالة قيام أحدٍ ما بحبس آخر بحيث صدق تلف قسم منه ـ من المحبوس ـ بذلك في نظر العرف([17]).

الجواب الثاني: إذا صحّ هذا الكلام؛ فهو يناقض ما تبنّاه الفقهاء أنفسهم من عدّ استيفاء المنفعة إتلافاً، في حالات مثل الإجبار على السخرة؛ حيث حكموا بالمسؤولية؛ وفقاً لقاعدة الإتلاف.

إن مقاربة هذا التفسير للإتلاف مع مصاديق استيفاء المنفعة يظلّ امراً أصعب من مقارنتة مع تفويت المنفعة عليه، وذلك بسبب كوننا في الأول نكسب شيئاً ويصل إلى الفعلية فيما نخسر في الثاني شيئاً وينعدم أو يخرج من الفعلية، ومن الواضح أيضاً أن الانعدام أقرب إلى الإتلاف وأشبه به من الاستيفاء.

الجواب الثالث: إن التفويت المعادل في الفقه للإتلاف يعني إهدار الشيء؛ وحيث يحصر العديد من الفقهاء المتقدّمين إتلاف المنافع باستيفائها، لا غير، فإن تفويت المنفعة غالباً ما يعتبر مساوياً للاستيفاء غير المشروع لها، كما نجد استخدام تعبير موت المنفعة في حالات فقدانها الإنتاج، لكن كلما اقتربنا من القرون الأخيرة نلاحظ تغيّراً في آراء الفقهاء بشكل تدريجي على مستوى المنافع التي يتمّ خسارتها، بحيث بدؤا يقبلون صدق الإتلاف على هذا المصداق؛ فنراهم يستعملون التفويت للدلالة على المنافع التي يتمّ إهدارها من قبل شخصٍ دون الاستفادة منها، وقد شاع هذا الاستعمال بينهم حتى اعتبر بعضهم خسارة المال بسبب منع الآخرين تفويتاً للمنفعة.

وبشكل عام، ينقسم الفقهاء حول موضوع المنافع إلى عدّة مجموعات:

أ ـ مجموعة تعتبر تفويت المنفعة أحد مصاديق الإتلاف؛ وعليه فهي تحكم بالمسؤولية([18]).

ب ـ ومجموعة أخرى ترى أن المنافع لا يمكن أن تسبّب مسؤوليةً إلا من خلال الاستيفاء؛ من هنا لا يعدّ تفويت المنافع سبباً مستقلاً للمسؤولية والضمان ولا مصداقاً للإتلاف([19]).

ج ـ يرى فريق ثالث أن التفويت سببٌ مستقلّ للمسؤولية، فيطرح قاعدةً يسمّيها: «قاعدة التفويت»؛ انطلاقاً من تفسيره للإتلاف تفسيراً يحصره بإعدام الوجود.

يذهب جماعة إلى أنّ هذه القاعدة تعدّ روايةً، فيما الروايات التي تعدّ سنداً لها ترجع إلى قاعدة الإتلاف ولا تجعل التفويت سبباً مستقلاً، ويرى آخرون أنّ قاعدة التفويت قاعدة عقلائية؛ وذلك بدليل تأييد الشارع طريقة العرف في مجال تحديد المسؤوليّات، والعقلاء يقرّون بمسؤولية كلّ من يقوم بإهدار أو يستولي على منافع غيره دون استيفاء.

وعلى سبيل المثال، يرى العرف أنّ قيام شخصٍ بمنع غيره عن القيام بعمله موجبٌ للضمان والمسؤولية، سيما إذا كان الممنوع ممّن يحقّق مدخولاً مادّياً وافراً من عمله هذا؛ وهذا يعني أنه يترتّب عليه دفع غرامة وتعويض للخسارة التي لحقت بذاك الذي حُرم من العمل. إنّ بناء العقلاء هذا دليلٌ قاطع على ضمان التفويت في المنافع؛ وحيث لم يمنع أو يردع الشارعُ عن استعمال هذه الطريقة العقلائية فإن ذلك منه كاشفٌ عن موافقته عليها([20]).

وعلى أيّة حال، فالمهم ثبوت الضمان في هذه الحالات بغضّ النظر عن كون السبب إتلافاً أو تفويتاً.

الإشكال الثالث: عدم ملكية القدرة على العمل

وممّا يثار بوجه الاستناد إلى قاعدة الإتلاف هنا، أنّ طاقة العمل في الإنسان مالٌ صرف، لكنه غير مملوك لأحد، وهذا ما لا يعدّ سبباً كافياً للضمان والمسؤولية، وإذا كان الفقهاء قد حكموا بالمسؤولية في حالة حبس العامل ومنعه من العمل خلال مدّة عقد الإجارة، إلا أنهم لم يقرّوا بوجود هذه المسؤولية في حالة عدم وجود إجارة أصلاً، وهذا يعني أنّ هذه الثلّة من الفقهاء تعتقد بأنّ قاعدة الإتلاف لا تقتضي المسؤولية إلا في الحالات التي يكون فيها المال ملكاً لآخر، والحال أنّ الإنسان لا يملك مالَه ومنافعه الشخصية([21]).

وفي ردّنا نقول: إذا كان موضوع المسؤولية هو إتلاف مالٍ معيّن مملوك اعتباراً من قبل فردٍ ما فإنّ هذا الإشكال سيكون صحيحاً، إلا أنّه ليس هناك دليل على حصر المسؤولية بذلك؛ فإنّ تعلّق مالٍ بشخص ما يمكن تصوّره في ثلاث حالات: 1 ـ الملكية. 2 ـ امتلاك الحقّ. 3 ـ السلطة التكوينية، ومن البديهي أن تكون سلطة الإنسان على طاقة العمل التي يكتنـزها في ذاته سلطةً تكوينية؛ أي أنه يستطيع أن يستعمل هذه الطاقة في أيّة جهة وأيّ شكلٍ يريد، لكن إذا قام شخصٌ آخر وسلب منه هذه السلطة فمنعه من استعمالها كما يريد، متلفاً هذه المنفعة عليه، فلا يمكن إنكار مسؤوليته، لا سيما بعد تحقّق مفهوم إتلاف المنفعة.

وهذا ما ذكره بعض الفقهاء صراحةً بالقول: إنّ المسؤولية تنبع من قاعدة الإتلاف، ولا تعتبر ملازمةً للملكية؛ ذلك أن قاعدة الإتلاف قاعدةٌ عقلية، لم تؤسّسها الشريعة، وما هو رائجٌ بين العقلاء يستند إلى أسس أوسع من عبارة «من أتلف مال الغير»، ومثال ذلك ما إذا كانت هناك عينٌ مرهونة، وتمّ إتلافها؛ فإنّه يترتّب على المتلف ذات المسؤولية التي تترتّب على الراهن، وبعد تعويض الخسارة الواقعة يجب أن يعطى المال بوصفه رهناً، فإذا ما قام الراهن وأتلف هذا المال ـ رغم كونه مالكه ـ فإنه يعتبر أمام المرتهن دائناً؛ فيكون ضامناً ومسؤولاً.

وهذا النوع من المسؤولية يعتبر ممكناً في الوقف العام والخاص أيضاً؛ فإذا قام شخصٌ ما ودمّر أحد الجسور، فإنه يُجبر على إعادة إعماره أو يؤخذ منه مبلغ لصرفه في ذلك، والمسؤولية المتعلّقة بإتلاف المال تنطبق حتى على إتلاف المال الذي تعود ملكيّته للحيوانات، أو يكون للقيام بأعمال، كإقامة فريضة الحج، وعلى الفاعل تعويض الخسارة؛ ليُتمكّن من إعادة الوقف إلى ما كان عليه([22]).

الإشكال الرابع: عدم معقوليّة ضمان تفويت المنفعة

ادّعى بعضهم أن المسؤولية في حبس إنسانٍ أمرٌ غير معقول؛ ذلك أنه إذا ما كانت تعني تدارك الخسارة، فإن الحبس لا يعتبر إيراداً لها، بل هو تفويتٌ وتضييع لفرصة الربح والفائدة، أمّا إذا كانت تعني اشتغال الذمّة بمقابلٍ فإنّ منافع الإنسان الحرّ مثلُه، ليس لها أثر في نظر الشارع؛ من هنا فتصوّر بدلٍ لها غير ممكن، وكذلك إتلاف مال الوقف أو الزكاة وإن كانا لا يعتبران ملكاً لأحد، إلا أنهما موسومان بعنوان الزكاة والوقف، من هنا ولحفظ العنوان المذكور يمكن جعل البدل، لكنّ ذلك لا معنى له في منافع الإنسان([23]).

وهذا الكلام ملفت للانتباه من عدّة نواحي:

الناحية الأولى: يرى العديد من الفقهاء ـ ومن بينهم السيد الحكيم ـ أنّ الحرمان من العمل وتفويت المنفعة يماثلان عدم النفع، وعندها يستدلّون بأنّه بما أن عدم النفع لا يوجب الضرر والخسارة فإن تفويت المنفعة كذلك، والحال وجود فرق بين عدم النفع وتفويت المسؤولية؛ فمنفعة العين مثل ذات العين لها وجود قابل للتقييم والتفويض إلى الغير، فحينما يقوم شخصٌ ما بمنع آخر من الدخول إلى بيته فإن عمله هذا لا يعتبر منعاً من تحصيل فائدةٍ فحسب، بل تفويت منفعة ناتجة عن عين المال الموجود، على خلاف النفع الذي كان متوقعاً، لو قام شخص بمنع من يريد بيع بضاعة ما في السوق عندما تكون قيمتها مرتفعة فيحرمه من المنفعة المتوقعة من البيع، وهذا ما يصدق عليه عدم النفع.

الناحية الثانية: إنّ القول بأنّ تفويت المنفعة لا يوجب حدوث الضرر والخسارة، غير صحيح عرفاً، وتحديد هذا الأمر من شأن العرف لا من وظيفة الفقيه.

إضافةً إلى ذلك، يرى بعض الفقهاء أنّ عدم النفع ضررٌ؛ وذلك وفقاً لتعريفهم للضرر، وقد قيل في هذا المجال: «الضرر أن يفوّت الإنسان على نفسه ما هو واجده، سواء كان نفساً، أو عرضاً، أو مالاً، أو جوارح.. وعدم النفع حينما تكتمل مقدّماته وموجباته يعتبر ضرراً([24])؛ وعليه، فإن تفويت المنفعة يعدّ ضرراً بطريقٍ أولى.

الناحية الثالثة: قيل: إن منافع الإنسان الحرّ كنفسه، لا بدل لها، لكنّ ذلك ليس مبرّراً هنا؛ وذلك لعدم اعتبار ذات الإنسان مالاً، خلافاً لقدرته على العمل، إذ تعتبر مالاً؛ لكونها موضع رغبة العقلاء وذات قيمة اقتصادية، وعليه، فالعرف يبادل منافع الإنسان بالنقود، وفي حال تلفها يتمّ دفع البدل، وفي الحقيقة كيف يمكن لشخص ما أن يقوم بهدر شيء يعتبر من الناحية العرفية والشرعية والعقلية ذا عوض دون أن يتحمل مسؤولية هذا العوض؟!([25])

وعلى أيّة حال، فالمنع من تحصيل المنافع المشروعة التي تمتلك تمام مقدمات التملك وجاهزة للظهور والوصول إلى الفعلية، يعتبر نوعاً من التعدّي الواضح، ومن المستبعد رفع المسؤولية عن مثل ذلك.

يجب أن نعلم أن الحكم بعدم المسؤولية هنا يؤدي إلى فوضى في النظام الاجتماعي وسهولة تعدّي الأفراد على بعضهم البعض، وهذا ما يعتبر عملاً محرّماً من الناحية الشرعية، ولا يمكن الوقوف بوجهه؛ لأن غالبية الناس ليسوا متديّنين ملتزمين من الناحية الشرعية، والخسارة الاقتصادية لا يمكن تعويضها بالحرمة الشرعية.

2 ـ بناءات العقلاء

البناء العقلائي من جملة الأدلة التي يمكن الاستناد إليها هنا بعد قاعدة الإتلاف، وذلك لإثبات الضمان ومسؤولية الحرمان من العمل.

وقبل أن نبدأ بدراسة كيفية الاستناد إلى هذا الدليل، يجب أولاً أن نلتفت إلى نقاط ترتبط بالبناءات العقلائية، إنّ توافق مباني العقلاء وسيرتهم مع الشارع يعطيهم صلاحية إثبات الحكم الشرعي، وهذا ما يبدو جليّاً في إظهار المعصوم ـ نفياً أو إثباتاً ـ لرأيه في زمان الحضور ـ حضور المعصومين E ـ أو سكوته وإقراره.

إلا أنّه يجب هنا ـ أولاً ـ تحديد المراد من سيرة العقلاء، أفهل هي نفس العمل والسلوك الخارجي أم المراد الارتكاز والطبع العقلائي حتى مع كون السلوك الخارجي لم يصل إلى ممارسة عملية؟ فإذا كان المعيار هو العمل والسلوك الظاهري فلا يدخل في دائرة الحجية إلا ما قام به العقلاء زمان الشارع بالفعل، أمّا ما لم يقوموا به زمان الشارع، سواء كان لانتفاء موضوع العمل أو لأي سبب آخر، فإن سيرتهم تبقى خارج دائرة الحجية، أمّا وإذا كان المعيار انطباق العمل على الارتكاز والطبع العقلائي فإنّه يكفي حينئذٍ ولو لم تتحقق ممارسة عصر حضور المعصوم، ومن أجل الاستدلال ببناء العقلاء على حجيّة أي عمل، يكفي أن نثبت الطبع العقلائي الذي لم يتمّ الردع عنه من قبل الشارع، وهنا لا حاجة لإثبات أنّ سيرة العقلاء في عصر الأئمةE كان قائمةً بالفعل على ذلك.

وعلى هذا الأساس، فنفس وجود الطبع العقلائي مع شرط عدم الردع من قبل الشارع كافٍ في اكتشاف الموقف الشرعي وأنّ الشارع قد أقرّ بهذا الطبع والارتكاز، وعليه فحجية هذا الطبع والبناء تؤول إلى موافقته لأصول الشرع، ومعه يمكن جعل الفعل العقلائي الذي ظهر بعد عصر المعصوم بمثابة الذي كان في عصره؛ لمنح الشارع الحجيّة للأساس الذي قام عليه.

ويمكن أن نستدلّ على وجهة النظر هذه بأنّ أحد شروط حجية سيرة العقلاء معاصرتها للمعصوم، لكن إذا كانت هذه السيرة بشكلها الرائج في عصر المعصوم مصادَقاً عليها من قبله، وكانت مرتكزةً على أساس الطبع العقلائي الذي يملك قابلية الشمول لما هو أبعد من السلوك الخارجي المعاصر للمعصوم، ففي هذه الحالة لا تقتصر الحجية على السلوك، بل تتعدّاه إلى ذلك المرتكز والمبنى العقلائي نفسه؛ انطلاقاً من أنّ وظيفة المعصوم تحديد الموقف في القضايا الكبرى حتى التي لم تقتصر على عصره، فسكوته وعدم ردعه يؤدي إلى متابعة هذا الخطّ العقلائي الذي يشكّل أساس عمل العقلاء الخارجي، وليس فقط سلوكهم الخارجي الذي يصدر عنهم([26]).

هذا ما ذهب إليه بعض العلماء، معتبرين أنّه على أساسه فقط يمكن بناء حجية السيرة العقلائية في العصر الحاضر.

منهج الاعتماد على السيرة العقلائية لإثبات مسؤولية الحرمان من العمل

يرى العقلاء في الحالات التي يؤدي فعل شخصٍ إلى بروز خسارة على آخر، أنّه المسؤول عن هذه الخسارة، وحيث وجدنا الشارع موافقاً في مجالات عديدة على قواعد العقلاء في الضمان، كشف ذلك عن موافقته على ما يرونه هنا، لهذا يتحمل من منع عاملاً ـ بشكل غير شرعي ـ من العمل مسؤولية تعويض الخسارة التي لحقت به؛ وذلك لأن العقلاء يعتبرونه في هذه الحالة قد أصيب بخسارة يجب تعويضها، أمّا إذا كان لم يكن أهلاً للعمل وتعرّض للمنع من العمل، فإن العقلاء لا يعتبرونه أصيب بخسارة، فلا يكون عندهم مستحقاً لغرامة مالية.

وهذا الدليل متين عارٍ عن أي إشكال، حتّى أن بعض الفقهاء الذين يعتقدون بعدم وجود ضمان هنا، أقرّوا بأنّ السيرة العقلية توافق على الضمان هنا وترى الفعل العدواني المذكور موجباً له([27])، ويبدو هنا أنّه ليس للشرع اجتهادٌ خاص غير الذي أقرّه العقلاء([28])؛ وذلك لعدم كون هذه الموارد ممّا أسّسه الشارع كي يكون له اجتهاد فيه، وإنّما هي من المسائل الإمضائية([29]).

شروط استحقاق التعويض

لكي نعتبر الشخص الذي تعرّض للخسارة مستحقاً للتعويض، علينا أن نقوم بدراسة الشروط التالية:

الشرط الأول: أن يكون المدّعي قادراً على العمل

أهمّ شرط يجب توفّره في المدعي كي يطالب بالتعويض، أن يكون قد لحق به خسارة، وهنا إذا سجن أو منع بأيّ وسيلة عن العمل فإن الخسارة تقع عليه إذا كان قادراً على العمل، بمعنى أنّه كان قادراً هذه المدّة ـ لولا المنع ـ طبقاً لنظر العرف، وقد حُرم من عمله ولحقت به خسارة بسبب المنع المذكور، من هنا، لا يستحقّ التعويض على تقدير عدم قدرته على العمل؛ إذ لم تلحق به ـ بنظر العرف ـ خسارة مادية أصلاً، وكذلك الحال بالنسبة لمن يملك القدرة على العمل، لكنّ منعه عنه جاء خلال مدّة كان فيها عاطلاً عن العمل، أو كانت فترة استراحته، كأن يُحبس شخص ويمنع عن العمل أثناء النهار فيما يكون عمله في الليل عادةً، فلا ضمان هنا عرفاً.

ويبدو أن شرط «القدرة العرفية على العمل» أدقّ وأكثر وضوحاً ممّا شرطه بعض الفقهاء من «كون الممنوع كاسباً»؛ وذلك لعدم استحقاق الكاسب التعويض بنظر العرف في بعض الموارد.

الشرط الثاني: كون الخسارة ناتجةً عن العمل المؤذي للمدّعى عليه

من البديهي أن نطالب بتعويض الخسارة من الشخص الذي نتجت الخسارة عن فعله، دون أيّ عامل وسيط أو دخيل؛ بحيث تكون الخسارة الواردة حسب العرف ناتجةً عن عمله هو؛ من هنا فقيام عاملٍ بارتكاب جُنحة أو جنايةٍ ما ودخوله السجن بسبب ذلك، لا يبرّر له ادّعاء الحرمان من العمل؛ لأنّ العرف يعتبر الخسارة التي لحقت به ناتجةً عن عمله الشخصي.

ومثال ذلك أيضاً، ما إذا لم يقم مسؤولو حرفةٍ ما بدفع فواتير الكهرباء والغاز، ممّا أدى إلى قطع التيار الكهربائي والإمداد بالغاز عن حرفتهم، ونتج عن ذلك تعطيل عملهم، فهؤلاء لا يستطيعون إقامة دعوى تتطالب بالتعويض على الخسارة التـي لحقت بهم؛ لأن ذلك كان بسبب تقصيرهم الشخصي، وهكذا عندما تدخل عدّة عوامل ـ إرادية وغير إرادية ـ في التسبّب بالحرمان من العمل وتؤدّي إلى حدوث خسارة لشخصٍ ما، فإن هذه الخسارة لا يمكن إسنادها إلى أحد هذه العوامل، ومن ثمّ لا يمكننا أن نتوقّع تعويضاً عنها من أحد هذه العوامل فيما يكون للباقي دور أيضاً في تحقّقها.

الشرط الثالث: التقصير

لا يمكن اعتبار هذا الشرط إلا حالة كون المسؤولية ناتجةً عن التسبّب بالتلف، أي أنه في الحالات التـي يحصل فيها التلف بشكل غير مباشر، كالحادث الذي يؤدّي إلى توقف السائق عن العمل، فإن المسؤولية لا تتحقّق، ولا يحقّ للسائق هنا المطالبة بالتعويض إلا إذا كان بقاؤه عاطلاً عن العمل ناتجاً عن تقصير الطرف المقابل؛ إذ في غير هذه الحالة لا يستحقّ التعويض عن الخسارة الناتجة عن حرمانه من العمل.

ولابد أن نذكر أنه لا يشترط توفّر شرط البلوغ والعلم والعمد في الشخص الذي أدّى عمله إلى حرمان الآخر من العمل، وكذلك في كلّ الأحكام الوضعية والدخيلة؛ فإن هذه الشروط غير لازمة، وعليه، فإذا قام شخصٌ ما بحرمان آخر من العمل فإنّه يتحمّل المسؤولية رغم فقدانه لهذه الشروط.

إنّ المحكمة هي التي تحدّد مبلغ الخسارة؛ وذلك بعد دراسة جميع جوانب القضية، والتي منها نوع عمل الشخص والدخل المتعارف له خلال مدّة عمله مع
حذف الاستهلاك المتعلّق بآلات العمل والنفقات والتكاليف التي عليه أن يدفعها لإنجاز عمله.

نتيجة البحث

من خلال دراستنا للدليلين اللذين ذكرناهما، نستخلص النتيجة التالية: ليس حبس العامل فقط، بل كلّ عمل غير مشروع يؤدّي إلى منع العامل من القيام بعمله ويؤدّي إلى إلحاق الخسارة به، يستلزم الضمان وتحمّل المسؤولية على المقصّر؛ فيُحكم عليه بتعويض الخسائر، وما يؤكّد عليه العقلاء هنا لا يخالفه الشرع، بل يعتبر منسجماً بشكل كامل مع القوانين والأصول الفقهية. وغالباً ما يقوم الشرع بتأييد مباني العقلاء.

لا شك أنّ هذه النظرية تعدّ أكثر حراكاً وديناميّة، وهي ديناميّة غير ناتجة عن اللامبالاة والاستحسانات الشخصية، بل عن نظرية شاملة وواقعية، وذلك نتيجة الإقرار والاعتراف بقدر السيرة العقلائية، وأهمّية نظر العرف في تعريف المواضيع والمسائل وانطباق التعاريف على المصاديق.

*     *     *

الهوامش



([1]) النجفي، جواهر الكلام 37: 40.

([2]) المصدر نفسه: 38 ـ 39.

([3]) الرشتي، مطارح الأنظار: 19.

([4]) النجفي، جواهر الكلام 37: 38 ـ 39.

([5]) الرشتي، مطارح الأنظار: 19.

([6]) الشهيد الأول، الدروس 1: 343.

([7]) النجفي، جواهر الكلام 37: 39.

([8]) الخوئي، مصباح الفقاهة 2: 301.

([9]) الخميني، كتاب البيع 1: 275.

([10]) كاتوزيان: 11.

([11]) النجفي، جواهر الكلام 37: 41.

([12]) كاتوزيان: 40 ـ 41.

([13]) الخميني، البيع 1: 20؛ واليزدي، العروة الوثقى 5: 40؛ والخوئي، مصباح الفقاهة 2: 36؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 1: 153.

([14]) البجنوردي، القواعد الفقهية 4: 182.

([15]) الخوئي، مصباح الفقاهة 3: 143.

([16]) الخميني، البيع 2: 344.

([17]) اليزدي، العروة الوثقى 5: 45.

([18]) اليزدي، حاشية المكاسب 1: 96.

([19]) الرشتي، مطارح الأنظار: 19.

([20]) البجنوردي، القواعد الفقهية 4: 184.

([21]) العراقي، التعليقة على العروة 5: 41؛ والحكيم، مستمسك العروة الوثقى 12: 49.

([22]) الخميني، البيع 3: 85.

([23]) الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 12: 49.

([24]) النائيني، شرح المكاسب 2: 119.

([25]) البهبهاني، الحاشية: 614.

([26]) شفيعي سروستاني وهمكاران: 317 ـ 321.

([27]) الخوئي، مصباح الفقاهة 2: 36.

([28]) النخميني، البيع 1: 2.

([29]) المصدر نفسه 3: 85.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً