أحدث المقالات
في حوار مع الشيخ حيدر حب الله(*)

أزمة النّسَخ وإمكان التأكّد من نسبة كتب الحديث إلى أصحابها

السؤال الأوّل: هناك من يدّعي أنّه لا يمكن التوصّل إلى نُسخة أصليّة ثابتة وموثقة لكتب متون أمّهات الحديث، على سبيل المثال: هناك في بلادنا من يدّعي أنّه لا يوجد شيء في الدنيا اسمه “صحيح البخاري” فهل يوجد بحسب معلوماتكم مثل هذا الادّعاء حول كتب الشيعة؟ وهل يوجد بحسب معلوماتكم نسخة أصليّة لكتاب أصول الكافي؟ وعلى فرض أنّني لم أستطع الحصول على نسخة أصلية لكتاب أصول الكافي فهل لديكم مشكلة في هذا الامر؟

 

الجواب: إنّ توثيق الكتاب لا يكفي فيه حتى مجرّد وجود نسخة أصليّة بيد المؤلّف أو بخطّ المؤلف؛ لأنّه من الممكن أيضاً في مثل هذه الحال أن تتمّ مناقشة أنّ هذه النسخة هل هي بالفعل بخطّ المؤلّف حتى لو كُتب عليها ذلك أو لا؟ ومن ثمّ فنحن بحاجة إلى مقاربة تاريخيّة للتأكّد من صحّة نسبة هذه النسخة التي ترجع لنفس القرن مثلاً إلى المؤلّف، وإلا فكيف أعرف أنّ هذه النسخة بخطّ المؤلّف؟ وهل يكفي في ذلك أن يُكتب اسمه عليها أو يذيّل بكلامه؟ ألا يُحتمل الوضع عليه في ذلك؟

هذا يعني أنّ هناك جهداً بحثيّاً يقف دائماً إلى جانب النسخة الواصلة إلينا، ولو كانت هذه النسخة مدوّناً عليها أنّها بخطّ المؤلّف أو أنّ عباراتها تفيد ذلك.. فمن يريد أن يناقش في صحّة انتساب نسخة الكتاب الواصلة إلينا إلى المؤلّف نفسه عليه مرّةً أخرى أن يبذل جهداً للتصحيح حتى لو وصلت نسخة من نفس عصر المؤلّف إليه.

ما الذي اُريد أن أقوله؟ إنّ قصدي هو أنّ الباحثين في مجال الحديث ونسخ الكتب الحديثيّة؛ هم كسائر الباحثين في مجال نسبة النسخ إلى أصحابها: إمّا أن يعتمدوا على الشهرة والتطابق بين أبناء مذهب معيّن على نسبة هذا الكتاب أو هذه النسخة لصاحبها من خلال شهرة الكتاب وتناقله جيلاً بعد جيل، غاية الأمر أننا مع الأسف الشديد قد افتقدنا النسخة الراجعة إلى القرون الأولى واشتهرت نسخة لاحقة، أو أن يعتمدوا طرقَ الإملاء والسماع من الشيوخ جيلاً بعد جيل ويكون هذا الإملاء والسماع موثقاً ومدوّناً على نسخة قديمة، أو أن يكون عن طريق جمع القرائن والشواهد بحيث ننظر في نقل المعاصرين للمؤلّف أو القريبي عهد منه، نقلهم عن كتابه هذا، فإذا تطابق هذا النقل بدرجة عالية مع نسخة الكتاب الواصلة إلينا والتي تكون نسبيّاً قريبة من زمنه كقرنين أو ثلاثة قرون كما هي الحال في كتاب الكافي للشيخ الكليني أو قرن مثلاً كما هي الحال في كتاب صحيح البخاري، ففي مثل هذه الحال فإنّ جمع القرائن والشواهد إذا لم نكن نجد جدلاً خلال القرون المتمادية حول صحّة نسبة الكتاب إلى صاحبه وعدمه.. إنّ مثل هذه المعطيات هي التي يقوم الشيعة وغير الشيعة بمراكمتها لإثبات نسخة الكتاب الواصلة إلينا إلى صاحبها، ومن ثمّ كلّما اقتربت النسخة، أي كانت قديمة وقريبة جداً من عصر المؤلف وتعاضدت هذه القرائن والشواهد، ازدادت القوّة الاحتمالية في نسبة الكتاب لصاحبه، وكلّما تأخّرت أشكل الأمر.

على سبيل المثال في الوسط الشيعي هناك العشرات من الكتب الحديثية الصغيرة التي لا نجد لها نسخاً ترقى إلى ما قبل القرن العاشر والحادي عشر الهجريّين أي في العصر الصفوي (الإخباري).. إنّ هذا النوع من الكتب يحتاج إثبات نسبة هذه النسخ إلى أصحابها إلى مشقّة عالية، بينما كلّما رجعنا إلى الأجيال القديمة بفاصل قرن أو قرنين أو ثلاثة وكانت المعطيات والشواهد والنقل من الكتب الأخرى عن هذا الكتاب متعاضدة مع هذه النسخة، فإنّ هذا يوجب الوثوق أكثر بصحّة نسبة النسخة الواصلة إلينا.

إنّ اليقين بمفهوم علم التاريخ ليس هو اليقين الرياضي أو الأرسطي البرهاني، فعلم التاريخ يقوم على الوثوق المبنيّ على مراكمة المعطيات تمهيداً للوصول إلى ترجيحات قويّة جداً، وهي العلم العقلائي الذي يبني البشر حياتهم عليه في يومياتهم ويتعاملون معه ويرتبون النتائج عليه مما يسمّى في علم أصول الفقه بالاطمئنان، ولسنا هنا أمام معادلات رياضيّة برهانية نهائيّة لا تقبل الشكّ بمختلف أشكاله، وإلا فأكاد أجزم أنّه لا يمكن إثبات أيّ كتاب لأيّ أحد في أيّ علمٍ من العلوم لو أردنا الذهاب والتفكير بطريقة برهانية فلسفية صارمة.

نعم، إذا كان هناك جدل أو علامة استفهام على بابٍ من الأبواب أو على جزءٍ من الأجزاء ربما يكون مقحماً أو ربما يكون اُضيف خطأ أو ما شابه ذلك، فإنّ علينا أن نتوقّف حتى يثبت بالدليل صحّة انتساب هذا المقدار إلى الكتاب/الأصل وصاحبه.

وعلى سبيل المثال كتاب روضة الكافي ـ وهو الجزء الأخير من كتاب الكافي المطبوع حالياً ـ هناك من طرح أنّ هذا الكتاب ليس للشيخ الكليني، وإنّما هو لابن إدريس الحلّي المتوفى عام ٥٩٨هـ.. فما دامت قد طرحت هذه الإشكالية فإنّ هذا يفرض علينا التوقّف في صحّة نسبة هذا الجزء إلى كافي الكليني، والاعتراف باحتمال أنّه قد اُضيف خطأ نتيجة التباس معيّن، وإن كنت شخصيّاً ـ نتيجة قراءاتي الخاصّة التي ذكرتُها في كتابي: (المدخل إلى موسوعة الحديث النبوي الشريف) ـ قد أثبتّ أنّ الروضة ليست لابن إدريس الحلي إطلاقاً، وأنّ هذا خطأ وقع فيه أحد العلماء في القرن الحادي عشر الهجري في هذا السياق.

بناء على مجمل ما تقدّم فإنّ النسخة الأقدم المتوفرة لكتاب الكافي ربما ترجع إلى قرنين ونصف بعد زمن الشيخ الكليني، عدا بعض الوريقات أو الأجزاء الناقصة، وهذا يعني أنّنا بحاجة إلى قرائن وشواهد عديدة وتعاضد نقل المعاصرين والمقاربين إليه عن نسخته لنقارنها بالنسخة الواصلة إلينا ونرصد أيضاً مديات شهرة وتناقل هذا الكتاب واهتمام العلماء والأجيال بهذا الكتاب في تلك الفترة، كما يشير إلى ذلك مثل نصّ الشيخ النجاشي (450هـ) رحمه الله في فهرسته، حين يتحدّث عن كتاب الكافي بشيء من هذا القبيل.

 

هل كُتبت السنّة في القرون الثلاثة الهجريّة الأولى؟

السؤال الثاني: ما هي وجهة نظركم حول الادّعاء الذي ادّعاه غلدزيهر (Goldziher) بأنّ السنّة لم تُكتب إلا بعد ثلاثة قرون؟

 

الجواب: إنّ ما ذكره المستشرق المشهور غولدزيهر وغيره من أنّ السنّة لم تكتب إلا بعد ثلاثة قرون يمكن مناقشته، لكن لا بمعنى أنّ السنّة كانت قد كتبت في القرن الأوّل الهجري، أو أنّها قد كتبت برمّتها في القرن الثاني الهجري، إذ من الواضح أنّ المجاميع الحديثيّة الكبرى لم نجد مخطوطات لأحاديثها برمّتها في القرن الأوّل أو الثاني، وهذا شيء ينبغي أن نقرّ به عند الشيعة والسنّة معاً، لا فرق في ذلك على الإطلاق بما يتعلّق بالمرويّات النبويّة، لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو أنّ الكتابة هل هي العنصر التوثيقي الوحيد للسنّة وأنّ التناقل الشفويّ لا يمكن أن يكون كافياً في هذا السياق أو لا؟ فلنفترض أنّ هناك كتاباً لشخص من الأشخاص في القرن الهجري الأوّل وقد احتوى هذا الكتاب على مجموعة وافرة من الأحاديث النبويّة الشريفة لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل وجود تدوين للسنّة في القرن الأوّل الهجري يكفي لإثبات صحّة الرواية أو لا؟ من الممكن أن يكون هذا الكتاب قد اختُلق، تماماً كما يمكن أن تكون الرواية الشفويّة قد اختُلقت، وهذا يعني أنّ تدوين الحديث في القرنين الأولين لا يحسم سلامة الحديث، وعدم تدوينه لا يبطل قيمة تناقله؛ لأنّ القوّة الاحتماليّة في النقل الشفوي لا تنتهي تماماً، والقوّة الاحتماليّة في النقل التدويني لا تبلغ دائماً حدّ الوثوق والاطمئنان بسلامة النقل.

نعم، إنّ القيمة الخاصّة في هذا السياق هي في نوعيّة النقل، أرجو أن ندقّق قليلاً هنا، فالنقل الشفوي بطبيعته لا يمكنك التثبّت من أنّه نقلٌ باللفظ ما لم تقم شواهد إضافيّة، ومن ثمّ أنت أمام نقل فكرة، وعندما تمرّ خمسة أجيال، وكلّ جيل ينقل الفكرة، ثم يعيد إنتاج صياغة الحديث بلغته قبل أن ينتشر الحديث كصيغة ثابتة لغويّة لفظيّة مدوّنة، فنحن أمام خطر تشوّه الحديث ولو من غير قصد، بينما الكتابة عندما يتمّ استنساخ الكتاب في الجيل اللاحق، عادةً ما يكون الاستنساخ باللفظ. إذن نحن في قضيّة عدم تدوين السنّة لا نستطيع أن نقول بأنّ الشفويّة أو التناقل الشفوي ـ ولو كان متعدّد الطرق والأسانيد ـ لا يكفي، ولا يملك قيمة تاريخيّة بالمطلق، بينما التناقل الكتبي ـ ولو لم يكن متعدّد الطرق والأسانيد ـ يكفي.. لا.. القضية ليست كذلك.

نعم التناقل الكتبي له مجموعة من الميزات التي تضبط لنا ـ بنسبةٍ أعلى ـ نصوص الحديث، ومن ثمّ كلّما حصلنا على مدوّنات كتبيّة ترجع إلى القرون الأولى، يمكن لنا أن نقترب أكثر من الصيغة التي صدرت من شخص النبي (ص).. نعم، هذه النقطة جوهريّة، وأنا أوافق غولدزيهر في أنّ عدم تدوين السنّة على نطاق واسع في القرنين الهجريّين الأوّلين، ممكن أن يكون قد أدّى إلى حصول التناقل الشفوي، والتناقل الشفوي يفتح علينا ـ تلقائيّاً ـ باب النقل بالمعنى، والنقلُ بالمعنى يفضي ـ تلقائيّاً أيضاً ـ إلى عدم إمكان إقامة الحجاج على حرفيّات النصّ الذي تمّ نقله، أمّا الحديث بشكلٍ مطلق بأنّه لم تكن السنّة متداولة أصلاً في القرنين الأولين، أو لم تكن هناك كتابة بالمطلق، فأعتقد بأنّ الشواهد التاريخيّة على عكس ذلك، غاية الأمر أنّ القضية كانت محدودة، وأنّك عندما تتكلّم عن القرن الثالث فما بعد، فأنت تتكلّم عن مساحة واسعة، ومن الطبيعي أنّني أقبل بأنّ هذا من شأنه أن يدفعنا إلى التريّث، وأن يدفعنا إلى التعامل بجدّية أكثر مع الحديث، وعدم التعاطي معه بضربٍ من التسامح.

وخلاصة كلامي: إنّ التناقل الشفوي لا يفقد قيمته بالمرّة، ولا التناقل الكتبي يُثبت ذاتَه دائماً، لكنّ التناقل الكتبي تقلّ فيه فرص الأخطاء والالتباسات قياساً بالتناقل الشفوي.

 

مشاكل أصول الحديث وتاريخه

السؤال الثالث: ما هي المشاكل المتعلّقة بأصول الحديث وتاريخه من وجهة نظركم؟

 

الجواب: لا يمكنني أن أحصر المشاكل المتعلّقة بأصول الحديث وتاريخه، فهي مشاكل كثيرة جداً في الحقيقة، وهذه المشاكل هي التي تدفع شخصاً مثلي إلى أن يكون من المتشدّدين في قبول الحديث وشروطه، وأن تكون لديّ مواقف غير متساهلة في ذلك، ينتقدني عليها الكثيرون.

لكن يمكن أن أشير إلى بعض النقاط التي تعرفونها مسبقاً:

1 ـ ما أشرت إليه قبل قليل، من أزمة النقل بالمعنى، فهي أزمة حقيقيّة، وبالتالي نحن لسنا دائماً أمام نصّ نبويّ بالضرورة مدوّن في صحيح البخاري أو في كافي الكليني، وإنما نحنُ أمام نصٍّ تفسيري، بمعنى أنّ هذا النصّ هو فهم الراوي لما قاله النبيّ، وليس هو عين قول النبي، وعندما نقول: هو نصّ تفسيري، فإنّ هذا يعني أنّك أمام فهم، وبالتالي منطقياً عليك أن تتعامل مع فهمٍ لكلام النبيّ، لا أن تتعامل مع أصل الكلام.

إنّ من نتائج قضيّة النقل بالمعنى هو التخلّي عن التعامل دائماً مع حرفيّات النص، وأن نذهب إلى روح الفكرة التي يقولها النصّ، ونأخذ بها فقط، وأن لا نُفْرِطَ في التدقيق في حرفيّات النصوص والاجتهاد في استنتاجات متعدّدة من خلال هذه الحرفيّات.. وهذا أيضاً يتبع نوعيّة الرواة، ويفرض علينا أن ندرس الرواة لا فقط من حيث الضبط، بل من حيث العلم، ومن حيث قدرتهم على فهم الموضوع الذي ورد في الحديث وما شابه ذلك.

إنّ القضيّة ليست في خصوص عصر الصحابة، بل في ثلاث أو أربع طبقات حديثيّة أحياناً لا نستطيع أن نتأكّد من أنّها لم تنقل بالمعنى، وهذا ما يفرض أحياناً اعتبار مجموعة أحاديث ليست سوى حديث واحد تمّ نقله بأساليب بيانية متعدّدة محافظين على روح الفكرة ومتنوّعين في طرائق التعبير.

2 ـ أزمة النسخ والمخطوطات، وهي أيضاً أزمة حقيقيّة من وجهة نظري، فهناك العشرات من مخطوطات الكتب الحديثية الصغيرة الشيعيّة لا يمكن التثبّت من نسبتها لمؤلّفيها، مثل كتاب تفسير علي بن إبراهيم القمي، وكتاب مصباح الشريعة، وكتاب زيد الزرّاد وغير ذلك؛ والسبب هو أنّ أقدم نسخها ظهر في القرون المتأخّرة، وفي الوقت عينه قليلاً ما تجد إشارات لها قبل ذلك.. إنّ أزمة النسخ تحتاج لجهود كبرى على الدول الإسلاميّة أن تقوم بدعمها وتمويلها لتحقيق نهضة عالمية اسلاميّة في هذا المضمار.

3 ـ مشكلة الإدراج والدمج في الأحاديث، وهي أيضاً مشكلة حقيقيّة، فالعديد من الرواة ربما أدرج ـ عن حسن نيّة ـ تفسيره في الحديث، وأضاف جملةً له اعتبر أنّها تفسيريّة وضروريّة، كشرح بعض الكلمات العربيّة غير المعروفة ونحو ذلك، كما هو المنسوب إلى الشيخ الصدوق (381هـ)، بل المتتبّع في الحديث يرى أنّ بعض المحدّثين أو الرواة كان يدمج حديثين ببعضهما؛ لتقارب مضمونهما، وهذا ما يترك تأثيراً على فهم المجتهدين والفقهاء اللاحقين للحديث نفسه.

وقد خفيت بعض الإدراجات حتى على بعض العلماء اللاحقين، فظنّوا أنّ هذا الإدراج هو جزءٌ من الحديث أيضاً، وكانت لذلك نتائج متعدّدة.

4 ـ أزمة التقطيع الحديثي، فعندما نأتي إلى المجاميع الحديثية الكبرى منذ القرن الثالث الهجري، نلاحظ أنّ العديد منها ـ ولا أقول كلّها ـ يقوم بتقطيع الحديث، عبر أخذ المقطع الذي يتناسب مع الباب الحديثي وعنوانه، فإذا كان الحديث يتكلّم عن مجموعة أمور منها مسألة الديات، فإنّ المحدّث يقتطع الجملة المتصلة بالديات لوضعها في باب الديات من كتابه الحديثي، ويترك سائر أجزاء الحديث. إنّ هذا التقطيع مضرّ بعمل الفقيه والمجتهد والمفسّر؛ لأنّه يُفقدنا القرائن المتصلة بالنصّ والتي تلعب دوراً كبيراً في فهمه.

عندما تفصل مقطعاً من الحديث، وتحصرنا بهذا المقطع، فأنت تضحّي بالمقاطع اللاحقة أو السابقة، والتي قد يرى الفقيه أنّها تساعده على فهم المقطع موضع الشاهد، ومن هنا يلزمنا في عمليّة الاجتهاد أن نعيد لَمْلَمَة وتجميع مقاطع الحديث الواحد عبر ملاحظة التركيبة المضمونية والسنديّة معاً؛ للوصول إلى فهم أفضل للحديث، وأحياناً قد لا نتمكّن من فعل ذلك مع الأسف.

في تقديري إنّ مشكلة التقطيع ليست بسيطة، بل تنفتح على احتمال أنّ الراوي/السامع نفسه، لم ينقل لنا تمام الجمل المحيطة بالجملة موضع الشاهد، فمارس بنفسه تقطيعاً ظانّاً عدم أهميّة تلك الجمل الحافّة، وبهذا يقع التقطيع من المحدّث تارةً لأهداف تصنيفية تدوينيّة، وأخرى من الراوي/الأصل بهدف الاختصار أو لعدم ملاحظته ضرورة لنقل سائر الأجزاء، في حين لو وصلت سائر الأجزاء للفقيه لربما رأى فيها مساعدات تفسيريّة للفهم.

طبعاً، مشكلة التقطيع مشكلة عامة وواسعة، وقع فيها بعض كبار المحدّثين، ومنهم صاحب كتاب (تفصيل وسائل الشيعة) الشيخ الحرّ العاملي (1104هـ) كما هو معروف، وحاول السيد البروجردي في العصر الحديث تلافي ذلك في موسوعته الحديثيّة (جامع أحاديث الشيعة)، عبر استحضار النصّ الكامل للحديث حيث يتوفّر له.

5 ـ عدم توفّر إمكانيّة معرفة طبيعة سؤال الراوي، فهناك الكثير من الأسئلة وجّهت إلى النبيّ أو إلى الصحابة أو إلى أهل البيت، ولم يُنقل لنا سوى نصّ الجواب، فيما نصّ السؤال تمّ اختصاره بجملة: سألته عن كذا، دون نقل تركيبة السؤال بالضبط، ومن ثمّ يقع نوعٌ من الإجمال في السؤال على مستوى بعض الخصوصيّات، وكلّما صار السؤال منقولاً بشيء من الإيجاز والإجمال صارت طبيعة الجواب أيضاً ملتبسة بدرجة معيّنة؛ لأنّ طبيعة الجواب تتصل بهويّة السؤال، فكلّما أجمل السؤال تأثّر الجواب بذلك على مستوى بعض امتداداته، لا أنّه أجمل بالمطلق، فنحن لا نتكلّم عن إجمال أو إبهام تامّ في هذا السياق.

6 ـ التحدّي الآخر في الحديث هي الوسائط السندية، وهي لا تسقط الحديث لكن كلّما ازدادت الوسائط الموجودة في السند (أربعة ـ خمسة ـ عشرة أشخاص) إلى أن نصل إلى شخص النبيّ (ص)، فإنّ نسبة الوثوق بالحديث تقلّ؛ لأنّ كلّ شخص من هؤلاء من الممكن أنّه أخطأ، أو أدرج، أو سهى ولو في جزء من الحديث، فكلّما زاد عدد أفراد الوسائط زادت احتماليّة الخطأ، وبالتالي زاد احتمال عدم تطابق النصّ الذي صدر من النبيّ (ص) مع الذي وصل إلينا.

وعدالة الرواة الثابتة بعلم الجرح والتعديل لا تجعلهم معصومين، بل تظلّ احتماليّات الخطأ واردة، فكلما زاد العدد زاد الاحتمال بحساب الاحتمالات الرياضي. وهذه عقبة تحتاج لجهود بغية تذليل بعض جوانبها عبر ضمّ النصوص والحفر في التراث الحديثي أكثر.

7 ـ الوضع في الحديث، وهي مشكلة معروفة لا تحتاج أن نتكلّم عنها، وهي تتبدّى للباحث خاصّةً في عمليات النقد المتني التي مع الأسف الشديد لا نهتم بها بالمستوى اللازم، وإن كان هناك اهتمام جيد بها، لكن بالإمكان أن يكون هناك اهتمام أكبر في هذا الإطار. خاصّةً وانّ دواعي الكذب كثيرة عبر التاريخ ومتنوّعة، وعلى الباحث الحديثي رصد نوعيّة الموضوعات الحديثية التي تزداد فيها دواعي الكذب، لكي يكون يقينه بالأحاديث أبطأ وبحاجة لجهود مضاعفة أكثر، مثل القضايا المتصلة بآخر الزمان، ونصوص الفضائل والمناقب والمثالب، والأحاديث المتصلة بالصراعات المذهبيّة والأزمات الطائفيّة والقوميّة وغير ذلك من القضايا، فاحتمالات الدسّ والوضع في هذا النوع من الموضوعات مرتفع، الأمر الذي يفرض علينا الكثير من التريث، هذا مضافاً إلى الأزمات المضمونية التي يواجهها الحديث أحياناً كمواجهة حقائق العلم أو العقل الصريح أو غير ذلك.

8 ـ تشظّي الحديث الإسلامي وعدم مراكمة أحاديث المذاهب مع بعضها لتقوية صدور بعض النصوص النبويّة، وفهمها بشكل أفضل، ولا أريد أن أطيل فلديّ دراسة موسّعة في ضرورة تكوين موسوعة حديثيّة إسلامية (فوق مذهبيّة) تجمع مختلف النصوص النبوية عند جميع المذاهب الإسلاميّة، وقد دوّنت هذه الدراسة في الجزء الأوّل من كتابي (الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج).

 

الموقف من القرآنيّين، وهل يوجد قرآنيّون شيعة؟

السؤال الرابع: هناك من يدّعي في أيّامنا هذه أنّ القرآن الكريم هو الدين وحده، فما هي وجهة نظركم حيالهم؟ بالمقابل هل يوجد مثل هذه الأقوال أو ما يشبهها عند الشيعة؟ وما تقولون أنتم حول هذه الأفكار؟

 

الجواب: في حدود تتبّعي المتواضع، لا يوجد بين الشيعة الإماميّة تيار قرآني مئة بالمئة، هذه قضيّة يجب أن نلتفت إليها جيّداً لندرس سببها، فربما تكون هناك تيارات قليلة الثقة بالحديث، ويمكن أن نعتبرها قرآنيّةً بدرجة عالية وحديثيّةً بدرجة دانية، نعم هذا صحيح، أمّا وجود تيّار شيعي إمامي لا يؤمن بحجيّة السنّة أصلاً، فهذا من النادر أن تجده بين الشيعة إن لم أكد أجزم أنّه غير موجود إطلاقاً. وربما يكون السبب في ذلك أنّ الشيعي الإمامي إذا أراد أن يكون قرآنياً بحتاً على جميع الصعد، فينبغي عليه أن يتخلّى عن تشيّعه الإثني عشري، فأسماء الأئمّة ـ إذا استبعدنا الحديث ـ ليست موجودةً في القرآن الكريم، ومن ثمّ لا توجد فكرة الاثني عشريّة في القرآن وحده، وهذا يعني أنّ القرآنيَّ الشيعي بشكل تلقائي يفترض أن يتخلّى عن تشيّعه، ومن ثمّ فكلمة (قرآني شيعي) بالمعنى السائد اليوم لهذه الكلمة ربما تعاني من نوع من التناقض الذاتي (Paradoxical) أو من المفارقة.

نعم، بين الشيعة في الفترة الأخيرة تيارٌ بدأ بالنموّ تدريجيّاً منذ مطلع القرن العشرين، يتراجع الحديث عنده كثيراً مقارنةً بحضور النصّ القرآني، وهذه حقيقة واقعيّة لا ينبغي إنكارها، وقد استعرضتُ في الفصل السادس من كتابي المتواضع (نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي) تفاصيلَ التيارات النقديّة الشيعية للحديث، والتي يميل أغلبها لتقليص حضور الحديث في فهم الدين، لصالح حضور النصّ القرآني تارةً، والعقل الإيماني تارةً أخرى.

أمّا فيما يتعلق بأصل المرجعيّة الحصريّة للقرآن الكريم، فشخصيّاً في كتابي (حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم) ناقشت مختلف الأدلّة التي سيقت في هذا الإطار، وقلتُ بأنّ الأدلة التي ينطلقون منها، مثل عدم تدوين السنّة أو بعض النصوص القرآنيّة التي تفيد أنّ القرآن لوحده هو تبيان كلّ شيء وما شابه ذلك.. هذه الأدلّة كلّها لا تصلح لإثبات عدم حجيّة السنّة بالمطلق، وإنّما غاية ما في الأمر أنّها تؤكّد على مرجعيّة القرآن الأولى بوصفها المرجعيّة العليا، وأنّ السنّة لها دورٌ تكميلي.

نعم، من الممكن أن نوافق على فكرة جذريّة هي أنّ الإفراط في الفكر المدرسي الإسلامي عموماً في تقديم السنّة على الكتاب، والاهتمام بالسنّة أكثر من الاهتمام بالكتاب، أدّى إلى مشاكل عظيمة.. وفي تصوّري المحدود فإنّ الفكر الإسلامي قلّص من إمكانات الاحتكام إلى الكتاب في محاكمة السنّة نفسها، واعني بالسنّة تلك السنّة المحكية الواصلة إلينا، والتي نسمّيها بالحديث الشريف. وهذا كلّه يعني أنّه من الممكن أن نذهب مع القرآنيّين إلى مرجعية فهمية للقرآن وتكريس مقولة قدرة القرآن على بيان نفسه، وضرورة الشروع في الاجتهاد الديني من القرآن ليُجعل الفهم القرآني حاكماً على السنّة المحكيّة وليس العكس إلا في حدود ضيّقة تمّ البحث فيها في أصول الفقه الإسلامي في علاقات العام والخاصّ والمطلق والمقيّد.

إنّني لست قرآنياً، بمعنى لست منكراً للسنّة، ولكنني قرآنيٌّ بمعنى أنّني أعتبر القرآن الكريم هو المرجعيّة الاجتهاديّة الأولى في فهم الدين، بينما السنّة هي المرجعيّة الاجتهاديّة الثانية، والتي تحتلّ مكاناً أضيق من المكان الذي رُسم لها في أيامنا هذه واُعطي لها لاحقاً.

 

مشكلات الفهم الحديثي وقضية النقد المتني

السؤال الخامس: كيف تقيّمون و تناقشون موضوع “فهم السنة” عند الشيعة في عصرنا الحالي؟ هل تكفي اصول الحديث الكلاسكي لفهم السنة وموضوع ثبوته؟ ماذا يجب علينا ان نفعل حتي نفهم متون الاحاديث بشكل سديد و بعيد عن الزلل؟ لقد قدّمت أبحاث عديدة حول نقد المتون الحديثيّة لفهمها بشكل سديد سواء عند الشيعة أم عند أهل السنّة والجماعة، فهل هذه الأبحاث كافية من وجهة نظركم؟ وهل أدّت الغرض المطلوب؟ وما هي أوجه النقص برأيكم؟

 

الجواب: إنني أعتقد أنّ التوجّه الشيعي والإسلامي عموماً لفهم السنّة يملك العديد من عناصر القوّة، وعلينا أن لا نجلد ذاتنا ولا نبخس الناس أشياءهم، إلا أنّه يعاني من بعض عناصر الضعف.

ويمكنني في هذه العجالة الإشارة لبعض النقاط:

أ ـ إنّ التيّار الإخباري عند الشيعة الإماميّة ـ وبعض التيارات السنيّة ـ ما تزال تأثيراته واضحة في العديد من العلماء إلى عصرنا الحاضر، خاصّة في مجال الدراسات الكلاميّة والعقائديّة والتاريخيّة وما شابه ذلك، وهو توجّه يميل عامّةً إلى جعل فهم القرآن الكريم منحصراً بالحديث الشريف، أي أنّ القرآن يُفهم من خلال الحديث، سواء قيل بأنّ القرآن لا يُفهم من ذاته وليست له قدرة بيانيّة في نفسه أم لم يُقَل ذلك، لكن من الناحية العمليّة نحن نلاحظ أنّ هناك طيفاً من علماء الشيعة والسنّة عندما يتحرّكون ميدانياً في عمليّات التفسير القرآني، ينتهجون نقطة البداية من الحديث ليُرشدهم الحديثُ إلى فهم القرآن أو يقدّمون التفسير الحديثي للقرآن على تفسيرهم المباشر له، وهذه في رأيي نقطة غير دقيقة، كما أشرتُ إلى ذلك في غير موضع من أعمالي العلميّة المتواضعة في هذا السياق.. إنّني أعتقد أنّ المفترض أن يكون فهمنا للقرآن وفق قواعد اللغة والتاريخ هو المقدَّم على النصوص الحديثيّة، بل هو الذي يقوم بتقويم هذه النصوص والحكم عليها سلباً أو إيجاباً، إذ حجيّة الحديث لا تحصل إلا بعد إحراز سلامة متنه، وأحد أهمّ عناصر سلامة المتن هو عدم مخالفة الحديث للقرآن الكريم، وهذا يعني أنّ نقطة الانطلاق وحجر الزاوية هو النصّ القرآني، ليكون فهمه وفقاً للقواعد الصحيحة أساساً في أصل اعتبار هذا الحديث أو ذاك وحجيّتهما، فكيف نريد أن نجعل فهم القرآن منوطاً حصراً بالحديث نفسه؟! إنّ هذا لا يكون إلا بعد إحراز سلامة الحديث وعدم معارضته للكتاب، ليضيف إلينا إضاءةً معيّنة في فهم القرآن، لا أن يكون أصل فهم القرآن منوطاً بالحديث حصراً كما يقول بعض الإخباريّين الشيعة.

إنّ سبب تركيزي على هذه النقطة بالذات هو إعادة ترتيب مستويات المصادر الاجتهاديّة في النصّ الديني، فالنصّ القرآني هو الأوّل فيما النصّ الحديثي هو الثاني (ونحن نتكلّم عن العلاقة بين الحديث والكتاب، وليس بين السنّة والكتاب)؛ لأنّ قوّة الصدور في النصّ القرآني تجعله معياراً لمستوى قبول الحديث وليس العكس، والأمّة الإسلاميّة التي تريد أن تحتكم للنصّ الديني عليها أن تعيد اليوم مرجعيّة النصّ القرآني إلى الواجهة دون أن تضحّي بالحديث الشريف، فترتيب مستويات المصادر المعرفيّة يظلّ مهماً للغاية، وهذا ما تعرّضت له بشيء من التفصيل في كتابي المتواضع (حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم).

ب ـ إنّ عمليات نقد المتن في الداخل الإسلامي هي في تقديري ما تزال ـ نسبيّاً ـ دون المستوى المنشود، وفي القرنين الأخيرين بدأنا نشهد شيئاً مبشّراً في هذا السياق، ولكن بالإجمال العام الحركة الحديثيّة ليست فاعلة كما ينبغي في مجال نقد المتون الحديثية والدخول في تفكيك نقدي للمتن وتحليله بطريقة نقديّة، ومقاربة ومقارنة المتن مع الحقائق الأخرى الآتية من المصادر المعرفيّة الأخرى.. إنّ النزعة التسليمية والنزعة التعبديّة الموجودة في النصوص الشرعيّة والفقهيّة سرت إلى النصوص الحديثيّة التي تتحدّث عن التكوينيات (بداية الخلق وخصائص العالم والطب النبوي و..) والتاريخ والعقائد وقصص الماضين والأنبياء وتفسير القرآن والمستقبليات ووقائع آخر الزمان وغير ذلك، ومن ثمّ فهذه النزعة التسليمية التعبدية أفقدت الباحث الحديثي قدرته على نقد المتن الحديثي في هذه المجالات، وإذا كان الفقه غير قادر على نقد المتن الحديثي نظراً للنزعة التعبديّة والتسليميّة للأحكام الشرعيّة، رغم أنّه يمكن هناك أيضاً ممارسة نوع من النقد الحديثي المتني، إلا أنّه في غير الفقه هناك مجال واسع للنقد الحديثي في تقديري، ومن ثمّ فهذه نقطة ضعف أساسيّة في هذا السياق.

إنّنا نلاحظ نشاطاً أوسع في النقد المتني في سياق الجدالات المذهبيّة، فالسنّة ـ مثلاً ـ يمارسون نقداً متنيّاً للحديث الشيعي، والشيعة كذلك بالنسبة للحديث السنّي، لكن عندما يرتدّ كلّ فريق إلى نصوصه الخاصّة نجد تراجعاً في قدرات العقل الاجتهادي على ممارسة نقد متني.

ولا أعني بالنقد المتني الاستمزاجات والاستنسابات الشخصيّة للباحث، كما بتنا نرى ذلك مع الأسف الشديد، بل القضيّة تحتاج إلى معايير علميّة صارمة وواضحة قدر الإمكان، وليس ردّ الحديث بأدنى سبب ولو كان مزاجيّاً ولا يتناسب مع أعرافي وعاداتي اليوم، الأمر الذي نلاحظه في بعض أشكال حركة النقد المتني عند بعض المسلمين من تيار التحديث الديني المعاصر. وهناك رواية تُنقل عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، يحذّر فيها أصحابه من ردّ الأحاديث وتكذيب ناقليها، لمجرّد أنّها لا تنسجم مع أذواقهم وأمزجتهم، وهو تحذيرٌ في محلّه، ويخاطب جميع الباحثين في مجال الحديث؛ لضبط إيقاع نقدهم على أسس أكثر علميّة ودقّة.

ج ـ ثمّة نقطة ضعف عامّة أخرى وهي الغياب النسبي للقراءة التاريخيّة الكلّية للحديث، فعندما ندرس الحديث في موضوعٍ معين ـ مثل أخبار آخر الزمان والمستقبليات عموماً ـ عادةً ما نقع في فخّ التقطيع وأخذ موضوعات صغيرة، ثم محاكمة الأسانيد.. نحن بحاجة إلى دراسة مسار هذا النوع من الحديث، ومن أين ظهر الحديث عن المستقبليات؟ هل ظهر في بلاد الشام أو في العراق؟ وفي أيّ ظروف ظهر؟ كيف سار؟ كيف انتقل الحديث من منطقة إلى منطقة؟ وما هي الظروف والملابسات السياسيّة والاجتماعيّة التي احتفّت بهذا النوع من الأحاديث؟ ومتى قوي ظهور هذه الأحاديث ومتى انخفض ظهورها عبر التاريخ؟ وأيّ تيار ساعد على تقويته وأيّ تيّار ساعد على تغييبه؟

إنّ المسيرة التاريخية لموضوع حديثي معين مهمّ جداً بالنسبة إلينا، ويستطيع أن يسلّط الضوء على نقاط كثيرة في هذا السياق، ومع الأسف ليس الأمر على هذه الشاكلة في بعض الأوساط، ونحن بحاجة إلى هذا النوع من التفكيك والرصد والمتابعة الزمنيّة للحديث لمحاولة مقاربة هذه الموضوعات بطريقة أكثر علميّة.

فكرتي هي دراسة تاريخ ملفّ حديثي معيّن في نقطة انطلاقه وظهوره التاريخي لنا، وصولاً إلى عصرنا الحاضر، هذا الأمر سيكشف لنا العديد من النقاط، ولا أتكلّم هنا عن تاريخ الحديث بشكل عامّ، فقد كُتب فيه الكثير، بل أتكلّم عن تاريخ الموضوعات الحديثيّة وكيف سارت نصوصها الحديثيّة تاريخيّاً وجغرافيّاً وسيواجتماعيّاً؟

 

حجيّة الحديث في العقائد

السؤال السادس: لقد ذكرتم في كتابكم “حجية الحديث” أنّ الحديث حجّة. فهل الحديث حجّة في العقائد من وجهة نظركم؟

 

الجواب: في حقيقة الأمر يجب عليّ أن أشرح نظريّتي الشخصيّة فيما يتعلّق بحجيّة الحديث، فأنا لا أؤمن بحجيّة الحديث الظنّي (أخبار الآحاد الظنيّة)، حتى لو كان صحيح الإسناد، أي الحديث الذي لا يعطينا إلا الظنّ ليس حجّةً حتى لو كان صحيح الإسناد. هذا ما توصّلت إليه في كتابي (حجيّة الحديث) ضمن مقاربة كلاميّة وأصوليّة وحديثيّة، ومن ثمّ فالحديث الحجّة هو فقط الحديث الذي يكون بالغاً في عواضده وشواهده ومؤيّداته وقرائنه وطرقه وأسانيده.. مرتبةً يستطيع أن يحصل للإنسان معها نوعٌ من الاطمئنان بصدور هذا الحديث أو ذاك عن شخص النبيّ (ص)؛ لكثرة طرقه وتعدّد مصادره وتنوّعها وسلامة متنه وما شابه ذلك من وسائل البحث التاريخي، لكن ليس كلّ حديثٍ صحيح الإسناد أو ضعيفِه بالذي تتوفّر فيه هذه العواضد والشواهد المحتفّة به، بحيث ترفعه إلى مستوى تحصيل اليقين بصدوره، وهذا يعني أنّ الصحّة السنديّة ليست سوى أحد العناصر المساعدة على إنتاج اليقين، لا أنّه العنصر الكافي في الحجيّة، فضلاً عن كفايته لوحده في إنتاج اليقين.

هذه هي خلاصة نظريّتي التي سعيتُ في هذا الكتاب (أعني: حجيّة الحديث) للتوصّل إليها وإثباتها، ومناقشة مختلف أدلّة الأصوليّين المسلمين ـ من السنّة والشيعة ـ التي أرادوا منها إثبات حجيّة خبر الواحد الظنّي خاصّةً لو كان صحيح الإسناد، مثل اعتمادهم على آية النبأ الواردة في سورة الحجرات المباركة أو على سيرة وعمل الصحابة أو غير ذلك.

لكنّني قلتُ بأنّ الذين يقولون بحجيّة الحديث الظنّي وأخبار الآحاد، وفقاً للقواعد التي بنوا عليها نظريّة خبر الواحد، يلزمهم أن يأخذوا بحجيّة خبر الواحد في تفاصيل العقائد أيضاً؛ لأنّ المسيرة التي ساروها في الاحتجاج لصالح حجيّة الخبر يفترض أن توصلهم إلى حجيّته في العقائد التفصيليّة، والموانع التي ذكروها في هذا السياق غير صحيحة من وجهة نظري الشخصيّة. أمّا بالنسبة لي فحيث إنّني لا أؤمن بنظريّة حجية الخبر الواحد أصلاً، فهو عندي ليس حجّةً لا في باب العقائد ولا في باب الفقه ولا في باب الأخلاق، بل إنّني لا أؤمن بنظريّة التسامح في أدلّة السنن أو نظريّة التسامح في فضائل الأعمال ـ وهي النظريّة التي تُعطي الحجيّة للخبر الضعيف في غير العقائد والإلزامات الفقهيّة والشرعيّة ـ ولا غير ذلك.

وقد عالجت في الجزء الثاني من كتابي المتواضع (الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج) عالجت بالتفصيل مَدَيَات ومساحات حجيّة أخبار الآحاد في غير المجال الشرعي، أي في مجال التكوينيات وقضايا العالم والمستقبليات والتاريخ والعقائد وعلم الكلام وما شابه ذلك، كما درستُ بالتفصيل أيضاً مسألة قاعدة التسامح في فضائل الأعمال، وقلتُ بأنّه بناءً على نظريّتي الشخصيّة فإنّ أخبار الآحاد الظنيّة ليست حجّةً مطلقاً ولو كانت صحيحة الإسناد، وعليه فالحديث الحجّة في العقائد هو الحديث المعلوم الصدور تماماً كما هو في الفقه، بينما على نظريّة الذين يقولون بحجيّة خبر الواحد يلزمهم القول بحجيّته في تفاصيل العقائد. واحتجاجاتُ من أنكر منهم حجيّته في التفصيل العقيدي هي احتجاجات ضعيفة، وعليه فبناءً على نظريّتهم في أصل حجيّة خبر الواحد عليهم أن يذهبوا ويكملوا طريقهم ويقولوا بحجيّته في تفاصيل الاعتقادات.

 

الدراسات الحديثيّة في تركيا

السؤال السابع: كيف تنظرون إلى الدراسات والجهود الحديثيّة في تركية؟ وكيف تقيّمون هذه المسألة؟ وهل هذه المسألة موجودة في أذهانكم أم لا؟ وإذا حصلت مقايسة وموازنة بين جهود علماء الحديث في دول الخليج وجهود علماء الحديث الأتراك، فما هي النتائج المترتّبة على ذلك من وجهة نظركم؟

 

الجواب: في حقيقة الأمر، ومع الأسف الشديد، فإنّ معلوماتي عن الجهود الحديثيّة في تركية محدودة جدّاً لكي أكون صريحاً معكم، ولكنّني أخذت انطباعاً جيّداً عندما شاركت في المؤتمر الدولي حول نقد المتن الحديثي عند المذاهب الإسلاميّة، والذي انعقد في اسطنبول قبل حوالي ثماني سنوات.. في حينها اُصبت بشيءٍ من الدهشة والإعجاب؛ لعدم كوني مسبوقاً بأيّ اطلاع على المشهد الحديثي في تركية.

وفي هذا السياق، أودّ أن أستغلّ الفرصة لكي أتمنّى أن يتمّ في تركية الاشتغال على نشر الجهود الحديثيّة التركية باللغات العربية والفارسية والأرديّة. أتمنى أن تخصَّص مجلات ونشريّات علميّة بحثيّة رائدة في هذا الإطار أو أن تؤسَّس أقسام أو مراكز خاصّة بترجمة النتاج الحديثي والقرآني الجديد في تركيا إلى العالم العربي؛ لكي نطّلع أكثر، ويكون هناك نوعٌ من التواصل بين الباحثين الحديثيّين الأتراك والباحثين الحديثيّين في العالم العربي..

إنّها مسؤوليّة الجامعات التركيّة أيضاً أن توطّد علاقاتها البحثيّة والعلميّة مع الجامعات العربيّة، تماماً كما هي مسؤوليّة الجامعات والمعاهد الدينيّة العربيّة في هذا السياق؛ لكي ينفتح الأفق العلمي لهاتين الأمّتين العظيمتين على بعضه، بما يُنتج المزيد من التجديد والتعميق لدراساتنا الحديثيّة خصوصاً والإسلاميّة عموماً.. إنّ هذا كلّه سوف يسمح لنا بالاطّلاع أكثر على المنجز التركي إن شاء الله تعالى؛ لأنّ مشكلة اللغة هي مشكلة حقيقيّة، ومن ثمّ علينا تجاوز هذه المشكلة إمّا عبر مراكز ترجمة أو عبر تواصل في مؤتمرات ولقاءات وندوات مستمرّة؛ لكي ينتقل المشهد الإنجازي التركي إلى الجامعات والمحافل العلمية والمعاهد الدينيّة في العالم العربي إن شاء الله تعالى.

وبناءً عليه، أستطيع أن أعلّق على الشقّ الثاني من سؤالكم، فيما يتصل بإجراء مقارنات بين الجهود الحديثيّة التركيّة والعربيّة أو الخليجيّة؛ وذلك أنّي غير قادر على إعطاء جواب؛ لأنني غير قادر على القيام بمقارنة وموازنة بين جهود علماء الحديث في العالم العربي وجهود علماء الحديث الأتراك؛ نظراً لعدم وجود إطلاع كافٍ من قبلي شخصيّاً على الجهود التركية في هذا السياق، ولعلّني شخصيّاً مقصّر أيضاً في هذا المجال، وعليَّ السعي أكثر لتوسعة مجال اطّلاعي على المنجَز التركي في مجال الإسلاميّات عموماً.

 

ضرورات في سياق فهم السنّة ووعي السيرة النبويّة

السؤال الثامن: حتى نفهم أحاديث سيرة النبيّ فهماً سديداً بقراءة ماذا تشيرون علينا؟ وكيف يجب علينا أن نتّبع منهجاً سديداً لفهم السنّة عموماً بشكلٍ مثالي؟

 

الجواب: أعتقد أنّه يجب علينا أن ندخل في مرحلة جديدة من التعامل مع الحديث الشريف والسيرة النبويّة المباركة معاً، وعنوان هذه المرحلة الجديدة هو إعادة تقويم الحديث وفهمه.

الخطوة الأولى في هذا السياق هو التحرّر من فهوم الماضين، فإذا لم نتحرّر من الاستنتاجات المشهورة في مجال الحديث والسيرة والطرائق المتداولة في التعامل معهما من قبل السلف إلى يومنا هذا، فلن نتمكّن ـ في رأيي المتواضع ـ من تقديم شيءٍ جديد، وفي الغالب سوف نظلّ نتحرّك في دائرة أو في بارادايم أو مدار المنتجات القديمة.. فالمفتاح هو التحرّر من الفهوم القديمة، لكن لا بمعنى التخلّي عنها، وإنّما بمعنى أنّها تظل خاضعة ـ كسائر وجهات النظر في عالم الفكر والمعرفة ـ للتقويم الإيجابي والسلبي طبقاً للمعايير العلميّة؛ وتظلّ ينظر إليها أيضاً بوصفها جهوداً بشريّة غير مقدّسة، وإنّما محترمة.. إنّ التفكير دائماً من داخل الصندوق لن يولّد في حياتنا العلميّة مناهج جديدة، ولن يفتح آفاقاً، بل سيحوّلنا إلى مجرّد شرّاح لا أكثر.. وبهذا نقتل الاجتهادَ في مجال الحديث والسيرة معاً.

إنّ هذه الخطوة ليست مجرّد شعار، بل تعني ضرورة بناء أنظمة التربية والتعليم في المعاهد والجامعات العلميّة والدينيّة على روح التأمّل والتفحّص والنظر لدى طلاب علوم الحديث والتاريخ والسيرة، بدل روح الفهم المجرّد لما قال الماضون، فالفهم خطوةٌ أولى لكنّها ليست كافية، بل يلزم أن تتبعها خطوات المقارنات والمقاربات، لتتلوها خطوات النقد والتقويم، وفي النهاية يولد ـ من هذا المسار الثلاثي ـ الإبداعُ الفكريّ الحقيقي، شرط أن لا نربّي طلاب علوم الحديث والسيرة على عُقدة النقد وشهوته، فهذا سلوك غير أخلاقي، كما لا نربّيهم على ثقافة انتقاص الماضين، فهذا أيضاً نكرانٌ لجميل علماء المسلمين وجهودهم المباركة عبر التاريخ.

نحن بحاجة حقيقةً إلى ثورة في الحديث والسيرة، لكن ليست ثورة تمرّدية كما يفعل بعض المتمرّدين، حيث يُطلقون الكلام النقدي في الهواء دون تفحّص أو تعمّق أو تريّث، بل ثورة علميّة موضوعيّة متوازنة في تقويم الحديث وفهم السيرة والسلوك النبويّ، وصولاً حتى إلى معايير علم الرجال والجرح والتعديل، فهل هي معايير نهائيّة؟ هل المطلوب منّا نحن اليوم أن نبقى نقلّد علماء الرجال والجرح والتعديل فيما قالوا أو يمكن لنا بمراجعة متون أحاديث الراوي وتاريخه وغير ذلك أن ننقد أجيال علماء الرجال والجرح والتعديل القديمة، ومن ثمّ نفتح باب الاجتهاد في الجرح والتعديل كما دعوتُ إلى ذلك في كتابي (منطق النقد السندي، بحوثٌ في قواعد الرجال والجرح والتعديل)؟

إنّ المطلوب هو فتح باب الاجتهاد ـ بالمعنى الحقيقي للكلمة ـ في علوم الجرح والتعديل، وكذلك فتحه في قواعد علوم الدراية وعلوم مصطلح الحديث، وربما ننفتح على أنواع جديدة من الحديث لم يكونوا قد التفتوا إليها.. وفتحُ باب الاجتهاد يتطلّب تخطّي الإجماعات والشهرات وتخطّي المتسالم عليه للدخول في مرحلة بحثيّة جديدة.

الخطوة الثانية بعد تكريس ثقافة التحرّر هي قيامةُ معياريّةِ النصّ القرآني في تقويم الأحاديث وتفسيرها وفي فهم وقائع السيرة النبويّة، فهذا أصلٌ أصيل؛ كون النص القرآني هو نصٌّ يقيني من الدرجة الأولى عند المسلمين، ومن ثمّ يجب علينا أن نعتبره أصلاً لمحاكمة النصوص التي هي في غالبها ظنّيّة.. بل في مجال السيرة النبويّة أجدّدُ الدعوة التي أطلقها غيرُ واحدٍ من مفكّري الإسلام في القرن العشرين، لاعتبار النصّ القرآني مصدراً أعلى للسيرة وتدوينها، فتدوين السيرة لا يكون من خلال كتب التواريخ والحديث فقط، بل النصّ القرآني يحظى بالأولويّة في هذا المجال؛ كون مجريات الأحداث التي يسردها لنا يمكنها أن تكوّن في أذهاننا أجزاء مهمّة من وقائع العصر النبويّ الشريف.

الخطوة الثالثة في فهم السنّة والسيرة هي إعادة فهمهما في ضوء ثنائيّة الشخصيّة النبويّة، وهذا أمرٌ طرحتُه في بعض مقالاتي خلال الأعوام الأخيرة، فالنبي (ص) ليس دائماً مفسّرَ القرآن ومبلّغَ للدين، بل هو في بعض الأحيان مديرُ الجماعة المسلمة لأنّه يدير شؤون الأمة المسلمة في زمانه، ومن ثمّ يغدو من المعقول جداً أنّ بعض نصوصه تتحرّك في دائرة تبليغ الأحكام الإلهية الثابتة، وبعض نصوصه الأخرى تتحرّك في دائرة إدارة زمنيّة مؤقتة لعصره. والتحدّي الكبير هنا هو أنّه كيف نضع مناهج إجتهاديّة لتمييز النصوص النبويّة الأصلية التي تمثل انعكاساً لدوره التبليغيّ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله عن النصوص النبويّة الإدارية التدبيريّة الزمنية التي تشكّل انعكاساً لدوره الزمني، كونه قائد الأمّة ومدير الجماعة في تلك اللحظة التاريخيّة؟ إنّ التحدّي الكبير أمام الاجتهاد الحديثي اليوم هو كيف نضع معايير تميّز النصوص النبوية ضمن هذين الشقّين، ففي حين يكون الشقّ الأول خالداً إلى يوم القيامة يخاطبنا، يكون الشقّ الثاني عبارة عن عنصر زمني علينا أن نترك بِنيتَه الظاهرية ونأخذ روحه فقط، هذه نقطة مهمة في تحديد أنواع السنة الصادرة عن رسول الله (ص)؛ لأنّ النبيّ ينطلق أحياناً من ضرورات مرحليّة خاصّة بزمنه، وعلينا أن نتعلّم أسلوبه في إدارة الموقف من الوقائع الزمنية الخاصّة، لكنّ أحكامه في معالجة تلك الوقائع لمّا كانت أحكاماً زمنيّة لم يكن يمكن فهمها على أنّها تشريعات موحى بها تخاطب جميعَ المسلمين إلى يوم القيامة.

الخطوة الرابعة هي الاستعانة بما يثبت عندنا أنّه مفيد من الدراسات التاريخيّة الحديثة، فعلم التاريخ تطوّر كثيراً خلال القرون الأخيرة، ومن ثمّ عليّ أن أستفيد من تطوّر الدراسات التاريخيّة ونمط ومناهج البحث التاريخي، وعلوم الآثار والحفريّات، وعلوم النُّسخ والمخطوطات وغير ذلك؛ لكي أتمكّن من خلال هذا التطوّر أن أفهم الحديث والتاريخ النبويَّين، وأقوّم ما وصلني منهما تقويماً أكثر علميّة، لا بمعنى تقليد علماء التاريخ المعاصرين أو المحْدَثين، ولا بمعنى تقليد المناهج التاريخيّة الحديثة، فنحن ضدّ التقليد على كلّ جبهاته وبكلّ تجلّياته وصوره، وإنما بمعنى الاستفادة وتوظيف صحيحِ العلوم الحديثة في مجال التاريخ؛ لإنتاج فهم وتقويم أفضل لمجال الحديث الشريف والسيرة النبويّة.

 

نصائح لطلاب علو م السنّة والحديث

السؤال التاسع: أخيراً، ما هي نصائحكم القيّمة لطلبة الحديث عامّة، وللشباب منهم خاصّة؟

 

الجواب: لست في موقع النصيحة؛ فأنا أقلّ من ذلك، لكن ما أراه للطلاب الشباب هي أن يحملوا في نفوسهم مسؤوليّة المعرفة وجرأة النقد الموضوعي، وفي الوقت عينه لا ينجرفوا أمام ميولهم النقديّة التي تجعلهم فقط وفقط ينتقدون لكي يتمرّدوا لا أكثر ولا أقلّ. إنّ علينا أن نربّي في نفوس الشباب الكثير من الجرأة المعرفيّة والكثير من الأخلاق العلميّة في الوقت عينه، فالجرأة المعرفيّة وإحساس المسؤوليّة العلميّة تعني نهاية عصر التقليد لأنّنا بحاجة اليوم فعلاً إلى أئمّة في علم الجرح والتعديل وأئمّة في علم التاريخ وأئمّة جدُد في علم الحديث.. لسنا اليوم شرّاحَ ابنَ صلاح ولا البهائي ولا غيرهما، وإن كان فهمهم والتلمّذ على أيديهم وظيفة من وظائفنا، لكنّنا نريد للجيل الآتي في مجال الدراسات الحديثيّة أن يُنتج لنا نسخةً أخرى جديدة من ابن الصلاح والبهائي، أفضل ـ بحول الله ـ من نسخة ابن الصلاح نفسه ونسخة البهائي نفسه، هذا هو التحدّي الكبير: كيف يتمكّن الجيل الشابّ اليوم من أن يفكّر بحرّية عالية وفي الوقت عينه بموضوعيّة عالية وبأخلاقيّة عالية؛ لكي يقدّم نظريات جديدة؟ وكيف يمكن لمناهج التربية والتعليم وللمؤسّسات التعليمية والجامعية والدينيّة أن تخلق فضاءً إيجابيّاً من هذا النوع؟ إنّ المكافآت يجب أن تكون على الأفكار الإبداعيّة الجديدة، وليس على الشروحات فقط أو التوضيحات، واُطروحات الدكتوراه يجب أن تركّز على الإبداع في مجال النظريّات الحديثية وطرح مشاريع جديدة لحلّ المشاكل القائمة في مجال علم الحديث، بطريقةٍ علميّةٍ تمارس الإقرار بنقاط الضعف حيث تكون والاتكاء على نقاط القوّة في هذا التراث الإسلامي العريق.

أسأل الله لنا جميعاً أن يقبلنا وَقْفَاً في سبيله؛ لخدمة القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإلهيّة العظيمة.

 

الهامش:

(*) نصّ الحوار الذي أجرته مجلّة أكاديميا مع الشيخ حيدر حب الله في محورها الخاصّ بالسنّة والحديث، وهي مجلّة متخصّصة تصدر عن كليّة الإلهيّات في جامعة غازي عنتاب في تركيا (Gaziantep University Theology Faculty). هذا وقد نشر هذا الحوار مترجماً إلى اللغة التركيّة، في العدد 7 ـ8، المجلّد السادس، لعام 2018م.. أجرى الحوار الأستاذ داود تيكن.

وهذا هو رابط العدد على الشبكة العنكبوتيّة: http://dergipark.gov.tr/ilak/issue/41672

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً