أحدث المقالات

نحو علاقة أفضل

د. الشيخ حميد پارسانيا(*)

ترجمة: علي آل دهر الجزائري

العلوم العقلانية في الحضارة الإسلامية ــــــ

_ ما هي خصائص العقلانية والعلوم العقلية في التمدن الإسلامي؟ وما الذي يميزها عن غيرها؟

^ إن أهم ما يميز العلوم العقلية في الإسلام أنّ الموروث العقلي في العالم الإسلامي لا مثيل له، وبهذه الخصوصية التي تتوفر عليها العقلانية في الثقافة الإسلامية تعتبر لا نظير لها. وأقصد بعقلانية الثقافة والتمدن الهوية الثقافية للعلوم العقلية. أحياناً يبحث عن حقيقة العقل وهو «أول ما خلق الله»، والذي حمله البعض حتى على ما وراء العقل. وعلى أية حال فإن واحدة من مراتب نفس الأمر للحقائق هي نفس العقل، يعني أن نفس أمر الحقائق موجود فيه، وهو من حقيقة العوالم. وبعبارة أخرى: عندما تظهر الحقائق وتتجلى فإن أوّل مراتبها هو العقل بذاته.

والعقل في مرتبة نزوله يظهر بشكل العقل البشري. وبعبارة أخرى: إنّ العقل يكتسب الفعلية بالعقل البشري، ثم يدخل المجال الثقافي بواسطة الأشخاص، ويدخل نظام التعليم والتعلّم والتربية والتعليم. وعندما ادعى أرخميدس أنّه أدرك حقيقة فقد دخل في المرحلة التالية إلى ميدان التاريخ والتعليم والتعلّم، وشغل حيزاً من الثقافة والتعليم، وأثمر لوازم تمدنه. وتتحقق للحضارات بما يناسب قابليتها فرصة ظهور العقل. ويمكن أحياناً أن لا تجد طريقاً للظهور والبروز. وعلى أية حال فإن العقل ظهر في العالم الإسلامي والثقافة والحضارة الإسلامية؛ بسبب قابلية الإسلام أكثر من كل الثقافات والحضارات الأخرى.

لقد احتوت الثقافة الإسلامية؛ بسبب الميزة المختصة بالدين الإسلامي، الميراث العقلي للثقافات السابقة عليه، أي إنّ الجانب العقلي للثقافات البشرية قد جذبها الإسلام إليه واحتضنها، وهيأ الفرصة لنموها وتطورها، ولم يذهب المسلمون باتجاه الأساطير عند المواجهة مع الثقافة اليونانية، ولم تدخل ترجمتها في الثقافة الإسلامية، بل اشتقّ المسلمون العناصر العقلية منذ البداية. يقول شيخ الإشراق في هذا المجال: كانت هناك طائفة تدخل كل ما عليه اسم اليونانيين في مجال العقلانية؛ بسبب انبهارهم به في البداية، لكن لم تدخل أي من تلك الترجمات إلى التاريخ الإسلامي، وحصلت تنقية لذلك المقدار من الجانب العقلاني الذي كانت له جذابيته الخاصة في الثقافة الإسلامية. والنقطة الجديرة بالاهتمام أن العقل والعقلانية كان هو العنصر المحوري في الثقافة اليونانية.

وقد عرّض سقراط بتجرعه كأس السم ذهنية شباب المجتمع والثقافة الغالية إلى هزّةٍ عنيفة من خلال توجهه العقلاني، لكن ذلك لم يحدث في الثقافة الإسلامية؛ بسبب الأجواء المعينة. وأخذ العنصر العقلي، وأهملت سائر العناصر. وقد لاحظنا في ثقافتنا سعي الفارابي إلى حلّ المعضلات الفلسفية. ولم يكن كلام أرسطو أو أفلاطون مهماً بالنسبة له. والأمر المهم بالنسبة له أن يكتشف الحقيقة، كالجهد الذي قام به لحل مسألة المثل، والتي كانت هاجس سقراط وأرسطو وأفلاطون وابن سينا وملا صدرا أيضاً، أي إن دراسة الظواهر الموجودة وكشف الحقيقة كان غايتهم الأساسية.

بين العقلانية الإسلامية وعقلانية العصر الحديث ـــــــ

_ ماهي العلاقة بين العقلانية في الإسلام والعقلانية في العصر الحديث؟

^ لابد من ملاحظة مميزات العقلانية التي نمت في الثقافة الإسلامية. فهذه العقلانية تقع في مقابل العقلانية الحديثة. إن ميزة العقلانية الحديثة أنها بدأت بالتيار القومي وبنوع من المعرفة العقلية المفهومية وإطلاق ذلك العقل المفهومي الذي يفتح باب الإنكار على المعارف ما وراء العقلية والشهودية والوحيانية، بينما تتنزل العقلانية الحديثة في ما بعد إلى حد العلوم الوضعية والعقلانية الأداتية. ويمكن ملاحظة قمة العقلانية القومية عند (هيغل). وقد أوكل دفن هذه العقلانية إلى (كانْت). وبدلاً من تعرفها على التنوير الذي حولها أصبحت بحاجة إلى التنوير. وما كان رمزاً للتنوير الحديث بالنسبة إلى عالم الوجود أصبح بحاجة إلى أن يقع تحت التنوير. ولم تكن تلك العقلانية سوى حجاب ظهر بصورة العقلانية الأداة والوضعية، والذي يشاهد الآن بشكل واضح.

إن أهم ميزة في العقلانية الإسلامية اهتمامها بالمعرفة ما وراء العقلية والشهودية والوحيانية. وفيما يعتبر الاهتمام بالشهود الرومانسية في العالم الحديث تياراً ضد الحداثة وضد التنوير لا يكون الاهتمام بالشهود في العالم الإسلامي معارضاً للعقل، بل يمكن أن ينجسم مع العقلانية أيضاً، بل إنه بحاجة إلى ذلك الانسجام الذي لو فقده سيتجه نحو الشهود المتنزل والخلجات الشعورية. وتلك مشكلة يواجهها الاتجاه الشهودي الحديث، بحيث لو جمع الشهود مع العقلانية لساقه ذلك الشهود نحو التعالي [والرقي].

وقد كان هذا الارتباط بين العقلانية والفضاءات المتعالية من المعرفة موضع اهتمام في العالم الإٍسلامي. ونتيجة ذلك وجود منزلة رفيعة ـ إلى جنب الوحي والشهود ـ للنقل (بصفته نصاً) إلى جنب العقل في متناول المفكِّرين والعقلاء.

وتكون هذه العقلانية ـ بلحاظ الموضوعات التي تبعتها ـ مرتبطة بالعمل أحياناً، فتسمى (العقل العملي)، وتقع في إطار الوجود أحياناً أخرى، فيطلق عليها (العقل النظري). إن مستويات العقل النظري، سواء في أبعاده الميتاميزيقية أو أبعاده الطبيعية الفيزيائية والرياضية، تغدو من موضوعاته؛ بسبب معيتها للوحي، أو نظراً لأخذه بالاعتبار. لذا فالعلوم النقلية ازدهرت وتطورت كثيراً في أجواء هذه العقلانية (العقل الاستنباطي)، التي موضوعها النقل وتطبيق فهم معنى النقل والنص، وقد ملأت جانباً مهماً جداً في العالم الإسلامي. ويمكن تطوير الجوانب الأخرى إلى أوسع من ذلك، والتي يمكن العثور على جذورها في غير العالم الإسلامي أيضاً. وهذا القسم الذي تكوّن بمعية النقل (النص) هو وراء طور العقل النظري والعقل العملي. وإن للعقل الاستنباطي في مجال العقل النظري والعملي ميزاته، بالإضافة إلى الاختلافات التي فيه، وهي سمة العقلانية التي نلاحظها في أوساطنا الحوزوية. وهذه العقلانية تتمتع بكمية وكيفية ممتازة. وجزء كبير من هذه العقلانية، وهي العقل الاستنباطي، هو الرائج والنشط في المجال الفقهي. وتقع الأبعاد الأخرى للعقل النظري والعقل العملي خارج المجال الفقهي، وتتبلور في الكلام والفلسفة والعرفان النظري، والأبعاد الأخرى لهذه العقلانية في متناول حوزاتنا أيضاً، كالعلوم العملية، والعلوم الرياضية، ومستوياتها النازلة (الهابطة) التي لها جذور تاريخية.

العقلانية الإسلامية في الثقافة العامة ــــــ

_ هل ظهرت العقلانية الإسلامية في مجال الثقافة العامة؟

^ ليس لها ذلك الحضور الفعّال في مجال التعليم والتعلم، لكن لأجزائها المهمة المرتبطة بحياة مجتمعنا وثقافتنا حضور مؤثِّر. وهذه العقلانية تتمتع بقوة خاصة؛ بلحاظ تاريخي ولحاظ جغرافي. إنّ اتساعها الثقافي يعني ارتباط هذه العقلانية في الظروف والزمان الحاليّين بالجوانب المختلفة للحياة والمحيط العالمي مع الحوزة والثقافة العامة ـ التي لها جذورها التاريخية ـ ارتباطاً فعّالاً. ففي الثقافة العامة ينظّم الناس سلوكهم بما يتناسب مع أجواء الفقاهة. ولاعتقاداتهم حول العالم والإنسان جذور في الكلام والفلسفة والعرفان. يعرف أبناء شعبنا (حافظ) و (مولانا) جيداً، كما يفهمون القرآن والحديث جيداً، ويأنسون بهما، ويعتبرونها مترابطة. ويوضِّحون المسائل الفلسفية للقضاء والقدر الإلهي، والرضوان الإلهي، على تقدير الإنسان وإرادته ومسؤوليته وتكليفه، بحيث ينسجم مع التقدير الإلهي. وتعتبر هذه المسائل في ثقافتنا من نماذج هذه العقلانية. وتُعدُّ روح النبي‘ أول ما خلق الله، وأهل بيت العصمة والطهارة خلاصة هذه العقلانية. ولهذا ترتبط هذه العقلانية ارتباطاً وسيعاً مع الثقافة العامة. لكن وجد منافسون لها في هذا المجال، بمعنى أن النظام التعليمي الحديث قد اتسع إلى جنب العقلانية، وأما النظام التعليمي التقليدي فقد بسط نفوذه إلى مجالات حياتنا في القرن الأخير ـ بموازاة الاقتصاد والسياسة ـ بصفته منافساً للعقلانية في العالم الإسلامي، وسيطر على مساحات واسعة من النظام التعليمي. وقد وضعت عقلانيتنا الدينية، رغم انتشارها في الثقافة العامة وعمقها التاريخي، في مواجهة جدية مع العقلانية الحديثة. والحقيقة أن بعض مجالات علومنا العملية والحوزوية والدينية ليس لها أي حضور على الإطلاق، وقد تشكلت تبعاً للعقلانية الحديثة، ودخلت بعض مجالاتها الأخرى في عرضها. وقد تسببت تلك المسألة ببعض القيود للعقلانية الحوزوية، والتي تقترن ببعض المشاكل، رغم كونها فرصاً جيدة.

العلاقة بين العقلانيات ــــــ

_ كيف كانت العلاقة بين العقلانية الإسلامية الحوزوية والعقلانية الحديثة؟

^ العقلانية في الحوزة العلمية قوية وعميقة بلحاظ جذورها التاريخية. وهكذا هي أيضاً بلحاظ الموروث التاريخي. وفي العلاقة بمجال الثقافة فإننا نملك تاريخاً ثقافياً حافلاً. وإن الجغرافيا الثقافية الفعلية، رغم حضورها الممتاز في الثقافة العامة في أعماق ومستويات جيدة، تواجه تحديات كبيرة من جانب العقلانية الحديثة، التي دخلت إلى جانب الثقافة والحضارة الغربية. والسبب الرئيسي لهذه التحديات أن عقلانيتنا الحوزوية لم تتوفر لها فرصة الحوار. وقد أثرت العقلانية الحديثة تحت ظل قدرتها العسكرية والسياسية والاقتصادية على ثقافتنا. وبعبارة أخرى: إن إحدى خصائص الحداثة أنها لم تتحاور على الإطلاق مع الفضاءات الخارجية حواراً نظرياً عميقاً، وكانت معرفتها بالخارج تنبع دائماً من دواعٍ اقتصادية وسياسية، وكان ارتكازها على القدرة العسكرية، وكانت الحضارات في كثير من الأوقات عندما يدخل أفرادها إلى البلدان الأخرى فإنهم يأخذون حق بعد المسافة عن مراكز بلدانهم، وإذا فرض أنهم ذهبوا إلى أماكن يختلف طقسها عن محل سكناهم فمن البديهي أنهم كانوا يأخذون حق رداءة الطقس. وذكرت لكم ذلك لتعلموا أن دراسة الثقافات غير الغربية بالنسبة للمفكرين في العالم الحديث تعتبر دراسة للثقافات القديمة. ولا يرى علماؤهم الذين كانوا يدرسون تلك الحقول أنها علم اجتماع، بل كانوا يطلقون عليها اسم (علم الأقوام)؛ لأنهم يعتبرون علم الأقوام يختص بالعلم الذي يدرس في البلدان المتقدمة والحديثة. وبعبارة أخرى: فقد كان لعلم الأقوام تعريفان: الأول: دراسة أقوام ما قبل التاريخ، يعني البلدان التي لم تنتقل حتى الآن إلى طور التقدم والعقلانية، وبقيت متأخرة في الجوانب الصناعية؛ الثاني: علم الأقوام بلحاظ جغرافي، وهو دارسة البلدان غير الغربية. ويعكس هذان التعريفان علمين في الحقيقة. وبذلك يطرأ على الباحث الشك في تعريف علم الأقوام. وإحدى خصائص العالم المعاصر أن هذه المجتمعات تمثل البقايا التاريخية المتأخِّرة. ويمكن القول في الحقيقة: إن علم الأقوام يُعرِّف بأنه دراسة البلدان المتأخِّرة، وغير المتطورة، من دون أن يسمع لتلك البلدان بحق الحوار، وإنما يجعلونها موضوعاً لمطالعاتهم، يعني يعتبرون معرفة تلك الثقافات موضوعاً للعلم، وهذا هو الجوّ الغالب على الاستشراق والمستشرقين. الجو الغالب على الاستشراق وعلم الأقوام أن المفكِّرين في الغرب لا يشعرون بالحاجة إلى التحاور مع الثقافات والحضارات الأخرى، وكان دخول الثقافات الحديثة إلى البلدان غير الغربية، ومنها: مجتمعنا الإيراني، بهذا التوجه، أي إن الذين كانوا يجلبون تلك الأفكار إلى الداخل لم يأتوا بها للمباحثة والحوار. وفي العلاقات الاقتصادية والسياسية كانت الدوافع الاقتصادية هي الأصل، والتي ولّدت نوعاً من الإعجاب بهذه المسألة.

_ هل طرأ تغيير على التعامل مع العقلانية الحديثة؟

^ في رأيي فإن القطيعة لا زالت قائمة، وإنْ طرأ عليها نوعٌ من الشدة والضعف، إلاّ أنّ التوجه العام لم يتغير بصورة أساسية. فالأفراد الذين ذهبوا من بلدنا نحو المجتمع الحديث وجدوا العقلانية معطَّلة في باطنها. وقد دخلوا لفهم العقلانية في الغرب مع أفق التكنولوجيا، لكنهم يذعنون بعدم وجود عقلانية في طيّاتها العميقة. ولا زال عدم الانتباه إلى هوية العقلانية الحديثة في الغرب، وارتباطها بالمستويات التالية حتى التكنولوجيا، حاضرةً بصورة واسعة بين مدرائنا العلميين والثقافيين، الذين نشأوا في أجواء التعاليم الحديثة. وأحد شواهد ذلك تغيير اسم وزارة التعليم العالي إلى وزارة العلوم والأبحاث والتكنولوجيا، أي إنهم حذفوا «الثقافة» منها. والمقصود بالأبحاث هنا الأبحاث التي هي من صنف التكنولوجيا، الأمر الذي كان في تاريخنا المعاصر، وحدث بعد عقدين من الثورة الإسلامية. ويمكن ملاحظة ذلك في الأبعاد العميقة للتعليم العالي، يعني في الأبحاث ومراكز الأبحاث. وبعبارة أخرى: إن عدم الالتفات إلى المستويات النظرية للمعرفة الحديثة في الأبعاد البحثية موجود لدينا بجدية، وقد كان أحد المدراء لمركز بحثي قد سخر في مقابلة له في أمريكا من عدم الاهتمام النظري والعميق بالأبعاد العقلانية لمجتمعنا، وقال: إن غير الإلهيات لا يُعدّ علماً في إيران، أي إنه اشتكى من تلك الظاهرة بنوع من التهويل، وهو في الحقيقة قد سخر هناك بمسألة نعترض عليها نحن هنا.

هذا هو الجو الغالب والموجود حالياً. وهذا التوجه موجود عند الذين يتصدون لإدارة المراكز العلمية في مجتمعنا، ولا يختص بفترة معينة (دار الفنون). فنحن قد أدخلنا المستويات العملية للعلم الحديث، لكن بعد عقد العشرينات، حيث قصدنا جلب علومهم الإنسانية، أي لاحظنا تلك العلوم بنظرة تكنولوجية وتخصصية. وبعبارة أخرى: إننا لاحظنا علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الاجتماعية التي عندهم بنظرة عملية. ودخلت أبحاثهم الفلسفية متأخِّرة جداً، وكلما تترجم أبحاث فإنها تقع في العادة إلى جنب النشاطات السياسية. فكانت أول موجة فلسفية جدّية قد دخلت وانتشرت من قبل حزب تودة، حيث دخل هيغل والماركسية بملامح فلسفية لمستويات العلوم الإنسانية وبأبعاد فلسفية. وقد جاءت النظريات الماركسية أيضاً بجذّابيتها السياسية، إلاّ أن صورتها الأكاديمية بدأت بعد خمسين سنة من المواجهة مع العالم الحديث بترجمة مقالٍ في المنهج لديكارت من قبل «فروغي». واعتبر ذلك الكتاب مع مقدمته وملحقاته، والذي طبع بعنوان «سير الحكمة في أوروپا»، وإلى حدود أربعة وخمسة عقود، أول وآخر مرجع لتاريخ الفلسفة عندنا. وفي العقدين الأخيرين بدأت نشاطات واسعة. والنتيجة أن العالم الحديث لم يدخل بهويته والسؤال عن ماهيته، وإنما أثبت حضوره عن طريق اللوازم السياسية والاقتصادية والعسكرية، وعدم وجود الفرصة الكافية للحوار في ثقافتنا بلحاظ عقلاني. ومن جهة أخرى فإن أفراداً منا على مستوى المدراء واجهوا الغرب، ولاحظوا توجهاتهم، فوقعوا في التغرب والتجديد، بحيث تصوَّروا أنه لابد للجميع من السير نحو التجديد بنموذجه الغربي.

يقول بعض الأفراد من الأجيال الأخيرة لهذا الاتجاه: إنه يجب أن يكون عمق عقلانيتنا حديثاً. وإن العقلانية غير ممكنة في العالم الإسلامي بوجود الثقافة الدينية والوحيانية. وهذا المقدار الموجود من عقلانيتنا إنما هو بسبب سطوع أو انعكاس الثقافة الغربية في القرنين الثالث والرابع. والعقلانية اليوم في بعض مستوياتها آيلة للزوال. وبعبارة أخرى: إن هؤلاء الذين ينظرون إلى العلم نظرة تكنولوجية يعتقدون أن العلوم العملية نشأت في ضوء عقلانية علمانية حديثة، بحيث انفصلت عن العقلانية الدينية والتاريخية.

الفلاسفة الإسلاميين والعقلانية المحدثة ــــــ

_ لماذا لا نشاهد رد الفعل المناسب من الفلاسفة الإسلاميين في مقابل العقلانية الحديثة؟

^ لقد كان مفكِّرونا وفلاسفتنا وفقهاؤنا يرون إبعادهم عن الساحة، وانحسروا إلى هامش النظام التعليمي الحديث عندما دخل النظام العلمي الحديث الذي جعل كافة العقلانية التاريخية على هامش النظام التعليمي الحديث، إلا أن بقية النظام كان بشكل حديث، ولم يلحظ أيّ تعامل بين تلك المجموعة وبين النظام التعليمي. ولابد من معرفة المسؤول عن ذلك؟ وفي أولى المواجهات كان مفكِّرونا قد صوَّروا مستويات مختلفة عند المواجهة مع العقلانية الحديثة، وفي المستويات المعيارية والقيمية كان الفقه يتدخل بلغة النفي والإثبات، أي إنه كان يعين أن هذا حرام أو حلال، وفي مستوى أعمق تدخَّل الكلام والفلسفة، ولم يكن هناك حوار من الجانب الآخر. ولا شك أننا لم نتعامل بجدية أيضاً. أما ما هي الأسباب الاجتماعية لذلك؟ وما هي العوامل والعناصر المؤثرة؟ فهذا ما يجب دراسته. ونجد أن «بدائع الحكم»، لآقا علي الحكيم ـ قبل المشروطة ـ، كان أول مواجهة عميقة بين هاتين العقلانيتين. برزت عقلانيتنا في هذه المواجهة الثقافية والحضارية كنهضة اجتماعية عظيمة للتعامل المؤثر بصفتها حركة تنشد العدالة. ولو عملت تلك المجموعة مع بعضها بشكل حركة تنشد العدالة. ولو عملت تلك المجموعة مع بعضها بشكل حركة تنشد العدالة لنشطت مستويات هذه العقلانية، ولو بدأت المستويات الفلسفية والكلامية حواراً بذلك التنسيق لشاهدنا حركة حية ومؤثرة في المشروطة. لقد خسرت العقلانية المعيارية على مستوى الإدارة الاجتماعية في الثورة المشروطة، وشعر فردٌ مؤثِّر، كالميرزا النائيني، الذي قل نظيره في التنظير ـ رغم طاقته الكبيرة في فترة الشباب ـ، بنوع من الإحباط. وانحصر مركز تلك العقلانية في النجف بالحوار الداخلي، إلا أنه وبنشاط داخلي قلّ نظيره بقي أيضاً بعيداً عن الثقافة والمسائل الاجتماعية، وإن شوهدت حوارات كثيرة في أصول الفقه أيام الميرزا النائيني، وضياء الدين العراقي، ومحمد حسين الأصفهاني، إلا أن العقلانية بقيت دون اتصال مع المحيط الخارجي، وكانت مؤثِّرة في مجال الحياة الخاصة. وفقدت الأبعاد الفلسفية والكلامية والعرفانية فرصتها في الحوار بلحاظ الإدارة الاجتماعية، وإن كانت متوفرة على قدرات فائقة، حتى أن الذخائر العلمية لتلك الفترة لا زالت فعّالة ومؤثّرة. وقد استطاع أساتذة الإمام الخميني: العارف الشاه آبادي، والعلامة رفيعي القزويني، في الظروف الملائمة في ذلك الوقت أن يقدموا واحدة من أنضج الحوزات العقلية في العالم الإسلامي. وكانت في كلٍّ منها قابلية للحوار العميق. وأنا أشير هنا إلى بعضهم. وتندرج بعض هذه العلوم في مجموعة (المعقول والمنقول)، وأخرى انحسرت جانباً؛ لتحريمها، ونوقشت خارج النظام العلمي. كان العلم الحديث، وحتى العقد الثاني من القرن العشرين، يعني إلى نهاية فترة رضاخان، مكرِّساً للسيطرة العسكرية والسياسية على هذه العقلانية؛ لأن الكثير من المسائل الاجتماعية قد أفحمتهم. ومن العقد الثالث فما بعد دخلت الفلسفة الحديثة وهاجمت العقلانية الدينية في شكلها الكلامي والفلسفي. وكانت الشيوعية أول أنماط العقلانية الحديثة التي صارعت ـ إلى جانب بعدها السياسي ـ من سواحل بحر قزوين (الخزر) إلى شوارع طهران.

وقد دخلت تلك الفلسفة؛ بمساندة وأدوات سياسية، ميدان الحوار في مجال العقلانية الفلسفية والكلامية. وبدلاً من قيام الطبقة العلمية في مجتمعنا برصد هذه العقلانية على أعلى المستويات فقد أدخلت العلم الحديث بعد عدة ترجمات إلى ثقافة مجتمعنا في ما وراء التكنولوجيا والاقتصاد والسياسة والقدرة العسكرية. وكان هناك اتجاه في قم لمناقشة وحوار يتابع في هذا المستوى. وشيئاً فشيئاً، وبعد الشهر السادس سنة 1320هـ ش [1941م] حاصرت قم دروسهم الرسمية أيضاً ضمن تلك المجموعة التي طرحت جانباً تحت عنوان المعقول والمنقول. يقول الإمام الخميني حول تلك الفترة: كنّا نذهب قبل طلوع الشمس للمطالعة إلى بساتين سالارية، ثم نرجع، يعني أن هكذا دروس كانت موجودة في الحوزة، ثم بعد مجيء السيد البروجردي حصلت فسحة، بحيث استطاع من خلال قنوات الارتباط التي يملكها مع الثقافة العامة أن يحفظ قدرته، ويتمكن من إيجاد غطاء في تلك الأجواء، وعلى هامش الفقه تطرح العقلانية المعيارية والارتباطية للإسلام، وفي مستويات أخرى لهذه العقلانية، أي الفلسفة والكلام، يُجاب عن الإشكالات. وكان من ثمار تلك المرحلة أصول الفلسفة والمذهب الواقعي. وقد كتب تفسير الميزان في هذه الأجواء أيضاً. وتشاهد اليوم حضوراً لا بأس به من هذه العقلانية في الإجابة عن المسائل الاعتقادية في تفسير الميزان. وهذه علامة لتعايش العقل والوحي في هذه الثقافة، أي إنه أوجد وصاغ الكثير من هذه الأجوبة.

حوار العقلانيات في المجتمع الإيراني ــــــ

_ هل هناك حوار وتفاعل بين العقلانية الإسلامية ـ الحوزوية والتيارات الفكرية الأخرى في المجتمع الإيراني؟

^ بالرغم من النهضة في الواقع الثقافي فإن الجزء المهمَّش من المعرفة والعلم الحديث في إيران لم يفتح باب الحوار. وقد عكسوا العقلانية الحديثة المتدنية بمراتب، إلا أن أصحابها لم يدخلوا في الحوار. عندما دوِّن أصول الفلسفة لم يشرع أي من الماركسيين ومفكِّري الماركسية وغيرهم في أيِّ حوار مع ذلك الكتاب، ولمدّة خمسة عقود. لم تكن جهود العلامة الطباطبائي جهود فرد واحد، بل كان العلامة الطباطبائي هو العارف الشاه آبادي، والعلامة رفيعي القزويني، والحكيم إلهي قمشه إي، والفاضل التوني، مع ميزة أنه دخل هذا المعترك. وقد كان في الحقيقة اللسان الناطق باسم تلك الثقافة والحضارة في المواجهة والحوار. وقد عقد الكثير من الجلسات واللقاءات في هذا المضمار. وقد قال أحد الذين يعتبرون من علمائهم ومتنوريهم للعلامة الطباطبائي: إن حكومة الشاه تشعر بالخطر من هذه اللقاءات، وأمروا بوجوب إلغائها. وعندما سمع العلامة الطباطبائي ذلك الكلام تأثَّر جداً، وقال: إننا لا نمارس أيّ نشاط سياسي، فلماذا نعطِّل الجلسة؟! يقول ذلك الشخص: إن العلامة تأثَّر جداً، وشعرت من كلامه أن أبحاثاً تجلب من الجانب الآخر، وتطرح في هذه اللقاءات بهدف الحوار. ويتحدث عن تواضع العلامة، وتأكيده أنه لغرض الإجابة لابد من الذهاب وسماع تلك المسائل. وكان العلامة الطباطبائي بنفسه يشترك في تلك اللقاءات المختلفة، ويستمع لكلامهم، ويجيب عنها بعقلانية. وكانت ثمرة تلك الجهود كتب: «الشيعة في الإسلام»، «الميزان في تفسير القرآن»، «أصول الفلسفة والمذهب الواقعي»، وغيرها. وكان تأليف «الميزان» في تلك البرهة التاريخية للإجابة عن أسئلة العصر من وجهة نظر القرآن يعني أنه يسمع السؤال من العالم المعاصر، ويجيب عنه من منظار قرآني. وللأسف فإننا لا نلاحظ الحوار الجدي من الطرف الآخر. وقد كنتُ ذكرتُ تلك المعضلة بنحوٍ ما في مقدمة كتاب «شريعت در آيينه معرفت» [الشريعة في مرآة المعرفة]. وتوجد مثل هذه المسألة في دروس العقد الأخير أيضاً. فعندما ظهرت تيارات حديثة لمفاهيم تاريخية وحضارية أجاب عنها الشيخ جوادي آملي في نفس الوقت. وكان الأخذ والرد في الأجوبة يزيد من غناها، وهو في الحقيقة يجيب عن تلك المسائل بلغة الحكمة الصورائية برؤية جديدة. أما الذين أطلقوا تلك الكلمات فلم يجلسوا للتحاور مع ذلك الكتاب. ومن الواضح أن دخول الأفكار يقع على هامش المماحكات السياسية. ولهواجس الكثيرين جذور سياسية، ولو كان غير ذلك للزم أن تكون الهواجس في الدرجة الأولى نظرية وعقلية، ولا ينظر إليها بمنظاره السياسي. وعلى أية حال فالعقلانية الإسلامية في الحوزات العلمية تواجه منافساً حقيقياً، بحيث إن هذا المنافس لا يواجه من موضع عقلاني، وإنما يستعين في الغالب باللوازم الثقافية والتاريخية في تلك المواجهة. والسبيل الجدي هو وجوب إزالة ذلك الحجاب، وأن تأتي العقلانية الحديثة بذاتها وهويتها، كي تتوفر فرصة الحوار. وأتوقَّع أن تؤدي تلك المسألة إلى نهضة حقيقة في العقلانية الإسلامية.

خطوات باتجاه العلاقة بين العقلانية الإسلامية والغربية ــــــ

_ وأخيراً… ما الذي يجب فعله لفتح باب الحوار بين العقلانية الإسلامية الحوزوية والعقلانية الحديثة من جهة، والتيارات المعرفية في بلدنا من جهة أخرى؟

^ أشعر أن الحوزة العلمية فهمت تلك النقطة، فلذلك تتابع هذا المشروع. ولا خوف في الحوزة العلمية أن تدخل مباشرة معترك الأفكار الحديثة. ولابد من دفع حجاب اللغة، ونقل النصوص التقليدية إلى الحوار النظري العميق. إلا أن العقلانية الإسلامية تعاني كماً وكيفاً بلحاظ القابلية. ولأجل الدخول في هذا المجال لابد من إيجاد القابلية المناسبة. الحوزات العلمية جزء من هذه الثقافة والتاريخ والحضارة.

والتاريخ والحضارة الإسلامية في مواجهة مع التاريخ والحضارة الحديثة التي نشطت الآن بشكل سياسي. فلأجل ذلك لابد من الاستثمار، يعني لابد من توجيه الاستعدادات الإنسانية إلى هذا الجانب. ولا يمكن أن نوجِّه الاستعدادات العليا في المجتمع إلى الأولمبيات العلمية خارج البلد، وإلى العلوم العملية الحديثة، ثم ننتظر أن تحل المسائل النظرية العميقة بسهولة. إن الوصول بهذه الأبعاد النظرية إلى الفعلية وتنشيطها بحاجة إلى ثروات إنسانية واقتصادية وسياسية وثقافية. وإذا لم تكن الحركة الثقافية والسياسات الثقافية نحو تلك المسألة؛ نظراً لكون الحجم الأساسي للنظام التعليمي يقع على هامش النظام الجديد، فإنه سيتسلط على الإمكانات الاقتصادية الإنسانية للمجتمع. ولابد من إيجاد تلك الفرصة على المستوى الثقافي، ويحصل التعامل اللازم مع تلك المسألة. وليس من الصحيح أن تغطّى الإدارة التعليمية والقابليات للتعليم الحديث، وتبقى الاستعدادات الشخصية والدوافع الفردية للمجال الحوزوي والديني. إذا كانت إدارة القابليات والاستعدادات الموجودة نحو الثقافة الحديثة، بحيث إن القابليات الفردية فقط تنشط في مجال الحوار، فإنها ستواجه أضراراً جدية. ولذا يجب حتماً الاهتمام بالطاقات الإنسانية.

__________________________________

(*) أستاذ بارز في الفلسفة الإسلامية والغربية المعاصرة، عضو المجلس الأعلى للثورة الثقافية، لديه مساهمات بحثية مميّزة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً