أحدث المقالات

والقراءة الاستقرائية للدين

حيدر حب الله(*)

 

تمهيد

يعد علم الإحصاء statistics اليوم من أهم العلوم التي تتوقف عليها التنمية، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو.. وللإحصاء حصّة أساسية من عمل الدول والمؤسسات والمنظمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عالميّاً ودولياً ومحلياً، وكثيراً ما يرتهن مصير مشاريع أو قرارات كبرى بالنتائج التي يقدّمها الإحصاء في مجال معين.

وبصورةٍ عامة، فإن افتقاد الجهد الإحصائي في مجالٍ من المجالات يمنع من التأكد وتحصيل الضمان في استجابة أي مشروعٍ للواقع، كما يحول دون تحديد مدى نجاحه أو فشلـه ويجعل في الإقدام عليه شيئاً من المخاطرة.

وأمام هذا الحجم الكبير من التأثيرات التي يلعبها هذا العلم وهذه الأداة في حياتنا المعاصرة، يطرح السؤال التالي نفسه: هل يمكن توظيف هذا العلم ومنجزاته في خدمة الدين والتدين والمعرفة الدينية على غرار التوظيف الذي حصل لـه في المجالين السياسي والاقتصادي أم أن الدين لا يتقاطع مع هذا العلم لا من قريبٍ ولا من بعيد؟ وكما تمّ توظيف جملة من العلوم الطبيعية، سيما الطب والفيزياء في تقديم نتائج تصلح سنداً ـــ بشكلٍ أو بآخر ـــ للدين أو لا أقل للمعرفة الدينية، واستخدمها كثيراً العلماء المؤمنون في تثبيتهم للأفكار الدينية في القرن الأخير، أو في تفسيرهم لـها بقطع النظر عن مدى نجاحهم في ذلك.. هل يمكن على النسق نفسه كسب الفائدة من علم الاستقراء والإحصاء في تحصيل نتائج معينة تصبّ في هذا الإطار أيضاً، ليتشكل عندنا علم الإحصاء الديني لا بالمعنى السلبي لأسلمة هذا العلم بل بمعنى فتح مجالٍ جديد لـه هو الدين؟

وإذا كان الجواب عمّا تقدم إيجابياً فما هي مواطن هذا التوظيف والاستخدام؟ وكيف يجب أن يتم التلاقي؟ وماهي طبيعة هذه العلاقة؟

إن ما نسعى لـه هنا هو تقديم تصوّر أولي أو مسودّة عملٍ لوجهة نظر أو لمشروع يقوم على الإيمان بإمكانية هذا التوظيف بل وضرورته، ليُتخذ هذا العلم بما يقوم عليه من نـزعةٍ استقرائية أداةً من أدوات المنهج في الفكر الديني، ولهذا فلن ندخل في التفاصيل الواسعة للمسألة، وإنما سنبذل جهدنا لتقديم صورةٍ أوليةٍ ــ كمادة للبحث والمطالعة ــ بغية توصّل الباحثين الكفوئين إلى نتيجة مرضية في هذا المجال.

علم الإحصاء

جاء في موسوعة لالاند حول الإحصاء: «جوهرياً، يُقصد بالإحصاء ـــ كما يدلّ على ذلك علم الاشتقاق ـــ مجموعة الوقائع التي يؤدي إليها اجتماع البشر في مجتمعات سياسية… لكن الكلمة عندنا سترتدي مفهوماً أوسع، فنحن نعني بالإحصاء العلم الذي يكون موضوعه جمع وتنسيق وقائع كثيرة في كلّ صنف، بحيث يمكن الحصول على نسبٍ عددية مستقلة استقلالاً ملموساً عن المصادفة واستثناءاتها، ودالة على وجود العلل المنتظمة التي اندغم فعلـها بوجود العلل الفجائية»([1]).

وفي موسوعة المورد العربية جاء: «علم جمع وتصنيف وتعليل الوقائع أو المعطيات الرقمية أو العددية، يُتخذ طريقةً للتحليل في العلوم الدقيقة والعلوم الاجتماعية، وفي المشروعات الاقتصادية على اختلافها، وهو يُعنى في آنٍ معاً، بوصف الوقائع وبالتنبؤ باحتملات حدوث أمر بعينه أو حالة بعينها، وعلم الإحصاء علم حديث نشأ في مطالع القرن العشرين وتطوّر تطوّراً كبيراً بعد الحرب العالمية الثانية، وانما يُعزى هذا التطوّر الكبير إلى استحداث الحاسبات الالكترونية التي تتعامل مع كميات من الأرقام ضخمة تعاملاً سريعاً»([2]).

يفيد تعريف الإحصاء أنه منهج يتعاطى بالدرجة الأولى مع ظواهر رقمية وعددية معينة، ثم يقوم بتصنيفها وتحويلـها إلى نسب عددية خاصة، فيستطيع بالتالي تقديم وصفٍ ميدانيٍّ مرقم وأكثر دقة للواقع، ويرفق ذلك الوصف بتقديم تصوّر علمي للعلل والأسباب التي ولّدت الظاهرة المدروسة.

وينقسم علم الإحصاء إلى قسمين:

الأوّل: الإحصاء الوصفي descriPtive Statistics وهو الذي يقوم على جدولة المعطيات وتصنيفها وتنسيقها مع بعضها وعرضها بشكلٍ بيانيٍّ يساعد على وصف الميزات والخصائص، فمثلاً إذا أحصينا ظاهرة المدخنين، فإن الجهد الوصفي يحاول فرز المعلومات الصغيرة التي قام بها جهاز الإحصاء على الأرض، واختـزالـها وعرضها ببيانٍ يشير إلى أنه في سنة كذا كان معدّل المدخنين هو كذا، وبعده بسنةٍ كان كذلك وهكذا…

الثاني: الإحصاء الاستدلالي التحليلي Inferential statistics، وهو إحصاء يعتمد على تحليل المعطيات وتفسيرها ودراسة أسبابها ومناقشتها وتأثيراتها والعوامل المؤثرة فيها سلباً أو إيجاباً([3])، وبالتالي فهذا الإحصاء ــ كما يقول الدكتور عبد الرحمن عيسوي ــ يسمح للباحث بإصدار أحكام أو التنبؤ أو ما شابه ذلك([4]). كما «تساعد الطرق الإحصائية في معرفة أثر كل عامل من العوامل المختلفة على السلوك (أو غيره) والتحكم في هذه العوامل وضبطها»([5]).

ويساعد الإحصاء على تنظيم المعلومات المبعثرة والمكدّسة والتي تكون إما بلا فائدة (أو خطرة أحياناً)، فهو يمنحنا رؤيةً أوضح وأكثر ترتيباً للأشياء([6])، بل يساهم أيضاً في تحديد درجة الثقة التي نوليها لما حصلنا عليه من نتائج ويحدّد لنا مدى التعميم والشمول([7]).

لقد أصبح الإحصاء من العلوم الأساسية والضرورية التي يدرسها طالب علم النفس في جميع جامعات العالم، والمعروف أن الإحصاء لا يفيد في الدراسات النفسية و.. وحسب، ولكنه أيضاً أداة مفيدة جداً في العلوم الاجتماعية والانثربولوجية والاقتصادية وعلوم الحياة والعلوم الزراعية، وكل الدراسات التي تعتمد على العينات([8]).

من هنا، كان المنطق الإحصائي والتفكير الإحصائي والعمليات الإحصائية والاستدلال الإحصائي كلـها ــ كما يقول عيسوي ـ([9]) من سمات الأخصائي الناجح.

إن قدرة الإحصاء على تقديم وصفٍ دقيق للظواهر يمنحه القيمة الكبرى، فالوصف الدقيق الرياضي أكثر دقةً من الوصف اللفظي، والدقّة والموضوعية من سمات العلم الحديث([10])، فالعلماء يشعرون بأنهم على أرضٍ صلبة عندما يستطيعون أن يعرضوا نتائجهم عرضاً كمياً([11]).

ويمكننا فهم الإحصاء بصورة مختصرة، كالتالي:

أولاً: الإحصاء قادر على توصيف الظواهر توصيفاً رقمياً كميّاً دقيقاً وأكثر وضوحاً وقرباً من الواقع.

ثانياً: يستطيع الإحصاء أن يفسرّ الظواهر، ويحدد مدى تأثير العوامل المفترضة، كما يمكنه التنبؤ بالمستقبل بالمعنى العلمي للكلمة.

ثالثاً: يعتمد الإحصاءُ المعادلاتَ الرياضية وحساب الاحتمالات، ويرتكز على أسسٍ علمية رياضية مبرهن عليها.

رابعاً: الإحصاء ــ كما في موسوعة لالاند([12]) ــ ليس علماً، وإنما هو منهج وعقل وتفكير وآلية تأمل ونمط قراءة؛ فهو غير محدد بمادة علمية سوى بتلك التي تحتوي نظام العينات.

خامساً: ترتكز عملية الإحصاء التحليلي على فرضيات متلقاة من علوم أخرى تلعب دوراً في تحديد التقييم، وهذه نقطة في غاية الأهمية سيما إذا أردنا تفعيل العمل الإحصائي في الساحة الدينية.

والمقصود هنا أن دراسة الإحصاء لظاهرة معينة لا تسمح لـه منفرداً أن يحكم إيجاباً أو سلباً على الواقع بمعزل عن التصورات التي افترضها في أنموذجية هذا الواقع، وبالتالي فهذه التصورات هي الحدّ والميزان الأساس في الحكم بأن المؤشر الإحصائي يتخذ جانباً إيجابياً في نتائجه أو سلبياً.

فمثلاً، إذا أردنا إحصاء معدّل الذكاء لدى مجموعة من التلاميذ، فمن الطبيعي أن تكون الأسئلة التي نطرحها عليهم مثلاً ذات صلاحية للتدليل على هذا المعدّل بحسب سنّهم وعمرهم، وهنا معناه أننا فرغنا ــــ في المرحلة الأسبق ــــ عن البرهنة على أن الأنموذجية في الذكاء تتكشّف من خلال مدى القدرة على الإجابة عن هذه الأسئلة وليس أي أسئلة أخرى، وهكذا الحال في الدين، لابد أوّلاً من وضع قاسم مشترك يقع مورداً لاتفاق المفكرين حول أنموذجية اجتماعية معينة ليرشدنا الإحصاء إلى الوضع القائم وفقاً لـهذه الأنموذجية، أما نمذجة بعض التصوّرات الشرقية أو الغربية ثم إجراء إحصاءٍ على أساسها فهو أمر ــ على أهميته ــ لا يمكنه أن يجعل النتيجة التقييمية للإحصاء ملزمةً علمياً بصورة عامة أو غالبة؛ من هنا فعملية النمذجة يجب دراستها بهدوء أولاً كما يجب أن تعطى النتيجة الاحصائية قيمتها العملية على ضوء الأنموذجية المفترضة دون تحميل أو فرض على الأنموذجيات الأخرى، وهو أمر نواجهه في الخلاف الإسلامي الغربي حول موضوعة حقوق الإنسان، وهو خلاف سيبقى إجترارياً واستنـزافياً ما لم يجر النقاش في البُنى القبلية الفلسفية للتصوّر المفترض حول الإنسان كظاهرة.

التوظيف الإحصائي في مجال الدين

بعد أن تعرّفنا في هذه المقدّمة ـــ بصورةٍ موجزة ـــ على علم الإحصاء ونمط التفكير الإحصائي، من الضروري أن نحاول تلمس المواقع الدينية التي يمكن للعقل الإحصائي أن ينفذ إليها، ووضع اليد على أماكن توظيف مثل هذا العقل في المجال الديني، وهو ما سنتعرّض لـه ضمن محاور ونماذج مختصرة ومشيرة.

نظرة تاريخية نقديّة للتوظيف الإحصائي دينياً في الساحة الإسلامية

ليس هناك ما يرشد إلى توظيفٍ إحصائي استقرائي في الدائرة الدينية سوى مجموعة متفرّقة من الكتابات التي ظهرت في القرن الأخير، وحاولت أن تثبت مقولات أخلاقية أو حقوقية إسلامية من خلال الاستعانة بالإحصاءات التي تدلّ على مدى المخاطر التي تحدث نتيجة الابتعاد عن هذه التعاليم الدينية من قبيل ما يرتبط بالزنا واللواط وشرب الخمرة و.. وهي إحصائيات تمّ إجراؤها من قبل الآخرين لأهداف أخرى قد لا يكون لـها ارتباط قوي ودائم بالـهدف الذي نتوخّاه نحن من إحصاءٍ من هذا القبيل.

وهذا النوع من الكتابات والتوظيفات على أهميته وضرورة مواصلته يعاني من مجموعة مشاكل أهمّها:

1 ــ انحصاره في الدائرة الجدلية؛ لأن الـهدف هو تبكيت الخصم وإبطال تصوّراته، فإننا نريد أن نثبت لـه مضرّات عدم تجنّب الخمرة، والمنطق الجدلي ــ بهذا المعنى للكلمة ــ لا يمكن أن نبني عليه مشروعاً بقدر ما نهدف من خلالـه إلى نقد مشروع آخر، ونحن اليوم بحاجةٍ ماسّة إلى مشاريع تأسيسية يمكن وضع بناء عليها لا إلغائية ــ فقط ــ يهدف منها إبطال وتجنب رؤى الآخرين، فهذه الملاحظة لا تعني إفراغ هذا الجهد من قيمته، وإنما تعني إكمالـه ليتحوّل إلى مشروع تأصيلٍ وبناء.

2 ــ إن الإحصاءات التي تمّ الاعتماد عليها ترصد ــــ في الغالب ــــ المجتمع الغربي، كإحصاءات معدّلات الجريمة أو الزنا أو.. ونادراً ما يكون اهتمامها منصباً على المجتمع الإسلامي الذي نتوخّى ــ كما سنلاحظ ــ التعرّف على معادلةٍ معينة فيه، دون تهميش دور المعلومات التي يقدّمها لنا الإحصاء عن المجتمعات الأخرى، فالخطوة كانت ناقصة وبحاجةٍ إلى تكميل.

3 ــ إن مجموعةً من هذه الإحصاءات غير نافعة لوحدها حتى في الردّ على الآخر، فكون 86% من فتيات الجامعات أو المدارس في سويسرا أو أمريكا أو.. يضعن في حقائبهنّ أقراصاً لمنع الحمل مثلاً أو.. لا ينفع في الردّ على الآخر؛ لأن الآخر يعتبر ذلك علامةً صحيةً وحالةً غير مَرَضية، بل على العكس يرى أن عكس ذلك هو عين المَرَضية، ومجرّد تقديم معلوماتٍ من هذا القبيل لا يفيد شيئاً ــــ على هذا الافتراض ـــ سوى في تحريك مشاعر الإنسان الشرقي الذي لـه طبيعة خاصة في هذه الأمور.

4 ــ إنّ مجموعةً لا بأس بها من هذه الكتابات قدّمت عرضاً لإحصاءات كثيرة دون أن توثقها، أو أنها وثقتها بمصادر صحفية من الدرجة الثانية، لا تملك ـــ دائماً ـــ القيمة العلمية والاعتبار لتمنحها بالتالي الحجية والدليلية، ومراجعة بعض ما كتب في هذا الصدد من قبل بعض العلماء والباحثين المصريين أو الإيرانيين أو الباكستانيين أو الـهنود يؤكّد ذلك، وهذه مشكلة جادّة تنسف أحياناً كلّ القيمة التي تكتسبها النتيجة النهائية المطلوبة من وراء الاستعانة بمثل هذه الإحصاءات، ومن هنا فهي بحاجة إلى اعتماد مصادر موثوقة ـــ عالمياً ودولياً ومحلياً ــ ومن أكثر الطرق قرباً ومباشرة، وهو أمرٌ صار اليوم متوفراً بصورةٍ كبيرة جداً.

إلى غير ذلك من الأخطاء والنواقص التي ستظهر للقارىء خلال تقديم الاقتراح الآتي دون أن نلغي قيمة كل هذه الجهود إطلاقاً.

ولا يفوتنا التذكير بأن هناك جهوداً في هذا الإطار ـــ غير ما تقدم ـــ أبرزها ما قدّمه الشهيد الصدر، ومن هنا فلا ندّعي أن الجهد الإحصائي ليس لـه وجودٌ في الدائرة الدينية أصلاً، وإنما نريد أن نتحدّث عن أنّ كثيراً من هذه الجهود كانت منقوصةً والأهم أنها لم تتحوّل إلى ثقافةٍ معاشة وعقل حاكم، ومن هنا اعتُمدت الألفاظ في الفكر الديني شارحاً للمفاهيم لا الأرقام.

ميادين استخدام التفكير الاستقرائي الإحصائي في الدراسات الدينية

وعلى أي حال، وبالعودة إلى صلب الموضوع، يمكن توظيف الآلية الإحصائية دينياً ضمن محورين هما: المحور النظري، والمحور الميداني.

أولاً: المحور النظري المعرفي

ونقصد بهذا المحور التوظيفات التي يجري استخدام الجهد الإحصائي فيها بهدف التوصل إلى معارف دينية أو إثبات أو نفي أفكار دينية أو منسوبة إلى الدين.

والذي يبدو أن أبرز ــ ولعلـّه أول ــ مفكر قام بهذه الخطوة أو نظّر لـها هو الشهيد محمد باقر الصدر في منهجه الاستقرائي المعرفي الذي وظّفه في علم الأصول والفقه والكلام والرجال والحديث و.. فقد استخدم هذا المفكّر الدراسات الاستقرائية عموماً ــ ونعتمد هنا قدراً من التسامح في استخدام مصطلحي: الاستقراء والإحصاء ــ وبُناها الفلسفية والرياضية في تأسيس تصوّرات ومناهج على صعيد العلوم الدينية، ونجح بالتالي في تقديم بنية معرفية جديدة ومتميزة في النطاق الديني. والمقام هنا ليس مقام الحديث عن فكر الشهيد الصدر إلا أنه يمكن تقديم موجزٍ سريع لبعض النماذج مما قدّمه الشهيد أو لم يقدّمه على هذا المستوى النظري أبرزها:

الأنموذج الأوّل: ما قدّمه الشهيد الصدر في مجال الفلسفة والكلام فيما يتعلّق بمسألة إثبات الباري تعالى، إذ استبدل القبليات العقلية التي جرى عليها الفلاسفة والمتكلّمون، مستبعداً مقولات المحرّك الأوّل والإمكان والوجوب والحاجة والفقر والوجود والتواطؤ والتشكيك و.. استبدل ذلك بنهج استقرائي، فقام بملاحقة ظواهر كونية عديدة لاحظ من خلال حجم الاحتمال الذي تتطلّبه كل جزيئة لتجتمع على هذا الشكل المنتظم جداً مع ملايين الجزيئات الأخرى، لاحظ أن الفرضية الوحيدة التي يمكنها أن تفسّر هذا الاجتماع والانسجام هي فرضية وجود الخالق الحكيم تعالى، وأن أي فرضية أخرى من قبيل الصدفة أو غيرها غير محتملة رياضياً؛ لأن احتمال حصولـها على هذا النحو يساوي الواحد من المليارات الكثيرة جداً، وهو احتمالٌ منعدم ذهنياً وفق المنطق الذاتي للمعرفة ومنطق الاكتشاف العلمي([13]).

وتتبعُ الشهد لمفردات الظواهر الكونية من معطيات العلوم الطبيعية ما هو إلا عملية إحصاء استقرائي توصيفي، أعقبه الشهيد وفق بناه الفلسفية بإحصاء استدلالي نجم عنه إثبات الصانع تعالى.

الأنموذج الثاني: ما أشار لـه السيد الصدر أيضاً في كتاب المعالم([14]) وطبقه في اقتصادنا([15])، من تجميع كلّ النصوص والأحكام التي تلتقي في محورٍ واحد بمدلولـها المطابقي أو الالتـزامي أو التضمني، وبتكاثر القرائن الاحتمالية على المركز يصل الباحث إلى اليقين ضمن شروط منطقية ورياضية خاصة.

والمثال الذي استخدمه الصدر في «اقتصادنا» يتلخص في ملاحظة مجموعة أحكام متفرقة ومتباينة المورد تحكم بسببية العمل للملكية، كصيد الطيور والأسماك والعمل في إحياء الأرض والمعدن و.. فاستحصل نتيجة هذا التجميع والإحصاء لعّيناتٍ موزعة وكثيرة نتيجةً كبروية مفادها: «العمل أساس الملكية»، وهذا نهج لو جرى توسعة تطبيقه لأحدث ما يشبه الثورة الفقهية، ولأصّل الكثير من مقاصد الشريعة وأهدافها العامّة.

الأنموذج الثالث: أن نعمد إلى تتبع وإحصاء نصوص اتجاهٍ معين عند الرواة مثلاً؛ لنلاحظ تميّز هذه النصوص بخاصية غير موجودة لدى الرواة الذين لا ينتمون إلى هذا الاتجاه، وهذا عمل استقرائي في حد ذاته يجري في المرحلة التالية تحليلـه، ووفقاً لذلك قد نستطيع اتخاذ موقفٍ ما من هؤلاء الرواة أو من ذاك الصنف من الروايات، إيجاباً كان الموقف أو سلباً، وهكذا إحصاء نصوص الواقفية، الفطحية، الباطنية، الغلاة، المفوّضة، الإمامية، الحشوية، أهل السنّة، الرواة المعروفون بولاءاتهم للسلطة الحاكمة، أو المعروفون بمعارضتهم الشديدة لـها سيما المشاركين في عملٍ مسلّحٍ ضدها.. نصوص الرواة العرب وغير العرب، أو رواة المدينة والعراق.. فإن هذه الإحصاءات وتحليلـها تنفع في الحكم على جملة من رواياتهم، سيما تلك التي تتعلّق بقضايا تمسّ توجهاتهم الفكرية والعقائدية أو تمسّ قومياتهم وأعراقهم ولغاتهم وأعيادهم وعاداتهم وتقاليدهم، كنصوص تقسيم أنهار الدنيا إلى أنهار جنةٍ وأنهار نار كمثالٍ بسيط، أو نصوص لغة أهل الجنة وأهل النار، أو بعض أنواع الأطعمة المعروفة في بلدان محدّدة، إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة، والتي من بينها النصوص التي تذمّ بعض عادات الفرس وتمدح بعض عادات العرب وبالعكس، أو ما ورد في ذمّ بعض الأقوام كالأكراد.. فإن التأمل في رواة هذه النصوص قد يوحي للباحث بشيء من القرينية والاستشهاد.

وهكذا إجراء فرزٍ للنصوص التي رواها كبار العلماء من الرواة أو صغارهم أو الرواة العاديين، يمكنه أن يساعدنا في مسألة تحديد الخطاب والأسلوب؛ لنجد درجة دخالة الراوي في نقل الرواية، ودقته من حيث اللفظ والمعنى، فإنه كلّما كان أكثر تخصّصاً فيما ينقلـه كلما كانت درجة ابتعاده عما يرويه أبعد طبيعةً.

وهناك ما يشبه هذه الخطوة ــ مع الفارق الطبيعي ــ في النص القرآني، فقد أحصى العلماء والمفسّرون الآيات والسور المكية والمدنية، وقاموا بتحليل الموائز بينها وخرجوا من ذلك بالكثير من المعطيات المفيدة.

وهكذا أيضاً عمليات الاستقراء الزمني للنصوص عن المعصومين ( قد تفيد في قراءة طبيعة ردود الفعل المختلفة في الظروف الزمنية المختلفة، فمثلاً إذا أخذنا عينةً وقمنا بتتبّع زمني لما ورد فيها من نصوص؛ بحيث فرزنا نصوص كل معصوم أو كل حقبة على حدة، فقد نعثر على بعض المعطيات، وكأنموذجٍ حاصل فعلاً فكرةُ خمس أرباحِ المكاسب التي ذهب بعض الفقهاء الشيعة إلى أن نصوصها ظهرت في زمن الصادقين ‘، فقد تسبّبت هذه الفكرة بفتح الباب أمام الكثير من التحليلات التي أوصلت بعض الفقهاء إلى تأسيس مباني أصولية وفقهية لتفسيرها.

ومن هذا القبيل ترقب النصوص التي سبقت وأعقبت حادثةً تاريخية معينة كتحوّلٍ سياسي أو ظهور فرقة مذهبية أو سياسيّة جديدة وهكذا..

وفي هذا الإطار، تدخل مسألة استقراء النصوص الطويلة، وفرزها عن النصوص القصيرة ودراسة الميزات، أو تتبع النصوص الشفاهية وفرزها عن المكاتبات وتحليل الخصائص.

مثل هذه النماذج ـــ وغيرها الكثير ــــ مجالاتٌ واسعة لعمل الاستقراء والإحصاء ونظرية الاحتمال، وأرضيةٌ مناسبة لبروز أفكار صغيرة جديدة ومتفرّقة، وهي نافعة ــ إذا جرى تنسيقها ــ في أحكام وحالات عديدة.

وليست النتيجة المتوخاة من وراء ذلك كلـه هو تصحيح نصٍّ أو رفضه فحسب، بل حتى ميزات أخرى متعلقة بالأحكام الأولية والثانوية، وبالاحكام ذات الديمومة أو المرحلية، وغير ذلك الكثير على صعيد الفقه، ولعلّ ما هو على الصعيد غير الفقهي أكثر.

الأنموذج الرابع: ما يتعلق بتحليل الخطاب، فإن الباحث إذا أراد قراءة شخصية كاتبٍ ما أو استشراف فكره مثلاً يمكنه أن يرجع إلى الكتاب الذي ألّفه ويقوم بإجراء عَمَلٍ استقرائي إحصائي، فمثلاً إذا لاحظ وجود عدد كبير ومميّز من كلمة الحبّ، فإن هذا يمنح الباحث تصوّراً عن عقلية الكاتب، وإذا وجد كلمة المعنويات كثيراً فإن ذلك يضيف عنده معطى جديداً وهكذا، وطبعاً فهذه طريقة لـها ضوابطها لكنها بالتأكيد ــ ودعم من الدراسات النفسية ــ تستطيع أن ترشد القارىء إلى طبيعة تفكير الكاتب، بما لا مجال للإطالة فيه هنا.

هذه الطريقة يمكن تطبيقها على النص الديني، وأخص بالذكر هنا القرآن الكريم، إن إحصاء كلمة القتال، المحبة، السلام، المغفرة، القوّة، الرحمة، الأوامر، وصيغ النواهي، المؤمنين، الكافرين، العفو، الصدق، الويل، النبي، الإيمان، الإسلام، بني إسرائيل، الجنة، النار، القيامة.. وإجراء مقايسات يمكنه أن يرشد إلى معطيات كثيرة جداً في تحديد البنى المفاهيمية التي طرحها القرآن الكريم.

فمثلاً، إحصاء آيات القيامة والآخرة بما يزيد أو يقرب من الألفي آية، يمكن تحليلـه ومعرفة حجم الدور الذي تلعبه فكرة الآخرة في الدين الإسلامي، وكذلك إحصاء الآيات المتحدّثة عن الجهاد والقتال والنفر.. يمكنه أن يرشد إلى موقعية هذه الفريضة ومقدار أهميتها عند المولى سبحانه وتعالى، وهكذا تجميع الآيات التي ورد فيها تعابير المحبة والسلام والرحمة والرأفة والمغفرة واللطف و.. يمكنه أن يقدّم بتحليلـه رؤى عديدة حول هذه العناوين عقائدياً وحقوقياً، وهكذا إحصاء الكلمات المتحدثة عن الصدقة والزكاة والإنفاق ونحوها من شأنه أن يدلّل على المكانة التي تحتلـها هذه المفاهيم في المنظومة الأخلاقية والحقوقية الإسلامية..

وتلعب هذه الطريقة دوراً مهماً في تحديد السلم الرتبي للمفاهيم والأحكام كما أشار إليه بعض الأصوليين([16])، أو في تحديد ما يسمّى اليوم: ذاتي الدين وعرضيّه، فإن كثرة نصوص فكرةٍ معينة أو حكم معين يمكنها أن تدلل على مقدار الأهمية، وبالتالي كيفية تقديم أحدهما على الآخر في موارد التـزاحم ورسم الأولويات.

ولكي أقدّم مثالاً دالاً هنا، آخذ علم الفقه الإسلامي، فقد أخذ هذا العلم موقعاً كبيراً في الحياة الإسلامية حتى طغى ـــ أحياناً ـــ على البُعدين: القيمي الأخلاقي، والعقدي الكلامي، مع أن جميع آيات الفقه والأحكام في القرآن الكريم، التي لا تـزيد ـــ على ما هو المعروف ـــ عن خمسمائة آية، وقيل: إنها تبلغ الألف، يجعل مجال الفقه في القرآن الكريم، لا يبلغ السدس على تقدير، ولا حتى عُشر القرآن على التقدير المعروف لآيات الأحكام، بينما نصوص الأخلاق والموعظة والعقيدة و.. أكبر من ذلك بكثير، وهذا ما يمكنه أن يرشد إلى مسلسل أولويات في العلوم الدينية نفسها، وفي الوعي الجمعي للمجتمع الإسلامي أيضاً.

إلا أن هذه الطريقة يجب أن تستبعد الاحتمالات الأخرى في تفسير سبب الكثرة الكمية، فلعلّ الظرف الزماني قد فرض أحياناً شيئاً من هذا القبيل، وهو أمر أكثر ما يكون في عالم الروايات، كما بيّن ذلك الشهيد الصدر في مباحثه الأصولية([17]).

إلى غير ذلك من النماذج العديدة التي نعرض عنها طلباً للاختصار.

ثانياً: المحور الميداني العملي

ونقصد بهذا المحور المجال الميداني للدين، وسوف نحاول أن نبحث هذا المحور ضمن نقطتين، نتعرّض في إحداهما للتأثيرات الميدانية للدين، فيما نحاول في الأخرى أن نقرأ المؤسّسة الدينية على ضوء التفكير الاستقرائي الإحصائي.

النقطة الأولى: القراءة الميدانية للدين

فكرة دور الدين في حياة الإنسان كتب عنها الكثيرون من أبناء الديانات المختلفة، وحاولوا أن يؤكّدوا من خلال كتاباتهم وكلماتهم أن للدين دوراً إيجابياً في الحياة البشرية، وأنه إذا ما طبّق فمن شأنه أن تنعم البشرية في ظلـّه بالرفاهية والاستقرار والرخاء، وقد استفيد هذا المعنى من بعض النصوص الدينية نفسها، كما في قولـه تعالى: >وألّوِ استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءاً غدقا< (الجن: 16)، >ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء..< (الأعراف: 96).

وقد أثارت هذه العلاقة بين التطبيق السليم للدين وبين تحقيق السعادة الإنسانية حفيظة جملة من العلماء والباحثين، فأخذوا يستطلعون طبيعة هذه العلاقة ويحاولون قراءتها فلسفياً عرفانياً نصّياً، فالصدقة مثلاً كيف تدفع البلاء؟ هل هناك رابطة وحلقة وصل غيبية بين دفع المتصدّق للصدقة وبين اندفاع بلاء الاصطدام بحادث سير عنه، أو أن دفعه للصدقة يؤدي ــــ بحسب تسلسلـه الطبيعي المادي ـــ إلى تداعيات تفضي بدورها إلى انخفاض حجم الكوارث والمصائب في المجتمع، فيندفع ـــ من ثمّ ـــ البلاء عن هذا المتصدّق بوصفه أحد أفراد هذا المجتمع؟ الأمر الذي يترك أثره في تحويل مسار الخطابات الدينية من خطابات فردية إلى خطابات جمعية ومجتمعية.

وبعيداً عن الجدل في هذه المسألة ــ وهو جدل مطلوب ومنتج ــ فإن ما تشترك فيه كلتا الرؤيتان هو التأثير الواقعي للتطبيق الديني، أي أن تنفيذ تعاليم الدين ـــ كلاً أو بعضاً ـــ من شأنه أن يؤدي من الناحية العملية والميدانية إلى انعكاساتٍ حقيقيّة على حياة الإنسان ـــ فرداً ومجتمعاً ـــ على المستوى الدنيوي، كما تلك الحاصلة على الصعيد الأخروي، وكما هي الانعكاسات السلبية الأخروية كالعذاب والبعد من اللـه تعالى بوصفها نتيجةً لمخالفة التعاليم الدينية، كذلك النتائج السلبية الدنيوية بوصفها معادلاً لـهذه النتيجة في هذا العالم.

وهذه النظرية يفترض بها ــ بحسب السياق المتقدم ــ أن ترتكز على مجموعة أسس ومرتكزات جرى الفراغ عنها في علمي: الأصول والكلام، ومن أبرزها قانون تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، وبعض نتائج بحث العقل العملي كقاعدتي: اللطف والأصلح، وغيرهما مما ذهبت إليه العدلية من الشيعة والمعتـزلة.

غير أن الطريقة الكلامية في إثبات معادلة السلب والإيجاب بين الإجراء العملي للدين وعدمه وبين النتائج الموضوعية المترتبة على ذلك هي ـــ على أقصى الحدود ــــ طريقة عقلية تعتمد المنطق الصوري في إثبات الأمور، فتؤكّد المعادلة دون أن تدلّنا على مفرداتها في الخارج؛ أي أنها تقف أمام القضايا الذهنية لتضعها في نسق الترتيب المنطقي المقرّر سلفاً، فتؤكّد الصغرى ــ ولو كانت بنفسها إطاراً كلياً ــ انطلاقاً من الكبرى؛ فهي طريقة تنازلية لا تصاعدية، أما على المستوى العملي ــ أي في الواقع الفعلي ــ فهل أن الأحكام التي طُبّقت بين المسلمين كان لـها تطابق ـــ بحسب النتيجة ــــ مع تلك المعادلة الكبرى التي أسّسها علم الكلام الإسلامي؟ هل أن ترك المسلمين لشرب الخمرة ــ بأيّ نسبة كان ــ قد حقق عملياً وميدانياً نتائج إيجابية ملحوظة أم أنه سبّب في تورطهم بسلبيات عديدة أخرى؟

هذا النوع من القراءة للمصالح والمفاسد الناجمة عن إجراء الدين بوصفه عقيدة أو إيماناً أو مفاهيم أو أخلاقاً أو عادات أو شريعة.. ــ لا فرق ــ ينطلق في التقييم من الأسفل ثم يصعد ليثبت النتيجة وليدلّل بالأرقام ـــ لا بالعناوين ــــ على تلك القاعدة الكلامية وأمور أخرى أيضاً، وهو ما نسميه القراءة الميدانية للدين، والتي يمكنها أن تلتقي وتدعم الأطروحات الحديثة في علم النفس الديني أو علم الاجتماع الديني، لكن لا على طريقة تحليل النصوص، كما فعلـه جملة من الباحثين، وهو جهد هام وضروري جداً، وإنما على طريقة تحليل الواقع ــ من أفراد وجماعات ــ وقراءة تأثيرات الدين في هذا الواقع الإنساني، وهو أمر يعتمد ــــ بالدرجة الأولى ــــ على منهج العمل الاستقرائي الإحصائي.

عيّنات دالّة من القراءة الميدانية للدين

ولا بأس هنا بذكر نماذج موجزة؛ لتقريب الفكرة إلى الأذهان.

العينة الأولى: الظاهرة الرمضانية، فإن تتبع تأثيرات هذه الظاهرة ــــ نفسياً وروحياً وجسدياً ـــ يمكنه أن يقدّم لنا صورة ميدانية عن نتائجها، وكمثال بسيط، نحن نرى أن الكثير جداً من غير المتدينين فضلاً عن المتدينين يحاول ــ هيبةً من قداسة هذا الشهر الناشئة من بُعده الديني ــ أن يبتعد قدر الإمكان عن الذنوب، فترى بعضهم يصلّي فقط في شهر رمضان ويترك شرب الخمرة ويحاول الابتعاد عن السرقة ونحوها، هذه الظاهرة البسيطة إذا أخضعت لإحصاء يمكنه ــ ونحن هنا نستقرب لا نجزم لأننا لم نخض التجربة كاملةً ــ أن يؤكد لنا انخفاض معدلات الجريمة في المجتمع الإسلامي في هذا الشهر، وهكذا الجانب النفسي والجسدي..

العينة الثانية: ظاهرة الصدقة تدفع البلاء، المستمدّة ــ بوصفها سلوكاً اجتماعياً عاماً ــ من النصوص الدينية، فإننا لو حسبنا الحالات التي يتصدّق فيها كل فرد مسلم كل سنة نتيجة تعرّضه لحادثٍ مؤلم أو خوفاً من تعرّضه لـه، لربما جمعنا مليارات الدولارات سنوياً مما يصرف على الفقراء لا أقل كثيره، وهذا من شأنه أن يحدّثنا عن مدى الآثار الطيبة التي تحدثها قناعة من هذا القبيل على صغر حجمها، إلا أن التعالي وتوسعة الأفق من الجانب الفردي إلى النظرة الشاملة يرفع من شأن هذا المفهوم الديني.

العينة الثالثة: فكرة رعاية اليتيم النابعة في المجتمع الإسلامي من الدافع الديني غالباً، فإن إحصاءات بسيطة على تأثير هذا الدفاع يمكنها أن تدلنا على مئات الالآف من الأيتام ــ وربما الملايين على مستوى العالم الإسلامي ــ الذين ينعمون بدرجة أو بأخرى بالنعم المادية من خلال هذا الدافع، وأمر من هذا القبيل يمكن قراءة تداعياته النفسية والاجتماعية، فإن سدّ حاجات اليتيم ـــ كلاً أو بعضاً ـــ يؤدي إلى الوقاية من تولّد عناصر إجرامية ومكوّنات فاسدة وعدوانية في المجتمع..

العينة الرابعة: صلة الأرحام التي تعود الكثير من جذورها ودوافعها ـــ ماضياً وحاضراً ـــ إلى أسباب دينية، فإن قراءةً إحصائية لتأثيراتها قد ترشدنا إلى حجم الكوارث الأسرية التي يتم تلافيها عبر هذا المفهوم، لا أقل على المستوى الاقتصادي؛ إذ تساهم هذه الألفة في سدّ العجز الاقتصادي نسبياً لعوائل كثيرة من خلال حسّ القرابة الحي، وبالتالي إلى تفادي ظواهر شاذة في المجتمع نتيجة إقفال أبواب الخلاص المادي.

العينة الخامسة: ظاهرة البكاء الديني في قراءة القرآن أو الصلاة أو جوف الليل أو الدعاء أو التوبة أو.. ويمكن تقديم قراءة إحصائية تلاحظ تأثيرات هذا البكاء على الفرد المتدين مرفقةً بدراسة نفسية علمية، ولعلنا نجد ــ كما قيل ــ أن الكثير من الاحتقان أو الإحباط أو الضغط النفسي أو الإرهاق العصبي أو القلق والاضطراب يمكن تنفيسه من خلال هذا البكاء..

وهكذا الحال في ثقافة التوبة والاستغفار وحدّها من ظواهر اليأس والقنوط والإحباط والفشل والركود، سيما فيما يعتبره المجتمع أيضاً ذنباً كبيراً يُنبذ صاحبه عليه.

العينة السادسة: المفاهيم الدينية فما يتعلّق بالغنى والفقر، وهو ما يمكن قراءة تأثيراته ميدانياً لنجد مدى حدّها من الفارق الطبقي، ومن مفاهيم الاستغلال والاستعباد، ومن أمراض التكبر والتعالي، وقد نعثر في هذا البناء المفهومي على السر في قدرة هذه المفاهيم المنتجة لمثل الخمس والزكاة والصدقات ورعاية الأيتام و.. على الحدّ من إحساس الغربة لدى الطبقة الفقيرة، وتهدئة ثورتها وإحباطها النفسي، وبالتالي تجنّب مؤثرات اجتماعية ذات طابع ثوري، على غرار ما حصل في روسيا القيصرية وبعض ما حصل في التاريخ الإسلامي.. وهكذا الحال في فكرة الخمس والزكاة وإيجابياتهما الضخمة، مهما كان حجم السوء في التوزيع.

العينة السابعة: ثقافة المحرّم الديني، والأعمال على قدر المشقة، ودراسة مدى تأثير ثقافة تجنب المحرّم المملوّ باللذة والرخاء على الشخصية التي يتميز بها المؤمن، فقد نجد عناصر قوة الإرادة والصلابة والإصرار والجدّية والتحمّل والصبر والثبات في هذه الشخصية بصورة متميزة، قد لا نجدها في الكثير من الشخصيات الأخرى.

العينة الثامنة: فكرة احترام الوالدين وقداستهم المستمدّة والراسخة في الثقافة الدينية حالياً، وقراءة دورها في الحدّ من مشكلات العجزة وكبار السنّ النفسية والعاطفية؛ إذ تدفع هذه المفاهيم إلى إيواء الوالدين والاستغناء عن دور العجزة، وهذا من شأنه أن يوفر الأمن والطمأنينة والاستقرار، فضلاً عن التلاحم الأسري..

العينة التاسعة: الزواج المؤقت، ودراسته ــــ ميدانياً وإحصائياً ــــ مع تحليل نفسي واجتماعي، خصوصاً لو كان مقارناً بين مجتمعين محافظين: سنّي وشيعي، وتحليل مدى الآثار التي يخلّفها وجودُه وعدمُه في كلا المجتمعين، ومدى دوره في الحدّ من الفاحشة والإحساس بالذنب، والصراع مع الذات، وتنفيس الكبت الجنسي، وكذلك حلّ بعض المشكلات المستعصية لبعض الشرائح، كشريحة النساء الأرامل والمطلقات، دون التورّط في الزنا الذي لـه آثاره الأخرى، والتي تستحق القراءة هي الأخرى.

العينة العاشرة: نظام العقوبات ومفرداته؛ إذ يمكن دراسة تأثير العقوبات الإسلامية في الأماكن التي يجري تطبيقها فيها، ومحاولة مقارنة هذه النتائج مع ما تخلفه تطبيقات قوانين جزائية وجنائية وضعية أخرى.

العينة الحادية عشرة: فكرة الحجاب بمعناها الواسع الشامل للستر واللمس وأنواعٍ من الاختلاط ونحو ذلك، وملاحظة مدى حدّها من الانفجارات الغريزية أو العكس، وكمثال فقد قرأ الدكتور علي الوردي في «مهزلة العقل البشري»([18]) هذه الظاهرة، واعتبرها ــ بعد دراسة عينات متكرّرة كرجال البحرية والجنود والمساجين ــ سبباً أساسياً لظهور حالات اللواط والشذوذ الجنسي.

العينة الثانية عشرة: ثقافة الجنة والنار، ودورها الميداني في الشعور بالأمل في استرداد الذات، وأساساً فكرة الثواب والعقاب هي من أهم الركائز في الفكر التربوي وعلم النفس، وقد قرأ علماء النفس التربوي هذه الفكرة وتأثيراتها ميدانياً على مستوى العائلة والمدرسة و.. مما يمكن قراءته مجدّداً مع الأخذ بعين الاعتبار الاتجاه الديني.

العينة الثالثة عشرة: الظاهرة الدينية نفسها وتأثيراتها العملية في الحدّ من نـزعات اللاإنتماء واللاتمذهب واللامبالاة والإفراغ الفكري، وعدم تحسسّ العناصر الشابة للـهمّ والمسؤولية وغيرها، مما قد يتحوّل إلى أمراض في الشخصية الاجتماعية..

العينة الرابعة عشرة: دراسة ظاهرة الحجّ وتأثيراتها الميدانية، سيما على الصعيدين: النفسي والاقتصادي، فالحجّ مادة دسمة لدراسات من هذا القبيل.

العينة الخامسة عشرة: ثقافة أن الميزان إنما هو العلم والتقوى لا الأبيض والأسود أو اللغة أو المال أو السلطة، وقراءة تأثيرات هذه الثقافة على التآلف والتواصل الإنساني، والحدّ من صراعات لُغوية أو عرقية أو لونية أو قومية أو وطنية بالمعنى السياسي الحديث لكلمة وطن، ويمكن هنا إجراء مقارنات بين التجربة الأميركية فيما يتعلّق بالعنصر الأسود والتجربة الإسلامية الحالية.

العينة السادسة عشرة: المفاهيم الاجتماعية الدينية، كمفاهيم إلقاء السلام وردّه، الابتسامة، مساعدة الكبير سناً واحترامه، رعاية الصغار، إطعام الطعام، الضيافة، الصداقة، الكرم، الاجتماع في مجلس واحد، آداب الاستماع، التحادث في المجالس العامة حتى بدون معرفة مسبقة، ثقافة السؤال والجواب، تبادل الزيارات.. وغيرها الكثير جداً، وهي خصال منتشرة إلى حدٍ جيد في مجتمعاتنا الإسلامية، وان كانت مهدّدة بالخطر نتيجة الثقافة الغربية والوضع الاقتصادي والمعيشي، ويمكن دراسة تأثيرات هذه المفاهيم في الاستقرار الاجتماعي، رفع الغربة الاجتماعية، التآلف والتآزر، التكافل الاجتماعي، رفع الإحساس بالوحشة، التأثير على السلوك والشخصية، وتقليل مظاهر النكوص والانطواء، تخفيف المعاناة الاقتصادية، رفع الكآبة وظاهرة الخوف و.. وغيرها الكثير، وقد شهدت النصوص الكثيرة جداً ـــ قرآنياً وروائياً ـــ بهذه المفاهيم وبالتفصيل.

إلى غير ذلك من العينات الكثيرة جداً التي لا مجال لذكرها، كنفس فكرة الإيمان باللـه تعالى، وأحكام اللقطة، وتعدّد الزوجات، والتردد إلى المساجد والمناسبات الدينية وغيرها..

ولا بأس هنا بالإشارة إلى بعض الأمور الضرورية وباختصار:

1 ــ إنّ عرض هذه العينات لا يعني استباق النتائج والحديث عن نتائج إيجابية فحسب، فقد تكون هناك نتائج سلبية عديدة يجب دراستها حتى تكون الصورة أوضح.

2 ــ من الضروري توخّي جانب الحياد لمن يقوم بهذه المهمة؛ فلا يعمل على التحيّز لما فيه مصلحة المفاهيم الدينية التي يراها، بل يجب أن يكون موضوعياً، وأن يطرح الأرقام والتحليلات بلغة علميّة واضحة وهادئة وشفافة، دون تعمية أو تغطية أو مواربة، وبروحٍ مرنة.

3 ــ لا تعني النتائج هنا أنها لا تتوفر في دينٍ آخر أو اتجاه فكري آخر دائماً، بل القضية مفتوحة على الأمرين بحسب طبيعة المقارنة، ومن ثمّ فالنتيجة لا تساوي دائماً احتكارها.

4 ــ هذه الجهود يزداد نفعها بمواصلتها عبر الأيام وتكرار النتائج حتى يأتي الجيل اللاحق ليحلّل مادةً ميدانية أكبر زماناً، وهذا ضروري أيضاً فهذا مشروع مستمرّ وليس محدد، وهو ما تتطلبه طبيعة النتائج التي نتوخّاها منه.

5 ــ هذه الخطوات تحتاج إلى عمل مؤسّسي كبير جداً، يستتبعه إنشاء بنوك معلومات ذات جهوزية دائمة، ولا يمكن لأفراد أن يقوموا به مكتملاً، لكن يمكن الاستفادة بقدر كبير من جهود وإحصاءات ودراسات المؤسسات العالمية والدولية، وإحصاءات حكوميّة محلية، وكذلك من مؤسسات خاصة ومستقلة، وسجلّ العمل الإحصائي حافل بالعمل والنشاط حتى على مستوى العالم الإسلامي، كما ويقترح هنا أن تكون بعض الدراسات المطلوبة من المتخصّصين في العلوم الدينية لتحصيل شهادة معينة هو أن يقوم بدراسة عينة في مجتمعٍ ما أو منطقة ما.

النقطة الثانية: القراءة الميدانية للمؤسسة الدينية

لا نقصد بالمؤسسة الدينية هنا مؤسّسة علماء الدين فحسب، وإنما كل جهد جماعي تقوم به مجموعة من الناس والغاية منه تقديم خدمة للدين ويكون على تماس مباشر مع الظاهرة الدينية كالمرجعية الدينية، الحوزات والجامعات الدينية، مؤسّسات وجماعات التبليغ والدعوة والتوجيه، مؤسسات نشر الفكر الديني، التنظيمات السياسية الدينية، الدولة الدينية.. أي كل شيء يمسّ الدين في واقعه من قبل جماعة وظّفت أو تقول بأنها وظّفت نفسها للمصلحة الدينية. والشيء الذي يدفع إلى تفعيل دور الماكينة الإحصائية في دراسة مثل هذه الظواهر الدينية هو محاولة استشراف أكثر قرباً من الواقع لدور هذه الجماعات وتأثيراتها، وبالتالي امتلاك قدرةٍ أكبر على تحديد وضعها بالدقة من حيث مشكلاتها وميزاتها من جهة، ومحاولة ترشيد هذه الجماعات والطاقات نحو خدمةٍ أكبر للدين، يتم فيها تفادي قدر أكبر من الأخطاء والمشكلات من جهةٍ أخرى.

وعلى سبيل المثال، فإن حركة التبليغ الديني غالباً ما لا تقوم بتقييم نفسها ميدانياً ودورياً، فالتبليغ الديني في القارة الأفريقية مثلاً في الوسط الشيعي، ما هي النتائج التي قدّمها ويقدّمها وبالأرقام؟ ما هي الآثار السلبية التي استتبعت النشاط التوجيهي هناك خلال العقدين الماضيين مثلاً؟ أساساً كم هو حجم النشاط الذي حصل من خلال أعداد المبلغين، أعداد المهتدين، تأسيس المؤسّسات والمدارس والمعاهد والحوزات والمساجد و.. ما هو مستوى المبلّغين الديني والعلمي، إطلاعهم على الأرض التي يعملون فيها، معرفتهم باللغات اللازمة… إنّ عدم وضع ملفات كاملة لمثل هذه الأمور وبشكلٍ دوريٍّ يعزز من أحكام التعميم الناتجة عن قراءة شخصية أو ناقصة للواقع، سواء كان الحكم إيجابياً أو سلبياً، وما لم تكن هناك توثيقات إحصائية شاملة فلا يمكن الحكم على الواقع حكماً شاملاً كذلك.

وفي هذا الإطار، يمكن أن يوضع تصوّر أوّلي ومختصر لمشروع استكشافي للواقع الديني بهذا المعنى هنا، على الشكل التالي:

1 ـ الحوزة العلمية

ومجالات الإحصاء والدراسة الميدانية التي تطال الحوزة العملية كثيرة أبرزها:

أ ــ إحصاء أعداد العلماء والطلبة من المناطق والدول المختلفة، وإجراء مقارنة بينها وبين مدى الحاجة في تلك البلاد، فلربما نجد بعض البلدان يوجد نقصٌ شديد فيها وهي بحاجةٍ إلى وجود علماء مستقرّين يتابعون الشأن الديني بمجالاته المختلفة، بينما نجد في أماكن أخرى حالةً من الزيادة والتخمة التي قد تسبب أحياناً حدوث مشكلات جوهرية وشكلية من خلال توظيف الطاقات العلمائية ضمن دائرة محدودة لا تستوعب هذا العدد كلـّه، وهذا الإحصاء المدروس يساعد على إصدار أحكام وأنشطة واضحة في الحث على طلب العلم الديني أو محاولة تجميد هذا التشجيع والتقليل من شأنه، والتي تصدر بصورة تعميمة غير مستوعبة للواقع كلّـه في أكثر الأحيان، والشواهد الخارجية على اختلاف المناطق أكثر من أن تحصى.

ب ــ إحصاء العلماء والطلاب العاملين في المجال السياسي وأولئك الخارجين مطلقاً عن هذا الإطار، وتحديد ذلك باستمرار؛ لنجد هل هناك توجه نحو الـهروب من العمل السياسي الحوزوي أو إقدام عليه؟ وهذا ما يجعل من خطواتنا بهذا الصدد أكثر دقة.

ج ــ إحصاء الطلاب والعلماء من خلال توجّهاتهم الفكرية والثقافية وكذلك السياسية، وهو إحصاء هام يرشدنا إلى تحديد أكثر وضوحاً للواقع الحوزوي، ويمكن هنا إجراء إحصاء بواسطة أخذ عينات فكرية، سياسية، ثقافية، تربوية، اجتماعية.. لمعرفة مدى تفاعل الحوزويين معها ومستوى تعاطيهم الثقافي والسياسي و.. من قبيل عيّنات الحداثة، العولمة، الوحدة الإسلامية، الدولة الإسلامية، العنف، التعصب، المذهبية، تحديث المرجعية، اصلاح الحوزة، الحرية، القومية..

د ــ إحصاءات على الحوزويين وطلاب الشريعة حول انفتاحهم على غير دوائرهم الخاصة، كالسنّة بالنسبة للشيعة والعكس، وكذا المسيحيين، والمختلفين معهم في القومية… أو تواصلـهم مع شبكات المعلوماتية كالكمبيوتر والانترنت والصحف والمجلات والراديو.. ومدى اهتمامهم بهذه الأمور، ومن هذا القبيل إجراء إحصاءات على الطلاب والعلماء المنتسبين إلى الجامعات أو خريجيها وملاحظة النسبة سنوياً؛ لنرى المؤشر إلى أين يتجه فيما يتعلّق بالانفتاح الحوزوي والتقارب الحوزوي الجامعي.

هـ ــ إحصاء النشـاطات الفكرية والثقافية للحـوزويين، كمؤسّسـات البحث والتحقيق والكتابة والترجمة، والمؤسّسات القضائية، وعدد الكتّاب وأصحاب القلم، وعدد الشعراء والأدباء والفنيين.

إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة جداً، كإحصاءات التقليد التي تساعد على التبليغ الصحيح، وتعرّف بالموقف الجماهيري الشيعي وقناعاته وميوله إزاء المرجعية الدينية، وحتى إحصاءات تتعلّق بالواقع وتستبق طرح أي مجتهد لمرجعيته الدينية حتى لا تحدث ردود فعل غير مدروسة سلفاً..

والجدير ذكره أن كبرى الحوزات العلمية الشيعية اليوم تقع في مدينة قم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو أمر يوفر للحوزة الشيعية المجال الكبير والفرصة الذهبية لإنجاز مشاريع من هذا القبيل، سيما بعد التوجّه الإصلاحي الحوزوي الواضح لقائد الجمهورية الإسلامية السيد علي الخامنئي، والتغطية المادية والمعنوية الكبيرة جداً من قبلـه، مما من شأنه أن يغذي ليس فقط هذا البنك المعلوماتي حول الحوزة، بل كل هذا المشروع المتقدّم ذكره.

وفي تقديري، فإن أي إصلاحٍ للحوزة العلمية والمؤسسة العلمية الدينية يجب أن يرتكز ــ عملياً ــ على قواعد معلوماتية إحصائية موثقة تكشف الواقع وتعالجه عن قرب أكثر، بدل الاقتصار على وضع حلول ضبابية عامة أو شبه عامة، بعضها غير مطّلع بصورةٍ كافية، فبالإحصاء والاستقراء يمكننا أن نعرف النقاط الفارغة في الحوزات والمعاهد الدينية ونركّز النشاط عليها، مستخدمين أساليب التغيير غير المباشر والمثير.

2 ــ التبليغ ونشر الدعوة

ويمكن هنا استخدام العمل الاستقرائي الإحصائي ضمن مجالات أبرزها مختصراً:

أ ــ إحصاءات يعرف منها أعداد المبلّغين الثابتين وغير الثابتين في مختلف البلاد والمناطق، وبالتالي تحديد الأماكن التي لا يوجد فيها مبلّغ مستقر والتي يوجد فيها أكثر من مبلّغ.

ب ــ إجراء إحصاءات حول مدى تأثير كل مبلّغ في منطقته أو مجموعة مبلّغين في منطقة معينة، كالقارة الأوروبية مثلاً، وتحديد مدى الفراغ الذي تمّ ملؤه، فهل ردود الفعل الشعبية تعبر عن ارتياح أو لا مبالاة أو امتعاض؟ ما هي النقاط التي جذبت الجمهور لمبلّغٍ ما؟ ما هي طموحات وتوقّعات القاعدة من هذا المبلّغ في منطقتهم، هل هو بناء مسجد أو مدرسة أو حسينية أو مجمع ثقافي أو حوزة علمية أو مجمّع رياضي أو خدمات اجتماعية؟ وما هي الأولويات؟..

ج ــ إحصاءات عن الواقع الذي يُراد إرسال مبلّغ إليه، من قبيل المستوى الذهني للناس، توجّهاتهم السياسية والمذهبية، مدى اطّلاعهم على الدين ومدى حضور ظاهرة التدين عندهم، عنصر الشباب وهمومه، الفراغ الديني بدءاً من أبسط المعاملات كالزواج والطلاق والوصية والإرث وصلاة الميت والجماعة وقراءة الدعاء ومجالس العزاء الحسيني.. إلى المهام التبليغية الأصعب والأعقد، وضع المرأة والطفل في هذا المجتمع، أبرز المشكلات الأخلاقية، كعدم صلة الأرحام أو الفحش أو السرقة أو..، تجاربهم مع مبلّغين سابقين، هل المشكلة في تعلّم الوضوء والصلاة.. أو في الغيبة والنميمة أو في خلافات سياسية وحزبية حادة أو في ضعف المستوى العلمي والثقافي؟ مدى الحضور العلمي في وسطهم كالمدارس والجامعات ومراكز الأبحاث، حوزات علمية، أعداد خريجي المدارس والجامعات، ظاهرة الأمّية، المطالعة.. وبإعداد تقرير شامل ودوري حول هذه الموضوعات وغيرها، سواء على مستوى قرية أو مدينة أو على مستوى دولة أو قارة، يمكن أن تنجلي الصورة ويجري العمل على وضع الشخص المناسب في المكان والزمان المناسبين، كما يساعد ذلك على تحديد الأولويات بشكل ملفت، إلى غير ذلك من النماذج.

3 ــ مؤسسات الفكر الديني

وهي المؤسّسات المهتمة بالشأن الفكري والثقافي والبحثي كدوائر المعارف، ومراكز تحقيق التراث، ومراكز الأبحاث والدراسات، ومؤسسات النشر والترجمة، والمؤسّسات الكمبيوترية ومواقع الانترنت، والمجلات والإصدارات والكتب.. ويمكن هنا توظيف الإحصاء فيما يلي:

أ ــ إحصاء مدى التجاوب الثقافي مع الخطاب الديني المتجلّي في نتاجات هذه المؤسسات، مدى الرغبة والاقبال والتفاعل مع المجلات والإصدارات والكتب الدينية الصادرة يوماً بعد يوم، الملاحظات المشتركة عليها، مدى حضورها وتردّدها في الوسط الثقافي، مدى تأثيرها على الوعي العام، نقاط ضعف هذا الخطاب بالنسبة للشباب، مدى اهتماماتها بمشكلات العصر، إحصاء الإصدارات المتخصّصة، سيما المجلات، ومعرفة الفرع العلمي الذي يوجد فيه نقص على هذا الصعيد..

ب ــ إحصاء معدّلات الإنتاج من حيث عدد الكتب الدينية والفكرية الصادرة سنوياً، المجلات، النشريات، الصحف ذات الخلفية الدينية، المؤتمرات والملتقيات والمنتديات الدينية ونشاطاتها، أعداد الكتب التراثية المحققة سنوياً، أعداد الكتب المترجمة.. وتقديم جداول إحصائية بكل فرع من فروع المعرفة الدينية من حيث درجة الإصدارات والنتاجات، وتحديد الفرع الأكثر نقصاً والأكثر كمالاً..

إلى غير ذلك، مما لا مجال لذكره في هذا المختصر ممّا تقوم بإنجازه ــــ بصورة متفرّقة ــــ الكثير من الدول والمؤسسات الإسلامية، بيد أنه بحاجة إلى قراءة أكثر عمقاً وموضوعية وشمولية وتوظيفية.

إنّ ما هدفناه من ذلك كلّه، تعميمُ هذه الثقافة في التعامل مع المعطيات الفكرية والميدانية، وعدم بقاء العالم الديني والمثقف الإسلامي في إطار التعميمات الضبابية عن واقع الفكر والحياة، كما هي الكثير من الأحكام الصادرة في هذا الشأن، إنّ خلق هذا اللون من التفكير ــ الرقمي ــ إزاء القضايا الفكرية والميدانية التي نواجهها سيساعد على تقديم حلول جادّة، تملك قدرة التطبيق؛ لأنها تعرف الواقع الذي تريد العمل على أرضياته.

 _________________________________

(*) نشر هذا البحث في العدد الثالث والعشرين من مجلة المنهاج في بيروت، عام 2001م، ثم نشر في كتاب (مسألة المنهج في الفكر الديني) للمؤلّف، عام 2007م.

([1]) آندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية: 1335 ــ 1336.

([2]) منير البعلبكي، موسوعة المورد العربية 1: 50.

([3]) المصدر نفسه؛ وراجع عبدالرحمن عيسوي، الإحصاء السيكولوجي التطبيقي: 5 ـــ 6.

([4]) عيسوي، الإحصاء السيكولوجي التطبيقي: 5 ـــ 6.

([5]) المصدر نفسه.

([6]) المصدر نفسه: 9.

([7]) المصدر نفسه.

([8]) المصدر نفسه: 6.

([9]) المصدر نفسه.

([10]) المصدر نفسه.

([11]) المصدر نفسه: 11.

([12]) موسوعة لالاند: 1336.

([13]) محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاسـتقراء: 403 ـ 413؛ وأوضحه مبسّطاً في «المرسل، الرسول، الرسالة»، راجع: الفتاوى الواضحة: 26 ــ 30.

([14]) المعالم الجديدة للأصول: 170 ــ 171.

([15]) اقتصادنا: 533 ــ 537.

([16]) الصدر، بحوث في علم الأصول: 7.

([17]) المصدر نفسه.

([18]) علي الوردي، مهزلة العقل البشري: 15.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً