أحدث المقالات

جولةٌ في بعض إبداعاته ونظريّاته الاجتهاديّة

د. الشيخ محمد زروندي(*)

مقدّمة

يتميز الفقه الشيعي عن سائر المذاهب والمدارس الفقهية في العالم بأمور ومزايا كثيرة، منها: «فتح باب الاجتهاد». وهو الأمر الذي لم تقتصر بركاته وفوائده على حفظ وصيانة المذهب الشيعي من المخاطر ونقاط الضعف، بل تجاوزتها إلى الكثير من الامتيازات، ومنها: النموّ والتطوُّر كمّاً وكيفاً، ما جعله مثمراً ومواكباً للعصر وحاجاته المتجدّدة، إلى حدّ أنّ الإمام الخميني& يوجِّه رسالة فخر واعتزاز للعالم أنّ الفقه نظرية واقعية وكاملة لإدارة شؤون الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللحد.

ولا شَكَّ بأنّ لعلم الأصول موقعاً ومكانة كبيرين بين العلوم؛ لما يلعبه من دورٍ مهمّ كأداةٍ ومنطق للفقه. وبناءً عليه فإنّ العلماء الذين بذلوا جهوداً مضنية ومريرة، وصلت أحياناً‌ إلى حدّ التضحية بالنفس؛ من أجل حفظ وتكامل هذا الميراث النفيس، لهم منزلة وقيمة مضاعفان. ولا شَكَّ أيضاً أنّ زين الدين العاملي، المعروف بالشهيد الثاني، هو أحد النجوم الساطعة والبارزة في هذا الميزان؛ لأنّه أحدث تحوّلاً ونقلة نوعية في هذا المجال؛ ببركة بيانه وبنانه.

هذه المقالة، التي دوّنت استجابة لطلب منظِّمي المؤتمر الدولي للشهيدين، تمثِّل إطلالة موجزة على مقام الشهيد الثاني، وأسلوبه، وبعض مواطن التجديد في فكره ومبانيه الأصولية.

وقبل الدخول في صلب الموضوع من المفيد الإشارة إلى رؤوس المطالب والعناوين التي أشارت إليها، وهي:

أـ مكانة الشهيد الثاني في علم الأصول.

ب ـ إبداعات الشهيد الثاني.

ج ـ مزاياه.

د ـ بعض المباني الأصولية للشهيد الثاني.

هـ ـ القواعد الأدبية التي تدخل في مجال الأصول.

و ـ بعض النواقص والملاحظات من الكاتب.

 

 أـ مكانة الشهيد الثاني في علم الأصول

اختلفت آراء الأصوليين في تاريخ وتحوّلات وتطوّر علم الأصول. وفي ما يأتي سنشير باختصار إلى بعض هذه الآراء.

فقد قسَّم بعضهم تاريخ الأصول إلى ثلاث مراحل.

فعلى سبيل المثال: قسَّم السيد السيستاني، بعد بيان ملاك ومعيار المرحلة، والقيود الخاصّة ببروز وظهور النظريات والآراء الجديدة على امتداد تاريخ علم الأصول، إلى المراحل التالية:

الأولى: وهي مرحلة ظهور موقف علماء الشيعة حيال المواقف الفكرية لأهل السنّة. وفي هذه المرحلة أرسى علماء الأصول الشيعة أسس وقواعد علم الأصول، وتمكَّنوا من وضع مباحثه الأساسية، وذلك بعد مخالفتهم للمدارس الأصولية السنّية، ولبعض فقهاء الشيعة المتأثِّرين بهم، من قبيل: ابن الجنيد. وتمكَّنوا في هذه المرحلة من نقد بعض المباحث الأصولية السنّية الخاطئة، كالقياس.

الثانية: وهي مرحلة المواجهة بين علماء الأصول والأخباريين، الذين كان على رأسهم الملاّ أحمد أمين الإسترآبادي. وفي هذه المرحلة تمّ تطوير علم الأصول ورفع مستواه على يد كبار علماء الأصول، أمثال: الوحيد البهبهاني، والمحقِّق القمّي، وصاحب الفصول، والشيخ الأنصاري.

الثالثة: يقول الفاضل القائيني في إحدى كتاباته: لقد قسّمنا تاريخ علم الأصول إلى أربعة مدارس: المدرسة الأولى هي مدرسة ما قبل التأليف، والتي تبدأ مع تلامذة الإمامين الباقر والصادق’؛ والمدرسة الثانية هي بداية عصرالتأليف، والتي تبدأ مع ابن عقيل وابن الجنيد؛ والمدرسة الثالثة هي مرحلة النموّ، والتي تبدأ من عصر الشيخ الطوسي؛ والمدرسة‌ الرابعة هي مرحلة النموّ، والتي تبدأ من عصر الوحيد البهبهاني، ولا تزال مستمّرة إلى عصرنا الحاضر. وقد تجاوزت ثلاث مراحل على الأقلّ.

هناك مجموعةٌ‌ ثالثة تقسِّم مراحل علم الأصول إلى ثمانية. ومن هؤلاء: أبو القاسم گرجي، الذي دوّن في هذا المجال ما يلي: يتصوَّر لعلم الأصول على امتداد تاريخه مراحل عديدة، تتميز كلّ واحدة منها بمزايا خاصّة كان لها تأثيرها الكبير في تاريخ تحوّل هذا العلم وتطوّره.

المرحلة الأولى هي مرحلة التأسيس (305)، والمرحلة الثانية هي مرحلة‌ التصنيف (309)، والمرحلة الثالثة هي مرحلة الاختلاط (312)، والمرحلة ‌الرابعة هي مرحلة الكمال والاستقلال (316)، والمرحلة الخامسة هي مرحلة ركود الاستنباط (321)، والمرحلة السادسة هي مرحلة النهوض مجدّداً (322)، والمرحلة السابعة هي مرحلة الضعف (325)، والمرحلة الثامنة هي مرحلة الجدّ (328)!

بعد هذه المقدّمة، نجد أنّنا لو ألقينا نظرةً إجماليةً على كتاب «تمهيد القواعد» يتّضح لنا أنّ الشهيد كان صاحب أسلوبٍ ومدرسة متميزين في تبيين المباحث الأصولية. وهذا الأسلوب مشفوعٌ بإبداعاتٍ يمكن الإشارة إلى بعضها في ما يلي:

 

1ـ الأسلوب التطبيقي

على سبيل المثال، في القاعدة السادسة والتسعين المتعلِّقة بحجّية استصحاب الحال: (إن الأصل في كلّ حادث تقديره في أقرب زمان)، وبعد شرح القاعدة وبيان أقسامها ورسالتها، يذكر لها أكثر من عشرين مصداقاً، ويطبّق القاعدة على كلِّ هذه المصاديق.

وكذلك في القاعدة الثامنة والتسعين، والتي تنصّ على أنّه لو تعارض أصلان يُعمَل بأرجحهما، طبَّق هذه القاعدة‌ على أكثر من أربعين مورداً.

وأمّا القاعدة ‌التاسعة والتسعين، في تعارض الأصل والظاهر، فقد أورد لها أكثر من خمسين مصداقاً، مرفقةً بمباحثها التطبيقية التفصيلية.

هذا التميُّز والإبداع يمنح الشهيد الثاني مكانةً عالية ومقاماً مرموقاً بين العلماء؛ لأنّ ما أنجزه ليس متاحاً ومتيسِّراً لكلّ فقيه، بل يحتاج إلى الكثير من الإحاطة والاستيعاب. وهو من جهةٍ أخرى يمنح طالب العلم القدرة والتسلّط على كيفية إعمال القواعد الأصولية في الفقه، الذي يعتبر هدفه الأساسي، ويخلّص علم الأصول من التضخُّم، ويصونه من الانحراف عن مساره الأصلي ـ وهو الآليّة والمقدّمية ـ، ويحول دون تحوّله إلى ذي المقدّمة.

وبناءً على ما تقدّم لو أن العلماء وأصحاب الفكر يجعلون هذا الكتاب وهذا الأسلوب محوراً لأبحاثهم ودراساتهم الأصولية فإنّ علم الأصول يصبح أكثر فاعلية، وتتضاعف ثماره العملية وفوائده.

ولكنْ ـ مع الأسف ـ الكثير من المباحث الأصولية تفتقر إلى البحث التطبيقي، بل تظهر على شكل كلِّياتٍ وقواعد عامّة؛ إمّا لا مصاديق لها؛ أو إنّ مصاديقها إنْ وُجدَتْ لا تكون واقعية، وكانوا يقولون: «إنّما يظهر الثمر في النَّذْر»، ولو كان لها مصاديق واقعية فهي محدودةٌ وقليلة، الأمر الذي يصرف انتباه الأستاذ عنها، ‌ويساهم في إغفالها وعدم أخذها بعين الاعتبار في عملية الاستنباط.

وكثيراً ما يحصل أنّ الطالب عندما يسأل أستاذه عن موارد إعمال القاعدة والمسألة الأصولية يجيب الأستاذ بأنّ ثمرة هذا البحث علميةٌ، ولا مصاديق تطبيقيّة له.

إنّ مدرسة وأسلوب الشهيد الثاني، مضافاً إلى أنّهما يساهمان في معالجة نقاط الضعف والنواقص التي ابتُلي بها علم الأصول، لهما فوائد وثمار كثيرة يجب الاعتناء ببحثها ودراستها في محلّها.

 

2ـ طرح الأقوال والآراء المختلفة

قبل الدخول في كلِّ مبحثٍ ‌يستعرض الشهيد الثاني الأقوال والآراء المختلفة فيه. وأحياناً يصل عدد الأقوال التي يوردها في القاعدة الأصولية الواحدة إلى عشرة أقوال. نذكر على سبيل المثال: القاعدة الحادية والثلاثون في مفهوم الأمر، الأعمّ من كونه بصيغة الأمر أو الفعل المضارع المتّصل بـ «ال» أو اسم الفعل، يورد فيها أربعة عشر قولاً.

 

3ـ الالتفات إلى بعض المباحث المحورية

لقد اعتنى الشهيد الثاني بشرح وتوضيح بعض المطالب التي تعدّ محور البحث والعلم. فعلى سبيل المثال: إنّ محور علم الفقه، وبالتَّبَعية له علم الأصول الذي يعدُّ مقدمّة الفقه، هو الحكم الشرعي. ولم يوضِّح الباحثون هذه المباحث المحورية في فصلٍ أو عنوان مستقلّين. ولكنّ الشهيد يُورِد تعريفاً وشرحاً كاملاً للحكم وأقسامه في المقصد الأوّل. وهذا النقص مشهودٌ في الكتب الدراسية في عصرنا الحاضر، وهو ما يُبقي الكثير من مباحث الكتاب التي تتوقَّف على ذلك مُبْهَمةً حتّى النهاية.

 

4ـ توظيف علوم اللغة العربية في مسيرة الاجتهاد

وهذه الميزة توجب نضوج وتكامل محتوى علم الأصول. كما تؤدّي إلى ازدياد الرغبة والشوق لدى طلاّب العلوم الأدبية في تعلُّم تلك العلوم. ولذلك جعل الشهيد القسم الثاني من كتابه تحت عنوان: «القسم الثاني في تقرير المطالب العربية وما يتفرَّع عليها من الأحكام الشرعية»، وعمل فيه على استخراج مئة قاعدة ذات صبغةٍ أصولية أو تفيد في طريق الاستنباط، وطبَّقها ـ كما في القسم الأوّل ـ على الفروع الفقهية الكثيرة.

هذه الميزة أيضاً من المزايا التي تفرَّد بها الشهيد الثاني، والتي يجدر الالتفات إليها، ومراعاتها في الكتب والدروس المعاصرة.

 

5ـ الاستفادة من أسلوب تدوين القواعد

فبالرغم من أن هذا المنهج قد سلكه مَنْ سبق الشهيد الثاني، سواء من الشيعة، ومنهم: الشهيد الأول، أو السنّة، إلاّ أنّ في مؤلَّفات هذا الفقيه البارع طعماً ونكهة خاصّة مختلفة عن الآخرين، ولا سيَّما قواعد الشهيد الأول.

 

امتيازات منهج الشهيد الثاني على الشهيد الأوّل

ولتوضيح أسلوب الشهيد الثاني، والنكهة التي تحملها مؤلَّفاته، يجدر بنا مقارنته بأسلوب فحلٍ آخر من فحول هذا العلم، وهو الشهيد الأول، الذي كان له باعٌ في مجال القواعد. ولعلّ كتابه النفيس «القواعد والفوائد» أشهر من أن يُعرَّف. وعند مقارنة تمهيد القواعد بهذا الكتاب نشهد فرقاً واضحاً بين منهج هذين الرجلين على هذا الصعيد. ونذكر بعضاً منه:

1ـ إن كتاب القواعد يشتمل ـ إضافة إلى القواعد الأصولية ـ على قواعد علمية أخرى، من قبيل: القواعد الفقهية والأدبية. في حين أن كتاب الشهيد الثاني «تمهيد القواعد» يقتصر على القواعد الأصولية، وعندما تطرَّق إلى القواعد الأدبية العربية فقد ذكرها في مناخ حاجة علم الأصول لمثل هذه القواعد، ودخلها في هذا الإطار.

2ـ إنّ كتاب الشهيد الأول لم يُراعِ ترتيباً خاصّاً في الموضوع؛ بخلاف كتاب الشهيد الثاني، الذي دوَّنه على أساسٍ مميز وخاصّ، وبترتيبٍ معتبر.

3ـ إنّ منهج الشهيد الأول في كتابه قد طرح جميع مباحث علم الأصول؛ بينما يمكن القول: إنّ منهج الشهيد الثاني طرح جميع المباحث أيضاً إلاّ قليلاً.

4ـ الشهيد الثاني في كتابه سلك مسلكاً علمياً، فإنّه من أول الكتاب إلى آخره يطرح هدفاً، ويسعى إلى البحث عنه، وإثباته. ولقد نجح في هذا الأمر. فهو على أساس تصدّيه لبلوغ الهدف الذي أعلنه في أوّل الكتاب، حيث يقول: «ليكون ذلك عوناً لطالب التفقُّه في تحصيل ملكة استنباط الأحكام في الموارد…»، يقدِّم خدمة للفقه من جهةٍ، ولطلابه من جهة أخرى؛ على خلاف الشهيد الأول الذي لم يعلن عن هكذا هدفٍ، بل نجده في كتابه ناظراً الى مجالٍ واحد فحَسْب، لذا تراه مفعماً بالبحوث غير الأصولية.

5ـ كانت غاية الشهيد الأول من تأليفه للقواعد هو إعانة الطلاب على كيفية التفريع واستخراج الفروع من الأصل، لكنْ من دون مراعاة للأدلّة، فهو يقول في مقدّمة الكتاب: «وفرّعنا المسائل الفقهية على نفس القاعدة، من غير مراعاة الدليل المذكور، إلاّ ما شذّ».

أمّا غاية الشهيد الثاني فهي ـ إضافة إلى التفريع ـ التطبيق، فهو في أحيان كثيرة يشير إلى المنهج الاستدلالي لتفريعه، ثمّ يسعى لتطبيقه.

6ـ اهتمام الشهيد الثاني بالفروق اللغوية للمصطلحات والألفاظ الفقهية، وبيان أوجه الفرق بينها، ومن جملتها: بحث الخبر والإنشاء، في كتابه «التمهيد»؛ بينما لم يُبْدِ الشهيد الأول اهتماماً كالذي أبداه الشهيد الثاني&.

7ـ لم يَسْعَ الشهيد الأول إلى فصل القواعد الأصولية عن القواعد الأدبية؛ بخلاف الشهيد الثاني، الذي فرّق بينها، فجعل القسم الأوّل يتصدّى للقواعد الأصولية، والقسم الآخر يتعرّض للقواعد الأدبية.

8ـ مراعاة الشهيد الثاني لمسألة تقرير محلّ النزاع أولاً قبل الشروع في البحث، كما في القاعدة (52)، حيث أطنب في تقريره؛ بينما لم يُبْدِ الشهيد الأول اهتماماً بهذا الشأن.

 

 بعض أفكاره في أصول الفقه

 1ـ الحدّ الأقلّ والأكثر من الدين

من البحوث المهمّة التي يطرحها الشهيد الثاني (ضمن القاعدة 87) كون جميع أفعال النبيّ| حجّة، إلاّ ما ثبت بالدليل خلافه.

لكنّه في هامش هذا البحث يتعرّض إلى مسألةٍ مبتكرةٌ، وهي أنّه إذا كانت كلّ أفعال النبيّ| في مقام بيان الأحكام الشرعية فتحمل على العبادة، وهو الهدف من بعثة الأنبياء، وكذلك يمكن حملها على الفعل العادي؛ من باب أنّ الأصل عدم التشريع، فعند الشكّ أيُّهما يقدَّم؟ يقول: في المسألة خلافٌ.

ثم إنّه يفرِّع على هذه المسألة جملة مسائل، منها:

أـ حكم جلسة‌ الاستراحة في الصلاة، واجبة أم لا؟

ب ـ دخول مكّة من الطريق الفلاني والخروج من طريق الفلاني واجبٌ أم لا؟

ج ـ نزول النبيّ| في حجّة الوداع في منطقة «محصّب» هل هو واجبٌ على الآخرين أم لا؟

ثم يقول، مضيفاً ومجيباً: «وعندنا ذلك كلّه محمولٌ على الشرعي؛ لعموم أدلّة التأسّي».

وهذه القاعدة وما ترتّب عليها من فروع تعدّ اليوم من البحوث الفقهية الرائجة، وتحت عنوان: هل الدين الحدّ الأقلّ أم الأكثر؟

 2ـ دوران الحكم بين الحكم الحكومي والأصل الأولي

يذكر في آخر شرحه للقاعدة (89) أنّ فعل النبيّ| أو قوله هو أحياناً من موقع تبليغ الأحكام الشرعية، بحيث يقع موقع الفتوى؛ وأحياناً من مقام الإمامة ولوازمها، مثل: حكم الجهاد والتصرّف في بيت المال؛ وأحياناً من موقع القضاء ولوازمه. ثمّ يضيف بعد ذلك متسائلاً: في حال الشكّ ما العمل؟

وثمرة ‌هذا البحث تظهر في مثل قوله|: «مَنْ أحيا أرضاً ميتاً فهي له». فلو كان في مقام التبليغ فلا يلزم إذْنُ الإمام في عصر الحضور أو نائبه (الوليّ الفقيه) في عصر الغيبة، ولو كان غير ذلك فالإذن لازمٌ في المقام.

ومن هنا ففي موارد الشكّ يجب الحمل على ما في حيثية الصدور، من باب ترجيح الغالب على النادر.

 

 3ـ دوران الفعل بين الوجوب والندب

لو ثبت فعل من أفعال النبيّ الأكرم| بقصد القربة، لكنْ شُكَّ في أنّه واجبٌ أم مستحبّ؟ فهل يحمل على الوجوب أم الندب؟

يذكر الشهيد الثاني هذه المسألة في ذيل القاعدة (89)، ويعقِّب أنّ لها ثمرات فقهية، منها: رعاية التأسّي برسول الله في تحصيل الطهارة من غير الغسل، والموالاة في الطواف، وتقدّم خطبة الجمعة أو العيد إذا اجتمعا، والمبيت في المشعر الحرام، وغير ذلك.

ومن هنا فمن الضروري مطالعة تاريخ وسيرة المعصومين^؛ حيث إن مصاديق هذه المسألة وما يماثلها تكثر في سيرتهم^.

 

4ـ تعارض الأصل والظاهر

من البحوث التي انفرد الشهيد الثاني بطرحها بحث تعارض الأصل مع الظاهر، الذي يعالجه مفصّلاً في القاعدة (99)، حيث يبحثه في أربعة أقسام:

أوّلها: الموارد التي يعمل بظاهرها، فأتى بما يقارب أحد عشر مصداقاً فقهياً لها.

ثانيها: الموارد التي يعمل فيها بالأصل، لا الظاهر، من باب أنّه دليل شرعي، فأتى بسبعة مصاديق.

ثالثها: الموارد التي يعمل فيها بالظاهر، ويترك العمل بالأصل، لا من باب أنّه دليل شرعي، وإنّما من باب تقديم الظاهر على الأصل. وأتى بستّة عشر مصداقاً لها.

رابعها: في موارد الشكّ أيُّهما يقدّم: الظاهر أم الأصل؟ وقد أورد سبعة مصاديق لها. وبهذا يكون المجموع ما يقارب خمسين فرعاً فقهياً كمصاديق وأمثلة للقاعدة المذكورة.

 

5ـ الضابط في دلالة الأمر على الوجوب

لو كان المكلّف راغباً بالإتيان بالمأمور به بغضّ النظر عن الأمر، وصيغة الأمر في مثل هكذا موارد لا تدلّ على الوجوب؛ لأنّ الغاية من وجوب المأمور به هو بعث وتحريك المكلَّف لتحقيق الأمر المطلوب، ومع فرض أنّ‌ التحريك حاصلٌ في نفسه فإنه& يقول في القاعدة (33): «إذا أمر بشيءٍ يتعلَّق بالمأمور، وكان عند المأمور دافع يحمله على الإتيان به، فلا يحمل ذلك الأمر على الوجوب؛ لأنّ المقصود في الإيجاب إنّما هو الحثّ على طلب الفعل».

إنّ هذه الالتفاتة من الشهيد الثاني تعدّ‌ إحدى اهتمامات هذا الفقيه على نحو الدقّة في تشخيص المطالب، وإحدى الخصائص التي تميَّز بها عن غيره من الفقهاء.

 

 6ـ أقسام متعلَّق الواجب

القاعدة (12) تبحث في أنّه إذا كان متعلّق الحكم اسماً يصدق مع القليل والكثير، وتذكر مورداً ظريفاً يتعلَّق بالحكم الإسلامي وما يصدق عليه من أمور، مثل: المسح على الرأس في الوضوء، والأضحية في الحجّ، حيث يذكر الشهيد الثاني بعد ذلك ستّ ثمرات فقهية تترتَّب على هذه المسألة.

منها: لو مسح على أزيد من حدود الصدق والمسمّى فهل يحكم على الزيادة بالوجوب أو الاستحباب؟ أقوال: أحدها: التفصيل بين أن تمسح القدم أكثر دفعة واحدة أو بالتدريج؛ ففي الصورة الأولى تمام المسح الحاصل يكون مصداقاً للواجب؛ وأمّا في الصورة الثانية فيكون بمقدار المسمّى واجباً، والباقي مستحبّاً.

ولا يخفى أنّ لهذه القاعدة مصاديق كثيرة، ومن جملتها: الزيادة على التسبيح الواحد في الركوع والسجود، والزيادة على مقدار الحلق أو التقصير. وهو يذكر خمس ثمرات فقهية تترتّب على هذا الفرع.

 

7ـ مدلول النهي بعد الوجوب

من جملة البحوث التي طرحها الشهيد الثاني: هل النهي الوارد بعد الوجوب يدلّ على الحرمة أم لا؟ فهو يعتقد أنّه كما نبحث في دلالة الأمر بعد النهي والحظر على الوجوب كذلك من المناسب البحث في دلالة النهي على الحرمة أيضاً، فيقول في القاعدة (41): «مَنْ قال: إنّ الأمر بعد التحريم للوجوب قال: إنّ النهي بعد الوجوب للتحريم أيضاً».

 

 8ـ تقدّم الاستصحاب على قاعدة اليد

في موارد تعارض الأصل مع الأمارة يقدِّم أرباب الأصول الأمارة. ومن جملة ذلك: موارد تعارض قاعدة اليد ـ التي تعتبر أمارة على الملكية ـ مع استصحاب عدم الملكية لغير ذي اليد. لكنّ الشهيد الثاني يقول في القاعدة (96): «لو تعارض الملك القديم واليد الحادثة ففي ترجيح أيِّهما قولان…. والأوّل مقدَّم»، أي يقدّم استصحاب الملك القديم.

 

 9ـ حجّية القياس المنصوص العلّة

إنّ الشهيد بعد تقسيمه القياس إلى: منطقي؛ وفقهي؛ واستقرائي، كتب يقول: إنّ القياس منصوص العلّة، أو النصّ الدالّ على العلّة؛ إمّا قطعي؛ أو ظاهر وظنّي. الأول حجّة، وتترتَّب عليه فروع كثيرة.

 

بعضٌ من أفكاره في القواعد الأدبية

ذكر جملةً من القواعد الأدبية التي تدخل في مجال الأصول، ولها علاقة بعملية الاستنباط، ومنها:

1ـ صدق الكلام على الكتابة

وقع بين أصحاب النظر بحثٌ مبنيّ على أنّ إطلاق الكلام على الكتابة والإشارة هل هو مجازيّ أم هو من باب الاشتراك اللفظي والحقيقي؟

طرح الشهيد الثاني هذا المبحث الأدبي في القاعدة (103)، ورتّب عليه ثمرات فقهية. ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى المثال التالي: لو أنّ رجلاً له زوجتان، وقال: إحداهما طالقٌ، وأشار إليها؛ فإذا كان صدق الكلام على الإشارة مجازيّاً فالطلاق لا يقع؛ وإذا كان الإطلاق من باب الاشتراك اللفظي فالطلاق واقعٌ.

 

 2ـ مفهوم اسمَيْ الفاعل والمفعول

يرى علماء الصرف والنَّحْو أنّ اسم الفاعل والمفعول يطلق حقيقةً على معاني الماضي والحال والمستقبل. أمّا الأصوليون فقد اتَّفقوا على أنّهما يطلقان على معنيي الحال والمستقبل، واختلفوا في الماضي؛ فقال الأشاعرة بأنّ الإطلاق مجازيّ؛ بينما ذهب الإمامية والمعتزلة إلى أنّه حقيقي.

يذكر الشهيد الثاني هذا البحث الأدبي ضمن القاعدة (115)، ويذكر له ثمرات فقهية عديدة، منها: قول القائل: وقفتُ داري على حفّاظ القرآن. فلو أنّ شخصاً كان حافظاً للقرآن، لكنّه الآن نسي، فعلى مذهب الأشاعرة لا يكون مصداقاً للموقوف عليه، إلاّ أنّ القاعدة تقتضي أن يكون مصداقاً له.

 

3ـ الترخيم

وهو عبارةٌ عن حذف آخر الاسم في النداء وغيره… ومن ثمرات هذا البحث الأدبي أنّ الزوج لو قال لزوجته: «أنت طالِ»، بحذف القاف، فهل تقع صيغة الطلاق أم لا؟ يتعرَّض الشهيد الثاني للمسألة في القاعدة (200)، مع ذكر أنّهم يرتِّبون الأثر على ثمرة هذه الموارد.

 

4ـ تبديل الحاء بالهاء، والقاف بالكاف

من البحوث المطروحة جواز أو عدم جواز تبديل هذه الحروف، وإنْ لم تكن شائعة، لكنّها تشتمل على ثمرات فقهية، مثل: مَنْ يلفظ «الحمد» و«الرحمن» و«الرحيم» بالهاء، فهل صلاته صحيحة؟ يذكر الشهيد في القاعدة (200) أصل المسألة، وأنّها مبتنية على أنّ القراء­ة الواجبة يجب أن تكون مطابقة لإحدى القراءات المتواترة، ثم قال: هذه القراء­ة لو أمكن تصحيحها فهي باطلة؛ وإنْ لم يمكن تصحيحها، فهي أشبه بمَنْ يلثغ، فتكون صحيحة.

 

5ـ معنى الفعل المضارع

ينقل الشهيد الثاني ضمن القاعدة (141) أقوالاً مختلفة حول معنى المضارع:

أـ مشترك بين الحال والمستقبل.

ب ـ حقيقة في الحال، ومجازي في الاستقبال.

ج ـ عكس الثانية.

د ـ حقيقة في الحال، ولا يستعمل في الاستقبال، لا حقيقةً ولا مجازاً.

هـ ـ عكس الصورة السابقة.

ويرتِّب الشهيد بعض الثمرات الفقهية على هذه الأقوال. ونذكر على سبيل المثال: إذا أقسم أحدُهم، وقال: «واللهِ لأصومنَّ»، ففي صورة عدم القرينة على تعيين الحال أو الاستقبال فطبق المعنى الأول عليه الصيام الآن أو بعد ذلك، وطبق المعنى الثاني والرابع يكون أداء الصوم في الوقت الحاضر واجباً.

 

6ـ ذكر الوصف في نهاية الجمل المتعدِّدة

يطرح الشهيد في القاعدة (192) بحثاً أدبياً اختلف فيه أرباب هذا الفنّ، وهو: إذا اشتمل الكلام على عدّة جمل، وفي نهايتها أُتي بوصفٍ، مثل: قول القائل: وقفت داري على أولادي وأولاد أولادي والطلاّب والقرّاء العدول، فهل وصف العدول متعلّق بالكلّ أم بالأخير خاصّة؟ أقوالٌ. يذكر الشهيد الثاني أنّ الوصف بناءً على تعلُّقه بكلّ الجمل فهو قيدٌ لها جميعاً، وبدون هذا القيد لن يكون الجميع مشمولين بالحكم؛ لأنّ الموضوع لم يتحقَّق.

 

7ـ أقلّ العدد

في بحث الأعداد قالوا: إنّ العدد الأقلّ اثنان، وأمّا الواحد فليس هو جزء ‌العدد، بل هو أصلٌ. وهو يذكر في القاعدة (135) أنّ لهذا البحث جملة ثمرات فقهية في باب الإقرار والوصيّة والنَّذْر وغيرها.

 

 بعض أفكاره، ونقودها

طرح الشهيد الثاني بعضاً من الأفكار لم يرحِّب بها الأصوليّون، بل صارت مورداً للنقد من قبلهم، ونذكر أهمّها:

 

1ـ مفهوم الوصف

ذكر الشهيد الثاني حجّية مفهوم الوصف والشرط، وبعد أن أورد أقوالاً اختار القول الثالث، وهو التفصيل بين المفهومين. ذكر ذلك في القاعدة (25)، رغم أنّ المشهور في الوقت الحاضر بينهم تفاوتٌ كبير على صعيد الحجّية وعدم الحجّية.

 

2ـ مفهوم الزمان والمكان

من جملة البحوث التي تعرّض لها أيضاً مفهوم الزمان والمكان. ذكره في ذيل القاعدة (28)، فيقول: «مفهوم الزمان والمكان حجّة عند جماعة، ومردود عند المحقِّقين».

 

3ـ مدلول الفكرة الواقعة في سياق الشرط والإثبات

من البحوث التي طُرحت في عصر الشهيد الثاني أنّ الفكرة الواقعة (أ) في سياق النفي؛ (ب) في سياق الشرط؛ (ج) في سياق الإثبات، هل هي من ألفاظ العموم وتدلّ عليه أم لا؟ يرى الشهيد أنّ ثلاثتها يدلّ على العموم. وقد ذكر ذلك ضمن القواعد (53، 54، و55).

 

4ـ دخول المتكلِّم في عموم الخطاب

ذكر في القاعدة (60) أنّ المتكلِّم الذي يدخل في متعلّق عموم الخطاب هل هو داخل في خطاب الخبر فحَسْب أم هو يدخل في أعمّ من ذلك، كأن يكون للأمر والنهي أيضاً؟

وقد رتّب على المسألة عشرة فروع فقهية، كلّها تدخل في عملية الاستنباط.

 

5ـ بطلان المعاملة المنهيّ عنها

يرى الشهيد الثاني أنّ النهي في المعاملات، كالنهي في العبادات، موجبٌ للفساد. يقول في القاعدة (42): «النهي في العبادات يدلّ على الفساد مطلقاً، وكذا في المعاملات، إلاّ أن يرجع النهي إلى أمر مقارن للقصد غير لازم له، بل منفكّ عنه، كالنهي عن البيع يوم الجمعة وقت النداء».

 

6ـ دخول العبيد في عموم خطابات الشارع

في نهاية القاعدة (61) يطرح الشهيد الثاني مسألة دخول العبيد والرقّ في عموم الخطابات الشرعية، كالمسلمين والمؤمنين. ورتَّب على ذلك بضع نتائج فقهية، وإنْ كان هذا الموضوع لم يَلْقَ ترحيباً من الآخرين.

 

7ـ اختصاص الخطابات بالمشافهة

ذكر في القاعدة (63) أنّ الخطابات مثل: «يا أيها الناس» ‌تشمل الحاضرين في عصر الخطاب فقط، ولا تشمل ما بعدهم. يقول: «خطاب المشافهة، نحو: «يا أيها الناس» ليس خطاباً لمَنْ بعدهم، وإنّما يثبت الحكم بدليل آخر، كالإجماع».

 

 8ـ الاختصار في بحث الخبر

من جملة البحوث التي تعرَّض لها، واشتهرت في كتب الأصوليين إلى اليوم، هو بحث حجّية خبر الواحد، وقد تعرَّض له من جهات متعدِّدة، حيث يذكر في الباب (8) من المقصد الثاني من كتابه التمهيد مطالب عديدة متعلّقة بهذه المسألة. وكذا في القاعدة (90)، حيث يذكر تعريف الخبر وفروع ذلك. وفي القاعدة (91) يبحث في مفهوم الصدق والكذب. وفي القاعدة (92) بحثٌ حول القرائن المسبَّبة للخبر ودخلها في مصداقه. فالموضوع رغم أهمّيته في علم الأصول، وقد أفرد له الأصوليون أبواباً خاصّاً به، إلاّ أنّ الشهيد لم يتعرَّض له إلاّ اختصاراً، ولعلّ ذلك عُدَّ من موارد نقص كتابه.

9ـ تهميش البحوث الأصلية

فالشهيد الثاني، وخلال بحثه حول «المفاهيم»، وهو من البحوث المحورية والمهمة في علم الأصول، نجده يوردها في الحواشي أو الملاحق لبحوث أخرى. ونرى أنّ ذلك نقصٌ يلحق بالكتاب.

 

10ـ عدم الاهتمام بالبحوث العقليّة

لم يُبْدِ الشهيد الثاني اهتماماً بالبحوث المتعلّقة بالعقل، بل يكاد لم يذكرها في كتابه، في وقتٍ تشكِّل هذه البحوث أحد مصادر استنباط الأحكام، وتحتلّ مساحةً واسعة من علم الأصول، ولها أثرٌ في مقدّمات الأدلّة الأخرى.

 

(*) أستاذٌ وباحثٌ في الحوزة العلمية. من إيران.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً