أحدث المقالات

نقد آراء د.سروش

  الشيخ جعفر سبحاني(*)

ترجمة: السيد حسن مطر

مدخل ــــــ

ألقى الدكتور عبد الكريم سروش، الذي تربطني به صداقة قديمة، كلمة في فرنسا حول المسائل المتعلقة بالتشيّع. وكان لها أصداء واسعة نسبياً. وقد أرسل له المفكر المحترم السيد بهمن پور نقداً على هذه الكلمة. ولكن يبدو أنه لم يُقنعه، ولذلك نشر جواباً تفصيلياً على موقعه، والذي بحوزتي حالياً هو هذا الردّ التفصيلي الذي أخذته من ذلك الموقع.

ونحن بمعزل عن كل هذه الحوارات نستعرض آراء التشيع بشأن (الخاتمية وانقطاع الوحي)، و(المرجعية العلمية للأئمة المعصومين)، و(مصادر علومهم ومعارفهم). ونذكِّره بأننا  قد أجبنا عن أكثر الإشكالات التي طرحها في كتابنا «أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم»، والذي طبع عام 1421هـ؛ وذلك لأنّ هذه الإشكالات غير جديدة، وليس هو من أبدعها وابتكرها، وإنما لها جذور في كلام المتقدمين، ولا يسعنا التطرُّق إليها حالياً. وكذلك استعرضتُ في كتاب آخر بعنوان «الاعتصام بالكتاب والسنة»، الذي طبع عام 1414هـ، الآراء الشيعية بشأن المرجعية العلمية للأئمة المعصومين، ومصادر علمهم، بحيث لا يؤدي إلى أدنى تعارض بينه وبين الخاتمية.

قد يكون عذره أنه لم يحصل على هذا النوع من الكتب، ولكن كان بإمكانه الرجوع إلى كتاب «منشور عقائد إمامية»، الذي تمّ طبعه بمختلف اللغات، الأعمّ من الفارسية والعربية والإنگليزية وغيرها؛ لاشتماله على جميع المسائل التي أثارها بنحو من الأنحاء.

تعود مشكلة هذا النوع من الأقلام في الأساس إلى أنها قطعت علاقتها بالحوزات العلمية والخبراء والمتخصِّصين الحقيقيين في المسائل الإسلامية، ثمّ عمدوا إلى إقامة الحوارات بشأنها ونقدها. وأنا أطالبه شخصياً، وأطلب من الأصدقاء الآخرين، الذين يطرحون أحياناً أفكاراً جديدة، أن يأتوا بها أولاً إلى المحافل العلمية والحوزوية، ليبادروا بعد ذلك إلى نشر خلاصة تلك الحوارات.

إنّ هؤلاء الأصدقاء، مهما كانوا بارعين في الكلام، ومهما بلغوا من العلم، يبقون دون مستوى التخصُّص في المعارف والأحكام الإلهية. أتذكر أنّ الدكتور سروش انتقد في إحدى خطبه الحوزة العلمية في قم، نافياً أن يكون فيها أيّ نوع من أنواع التحقيق والإبداع، فعقدت العزم آنذاك (عام 1370هـ ش / 1991م) إلى لفت انتباهه إلى المراكز التحقيقية في قم؛ إذ أحسستُ أنه يجهل وجود مثل هذه المؤسسات على نطاق واسع. ولذلك فقد أرسلت له دعوة عن طريق بعض الأصدقاء ليقوم بزيارة تفقدية وجولة في مرافق (مؤسسة الإمام الصادق× التعليمية والتحقيقية). وبعد أن قام بتلك الزيارة، واطلع على وجود الكثير من المحقِّقين الكبار، وتأليفاتهم القيّمة، دوَّن ملاحظته في دفتر المؤسسة، ونحن ننقل هنا نص تلك الملاحظة التي وقَّعها باسمه:

باسمه تعالى

كانت زيارة مؤسسة الأستاذ المحترم سماحة الشيخ سبحاني التعليمية والتحقيقية توفيقاً من الله تعالى لي. ماذا يمكنني أن أكتب عن هذه الزيارة، سوى التعبير عن مسرّتي، وعن تمنياتي للإخوة العاملين في هذه المؤسسة مزيداً من النجاح والتوفيق، وتطوير أمثال هذه المؤسسة في قم وسائر مناطق هذه البلاد، لنحصل على مزيد من المعرفة الدينية؟!

والله وليّ التوفيق

عبد الكريم سروش

13/11/1370هـ ش

وبهذا أترك شكواي من هؤلاء العلماء، الذين مارسوا مهماتهم لسنوات طويلة بوصفهم مدافعين عن الإسلام، ومن المستنيرين الدينيين، إلى وقتٍ وفرصة أخرى.

الخاتمية أو انقطاع الوحي التشريعي ــــــ

اتفقت كلمة جميع المسلمين وأجمعوا على أنّ خاتمية النبي الأكرم| من ضروريات الإسلام، واعتبارها أصلاً ثابتاً لا يقبل أي تأويل وتحريف في آية الخاتمية، ولا يعطون أي اعتبار لتفسيرها على نحو مغاير لصريحها؛ إذ يقول تعالى: ﴿ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (ص: 40).

ومضافاً إلى هذه الآية الشريفة هناك الكثير من الروايات  الواردة عن النبي الأكرم| والأئمة المعصومين^ في شأن الخاتمية. وقد سحبت تلك الروايات الذريعة من أيدي الذين يدَّعون استمرار النبوّة، والقائلين بمواصلة الوحي التشريعي والتجربة النبوية. وقد كتب علماء المسلمين، من السنة والشيعة، الكثير من الكتب والرسائل في هذا الشأن، وعلى الخصوص المفسِّرون المسلمون كلّما بلغوا هذه الآية الشريفة. ولم يشذّ عن ذلك إلا شرذمة قليلة، بنتها الأصابع الاستعمارية، وهي: البهائية، والقاديانية، في الهند، فإنها أنكرت الخاتمية، وبذلك طردت من حظيرة المجتمع الإسلامي.

مفهوم الخاتمية ــــــ

إنّ المراد من الخاتمية هو أنه لن يكون هناك من نبيّ بعد النبي الأكرم|، وأنّ باب الوحي سيغلق على الإنسانية، وأنه لن ينزل بعد ذلك على أيّ إنسان وحي يحمل تشريع حكم، أو تعيين تكليف، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال. وإنّ كلّ فردٍ يدّعي أنه يوحى إليه بأحكام إلهية من قبل الله، وأنه حصل على أحكام جديدة وغير مسبوقة من قبل الله، وهي غير موجودة في الديانة الإسلامية وشريعة النبي الأكرم|، فهو مشبوهٌ ومغرض، وهو من وجهة نظر المسلمين منكِرٌ لأصل معلوم من ضرورات الإسلام. ومن جهة أخرى فقد أخبرنا القرآن الكريم عن إكمال الدين؛ إذ يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ (المائدة:3).

وإنما يتحقق كمال الدين بنزول جميع المسائل المتعلقة بالدين، أعمّ من الأصول والفروع، على قلب النبي الأكرم|. وإنه| قد وضعها تحت تصرّف الأمّة بنحو من الأنحاء.

إنّ هذين الأصلين من الأصول التي لا يمكن لأيّ مسلم أن يتنكَّر لهما. ولكن هناك إلى جانب هذه الأصول حقيقة لا يمكن التشكيك فيها، وهي أنّ مدّة رسالة النبي الأكرم| قد استغرقت ثلاثاً وعشرين سنة. وقد كان منها ثلاث عشرة سنة في مكة المكرّمة، وعشر سنوات في المدينة المنوّرة. وفي المرحلة الأولى لم تكن الأجواء والدعوة بشكل يساعد النبيّ الأكرم| على تبيين جميع المسائل المتعلِّقة بالعقائد والأحكام والتكاليف الإسلامية. لقد كانت الضغوط والإرهاب السائد في مكة بحيث أمر الله نبيّه بترك مسقط رأسه، والتوجه نحو (يثرب)، واختيارها مركزاً لتبليغ دعوته. وقد كانت السنوات العشر من حياة النبي في المدينة مليئة بالحوادث المختلفة والمتنوّعة، المصحوبة بالعقد والمشاكل. فمن جهة قاد النبي بنفسه ستاً وعشرين غزوة([1])، وكان بعض هذه الغزوات يستغرق وقتاً طويلاً، مثل: فتح مكة، وحنين، وغزوة تبوك؛ ومن ناحية أخرى جهَّز ستاً وثلاثين سريّة للجهاد، وكان يعطيهم التعليمات اللازمة، ويوجّههم نحو جبهات القتال.

كان محيط المدينة وأطرافها مركزاً لتجمّعات اليهود، الأمر الذي فتح باب الجدال من قبلهم مع النبي الأكرم. وبعد خيانتهم المفضوحة اضطر النبي إلى مناجزتهم، وواجه عنادهم وتعنتهم بقوة السلاح، وأجلى قبائل بني قينقاع وبني النضير، ثم توجه نحو بني قريظة وأهالي خيبر فلحق بهم المصير المعلوم للجميع.

وكان| في مدّة إقامته يكاتب رؤساء القبائل، ويعقد المواثيق والعهود السياسية والعسكرية، التي حفظت نصوصها في كتب السير والتواريخ. وإنّ ما كتبه أحمد ميانجي تحت عنوان «مكاتيب الرسول» يُعدّ من أكثر الكتب جامعية في هذا الخصوص.

وعلى الرغم من الموانع والصعوبات الكثيرة التي أحاطت بالنبي الأكرم| من كلّ جانب فقد عمل كلّ ما في وسعه من أجل بيان الأصول والأحكام الدينية العامة للناس. وكان نفسه يُذكّر من طريق الوحي الإلهي بأنّ ساحة التشريع لا تخلو من واحدٍ من أمرين، هما: حكم الله؛ أو حكم الجاهلية. وإنّ كلّ حكم لا يعود بجذوره إلى الإسلام فهو من أحكام الجاهلية. قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ﴾ (المائدة: 49). وإنّ كلّ حكم وقضاء لا ينتهي إلى القوانين والأحكام الإلهية فهو من أحكام الجاهلية أيضاً: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة: 50).

وعليه ينبغي القول: إنّ النبيّ الأكرم هو خاتم الأنبياء. وقد انقطع بعد رحيله الوحي التشريعي؛ لأنه قد أكمل الدين الإلهي. وقد احتوت شريعته كل ما يحتاجه الإنسان لحياته.

ومن جهة أخرى فقد حالت المشاكل والعراقيل دون بيان النبي لبعض الأصول والأحكام العملية. ولجبران ذلك عمد، بأمر من الله، إلى استئمان جماعة على ما لم يستطع بيانه وتوضيحه. وإنّ تلك الجماعة هم عترته وأهل بيته^، الذين عرفوا في بعض روايات النبي الأكرم بأنهم عدل القرآن وأحد الثقلين. قال رسول الله|: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله؛ وعترتي أهل بيتي».

وهنا يأتي التساؤل القائل: ما هي مصادر علوم أهل البيت ومعارفهم؟ وكيف يشرحون الأحكام والتكاليف التي لم ترِدْ في القرآن الكريم وسنّة النبي؟ وهذه هي الشبهة التي يؤكد عليها الدكتور سروش. ونحن سنطرح آراءه في عدة محاور، ونعمل على تحليلها، والإجابة عنها.

 المحور الأول: عدم انسجام المرجعية العلمية مع الخاتمية ــــــ

هذا هو السؤال الذي طرحه سروش في المحور الأول؛ إذ قال: «كيف يأتي بعد خاتم الأنبياء أشخاص يتحدَّثون؛ استناداً للوحي والشهود، بكلام لا أثر له في القرآن والسنة النبوية، وفي الوقت نفسه تكون تلك الكلمات تعليماً وتشريعاً، وإيجاباً وتحريماً، وعلى مستوى الوحي النبوي في العصمة والحجيّة، ومع ذلك لا يضرّ هذا بالخاتمية؟ فأي شيء تنفيه الخاتمية وتمنعه؟! وأي شيء تحول الخاتمية دون وقوعه وحصوله؟! وأي فرق بين وجود وعدم هذه الخاتمية الرقيقة والمهلهلة التي تنتقل جميع شؤونها إلى الآخرين؟! لقد عمد الشيعة من خلال طرحهم نظرية الغيبة إلى تأخير فلسفة الخاتمية لقرنين ونصف من الزمن».

إنّ حاصل كلامه أنّ الاعتقاد بإمامة المعصومين^، والقول بمرجعيتهم العلمية، يتنافى مع القول بأصل خاتمية النبي الأكرم؛ وذلك لأنّ معنى الخاتمية هو أنّ باب الوحي قد أغلق بعد رحيل النبي الخاتم إغلاقاً كاملاً، ولن ينزل بعد ذلك وحي على أي فردٍ من أفراد الإنسانية. ومن جهة أخرى فإنّ معنى مرجعية الأئمة المعصومين^ تعني أننا نحصل منهم على أحكام لا وجود لها في القرآن الكريم وسنّة النبي. ولازم ذلك أنهم أنبياء يوحى إليهم كما يوحى إلى النبي، وأنهم يحصلون على أحكام من العالم العلوي والسماوي.

مصادر علم الأئمة المعصومين^ ــــــ

إنّ التعارض الذي تصوّره الكاتب بين ختم النبوّة وبين المرجعية العلمية للأئمة المعصومين^ يدلّ على أنه لم يلاحظ  المصادر العلمية التي يستند إليها هؤلاء المعصومون، أو أنه يجهلها. وهنا سنشير إلى مصادر علوم الأئمة الأطهار^. وبذلك سنرى عدم وجود أدنى تعارض بين (الخاتمية) وبين مرجعيتهم العلمية.

أـ الرواية عن رسول الله| ــــــ

    إنّ الأئمة المعصومين^ يأخذون الأحاديث عن رسول الله، مباشرة أو من طريق آبائهم الكرام، وينقلونها إلى الآخرين. وإنّ هذا النوع من الأحاديث التي يأخذها كلّ إمام عن الإمام الذي يسبقه حتى تنتهي سلسلتها إلى رسول الله| موجودة في المصادر الحديثية المعتمدة عند الشيعة بكثرة. ولو تمّ جمع هذه الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت بسند متصل عن النبي الأكرم| في كتاب واحد لحصلنا على مسند ضخم، يمكنه أن يكون كنزاً عظيماً للمحدِّثين والفقهاء المسلمين؛ لأن الروايات التي تتمتَّع بمثل هذا السند المحكم والمتين لا مثيل لها في عالم الحديث. ومن باب المثال نشير، من باب التبرك والتيمّن، إلى واحد من هذه الأحاديث، التي يقال: إن هناك صورة محفوظة له في خزانة سلسلة (السامانيين) المحبة للأدب والثقافة، وهو الحديث المعروف بسلسة الذهب: روى الشيخ الصدوق (381هـ) بسندين عن أبي الصلت الهروي أنه قال: كنت مع الإمام علي بن موسى الرضا× عند اجتيازه نيسابور، إذ تجمّع حوله جماعة من المحدِّثين في نيسابور، مثل: محمد بن رافع، وأحمد بن حرب، ويحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه، وجماعة من أهل العلم، فأخذوا بركابه، وقالوا: نسألك بحق آبائك الأخيار الأطهار إلا ما حدثتنا حديثاً سمعته من أبيك. وعندها أخرج الإمام رأسه من محمله، وقال: «حدّثني أبي العبد الصالح موسى بن جعفر×، قال: حدّثني أبي الصادق جعفر بن محمد×، قال: حدثني أبي أبو جعفر محمد بن علي باقر علم الأنبياء^، قال: حدثني أبي علي بن الحسين سيد العابدين×، قال: حدثني أبي سيد شباب أهل الجنة الحسين×، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب×، قال: سمعت النبي| يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله جلّ جلاله يقول: لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي»، ثم واصل طريقه، فأدار رأسه، وقال: «بشرطها وشروطها، وأنا من شروطها»([2]).

وعليه فإنّ جانباً من علومهم ومعارفهم قد توارثوه مشافهة عن آبائهم عن النبي الخاتم|.

والملفت للانتباه أنّ هذا الإشكال الذي يطرحه الدكتور سروش كان مطروحاً من قبل المخالفين في عصر الأئمة المعصومين^ أنفسهم. وقد كان يتم طرحه على صيغة تساؤل، وأحياناً يتخذ طابعاً اعتراضياً، فيسألونهم عن مصدر أحاديثهم ورواياتهم، وكانوا^ يجيبون عن هذا التساؤل والاعتراض على النحو التالي: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب×، وحديث علي حديث رسول الله|، وحديث رسول الله قول الله عز وجل»([3]).

 ب ـ النقل من كتاب علي× ــــــ

كان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب× مصاحباً وملازماً للنبي الأكرم| في جميع مراحل البعثة. وقد تمكن بذلك من جمع الكثير من أحاديث النبي في كتاب، بل كان ذلك الكتاب في الحقيقة بإملاء النبي| وخط علي. وكان من خصوصيات ذلك الكتاب أنه يتوارثه كل إمام عمَّن سبقه بعد استشهاده. وقد روي عن الإمام الصادق× أنه قال في صفة هذا الكتاب: إنّ طوله سبعون ذراعاً، وإنه من إملاء رسول الله وخط علي بن أبي طالب، وفيه كل ما يحتاج إليه الناس، حتى الأرش في الخدش([4]).

ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الكتاب كان يتمّ توارثه بين الأئمة^. وقد روى عنه الإمام الباقر والصادق‘ مراراً وتكراراً، وكانا أحياناً يظهرانه لأصحابهما أيضاً([5]). وهناك حالياً الكثير من الروايات المنقولة عنه في المجامع الحديثية، وخاصة «وسائل الشيعة»، وهي مبثوثة في مختلف أبوابه.

ج ـ الاستنباط من الكتاب والسنّة ــــــ

كان الأئمة المعصومون^ يستنبطون شطراً من الأحكام الشرعية النازلة على النبي الأكرم| من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وهو استنباط لم يكن بوسع غيرهم التوصّل إليه. ونذكر في ما يلي نموذجاً؛ ليقف القارئ الكريم على أن شطراً من مصادر علومهم كان من هذا النوع من الاستنباطات:

في عهد المتوكِّل العباسي ارتكب رجل من النصارى موبقة الزنا مع امرأة مسلمة، وحيث كان هذا العمل يمثل خرقاً لشروط الذمة فقد حكم عليه بإهدار دمه، ووجب قتله، وعندما أرادوا تطبيق هذا الحكم في حقّه بادر إلى النطق بالشهادتين، وأعلن الإسلام؛ لينجو بنفسه، وفقاً لقاعدة «الإسلام يجبّ ما قبله»، الأمر الذي أدى إلى انقسام فقهاء البلاط العباسي على أنفسهم؛ فذهبت جماعة إلى أنه قد أسلم، وقطع صلته بالماضي، وهذا يدرأ عنه القتل، ويُسقط عنه الحد؛ وذهبت جماعة ثانية إلى وجوب أن يقام عليه الحدّ ثلاثاً؛ وذهبت طائفة ثالثة إلى حكم آخر، فاضطر المتوكِّل العباسي إلى التماس حكم هذه المسألة عند الإمام الهادي×، فقال الإمام ×: إنّ حكمه هو القتل؛ وذلك لأنّ هذا الإسلام المعلن عنه في ساعة الضيق والخوف والفزع يفقد قيمته؛ وذلك بدليل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّة اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(غافر: 84 ـ 85)([6]).

لقد اعتبر الله تعالى في هذه الآية عدم جدوائية الإيمان الناتج عن الخوف من العذاب سنّةً إلهيةً لا تقبل التبديل أو التحويل.

لقد قرأ الفقهاء والمفسِّرون بأجمعهم هذه الآية، وفسَّروها، دون أن يوفَّق أيٌّ منهم إلى هذا الفهم. إنّ هذه المدركات العميقة والواقعية هي من المواهب الإلهية التي خصّ الله بها الأئمة من أهل بيت النبي، وشكل ذلك جزءاً من مصادر علومهم ومعارفهم. ومن هنا قال الإمام الباقر×: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يَدَعْ شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلاّ أنزله في كتابه، وبيّنه لرسوله|»([7]). وقال الإمام الصادق×: «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب وسنّة»([8]). وسأل سماعة، وهو من الفقهاء، الإمام موسى بن جعفر×: «أكلّ شيء في كتاب الله وسنة نبيّه|، أو تقولون فيه؟ قال×: بل كلّ شيء في كتاب الله وسنة نبيه»([9]). وكان الإمام الباقر× غالباً ما يستشهد بآيات القرآن الكريم، ويقول: «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله..»([10]).

    وعليه لم يكن الأئمة المعصومون^ مبتدعين في مجال المعارف والأحكام، بل لكل ما يقولونه جذور في الكتاب والسنة. وكان نوع استنباطهم مستحيلاً على غيرهم.

د ـ الإلهام الإلهي ــــــ

وهناك مصدر آخر لعلوم الأئمة من أهل البيت^ يمكننا تسميته بالإلهام؛ إذ ليس الإلهام من مختصّات الأنبياء، فقد تمتَّع به الكثير من الصالحين والأوصياء على طول التاريخ. فقد أخبر القرآن الكريم عن أشخاص لم يبلغوا مرتبة النبوّة، ومع ذلك كان الله تعالى يُلهمهم أسراراً من عالم الغيب، من قبيل: (الخضر) صاحب موسى×؛ إذ يقول عنه تعالى: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً(الكهف: 65).

إنّ هؤلاء الأفراد لم يحصلوا على علمهم من الطرق العادية، بل إنّ علمهم ـ كما يعبّر القرآن الكريم ـ علم لدني؛ إذ يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً. وعليه فإنّ عدم النبوّة لا يحول دون حصول بعض الشخصيات الإلهية السامية على الإلهام الإلهي. ويسمى هذا النوع من الأفراد في كتب الحديث عند الفريقين بـ «المحدَّثون»، أي أناس تتحدث إليهم الملائكة، دون أن يكونوا من الأنبياء.

فقد نقل البخاري في «صحيحه» عن النبي الأكرم| أنه قال: «لقد كان في من قبلكم من بني إسرائيل مَنْ يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء»([11]).

وبذلك فإنّ أئمة أهل البيت^؛ حيث كانوا مرجع الأمة في تبيين المعارف الإلهية والأحكام الدينية، كانوا يحصلون على أجوبة ما يعرض لهم من الأسئلة عن طريق الإلهام وعلم الغيب، إذا لم يكن الجواب موجوداً في المرويّ عندهم من أحاديث النبي|، وكتاب الإمام علي×([12]).

ويمكن لنا أن نستنتج من هذا البيان أن الذين يوردون مثل هذا الإشكال لم يفرِّقوا بين الوحي التشريعي والإلهامات الإلهية، وتصوَّروا أنّ كلّ من يُلهَم لابد أن يكون نبياً بالضرورة. في حين أنّ كون الإنسان (محدَّثاً) هو من المراتب التي ينالها الصالحون، فتحدِّثهم الملائكة، وإن لم يكونوا أنبياء. كما تقدم أن مثَّلنا لذلك بصاحب موسى×، الذي كان حاصلاً على العلم اللدني؛ إذ يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً﴾، ولم يكن نبياً.

تضمين حجية أقوال النبي في سنة النبي| ــــــ

إذا كان كتاب الله وسنة النبي حجة حقاً فإننا نجد في سنة النبي المتواترة أن العترة إلى جانب القرآن الكريم؛ إذ يقول النبي الأكرم|: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله؛ وعترتي». وقد شبّه النبي الأكرم عترته بسفينة نوح؛ إذ يقول: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح، مَنْ ركبها نجا، ومَنْ تخلَّف عنها غرق»([13]).

وعليه نتساءل: إذا كان علم ومعرفة كل واحد من أهل بيت النبي لا يتجاوز مستوى علم ومعرفة أيّ صحابي آخر فلماذا أعطى النبي الأكرم كل هذه المزايا لهم، وفضَّلهم على غيرهم، فيسمِّيهم تارةً بعِدْل القرآن، وتارة أخرى بسفينة نوح؟! ألا يشكل هذا النوع من المزايا والخصائص دليلاً على أنهم كانوا يتمتَّعون بعلم مختلف عن العلوم التي عند غيرهم، وأنهم في ضوء هذه المعرفة يعمدون إلى توضيح أحكام قد نزلت على النبي مسبقاً، لا أنهم يأتون بأحكام جديدة ومبتدعة؟

استخلاص النتائج ــــــ

1ـ كان الأئمة المعصومون^ ينقلون الكثير من الأحكام، ويضعونها تحت تصرّف الناس، من صحيفة علي. وإنّ ما يقولونه إنما هو بيانٌ لأحكامٍ تمّ تشريعها مسبقاً، وليس تشريعاً لأحكام جديدة.

2ـ إذا كان الأئمة^ يُلهَمون من قبل الله ببعض الأحكام فالمراد من ذلك هو بيان الأحكام التي نزلت على قلب النبي، ولم تتوفَّر الظروف والشروط لبيانها في وقتها.

والذي نرجوه من الكاتب، ومَنْ تَرِدُ على ذهنه مثل هذه الشبهات، أن يفرّق بين إنشاء الأحكام والإخبار عن الأحكام التي نزلت على رسول الله؛ فإنّ إنشاء الأحكام الجديدة مناقض للخاتمية، إلا أنّ الإخبار عن الأحكام التي نزلت على قلب النبي إنما هو تأييد للخاتمية، ومن جملة علاماتها وأدلّتها. والغريب أن البعض يقبل بحصول الإلهام لأمّ موسى×، أو تكليم الملائكة لمريم العذراء÷، أو زوج إبراهيم×، الوارد خبره في القرآن الكريم، ويستكثرون في الوقت نفسه ذلك على الأئمة المعصومين^، ويشكِّكون في إمكانية اطلاعهم على الأحكام التي تمّ تشريعها سابقاً! ومن الآيات الواردة في تكليم الملائكة لغير الأنبياء^: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 42)؛ ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ (القصص: 7).

لقد كان حديثنا حتى الآن مع شخص يؤمن بالخاتمية واختتام عصر النبوّات، ولا يرى للإنسان من سبيل نجاة سوى الإسلام، ولكنْ بقراءة أخرى. ولذلك أوضحنا أن خاتمية النبوّة لا تناقض المرجعية العلمية لأهل البيت^ أدنى معارضة، وأنّ أئمة أهل البيت إنما يعملون على بيان الوحي والتشريع الذي سبق أن نزل على النبي الأكرم|.

تناقض في الأقوال ــــــ

أجل، إن لدينا هنا عتاباً خاصّاً لشخص الدكتور سروش، وهو أنّ هذا الإشكال لو كان صادراً عن الآخرين لكان لنا أن نعذره، إلا أنّ مَنْ كان على شاكلة الدكتور سروش فالمفروض أنه يؤمن بسلسلة من الأصول التي لا تنسجم مع ختم النبوّة وانقطاع الوحي. وتلك الأصول التي دعا إليها الدكتور سروش هي:

أ ـ استمرار الوحي النبوي.

ب ـ الإيمان بالتعددية الدينية والسبل المستقيمة.

فقد ذكر، في ما يتعلق بالعنوان الأول، «أنّ التجربة النبوية، أو ما يشابه تجربة الأنبياء، لا تنقطع بشكل كامل، بل يبقى لها حضور مستمر ومتواصل»([14]).

وذهب في ما يتعلق بالعنوان الثاني إلى العديد من السبل المستقيمة، بدلاً من الصراط المستقيم، فآمن بالتعددية الدينية في أوسع معانيها، وقال بأنّ جميع القراءات الإسلامية صحيحة، ومدعاة إلى النجاة.

وعليه كيف يسوّغ لنفسه تخطئة القراءة الشيعية في ما يتعلق بالأئمة، ويذهب إلى الاعتقاد المقابل والمناوئ؟! وكما يقول المثل: يرى القذى في عين الآخرين، ولا يرى الخشبة المعترضة في عينه. وقد قال في بعض تعبيراته:

1ـ «علينا أن نذعن لهذه الحقيقة بالمطلق. وعلينا أن نغيّر نظرتنا. وبدلاً من القول بوجود خط واحد مستقيم في العالم، والكثير من الخطوط المنحرفة والمائلة، علينا أن نرى تقويم جميع الخطوط، رغم تقاطعها وتوازيها وتطابقها، وهناك في الحقيقة امتزاج بين الحقائق»([15]).

فإذا كانت جميع الخطوط عنده مستقيمة وصحيحة فكيف يرى عقيدة الشيعة في باب المرجعية العلمية للأئمة خطاً مائلاً ومنحرفاً عن الصراط المستقيم، فإلى أيّ شيء يشير هذا التناقض بين النظرية والتطبيق؟!

2ـ «إنّ الإسلام السني فهم للإسلام. وكذلك الإسلام الشيعي، فهو فهم آخر للإسلام. وإن هذا وتوابعه ولوازمه أمر طبيعي وصحيح»([16]). فإذا كان الإسلام الشيعي ـ كما يقول ـ فهماً طبيعياً وصحيحاً عن الإسلام فكيف يذهب الآن إلى الاعتقاد بأن إيمان الشيعة بمرجعية أئمتهم العلمية أمرٌ غير طبيعي وغير صحيح؟!

نظرية تكامل المعرفة الدينية (القبض والبسط) ولوازمها الخاطئة ــــــ

إنه عندما استعرض نظرية القبض والبسط في مجلة «كيهان» قال بأنّ كلّ العلوم البشرية مترابطة ومتداخلة فيما بينها، كالسبحة في اليد، فعندما يحصل تغير أو تحرك في أيّ من هذه العلوم فإنّ ذلك يؤثِّر بصورة أو بأخرى على العلوم الأخرى، بما في ذلك العلوم الدينية.

وقد قلت في نقد هذه النظرية:

1ـ إنّ التعبير بالقبض والبسط في فهم الشريعة إنما هو تعبير محترم ومؤدب عن السفسطة والتشكيك الذي ظهر في اليونان، وتمّ القضاء عليه فيما بعد من قبل حكماء من أمثال: أرسطو وغيره. وعلى مَنْ أراد المزيد الرجوع إلى تلك المقالة.

2ـ إنّ فرضية (القبض والبسط في فهم الشريعة) قد حكمت على نفسها بالموت؛ لأنها تشمل نفسها أيضاً. فلربما تتحول هذه النظرية في ضوء سلسلة من الفرضيات في العلوم والمعارف إلى أكثر عمقاً، بل ومتناقضاً بينه وبين نفسه أحياناً.

3ـ إنّ هذه النظرية لا تتناسب والخاتمية، في حين أنّ الخاتمية من الأسس والأصول الثابتة والبديهية في الإسلام. فإننا لو فرضنا تحول الأفكار والعلوم والموضوعات فإن ذلك يشمل الخاتمية؛ بوصفها موضوعاً أيضاً، فلا بد أن يطالها التغيير والتبدّل نتيجة للتبدُّل والتغيّر في تلك العلوم.

لقد كان هذا النقد من الوضوح والقوّة بحيث اضطر أحد مناصريه، الذي ألَّف كتاباً تحت عنوان: «نقد بعض الاعتراضات الموجّهة لتلك النظرية»، إلى القول بأنه وجده وجيهاً للغاية. فما عدا مما بدا؛ إذ بادر حالياً، رغم مبانيه في التجربة النبوية، واستمرار الوحي، والاعتقاد بالسبل المستقيمة، والتعددية الدينية، والقول بمختلف القراءات عن الدين، يأتي ويهدم كل ما بناه من خلال انتقاده للفكر الشيعي؟! أما أنا ففي حيرة من أمره! وعليه أن يفتينا مأجوراً.

المحور الثاني: خصائص الأنبياء^([17]) ــــــ

قال سروش: إنّ للأنبياء ثلاث خصائص أساسية، وهي:

أـ إنهم يحصلون على علومهم ومعارفهم من الله تعالى مباشرة بلا واسطة.

ب ـ إنهم معصومون عن الخطأ في القول والفعل.

ج ـ إنّ كلامهم حجّة على غيرهم.

وبذلك يصل إلى نتيجة مفادها أننا كلما ذهبنا إلى اعتبار علم أئمة الشيعة مباشرياً، وليس اكتسابياً، ومن جهة أخرى نعتبرهم معصومين عن الخطأ في القول والفعل، واعتبرنا حجيّة كلامهم على الآخرين، فعندها لن يكون هناك أيّ فرق بينهم وبين الأنبياء، وإنّ مسألة الخاتمية ستغدو مجرّد لفظ بلا مفهوم.

ونقول في تحليل كلامه ما يلي:

أولاً: صحيح أنّ الأنبياء يتمتعون بهذه الخصائص الثلاث، ولكن بالإضافة إلى هذه الخصائص الثلاث هناك خصيصة رابعة لا توجد في الأئمة، فإنّ للأنبياء مقام النبوّة والشريعة، وإنّ الوحي الإلهي إنما نزل عليهم لأنهم حملة شريعة، ومؤسِّسون لدين جديد. والأئمة يفتقرون إلى هذه الخصيصة الرابعة، أي إنهم لا يتمتعون بمرتبة النبوّة، وليسوا دعاة لشريعة جديدة، وإنما هم مشمولون لنعمة الله، فاستحقوا حمل شريعة النبي الأكرم|، حيث استؤمنوا واستحفظوا عليها.

ثانياً: صحيح أنّ الأئمة يتمتعون بهذه الخصائص الثلاث، ولكن هذا لا يعني أنّ كل من توفَّرت فيه هذه الخصائص يجب أن يكون نبياً بالضرورة. وكما يقول المثل المعروف: «ليس كل ما يلمع ذهباً». وكما يقول المناطقة: إنّ بين هذه الخصائص الثلاث وبين النبوة عموماً وخصوصاً مطلقاً، فكلُّ نبي يجب أن تتوفر فيه هذه الخصائص الثلاث، ولكن ليس كلّ من توفرت فيه هذه الخصائص الثلاث يجب أن يكون نبياً بالضرورة.

ففي ما يتعلَّق بالخصيصة الأولى، وهي العلم اللدني، يمكن القول: كثيراً ما يحصل ذوو النفوس الطاهرة على علوم من العوالم العلوية إلهاماً، دون أن يكون ذلك العلم اكتسابياً، ومع ذلك لا يكونون أنبياء، وقد تقدم أن ذكرنا أمثلة لذلك.

وفي ما يتعلق بالخصيصة الثانية، وهي العصمة، فعلينا التذكير بأنّ العصمة ليست من الخصائص المنحصرة بالنبوّة، فإنّ السيدة مريم العذراء ـ مثلاً ـ معصومة عن كلّ خطأ؛ بحكم قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ(آل عمران: 42)، ومع ذلك لم تكن نبيّة.

وفي ما يتعلق بالخصيصة الثالثة يمكن القول بأنّ حجية الكلام لا تلازم النبوّة، فالعقل ـ مثلاً ـ حجّة على الجميع، مع أنه ليس نبياً. وهكذا هي فتوى الفقهاء، فإنها حجّة على المقلِّدين، وليس هناك مَنْ يذهب إلى القول بنبوّة الفقهاء.

وخلاصة القول: إنّ هذه الخصائص، سواء كانت مجتمعة أو متفرّقة، ليست من العلائم المنحصرة في الأنبياء، وإنْ كان جميع الأنبياء يتمتعون بهذه الخصائص. وإن ما يمتاز به الأنبياء عن غيرهم هو كونهم أصحاب شرائع، ومؤسِّسين لأديان. وهذه الخصيصة لا توجد عند سواهم، حتى لو كانوا أئمة. وليس هناك مَنْ يدعي ذلك سوى الأنبياء.

ونحن نسأل الكاتب: ما هو المحذور في أن يعلِّم الله تبارك وتعالى جماعة؛ ليبلغوا ما أنزله على صاحب الشريعة، ولم تساعده الظروف على بيانها، ويجعلهم معصومين من الخطأ؛ كي لا يحصل نقض للغرض في إبلاغ الرسالة، ويقول للناس بأنّ تقريرهم عن صاحب الشريعة حجّة عليكم؟ فهل تعدّ مثل هذه الموهبة والنعمة مستحيلة عليه وعليهم؟!

فيجدر بنا عدم إنكار التعاليم تحت ذريعة صيانة الخاتمية.

إنّ خاتم الأنبياء|، الذي جاء بالدين الإسلامي، وعرَّفه على أنه الدين الخاتم، والجامع للأحكام الثابتة والباقية عبر العصور، أثبت بنفسه هذه الخصائص للأئمة من بعده في تعابير صريحة وواضحة:

1ـ فمن جهة يعبّر عنهم بأنهم عِدْل القرآن؛ إذ يقول: «كتاب الله؛ وعترتي». ولا يخفى أنّ عِدْل القرآن لابد أن يكون مثله في العصمة والحجية على الناس.

2ـ إنّ النبي الأكرم| قال للناس: إنّ الهداية في اتباع العترة، والضلالة في التخلُّف عنهم، والتمرّد على أوامرهم؛ إذ يقول: «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا أبداً». وقال في شأن أمير المؤمنين علي×: «أنا مدينة العلم، وعلي بابها».

فهل كان علم الأئمة^ بالمسائل العقائدية والعلمية علماً اعتيادياً، كالعلم الذي يحصل عليه الطالب من خلال حضوره في الدرس على يد بعض الأساتذة، أو أنهم تعلَّموا ذلك بطرق غير عادية، كما هو الحال بالنسبة إلى صاحب موسى×؛ إذ يقول عنه تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً﴾؟

لو كان الأئمة المعصومون^ كسائر الناس العاديين فما هو معنى كلّ هذا التأكيد على وجوب اتباعهم؟! وعليه لا ينبغي إنكار سائر التعاليم بحجة الحفاظ على الخاتمية، فتكون كلمة حقّ يراد بها باطل.

مضافاً إلى استحالة أن تكون هذه المعارف والتعاليم التي وصلت إلينا من الأئمة^ نتيجة لدراسة عادية؛ فإنّ كثرتها وعمقها وعظمتها لدليل على أنها ثمار جنة أخرى.

المحور الثالث: دور الأئمة^ في حفظ الشريعة وصيانتها ــــــ

يذهب الدكتور سروش إلى أنه لا دور للأئمة في ذلك؛ لأنّ الشيعة لا يمتلكون شيئاً زائداً عمّا عند الآخرين، فالكلّ في الهواء سواء! بل إنّ ما عند الآخرين في العلوم والعرفان أكثر من الذي نراه عند الشيعة. وقال في ذلك: «يجرنا الكلام إلى تساؤل عن سمة وصفة حماة علم النبي والمستحفظين على الشريعة، وهو ما أعطيتموه لأئمة الشيعة، واعتبرتم الإمامة لذلك واجبة، واعتبرتم الإمام الغائب هو المستحفظ المعاصر. وعليه لابد أن تبينوا لنا ما هو الشيء الذي احتفظ به هؤلاء الحفظة، وخصّوا به الشيعة، من أمور يفتقر إليها سائر المسلمين؟».

وها هنا نستعرض ادعاء الكاتب باختصار ضمن محورين:

1ـ صيانة الأئمة الأحد عشر للشريعة.

2ـ صيانة الإمام المهدي# لها في عصر الغيبة.

في ما يتعلق بالمحور الأول نقول: إنّ جميع المسلمين حول العالم، والبالغ عددهم حالياً ملياراً وأربعمائة مليون مسلم، يفخرون بأمرين، كانت صيانتهما على عاتق الأئمة المعصومين^، وهما:

1ـ القرآن الكريم الذي نزل من عند الله بقراءة واحدة، ولكنه صار يُقرأ؛ بسبب تشتُّت الصحابة، واختلاف لهجات العرب، بسبع قراءات أو عشرة. ونحن نعلم بالضرورة أن القراءة التي نزلت على رسول الله| واحدة. وعليه لا تصح إلا قراءة واحدة من بين هذه القراءات. وإن سائر القراءات لا ربط لها بالوحي الإلهي من قريب أو بعيد. وقد قال الإمام محمد الباقر×: «إنّ القرآن واحد، نزل من عند واحد، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة»([18]). وإنّ هذه القراءة الصحيحة والرسمية للقرآن هي تلك التي رواها حفص، عن عاصم، عن عبد الرحمن السّلمي، وهي قراءة الإمام علي بن أبي طالب×.

2ـ سنة النبي الأكرم|، من قوله وفعله وتقريره. وقد انتقلت إلى المسلمين من خلال كتاب علي، وأحاديثه، وروايات الأئمة عن النبي، وحفظتُ بهذه الطريقة؛ وذلك لأن جهاز الدولة بعد رحيل رسول الله| حرّم رواية الحديث، ومنع كتابته، وعمّم قراراً وسنّ قانوناً بعدم نقل غير القرآن الكريم، إلا في موارد خاصّة. وقد استمر هذا المنع لقرن كامل من الزمن، وهي مدّة طويلة، ولسنا في وارد الخوض في أسبابها.

فإذا لم يكتب الحديث لمدة مئة سنة، وتمّ مع ذلك تعطيل تعليم وتداول الحديث، يكون مصير هذا الحديث معلوماً. وفي هذا الخضم زاد جماعة من اليهود والنصارى المتظاهرين بالإسلام، من قبيل: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وتميم الداري (قاصّ المدينة)، وعبد الله بن سلام، وغيرهم، الكثير من الروايات الإسرائيلية والنصرانية ضمن الأحاديث الإسلامية، ولا زال التراث الإسلامي والمسلمون أنفسهم يعانون من ويلاتها.

ومن ذلك: أسطورة الغرانيق، التي شكَّلت أساساً لكتاب «الآيات الشيطانية»، للمرتد الهندي سلمان رشدي. وكذلك الروايات التي تثبت التجسيم والتشبيه والجبر، التي امتلأت بها كتب الصحاح. وقد أشرنا إلى جانب منها في كتابنا «الحديث النبوي بين الرواية والدراية»، إلا أن هذه المقالة لا تسع للتعرُّض لها، وإشباعها بالبحث والتنقيب.

إلا أنّ الشيعة، وتبعاً لإمامهم علي بن أبي طالب×، لم يعيروا اهتماماً لهذا النهي، ولم يأخذوا منع تداول الحديث على محمل الجد. فمنذ اليوم الذي رحل فيه رسول الله| وحتى عصر الغيبة كان اهتمام الأئمة^ بنشر الأحاديث والتعاليم الدينية، فكان لهم بذلك الفضل الكبير على الإسلام والمسلمين، حيث لعبوا في ذلك دوراً بارزاً في حماية وصيانة سنّة النبي من الاندثار. وليس هناك مَنْ ينكر عليهم ذلك. ولا يمكننا أن ندرك ذلك الدور الذي لعبه الأئمة المعصومون في الدفاع عن السنة النبوية إلا عندما نقف على الكمّ الهائل من الأحاديث التي تمّ وضعها في عصر بني أمية.

المرسوم الحكومي الداعي إلى وضع الحديث ــــــ

لقد عمد معاوية بن أبي سفيان، من خلال إصدار مرسومين، إلى تشجيع المحدِّثين على وضع الحديث في فضائل عثمان، ومن ثم أمر في مرسومه الثاني بتوسيع رقعة وضع الأحاديث، لتشمل فضائل أبي بكر وعمر.

فجاء في مرسومه الأول: «انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم، وقرّبوهم، وأكرموهم، واكتبوا لي بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم، واسمه، واسم أبيه، وعشيرته».

وهكذا كان، وأخذت الروايات تروى عن النبي الأكرم| في فضل عثمان، وترسل إلى البلاط الأموي، لتغدو وثيقة يتم الحفاظ عليها في أرشيف البلاط. وحيث كان معاوية يجزل العطاء لمن يروي رواية ولو واحدة في فضل عثمان، فكان يعطي الكثير من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه، في العرب منهم والموالي، انتشرت عملية وضع الروايات في جميع البلاد الإسلامية، وأخذ المتهالكون على حطام الدنيا يتنافسون فيما بينهم لنيل الحظوة عند معاوية، فكثرت الروايات المروية عن النبي في فضل عثمان، وزادت على فضائل غيره، فخشي معاوية الفضيحة وانكشاف أمره ـ وفي ذلك نقض لغرضه ـ فأردف مرسومه الملكي الأول بمرسوم آخر جاء فيه: «إنّ الحديث في عثمان قد كثر، وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجهٍ وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقضٍ له في الصحابة؛ فإنّ هذا أحبّ إليّ، وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله».

ومن خلال الالتفات إلى هذا النوع من الروايات، التي تعمل على تحريف الحقائق، يمكننا أن ندرك حجم الخدمة التي قام بها الأئمة المعصومون^ في الدفاع عن الإسلام المحمدي الأصيل، والعمل على صيانته وحمايته.

لقد أشرنا حتى الآن ـ بشكل مختصر للغاية ـ إلى الجهود الثقافية لأئمة الشيعة. وأما في المجالات الأخرى فقد مثلَّت خلافة الإمام علي× صورة أخرى لأيام الرسالة النبوية، وتمكَّن إلى حدِّ ما من إنقاذ المجتمع الإسلامي من السقوط في الإفراط والتفريط. ولكن الأمويين عمدوا بعد استشهاده إلى تشويه وجه الإسلام الناصع. وقد وصل الأمر بيزيد بن معاوية؛ بوصفه خليفة النبي الأكرم|، إلى إنكار الوحي، وكان شعاره: «لا خبر جاء، ولا وحي نزل». ومع ذلك لم ينبس أحدٌ ببنت شفة. واستولى سكوت مطبق على المجتمع. وخيّم صمت أقرب ما يكون إلى صمت الموتى. الأمر الذي اضطر معه الإمام الحسين× إلى التضحية بنفسه وأهل بيته من أجل صعق الأمة الإسلامية وإعادة الحياة في جسدها. وهذا ما تحقق بالفعل، فسرعان ما أخذت الثورات تنطلق بشررها لتدك عروش الظالمين.

ثمّ أخذ كلّ واحد من الأئمة المعصومين^ بمحاربة الإفراط في عصره، ومواجهة الانحرافات وعدم فهم الدين بشكله الصحيح. وكانوا بذلك يدافعون عن الإسلام الحنيف، والقرآن الكريم، والسنة النبوية. ومن هنا كانوا يتعرضون للسجن والنفي، وحتى القتل والشهادة.

يشهد التاريخ بأنّ الأئمة المعصومين^ كانوا يغتنمون كل فرصة لنشر الشريعة الإسلامية الصحيحة والدفاع عنها، باذلين في ذلك قصارى جهودهم. قال الحسن بن علي الوشاء: شهدت في مسجد الكوفة تسعمائة محدّث، كلهم يقول: «حدثني جعفر بن محمد». كما أن أبا حنيفة، رغم ما يحمله من المباني غير الصحيحة، يعترف ويذعن بفضل وعلم الإمام الصادق×، واشتهرت عنه عبارة: «لولا السنتان لهلك النعمان»، في إشارة منه إلى السنتين اللتين درس فيهما على يد الإمام جعفر الصادق×.

وللأسف الشديد لا يسع المجال في هذه المقالة إلى استعراض جميع خدمات الأئمة^ للدين والشريعة. ولكننا نرجع القارئ الكريم إلى كتاب العلامة السيد مرتضى العسكري& في هذا المجال؛ ليتضح له مقدار الخدمة التي قدَّمها الأئمة للدين الإسلامي الحنيف، ودفاعهم عن حياض الشريعة المقدسة.

إنّ عقائد الشيعة مفعمة بتنزيه الله عن التجسيم، ووصفه بالعدل. وبعكس ذلك نجد عقائد الطرف المقابل تضج بالتجسيم، وعدم تنزيه الله بالعدل. ومن باب المثال: يمكنكم الرجوع إلى كتابين في التوحيد، صدرا في قرن واحد، ويمكنكم أيضاً المقارنة بينهما، وهما:

1ـ توحيد ابن خزيمة (311هـ)، الذي يروي أحاديث عن النبي الأكرم|، وفيها ما فيها من التجسيم، وكون الله في جهة، ونسبة الله إلى عدم العدل، مما يثبت أنه استبدل الأحاديث الإسلامية بالروايات الإسرائيلية.

2ـ توحيد الصدوق (381هـ)، وهو مفعم بتنزيه الله، ووصفه بما يليق، من العدل وغير ذلك من صفات الكمال والجلال.

كما أنّ الكتاب الأول لم يُبْتلَ بمشكلة التجسيم والتشبيه فحسب، بل هناك الكثير من أحاديث الجبر أيضاً. وهذا ما ابتُلي به أيضاً كلٌّ من صحيح البخاري، وصحيح مسلم، فقد سلكا ذات الطريق التي سلكها ابن خزيمة بعدهما.

وفي ما يتعلق بمسألة الإمام المهدي# فالأمر مختلف. فالتوقع من الولي الغائب لا يمكن أن يكون كالتوقع من الولي الظاهر، ولكنه مع ذلك يقوم في غيبته بنفس ما كان يقوم به صاحب موسى من الأعمال التي لا يمكن للإنسان العادي القيام بها، بل ولا يمكنهم الوقوف على كنهها وأسبابها. فصاحب موسى قام بخرق السفينة، دون أن يدرك ربان السفينة والراكبون فيها الحكمة من ذلك، ولكن نتيجة عمله كانت في صالح أصحاب السفينة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الجدار الذي كان يوشك أن ينقضّ فأقامه؛ ليبقى كنز اليتيمين في حرز حريز. وفي ما يتعلق بالحكمة من غيبة الإمام، وفوائد وجوده بيننا وإنْ لم يكن ظاهراً، يمكن الرجوع إلى الكتب المصنَّفة في هذا المجال. وقد أثبتنا دوره في الحفاظ على الأسس، والدفاع عن الثوابت.

المحور الرابع: تحرير العقل البشري بعد رحيل النبي الأكرم| ـــــ

يفهم من كلامه أنه يذهب إلى أنه: «بعد ختم النبوة ورحيل خاتم الرسل يكون الناس قد أوكلوا إلى أنفسهم في كلّ شيء، وخاصة  في فهم الدين، وأنه لم تعد هناك من حاجة إلى يدٍ سماوية تأخذ بأيديهم، وتعلمهم كيف يرفعون خطواتهم، ولن يكون هناك نداء سماوي يهديهم إلى التفسير الصحيح للدين، ويصونهم من الخطأ في الفهم».

«إنّ الشيعة بدأوا ممارسة هذه الحرية على نحو مباشر، دون تدخل من السماء، منذ بداية عصر غيبة الإمام المهدي، وأما سائر المسلمين ـ على حدّ تعبير إقبال اللاهوري ـ فقد بدأوا ممارسة هذه الحرية على المستوى العملي منذ رحيل النبي محمد|..».

وهنا نذكِّر بأنّ العقل يشكل واحداً من الأدلة الأربعة التي يؤكد عليها الفقه الشيعي. ولكن المهم حالياً هو بيان مساحة العقل. إنّ العقل في ما يتعلق بالعقائد حجّة بلا نزاع. والكل يقرّ ذلك ويذعن به. ولكن في ما يتعلق بالأحكام العملية والفرعية لا يمكن للعقل أن يكون حجّة، إلا في رقعة خاصة، تعرف باسم الحسن والقبح العقلي، وأما في غير هذا المورد فعلى العقل ـ إلى يوم القيامة ـ أن يستمدّ العون من الوحي الإلهي، وإلاّ كان بحكم القرآن الكريم من أحكام الجاهلية.

إنّ ما يقوله الكاتب من أنّ المجتمع البشري بعد رحيل النبي الأكرم ليس بحاجة إلى إمام معصوم، وإنما عليه مواصلة مسيرة الحياة في هدي العقل، تترتب عليه تبعات سيئة؛ وذلك لأن إيكال الحياة الفردية والاجتماعية إلى العقل العام، لا يؤدي إلا إلى (الفوضوية في المعرفة). فإلى أيّ عقل عام يتمّ إيكال بيان الوظائف العملية؟ هناك حالياً الكثير من المذاهب والمدارس الفكرية، الأعم من المادية والروحية، وكلّها تدّعي أن لها وحدها، ودون غيرها، الحقّ في رسم طريقة الحياة للمجتمع، وقيادته إلى السعادة، من قبيل: الاشتراكية؛ والشيوعية؛ والليبرالية؛ والوجودية، إلا أنّ هذه العقول العامة لم تتمكن حتى الآن من الوصول إلى إجماع بشأنّ مقدمات الاقتصاد، فضلاً عن هداية المجتمع الإنساني. فهل إيكال الناس إلى هداية بعض الصلحاء، الذين يشهد التاريخُ وسيرتُهم على تقواهم وطهرهم وعلمهم ومعرفتهم أفضل أم توجيه الحياة الإنسانية إلى أودية تختلط وتزدحم فيها مئات المدارس والمذاهب الفلسفية التي تدعي هداية الإنسان، فلا يحصل على المستوى العملي سوى التخبّط في مختلف الأزمات والمشاكل الحادة؟! كلنا نعلم مقدار الدماء التي سفكت على يد «لينين» و«استالين» من خلال طرحهما فكرة المذهب الاشتراكي، ومدى الرعب الذي استولى على قلوب الناس في هذه الفترة، التي قلما شهد التاريخ مثيلاً لها. وهكذا الأمر بالنسبة إلى النازية في ألمانيا، فهل استطاعت أن تترجم مدعاها في إسعاد الشعب الألماني على أرض الواقع أم أنها فاقمت من الأزمات، من خلال بذرة الشقاق التي زرعتها بين شعوب العالم، فأحيت بذلك العنصرية والعصبية من جديد؟!

إضاءات من الماضي المشرق ــــــ

1ـ سماحة الدكتور سروش..، إنّ جميع أصدقائكم يحتفظون لكم بذكريات مشرقة. فأنتم من خريّجي المدرسة العلوية في طهران، والمعروف عن طلابها أنّ الإيمان والأخلاق منصهر في وجودهم، وقد وقع حمل مسؤولية إدارة النظام في الماضي والحاضر على عاتقهم.

2ـ في بداية عقد الستينات توجَّهنا برفقتكم ورفقة صديقنا العزيز الدكتور حداد عادل وعدد آخر من الشخصيات إلى لندن؛ للمشاركة في مؤتمر (الإسلام والوطنية)، بدعوة من الراحل (كليم صديقي)، وقد شاهدتُك بأمّ عيني وأنت مشغول بتلاوة الأدعية بعد أداء فريضة الصبح.

3ـ وفي الاجتماع السنوي للجنة أمناء (بنياد دانشنامه جهان إسلام) كنتم عند أداء فريضة الظهر والعصر آخر من يغادر المصلى؛ بسبب تقيّدكم بأداء التعقيبات.

4ـ وفي مناظرة كانت لكم مع الأستاذ إحسان طبري بمعية الشيخ مصباح يزدي، علا نجمكم عندما قال الأستاذ إحسان طبري في تعريف المادة: «الموجود مادة»، فأجبته قائلاً: إنّ التعريف من مقولة الماهيات، دون الوجودات.

5ـ في منزل الشيخ فاضل ميبدي، وبعد بحث طويل حول (القبض والبسط)، قلتُ لكم: إن عليكم أن تملأوا الفراغ الذي حصل في الجامعة؛ بسبب استشهاد الشيخ مطهري، من خلال التدريس، وإلقاء الخطب، وأن تبقوا بين المتدِّينين، لا في يد الآخرين؛ لأنهم لن يبقوا إلى جانبكم إلا لأيام معدودات.

وهنا نقول: أين هذا الماضي المشرق من الكلمات التي صدرت عنكم مؤخَّراً في التشكيك بأسس وأصول التشيّع؟!

أختتم كتابة هذه الرسالة في ذكرى ولادتكم في شهر آبان من العام الجاري. وهذا يعني مرور ستين ربيعاً من فصول عمركم (من 1324 إلى 1384). وقد جاء في المثل الفارسي: «چون كه شصت آمد نشست آمد»([19]). وعليه من الأفضل لكم أن تعيدوا النظر في آرائكم.

الهوامش

_______________

(*) أحد مراجع التقليد، وأستاذ بارز في الحوزة العلمية في مدينة قم الإيرانية. من أشهر الباحثين المعاصرين في علم الكلام، ومن كتّاب الفقه المقارن، من إيران.

([1]) الصدوق، التوحيد، الباب الأول، الأحاديث 21، 22، 23.

([2]) المصدر نفسه.

([3]) وسائل الشيعة 18: 58؛ 26، الباب 8 من أبواب صفات القاضي.

([4]) بحار الأنوار، 26: 18 ـ 66.

([5]) وسائل الشيعة 3: الباب 12 من أبواب لباس المصلي، ح1.

([6]) وسائل الشيعة 18: 408، الباب 26 من أبواب حد الزنا.

[7])) أصول الكافي1: 59، باب الرد إلى الكتاب والسنة.

([8]) المصدر نفسه.

([9]) المصدر نفسه.

([10]) الطبرسي، الاحتجاج: 176.

[11]) صحيح البخاري 2: 149.

([12]) للتعرف على المحدث وحدوده راجع: إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 6: 99، وغيره.

([13]) مستدرك الحاكم 2: 151، وغيره.

([14]) عبد الكريم سروش، الإسلام، الوحي، والنبوة، مجلة آفتاب، طهران، العدد 15: 69.

([15]) عبد الكريم سروش، مجلة كيان، العدد 36: 9، مقال «السبل المستقيمة».

([16]) عبد الكريم سروش، السبل المستقيمة: 6، طهران، مؤسسة فرهنگي صراط، 1377.

([17]) المراد من الأنبياء هنا خصوص أصحاب الشرائع السماوية، والذين يصطلح عليهم بالأنبياء أولي العزم.

([18]) الكافي 2: كتاب نقل القرآن، الحديثان: 12 و13.

([19]) ومعناه: إذا بلغت الستين من عمرك فعليك أن تجلس لتستريح.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً