أحدث المقالات

ترجمة مشتاق الحلو

bنحن البشر نحصل على أكبر النعم في ظل الجنون، أقصد الجنون الذي يكون عطاءً من الله … . كانت مرتبة الجنون عند المتقدّمين أرفع من الوعي؛ لأن الجنون عطاء إلهي، بينما للوعي أبعاد إنسانيةv([1]).

سقراط ــــــــــ

bقصة بسيطةv عنوان فيلم لأحد المخرجين الإيطاليين البارزين، يحكي قصة قتل ملحق سياسي متقاعد، عاد بعد سنين طويلة إلى مقصورته القديمة التي ورثها في سيسيل، ليطلع على مراسلات جدّه مع الكاتب الإيطالي الكبير، بيراندللو. اتصل بالشرطة وأخبرهم بما وجد، وطلب منهم ــ مترجياً ــ الذهاب إلى بيته، لكنهم لم يعتنوا بطلبه، وفي اليوم التالي، وجدوا جثته ورأسه على ورقة بجانبها مسدس، مكتوب عليها bوجدتv.

تتكرر المفاهيم القديمة كثيراً في هذا الفيلم: المقصورة، الموبيليات، الرسائل، لوحة الرسم، جميعها قديمة. يحرق أهل المدينة أشياءهم القديمة في العيد الوطني، الجميع في هذا الفيلم متهم بالقتل: المدعي العام، مفوّض الشرطة، قائد الشرطة، الجنود، العريف، قاضي التحقيق، الراهب، أستاذ الجامعة، الكنّة، الشاهد على الحادث وحتى المقتول، قد يكون منتحراً. ولا نصل إلى اليقين بشأن أيّ من الاحتمالات إلى آخر الفيلم، وتبقى جميعها قائمة، فلم يعرض الحادث فيه، بل التأويلات اللامتناهية تدور أمام أنظار المشاهد دون أي ترجيح بينها طيلة الوقت، وأول جملة تسمع فيه على لسان أحد الأشخاص الغامضين ــ أستاذ جامعي ـ:bلا يوجد شيء معلومv، يقولها وهو جالس على شاطئ البحر، ينظر إلى تلاطم أمواجه، مخاطباً الشخص الذي يجب أن يحضر غداً إلى دائرة الشرطة بوصفه شاهداً على الحدث، وقد توصّل الجميع ــ بعد البحث والتحقيق ــ إلى أن غموض القضية يزداد كلّما ازداد الفحص والتحقيق؛ لذا يوصي بعضهم بعضاً بترك القضية وعدم السعي وراء bالحقيقةv.

يعكس المضمون الرئيس للفيلم نظرة الإنسان للوجود والحوادث، يسري هذا المعنى كالدم في عروق الأدبيات الحديثة ويكسبها روحاً، ابتداء من bالقصرv وbالمحاكمةv لكافكا إلى bمعنى الوجودv لميلان كوندرا. يكمن جوهر التمايز بين الإنسان القديم والحديث في اختلاف نظرته إلى أمور كالحقيقة، اليقين، العقل وعلاقة هذه الأمور ببعضها، bقصة بسيطةv تحكي غموض الحقيقة والتواءها.

العقل من أكثر الكلمات الفلسفية استخداماً ومغزىً، كما يستخدم في المجالات الأخرى أيضاً، فمن السهل أن نضع أمامنا كماً هائلاً من تعاريف العقل ونناقشها، لكننا لا نهدف إحصاء هذه التعاريف هنا، خاصة وأن لا معنى للكلام عن تعريف بعض مفاهيم الحداثة وما بعدها، بل نسعى ــ في البداية ــ للتعرّف على العقل كما يصفه العالم المتطوّر، ونذكر بعض خلفياته ونتائجه، ثم نرى الأعمدة التي يقوم عليها هذا الصرح العظيم، ونتعرف على معيار حجيته وقول العلماء في تقييمه، وفي الختام نبحث في اتجاهه في التعامل مع الدين وموقعه في التزاوج مع الوحي.

تعتبر العقلانية أساساً للحداثة، أي أنها الخط الفاصل بين الماضي والحاضر، ويتبنى هذه الفكرة أغلب فلاسفة الحداثة، أما المراد منها هنا فهو النظرة لعالم الوجود والطبيعة بشكل عقلاني ونفعي. من أهم الأمور التي كانت تفتقدها معرفة المتقدّمين، اختزال العلائق الكيفية في العالم إلى علائق كمية، ومن أهم نتائج عقلنة العالم (Rationalization) نفي الأساطير والسحر والخيال عنه وإمكان الهيمنة على الطبيعة والتصرّف بها، وظهور التقنية الحديثة والمدنية المعاصرة العظيمة. لهذا، سمّى الفلاسفة هذا الدور للعقل بالعقل الأداتي (Reasoninstromental).

مأساة العقل في الثقافة الغربية ــــــــــ

نشأ الإيمان بالعقل من الاهتمام بالذهن؛ فقد أحرق ديكارت([2]) بصفته أحد أبرز صناع الحداثة، جميع معلوماته واستنتاجاته بنار الشك، وبنى مكانها نظاماً جديداً على أساس اليقين بــ bأنا أفكر، إذاً أنا موجودv، غيّرت أول قضية توصل إلى اليقين بها منهج المعرفة من الواقع (متعلّق المعرفة) إلى الذهن (فاعل المعرفة)، وفرّط بالذهن لصالح منظومة المعلومات البشرية. لم يكن هناك حديث عن ذهن الإنسان بوصفه فاعل المعرفة قبل ديكارت، حين كانت الصورة الأسطورية للعالم متغلّبةً على ذهن البشر، فقد كان الذهن نفسه بصفته ظاهرة خارجية موضوعاً لبحوث علم الوجود، ولم تكن الأرضية مهيأة للسؤال عن الذهن والعقل وتبعاً لهما الحقيقة؛ فكلّ همّ الفلاسفة كان مصروفاً للبحث عن حقيقة الوجود، بغض النظر عن مصاديقه.

وكذلك اعتبر كانط([3]) (بعد ديكارت) معرفة الذهن مقدمةً على معرفة العالم الخارجي، لكنه أكّد على مفهوم النقد، كما كان يعتقد باستطاعة العقل تقييم التجارب الخارجية والباطنية (العلم والأخلاق)، وبإمكانه أيضاً عقلنة نفسه بصورة ذاتية ومستقلة (Autonomy مقابل التبعية Heteronomy)، وبقائه مبتنياً على الحكمة والاتزان؛ لذا كان يعتبر المعرفة نتيجاً لنشاط الذهن، فيخلق الذهن أحكاماً ويلقيها على متعلّق المعرفة، ثم يتعرّف عليه، كما حدّد كانط مجال العقل وقابلياته ومدى استخدامه، مقلّصاً دائرة الاستنباطات العقلانية، واعتقد بأننا لا نستطيع معرفة حقيقة الأشياء ــ سواء كانت خارجية أو ذهنية ــ بل يمكننا التوصّل إلى ظواهرها فحسب، ولا سبيل للعقل في التوصل إلى خلفيات الظواهر الخارجية والباطنية، فتتحدّد دائرة المعرفة العقلانية في إطار التجربة الحسية.

bنحن نتعرّف على الظواهر فحسب، ولا يمكننا معرفة حقيقة الأمور الكامنة خلف تلك الظواهر، سواء كانت هذه الأمور في الخارج أو في باطننا، كنفسانياتنا. المعرفة هي مجموعة قضايا حول الأمور المتعيّنة في زمان ومكان محددين، وخاضعة لقوانين عملية الفهم، المعرفة تعني إطلاق المفاهيم على المعطيات الحسية… ويستخدم الإنسان قابلياته للمعرفة في إطار الأمور التي يمكن فيها الشهود أو الإدراك الحسيv([4]).

نلاحظ هنا أن كانط استبدل الموضوع بالذهن، وآمن بأن عالم المواضيع هو الذي ينطبق على فهمنا، وليس فهمنا الذي يستوعب المواضيع كما هي، ولهذا السبب اعتبر القضايا الفَوق طبيعية غير قابلة للفهم، لأنها تفتقد المغزى التجريبي، فيكون العالم قابلاً للفهم من خلال تطبيق الأحكام القبلية على التجارب، بينما أمور كذات الباري تعالى وإرادة الإنسان غير قابلة للفهم لأنها لا تخضع لهذا القانون.

الحقيقة هي أن فلسفة كانط ترسم حدود المعرفة البشرية، لكن لا يتقبل فلاسفة كهيغل([5]) طريقته في تحديد العقل وقابلياته، فلا يرضى هيغل بفارقين ذكرهما كانط: أولهما تمايز الظاهر عن حقيقة الشيء، والآخر الحدود التي يرسمها الذهن، ويميز بواسطتها العقلاني عن غيره. ويعتقد هيغل أن هذه الحدود تستخدم في عالم الظاهر فقط (أشياء تبدو لنا وتصنف في إطار العقلانية واللاعقلانية)، ولا وجود لها في عالم الذهن، كما يتضمن ترسيم الحدود بين الحقيقة القابلة للمعرفة وغير القابلة لها تناقضاً واضحاً؛ فهذا التقسيم بنفسه شاهد على وجود معرفة ما خارج هذه الحدود بواسطة العقل، وإلا ما أمكن الحديث عنها، ولهذا السبب يعتقد هيغل أن ليس بإمكاننا نقد العقل في حدّ ذاته، بعيداً عن الشوائب اللاعقلانية، بواسطة أطروحة كانط.

يصل الدور بعد هؤلاء لأعداء العقل، ماركس([6]) وفرويد([7]) ونيتشه([8])؛ إذ يركّز الثلاثة على الجانب المغري المزيّف للعقل، ويظهرونه صورةً لسرقة الباطن، وعلى الرغم من اعتقاد كانط أن العقل هو مصدر الحقائق، إلا أن هؤلاء الثلاثة يؤكّدون على الأثر الشديد للعالم الخارجي على العقل، كلّ بطريقته؛ حيث لا يكون العقل سوى انعكاس لصورة موهومة مقلوبة وغير واضحة من الواقع الخارجي.

وقد تحدث ماركس عن غرور العقل وتكبّره ومعطياته الكاذبة، وسمّاها: أيديولوجيا؛ فكان يعتقد بأن الأيديولوجية تمثل معرفةً للواقع بشكل مقلوب، وكان يرى أن bالواقع لا يتألّف من صفّ الحقائق الأصيلة أو ترتيبها، بل يصاحبها دوماً bتوصيف لهاv … معرفة العالم أو الإدراك الموصوف (أو الأيديولوجيا كما يسمّيها)، هي جزء من الواقع تساعد بدورها على تكامله … والمعرفة الكاذبة جزء من الواقع، وليس من الواجب معرفة هذا الواقع فقط، بل يجب تغييره أيضاًv([9])، وهكذا اعتقد أن الاقتصاد والإنتاج، بما فيه أدوات الإنتاج ونظام العمل، يشكلان البنى التحتية للمجتمع، أما العلم والمعرفة والأيديولوجيا فتشكل البنى الفوقية، وهذا التصور يجعل العقل تابعاً ــ بوضوح ــ للعوامل الخارجية، ويعتبر فكر الناس متأثراً بمهنهم، وبهذه الطريقة يشكل ماركس على ادعاء كانط استقلالية العقل وانفراده في تلقي الأمور أو خلق الواقع.

من جهة أخرى، يقسّم فرويد الذهن إلى الشعور واللاشعور، ويعتبر الشعور قائماً على الإدراك المباشر والقطعي، فيما يكمن اللاشعور بكلّ تعقيداته خلفه، فالتصورات التي لم تتمكّن من أن تكون شعوريةً في العالم الخارجي بسبب تعارضها مع قدرةٍ ما، تدفن بشكل لاشعوري؛ فالضمير اللاشعوري محلّ التصورات المقموعة وغير المقموعة، وجزء من bالأناv أيضاً غير شعوري([10]).تصور الإنسان عن نفسه أيضاً يبدو ضبابياً بل حتى غير حقيقي، وهذا التصور من الذهن يدع العقل المحض جانباً، ويدمج عمل العقل بسائر الغرائز الباطنية والدوافع النفسية.

كان نيتشه أعمق من ماركس وفرويد، فلم ير خلف الحقيقة والواقع سوى إرادة القوّة عند الإنسان؛ فهو يتصور أن ليس لقيم الإنسان ومعارفه أهداف وغايات محددة، وإنما تنبع من قمع غرائزه، فالأحكام والنتائج التي يتوصل إليها الإنسان حول العالم، وإسقاط مفاهيم مثل (العلة والمعلول، الكمية والكيفية و…) عليها، عمل مسكين عاجز خلق هذه المفاهيم للتسلّط على الطبيعة المحيطة به؛ لذا تغدو الحقيقة خادمة للإنسان لا مخدومة من قبله، أي تابعة لقدرته وإرادته. ومن هنا تنبع العدمية([11])؛ حيث لا وجود خلف الوجودات المحيطة بنا والتي أشبه ما تكون بالظلّ إلا العدم، إن هذا التصوّر لا يبقي حتى على وجودٍ ضبابي للعقل واليقين والقيم والحقيقة والواقع ــ بالمعنى السائد في تراثنا ــ ويعتبرها جميعاً تابعة لإرادة القوة عند الإنسان.

وبناءً على تصورات نيتشه bأصبح العقل من نصيب هذه الموجودات المسكينة الضعيفة الزائلة، كي يكون أداةً للحفاظ عليها، ويؤجل خروجها مهما استطاع من عالم الوجود … يفعّل العقل ــ بوصفه أداة لحفظ بقاء الإنسان ــ قابلياته بالنفاق والرياء الذي يعدّ السلاح الأهم للضعفاء والمساكين في الصراع من أجل البقاء … وفي الوقت نفسه، يميل الإنسان بسبب حاجته للأنس وضروريات الحياة الأخرى، للعيش بين مجاميع الناس وداخل المجتمع، مما يحيجه للسلم والسكينة … ويسبّب عقد الصلح هذا ظروفاً تشكّل الخطوة الأولى في الانحياز المرموز نحو الحقيقة، أي يبتدع للأشياء والظواهر تعاريف وتسميات واجبة الاتباع ومقبولة عند الجميع، ويشكل هذا التقنين اللساني النواة الأولى لقوانين الحقيقة، فمن هذه النقطة يبدأ التقابل بين الحقيقة والكذبv ([12]).

ميشيل فوكو وثنائي العقل والجنون ــــــــــ

وبما أن الحداثة مبنية على الإيمان بالعقل وقدرته على تحصيل الحقيقة، لا تكون أول معطيات ما بعد الحداثة إلا الهجوم على العقل ونقده. ومن يكون رائداً أفضل من نيتشه للهجوم على العقل؟ لهذا السبب التصقت أفكاره بقوة بالاتجاهات الما بعد حداثوية، فقد اعتقد ميشيل فوكو([13])، متأثراً بنيتشه، أن أي قضية سياسية هي قضية الحقيقة، والحقائق ليست إلا انعكاساً لصراع القوى الاجتماعية، وهكذا تمتزج السلطة مع الحقيقة عند فوكو، ومن هذا المنطلق ينظر فوكو لقضية الجنون، إذ كان يسعى لفهم كيفية عزل المجانين عن المجتمع، حيث يحافظ عليهم ويعالجون في مؤسسات خاصة: ما هي المعايير التي تميّز المجانين عن غيرهم؟ وبأي طريقة يقبضون عليهم و يعالجونهم أو يؤذونهم؟

رأى فوكو حلّ هذه الألغاز في فهم النظام المعرفي الحديث الحاكم في العالم اليوم، ففي الحقيقة تنامي المناهج والمعارف العقلانية الحديثة هو الذي يستدعي عزل المجانين عن المجتمع، وباعتقاد فوكو، توصّل العقل في العالم الحديث إلى خطاب أحادي (Monlgic)، كي يقطع ارتباطه بالجنون من الأساس ويستريح من مخاطره؛ لأن الجنون يعتبر ــ دائماً ــ إما خطاباً فارغاً وبلا معنى، وإما غير طبيعي ومرموز لا تستوعبه الخطابات العادية، و في كلتا الحالتين، لايستطيع الصمود، فتاريخ العلوم ــ حسب اعتقاد فوكو ــ تاريخ العقلانية التي طالما سعت لهدم البناء الأصيل المختبئ خلف الوجوه المختلفة للجنون.

يعتقد فوكو بأن هذا الصمت يجب أن يكسر ويبدأ الجنون بالتحدّث، ويرى أن المصحّات اليوم بنيت على أساس إيبستمولوجي محكم، يسعى بشكل علني للتفكيك بين ما هو عقلاني وما هو غير عقلاني. العقل الذي استطاع اليوم الادعاء بقوة امتلاك الحقيقة، وهو يرى أن سائر إنتاجات ذهن البشر تشكل تهديداً لعقلانية عالم الوجود والإنسان، ويجيز لنفسه قمعها وعزلها، إذاً المهم عند فوكو، التحقق من الارتباط القوي بين الأشكال المتعددة من المعرفة بالجنون وكشف حقيقته من ناحية، وطرق قمعه وطرده من ناحية أخرى، وقد أوجد خطابات متعددة بهذه الطريقة؛ فقد نجح العصر الحديث بقدرة فائقة في منع الحوار بين الجنون والعقل، واستطاع إفناء الجنون الذي كان يهدّد ارتباط الإنسان بالحقيقة، وأخرجه من حيّز الذات المفكرة، وفي الحقيقة فإن افتراض فوكو الأساسي يكمن في أن ظهور خطاب في أيّ مجتمع يكون متزامناً مع ظهور ناظر ومشرف ومنقح، يؤدي دوره عبر ثلاث قنوات هي: الزجر والمنع في المجالات المختلفة، وخاصة الجنس والسياسة، وترويج فكرة الفصل بين العقل والجنون، وتعارض الحقيقة والخطأ.

طرح فوكو ــ تبعاً لنيتشه ــ السؤال عن الحقيقة، ولا يقصد به ماهية الحقيقة، بل حجيتها، من أين أتت؟ ولماذا كل هذا الإقبال عليها والانشداد إليها؟ ولمَ لا يكون كلّ ذلك للكذب؟ ولم لا تقدّم الأساطير والأخيلة والأوهام والرؤيا عليها؟

يعتقد فوكو أن إرادة الحقيقة التي تجذّرت في المجتمعات الحديثة، سبّبت الحجر على الجنون والفصل بينه وبين العقل، وبعد بحث وتحقيق طويل، توصّل إلى أن إرادة الحقيقة ليست إلا الوجه الظاهر لإرادة القوة، وتستخدم إرادة القوة اليوم المؤسسات العلمية والتربوية لفرض نفسها؛ فالحقيقة ليست بعيدةً عن السلطة، فهي تولد نتيجة بعض الفروض والضغوط، ولهذا تكون متلاصقةً بالسلطة، ولكل مجتمع نظامه الخاص الذي يرتبط بحقيقته وينظّم خطوطه العامة وفقاً لها، ولكل مجتمع أيضاً آلياته وطرقه الخاصة للتمييز بين الصحيح والخطأ، للوصول إلى الحقيقة، وبهذه الآليات يتبيّن موقع حراس الحقيقة وصائنيها، إذاً كيف يمكن تخليص الحقيقة من السلطة، بينما السلطة هي جوهر الحقيقة؟ فلا سبيل لنا إلا إبعاد سلطة الحقيقة عن النظام الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمع.

تفكيكية جاك دريدا وأزمة الفكر الغربي ــــــــــ

النزعة التفكيكية (Deconstruction) ([14]) أحد الاتجاهات المهمّة في مابعد الحداثة، ويفكك جاك دريدا([15]) ــ الذي يعدّ مؤسساً لهذه النظرية ــ بُنى النصوص لهدم شبكة التعارضات والتراتبات بين المفاهيم، منتقداً بذلك التراث الفكري للغرب من أفلاطون إلى عصره، التصور المهم في النزعة التفكيكية (Deconstruction)، هو عدم وضوح المعنى في النص، فهروب المعنى من النصّ، يجرّ القارئ والكاتب إلى تجاذب لا نهاية له في التعامل مع النص، ولا أحد منهم يتوصل إلى المعنى النهائي والحقيقي، ففي هذه اللعبة اللسانية تظهر معان كثيرة وتختفي أخرى، ويصل هذا التصور إلى النسبية لا محالة، علماً أننا لا نقصد بالنسبية، العلم بإمكان معرفة الأشياء، بل نريد بها عدم العلم بإمكان معرفة الأشياء، بحيث تشمل هذا الاعتقاد أيضاً، وهكذا يرى العقل نفسه، باعتباره العالم والناطق الوحيد في العالم الحديث، مهدّداً في اقتداره وسلطته، ويصبح معادلاً لغير العقلانيات.

يعتقد دريدا أن التراث الفكري للغرب يفكّر دائماً في إطار تراتبية عنيفة، وقد استنتج من مطالعة كتابات أفلاطون وروسو([16]) وهوسرل([17]) وأمثالهم، أن التراتبات أمور افتراضية كانت في حدود معرفتهم، وتبيّن القائمة الطويلة التي يقدمها من هذه التراتبات مدى شمولها: الغياب/ الحضور، الدال/ المدلول، الحسن/ السيئ، الطبيعة/ الثقافة، الرجل/ المرأة، الجوهر/ العرض، الباطن/ الظاهر، الحقيقة/ الكذب، الصحيح/ الخطأ، الوجود/ العدم، التماثل/ التمايز، الجسم/ الروح، العقل/ الجنون، الذهن/ المادة، الكلام/ الكتابة…

ففي الحقيقة لا تملك أيّ من هذه الثنائيات الوجود بنفسها، وعلى حد تعبير فلسفتنا التقليدية، ليست من المتضادات بل من المتناقضات، أي يدلّ كل واحد منها على رفع الآخر (الرجل يعني عدم المرأة، الطبيعة تعني عدم الثقافة، الكلام يعني عدم الكتابة، الحياة تعني عدم الموت، التماثل يعني عدم التمايز..)، وكان يعتقد دريدا بأن هذا التراتب يقع في مجال التقييم، ويستسلم للمنطق المزدوج (ذوقيمتين) (Logic tow valw): (الكلام أفضل من الكتابة، الحضور أفضل من الغياب، الطبيعة أفضل من الثقافة، الرجل أفضل من المرأة…). ولا يريد دريدا أن يسلب المركزية من إحدى شقي التراتبية ويعطيها للأخرى، فهذا أيضاً سقوط في حبائلها والقبول بمركزية أحد الشقين، بل يجب هدم التراتبية العنيفة، كما يرى أن أهم وظائف Deconstructionaliot ، هدم هذا التراتب لتجنيب الذهن المفكّر حبائلها وتفادي معايبها.

على أي حال، قضي على قيمة العقل باعتباره الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة (كما فعل بمفهوم الحقيقة نفسها)، ودفنت بقايا التراث الفكري في مقبرة ما بعد الحداثة، كان المنتقدون الحداثيون للعقل ينزلوه إلى مستوى اللسان والغريزة والتاريخ، لكن منتقدو ما بعد الحداثة أنكروا هذا المستوى أيضاً، ونفوا البناء الخارجي والمعنى الباطني له، وكان فلاسفة الحداثة يضعون العقل في حيّز الثقافة المكتوبة ويجعلون الأساطير قباله ويعتبرونها خاصة بدائرة الثقافة الشفوية المغلقة، ويستبشرون بعملهم هذا، لكن فلاسفة ما بعد الحداثة ألغوا الأساس القيمي لهذه المتقابلات، واعتبروا جميعها في كفّة واحدة من حيث اشتمالها على المعنى، بعبارة أخرى: ما بعد الحداثة إعلان عن انتهاء قابليات العقل (الحداثوي) وقدراته الكامنة، إذ يريد العقل جعل جميع التراكيب المعرفية وغير المعرفية إلى جانب بعضها، ويقوم بتقييمها، أي أنه يبحث عن عالم فيه وحدة باطنية وظاهرية؛ لكن ظهور ما بعد الحداثة بدّد هذا الحلم وأثبت استحالته، وبسبب تعدد مصادر التقييم واتساعها في الأقوام والمجتمعات المختلفة، أقرّت ما بعد الحداثة بالتعددية واعتبرت فكرة القرية العالمية حلماً لا ينال.

الدين والعقل ــــــــــ

ما الذي نستنتجه من هذه الإشارات المختصرة؟ أولاً، لا نستطيع الاستسلام للأحكام والقضايا والقيم التي يصنعها الإنسان بناءً على افتراض بسيط منه، بل يحتاج العقل إلى ركائز رصينة لحضوره في مصير الإنسان الواقعي والباطني، وكما نعلم، إن سعي الفلاسفة لإعطاء العقل استقلاله وجعله قائماً بذاته، كان عقيماً وكشف بوضوح عجز العقل عن تحمّل هذا الحمل الثقيل، إذاً فلأجل أن تكون عواقب الاعتماد على العقل حميدة، يجب أن يتمتع بركائز قوية تقوّمه، لأن خصلة الانهيار لدى العقل أقوى من خصلة الاستقلال، لكن أين هي هذه الركائز؟ هل باستطاعة الدين أن يكون أساساً للإيمان بالعقل؟

نعم! على بعض التقادير يستطيع ذلك، إذا ما قيدنا الاستسلام للدين بالإيمان بالعقل، يمكننا بسهولة جعل الاستسلام للعقل رهينة الدين. أي أننا نشرعن أنفسنا بدلاً من عقلنة الدين، فليس في هذا الكلام أي بدعة أو ابتداع. وإذا لم تغط هذه التجربة كل تاريخ المعرفة الدينية، فإنها تغطي ــ على الأقل ــ قسماً واسعاً منه.

لم يقبل الأشاعرة بالحسن والقبح العقليين، بل أرادوا يد الله مبسوطةً في التشريع أكثر، ففرّطوا بالفكر لصالح الشرع، كما لم يسأل المعتزلة والشيعة عن أفعال الله >لا يُسأل عمّا يفعل< الأنبياء: 23، في عالم الواقع، على الرغم من أنهم يعتبرون الله مقيداً بالقوانين العقلية النظرية والعملية في مجال التنظير، فيعتبر الجميع الطبيعة والشريعة معلّلة بأمور فوق إدراك البشر.

وهكذا، ينفصل العقل عن قرينته bالحريةv، ويتحرّك ويفعل فقط في الدائرة التي يسمح بها الدين له، ويخضع التعقل كسائر تصرفات البشر للولاية المطلقة للذات الألوهية، يشاهد هذا البيان من العقل، بصورة جميلة في تراثنا العرفاني. حيث يعدّ العرفان التعقل أمراً شيطانياً، سبّب حرمان الإنسان من جنة رحمة الله، وفي المقابل، ينتهي التسليم بحد ذاته والإسلام والإيمان ــ وهو ليس إلا الخلاص من وساوس العقل ــ إلى الفلاح والبصيرة ورضوان الرب.

من ناحية أخرى، لا ينتهي إسقاط اعتبار الدين على العقل وعقلنته، إلا إلى الطغيان على الدين وتعريضه للمساءلة اللامتناهية وحرق جذور الإيمان والانكفاء على العقل مكان الاتكال على الله، فالإيمان بالعقل لا يمكنه أن يكون إلا مرتبطاً بالأنسنة وبعيداً عن الإيمان بالله، وقياس الدين بالعقل يعني تقليل شأنه وتحويل الأمر المقدس إلى أمر بشري وتأصيل العقل.

مقولة انفصال الاعتقاد الديني عن العقل ــــــــــ

إذاً ما هي علاقة الدين بالعقل؟ يجرنا هذا السؤال لا محالة إلى سؤال آخر: ما هو طريق قبول الدين؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب علينا التنازل مؤقتاً عن الإيمان بالعقل، وعدّه مكافئاً لسائر مصادر التقييم، كما يجب البحث عن الإجابة في التاريخ والتجربة، لا فوقهما، وعلينا أن نعرف: كيف يؤمن المؤمنون بالدين؟ وما هي الأمور التي تؤثر على إيمانهم؟ وهل دور العقل في قبول الإيمان أكثر أم في رفضه؟

تثبت التجربة التاريخية أن العقل أقلّ شيء يحتاجه الفرد للإيمان، وهو أكثر شيء يحتاجه للنزوع عن الإيمان، فكيف آمن الأنبياء بصفتهم أول المؤمنين بأديانهم؟ وكم استعانوا بعقولهم؟

يواجه الأنبياء bالوحيv بوصفه تجربةً باطنية تخلق لهم أشدّ الإيمان، وأعتقد بأن قبول الدين بالنسبة للأنبياء وغيرهم يتمّ بصورة واحدة، وإن لم يكن بمقدور الآخرين تلقي الوحي، لكن باستطاعتهم جعل الدين تجربة باطنية لهم، تكون بمثابة الوحي للأنبياء، تلك التجربة التي ترفعهم من غياهب الأرض إلى أنوار لقاء الله، فكل شخص ينتظر الوحي لقبول الدين، ولا يعادل العقل قشة حقيرة في هذه التجربة.

لكن هل يمكننا اليوم إنكار قبول الجميع عقلنة الدين، وتحوله إلى خطاب وأمنية للمستنيرين الدينيين؟ الحقيقة أن هذا النسق جاء نتيجة ردة فعل على الحداثة، ولهذا يمكننا التوصل إلى هذا الأمر من خلال الشواهد التاريخية التي تكشف عن القهر والطرد والانزواء الذي كانت تعاني منه الاتجاهات والأشخاص، الذين يؤكدون على هذا المنهج، وما كانت مطالبتهم بالعقل وحديثهم عنه إلا لحضوره تحت مظلّة من الحرية، فكان المعتزلة والشيعة، بصفتهم أول المدافعين عن التعقل، معرضين بشكل دائم لغضب الحاكم وسخطه أو جماعته اللاعقلانيين في السلطة المبتنية على الأسس الفكرية الأشعرية، ولم يدم المعتزلة طويلاً، فقد قدموا دماءهم فداءً للعقل، وضاعوا في غياهب التاريخ.

لكن الشيعة الذين ساروا كالنهر العميق منذ الصدر الأول، اعتلوا السلطة بعد عشرة قرون من الهجرة، وليس عجيباً أن تعطلت ثورات العقلنة (الفلسفة والكلام) بعد اعتلاء الشيعة السلطة وانحسار العدو، ووجد الخطاب الشيعي أو تصوّر نفسه بلا منازع، وحصل على مجال واسع للبروز.

والآن بعد قرن كامل لم يلتئم الشرخ الذي سببته الحداثة بين معتقداتنا ومنهجنا التقليدي، بل يزداد اتساعاً كل يوم، ويسعى المفكرون الدينيون للوصول إلى علاج لهذه المشكلة. فيتصور بعض منهم أن العدو الجديد يفتقر لمدعيات جديدة، ويكرر نفس مدعيات الأشاعرة والمنكرين والملحدين في القرون الثانية والثالثة، لكن في ثوب جديد يتناسب مع العصر؛ لذا يسعون لجمع نتاج الماضي ويصيغونه في حلّة جديدة ويقدمونه للعدو المغرور، لكن للأسف، لا مدعيات هذا العدو نفس المدعيات القديمة، ولا الحلّة التي يقدمونها تغني أحداً؛ فلا إيمان لهذا العدو لا بالحقيقة ولا بالعقل؛ بل إنما يريد مزاوجة الحقيقة بالقدرة، ومساواة العقل بالجنون، فماذا يقدّم المفكرون المتدينون لأناس بهذه التصورات؟

*    *     *

الهوامش



(*) باحث، مقيم في أوروبا؛ ساهم في ترجمة بعض أعمال الدكتور محمد أركون إلى اللغة الفارسية.



2 ــــ آ. أفلاطون: 1312، ترجمه للفارسية: محمد حسن لطفي، ط1، طهران: شركت سهامي انتشارات خوارزمي، 1357 هـ.ش. (1978).

3 ــــ Rene Descarte (1596-1650). رينيه ديكارت، فيلسوف ولد في لاهاي

4 ــــ Emmanuel Kant (1724-1804). عمانوئيل كانط، فيلسوف ألماني من أسرة أسكتلندية

5 ــــ كورنر. اشتفان، فلسفه كانت: 57، ترجمه للفارسية: عزت الله فولادوند، ط1، طهران: شركت سهامي انتشارات خوارزمي، 12 / 1367 هـ.ش. (1989).

6 ــــ Georg Wilhelm Friedrich Hegel (1770-1831).جورج فلهلم فريدريش (فريدريك) هيغل، فيلسوف ألماني

7 ــــ Karl Marx (1818-1883). كارل ماركس، فيلسوف اجتماعي ألماني

8 ــــ Sigmund Freud (1856-1939). سيغموند فرويد، طبيب نفساني نمساوي

9 ــــ Friedrich Wilhelm Nietzsche (1844-1900). فريدريش (فريدريك) فلهلم نيتشه، فيلسوف ألماني

10 ــــ أحمدي. بابك، مدرنيته وانديشه انتقادى (الحداثة والفكر النقدي): 156، ط1، طهران: نشر مركز، 1373هـ.ش. (1994).

11 ــــ فرويد. سيغموند، خود ونهاد (النفس والباطن): 329، ترجمه للفارسية: حسن باينده، مجلة أرغنون، العدد3.

12 ــــ Nihilism. النهلستية

13 ــــ نيتشه. فردريك، درباره حقيقت ودروغ به مفهومى غير اخلاقى (حول الحقيقة والكذب بمعنى غير أخلاقي): 122 وما يعدها، ترجمه للفارسية: مراد فرهاد بور، مجلة أرغنون، العدد الثالث.

14 ــــ Michel Foucault (1926-1984). ميشيل فوكو، فيلسوف فرنسي

15 ــــ جاك دريدا نفسه كان يعتقد بأن هذا المصطلح غير قابل للترجمة.

16 ــــ Jacqes Derrida (1930-…). جاك دريدا، فيلسوف من أصل فرنسي، مولود في الجزائر

17 ــــ Jean Jacques Rousseau (1712-1778). جان جاك روسو، عالم سياسي فرنسي

18 ــــ Edmund Husserl (1859-1938). ادموند هوسرل، فيلسوف ألماني، أسس مذهب الظواهرية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً