أحدث المقالات

دراسة ميدانية في الآثار الإيجابية على الصحّة النفسية

بهروز دولت شاهي(*)

هاجر بهلواني(**)

ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي

تمهيد ــــــ

إنّ هذا التحقيق عبارة عن دراسة مرحلية وشبه مخبرية، تهدف إلى بيان تأثير الزيارة الدينية على الصحّة النفسية وسلامتها. ولذلك فقد تمّ اختيار 70 شخصاً، وتقسيمهم إلى مجموعتين متساويتين: الأولى: سياحية (n=35)؛ والثانية: عبادية (n=35)، مع الأخذ بنظر الاعتبار جميع المتغيرات الجنسية والسنية والعلمية. وقد خضعت كلتا المجموعتين لاختبار السلامة العام (GHQ) قبل السفر وبعده، وأجابتا عن قائمة من 28 سؤالاً. ثمّ جمعت النتائج السبعين، وتم تحليلها ضمن الإحصاء المخبري t. فأظهرت النتائج اختلافاً بين كلتا المجموعتين من ناحية السلامة النفسية، سواء في أثناء السفر أو عند العودة من الزيارة الدينية، حيث كانت مجموعة الزيارة الدينية تتمتع بسلامة نفسية عالية بالقياس إلى المجموعة السياحية. كما أظهرت النتائج أن الزيارة الدينية ــ قياساً بالسياحة ــ قد أدت إلى انخفاض في العلائم المرضية، ورقياً في السلامة النفسية لدى حجاج بيت الله الحرام، وقد شمل هذا الاختبار، بالإضافة إلى الأعراض الجسدية، سائر الأبعاد الأخرى من الكآبة والاضطراب والتناغم الاجتماعي، والملفت أن اختبار المجموعة الدينية في كلتا المرحلتين، أي في أثناء السفر وبعد العودة منه، وإن أظهر انخفاضاً في علامات الاضطراب والكآبة، وارتفاعاً في مستوى التناغم الاجتماعي، إلا أنه لم يُظهر تغيّراً في المؤشرات الجسدية. أما السفر السياحي فلم يترك أي تغيير في سلامة الأفراد.

الدين والآثار النفسية ــــــ

إن الدين والتدين حقيقة عريقة ترقى في قدمها إلى قدم الإنسان نفسه، وأصبحت جزءاً من حياته، وإن الدين والمذهب يُشكل ركناً أساسياً من ثقافة الشعوب والمجتمعات، ويمنحها هويتها وانسجام أفرادها وارتباطهم ببعضهم. إن الشعائر الدينية من الأسباب المؤثرة في علاج الاختلالات النفسية والوقاية منها، وكذلك يمكن توظيفها للارتقاء بسلامة الأفراد على نحو مؤثر وبشكلٍ ملحوظ([1]).

إن الدين عبارة عن مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تفرض على الأفراد سلوكيات خاصة([2]).

ويذهب الكثير من الباحثين في العلوم السلوكية والمعالجين النفسيين إلى أن لهذه المعتقدات والسلوكيات الدور الكبير في الوقاية من الأمراض الجسدية والنفسية وعلاجها أيضاً([3])، بحيث يذهب البعض إلى أن غياب هذه المعتقدات الدينية يؤدي إلى الأمراض النفسية، ونصح باللجوء إلى التعاليم الدينية لعلاج الاختلالات والاضطرابات النفسية. وقد أثبتت الكثير من الدراسات في هذا المجال الصلة الوثيقة بين هذه المعتقدات والرؤى والسلوكيات الدينية وبين ارتفاع مستوى السلامة النفسية، وحتى الجسدية([4]).

وقد توصل كوهين (Cohen) ومساعدوه (1995) في دراسته إلى وجود علاقة بين الكآبة والانحراف عن الدين، حيث أثبتت هذه الدارسات أن المتدينين قلما تظهر عليهم أعراض الكآبة، مثل: فقدان الرغبة والدافع، وإيثار العزلة، والشعور بالحزن والاضطراب والإحباط([5]).

وقد توصل ويلتز وكرايدر في اختبار على 1650 شخص أن هناك صلة بين الرؤية الدينية والسلامة النفسية([6]).

كما بحثت بعض الدراسات في الفلسفة بين الدين والطمأنينة، فوجدت أن المعتقدات والسلوكيات الدينية مرتبطة بالشعور الإيجابي([7]). وفي هذا السياق أظهر جانتر ومساعدوه (1996) في دراسةٍ وجود صلة بين التدين وممارسة الشعائر الدينية وبين الزواج وانخفاض نسبة الطلاق. كما أظهر ويتر ومساعدوه (1985) أن ما يتراوح بين 20 إلى 60% من متغيرات السلامة النفسية للبالغين يتضح من خلال المعتقدات الدينية([8]).

وفي دراسة أخرى أظهر ويلتز وكرايدر (1989)، في اختبار أجرياه على 1650 شخصاً معدل أعمارهم خمسين عاماً، أن هناك علقة إيجابية بين الاعتقاد الديني والسلامة النفسية، وشاهدا أن ذلك يؤدي أيضاً إلى نجاح الزواج لدى كل من الرجل والمرأة، كما أنه يؤدي إلى رضا الرجل بالوظيفة التي يشغلها، والعمل الذي يؤديه([9]).

وقد توصل جامبربايناند (Chamberbinand) ومساعدوه (1987) في دراستهم إلى وجود ارتباط بين التدين وفلسفة الحياة والسلامة النفسية([10]).

كما أظهرت الدراسات الأخرى تأثير الممارسات في تخفيف الاضطراب وتحمل الضغوط النفسية بعد الامتثال للشفاء. فمثلاً: أظهرت نتائج دراستين أن المتمسكين بالتقاليد الدينية أقل ابتلاءً بالاضطرابات مقارنة بغيرهم([11]).

إن المعتقدات والشعائر الدينية تؤدي إلى الاطمئنان وتخفيف الاضطراب من خلال هدفية الحياة، وتوسيع العلاقات الاجتماعية، وتوفير الأجواء للتعبير عن المشاعر الكامنة، ورغبة الفرد في الحياة، وما إلى ذلك([12]).

وقد اعتبرت الزيارة من جملة المناسك الدينية والتجارب الفردية في الارتباط مع الله، وهي تحظى في الدين الإسلامي بمكانة مرموقة، يؤمن فيها الزائر بأن الله سيكون معه في قضاء حوائجه؛ فيشعر بطمأنينة نفسية، ويفرغ ما يختزنه في نفسه من مشاعر كامنة أثناء الزيارة، الأمر الذي يرفع من رصيد الفرد في ثقته بنفسه وسلامته النفسية.

أدرك (كراول وسوحيشان (Krol and Sohechan)، (1989)، وبارجامنت وماتون (Pargament and Maton) أن ممارسة الشعائر الدينية، كالزيارة والعبادة، تخفف من حدّة الغضب والاضطراب. وقد توصل نيس ووينتراب، (1995)، من خلال اختبار أجرياه على 400 شخص، إلى أن المشاركة في المراسم الدينية، مثل: الزيارة والعبادة، تقلل من الاختلالات النفسية([13]).

درس موريس (1983) في تحقيق أَثَر الزيارة الدينية على الكآبة والاضطراب على 124 مريضاً جسدياً، وتوصل إلى انخفاض أعراض المرض بعد ذهابهم إلى الزيارة، وقد استمر هذا الانخفاض إلى عشرة أشهر في الأقل بعد العودة من تلك الزيارة.

رغم الدراسات الكثيرة حول تأثير الدين على الصحة إيجابياً، ولكن قلما أُجري تحقيق علمي في خصوص أَثَر الزيارة ـ كسلوك ديني ـ على السلامة النفسية خاصة في داخل البلاد. وعليه بالالتفات إلى التأكيد المتزايد للمذاهب الإسلامية على دور الزيارة في تزكية وتهذيب النفس، وعدم توفر الدراسات العلمية في هذا المجال، فإن الدراسة الراهنة تعدّ خطوة في معرفة دور الزيارة وأثرها على السلامة النفسية لدى الأفراد.

فرضيات البحث ــــــ

الفرضية الأولى: هناك اختلافات في السلامة بين مجموعتين: إحداهما: سياحية؛ والأخرى: دينية.

الفرضية الثانية: إن الزيارة ترفع من السلامة النفسية لدى الأفراد.

الفرضية الثالثة: إن السفر السياحي مؤثِّر في سلامة الأفراد نفسياً.

أسلوب البحث ــــــ

تم اختيار نموذج التحقيق من بين أفراد توجهوا للمرة الأولى إلى حجّ بيت الله سنة 1979، وذكروا أن غايتهم من السفر إلى مكة زيارة بيت الله (المجموعة الدينية)؛ ومجموعة أخرى قد توجهت إلى تركيا ودبي، وذكرت أن الغاية من سفرها سياحية وترفيهية بحتة (المجموعة السياحية).

وقد وقع الاختيار على 90 شخصاً من هاتين المجموعتين، مع الأخذ بنظر الاعتبار جميع المتغيرات من ناحية الأعمار والجنس والدين والمستوى العلمي. وقد تمت هذه الدراسة بالتنسيق والتعاون مع المسؤولين عن إدارة القوافل السياحية والدينية، بعد إعداد هؤلاء المسؤولين وإحاطتهم علماً بكيفية جمع المعلومات، ثم تم جمع هذه المعلومات على مرحلتين:

في المرحلة الأولى تم جمع المعلومات من كلا المجموعتين قبل السفر من خلال قائمة بالأسئلة حول السلامة النفسية (GHQ)، وقد احتوت على 28 سؤالاً.

وفي المرحلة الثانية تم جمع المعلومات من خلال إعادة نفس الاختبار السابق، ولكن بعد السفر.

ويجدر التذكير بأننا قد حذفنا عشرين شخصاً من الاختبار المتقدّم؛ وذلك لنقص في إجابتهم، وبقي ما مجموعه سبعون شخصاً من كلتا المجموعتين، وقد ضمّت كل منهما 35 شخصاً، تم إخضاعهم لهذا الاختبار.

نتائج البحث ــــــ

كما تقدم فإن المعلومات قد استخلصت من بين سبعين شخصاً، وإليك بيان خصائصهم في الجدول رقم 1.

 

Untitled-1

 

لإثبات الفرضية الأولى للتحقيق، القائمة على اختلاف الوضع النفسي لكلتا المجموعتين السياحية والدينية، تمّت المقارنة بين علامات اختبار السلامة النفسية للمجموعتين قبل السفر، وقد أدرجت النتيجة في الجدول رقم 2. وقد أظهرت النتائج اختلاف المجموعتين من ناحية سلامتهما، وأن المجموعة الدينية كانت تتمتع قبل السفر بصحة نفسية عالية، مقارنة بالمجموعة السياحية.

 

Untitled-2

 

ويمكن تقرير النتيجة المتقدمة بالقول: إن اختلافات هاتين المجموعتين في السلامة النفسية قد يعود إلى المعتقدات الدينية، وإن بإمكان هذه المعتقدات أن تؤثر في تحسين الوضع النفسي. ولكي ندرك ما إذا بقي الاختلاف على حاله بين المجموعتين بعد عودتهما من السفر أجرينا مقارنة في درجات السلامة النفسية لكلتا المجموعتين أيضاً، وأثبتنا النتائج التي حصلنا عليها في الجدول رقم3.

 

Untitled-3

 

الفرضية الثانية: «إن الزيارة الدينية تؤدي إلى تحسين الوضع النفسي للأفراد». يلاحظ أن التفوّق الذي تتمتع به المجموعة الدينية لم يتم الحفاظ عليه فحسب، وإنما قد ارتفع أيضاً، رغم تحسن المجموعة السياحية بعد عودتها من السفر بالمقارنة إلى وضعها قبل السفر، أي إن علاماتها النفسية (مثل: الاضطراب، والكآبة، وغيرهما) قد انخفض نسبياً.

ولاختبار الفرضية المتقدمة تم في البدء جمع العلامات التي نالها كل شخص في اختبار السلامة النفسية في كلتا المرحلتين الأولى والثانية (قبل السفر وبعده)، ثم تمت المقارنة بين متوسط تفاضل العلامات لكلتا المجموعتين من خلال الاستفادة من اختبار (t) الافتراقي، وحصلنا على النتائج المدرجة في القائمة رقم 4.

 

Untitled-4

 

وكما نلاحظ في القائمة المتقدمة فإن ناتج (t) (38/2) أكبر من (t) بمقدار 5% (اختبار البعد الواحد)، وعليه تكون فرضيّتنا صحيحة، وهي أن الزيارة الدينية تؤدي إلى تحسين السلامة النفسية للأفراد، وهذه المسألة تؤيد النتائج التي توصل إليها موريس 1983، وسان ووينتراب، 1995، أي إن الزيارة الدينية تقلل من الاضطراب والكآبة، وترفع من السلامة النفسية، وتحسن من الأداء الاجتماعي للأفراد.

وبغية دراسة تأثير الزيارة الدينية على مختلف أبعاد السلامة النفسية والروحية بين أفراد المجموعتين في كلتا المرحلتين (قبل السفر وبعده)، من حيث الاضطراب والكآبة والانسجام الاجتماعي، والأعراض الجسدية، تم تنظيم أسئلة مخبرية للسلامة النفسية (GHQ) للمقارنة، وأثبتنا النتائج في الجداول رقم 5 و6 و7 و8.

 

Untitled-5

 

Untitled-6

 

Untitled-7

 

Untitled-8

 

كما يشاهد في الجدول رقم 5 ليس هناك فارق ملحوظ بين الزيارة الدينية والسياحية الترفيهية في مقياس الأعراض الجسدية والسلامة النفسية. وبعبارة أخرى: إن الزيارة الدينية لم تحدث تأثيراً في التقليل من العلامات الجسدية للأفراد، في حين أن المقاييس الثلاثة الأخرى لأسئلة السلامة النفسية، وهي: الاضطراب، والكآبة، والتناغم الاجتماعي، قد أظهرت فرقاً بين الأفراد قبل السفر وبعده، حيث ساعدت الزيارة الدينية على تحسين أعراض الكآبة والاضطراب والتناغم لدى الأفراد.

وبالالتفات إلى نتائج الجداول المذكورة أعلاه يبدو أن للزيارة الدينية تأثيراً أكبر في التقليل من الأعراض النفسية لدى الأفراد، مقارنة بالأعراض الجسدية.

الفرضية الأخيرة: إنّ السياحة الترفيهيّة تؤثر في سلامة الأفراد النفسية. وللإجابة عن هذه الفرضية تمّت المقارنة بين علامات المجموعة السياحية قبل السفر وبعده. وكما يُشاهد في الجدول رقم 8 فإن الفارق بين العلامات في كلتا المرحلتين لم يكن ملحوظاً، بمعنى أنه قد انخفض بمقدارٍ ضئيلٍ جدّاً.

 

Untitled-9

في حين أظهرت هذه المقارنة بالنسبة إلى المجموعة الدينية تفاوتاً ملحوظاً في متوسّط علامات الأفراد في ما يتعلق بسلامتهم النفسية بعد العودة من السفر، أي إن الزيارة الدينية قد أدّت إلى تحسّن ملحوظ في سلامة الأفراد نفسياً (الجدول رقم 10).وطبقاً لنتائج الجدول أعلاه يمكن القول: إنّ السياحة الترفيهية لم تؤدِّ إلى انخفاض ملحوظ في علامة السلامة النفسية لدى الأفراد.

 

Untitled-10

وطبقاً لنتائج التحقيق الراهن يمكن القول: إنّ أفراد المجموعة الدينية، قياساً بالمجموعة السياحية، كانت تتمتع قبل السفر بسلامة نفسية وروحيةٍ أعلى، وهكذا الأمر بعد العودة من السفر. وقد خرجت نتائج هذا التحقيق مؤيّدة للتحقيقات التي قام بها بارجامنت وماتون 1992؛ ونيس وينتراب 1995؛ وموريس 1983، حيث توصلوا جميعاً إلى أن المشاركة في المناسك والزيارات الدينية تؤدّي إلى انخفاض الاضطراب والغضب والاختلالات النفسية. وقد يكون مطابقاً لما توصّل إليه كوئينج ومساعدوه 1981، من أن الزيارة الدينية تؤثر إيجاباً على السلامة النفسية للأفراد بشكلٍ ملحوظ، خاصة وأنها قد خفضت الاضطراب والكآبة، ورفعت من التناغم الاجتماعي، حيث يشعر الزائر بالقرب من الله تعالى، وتفريغ ما يختزنه في نفسه من المشاعر، ويطمئن إلى عون الله وشموله برحمته، ويصبح أكثر تفاؤلاً وإيجابية، وينظر إلى الحياة بعين الرضا، الأمر الذي يؤدّي إلى تحسين الأخلاق والسلامة النفسية والروحية.

الهوامش

(*) باحثة في علم النفس والاجتماع.

(**) باحثة في علم النفس والاجتماع.

([1]) داويديان، 1376.

([2]) روبرت، 1992.

([3]) نيلمان وبرسود (Nealman and Persaud)، 1995.

([4]) والتس وكرايدر (Willits and Crider)، 1992، نقلاً عن (كوئينج (Koening) ومساعديه، 1992.

([5]) نقلاً ًعن أبي القاسمي، وحجاران، 1376.

([6]) نقلاً عن كوئينج ومساعديه، 1992.

([7]) لورين وواند، 1998.

([8]) نقلاً عن تيكس وفرايزر (Tix and Frazier)، 1998.

([9]) نقلاً عن كوئينج ومساعديه، 1992.

([10]) نقلاً عن روبرت، 1992.

([11]) ليدنثال (Lindenthal) ومساعدوه 1979؛ استارك (Stark)، 1971، نقلاً عن غبارى، 1374 هـ ش.

([12]) تيكس وفريز، 1998.

([13]) نقلاً عن لورين وواندر (Levin and Vander)، 1998.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً