أحدث المقالات

مدخلٌ لدراسة فاحصة

ترجمة: السيد حسن علي الهاشمي

مقدّمة

رغم أنّ كتاب (الكافي) يعتبر من أهم المصادر الروائية عند الشيعة، ورغم اهتمام علماء الشيعة به منذ تأليفه، إلاّ أنّه لم يخضع للتحقيق من الناحية الروائية والرجالية. إننا نجد هذه الموسوعة الروائية ـ التي تتمتَّع بحسن تبويب منقطع النظير بين الكتب الروائية الشيعية، مقارنة بالجوامع الروائية السنية ـ تعتبر نادرة الوجود من بعض الجهات، من قبيل: اعتماد الكثير من المصادر، وذكر طرقها المتعددة، وكيفية التكرار، وتقطيع الأحاديث، وتراجم الأبواب([1])، بل يمكن القول: إنها فريدة من نوعها في هذا المجال([2]).

إلاّ أنه ـ للأسف الشديد ـ؛ وبسبب عدم كفاية الكتب المناسبة، وللأسباب المتقدّمة، فقد بقيت هذه الحسنات خافية عن الأنظار، ولم يتمّ تسليط الضوء عليها بالمقدار الكافي. بل حتّى اليوم لم يتمّ القيام بعمل دقيق في التعريف بالمصادر التي اعتمدها الشيخ محمد بن يعقوب الكليني في تدوين هذا الكتاب الجليل.

ومن جهة أخرى فإنّ روايات هذا الكتاب القيِّم تعرضت للإهمال طوال السنوات المتمادية المنصرمة. وقد خيّمت عليها سحابة كثيفة من التصحيفات. وفي حقبة ما قبل اكتشاف صناعة الطباعة كنّا نشهد من حين إلى آخر صدور نسخة خطية جديدة لم تقابل على نحو متقَن بالنسخة الخطية الدقيقة التي سبقتها، الأمر الذي فاقم من وقوع التصحيفات فيها. وبعد تحقق الإنجاز المتمثِّل بصناعة الطباعة والنشر كان من المتوقّع أن تتخلَّص الموسوعات الروائية الشيعية ـ وعلى رأسها كتاب الكافي ـ من تلك السحب والحجب المذكورة آنفاً. إلاّ أنّ هذا ـ للأسف الشديد ـ لم يتحقَّق؛ للأسباب التي يمكن تلخيصها بما يلي:

1ـ غلبة الطابع التجاري على هذه الصناعة.

2ـ عدم اضطلاع العلماء والفضلاء ـ الذين يمكنهم تحقيق النسخ الخطية تمهيداً لطبعها ـ بدورهم في هذا المجال على النحو المناسب، بل نجد أحياناً أنّ هذه المهمة الخطيرة قد أوكلت إلى غير أهلها.

واليوم بعد مضي ما يقرب من ثلاثة عقود على طباعة كتاب الكافي، بتحقيق الشيخ الغفّاري ـ الذي هو للإنصاف تحقيق يستحقّ الثناء، بالالتفات إلى الإمكانات المتوفّرة للمحقق في حينه ـ تمّت طباعة هذا الكتاب القيِّم مرّة ثانية، بتحقيقٍ آخر من قبل (مؤسسة فرهنگي دار الحديث)، مستفيدةً من أحدث الإمكانات المتقدّمة في صناعة الطباعة والنشر. إنّ هذا التحقيق الجديد ـ في حدود مطالعتي المتواضعة ـ يعتبر من وجهة نظري مقبولاً بالنسبة إلى الوسط العلمي، حيث تمّ التغلّب فيه على أكثر الأخطاء المطبعية وغير المطبعية الموجودة في الطبعة المحقَّقة السابقة.

وبالإضافة إلى ذلك فقد اشتمل هذا التحقيق الجديد على امتياز خاصّ لم يشتمل عليه إلى اليوم أيّ كتاب من الكتب الروائية الشيعية. ويتمثَّل هذا الامتياز بتصحيح أسناد الحديث من قبل الأستاذ القدير السيد علي رضا الحسيني، وتعليقاته القيّمة للغاية في ما يتعلق بوقوع التصحيفات الكثيرة التي هيمنت على أسانيد روايات هذا الكتاب الجليل طوال السنوات المتمادية. كما عمد سماحته إلى بذل مجهود آخر في هذا الكتاب يتمثَّل في الإشارات المفيدة إلى موضع وقوع التحويل في بعض الأسانيد، وتعليق بعض الأسانيد على الأسانيد المتقدِّمة عليها. وهذا مجهودٌ آخر يسجَّل لهذا الأستاذ الفاضل.

 

تنويهات قبل الدخول في صلب البحث

1ـ إنّ المنهج الذي سنعمد إلى بيانه إنْ شاء الله تعالى لا يختصّ بكتاب (الكافي)، بل يمكن توظيفه في ما يتعلَّق بتتبُّع مصادر الكتب المماثلة الأخرى أيضاً.

2ـ إنّ هذا المنهج يتمّ تكميله من خلال التوضيحات التي سنذكرها في هامش بعض النماذج. ومن هنا فإنّ ملاحظة وقراءة النماذج ضروريّة.

3ـ في هذا المنهج تكفي أحياناً النظرة إلى الروايات المحيطة برواية واحدة؛ للوقوف على مصادرها. يجب الالتفات إلى أنّ تجميع الأسانيد العديدة التي تنتهي إلى كلّ واحدٍ من الرواة، وإنْ كان هو من أفضل الأساليب لاكتشاف التصحيفات الواقعة في الأسناد، إلاّ أنّ توظيف هذا الأسلوب في عملية العثور على المصادر يمكنه أحياناً أن يؤدّي بنا إلى الخروج عن الجادة، ويوقعنا في بعض المتاهات؛ أوّلاً ـ كما سيأتي تفصيله ـ: لأنّ كلّ واحد من أصحاب الأئمة^، مضافاً إلى إمكان أن يكون راوية لكتابٍ من كتب سائر أصحاب الأئمة^ في الطبقات الأعلى منه، قد يكون بنفسه من أصحاب الكتب. وعليه إذا اعتمدنا في عملية تتبُّع المصادر على الإسناد الذي ينتهي إلى كلّ واحد من أصحاب الأئمة^ دائماً فقد نقع في الخلط في تحديد ذلك الموضع من الحديث الذي أخذ من كتاب الراوي الفلاني، وننسبه من باب الخطأ إلى كتابٍ آخر، لم يكن لهذا الراوي من دور فيه سوى روايته.

وثانياً: إنّ المحدّث عند تأليفه كلّ واحد من كتبه الروائية الجامعة، من قبيل: كتاب الصلاة، أو كتاب الزكاة، من المحتمل أن لا يستفيد في كتابه الراهن ـ لسببٍ من الأسباب ـ من مصدرٍ جامع استفاد منه فيما بعد في كتاب آخر. ويمكن أن تدخل في هذا النوع من الأدلّة أدلة من قبيل: عدم توفّر نسخة معتمدة وموثوقة من ذلك الكتاب، أو اعتماد كتاب من كتب الواسطة بشكلٍ أكثر.

4ـ عندما نقول: إنّ الشيخ الكليني قد أخذ هذا الحديث عن كتاب الشخص الفلاني، الذي هو من أصحاب بعض الأئمّة^، لا نعني بذلك أنّه أخذه من نسخته الأصلية المكتوبة بخطّ المؤلِّف بالضرورة. بل غالباً ما تكون النسخة المعتمدة نسخة مقابلة مع النسخة الأصليّة. ومن هنا تكون قد وصلت إلى الشيخ الكليني عن طريق الرواة، طبقةً عن طبقة.

 

علائم مصادر الكافي

إنّ العلائم التي سنعمد إلى تعريفها في ما يلي، وإنْ كانت لا تصحّ على إطلاقها؛ إذ هناك بعض الموارد الشاذّة، والاستثناءات التي لا يمكن لهذه العلائم أن تنطبق عليها، إلا أنّه يمكن الاستفادة من هذه العلائم في التعريف بمصادر الكافي بشكل عامّ.

1ـ إنّ النوع المعتمد من تحويل الأسانيد عند الشيخ الكليني([3])، مضافاً إلى أنه علامة على أخذ الحديث من الطبقة الثالثة في سلسلة الإسناد، فإنه يبيّن كذلك أنّ أحاديث الكافي ـ باستثناء الموارد الخاصّة والنادرة ـ في غير موارد تحويل الإسناد قد أخذت من كتب ما بعد الراويين الواقعين في بداية الإسناد، وخاصّة الشخص الثالث في الكثير من الموارد، وأنّ الشخصين الأوّلين من شيوخ الإجازة الذين يعملون على رواية كتب المحدِّثين الذين يلونهم. وبطبيعة الحال فإنّ هذا لا يتنافى وأن يكون الراويان الأولان مثل الشيخ الكليني، في كونهما يمتلكان تصنيفاً مبوَّباً أو منظماً، أو مجموعة باسم (النوادر) تمّ فيها نقل الأحاديث عن طريق العديد من المشايخ، كما حصل هذا الشيء بالنسبة إلى الطبقات التالية له، من قبيل: كتب الحسين بن سعيد، والحسن بن محبوب، مع فارق أنّ الراويين الأوّلين الواقعين في بداية إسناد الكليني إذا كانا من أصحاب الكتب فإنّ كتبهما تكون على هذا النحو دائماً؛ لأنهما لم يدركا عصر الأئمة^، أمّا الأشخاص السابقون عليهم ـ بسبب إدراكهم لأحد الأئمة أو لأكثر من إمام معصوم ـ يمكن أن يكون بينهم مَنْ هو من أصحاب المؤلَّفات التي كان يتمّ التعبير عنها أحياناً بـ (الأصول)، وكانت الأحاديث في هذه الأصول تروى عن الإمام× في الغالب من دون واسطة، كما هو الحال بالنسبة إلى الحسن بن محبوب. كما يمكنهما أن يكونا راويين لأصلٍ واحد أو عدّة أصول من أصول الرواة الواقعين في الطبقات المتقدِّمة عليهما. وعليه فإنّ الشيخين اللذين هما من شيوخ الإجازة، والواقعين في بداية إسناد الكليني، مضافاً إلى روايتهما لكتابٍ من الكتب المعروفة بـ (الأصول)، هما في الغالب من أصحاب المصنَّفات التي تمّ تأليفها اعتماداً على العديد من تلك الأصول. إلاّ أنّ الأسانيد التحويلية عند الكليني وغيرها من القرائن ـ التي ستتّضح من خلال ذكر النماذج ـ تثبت لنا أنّ الشيخ الكليني لم يأخذ أحاديث الكافي عن كتبهما، إلا في بعض الموارد الخاصّة والنادرة.

وإنّ الأفراد المتقدّمين على شيخي الإجازة الواقعين في بداية إسناد الكليني، مضافاً إلى كونهم رواة كتاب من كتب أصحاب الأئمة^، باسم (الأصول)، عن الطبقات المتقدّمة عليهم، هم في الغالب أيضاً من المؤلِّفين لأصلٍ من الأصول، وأحياناً يكونون من المؤلِّفين لكتبٍ معتمدة على تلك الأصول المؤلَّفة. وطبقاً لعلامة تقدّم ذكرها اعتبرتُ ـ في النموذج الذي سأذكره عمّا قريب ـ عدم أخذ الحديث عن الشخصين الأوّلين في أسناد الكليني أمراً مفروغاً عنه. وطبعاً فإنّ موارد أخذ الحديث من كتب الراويين الأوّلين قليلة جدّاً، ولا تحتاج إلى بحث خاصّ؛ إذ إنّ سند الحديث في هذا النوع من الموارد مرسَل، ويشتمل على اسم الشخص الأوّل والثاني فقط([4])، أو مجرّد الشخص الأول الذي هو الشيخ الكليني ذاته([5]). وفي الصورة الأولى يكون تحديد الحديث، وكونه من كتاب الراوي الأول أو الثاني، سهلاً أحياناً([6])، وفي غاية التعقيد في أحيان أخرى. وفي هذه الصورة نحتاج إلى الجمع بين القرائن الخارجية.

2ـ إنّ تكرار اسم راوٍ واحد في أواسط([7]) إسناد متعدِّد بشكلٍ متقارب، ورواية الراوي المشار إليه عن مختلف المشايخ، علامة على أنّ هذا الحديث قد أخذ من كتاب الراوي المذكور ـ الذي هو كتاب واسطة قد تمّت كتابته اعتماداً على أصول متعدّدة ـ، شريطة أن يكون الإسناد المشار إليه ـ من قبيل ما سيأتي ذكره في العلامة الثالثة ـ لا ينتهي إلى شخصٍ واحد دائماً.

3ـ إنّ التكرار الكثير لسندٍ واحد أو عدّة أسانيد تنتهي بأجمعها إلى أحد أصحاب الأئمة^، فيما إذا كان مشترَكاً أيضاً مع الراوي المباشر لصاحب المعصوم، يدلّ بشكلٍ عامّ على أنّ الحديث مأخوذ من كتاب صاحب المعصوم^. ومن الطبيعي أنّه كلّما كثر التكرار المشار إليه فإنّ هذا سيرفع من رصيد الاطمئنان.

 

نماذج من تتبّع المصادر

النموذج الأوّل: أخذ الحديث من كتاب عبد الله بن المغيرة.

الكافي: عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن سماعة، قال: سُئل عن الأسير يأسره المشركون، فتحضر الصلاة، ويمنعه الذي أسره منها؟ قال: «يومئ إيماءً»([8]).

يبدو أنّ هذا الحديث قد أخذ من كتاب عبد الله بن المغيرة؛ إذ نقل الحديث السابق عليه بهذا الإسناد: «عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن معاوية بن ميسرة: أنّ سناناً سأل أبا عبد الله×…»([9]).

وقبل ذلك ببضعة صفحات، في باب (الرجل يُصلي في الثوب وهو غير طاهر…)، هناك حديثٌ منقول بهذا الإسناد: «عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن سنان، قال: سألتُ أبا عبد الله×…»([10]).

إنّ هذا الإسناد، وما كان على شاكلته في الأبواب الأخرى من كتاب (الصلاة)، يثبت لنا أنّ موضع الافتراق هو عبد الله بن المغيرة، وأنّ الحديث ـ بالالتفات إلى العديد من كتب أصحاب الأئمة^، من قبيل: كتاب سماعة بن مهران، وكتاب معاوية بن ميسرة، وكتاب عبد الله بن سنان ـ قد أخذ من كتابه.

النموذج الثاني: أخذ الحديث من كتاب الحسين بن سعيد الأهوازي، وسماعة بن مهران.

الكافي: جماعة، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن أخيه الحسن، عن زرعة، عن سماعة، قال: سألتُه عن الضحك، هل يُبطل الصلاة؟ قال: «أمّا التبسّم فلا يقطع الصلاة، وأما القهقهة فهي تقطع الصلاة».

ورواه أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة([11]).

أما السند الثاني الذي ذكر بعد ذلك؛ لدعم وتعزيز هذا السند، فسوف نبحثه لاحقاً. وأما في ما يتعلّق بهذا السند الأوّل الذي نقلنا الحديث من طريقه فيبدو أنه أخذ من كتاب الحسين بن سعيد؛ إذ روي قبل بضعة صفحات منه في باب (ما يُقبل من صلاة الساهي) حديثٌ بهذا السند: «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد الله×:…»([12]).

وبعد عدّة صفحات من ذلك، وفي باب (بناء المساجد وما يُؤخذ منها…) بالتحديد، هناك حديثٌ بهذا السند: «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضّالة بن أيوب، عن رفاعة بن موسى، قال: سألتُ أبا عبد الله×:…»([13]).

وهناك أيضاً حديثٌ آخر، في ذات الباب، مرويّ بهذا السند: «جماعة، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن مهران الكرخي، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله×، قال:…»([14]).

إنّ الأسانيد التي هي من هذا النمط، وهي كثيرةٌ في كتاب الكافي، ولم نذكر إلاّ نماذج منها، توضِّح لنا أنّ موضع الافتراق هو الحسين بن سعيد، وأنّ هذا الحديث قد أخذ من كتابه، الذي ألَّفه بالاعتماد على الكثير من الكتب التي ألَّفها أصحاب الأئمة^؛ وذلك لأنّه روى الكثير من الأحاديث بأسانيد متعدِّدة عن غير سماعة من أصحاب الأئمة^ الآخرين.

والمؤيِّد لذلك أنّه باستثناء الحديث الثاني (حديث محمد بن مسلم) نجد الشيخ الطوسي، الذي لا يروي هذا الحديث أصلاً، قد نقل سائر الأحاديث المذكورة في كتابه (تهذيب الأحكام) معلَّقاً من طريق الحسين بن سعيد عن طريق ذات الإسناد الموجود في الكافي([15]). وقد نقل هذه الأحاديث مباشرة من كتاب الحسين بن سعيد، أو من كتاب الكافي. وحيث إنه كان يعلم أنّ الكليني قد أخذ الأحاديث المذكورة عن كتاب الحسين بن سعيد فقد بدأ سنده معلَّقاً بالحسين بن سعيد.

وأما في ما يتعلَّق بالسند الذي ذكر بعد الحديث السابق؛ بغية دعمه وتقويته، فيبدو أنّه قد أخذ من نفس كتاب سماعة (أصل سماعة)، برواية جماعة من مشايخ الكليني، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن (سماعة)؛ لأنّ الأسانيد التالية:

ـ محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة.

ـ عدّة من أصحابنا (أو جماعة)، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة.

ـ محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة.

من أسانيد الكليني المشهورة، وقد تكرَّر مراراً في كتاب الصلاة وغيره. وإن عثمان بن عيسى قد روى الكثير من الأحاديث عن سماعة([16])، الذي يعتبر من أهمّ رواة كتابه([17]). وإنّ أخذ الحديث في مثل هذه الموارد من كتاب سماعة، برواية عثمان بن عيسى، لا ينافي مصدريّة كتاب عثمان نفسه في سائر المواضع التي نطمئن فيها إلى أخذ الحديث من كتابه([18]).

وطبعاً من الممكن أن يقول شخص: هناك احتمالٌ بأن يكون عثمان بن عيسى قد ضمّ جميع كتاب سماعة في كتابه ـ المشتمل على نقل الحديث عن مشايخه الآخرين ـ ولم يروِ نسخةً مستقلّة عن كتاب سماعة، ففي هذه الصورة يجب القول: إنّ هذا الاحتمال يسري أيضاً على سائر الموارد التي يكون فيها مؤلِّف كتابٍ راوياً لكتابِ مؤلفٍ آخر. وإذا أردنا الالتزام بهذا النوع من الاحتمالات لم يعُدْ باستطاعتنا أن نثِقَ بوصول أيِّ نسخةٍ من أصل كتب أصحاب الأئمة^ إلى الطبقات الدنيا، فما ظنُّك بطبقة مؤلِّفي الكتب الأربعة أنفسهم.

أما لماذا عمد الشيخ الكليني إلى أخذ الحديث ـ الذي ذكرناه كنموذج ـ من كتاب الحسين بن سعيد، واكتفى بذكر السند الثاني بشكلٍ تبعي([19])؛ لتعزيز وتقوية سند الحديث الأول، في حين كان بإمكانه نقل هذا الحديث من خلال هذا السند بوسائط أقلّ من كتاب سماعة؟ فجوابه: إنّ ذلك يعود إلى اعتماد الشيخ الكليني الكثير على رواية زرعة بن محمد، عن سماعة. ولو كان الكليني أثناء كتابة هذا الحديث يمتلك نسخة من كتاب سماعة برواية زرعة لما كانت هناك ضرورة إلى أخذ هذا الحديث من كتاب الحسين بن سعيد. من هنا فحيث كانت رواية زرعة عن سماعة عند الكليني أكثر اعتباراً من رواية عثمان بن عيسى عن سماعة فقد جعل رواية زرعة عن سماعة هي الأصل، ورواية عثمان بن عيسى عن سماعة بشكلٍ تبعي؛ لمجرّد دعم وتقوية الرواية التي اعتبرها أصلاً.

النموذج الثالث: أخذ الحديث من كتاب الحسن بن راشد (جدّ القاسم بن يحيى)([20]).

الكافي: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسن بن راشد، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله×، قال: «قال أمير المؤمنين×: اذكروا الله عزّ وجل على الطعام، ولا تلغطوا؛ فإنّه نعمة من نعم الله، ورزق من رزقه، يجب عليكم فيه شكره وذكره وحمده»([21]).

لقد أخذ هذا الحديث من كتاب الحسن بن راشد، الذي هو جدّ القاسم بن يحيى. والشاهد على ذلك ـ خلافاً للنماذج السابقة ـ ليس في تكرار اسم الراوي في إسناد قريب من بعضه، وروايته عن مختلف المشايخ في الأسناد المذكور، وإنْ كانت هذه القرينة موجودة في هذه الرواية المنتخبة عن الحسن بن راشد؛ إذ إنّ سند الحديث السابق على هذا الحديث هو: «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسن بن راشد، عن ابن بكير، قال:…»([22]). بيد أنّ هذا مجرّد استثناء؛ فإنّ أغلب روايات الحسن بن راشد منقولة في الكافي بشكل مبعثر ومتفرّق.

إنّ الدليل الرئيس على أخذ هذه الرواية، بل وجميع روايات القاسم بن يحيى في الكتب الأربعة، من كتاب جدّه الحسن بن راشد هو أنّ القاسم لا يروي إلاّ عن جدّه الحسن بن راشد([23]). وعليه فإنّ القاسم بن يحيى هو راوية كتاب جدّه الحسن بن راشد، وهو الكتاب الذي ألَّفه هو أو جدّه، أو أنّه أملاه على حفيده القاسم بن يحيى([24]). وأحياناً نجد الحسن بن راشد يروي الحديث عن الإمام× بواسطة، كالنموذجين اللذين تقدَّم ذكرهما، وأحياناً يروي عن الإمام× مباشرة([25]). ومن المستبعد أن يكون الحديث مورد البحث مأخوذاً من كتاب محمد بن مسلم؛ إذ كما أسلفنا فإنّ الحسن بن راشد يروي الكثير من الأحاديث عن الإمام× مباشرةً ومن دون واسطة، كما أنّه في الكثير من الموارد التي يروي فيها بالواسطة يروي عن العديد من الأفراد. ومن هنا يبعد احتمال أن تكون الأسانيد التي يروي فيها الحسن بن راشد عن الإمام× بواسطة طرقاً إلى كتب أحاديث الأفراد الذين يقعون بعده في سلسلة الرواة، من أمثال: محمد بن مسلم في السند مورد البحث.

النموذج الرابع: أخذ الحديث من كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر.

الكافي: عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نصر، عن داود بن سرحان، عن عبد الله بن فرقد، عن حمران، عن أبي جعفر×، قال: «إنّ رسول الله| حين صُدّ بالحديبيّة قصَّر، وأحلّ، ونحر، ثمّ انصرف منها…»([26]).

يبدو أنّ هذا الحديث قد أخذ من كتاب ابن أبي نصر. كما يشهد لذلك الحديث التالي له ـ والذي هو مأخوذٌ من كتابه قطعاً ـ وهو الحديث القائل: «عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد؛ ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، جميعاً، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: سألتُ أبا الحسن× عن…»([27]).

في هذا السند ـ كما نلاحظ ـ هناك تحويلٌ للسند. ورواية ابن أبي نصر مباشرة عن الإمام× دليلٌ قاطع على أخذ الحديث من كتابه. وكذلك الأحاديث الخمسة اللاحقة بالإسناد التالي: «عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن أبي نصر، عن مثنّى، عن زرارة، عن أبي عبد الله×، قال:…»([28]).

وكذلك الحديث السادس ـ الذي نقل بعد الحديث السابق ـ بهذا الإسناد: «سهل، عن ابن أبي نصر، عن رفاعة، عن أبي عبد الله×، قال:…»([29]).

إنّ إسناداً من هذا النوع ـ الذي لم ننقل إلاّ بعضاً من نماذجه ـ يدلّنا على موضع افتراق ابن أبي نصر، وأنّ هذه الأحاديث قد أُخذت من كتابه، الذي ألَّفه بالنظر إلى العديد من كتب أصحاب الأئمّة^، ومسموعاته التي سمعها من الإمام× مباشرة.

 

الهوامش

([1]) المراد عناوين الأبواب التي هي نوع تعريف بروايات الأبواب.

([2]) كان في نيّة كاتب المقال أن يذكر نماذج عن كيفية تكرار وتقطيع الأحاديث، والتعريف بالأبواب الموجودة في الصحاح الستّة عند أهل السنة؛ بغية مقارنتها وبيانها للقارئ الكريم، إلاّ أنّ ضيق الوقت ـ للأسف الشديد ـ حال دون ذلك. ومن هنا فقد أوكل ذلك إلى فرصة لاحقة.

([3]) من قبيل هذا السند: الكافي: عليّ بن إبراهيم، عن أبيه؛ ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعاً، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة. ففي هذا السند ـ الذي تكرر ذكره في كتاب الكافي مراراً ـ روى عن حمّاد بن عيسى من طريقين: الأوّل: «عليّ بن إبراهيم، عن أبيه»؛ والثاني: «محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان». وبطبيعة الحال فإنّ الأسانيد التحويلية عند الكليني لا تتمتَّع بمثل هذا الوضوح دائماً؛ إذ لا تقترن دائماً بكلمة مثل: (جميعاً)، كما في الإسناد التالي: الكافي: «عليّ بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر؛ وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله×، قال:…». (الكليني، الكافي 6: 92، ح4903). ففي هذا السند ـ الذي هو من نوع الإسناد التحويلي عند الشيخ الكليني ـ روى عن عبد الله بن سنان من طريقين: الأول: «عليّ بن محمد ومحمد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر»؛ والثاني: «عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة». وسوف تلاحظون تفصيلاً أكبر في ما يتعلَّق بتحويل السند والأسناد التحويلة في الكافي في المقالة الثانية إنْ شاء الله تعالى.

([4]) من قبيل هذا الحديث: الكافي: «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى رفعه عن أبي عبد الله×، قال: إذا قمت في الصلاة..». (الكليني، الكافي 6: 114، ح4926).

([5]) من قبيل هذا الحديث: الكافي: «محمد بن يحيى رفعه عن الرضا×، قال: الإمام يحمل أوهام مَنْ خلفه، إلاّ تكبيرة الافتتاح». (الكليني، الكافي 6: 248، ح5146).

([6]) من قبيل هذا الحديث: الكافي: «عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد رفعه عن أبي عبد الله× قال: يُكره السواد…». (الكليني، الكافي 6: 414، ح5380)؛ إذ يتضح من خلال التعبير بـ (عدّة من أصحابنا) أنّ الحديث مأخوذٌ من كتاب أحمد بن محمد. وطبعاً يجب الالتفات إلى أنه في الموارد التي لا يكون فيها الشخص الثاني شيخاً للشخص الأول، وكان بين هذين الشخصين انقطاع في السند، كان الحديث بحكم الموارد التي يُذكر فيها الشخص الأوّل في الإسناد فقط. ويكون احتمال أخذ الحديث من الشخص الثاني منتفياً من الأساس، من قبيل هذا الحديث: الكافي: «عليّ بن إبراهيم رفعه عن محمد بن مسلم، قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله×…». (الكليني، الكافي 6: 101، ح4910).

([7]) المراد من وسط الإسناد هنا ليس الوسط اللغوي والحرفي الدقيق، بل إنّ المراد منه يشمل ما كان قريباً من نهاية السلسلة أيضاً.

([8]) الكافي 6: 437، ح5420.

([9]) المصدر السابق، ح5419.

([10]) المصدر السابق : 423، ح5395.

([11]) المصدر السابق : 294 ـ 295، ح5203.

([12]) المصدر السابق : 290 ـ 291، ح5198.

([13]) المصدر السابق : 313، ح5232.

([14]) المصدر السابق : 314 ـ 315، ح5235.

([15]) انظر: تهذيب الأحكام 2: 324، ح1325؛ 3: 257، ح715 و719.

([16]) ذكر في معجم رجال الحديث (ج11: 120 ـ 121) أنّ مجموع ما رواه عثمان بن عيسى في الكتب الأربعة يبلغ 743 مورداً، وفي 460 مورداً منها كان شيخه سماعة بن مهران.

([17]) انظر: رجال النجاشي: 194، رقم517، فهو رغم قوله: إنّ هناك الكثير ممَّنْ روى كتاب سماعة، إلاّ أنّه يذكر الطريق الذي ينتهي إلى عثمان بن عيسى. وعندما تضعون هذه المسألة إلى جانب المرويات الكثيرة التي يرويها عثمان عن سماعة ستدركون أنه قد لعب دوراً كبيراً في رواية كتاب سماعة.

([18]) انظر إلى هذين النموذجين الواضحين من أخذ الحديث عن كتاب عثمان بن عيسى المتتاليين. وفي الثاني نجد عثمان بن عيسى يروي عن الإمام× مباشرة:

1ـ الكافي: عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عمَّنْ أخبره، قال: قال أبو عبد الله×: «كفّوا ألسنتكم…».

2ـ الكافي: عنه، عن عثمان بن عيسى، عن أبي الحسن (صلوات الله عليه)، قال: «إنْ كان في يدك…». (الكليني، الكافي 3: 571، ح2276 ـ 2277).

لا بدّ من الالتفات إلى أنّ مرجع الضمير في كلمة (عنه) في سند الحديث الثاني، هو أحمد بن محمد الوارد في سند الحديث الأول. وإنّ السند الثاني هنا معلَّق على سند الأول، أي إنّ أصل سند الحديث الثاني هو: «عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى».

([19]) إذا كان ناقل الحديثين المتشابهين لفظاً أو معنى شخصاً واحداً، وكان اختلاف السند في الراوي يرجع إلى هذا الناقل وما دونه، أطلق على هذه الظاهرة تسمية (المتابعة).

([20]) الحسن بن راشد اسمٌ مشترك بين عددٍ من الرواة، والمراد من الحسن بن راشد هنا هو جدّ القاسم بن يحيى، الذي يروي عنه دائماً.

([21]) الكليني، الكافي 12: 375، ح11694.

([22]) المصدر السابق: 374، ح11693.

([23]) انظر: معجم رجال الحديث 14: 66.

([24]) احتمال الإملاء أقوى؛ لأنّ الشيخ الطوسي قال في الفهرست: 127، رقم564: «القاسم بن يحيى الراشدي [نسبةً إلى جدّه الحسن بن راشد البغدادي]، له كتاب فيه آداب أمير المؤمنين×». ومن جهة أخرى فإنّ الكثير من الروايات التي يرويها القاسم بن يحيى عن جدّه ـ بما في ذلك الرواية المتقدّمة ـ هي أحاديث عن أمير المؤمنين×، ومنسجمة مع موضوع الكتاب المذكور. وعليه تكون الروايات المذكورة مأخوذة من هذا الكتاب. وإنّ سهم القاسم بن يحيى من هذا الكتاب ـ الذي نسبه الشيخ الطوسي إلى القاسم بن يحيى ـ لا يعدو الكتابة وجمع الروايات عن جدّه. فهو من قبيل: الأمالي، التي تنسب أحياناً إلى كاتبها من باب المسامحة. ولا يخفى على أهل الفنّ أنّ الكتب التي تروى أكثر رواياتها عن طريق أحد أساتذة وشيوخ أصحاب الكتب يتمّ التشكيك في صحّة نسبتها إلى كاتبها، فضلاً عن أن تكون جميع روايات الكتاب مرويّة عن شيخ واحد، كما في الحالة مورد البحث. وهذا ما انتبه إليه النجاشي، المعروف بدقته العميقة، فتعامل في نسبة بعض الكتب إلى مؤلِّفيها طبقاً للدقّة المشار إليها. ومن باب المثال قال في بيان حال حمّاد بن عيسى (رقم370): «له كتاب الزكاة، أكثره عن حريز، ويسيرٌ عن الرجال». وقال في بيان حال عبد الله بن مسكان (رقم559): «له كتب، منها كتاب في الإمامة، وكتاب في الحلال والحرام، وأكثره عن محمد بن عليّ الحلبي»، وكذلك قال في بيان حال عبد الله بن وضّاح (رقم560): «له كتب يُعرف منها كتاب الصلاة، أكثره عن أبي بصير». وعلى هذا الأساس لا يعدو سهم هؤلاء من الكتب المذكورة سوى الكتابة، أو استنساخ كتب شيوخهم المتقدِّمين، مع إضافة بعض الروايات القليلة إليها عن غيرهم من الشيوخ.

([25]) من باب المثال انظر: الكليني، الكافي 1: 282؛ 3: 267، هامش ح1763، 346، ح1911؛ 4: 731، ح3700.

([26]) المصدر السابق 8: 467، ح7353.

([27]) المصدر نفسه، ح7354.

([28]) المصدر السابق: 473، ح7358.

([29]) المصدر نفسه، ح7359. هناك تعليقٌ في سند هذا الحديث بسبب الاختصار. والرواي عن سهل بن زياد في هذه الرواية (عدّة من اصحابنا) أيضاً. وقد ذكر ذلك في الرواية السابقة على هذه الرواية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً