أحدث المقالات

غزو المثقف البائس ومواجهة الخط الأصيل

الشيخ محسن غرويان(*)

ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي

من أهمّ الأمور وأكثرها قداسةً في إحياء شخصيّة من الشخصيات، أنْ ندافع عن حقيقتها المتمثلة بأفكارها وآرائها، ويجدر بنا في هذه المناسبة إحياء فكر الإمام الباقر× في مثل هذا النوع من المحافل. ويمكن تبيين أفكار أئمتنا وتعظيمها وإحيائها بطريقتين: الأولى أن نتوجّه مباشرة إلى تلك الأفكار والأسس ونعمل على شرحها وتفسيرها. والأخرى أن نقف بوجه الهجمات التي تتعرّض لها تلك الأسس والأفكار. ونرى في مثل هذه المناسبة المباركة والسعيدة أن نقوم بواجب إحياء أفكار الإمام الباقر بما يتناسب وعصرنا الحاضر.

نشهد حاليّاً هجمةً شرسة ضدّ أفكار أئمّة التشيّع^ وأصل التديّن الذي رفع لواؤه على عاتق الأنبياء والأئمّة المعصومين كافّة، حيث يتعرّض للهجوم كلُّ الذين أفنوا أعمارهم وكيانهم وكلّ ما يملكونه من أجل نشر العلوم الباقرية وبيانها وتفسيرها، ويتمّ التشكيك بهم واتهامهم، بل ويُفترى عليهم. أليس من واجبنا الديني والشرعي في مثل هذه الظروف أنْ نقف أمام هذه الهجمات بكلّ ما نملك وبكلّ ما اُوتينا من قوّة؟ وأن ندافع عن بيضة الإسلام ورقعة الدين والتديّن والقرآن والوحي وحملته ومن يعمل على شرحه وتفسيره وصيانته وحفظه؟ وغايتنا هنا بيان بعض المسائل فيما يتعلّق بكلمة (الدكتور عبد الكريم سروش) التي ألقاها مؤخراً في جامعة إصفهان. وقبل كلّ شيء من الضروري أن نقدّم عدّة نقاط، ومن ثمّ نتعرّض لنصّ كلامه وما يمكن نقده منه.

 

مداخل هامّة: ـــــــ

1 ـ نقد القول أم القائل؟ ـــــــ

لا شأنَ لنا في البحث والنقد العلمي بالقائل، بل نتعرّض في ذلك إلى القول فقط، فيشمل نقدنا كلّ من يتكلم أو يتفوّه بما نخضعه لمجهر النقد والتحقيق، لكن بما أن الدكتور عبد الكريم سروش يُعدّ من الشخصيّات البارزة، ونراه يصدع بهذه الأفكار والتشكيكات في محافل البلاد، ويجهر بها فوق المنابر، ويعمل على شرحها وبيانها بأفضل الطرق وأنجع الوسائل وأكثرها تأثيراً، فقد ارتأينا التصريحَ باسمه، وإلا فإنّ بحثنا علميّ وتنظيريّ بحت ويشمل كلّ من يقول بما يقوله (الدكتور سروش) ويتبنّاه.

2 ـ التشكيك وتأثيره على استحكام الأفكار ـــــــ

المقدّمة الأخرى التي يجدر بنا الإشارة إليها ونلفت انتباه جيل الشباب والجامعيين والطلاب وجميع الذين يهتمّون بالمسائل الدينيّة والإيمان والمذهب والقرآن إليها، أننا نخشى من أصل التشكيك وإثارة التساؤلات، في حين لا ينبغي الخوف من التشكيك (وهو ما سنوضحه فيما بعد وتتعرّض له طبقة خاصّة هي طبقة المختصّين)، حيث تخضع للتشكيك حتى البديهيّات من الأمور، ولم يسلم من ذلك حتى أصل امتناع اجتماع النقيضين، حيث ذهب هيجل وقامت دعائم فلسفة الديالكتيك على أساس رفض امتناع التناقض؛ فلذلك لا ينبغي للتشكيك أن يخيفنا، ولو قيل مثلاً: قد تمّ التشكيك بالله سبحانه وتعالى! فلا ينبغي لهذا التشكيك أن يزعزع عقيدتنا بوجوده سبحانه وتعالى، فإنّ مجرّد التشكيك بمسألةٍ أو حقيقة لا يقلّل من قيمتها واعتبارها، وإلا فإنّ نفس التشكيك والنقد قد يتعرّض للنقد والتشكيك فيسقط عن الاعتبار أيضاً، فلا يستقرّ عندها حجرٌ على حجرٍ؛ وعليه لابدّ من اعتماد الاستدلال والبراهين في أيّ مسألة، فمجرّد التشكيك بالفقه لا يثبتُ شيئاً، بل هناك معايير وموازين لإثبات أو نفي مسألةٍ من المسائل سواء كانت منطقيّة أم عقليّة أم فلسفيّة أم غيرها، ولابدّ من إثبات أو نفي كل مسألة بأساليبها الخاصة، ومجرّد أنْ يقوم عالم غربي مثل (هاسبرز) بذكر بعض الأمور في ردّ الأدلة المقامة على وجود الله سبحانه وتعالى لا يقدّم أو يؤخر شيئاً، ولا يكفي بمجرّده لإنكار الله عز وجل؛ فهناك من يرى مجرّد كتابة نقدٍ أو ردّ على شيء دليلاً على وجود ضعف في أدلّة ذلك الشيء، في حين أنّ الأمر ليس كذلك.

 

3 ـ سؤالٌ وجيه أم مجرّد ثرثرة؟ ــــــــ

هل إثارة الشبهات والتساؤلات أمرٌ مستحسن أم قبيح؟ هناك من يعتبر نفس إثارة التساؤلات وعلامات الاستفهام وإلقاء الشبهات في الأذهان فناً قائماً بذاته، ويعدّ كثرة الاستفسارات ـ حتى لو كانت في البديهيّات ـ من الأمور الممدوحة! فهل للاستفهام قداسة بما هو استفهام؟

الحقيقة أنه لا يمكن عدّ ذلك صحيحاً؛ فقد كانت التساؤلات والتشكيكات تثار منذ القدم، ولسنا نتنازع في تسمية (السؤال) أو (الشبهة) التي يثيرها الدكتور سروش، فسواء سمّيناه سؤالاً أم شبهة ـ وتجاوزنا هذا النزاع اللفظي ـ فقد كان هذا الأمر قائماً منذ القدم؛ فقد كان غورغياس رائد الشكّاكين في العالم، وقامت الفلسفة السفسطائيّة على أساس التشكيك، وكان عمل غورغياس ـ وهو رأس السفسطائيين في العالم ـ يقوم على أساس إثارة الشبهات والتشكيكات، بل وصل الأمر بأحدهم إلى التشكيك في شكّه! وهذه هيَ قمّة الشك.

إذن، لا قيمة لمجرّد إثارة الشك، ولا يمكن اعتبار التشكيك فناً يحتم علينا شحن الأذهان بالشبهات وإدارة ظهورنا لأولئك المساكين الذين حشونا أدمغتهم بأنواع التشكيكات. والحقيقة أننا نرى أنّ مجرّد أداء التشكيك إلى تجريد المقدّسات من قداستها، لا يجعله ذا قيمة واعتبار، وللأسف الشديد هذا هو المنهج الذي يؤكّد عليه الدكتور سروش في أعماله كافّة.

 

4 ـ تدريبٌ أم إضعاف أم إبادة؟! ـــــــ

إننا نؤمن ـ على نحو الموجبة الجزئية ـ بضرورة إثارة الشبهات والتساؤلات أحياناً بغية تحفيز الأذهان وشحذها وجعلها صعبة المراس، فهذا مقبول في موضعه، لكن أين ومتى ينبغي لنا طرح التساؤلات؟ ومتى يتعيّنُ علينا إثارة الأذهان وتحفيزها نحو الشبهات؟ ولتوضيح ذلك نذكر مثالاً: لنفترض أننا قادة في معسكرٍ للجيش ونريد للجنود أن يكونوا على أهبّة الاستعداد دائماً، فنتواطأ فيما بيننا ـ مثلاً ـ على إزعاجهم ليلاً بإطلاق بعض العيارات الناريّة في الهواء لاختبار جهوزيّتهم واستعدادهم في سرعة أخذ مواضعهم والعثور على أسلحتهم؛ ليتمكّنوا ـ عند الحاجة وإذا جدّ الجدُّ ـ من الدفاع عن مواقعهم، فهذه فكرة جيّدة وعملٌ مستحسن وممدوح. لكن لو قمنا بتوجيه الرصاص الحيّ إلى صدورهم وأجسادهم ممّا يؤدّي إلى قتلهم، أو في الأقل إلى جرحهم وإعاقتهم وإضعافهم، ويؤدّي إلى عجزهم وقعودهم عن القتال إذا هاجمهم العدوّ فيما بعد واجتاح حدودهم وثغورهم، فهل يسمّى هذا الأمر إثارةً لاختبارهم ووسيلةً لتعزيز كفاءاتهم القتاليّة؟! أم أنه إبادة لجيشنا الباسل؟

فأحياناً تبدو الأسئلة التي يلقيها الدكتور سروش على الجامعيين من هذا القبيل، أي أنه يستهدف أصل كفاءة الشباب الدينيّة وإيمانهم واعتقادهم، ويوجّه نيرانه إلى تلك الطاقة والقوّة التي نريد تعزيزها وشحذها وإعدادها عندهم للاستفادة منها وتوظيفها في الدفاع عن الدين والأخلاق والقيم الحيويّة والإسلامية والمذهبيّة والدينيّة، أي أنه يصوّب فوهة سلاحه إلى هذه الأسس والتساؤل عما إذا كانت لها قيمة أم أنها فاقدة لذلك؟ وهل للوحي قيمة أم لا؟ وهل من الصحيح أن نفسّر الوحي أم لا؟ وفي الحقيقة لا يسعنا تسمية هذا النوع من التساؤلات تدريباً للقوى وتمريناً للطاقات والكفاءات؛ لأنها تستهدف ذات القوى والكفاءات وتسدّد الضربة القاضية لها، وللأسف الشديد نشاهد حالياً بعض النماذج من الشباب الذين استمعوا لعدد من محاضراته فانتهى بهم المطافُ إلى ترك الصلاة! وهناك من لم يبق لديه أيّ إيمان بالمعتقدات الدينيّة! حتى أخذ يتخبّط في الفراغ، وينقل أحياناً أن فلاناً الجامعي يغرق في البكاء ويقول: لم أعد أؤمن بشيء أو أثق بشيء، ولم تعد قدمي قادرة على الوقوف على أرضٍ صلبة!!

وقد صادف أمس أن ركبت سيّارة أجرة، وكان السائق يستمع إلى محاضرة للدكتور علي شريعتي، فسألته عمّا إذا كانت المحاضرة تبث من الإذاعة أم من شريطٍ مسجّل؟ فأجابني: وهل تبث الإذاعة مثل هذه الأشرطة؟! ثم أضاف قائلاً: لقد وصل بي الأمر إلى الفراغ المحض والمطلق! وبما أن الفرصة كانت قليلة ولم يكن الوقت كافياً للبحث والاستدلال الفلسفي العميق والتفصيلي، اكتفيت بالقول: هل تعتبر هذه السيارة التي تقودها فراغاً مطلقاً؟! وهل تعتبر هذا المقوَد الذي تديره بيدك ذات اليمين وذات الشمال فراغاً بحتاً؟ وهل ترى الأجرة التي ستأخذها مني عدماً محضاً؟! ثمّ أضفتُ: لو أنك وصلت إلى الفراغ المطلق لاعتبرت جميع هذه الأمور فراغاً! وقد أردت من وراء ذلك تنبيهه وتحفيز ذهنه في العثور على البداية التي عليه أن ينطلق منها ليرى أنّ كثيراً من الأمور ليست فراغاً أو عدماً ومنها المعتقدات أيضاً، مثل ديكارت الذي بدأ من الشك حتى بلغ اليقين.

والذي أريد قوله: لو أننا ألقينا محاضرةً وذكرنا شيئاً أدّى بشاب إلى الفراغ المطلق، هل يكون ذلك إنجازاً وعملاً إبداعيّاً من قبلنا؟! وهل هذا هو التساؤل الممدوح والمستحسن؟ وهل هذا هو العمل الذي قام به سقراط حتى أخذ الدكتور سروش يتبجّح به ويفخر؟!

5 ـ الطنطنة السقراطيّة! ـــــــ

ذكر الدكتور سروش في إحدى محاضراته أو كتاباته نقلاً عن سقراط أنه قال: (أنا لست سوى ذبابة تحاول إيقاظ النائمين بطنينها)! وأبدى حينها إعجابه بهذه العبارة، فإذا كان المراد من ذلك أن نفس الطنطنة في مجتمع أو جماعة فكريّة وفلسفية ذو قيمة، فهذا ما لا نقبله على إطلاقه؛ لأن الإنسان يحتاج إلى الراحة والاسترخاء أحياناً، وعندها لا تنفعه الطنطنة بل تزعجه وتعكر صفوَ مزاجه وتؤذيه، أو كالشخص الذي يعاني من الإرهاق وقلّة النوم ونصحه الطبيب بالراحة، فلو طنطن الذباب في أذنيه وأيقظه من النوم ربما قضى عليه! فهل يكون هذا الطنين محبّذاً؟! إذاً يمكن الجدال في ذلك، وهذه النماذج الشاعريّة والخياليّة لا تؤدّي إلى شيء! وعلى الذي يؤدّي دورَ الذبابة أن يُدركَ من خلال تنقيح المناط أنّ هذا الدور لا يختصّ بالذبابة، بل كان الحقّ والباطل يؤدّيان هذا الدور تجاه بعضهما البعض على طول الخط، إذ يطنطن الحقُّ في أذن الباطل ويطنطن الباطل في أذن الحقّ على الدوام! فهل تقدّم هذه الطنطنة بمجرّدها شيئاً أو تؤخره؟ وهل يصحّ هذا أم لا يصحّ؟ لا يوضح هذا التشبيه ذلك! وقد دأب الفراعنة وأنصار معاوية ويزيد على الطنطنة عبر التاريخ، وفي المقابل كان دعاة الحق ـ وهم الأنبياءُ والأئمة^ ـ يقومون بالطنطنة في آذانهم، لكن من منهم كان مع الحق؟ وأيهم كان على باطل؟ هذا ما لا تتكفلّ الطنطنة ذاتها بالإجابة عنه، وإنما نحتاج في إثبات الحقّ والباطل وتمييزهما عن بعضها إلى موازين ومعايير أخرى، وليست هذه سوى مغالطة أخرى نواجهها أحياناً.

علينا الالتفات إلى أننا قد نعجبُ ببعض الأمور أحياناً، إلا أن مجرّد إعجابنا بها لا ينهض دليلاً على حقيّتها أو صحّتها؛ فقد تتحلّق حولك جماعة، فتعمل على إلقاء بعض الطنطنات في آذان بعض الشباب، وربما أعجبت الطنطنات بعضهم، وهذا أمرٌ طبيعي؛ لأنّ جيل الشباب منجذبٌ بطبعه إلى ما يحيط به في المجتمع من أنواع الإثارة والحرارة الفكريّة، لكنّ مكمن البحث في النتيجة والغاية التي نستفيدها من وراء ذلك، وهنا نصل إلى هذه النتيجة وهي أن أداء دور الذبابة لا يحظى بقيمةٍ ذاتيّة ولا يثبت شيئاً؛ لأنّ الطنطنة يمكنها الصدور من كلا الجهتين المتخاصمتين، وعليك تحديد موقفك المتوازن لا على أساس مجرّد صدور الطنطنة منهما، وهذا أسلوبٌ آخر نلاحظه للأسف الشديد في منهج الدكتور سروش، وقد استهوى عدداً من الأشخاص.

ويبدو لنا أنّ مبدأ التشكيك لدى الدكتور وأساليبه تقوم على سلسلة من المبادئ الفكريّة التي تؤدّي إلى الشكّ في كلّ شيء، وقد تصوّر أن تعكير الأجواء وإحداث التغيير في الوضع القائم مطلوبٌ على كلّ حال، وهو نفس الكلام الذي كان يتردّد على ألسنة الماركسيين من ضرورة أن يقوم (النقيض) على كلّ (طرح) للوصول إلى (النتيجة)، دون أن يدركوا ما إذا كان ذلك يؤدّي دائماً إلى نتائج صحيحة أم لا، أو أنه يمكن تمييز الحقّ من الباطل بالاعتماد على الرؤية التاريخيّة؛ فهذا إشكالٌ آخر نوجّهه إلى أسسه وأساليبه الفكريّة.

ونذكر فيما يتعلق بأسلوبه مثالاً آخر لتوضيح المسألة بشكلٍ أكثر، وقد ذكرت هذا المثال ذات مرّة تعليقاً على محاضرته التي ألقاها على الجامعيين في محافظة جيلان حول التحقيق والتقليد، وإنما أكرّر هذا المثال هنا لكونه مثالاً بليغاً: لو فرض أنني أحاول تعريضكم لبعض السموم أو الميكروبات المضعّفة بغية تقوية جهاز المناعة عندكم لمقاومة بعض الغازات السّامّة أو الميكروبات القاتلة، وكانت هذه العمليّة بحاجة إلى تعاونكم مثلاً وأن تكونوا على استعداد لتقبّلها، وإلا لم تنجح في تأثير مفعولها، فهل من العقل أن أقوم بتعريضكم لهذا الغاز السّام أو هذه الميكروبات في الخفاء ودون أن أحيطكم علماً بما عليكم القيام به للحيلولة دون الابتلاء بأعراض هذا الغاز والميكروبات أو أن أجهّز ـ في الحدّ الأدنى ـ طاقماً محترفاً من الخبراء للقيام بعمليات الإسعاف والإجراءات الضروريّة عند الحاجة وبروز الخطر؟! وإذا قمت بهذه العملية ولم تتمكّن قوات الطوارئ من إسعافكم إلا بعد هلاك الكثير منكم، وإذا سئلت عن سبب فعلتي وأجبتهم بأنّ الغاية من ورائها كانت تقوية جهاز المناعة عندكم، ولم يكن عندي من قصدٍ سوى فعل الخير! فهل يقبل العقلاءُ منّي ذلك؟ وهذا ما يصدّر به الدكتور سروش جميع محاضراته ويختمها قائلاً: إنه إنما يقول ذلك إشفاقاً وقصداً إلى الخير!! ونحن نقول: إنّ هذه الطريقة غير صحيحة وفيها إشكال حتى إذا كان قصدكم مقدّساً في ذاته، لأنك إنما تطرح هذه المسائل على مسامع طلاب الجامعات وفيهم من يدرس الفيزياء أو الميكانيك أو الطب أو الكهرباء أو الأحياء، وإن الكثير منهم لم يجد الفرصة المناسبة التي تمكّنه من قراءة حتى كتاب دينيّ واحد، بل هناك منهم من لم يقرأ كتاباً في الفلسفة، فهل يمكن إلقاء الشبهات العقائديّة والفلسفيّة المعقدة في مثل هذا الوسط الجامعي؟!

6 ـ التعريف بالحوزات العلميّة! ـــــــ

نلاحظ تجمّع عدد من الطلاب الجامعي في جامعة إصفهان من مختلف الفروع ليستمعوا إلى محاضرته حول وحدة الحوزة والجامعة، ويتطرّق سروش في هذا الجمع إلى الحديث حول الفقه والأصول وعلم الرّجال ودراية الحديث ونهج البلاغة والمنطق والفلسفة وسائر العلوم الحوزويّة، ويضيف أنّ هؤلاء السّادة يكتبون الرسائل! فيتصوّر الجامعي الذي يدرس في فرع الفيزياء والميكانيك صحّة هذا الكلام برمّته! وذلك أنه يعلم إجمالاً بوجود الرسائل العمليّة في الحوزات العلميّة، لكن أكثر هؤلاء الجامعيين ـ كما أسلفت ـ لم يطالعوا غير كتبهم الجامعيّة؛ ولذلك يذهب جلّهم إلى تصديقه؛ فحينما يتحدّث عن المراجع وجميع الحوزويين وأنهم يكتبون الرسائل حينما يبلغون المراتب العلميّة العالية في الحوزة! فكيف يكون انطباع الجامعي عند سماعه لمثل هذا الكلام؟

وفقاً لمعلوماته البسيطة يتصوّر أنّ الرسالة هي ذلك الكتاب الذي يتحدّث حول عدد ركعات صلاة الصبح والظهر وأن المسافر يقصر في الصلاة، أو يتصوّر أن جميع أبواب تلك الرّسالة عبارة عن الطهارة والمطهّرات والدماء الثلاثة، إلى غير ذلك من الكلام الذي تلوكه الألسن! فهذه هي الرسالة العمليّة في تصوّرهم والتي يكرّس عالم الدين حياته ويصبّ كلّ جهوده لكتابتها، لا أكثرَ من ذلك!!

هذه أباطيل يخجل الإنسانُ أحياناً من تضييع وقته في توضيحها، وبيان أنّ الرسالة العمليّة إنجاز علمي يحتاج إلى بذل الجهد والمشقة! فجميع الذين يدركون واقع الأمر يعلمون ما يعانيه الفقيه والوقت الذي يخصّصه والدقّة التي يبذلها ليتمكّن من كتابة مصنفٍ في الفقه الاستدلالي.

من الجموع الغفيرة التي تنتسب إلى الحوزة العلمية وتخوض هذا الماراتون الطويل لا يبلغ درجة الاجتهاد إلا النزر القليل منهم، ممّا يؤكد مدى صعوبة الوصول إلى هذه المرتبة العلميّة التي لا يمكن نيلها إلا بشقّ الأنفس. فهل يصحّ بعد ذلك إظهار هذا المجهود الكبير بهذا الأسلوب وتبسيطه في أعين أولئك الذين لا يعرفون معنى الاجتهاد في الغالب، وما هي مقدّماته وأساليبه والكتب التي يتوقف الاستنباط على قراءتها؟ّ! إلا أننا أحياناً نتصوّر خطأً بساطة الأحكام الشرعيّة، في حين لو أراد شخصٌ الإحاطة بجميع تفاصيل الأحكام الاجتهاديّة ودقائقها وظرائفها بحيث يغدو بإمكانه أن يدّعي معرفته بتعاليم الدين الإسلامي ويُقيم الدليل على ادّعائه هذا، يتعيّن عليه أن يتجرّع مرارة المعاناة لسنوات طويلة ويستثمر كل طاقاته الفكريّة ليصل إلى مرحلة الاجتهاد، وطبعاً لا يسع من هو خارج هذه الحلبة أن يستشعر ذلك!

ومع ذلك كلّه، يسمح هذا الدكتور لنفسه بإلقاء هذه الأمور على مسامع جماعة لا تدرك معنى الاجتهاد في الغالب وما هي مقدّماته والأعوام التي يتعين على المجتهد أن يعاني فيها للوصول إليه، ثمّ يقول: إنّ هؤلاء السادة يتصوّرون أنفسهم آلهة ويسمحون لأنفسهم بإبداء الرأي في كلّ شيءٍ وليس على الآخرين سوى الإذعان والسمع والطاعة! فهل يصحّ تصوير المراجع والمجتهدين وعلماء الدين بهذه الصورة؟! وهم الذين يفقدون بصرهم في الغالب بسبب كثرة مطالعاتهم في السنين السابقة، وكما قال صدر المتألهين: (تجفّ رطوبة أدمغتهم فيصابون بالرعاش نتيجة لذلك)! فلماذا نأتي ونختزل جهودهم بكتابة الرسائل العمليّة التي يتحدّثون فيها عن الحلال والحرام! ونضيف إلى ذلك اتهامهم بالتربّع على عرش الألوهيّة وفرض الطاعة على من سواهم؟! أليس هذا كلاماً صبيانيّاً يراد به التمويه على العامة؟! نحن نرى أن هذا تحريفٌ للحقائق لا يستحقّ منا إهدار الوقت في الإجابة عنه.

فما هو السبب الذي يدعوه للذهاب إلى أمكنة لا تدرك هذه الجزئيات والتفاصيل بغية قلب الحقائق وتشويهها؟! إنّ هذا الأسلوب شبيه بما لو قمت بتسطيح الطب وقلت مثلاً: لو شكا ولدي من الصداع يكفي أن أعطيه بعض أقراص البندول فيبرأ من ساعته! وإذا أحسّ بألمٍ في صدره وعانى سعالاً شديداً اشتريت له عقار الاكسبكتورانت من أقرب صيدليّة وينتهي كلّ شيء! فعليكم أنتم أيضاً فعل الشيء نفسه ولا تقربوا الأطباء، فإنهم لا يفقهون شيئاً؟ صحيحٌ أن هذه الأقوال يتمّ تداولها بين العوام، لكن حينما يراد للكلام أن يكون منطقيّاً لا يسعنا التفوّه بمثل هذا! إنّ الذي يقوله الدكتور سروش بشأن الرسائل العمليّة وأنّ كلّ ما يتم تداوله في الحوزة العلميّة هو الفقه والأصول، ولا ينتج من هذين العلمين سوى الرسائل العمليّة التي تتضمّن أربع مسائل في الحلال والحرام، أو بيان عدد ركعات الصلاة لا أكثر! فهذا مثل تسفيه علم الطب وحصره في بعض العقاقير وزرق الحقن!

7 ـ السلوك الانفعالي!! ـــــــ

ومن جملة الأمور التي ينبغي الإشارة لها في مقدّمة البحث أنّ بعضهم يقول: إنّ ما يقوم به الدكتور سروش فاعليّ على الدوام، في حين أنّ ما تقومون به ـ أنتم الحوزويون ـ انفعاليّ! ولا ينبغي أن يكون الأمر كذلك، فالذي ينطلق من موضع الفاعل غالبٌ دائماً، والذي ينطلق من المواقع الانفعاليّة مقهور دائماً ولا ينبغي الاستماع إلى كلامه!!

وهذا أيضاً لا يعدو أن يكون مغالطةً لا تصحّ بحالٍ من الأحوال، فهل كلّ من تصرّف من منطلق الفاعليّة كان تصرّفه صحيحاً مهما كان فعله وسلوكه وقوله؟! وكلّ من تصرّف من منطلق الانفعال لا يكون موقفه صحيحاً حتى لو كان الداعي لانفعاله وردّ فعله أمراً منكراً لا يصحّ السكوت عليه؟! هذه مغالطات وقع فيها الكثير فأخذ يردّد مثل هذه الكلمات قائلاً: إن موقف الدكتور سروش ينطلق من موقع الفعل وموقف العلماء مجرّد ردّ لهذا الفعل! أي أنه مؤثرٌ وهم متأثرون!

لنفترض أنني قمت الآن بفتح الغاز السّام والقاتل عليكم، فمن الطبيعي حينها أن تنفعلوا جميعاً، أو يأتي شخصٌ آخر ويبادر فوراً إلى نشر غازات مضادّة للسم ليبطل مفعول عملي، وعندها سأكون في هذه الحالة فاعلاً ومن عمل على إنقاذكم منفعلاً. فهنا نتساءل: سلوكُ أيّ منا يقوم على الموازين العقليّة الصحيحة؟ هل أكون محقاً في تسميمكم لمجرّد كوني فاعلاً؟ وهل يكون الآخر مبطلاً في إنقاذكم لمجرّد كونه منفعلاً؟!

إنّ الدكتور سروش ـ يعمل من خلال محاضراته ومقالاته ـ على تشويش أفكار الشباب وبثّ اليأس في نفوسهم، ومن الضروري أن يبرز بعض العلماء ليبطلوا الأثر السّيئ الذي يتركه على المجتمع. وأما مجرد الفعل وردّ الفعل فلا يثبت حقاً ولا باطلاً، ومن يدّعي ذلك فهو مغالط، وعلينا أن لا ننخدع بمثل هذه المغالطات. مثلاً: دائماً ما يقوم نشاط وزارة الصحّة في كلّ مجتمع على الانفعال، فحينما ينتشر فيروس أو ميكروب، تعمل هذه الوزارة على استنفار جميع كوادرها وقواها لمكافحة المرض والقضاء عليه. فهل يعدّ ذلك نقصاً في هذه الوزارة؟ وهذا هو ما تقوم به الحوزة العلميّة، فهي بمنزلة وزارة الصحّة، إلا إنها تكافح الأمراض الفكريّة والعقائديّة والروحية والنفسية، فما إن تتفشى السموم الفكريّة حتى توظف الحوزة العلميّة جميع طاقاتها من الطلاب والعلماء والمؤلّفين للإجابة عن هذه الشبهات وإبطال مفعول سمومها. فهل ينبغي لنا استنكار ذلك منها لمجرّد اندراجها في إطار الانفعال؟!

 كانت هذه عدة مقدّمات رأينا ضرورة الإشارة إليها.

آراء الدكتور عبد الكريم سروش وقفات نقديّة ـــــــ

أما نصّ كلمة الدكتور سروش التي ألقاها في جامعة إصفهان، فقد جئت بنصّها معي، كما استمعت إلى نصّها الكامل بواسطة شريط التسجيل، وهنا أشير إلى رؤوس الأفكار التي ذكرها وبعض الردود عليها.

الاختلاف الجوهري بين العلوم الدينيّة والعلوم التجريبيّة ـــــــ

أشار الدكتور سروش في بداية كلمته إلى أنه قد كثر الكلام حول الاتحاد بين الحوزة العلميّة والجامعة، لكن لم تتحقق هذه الوحدة حتى الآن. ثمّ سعى إلى سرد الأسباب الكامنة وراء هذا الإخفاق، وبيّن بعض الاقتراحات، وفي البداية يتعرّض لبعض المطالب نذكرها هنا بشكلٍ عابر؛ حيث قال في مستهلّ كلامه: إن الجامعة مؤسّسة مستوردة! أي أنّ الجامعة قد وفدت علينا من الخارج، فيما الحوزات العلميّة ضاربة في القدم ولم يتم استيرادها حديثاً.

ويجدر بنا الإشارة هنا إلى أنّ أول من وضع حجر الأساس للجامعات في بلادنا هم علماء الدين، كما كان في العقود الأخيرة أمثال المرحوم العصّار والفاضل التوني وغيرهما من علماء الحوزة من الأوائل الذين أدرجوا الفلسفة والكلام ضمن المناهج الدراسية في الجامعات، كما كان العلماء من المشجعين والمؤسّسين للمدارس النظامية والمراكز العلميّة كدار الفنون في إيران ـ حيث كانت دار الفنون بداية تأسيس الجامعات في هذا البلد ـ وكان الذين ترعرعوا في أحضان الحوزة العلميّة ممّن شجّعوا على إقامة مراكز الدراسات العليا وعملوا على تأسيس الجامعة، ثم تشعّبت الدروس الجامعيّة إلى عدّة فروع، ودخل الكثيرُ من المواضيع والنصوص بعد ذلك من الغرب. وطبعاً كان هذا هو مراد الدكتور سروش حين وصف الجامعة بكونها مستوردة.

ثمّ أشار إلى أن الذي يميّز العلوم الجامعية عن العلوم الحوزويّة الدينيّة هو كونها علوماً تجريبيّة قابلة للنقد، خلافاً للعلوم الحوزويّة فغير تجريبيّة ولا قابلة للنقد! وأضاف: إننا إذا أردنا إقامة الوحدة بين الحوزة العلميّة والجامعة فعلينا أن ندرك أنّ روح هذه الوحدة تكمن في هذه العلوم، فلو أردنا تحقيق هذه الوحدة فعلينا إمّا أن نخضع العلوم الحوزوية لتوافق العلوم الجامعية أو نصنع العكس بأنْ نجعل العلوم الجامعية منسجمة مع العلوم الحوزويّة! وهذه مسألة أساسيّة حيث يذهب الدكتور سروش في نظريّة (القبض والبسط) إلى ضرورة جعل المعرفة الدينيّة من جملة توابع العلوم التجريبيّة! وطبعاً لسنا بصدد البحث في نظريّة القبض والبسط وإنما غايتنا الإشارة إلى بعض الأمور التي تعرّض لها في محاضرته، ولذلك البحث مجالٌ آخر.

إذن، فهو يقول بأنّ روح هذه الوحدة تكمن في هذه العلوم. فما هو المراد من ذلك؟ فإنّ الدكتور سروش أقرّ في موضعٍ آخر ـ كما أشار في هذه المحاضرة ذاتها ـ بأنّ العلوم التجريبيّة مؤقتة، حيث يتمّ تداول نظريّة ثمّ تأتي نظريّة أخرى وتنسفها، وهذا هو معنى ما قاله من أن العلوم التجريبيّة قابلة للنقد، فلو أردنا تغيير شكل العلوم الدينيّة وجعلها قابلة للنقد فلابدّ أن لا يبقى هناك أي ثباتٍ في معتقداتنا الدينيّة، وأن تكون مثل العلوم التجريبيّة تماماً. بأن ننظر إلى العصمة مثلاً أو الإعجاز والمعاد وأصل البعثة والنبوّات وما إلى ذلك كما ننظر إلى النظريّة الذرّيّة في النور أو تلك النظريّة المرتبطة بالجيولوجيا التي يتمّ تداولها ردحاً من الزمن ثم تطوى صفحتها. ونحن نرى أنّ هذا ما يقتضيه أسلوب التحقيق في العلوم التجريبيّة، ويعترف الدكتور سروش بأن هذا الأسلوب يعتبر من الاستقراء الناقص الذي لا يؤدّي إلى اليقين؛ فإذا أردنا أن نجعل ديننا مسانخاً للعلوم التجريبيّة، فهذا يعني أن لا يثبت شيءٌ في الدين، فهل هذا ما يريد الدكتور سروش قوله؟!

النقاش  والنقد في الحوزات العلميّة ـــــــ

يرى الدكتور سروش أنّه لا يمكن في الحوزة العلميّة تعريض الأصول للنقد، في حين أنّ العلوم الجامعيّة تختلف عنها من هذه الناحيّة اختلافاً جوهريّاً، مما يجعل التقريب والتوحيد بينهما في غاية الصعوبة!

فما هو المراد من هذا الكلام؟ ومن الذي يمكنه قبول هذا الادّعاء؟ وكيف لنا نحن الذين أمضينا الكثير من الأعوام في الحوزة العلمية أن نصدّق ما قاله من عدم نقد المبادئ والأسس في الحوزة، في حين أنّ المعروف والمشهور أن بداية أسلوب المباحثة والنقد والإشكال وإثارة التساؤلات كانت من الحوزات العلميّة. وقد شاع هذا الأسلوب من البحث في المسائل الفكريّة والدينيّة منذ عهد الإمامين: الباقر والصادق، واستمرّ لعصرنا الحاضر؛ فمن ذا الذي يقبل هذا الادّعاء؟! وإن عجبي لشديدٌ من هذا الكلام.

ويقول أيضاً: نعم، هناك نقد إلا أنه يقف عند خطوط حمراء لا يمكن لشخصٍ السؤال عما هو كائن وراءها! فأين تقع تلك الخطوط الحمر؟ طبعاً قد نصل إلى بعض الأسس النهائية، ومنها أساس التديّن والاعتقاد بالله تعالى، لكن ألسنا نقيم الأدلة على وجود الله عز وجل ونشكل عليها ونجادل الأساتذة بشأنها؟ فماذا يعني بقوله: ليس هناك نقد في الحوزة؟!

ويُضيفُ قائلاً: لو أثار الطالب في الحوزة العلميّة سؤالاً فسوف يُجابُ عن سؤاله، لكنه إذا بلغ بتساؤله حدّاً معيّناً، قيل له: هذه شبهة وعليك التوقف عندها وعدم التمادي فيها! ويُحذر من التفوه بمثل هذه الشبهات! ونقول له: عليك أن تحدّد مصداقاً لكلامك، وأما إذا أردت الاكتفاء بقول الأمور على نحو كلي، فعندها لا يتوجّه كلامك إلى هذه الحوزات العلميّة القائمة فعليّاً، في حين أنك تقول: إنما أتحدّث عن هذه الحوزات العلميّة.

وطبعاً دائماً ما يترك سروش لنفسه مفرّاً، فيقول تارة بأنّ الجامعات تقوم على أساس البحث والنقد والتحقيق، فيما تقوم الحوزات على الإذعان والسكوت والتسليم! وفي الوقت نفسه يقول: طبعاً إن الجامعات القائمة حاليّاً ليست كذلك، فإنك لا تجد روح النقد والتحقيق في صفوف الجامعيين، وإنما يكتفون بدراسة الكتب وكتابة بعض الأمور بغية الامتحان والحصول على بعض الدرجات والنتائج التي تؤهلهم للحصول على الوظائف! وأنا لا أعني هذه الجامعات القائمة والكائنة، وإنما أعني الجامعات المثاليّة والتي ينبغي أن تكون!

وعليه نقول له: إذاً لماذا تطرح الأمور وكأنك تعالج الوضع القائم؟ فقد اعترفت بأنّ وضع الجامعات الراهنة ليس مثاليّاً، حيث لا تقوم على النقد والتحقيق، وهذا ما يقوله أكثر الجامعيين أيضاً؛ فهل من المنطقي أن نقارن بين جامعة مثاليّة لا وجود لها إلا في عالم الذهن، وبين الحوزة العلميّة القائمة بالفعل؟!

يتمنى الكثير من الجامعيين أن يتّبعوا الأسلوب نفسه القائم في الحوزة العلميّة من المباحثات الجدليّة التي تتناول منذ البداية أساس الدين والتساؤل عن جدوائيّة الدين والحاجة إليه، ويسوقون الأدلّة والبراهين على ذلك ويؤسّسون القواعد من قبيل: قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، وقاعدة وجوب شكر المنعم؛ لإثبات الحاجة إلى الدين ومعرفة الله تعالى. ولكنه يذهب في جمع وحشدٍ من الذين لا قِبَلَ لهم بهذه البحوث، بل ربما لم يقرأ بعضُهم حتى كتاباً واحداً في العقائد والكلام ويقول لهم: إنّ جهد الحوزة العلميّة ينصبّ على تربيّة المقلدين ولا تعمل على إعداد الباحثين المحققين، فهل يصحّ ذلك؟ وهل هذا هو الأسلوب المتبع في التحقيق والبحث العلمي؟!

الخط الأحمر في الحوزات العلمية!! ـــــــ

نعلنها صراحةً بأننا لم نجد خطاً أحمر في الحوزات العلميّة، وكان لنا كامل الحريّة في طرح جميع أنواع الأسئلة، فيما تتّهم الحوزة بعدم السماح بالسؤال، وتحذر الآخرين من التسّاؤل أو الجهر به على الملأ! وهذا مخالفٌ للحقيقة تماماً، وطبعاً قد تأمر الحوزة بعدم طرح السؤال أو الشبهة في حضور من يفتقر إلى الاستعداد الكافي لتحمّله، وهو كلام منطقيّ وصحيحٌ تماماً، إذ لا يمكن عرض الشبهات في جميع المواطن وعلى كلّ الناس. وقد أطرح على الأستاذ سؤالاً فيدرك أنني أفتقر إلى بعض المقدّمات التي تساعدني على فهم الجواب عن سؤالي، لذلك يبادرني بالقول: إن سؤالك هذا جيّد إلا أنّ الإجابة عنه تتوقف على ذكر بعض المقدّمات التصوريّة والتصديقيّة التي لم تبلغها بعد، وهذا لا يعني أنّ هناك خطاً أحمر قد وضعته الحوزة، بل هو إرشاد من الأستاذ للطالب وحثه على تعلّم تلك المقدّمات التي تساعده على فهم الجواب بنفسه أو من خلال شرح الأستاذ له بعد تعلّمها، فهل يعني ذلك وضع خط أحمر؟!

نضيف إلى ذلك أن الكثير من المحققين في الجامعات يعترفون بأنّ النقد والبحث يسود الحوزات العلميّة بشكلٍ أكثر مما هو عليه في الجامعات، ويقول الكثير من الجامعيين: إن أكثر الأساتذة والمؤلّفين في جامعاتنا ـ للأسف الشديد ـ يقلّدون الأفكار الغربيّة ويتبعونها مائة بالمائة ويعتقدون أن سعادتنا رهنٌ بالتسليم لآراء الغربيين!

وما نقوله نحن الحوزويون هو دعوة الجامعيين إلى التعمّق في فروعهم الجامعيّة وتناولها بالبحث والنقد والتحقيق وليكن لديهم ـ على غرار الحوزة ـ (بحث خارج) في علم الاجتماع وعلم النفس وما إلى ذلك، فإنّ الكثير منهم يفتقر إلى الوضع القائم في الحوزة وما يقوم به العلماء في دروس بحث الخارج، حيث يكتفي بترجمة الأفكار الغربيّة ثمّ يعمل على نقلها إلى الطلاب تقليداً ويصدع بالقول: (إنّ القول ما قاله الغربيون)!! وقد نجم الكثير من المشاكل الراهنة في الوضع التعليمي لجامعاتنا عن هذه النزعة التقليديّة السائدة عند أكثر أساتذة الجامعات!

التزام طلبة الحوزة العلميّة ـــــــ

الأمرُ الآخرُ أن سروش يرى أنّ هناك في الحوزات العلميّة توافقٌ والتزامٌ ضمنيّ منذ البداية بين الطالب والأستاذ مفاده عدم السّماح بالتمادي في طرح الأسئلة إلى الحدّ الذي يمسّ الأسس والأصول. وأقول: صحيحٌ أنهما ملتزمان عمليّاً لكونهما مسلمين؛ فهما يصلّيان ويصومان ويجلسان معاً ويتباحثان، لكن ليس هناك أيّ تواطؤ بينهما في البحث إلا ما قام عليه الدليل والبرهان. فهل يذهبُ الدكتور سروش إلى وجوب التشكيك في الأصول والأسس، بحيث لو أيقن مثلاً فعليه التشكيك مع ذلك في يقينه، والتساؤل عمّا إذا كانت هناك ضرورة إلى الالتزام باليقين؟ وليس هذا سوى ما يذهبُ إليه السفسطائيون من الشك المطلق، وليسمّه بما شاء. وطبعاً فإن الطالب والأستاذ في الحوزة العلميّة ملتزمان وليسا من الشكّاكين في شيء، ويقولان بحجّية القطع الذاتيّة، ولا يناقشان في أمر آمنا به عن يقين، فهل تريد منهما التشكيك بما أيقناه؟ وهو ما يسمّى بمذهب التشكيك والنسبيّة المطلقة وعدم الاعتقاد بكلّ شيءٍ حتى في هذا الاعتقاد نفسه! طبعاً قد يعتذر الدكتور سروش عن جميع ما ذكرناه ويقول: (لم يكن هذا هو مرادي)، إلا أنه لا يمكن التمسّك بهذا الاعتذار دائماً؛ فحينما يقوم العرف على هذا الفهم، ويدرك هذا المعنى من منطوق كلامه، لا يمكنه القول بأنّ مراده شيءٌ آخر ولم يكن على آلاف الجامعيين أن يفهموا ما فهموه من كلامه! فعلى الإنسان أن يتكلّم بنحو يفهمه الجميع أو جلّهم على الأقل.

القراءة من أجل التغيير أم من أجل الفهم؟! ـــــــ

يقول سروش بأن العلوم غير النقديّة ـ وهي العلوم الدينية والحوزويّة (تحت عناوين العلوم التفسيريّة والتأويليّة) ـ لديها تعهّد سابقٌ مفاده: (إننا نقرأ لكي نفهم)، ولا نقرأ لكي نغيّر، ونعثر على البديل لما قرأناه!

وسؤالنا: طبعاً نحن في الحوزة العلميّة ندرس ونقرأ لكي نفهم الدين؛ فماذا يعني بقوله: لابد لنا في الحوزة من القراءة بغية التغيير؟ هل يريد منّا أن نغيّر الدين؛ فهو يقول: من الخطأ أن نقرأ لكي نفهم، وإنما لابد لنا من القراءة حتى نغيّر! فهل يشمل التغيير هذا حتى الدين والوحي والإيمان بالله؟! وقد أجاب عن بعض الأسئلة في ختام هذه الجلسة والتي استمعت إليها من خلال شريط التسجيل، فقال: ذكرت شيئاً في مقالة (العقيدة والاختبار) والتي نشرت في مجلّة «كيان» فاعترض عليّ بشأنها بعض الأصدقاء. وقد ذكر في هذه المقالة: على الدين أيضاً أن يخضع للاختبار والامتحان، والحقيقة أنه قد أدّى اختباره؛ فبادره بعضٌ بالسؤال: وهل نجح الدين ـ ومنه الإسلام ـ في هذا الاختبار أم لا؟ فأجابَ قائلاً: (نحن نبيّن الكبرى وعليكم تحديد مصاديقها)!

إخفاء الرأي وتعمية المواقف عند د. سروش!! ـــــــ

نقول للدكتور سروش: ألست تعترض على العلماء وتتهمهم بإخفاء بعض الأمور؟! فهل يصحّ منك مثل هذا الكلام بشأن الدّين؟ ولماذا تبهم القول في مسائل الدين ومنها ولاية الفقيه وتعمل على إخفاء الصغريات؟! هناك من الحاضرين والمستمعين لكلامك من يتمتع بالنباهة ويدرك أن الأسلوبَ من أجزاء الكلام؛ فليست الألفاظ وحدها تدلّ على المعاني، بل حتى طريقة الكلام وأسلوبه وسياقه يعتبر من أجزاء الكلام ويفهم منه بعض المعاني الزائدة على الألفاظ!! وإنّ إشكال الإبهام والإيهام يرد عليك قبل غيرك!

اختبار الدين على أرض الواقع، هل فشل الدين؟! ـــــــ

يقول: لقد ذكرنا الكبرى التي تقول (أدّى الدين اختباره) ويمكنكم دراسة تاريخ الدين، فالدين هو الماثل أمامكم في كتب التأريخ! فلنتناول الحديث بدقة أكثر: إنه يشكل على حوزاتنا العلميّة ويتهمها بعدم الفاعليّة في الحاضر والماضي، ونعلم أن الدين الإسلامي الذي تمّ تطبيقه طوال التاريخ ـ عدا المراحل التي كان فيها المعصوم على هرم السلطة ـ إنما تمّ تطبيقه من قبل هذه الحوزات العلميّة، وكلّ ما قدمه الإسلام من اختبارات (إيجابيّة أو سلبيّة) كانت من قبل هذه الحوزات. ويرى أنّ هذه الحوزات والعلوم الدينيّة غير ذات جدوى؛ لأنه يقيس هذه الحوزات العلميّة على الكنائس القائمة في البلاد الغربيّة! وقال: ذهبت في يوم أحدٍ إلى إحدى الكنائس في مدينة نيويورك الأمريكيّة، حيث اعتلى القسّ منصّة الوعظ وأخذ يتكلم بكلامٍ شبيهٍ بكلام خطبائنا! وقد أصبح وضع الكنيسة معروفاً بعد حكمها بالإعدام على غاليلو! فلو ربطنا هذه المطالب ببعضها كانت نتيجتها أن الإسلام قد أدّى اختباره، والدين الإسلامي هو الذي عملت الحوزة على تعريفه، وقد شهدنا أنّ الحوزة العلميّة لم تنجح في التعريف بالإسلام، فلا يكون هذا الدين مجدياً، ولا يمكنه الاضطلاع بدوره بعد هذا الإخفاق التام. هذا ما نراه متفرّعاً ـ كنتيجة طبيعيّة ـ عن مقدّماته وكبرياته. وطبعاً ليس هذا كلامه بل هو كلام الكثير من المفكّرين الغربيين؛ حيث يذهبون إلى عدم جدوائيّة الدين في عصرنا! وقيل: إنّ الفيلسوف أوغست كونت الذي يُسمّى بـ (أبي علم الاجتماع) قد سبق أمثال الدكتور سروش في ذكر هذه المطالب! حيث قسّم (كونت) تاريخ الإنسانيّة إلى ثلاث مراحل: المرحلة الإلهيّة، والمرحلة الفلسفيّة، والمرحلة العلميّة! ولم يحكم الدين إلا في المرحلة الإلهيّة حيث كان التفكير السائد يقوم على أنّ الله يفعل كلّ شيء، وأما حالياً فالمرحلة هي مرحلة العلم، ولم تعد المرحلة مرحلة الدين! هذا هو كلام أوغست كونت، فهل تريد قول الشيء نفسه؟

من الضروري تهذيب المؤلّفات من كلام أمثال أوغست كونت، حيث أدّى إلى تسميم الثقافة البشريّة والفلسفة الإنسانيّة!! وها هم أولاء جاؤوا لينسجوا على المنوال نفسه، وأخذوا ينادون بالدعوة إلى الوحدة بين الحوزة العلميّة والجامعة، ويفسّرون هذه الوحدة بمعنى جعل العلوم الحوزويّة قابلة للنقد، وأن تتمّ قراءتها بدافع التغيير! فهل تذهبون إلى تغيير الدين والاستعاضة عنه ببديل ليحلّ محله، وسيكون ذلك البديل بطبيعة الحال من العلوم البشريّة؟!

من جهة أخرى، يقرّ سروش بعدم إمكان التعويل على الاستقراء والتجربة، وعليه لا ينتجُ من ذلك سوى اليأس والتشكيك! فأرشدونا إلى موضع ثابت وذي قرار لنستقرّ عليه ونطمئنّ إليه!

إذعان المجتهد للأدلة والبراهين لا لغيرها ـــــــ

ونجده يكرّر القول ثانية بأنّ المناخ الجامعي هو مناخ عدم التسليم والإذعان، في حين أنّ مناخ الحوزات العلميّة هو مناخ الإذعان والتسليم!

وبرغم وضوح المسائل في هذا الباب، نجد أنفسنا مضطرّين إلى بيان أنّ الطالب في الحوزة العلميّة ما دام طالباً ولم يبلغ درجة الاجتهاد والتحقيق بعد، فما عليه سوى الاستماع إلى الأفكار والآراء ليكوّن عنها بعض التصوّرات في ذهنه، وطبعاً هذا هو السائد في كل الفروع العلميّة؛ فهل يدخل الجامعيون إلى الجامعة في عامهم الأول وهم مجتهدون في فروعهم الدراسيّة، أم يقال لهم: عليكم الإصغاء إلى الدروس لعدة أعوام حتى تستوعبوا الآراء والأقوال جيّداً، ومن ثمّ إذا بلغتم مرحلة الاجتهاد وغدوتم من أصحاب الرأي، عندها لا يكون هناك موضعٌ (للتسليم)؟ وها هو الدكتور سروش يتهم المؤسسة الدينية بالإذعان والتسليم المطلق، وهذا كذبٌ محض؛ لأن المجتهدين لا يذعنون لأحد، بل يحرم عليهم ذلك؛ إذ يحرم على المجتهد أن يقلّد مجتهداً آخر، إلا إذا كان مجتهداً متجزءاً، فعندها يجوز له تقليد مجتهد آخر في الأبواب التي لم يبلغ فيها مرحلة الاجتهاد.

 هل عمل الحوزات تزيين الدين؟! ـــــــ

الأمر الآخر أنّ الدكتور سروش يقول: إنّ الحوزة تعمل على إعداد الوعّاظ والخطباء، والخطباء هم الذين يتحدّثون إلى عوام الناس ويعملون على تزيين الدين لهم. ويضيف قائلاً: إن هذه هي آفة علماء الدين والحوزات العلميّة، حيث تعمل على إعداد المبلغين ووعاظ الأخلاق! لأن في ذلك يكمن خطر الجهل والتأثر بالعامّة!

في حين أننا نشاهد أسلوب الموعظة قد ورد في القرآن الكريم؛ حيث قال تعالى: ﮬﮭ       وعليه فإنّ الحوزات العلميّة في ذلك إنما تعمل بأسلوب القرآن الكريم، هذا أوّلاً. وثانياً: هل من القبيح إعداد الواعظين في مجال الأخلاق؟ وثالثاً: هل الموعظة تعني تزيين الدين ومصحوبة بالتأثر بالعامّة؟! كيف تتعامل مع الطفل مثلاً عندما تعطيه دواءً ناجعاً ولكنه شديد المرارة؟ ألست تمزجه بشيءٍ من الحلوى حتى تعالجه به؛ فلو عمد المبلّغ والواعظ إلى إضافة شيءٍ من الشِعر أو القصّة أو الحكاية لدعم مطلبه الأخلاقي والديني حتى يكون أكثر تأثيراً في السامعين، هل يُعدّ هذا عيباً ونقصاً فيه؟!

قراءة الشعر وخداع العامّة ـــــــ

والعجيب أنّ من بين الإشكالات التي أوردها سروش قوله: إنّ الخطباء يقرأون الأشعار ويروون الحكايات!

ونقول: إذا كنت تشكل على قول الشعر، فإنك أوّل من رفع لواءه حيث يمثل الشعر ركناً أساسيّاً في أكثر محاضراتك! بل إنك عمدت في هذه المحاضرة نفسها إلى الإصرار على قول الشعر، وألصقت بعض التهم بالحوزة والمؤسّسة الدينيّة وقدّمتها إلى الشباب في قوالب شعريّة! تقول: إنّ خطباء الحوزة متأثرون بالعامة، ويعملون على خداعهم! فيحقّ لنا أن نتساءل عن معنى العامّة؟! في حين أنّ الجامعيين الذين تلقي عليهم المحاضرات والذين يدرسون في الفروع الفنيّة والهندسيّة، وفيهم من لم يقرأ حتى كتاباً واحداً في الدين والفلسفة أو المذهب والحوزة العلمية، وليس لهم أيّ علمٍ بالاجتهاد والحوزة، وإذا كان ملمّاً بهذه الأمور لن يكون أفضل حالاً من بني صدر حيث قال: (لقد بلغت مرحلة الاجتهاد لأنني قرأت كتاب معالم الدين)، أفلا يكون أمثال هؤلاء الجامعيين عواماً كسائر الناس بالنسبة إلى العلوم الإسلاميّة؟ ومع ذلك تلقي عليهم المحاضرات وتتحدث إليهم عن الحوزة العلميّة والحكماء والفقهاء وعلم الأصول ودراية الحديث والرّجال وما إلى ذلك، وتنفرد ببعض الآراء وتنقلها إليهم وتقرأ الشعر أيضاً، أفلا يُعدّ ذلك خداعاً للعامّة؟ إذ تطلق مفردة العامّي على كلّ شخص يجهل فناً من الفنون ولم يختصّ فيه، وأنت تقوم بإلقاء المحاضرات على مثل هذه الطبقة من الناس وليس فيهم من يسعه الوقوف بوجهك وردّ أقوالك، وعليه لا يكون هذا إلا تضليلاً وخداعاً للعامّة! فلا يتمثل العامة بجماعة البقالين والعطارين فقط، بل الكثير من الجامعيين هم من العامّة فيما يتعلّق بغير مجال اختصاصهم، فالذي لم يدرس الفلسفة عامّيّ في الفلسفة، وهكذا!

ولاية الفقهاء وسلطتهم واتهام الحوزة باستغلال السلطة! ـــــــ

الشيء الآخر الذي قاله: إن الأمر الآخر الذي طرأ على حوزاتنا العلمية بعد انتصار الثورة، هو تربّع الحوزويين على عرش السلطة! ويقول: إنّ الذين يدرسون حاليّاً في الحوزات العلمية، سيتسنّمون المناصب بعد مدّة، ويكتسبون ولايةً على الناس، ويحظون بمقام الممثليّة عن القيادة في المؤسّسات، وهذه آفة أخرى حيث أصبحت القدرة والإدارة بأيدي هؤلاء. ثم يستطرد: إنّ المدرسة التي تعمل على إعداد العلماء، تعمل على إعداد الفقهاء أيضاً، ومن بين هؤلاء سيتحدّد من سيقود البلاد، إنّ تلك المدرسة عبارة عن حوزةٍ علميّةٍ دينيّة موجودة في بلادنا، فالعلوم الدينيّة حاليّاً من العلوم التي تمنح السلطة والقدرة للذين ينتسبون إليها، فيصبح قاضياً ويتربع على منصّة القدرة ويغدو ممثلاً للولي الفقيه في المؤسسة العسكرية وغيرها من المؤسّسات الأخرى وتغدو له ولاية على غيره، وتصبح له سطوة خطابيّة، ويحصل على مراتب ومناصب لا تمنح لكلّ شخص بسهولة، فهي خاصّة بعلماء الدين، وإنّ المناصب التي يحصلون عليها تمنحهم القدرة والولاية والإدارة والنفوذ والتأثير وتجعل هناك من يخضعون لسلطانه، وليس هذا بالشيء الهيّن، وقد كان هذا الوضع سائداً في مرحلةٍ من مراحل تاريخنا الثقافي.

ويقول: لم يكن السبب في معارضة عددٍ من الفلاسفة والحكماء والعرفاء للفقهاء دائراً حول الأمور العلميّة، بل لأنّ الفقهاء قد اكتسبوا اعتباراً آخر يتمثل بالسلطة والقدرة؛ ولذلك يتصدّى لهم الحكماء والعرفاء بالنصيحة ويطلبون منهم مراقبة أنفسهم وعدم الاغترار بالسلطان.

إذا كان الأمر منحصراً في النصيحة فهو أمرٌ جيدٌ، ولكنه ليس بالشيء الجديد، ففي الحوزة أيضاً هناك من أساتذة الأخلاق من ينصح ويذكّر بعدم الاستفادة السّيئة من السلطة، ولو أراد الدكتور سروش وعظ الفقهاء فلا بأس في ذلك، ولكن الذي يُستفاد من مجموع كلماته ووصول المؤسّسة الدينية إلى السلطة وخداع العامة وما إلى ذلك شيءٌ آخر. وقد قال في بحث التقليد والتحقيق: أتعلمون لماذا تبحث المؤسسة الدينيّة حاليّاً في الإسلام الفقهي وولاية الفقيه ووجوب إطاعة الولي الفقيه وأمثال ذلك؟ إن سبب ذلك يكمن في سعيها إلى إخضاع العامّة وإبقائهم تحت إمرتها، ولازم ذلك خداعهم، والتحدّث معهم بما يعجبهم! وقد قال صراحةً في هذه الكلمة: إن هذا الكلام من علماء الدين يصلح للتجارة وعالم السياسة، وهذا جيّد لإبقاء الناس تحت إمرتكم والإمساك بزمام السلطة وبذلك تتحكّمون في عصب التجارة!! ثم يضيفُ قائلاً: إنّ نصيب الفقهاء في الحوزة من السياسة أكبر من نصيب سائر علماء الدين في الفروع الأخرى، فالفيلسوف والمؤرّخ أقل حظاً في ذلك! وكأنّ (الولاية) ضربة حظّ نالها المجتهدون والفقهاء، وإنّ الذين لم يصلوا إلى السلطة والحكومة يعانون من سوء الحظ! ثم يقول صراحة: إنّ غير الفقيه محرومٌ من هذه الامتيازات الدنيويّة!!

وأنا أناشد هنا ضمير الدكتور سروش وأسأله أن يحكّم وجدانه ويتأمّل قليلاً في ما يريد بثه بين صفوف الشباب! فالجميع يعلم أنّ السيّد الإمام الخميني هو الذي أقام صرح الحكومة الإسلاميّة على ولاية الفقيه؛ فهل من العدل والإنصاف أن نتحدّث عن الإمام ـ ولو تلميحاً ـ بمثل هذا الكلام في حين لا زالت الوفود الخارجيّة تأتي من البلدان البعيدة لتشاهد آثار زهده وتنعم النظر إلى بساطة عيشه! فهل يسعى سائرُ فقهائنا ومراجعنا إلى طلب الدنيا والقدرة كما أراد الدكتور سروش تصويرهم في أذهان مخاطبيه؟! لولا زهد العلماء وقداستهم وتقواهم لما تجمهر الناسُ حولهم. هناك في المجتمع الكثير ممن هو أغنى من علمائنا وفقهائنا ومجتهدينا وطلابنا، وأرى من الجنون أن ينتسب شخصٌ إلى الحوزة لغرض الحصول على الأموال والرفاه الدنيوي، فكلّ من ينتسب إلى الحوزة يعلم منذ البداية عدم إمكانيّة الوصول إلى الثراء والعيش الرغيد من خلال الحوزة العلميّة، بل حتى أبواه يعلمان ذلك ومن هنا ينصحانه أحياناً بعدم الانتساب إلى الحوزة العلميّة إشفاقاً منهما على حياته ومستقبله المادّي! فماذا تقول بعد هذا؟! ولماذا تعمل على إشاعة هذا الجو من سوء الظن وتقرأ أشعاراً مفادها أنّ السادة يصبحون قضاة والقاضي هو الذي يسرق أحياناً ويأكل حقوق الناس؟! ولابد للسامع على كلّ حال من تطبيق هذه الأشعار والأمثال على مواردها، وما تريده هو أن يبحث السامعون عن الصغريات بأنفسهم، أفلا يُعتبر هذا بمجموعه إضعافاً للنظام في إيران؟ وأما وضع الطلاب المعاشي فحدّث ولا حرج بعد أن كثر اللغط حوله في كافة أنحاء إيران، بل وفي جميع أرجاء العالم. ومع ذلك لا يقوم الطلاب لتحسين وضعهم المعاشي بالتظاهر في الشوارع وأمام الوزارات وأمثال ذلك، لأنهم يجدون النظام نظاماً إسلاميّاً ويعتبرونه منهم ويرون ضرورة المحافظة عليه، ولذلك لا يرون من الصحيح القيام بمثل هذه الأمور، فهل يحتاج ذلك إلى بيان الحالة المتواضعة لمعيشة الطلاب المتعارفة والعرفيّة. نعم يمكنك العثور على بعض الأفراد من الذين ينتسبون إلى الحوزة ومع ذلك يركب سيّارة فارهة، أو يمتلك مصنعاً ربما ورثه من أبيه! وأنا لا أنفي أن يكون بين الحوزويين ـ شأنهم شأن سائر الطبقات الاجتماعية الأخرى ـ من هو طالح أيضاً، ولكن هذا لا يصلح مسوّغاً لتعميم العقوبة على المؤسسة الدينيّة بأجمعها!

سروش ينصب نفسه ناطقاً باسم الجامعيين! ـــــــ

ثمّ أشار إلى أنّ المتخرجّين من الجامعات يُخفقون في الحصول على فرص العمل، ولا يتسنّمون المناصب الإداريّة في البلاد، فلا ينال هذه الحظوة سوى علماء الدين!

وهنا يجدر بي الاعتذار من الكثير من الأساتذة والجامعيين؛ إذ يتخذ كلامي طابع المقابلة؛ فقد نصّب الدكتور سروش نفسه ناطقاً رسميّاً عن الجامعيين فأخذ يتحدث باسمهم، فيما الكثير منهم عندنا يرفضون هذا الكلام، لأنهم منصفون وواقعيون. وإذا اتخذ ردّنا طابع المواجهة والاصطفاف أمام الجامعيين، فلا يعني ذلك التعميم، وإنما نخصّ به الدكتور سروش والمؤيدين لمنهجه الفكري.

قداسة العلوم الحوزويّة  بين الرفض والقبول ـــــــ

ويبحث سروش في قداسة العلوم الحوزويّة ويقول: لقد حظيت هذه العلوم بقداسة في غير محلها إذ ليس لرأي الحكيم والفقيه أيّ قداسة، وأضاف: إذا كان القرآنُ مقدّساً، وإذا كانت السنّة مقدّسة، فإنّ هذه القداسة ستسري بالتدريج لتعمّ رأي هذا الحكيم وذلك الفقيه، وبذلك تكتسب كثيرٌ من الأمور قداسة تبعيّة وعارضة، رغم أنها لا تستحق التقديس.

نقول: إن هناك اختلافاً بين رأي في الجغرافيا مثلاً ورأي في الدين ـ وإن ترشحا من أفكار بشريّة ـ وذلك لأنّ متعلق الرأي الديني أمورٌ دينيّة مقدّسة من المعتقدات والقيم الأخلاقيّة وهذه الأمور تتمتع بقداسةٍ ذاتيّة، فيما متعلّقات العلوم الأخرى لا تتمتع بمثل هذه القداسة. وهو يقول: يجب أن يتنزل الفقهاء عن مرتبتهم السّامية، ويعترفوا صراحة بأنّ فهمهم فهمٌ إنسانيٌّ وبشري، وهو كسائر العلوم ليس له أيّ قداسة! وفي الحقيقة تعود آراؤهُ هذهِ إلى سلسلة من المبادئ الفكرية القائمة على المنهج الليبرالي الذي يؤمن بالمجتمع المفتوح، والقائل: إنّ لكلّ فردٍ رأيه الشخصي وهو كسائر الآراء الشخصيّة الأخرى لا يتمتع بأيّ قداسةٍ تميّزه عن غيره!

مزعمة: الحوزات غير مسؤولة عن إيمان الناس!! ـــــــ

دققوا جيّداً حيث يقول: ليست الحوزات العلميّة مسؤولة عن إيمان الناس وإجبارهم على الإيمان! فما عليكم إلا بيان الدين، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر!

ونقول لهُ: وهل هذا غير المشروع الليبرالي الغربي؟! وهذا من قبيل أن يقال للطبيب: ليس عليك إلا أن تصف الدواء للجذامى ووضعه أمامهم، فمن شاء تناوله ومن شاء تركه، وليمت من يمت ولينشر العدوى بين الناس من شاء منهم، فلست مسؤولاً عن حياة الناس أو موتهم؟! فنقول: إذاً ما معنى وصف الأنبياء بالأطبّاء الدوّارين بطبّهم؟ فإذا كانت وظيفة الأنبياء مجرّد بيان الدين، لقالوا: هذا هو الدين وليأخذ به من شاء، ولم تكن هناك حاجة لكي يتحمّلوا العناء والصّعاب ويتجرّعوا الغصص في وعظ الناس وإرشادهم، ولما أقاموا الحدود والتعزيرات، ولما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. وقد وصف القرآن الكريم النبيّ الأكرم’ حيث قال:   (الشعراء: 3)؛ فهل يعني هذا مجرّد بيان الدين أم يعني الغيرة والحرقة لإبلاغ الدين وإيصاله إلى الناس؟

وكما ذكرنا، فهذه الفكرة تقوم على أساس الليبراليّة الغربية؛ حيث تقول: لكلّ فردٍ الحقّ في الذهاب إلى الكنيسة أو الملهى أو حانات الخمر والقمار أو المكتبة العامّة، وعلى الحكومة أن تعمل على بناء وإقامة المعابد والملاهي وحانات الخمر والجامعات، والجميع حرٌّ في اختيار ما يشاء من هذه الأمور وليس من واجب الدولة منعه، وإنما تقتصر مهمّتها على بيان الفوائد والأضرار والحلال والحرام!!

لكننا نقول للدكتور سروش: إننا نعيش في بلادٍ إسلاميّة يتعيّن فيها على العلماء والحوزات العلميّة أن تحول دون وقوع المفاسد وأن تحدّ من نشاط المفسدين، حيثُ قال تعالى:     ، ثمّ قال:     ، وقد أطبق جميعُ المفسرين على أنّ هذا المقطع الثاني ناظرٌ إلى الجانب العملي وتنفيذ الأحكام وتطبيقها، أي أنّ الأنبياء وقادة الدين مسؤولون عن الجانب التطبيقي للدين وتنفيذ الأحكام والوقوف بوجه كلّ المخالفين، والذي يتراءى هو أنّ الدكتور سروش قد توهّم أن إيران بلد غربيّ وحسبها تعيش الأجواء السائدة في السويد وإنجلترا!

الوحدة بين الحوزة والجامعة ممكنة لا مستحيلة ـــــــ

وممّا قاله للأسف الشديد: إذا بقي الوضع على ما هو عليه سوف لا يكون هناك إتحادٌ بين الحوزة العلميّة والجامعة؛ للاختلاف الجوهريّ بينهما ولكونهما يعالجان نوعين مختلفين من العلوم، وما لم تعتبر الحوزة العلمية علومها من المعارف البشريّة لا يكون هناك اتحادٌ بينهما، وستبقى هذه الوحدة المزعومة وحدة صوريّة، لا وجود لها إلا في عالم الألفاظ، ثمّ قال: لم يجلس الربّ في الحوزة ويصدر الفتاوى، كما لم يقم النبيّ الأكرم’ والأئمة الأطهار^ في هرم الحوزة للإفتاء، بل هناك مجموعة من الفقهاء والعلماء والمتكلّمين الذين لا يتجاوز كونهم مثل سائر أفراد البشر.

نقول: هذا ليس كلاماً جديداً، فالكلّ يعلم أنهم من سائر البشر، إلا أنّ هذه القداسة إنما يحصلون عليها لكونهم ينقلون كلام الله، وكلام الله مقدّس. يقول العلماء: نحن نرى ـ بوصفنا من المختصّين في معرفة الدين ـ أنّ هذا هو حكم الله والوحي والإسلام والنبيّ والإمام. وفي الوقت نفسه يعترفون قائلين: نحن نذهب إلى (التخطئة) دون (التصويب)، فقد نعطي رأياً ولا يكون مصيباً للواقع! إلا أن الكلام في أنّ هؤلاء العلماء والفقهاء قد أفنوا حياتهم في (معرفة الدين)، وهم أكثر من غيرهم تخصّصاً في هذا المجال، وبما أنّ الدين ووحي الله من الأمور المقدّسة، لذا تكتسب فتاوى الفقهاء وجهودهم قداسةً، وليست هي قداسة لشخص الفقيه، وإنما قداسة لعلمه، و قداسة هذه العلوم متفرّعة عن قداسة متعلّقها وموضوعها.

إنّه يقول: هناك اختلافٌ جوهريّ بين الحوزة العلميّة والجامعة، وعليه يستحيل قيام الوحدة بينهما! لكننا نقول له: نحن نعتقد بإمكان إقامة هذه الوحدة، دون أن تكون هناك ضرورة لزوال الفوارق الجوهريّة بين العلمين، فالوحدة لا تكون بين العلوم، وإنما بين الرؤى والأسس الفكريّة، فنفس الجامعيين الذين يدرسون العلوم التجريبيّة يؤمنون بسلسلة من المحاور العقائديّة التي يمكن من خلالها إقامة الوحدة بين هاتين المؤسّستين العلميتين.

طريقته في التعامل مع الروايات وكتاب مفاتيح الجنان! ـــــــ

ويستمرّ أسلوب الإبهام عند الدكتور سروش حتى بالنسبة للروايات حيث يقول: إنها كتبت في مرحلة من التاريخ وتمّ العمل بها، ولم يبق لبعضها سوى القيمة التاريخيّة، فلابد من المحافظة عليها لهذه القيمة، أما بعضها الآخر فلابد من تهذيبه من كثيرٍ من الروايات إلا ما كان منها يحظى بقيمةٍ تاريخيّة! وإذا لم توافق الحوزة على هذا الكلام، فلأنها لو قبلته لم يبق لها ما تعتاش عليه، حيث تستمدّ وجودها من نقد ودراسة هذه الروايات!

نقول: إن نقد الروايات لا ينسجم مع ما ذكره الدكتور سروش، فعمل الفقهاء والمجتهدين ينصبّ على نقد الروايات، بل إنّ التفقه يعني التخصّص في فهم الروايات والآيات والبحث فيها، إلا أنّ هذا البحث وهذه الدراسات لا تقوم على أساس عبادة ذلك العلم وهذا الاختصاص!!

كما يهاجم الدكتور سروش كتاب مفاتيح الجنان ويقول: اقرؤوا كتاب مفاتيح الجنان الذي كتبه أحد علماء الحوزة العلمية، ستجدون فيه رقية لوجع الأسنان، ولا أدري ما إذا كان هناك عاقل في الوقت الراهن يؤمن بأنّ وجع الأسنان مردّه إلى دخول دودةٍ فيها، ولكي تخرج هذه الدودة لابدّ من قراءة تعويذةٍ تقول: أيها الدودة التي دخلتِ في سني! أخرجي بإذن الله! وهذا الدعاء موجودٌ بنصّه في مفاتيح الجنان! فهل هناك حاليّاً من يؤمن بهذه الطريقة من العلاج؟!

نقول للدكتور سروش: أولاً: إنّ هذا لا وجود له في مفاتيح الجنان على النحو الذي ذكرته! وثانياً: لو اعتقد شخصٌ بما وراء الطبيعة والميتافيزيقا، وآمن بالأسباب والمسبّبات غير التجريبيّة التي لا يمكنك مشاهدتها في الأنابيب وأجهزة المختبرات! واعتقد كذلك بتأثير الدعاء والإذن الإلهي، فاعلم أنّ مثل هذه الأمور قد تحقّقت بالفعل وعلى نطاقٍ واسع، وقد كان لعلمائنا ـ برغم عبدة العلوم التجريبيّة ـ الكثير من هذه الكرامات. وأساساً ما هو موقفكَ من المعجزات؟ هل تتعامل معها بنفس الأسلوب المجهري؟ بل نرجع ونقول: هل هذه الطريقة التي تتبعها هيَ الصحيحة في النقد العلمي؟ وهل هي النهج الصحيح في نقد كتاب مفاتيح الجنان وهو ينبوعٌ عذبٌ في الأخلاق والعرفان والدعاء والكثير من النعم الروحيّة على الناس، ومع ذلك تعمل على إسقاط قداسته وحرمته وما فيه من الأدعية الشريفة في أعين الجموع بهذا الأسلوب؟ فهل يحتوي هذا الكتاب الكريم على تعويذة وجع الأسنان فقط، ولا يشتمل على غيرها؟ إنّ هذا الأسلوب من النقد يؤدّي إلى تشكيك العامة بمجموع كتاب مفاتيح الجنان! وطبعاً أعلم أنك ستعتذر في النهاية وتقول: لم يكن مرادي هو التشكيك، كما هو دأبك في جميع المسائل المماثلة؟!

إنّ الإسلام الذي ندين به يتضمّن القرآن الكريم ونهج البلاغة والصحيفة السجّاديّة وغيرها من الأدعية المرويّة عن سائر المعصومين، وفيه الحوزات العلميّة والفقهاء، ولا يزال هذا الدين بعد مضي أكثر من أربعة عشر قرناً يقدم التضحيات والشهداء، ومع ذلك تعمل على التشكيك فيه وتجرّده من صفة القداسة، وتتنزّل بالفقهاء على حدّ تعبيرك من مكانتهم! فلو أسقطنا مفاتيح الجنان وبحار الأنوار وما يفهمه المفسّرون من القرآن، والفلسفة وأسفار صدر المتألهين، وفهم الفقهاء ومراجع التقليد للدين في الحوزات العلميّة، فما الذي سيبقى من الدين؟ وعندها من الذي يرشدنا إلى الدين؟ بل وماذا يعني الدين؟

الهجوم على أسفار صدر المتألهين ـــــــ

ثمّ يصل الدكتور سروش إلى الأسفار ويقول: يشتمل كتاب الأسفار الأربعة لصدر المتألهين الشيرازي على بحوثٍ فلسفيّة، وليس هو طبعاً كتاب دين بالمعنى الأخصّ للكلمة. ونلاحظ فيه كلاماً عن المرأة، وقد ذكر الملا هادي السبزواري في حاشيته على هذا الكتاب أنّ صدر المتألهين إنما ذكر النساء والحيوانات في سياقٍ واحد لكونهنّ ـ ذاتاً ـ من جنس الحيوانات، وقد أعطين شكل الإنسان ليرغب الرجال في نكاحهنّ!

نقول: أولاً، ليس هذا كلام صدر المتألهين بشأن المرأة. وثانياً: لا يتحدث الملا هادي السبزواري عن جميع النساء من حيث الذات، وإن تعابير من قبيل: (كدنَ يلتحقنَ بالحيوانات)، و(أغلبهنّ سيرتهنّ الدّواب)([1])، يهدفُ إلى شيءٍ آخر غير الذي فهمته. وثالثاً: هل تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى؟ فلماذا أخذتم النصّ بجريرة الهامش؟! وهل الذي يتمّ تدريسه في الحوزة العلميّة هو متن الأسفار أو حاشيته؟ ولو قلت: لا يزال هذا الكتاب يُدرّسُ في الحوزات في حين تمّ إعدام أحد المحشين عليه في النظام الإسلاميّ العادل، لكان أوفى بغايتك وأقرب لذوق العامّة!!

لو قمنا بانتقاء هذه المفردة الواحدة من جميع كتاب الأسفار، لا بل من حاشيته فقط، ثمّ نقوم بنقلها إلى العامّة وإلى جمعٍ من الناس أغلبهم من الذين لم يطالعوا الأسفار وربما سمعوا باسمه فحسب، ونقول لهم: إنّ أساتذة الحوزة العلميّة كأمثال سماحة آية الله جوادي الآملي، وآية الله محمد تقي مصباح اليزدي، وسماحة آية الله حسن زاده الآملي ـ حفظهم الله ـ يدرّسون هذا الكتاب، سيقولون عندها: إنّ علماء الحوزة العلميّة من هذا المستوى يدرّسون هذا الكتاب المشتمل على هذه المضامين، فما ظنّك بالآخرين؟! فهل هذا الأسلوب صحيحٌ أيها الدكتور؟! لو أردنا نقد كتاب الأسفار بحضور جمع من الجامعيين والعلماء والمحقّقين والباحثين، فهل نتعامل معه بهذه الطريقة المجتزئة والمبتورة والمحرّفة؟! لماذا أهملت الحديث عن مضامين الكتاب الأخرى؟! ولماذا أقدمت على إسقاط قيمة الأسفار؟ ولماذا عملت على تحطيم شخصيّة مدرّسي الأسفار؟ وأزريت بالحوزات التي يدرّسُ فيها الأسفار؟! هل يصحّ تضليل الشباب الساذج؟

ثمّ أضاف: لا يزال هذا الكتاب واحداً من المناهج التدريسيّة في الحوزة العلميّة، وقد قلت للسادة بأنهم إذا لم يعملوا على نقد هذا الكتاب فسيظهر من يعمل على نقده!

أيّها الدكتور! إنّ النقد العلمي غير هذا الذي تتصوّره، وما قمت به ليس نقداً لمفاتيح الجنان والأسفار! بل هو شبيه بشرح الفخر الرازي على إشارات ابن سينا، حيث قال عنه الخواجة: إنه إلى القدح أقربُ منه إلى الشرح!

النقد العاطفي أو العلمي ؟! لماذا الغمز من قناة نهج البلاغة؟ ـــــــــ

ثمّ يذهب الدكتور سروش مدجّجاً بذخيرةٍ كبيرة من العواطف والمشاعر إلى بعض الكتب الواردة في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين× حيث ينصح بعدم استشارة المرأة لضعف عقلها وخطل رأيها وما إلى ذلك، ثمّ يقول: عليكم أن تبيّنوا موقفكم تجاه هذا النوع من المسائل، فإن كنتم تنكرونها فاعملوا على إزالتها!

نقول: إنّ علماءنا يدركون هذه الأشياء، وإذا كان هناك ضعفٌ في السند حققوا فيه، بل هناك أساساً علم خاصّ في هذا الباب، ويعمل المتخصّصون في هذا على نقد هذه الأمور وفقاً للأساليب التخصّصية، حيث يُعدّ علم الحديث فناً تخصّصيّاً، ولكنهم مع ذلك يحتاطون ولا يسمحون لأنفسهم بإزالة كلام أمير المؤمنين× بمثل هذه البساطة، ويتخوّفون من القيام بذلك ويحقّ لهم التخوّف. وأما إذا كنت تريد أن تخلق عندهم الشجاعة الكافية، فهذا شأنك.

ونعود إلى التذكير بمستوى الأفراد الذين تخاطبهم ونقول: لماذا لا تناقش هذه الأمور مع المختصّين في نهج البلاغة لتقف على شروحهم وتفسيراتهم وبيان أسباب تلك الكلمات وظروفها؟ فإن أمثال هذه الأمور بحاجة إلى جهدٍ علمي وتحقيقي، ومع ذلك تنتقي منها ما تشاء وتنقلها إلى مجموعة غير مؤهّلة فتغيّر نظرتها نحو مجمل نهج البلاغة وجميع الروايات! في حين يأخذ العلماء بجانب الاحتياط، ويعملون ما أمكنهم على حفظ كلام المعصوم بنصّه من خلال التحليل والتوجيه والتوضيح المنطقي، وهو جهدٌ مقدّس، ولكنك ما إن ترى عدم تناغم كلام الإمام مع النظريّة الليبراليّة الكذائيّة والمتعلقة بحقوق المرأة، تأمر بإزالتها من دون أدنى تريّث أو تأنٍ! وقد قال العلامة المجلسي في بداية كتابه بحار الأنوار: لقد عملت من أجل حفظ أحاديث المعصومين^ على جمع حتى الروايات الضعيفة، ولكنك تنصح بكل سهولة وبساطة بالتحلي بالجرأة والشجاعة حتى تجاه نهج البلاغة! فإذا كان الاحتياط أسلم، ألا يكون هذا من الموارد التي يجدر فيها الاحتياط؟!

إتهام السيد الطالقاني بالتزيين!! ـــــــ

يقول: إنّ التفكير المنبري الخطابي هو في الأساس عمليّة تجميليّة، وهي آفة نشاهدها في بعض نشاطات حوزاتنا العلميّة، حيث يتم تزيين الدين وتجميله لترغب فيه العامّة وسواد الناس، وليس هذا منحصراً بنا فحيثما ذهبتم وإلى أيّ بلد ذهبتم وتغلغلتم في مواقعه الدينيّة هناك ستلاحظون الشيء ذاته، فقد ذهبت إلى مدينة نيويورك الأمريكيّة وصادف يوم الأحد فدخلت الكنيسة واستمعت إلى القسّ، ويمكنكم تصديقي إذا قلت: إنّ من السهل لكم أن تستمعوا لمنبر ذلك القسّ في بلادنا أيضاً من دون أدنى نقص!

نتساءل: ما الذي يُخفيه الدكتور سروش من وراء تشبيه منابرنا بمنبر القسّ في الكنيسة؟ ألا يحكي ذلك عن اعتقادٍ راسخ يحمله الدكتور سروش وأنصاره ومؤيّدوه، بأنّ وضع حوزتنا العلميّة ومؤسّستنا الدينيّة هو نفس وضع القسيسين من النصارى في العصور الوسطى؟! فهؤلاء هم الذين يضربون أعناق العلماء ويقتلون أمثال غاليلو! فهل يصحّ تصوير المؤسسة الدينيّة في أذهان الناس على هذه الطريقة؟!

كما أنه قد تعرّض إلى السيّد الطالقاني أيضاً وقال: دخل وفدٌ كوبيّ في بداية انتصار الثورة على السيد الطالقاني، فأخذ السيد يشرح لهم الدين وذكر لهم رؤية الإسلام، فعقّبَ الوفد الكوبيّ قائلاً: إذا كان هذا هو الإسلام حقاً فهو دينٌ جيّدٌ ونرتضيه ونكون نحن من المسلمين أيضاً.

يقول الدكتور سروش: إن هذا من مصاديق تزيين الدين! أي أنّ الطالقاني عمد إلى تزيين الدّين ولذلك أعجبوا به! إلا أننا نقول: بما أنّ الدين الإسلامي ينسجم مع الفطرة الإنسانيّة السليمة، فإنّ الفطرة تستجيب له بكل يُسر وسهولة إذا أحسنّا التعريف به. إلا إنه يصف هذه العملية بتزيين الدين وهو عملٌ يمتهنه المنبريون والخطباء وقام به السيّد الطالقاني وهو من الآفات!

وهنا أيضاً يستدرك الدكتور ويقول: بناءً على ما نقل عن السيّد الطالقاني، وذلك كي لا يقطع على نفسه خط الرجعة!

تهمة: إخفاء الحوزات العلمية للدين!! ـــــــ

الشيء الآخر الذي يقوله الدكتور سروش: إنّ العلماء يُخفون بعض الأمور عن الناس، ولا ينبغي لهم إخفاؤها عنهم، بل يجب تقديم الدّين إلى الناس كما هو فإن أعجبهم أخذوا به، وإن لم يعجبهم لم يأخذوا به!!

فنتساءل: ما معنى هذا الإخفاء؟ فإذا ذهبنا إلى التبليغ ودعونا الناس إلى قول الصدق مثلاً، فهل هناك ضرورة إلى بيان سلسلة من المباحث البرهانيّة المعقدة في فلسفة الأخلاق تبيّن منطلقات حُسن الصدق وقبح الكذب وأدلتهما وأسسهما؟ وهل يعود ذلك إلى العقل العملي أو النظري؟ وما هو المبنى الذي يؤسّس عليه الفيلسوف كانط مثلاً في علم الأخلاق؟ وما هي النظرية التي نذهبُ إليها نحن؟ فهذا من الأمور الواضحة وهو مذكورٌ في جميع النصوص التربويّة من ضرورة التكلم بما يتناسب وفهم الناس. فالكثير من المطالب يتناولها العلماء في دروسهم ويشبعونها بالبحث والنقد والتحقيق، ثم يقدّمون للناس لبّ الكلام وخلاصة ما توصّلوا إليه، لعدم استعدادهم الكافي للبحوث الدقيقة، بل ليست هذه وظيفتهم، فهم بدورهم أيضاً يترقبون خلاصة ما يتوصّل إليه العلماء في بحوثهم الحوزوية.

فلماذا لا تصرّح بالمطالب التي نعمل على إخفائها عن الناس؟ هل يعني أنّ هناك شيئاً يرفع من رصيدنا المادّي ولا نريد للناس أن يعرفوه؟ لماذا تلجأ إلى هذا النوع من الإبهام في القول؟ وهل هذا النوع من التعاطي هو محل بحثنا ونقاشنا؟! أحياناً تكون المطالب العلميّة والدينيّة شبيهة بالأدوية والعقاقير التي نحصل عليها من الصيدليات التي لا تعطينا الدواء ما لم تكن بأيدينا وصفة طبية، فهل يحقّ لنا في هذه الصورة مؤاخذة الأطباء على إخفاء الدواء عنا؟! إنّ بإمكان الأطباء إجابتنا عندها بأنكم لا تتحملون أعراض هذا العقار أو أنكم لا تعرفون طريقة تناوله. فهل يسمّى هذا إخفاءً؟! فكذلك العلماءُ حينما لا يحدّثون الناس عن بعض الأمور لعدم استعدادهم لتقبّلها، أو لأنهم يُسيؤون استغلالها بسبب عدم استيعابهم لحدودها. مضافاً إلى ذلك ألم تتعرّض سورة الحديد لكثير من الأمور التي ستفهمها وتدركها الأجيال القادمة؟ وأنت تقول: ليس من شأن عالم الدين أن يخفي شيئاً حتى وإن لم يحن وقت بيانه، إذ لو لم يحن وقته لما قاله اللهُ تعالى ورسوله!!

وهذا الكلام أوهى من أن أكلّفَ نفسي عناء الردّ عليه! فهل أخفى الله شيئاً في سورة الحديد؟! وهل يحقّ للمريض مؤاخذة الطبيب على إخفاء خصائص الدواء وتركيبته وتأثيره الفسيولوجي وعدم بيانها له؟!

انتقاد الشهيد مطهري وقداسة الفلسفة الإسلاميّة ـــــــ

ثمّ ينتقل الدكتور سروش إلى الشهيد مرتضى مطهّري ويوجّه إليه سهام النقد بسبب تقديسه للفلسفة وإشكاله على إقبال اللاهوري لعدم دراسته الفلسفة الإسلاميّة. مشيراً بذلك إلى أنّ تقديس غير المقدّس قد شمل حتى من كان بحجم ووزن الشهيد مطهري في الحوزة العلميّة. ويقول الدكتور سروش: إنّ هذه الفلسفة ليست فلسفة إسلاميّة! وفي الوقت نفسه يثني على إقبال اللاهوري قائلاً: أعلم أنه لم يقرأ الفلسفة الإسلاميّة، إلا أنه درس في ألمانيا وإنجلترا، ونالَ شهادة الدكتوراه من ألمانيا! وإليك نصّ كلام الدكتور سروش: أقولُ لكم إنّ ما يعرفُ في حوزاتنا العلميّة بالفلسفة الإسلامية، واكتسب صفة القداسة بسبب هذه التسمية، لا يمكن ربطه بالإسلام بأيّ رباط، فالفلسفة التي أوجدها المسلمون إنما هي فلسفة من بين عشر فلسفات!!

وهذه هي الليبراليّة الثقافيّة بحذافيرها التي تنادي بالنظر إلى الفلسفة الإسلاميّة والتعامل معها كما نتعامل مع سائر الفلسفات الأخرى، وأن نختار من بينها الفلسفة التي تروقنا! ونضيف للدكتور سروش: إنّ هذه أبحاثٌ تخصصيّة حُدّد فيها المقدار الذي اُخذ من الفلسفة اليونانيّة، والمقدار الذي قام حكماؤنا بإضافته إليها فيما بعد، مضافاً إلى أنّ علماءنا انتقدوا الكثير من آراء أرسطو، وعليه لم يكن علماؤنا مجرّد مقلّدين في أخذ المنطق والفلسفة اليونانيّة. وهل تداول هذه المسائل عند اليونان قبل الإسلام يُثبتُ شيئاً؟ فالكثير من العلوم كانت موجودة قبل الإسلام كالرّياضيّات والهندسة، فإذا تداولها الإسلام فيما بعد وأضاف إليها من عنده لا تكون مقدّسة! إنّ كلامك هذا ساذج جدّاً وينطوي على خداعٍ للعامّة. فلابدّ من التدبّر في أنّ العلماء الذين أخذوا الفلسفة والمنطق هل تناولوها عن تحقيق أم تقليد؟ فإن كان عن تقليد فهو مردود لأنّ الكثير منه قد أخذ عن تدبير وتحقيق، ورفضوا بعضه، كما أضافوا عليه من عندهم، وليس من الصحيح طرح هذه المواضيع أمام العامّة بالشكل والأسلوب الذي تنتهجه والذي يؤدّي إلى التشكيك بمجموع الفلسفة، وتتهم الشهيد مطهّري وجميع أساتذة الفلسفة الإسلاميّة بالانخداع وتقديس الفلسفة! ويقول: إنّ أوّل الأضرار التي تنجم عن تقديس الفلسفة الإسلامية هو عدم الاهتمام بسائر العلوم والفلسفات الأخرى، تحت ذريعة أنّ تلك العلوم أسّسها الكفار لنشر الكفر، بينما الفلسفة الإسلاميّة قد أسّسها المسلمون. ثم يقول: علينا أن نفسح المجال للأفكار (الجديدة). وهنا ألفت انتباهكم شيئاً ما إلى كلمة (جديدة)! هذه الكلمة هي عبارة أخرى عن التغيير الذي تقدّم أن ذكره حيث قال: (علينا أن نقرأ كي نغيّر) وبذلك نفسح المجال للأفكار الجديدة! ويقول هنا صراحة: إنّ الفلسفة الإسلاميّة ليست هي الفلسفة الوحيدة، كما أنها ليست أفضل الفلسفات الممكنة! أي أنّ هناك ما هو أفضل منها! وهنا نسأل الدكتور سروش أنْ يدلنا على هذه الفلسفة الفضلى، وطبعاً نحن نعرف تلك الفلسفة! فهي تتلخّص في العلمانيّة والليبراليّة! ويضيفُ قائلاً: إنّ تقديس الفلسفة الإسلاميّة قد ترك أثره علينا، ويظهرُ هذا التأثير عندما نقرأ المذاهب والفلسفات الأخرى، حيثُ لا نقبلها باطمئنان، بل يبقى هناك شكّ وتخوّف. إنّه يرى أنّ هذا يؤدّي إلى غلقنا الأبواب أمام سائر العلوم والمدارس، أو أن نتردّد في قبولها وعدم قبولها بطمأنينة! فهل ينبغي قبول الأفكار الفلسفيّة الأجنبيّة برحابة صدر، في حين نشهّر بصدر المتألهين والشيخ الرئيس ابن سينا والشيخ الشهيد مرتضى مطهّري ونعتبرهم من المخدوعين؟! ونتجاوز كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة بكلّ بساطة؟! فإلى متى هذا الإغراق في التأثر بالغرب والخضوع للأجانب؟! فإن كانت الحوزة العلميّة تعمل ـ بزعمك ـ على تزيين الدين، فإنك تعمل على تزيين الأفكار الليبراليّة الغربيّة المنحطة، وتحاول جرّ شبابنا نحو الانحطاط! دع العلماء والمفكرين والمخترعين والمكتشفين والمبدعين ينبثقوا من أحضان الإسلام وإيران ليثبتوا خواء هذا الكلام، ويؤكّدوا أن بالإمكان أن يكون العالم إلهيّاً وربّانيّاً!!

فرق الشبهة عن السؤال! ــــــــ

يستعرض الدكتور سروش فرق الشبهة عن السؤال، وهو ما أشرت له في بداية الكلمة، وها أنا أكرّر ثانيةً أنّ هذه البحوث ابتدائيّة للغاية، ومن الظلم إضاعة وقتكم فيها، ولكنها على أيّ حالٍ تطرح على هذا النحو الذي يضطرّنا إلى الرد. فالكلّ يعلم أنّ كتبنا مفعمة بعبارات من قبيل: الشبهة الأولى، والشبهة الثانية، والشبهة الثالثة. والنزاع ليس حول تسمية الشبهة والسؤال، بأن نسمح لشخص أن يسأل سؤالاً، فإذا بلغ به حدّاً نقول له: من هنا تحوّل سؤالك إلى شبهة!! والدكتور سروش يقول: لابد أن يكون الشخص السؤول من أكثر الناس احتراماً في الحوزات العلميّة، وليس ذلك الذي ينكبّ على تأليف الكتيّبات من الذين يحفظون كلّ ما يقال لهم! وكأن الحوزويين بأجمعهم من المؤلّفين للكتيّبات! فيقول: يجب على الشخص أن يطرح الشبهات وأن يُحترم لذلك! فنقول: إذا كان مجرّد السؤال يقتضي الاحترام فلابدّ أن يكون الشكّاك المطبق من أكثر الناس احتراماً على هذا الرأي! فإذا كان جورجياس القائل: لا وجود لشيءٍ في العالم، ولو كان موجوداً لما أمكن التعرّف عليه، ولو أمكن التعرّف عليه لما أمكن تعريفه.. كان جورجياس في أوج التشكيك، فهل يجب أن يحظى باحترامٍ زائد على غيره؟ فإنْ قلت غير ذلك كان نقدكَ في غير محله، ففي الحوزة العلميّة سؤال وشبهات، ونقاشٌ متواصلٌ بين الطلاب والأساتذة، والملفت أنه يقول: إنّ بعض الطلاب في الحوزة يراجعونه ويطرحون عليه مشاكلهم العقائدية!! ويقول: إنّ من جملة مشاكلهم أنهم لا يستطيعون البوح بها في الحوزة العلميّة! فنقول: أين هم هؤلاء الطلبة؟ لنتحدّث معهم لنعرف من هو الذي سألوه؟ ومن هو الذي أخافهم؟ نعم، قد يشعر الأستاذ من لحن سؤال الطالب أنّ لديه عزماً على الالتزام العملي بسؤاله وشبهته، ولذلك يعطيه بعض التنبيهات والتحذيرات وينصحه بعدم الإغراق والغوص في هذه اللجج العميقة مادام هو غير مستعد لفهمها، وأما أنهم لا يجيبون عن الأسئلة العقائدية أو أنهم يمنعون السؤال أساساً! فهذا محض كذبٍ وافتراء على الحوزة العلميّة.

ويتوجه إلى الشيخ الرئيس أيضاً ويقول: سمعت ذات مرّةٍ أحد الكبار ـ يعني كبار الحوزة ـ قال في بحث: إنّ الشيخ الرئيس كتب في هذا الموضوع خمس صفحات! أنظروا إلى مدى التقديس لكلام الشيخ الرئيس، فليكتب أكثر من ذلك أو أقل، فهل الكميّة هي المقياس؟ أم المقياس هو الاستدلال العلمي، حيث البرهان هو المتبع، ولكن إذا غدا الشيء سنة مقدّسة، أغلقَ باب العقل والتحقيق، وحلّ محله التحجّر والتخلّف!!

أيّها الأعزاء! احكموا بالعدل وأنصفوا، هل هذا الشيء هو المتبع في بحوث الحوزة العلميّة؟ بأن يكتفي الأستاذ حينما يسأله السائل بمجرّد أمره بالسكوت لأنّ الشيخ الرئيس كتب في ذلك خمس صفحات! أو أنّ قصد الأستاذ أنّ هذه مسألة دقيقة وقد بحثها ذوو الاختصاص بالتفصيل، وأنها أكبر مما يُتصوّر حتى كتب الشيخ الرئيس فيها خمس صفحات، دونَ أنْ يكون مراده التبجّح بهذا العدد من الصفحات، وأن على الطالب أنْ يُغلق فمه ولا يسأل! بل على العكس، إن أساتذتنا عندما يبحثون ينتقدون أحياناً حتى الشيخ الرئيس، ويردّون بعض آرائه أيضاً، وطبعاً يقبلون كذلك الكثير من آرائه بعد إشباعها بالبحث والنقد والتحقيق، ويستدلون على ذلك ويعلّمون الطالب على الاستدلال أيضاً.

الحلال والحرام في التفكير والسؤال! ـــــــ

وممّا قاله: إنّ السؤال عندما يَعرض على الذهن لا يعرفُ حلالاً أو حراماً، وقد نصحت بعض الأخوة بطرح كلّ سؤال يرد إلى أذهانهم، حيثُ يعرضُ السؤال للفرد بشكلٍ تلقائي، وهو في ذلك كالأحلام التي يراها النائم والتي لا يكون له سلطان عليها، ومن طريف ما يذكر في هذا الشأن أنّ جحا قصد ذاتَ يومٍ بقالاً وانهال عليه ضرباً وشتماً وهو يقول: لماذا تطلع لي في النوم كلّ ليلة؟! وهكذا بالنسبة إلى السؤال حيثُ لا يمكن صفعه بسبب عروضه التلقائي على الذهن!

نقول: قد يكون المنامُ مسبباً عن بعض المقدمات الاختياريّة التي يقدم عليها الفرد أثناء اليقظة، فتكون تلك المقدّمات اختياريّة، ويمكن وصفُ المنام الذي نراه بسببها بالحسن والقبح بالنظر إلى مقدماته. حيث يمكن للفرد أن يعيش في أجواءٍ وينظر فيها بعض المشاهد باختياره، فيؤدّي ذلك إلى رؤية بعض المنامات. وهكذا السؤال، فقد يكون تارة بمنزلة الشجرة التي تنمو بشكلٍ طبيعي، فيعرض على الذهن تلقائيّاً، وقد يكون تارة أخرى بمنزلة النبتة التي يُعمل على زرعها وغرسها في التربة صناعيّاً، وذلك بأن نقحم السؤال في ذهن السامع والطالب والجامعي إقحاماً، فلا يكون ظهوره طبيعيّاً. ويبدو لنا أنّ الكثير من الاستفهامات التي يلقّنها الدكتور سروش للكثير من الشباب بمنزلة تعليق الأغصان والأوراق الصناعيّة على جذع شجرةٍ طبيعيّة، ولم تنبثق من بنات أفكار الشباب أنفسهم. وعليه فإنّ ما يقوله من جبريّة التساؤل لا يعدو كونه بياناً شعريّاً وعاطفيّاً مبهماً، إذ يمكن إثارة السؤال باختيار الفرد، من قبيل ما يقوم به الدكتور سروش حيثُ يذهب إلى وسط جمعٍ من الناس ويثير عندهم علامات الاستفهام باختياره، في حين أنّ تلك التساؤلات لم تخطر على أذهانهم قبل الاستماع إلى كلمته. وعليه لابدّ من بيان مقدمات الموضوع بشكلٍ صحيح ومطابق للواقع، فإن طرأ على ذهن السامع بعدها سؤال كان طروّهُ طبيعيّاً، أمّا أن يعمل على شحن ذهن الجامعي بركامٍ من الأسئلة والتشكيكات في الدين، ففي ذلك الحلال والحرام والصحّة والبطلان والحسن والقبح، حيث يؤدّي ما يقوم به من إثارة التشكيكات إلى تبعات، من قبيل تجريد السامع من عقائده وتنكّره للصلاة وتركها مثلاً، ولا يكون مجرّد سؤالٍ عفويّ وتلقائي يمكن تجاوزه ببساطة.

ويقول: إنّ السؤال بمنزلة الضيف الذي أوصى (مولوي) بوجوب إكرامه!

ونقول: إذا عمد الضيف إلى حرق منزل المضيف، هل يبقى وجوب إكرامه قائماً على ما هو عليه؟! وإذا أرسلنا شخصاً ليدخل داراً منتحلاً صفة الضيف بغية هدم الدار وتقويضها! هل يكون ضيفاً محترماً، أم هو خائنٌ يستحقّ العقاب والتعزير؟! إنّ الدكتور سروش يعمل على إثارة الشباب فلسفيّاً، ويقحم الأسئلة في أذهانهم صناعيّاً، ويقوم بتشكيكهم في الدين والفلسفة الإسلاميّة والقرآن الكريم ونهج البلاغة والحوزة العلميّة والفقه والفقهاء والمجتهدين، ولا كرامة لمثل هذا الضيف، وإن الذي يرسل مثل هذا الضيف إنما يعمل على خيانة صاحب الدار والمضيف! فهل كلّ ضيفٍ محترمٌ؟ أليست هذه الكلمات مجرّد ألفاظٍ شعريّة وعاطفيّة؟ وهل ينحصر هذا الأسلوب بالخطباء والواعظين، حيث تزعم أنّ وظيفتهم ترديد الأشعار وخداع العامّة، مع أنه الأسلوب والمنهج نفسه الذي تسير عليه؟!

أكثر الكلمات سطحيّة وسذاجة!! ـــــــ

ثمّ يقول: كيف يمكن للوسط الجامعي أنْ يحلّ هذه المسألة والحالُ أنه يُتحدّثُ إليه أحياناً بالأساليب الخطابيّة السطحيّة التي يُتحدّثُ بها إلى العامّة، وأحياناً قد تكون مصحوبة بالتدليس والحذر، ويكون مغلفاً ومبهماً أحياناً، وليس من الصحيح مخاطبة الوسط الجامعي بنفس الأساليب السطحيّة التي يتحدّثُ بها إلى العامة!

ونقول: أولاً: إنّ ما يقوم به الدكتور سروش في خطاباته في الوسط الجامعي يحتوي على أكثر الكلمات سطحيّةً وافتقاراً إلى الاستدلال والبرهنة المنطقيّة في عصرنا! وثانياً: إنّ بعض الجامعيين ـ كما أسلفت ـ من أمثالك يعتبرون كسائر العوام في بعض المسائل الدينيّة، وليس هذا عيباً ونقصاً فيهم، فأنا والسادة الجالسين مثلاً، بل وحتى المجتهدين عندنا عوام بالنسبة إلى الكثير من المسائل، ولذلك يقصدون الأطباء لعلاج مشاكلهم الصحيّة، وما ذلك إلا لإقرارهم بجهلهم في هذا المجال، وإذا وصف لهم الطبيب دواءً لا يحقّ للمجتهد أنْ يتشدّق قائلاً: نحن مجتهدون، وينبغي أن نعلم سرّ وصفك لهذا الدّواء، وكيفيّة تناوله وكميته! فعليه لابدّ للجميع من احترام كلّ فردٍ في مجال اختصاصه. وهكذا الأمرُ بالنسبة إلى الجامعيين حيثُ يقرّون بجهلهم بالكثير من المسائل ويبادرون إلى التوجّه بالأسئلة إلينا حول الفلسفة والكلام والفقه والأصول وفلسفة الأخلاق والسياسة! وأكرر ثانية: إنّ ما ينسبه الدكتور سروش من آرائه الشخصيّة إلى الطبقة الجامعيّة ليس صحيحاً، حيثُ إنّ الكثير من الجامعيين الذين تربطنا بهم بعض الصلات لا يذهبون إلى هذه الآراء، ويدركون أننا متخصّصون في بعض الفروع، كما أنهم متخصّصون في فروع غيرها، وإننا نجهل فروعهم كما يجهلون فروعنا التخصّصيّة، والذي لا يريد أن يكون جاهلاً في فروعنا بوسعه أن يتعلّم الدروس التي نطويها طوال السنوات التي مكثناها في الحوزة العلميّة، وأنا إذا لم أرغب بالبقاء جاهلاً بالطب، يقال لي: إنّ الطريق أمامك مفتوحٌ، وكتب الطبّ الدراسيّة متوفرة في الجامعات الطبّية لتدركَ أسرار بعض العقاقير العلاجيّة.

إذن، فما يتشدّق به الدكتور سروش مجرّد كلمات في غاية السذاجة والبساطة والسطحيّة، ومع ذلك يتخذها للأسف الشديد منهجاً له وأسلوباً يكرّره في مقالاته وكلماته، وكأنه يذهب إلى التخصص في جميع الفروع والفنون إلا في الدين، وإن كان مقتضى نظريّته في (القبض والبسط) نفي جميع أنواع التخصّص، ويُحتمل أنه وفقاً لهذا المنهج لا يرى حُرمة وقداسة لأيّ تخصّص، خاصّة في الدين، ولذلك يطلعُ علينا في كلّ يوم ليربط الحصان خلف العربة!

 

سروش والنصائح العطوفة! ـــــــ

 وآخرُ ما اختتم به كلامه نصيحة لم يبخل بها على العلماء مفادها مراعاة الصلاح والتقوى في العمل، وعدم النظر إلى الدروس والعلوم التي يتلقونها كبضاعة للتكسّب والاعتياش! وأن لا يأمروا الناسَ بما لا يفعلون!

فانظروا أيّها القرّاء الكرام إلى هذا النوع من الكلام وفي هذه الأجواء وهذه المقدمات التي لا تؤدّي إلا إلى نتيجةٍ مفادها أنّ علماءنا أخذوا يتمتعون بالولاية والسلطان، ومضافاً إلى ذلك أخذوا يعملون على اكتناز الأموال من الذهب والفضة وسائر الثروات، ويعتاشون على العلم!! ولكي يطعّم كلامه ويُكسبهُ صِبغة موضوعيّة يقول: وطبعاً على الجامعيين أيضاً أن لا ينظروا إلى علمهم بوصفهِ مكسباً وحرفة، ولكنه يعقبُ ويضيفُ قائلاً: ولكنّ لهؤلاءِ حكماً آخر! ولا يبيّن ذلك بشكلٍ واضح، ويرى المصلحة بترك التوضيح! لأنه يدركُ أينَ يكمن مصداق التكسّب بالعلم! ولا أريدُ هنا أن يذهبَ التصوّرُ بأحدٍ إلى أننا ننتقد الطبقة الجامعيّة بشكلٍ عام، ولكن حينما يتحدّثُ الدكتور سروش باسم هذهِ الطبقة، يتخذ ردّنا ـ لتوضيح الأمور والحقائق بطبيعة الحال ـ صبغة المقارنة والانحياز، برغم اعتقادنا الراسخ بنزاهة أغلب الجامعيين وبراءتهم من هذا الكلام الذي يقوله سروش، وهذا ما أكّده لنا الكثيرُ من الجامعيين الذين تربطنا بهم أواصر الصداقة.

ويكرّر النصيحة قائلاً: لا ينبغي لطبقتنا الدينيّة أن تفكّر بهذا الأسلوب، وأن لا تعتاش وتتكسّب عن طريق العلم، خصوصاً إذا كان هذا التكسّبُ مصحوباً بالإسراف والتبذير!

نقول للدكتور سروش: هل للكبريات التي تذكرها صغرياتٌ أم لا؟ فإن كنتَ تتحدّثُ عن مجرّد أمورٍ افتراضيّة، فليس لكلامك معنىً وكان في غير محله! وإنْ كنتَ تعني بكلامك هؤلاء الطلاب والفقهاء الحوزويين والجامعيين، وباختصار إذا كنت تعني الحوزة العلميّة والجامعة القائمتين بالفعل، فهل تشمل هذه الكبريات السيّد الإمام الخميني وسماحة السيّد القائد الخامنئي ورئيس الجمهوريّة وممثلي الولي الفقيه أم لا؟ لا يمكنك التهرّبُ بالقول: إنك لا تعني هؤلاء! إذ لو لم يكن هؤلاء مقصودين بكلامك، فمن الذي تقصده؟! فمن الذي يتمتع بالقدرة والسلطان غيرهم؟! فلماذا تبطن القول وتخفي آراءك وفي الوقت نفسه تتهم العلماء بإخفاء آرائهم؟! ولماذا تهرّبت من الإجابة عن السؤال المتعلق بولاية الفقيه؟ فلم تجب وأنت جريءٌ وتعمل على إعداد جيلٍ جريءٍ ومقدام؟!

وإذا كان مرادك من هذه النصائح مجموع الطلاب في الحوزة، فقد تقدّم وأن قلنا: إنه لا ينبغي الشك في غباء الذي ينتسب إلى الحوزة العلميّة لطلب الدنيا! وهذا ما يدركه الجميع حتى عامة الناس، فهناك من يعاني المشاكل مع أسرته بسبب اعتراضهم على انتسابه إلى الحوزة لما يعلمونه من بؤس العيش وشظف الحياة فيها! وهذا ما يستشعره المنتمي إلى الحوزة العلميّة بكلّ وجوده. ومع كلّ هذا تغرّبُ في الكلام عن الحوزة وتشرّق، وتتهم المنتمين إليها بالاعتياش والتكسّب على طلب العلم؟! نعم، قد تشاهد بعض اللصوص المتلبّسين بزي علماء الدين، كما نشاهدهم نحن أيضاً، ولكن هل يصحّ تعميم القول على الجميع، واعتبار هؤلاء اللصوص الأنموذج الصادق الذي يمثل الحوزة العلمية، وإصدار الأحكام الجائرة بحق جميع المنتسبين إلى هذه المؤسسة العلمية الدينيّة المقدّسة؟! فهذه مغالطة لا تليق بشأنك، إذ لا تتناسب والأسلوب التحقيقي والبحث والتقييم العلمي. وأنت بدورك تدرك التبعات التي يتركها هذا النوع من الخطاب على مجتمعنا الثقافي! فهل يترك هذا الكلام من تأثيرٍ على سامعيك غير التشكيك بولاية الفقيه والحكومة الإسلاميّة، والنظام الذي أقامه العلماء، والدين الذي تعمل الحوزة العلميّة على بيانه للناس، والعلوم التي يدرسونها في الحوزات العلميّة؟ وهل الهجمة الثقافيّة تعني غير هذا؟!

لقد قال رئيس الجمهوريّة المحترم في صلاة الجمعة مؤخراً: نتهم بتجميع السلاح العسكري في حين أننا لا نرقى إلى الدول الأخرى في حجم الاستيراد العسكري بعد أن تسلّحنا بسلاح الإيمان، فسلاحنا هو إيمان المتطوّعين وحرس الثورة وهؤلاء الشباب، ونحن نعتمد على هذه الدعامة القويّة، وعلى أساس هذه الدعامة صمدنا في الحرب لثمان سنواتٍ كاملة، ولا نزال نعمل على صيانة البلاد، وأصبحنا أكبر قوّة في المنطقة، لأنّ سلاحنا هو العقيدة المحمولة في صدور آحاد أبناء هذا الوطن من الجامعيين وطلاب العلوم الدينيّة والمتطوعين.

أسألك أيها الدكتور سروش: ما هو سبب هذا الإيمان؟ أفلم يكن الإمام الخميني هو مصدر هذا الإيمان؟ ألم يكن سبب هذا الإيمان إيثار شخص من العلماء المنتمين إلى الحوزة العلميّة والذي يتصدّى حاليّاً للاضطلاع بمهام ولاية الفقيه ويبذل كلّ ما بوسعه من أجل الإسلام؟ ألم يكن هذا التفاني في الإسلام حصيلة جهاد هؤلاء العلماء الذين أمضوا سنواتٍ مديدة من أعمارهم بين السجن والمنفى؟ فانظروا إلى هؤلاء كيف عاشوا في الظروف الماضية؟ وانظروا إلى الظروف التي يعيشونها حاليّاً؟ حيث نشاهد الأوضاع التي يعيشها أقطاب الحوزة من علمائنا في الظروف الراهنة، فهؤلاء لو كانوا يطلبون الدنيا لما انتسبوا إلى الحوزة العلمية، ولشقّوا لأنفسهم طريقاً آخر، وأنت تدرك جيّداً أنّ طرق التكالب على الدنيا كثيرة، كما تدرك العامّة أنّ طرق جمع الأموال والثروة ـ بالمعنى الخاص ـ لا يكون عبر الحوزة العلميّة. وها أنتم تطلقون هذه التهم والكنايات الجارحة لإضعاف إيمان هؤلاء الشباب، أفلا يعني ذلك تجريد هؤلاء الشباب من سلاحهم الذي سلحتهم به الثورة الإسلاميّة؟ وهل تعني الهجمة الثقافيّة غير هذا؟ نعلم جيّداً أنّ أكثر الغارات شدة وحدّة تكمن في تجريدنا من أكثر الأسلحة كفاءة، وهذه هي أشدّ الهجمات وأخطرها على المستوى الكمّي والكيفي، إذ مادام إيمان جيل الشباب والشعب قويّاً، لا يمكن للثقافة الإباحيّة أن تجد لنفسها موقعاً للتأثير على أبناء أمتنا. وإذا كان الإيمان قويّاً لا يغدو السلاح العسكري فاعلاً ومؤثراً، ولكن لو تمكّن الأعداء من إضعاف إيمان المتطوّع الذي دفعه إلى التواجد في الخطوط الأماميّة من ساحة القتال والمواجهة والضغط على الزناد، لا يغدو بوسعه التوجه إلى الجهاد والضغط على الزناد!! وهذا ما يقوم به الدكتور سروش بقصدٍ أو بغير قصد!! فأيّ شيء دفع الشباب إلى الخطوط الأولى من جبهات القتال سوى ثقتهم الراسخة بصدق الإمام الخميني وأتباعه، وتفانيهم بعلماء الدين وقداستهم؟ وليس هذا التقديس لشخصياتهم، بل تقديساً للإيمان وللخالق ووحي السّماء والمعاد والدين، إذ ليس للعالم تقديسٌ في نفسه، بل يكتسب حرمته وقداسته من قِبل قداسة الدين والعلم المقدّس الذي يحمله! وها أنت تهاجم هذا العلم وهذه الحوزات العلميّة، في حين يعترفُ الجميع بأنه لولا هذه الحوزات العلميّة لما كانَ أيّ أثرٍ للدين والإسلام، ولما قامت هذه الثورة ولا هذا النظام. ألم يقل الإمام الخميني: لولا علماء الدين، لما كان هناك أثرٌ للإسلام؟!

من هنا نقول بضرورة قيام الوحدة بين الحوزة العلميّة والجامعة على محور الدين، في حين يذهب الدكتور سروش إلى الوسط الجامعي ليقول: يستحيل إقامة الوحدة بين الحوزة العلميّة والجامعة! ويقول: ما دام الوضع على ما هو عليه، وما دامت العلوم التي يتداولونها هي هذه العلوم، وما داموا يعملون على تقديس هذه العلوم وهؤلاء العلماء، لا يسعنا الاتحاد معهم!! أليست هذه مخالفة صريحة للإمام الخميني؟!

سروش والمخالفة العمليّة للإمام الخميني ـــــــ

ولكي تتضح مخالفته العمليّة لولاية الفقيه وتعاليم سماحة السيّد الإمام الخميني، والتي تعتبرُ أشدّ من مخالفته القوليّة، أختم كلامي بنقل جزءٍ من وصيّة الإمام الخميني حول الوحدة بين الحوزة العلميّة والجامعة، حيثُ يقول: «وصيتي للجيل الحاضر والآتي بعدم الغفلة، وأن يعمل الجامعيون والشباب الشجاع والكريم على توثيق عرى الصداقة والتفاهم مع علماء الدين وطلاب العلوم الإسلاميّة، وأن لا يغفلوا عن مؤامرة العدو الغادر والغاشم، وعليهم بمجرّد رؤية فردٍ أو جماعة تسعى ـ بالقول والفعل ـ إلى بذر الشقاق والنفاق أن يعملوا على نصيحتهم وإرشادهم، فإن لم ينفع معهم النصح، فلابد من مقاطعتهم وتحجيمهم، وأن لا يسمحوا للمؤامرة بضرب أطنابها، إذ بالإمكان وأد الفتنة في مهدها».

وأخيراً، الاستعداد للمناظرة ـــــــــ

نقول للدكتور سروش: إنّ جميع المخلصين في البلاد يدعون إلى الوحدة، فيما أنت ـ للأسف الشديد ـ تعمل على بثّ الفرقة، ولو كنّا في هذا المدّعى بحاجةٍ إلى البحث والحوار فإنني بوصفي طالباً صغيراً أعلن عن موافقتي وبكلّ تواضعٍ للجلوس معك على طاولةٍ للحوار، ولا أرى من المناسب لأساتذة الحوزة العلميّة وكبار العلماء محاورتك في هذه الأمور؛ وحينما يرى الفرد الدين والقرآن الكريم ونهج البلاغة والدعاء والحوزة العلميّة والفقاهة والمرجعيّة والفكر الإسلامي والفلسفة الإسلاميّة في خطر، لا يبقى هناك مجالٌ للسكوت والمداراة!

الهوامش

(*) أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية في الأصول والفلسفة؛ وأستاذ في مؤسسة الإمام الخميني التي يشرف عليها الشيخ مصباح اليزدي، كانت له مساهمات مشهودة في نقد الحركة الإصلاحية في إيران، سيما على صعيد الدراسات الفكرية السياسية والفلسفية الجديدة، له عدد كبير من المؤلفات.

([1]) الأسفار الأربعة 7: 136.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً