أحدث المقالات

معالم نهضة وسياقات مشروع إصلاحي

ـ الحلقة الأولى ـ

1ـ مدخل إلى رصد سياقات مصائر الإصلاح

شكّل رحيل المرجع الدينيّ العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله مفترقاً جديداً في مسيرة الوعي والإصلاح الدينيّ التي انطلقت في القرن العشرين، وقادها رجالٌ كبار، من محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، مروراً بحسن البنّا ورشيد رضا ومحسن الأمين، وصولاً إلى الخمينيّ ومحمد باقر الصدر وشريعتي وموسى الصدر ومطهّري و… شكّل غيابه صدمةً لبعض تيارات الإصلاح الديني، وكان هناك شعورٌ بحجم الفجوة التي حدثت.

مآلات تجربة العلامة فضل الله، دلالات حدث ما بعد الوفاة

ترك العلامة فضل الله إرثاً علمياً كبيراً، وكذلك قاعدةً جماهيريّة واسعة، ولاسيما في الأوساط النخبويّة، كونه مثّل لعقود منزلة الأب الروحيّ للكثير من هذه الجماعات. ولهذا يذهب فريقٌ إلى القول بأنّ مشروعه هذا سوف يستمرّ ويبدي نفسه في شخصيات جديدة عاجلاً أم آجلاً. لكنْ وبالرغم من الطابع المؤسّساتي الذي تحظى به مرجعية العلامة فضل الله، قياساً بالعديد من المرجعيات الدينية في العالم العربي، إلا أنّ هناك قلقاً كبيراً يلفّ الإرث الفكريّ والمنهجيّ الذي تركه؛ فهناك مَنْ يعتقد بأنّ هذا الخطّ من الوعي الدينيّ سوف يتلاشى تدريجياً بعد رحيله؛ إذ لم يتمكّن فضل الله ـ ولو بسبب حجم الحملة الواسعة عليه ـ من توفير الحدّ الأدنى لاستمراريّة مسيرة وعي كبيرة في جيل تلامذته والمقرّبين منه. قد يكون إرثه ذا تأثير محدود زمنيّاً، لكنّه سرعان ما سينصهر في خضمّ الحالة العامّة الدينيّة، والتي يتقاسمها تيار الوعي الثوري من جهة وتيار الفهم التقليديّ المدرسيّ من جهة ثانية.

وقد يتعزّز هذا الشعور من خلال عدم وجود مراكز دراسات كبيرة وهامّة متعدّدة لتكون إرثاً يستطيع حمل المسؤولية بعد رحيل العلاّمة الكبير، اللهمّ إلاّ بعض المراكز القليلة التي أخذت بدورها حظّاً من التهميش والحجر.

وقد تكون الأحداث التي رافقت وتلت رحيل العالم الكبير دالّةً على شيءٍ ما، فالتيارات التقليديّة ـ ممثَّلةً برموزها ـ فضّلت مواصلة طريق الإقصاء وتجاهل الإرث الشعبيّ الذي يملكه فضل الله، فلم تُصدر حتّى بيانات نعي وبرقيّات تعزية، في إشارة واضحة إلى أنّ المطلوب هو سياسة النفي من الوجود، وعدم إعطاء أيّة شرعية في أيّة لحظة زمنية لهذا الكيان المتمثِّل بالعلاّمة فضل الله، ولهذا شكّلت مظاهر التشييع والعزاء صدمةً لهذا الفريق الذي لم يكن متوقِّعاً أن يحصل ذلك بعد كلّ هذه السنين الطويلة من الجهود الإقصائيّة المضنية ضدّ الرجل.

بدت هذه الخطوة قاسيةً على القاعدة الجماهيريّة المدركة لتعقيدات الأمور، وهذا ما يفسّر بعض ردود الفعل العنيفة ضدّ رموز التيار التقليديّ هنا وهناك. فبالرغم من أنّ حركةً ملحوظة كانت تتَّجه لتتويج بعض المرجعيّات خَلَفاً للعلاّمة فضل الله، رغم عدم كونها جزءاً من مسيرة الفكر التصحيحيّ الذي ارتآه الراحل، ولو من وجهة نظر أنصاره، إلا أنّ رمزية ما حدث بُعَيْد وفاته صدّ قاعدةً جماهيريّة كبيرة عن التفكير في ذلك.

على خطّ آخر، كانت الخطوة المتقدّمة التي قام بها الأمين العام لحزب الله العلاّمة المجاهد السيد حسن نصر الله حفظه الله، مستبقةً الأحداث، ومدركةً بوعيٍ سياسيٍّ كبير أيضاً ـ إضافة إلى ممارسة أخلاقيّة ناضجة تقدِّر الآخرين على كلّ حال وتثمِّن تاريخهم حتى ولو اختلفت معهم في بعض الأمور ـ أنّه من الضروري فتح نافذة على الإرث الشعبيّ للعلاّمة فضل الله، وعدم معاداته أو خسارته، ولاسيما في وسط النخبة؛ لأنّ أيَّ تجاهل قاسٍ لهؤلاء الذين لا يقفون ـ بالمناسبة ـ عند الحدود اللبنانيّة من شأنه أن يولّد، في مناخ قضيّة حسّاسة كهذه، خلايا صغيرةً كثيرةً شديدة التطرّف، قد تظهر يوماً ما في نزعات تجديديّة متطرِّفة، كما حصل في أكثر من بلد إسلاميّ وعربيّ.

كان الإدراك اللبنانيّ (والبحريني) للحدث أكثر نضجاً من الإدراك الخارجيّ، وقد كان هذا الأمر متوقَّعاً، انطلاقاً من خروج لبنان عن دائرة الضغط التي قد يقع فيها الآخرون في بعض المواقع والمناطق.

مسيرة الإصلاح والتجديد، البحث عن المرجعية الخلف

على خطّ ثالث، بدت القاعدة الجماهيرية المشار إليها، ووفقاً لأصول التديّن الشيعي، تبحث عن خلف مرجعيّ يمكن اللجوء إليه. وقد تعدّدت الأسماء، وخرج بعضها عن دائرة التداول، فيما دخلت أسماء جديدة تحت تأثير ما حصل عقب الوفاة. والإشكالية الثقافية التي تواجه أنموذج العلامة فضل الله في الإصلاح الدينيّ هي وجود قلق من تشكيل المرجعيّة الجديدة عاملاً ارتكاسيّاً؛ بسبب نفوذها، على هذه القاعدة، فإذا عادت بها نحو الوراء فهذا ما يشكّل ضربةً قاصمة لمشروع العلاّمة فضل الله في استمراريّته الشعبيّة. كانت هذه التجربة قد وقعت عقب وفاة الإمام الخميني، ثم بعد وفاة الشيخ الأراكي. وكان الرأي آنذاك يتَّجه نحو تكريس مرجعيّة قادرة على إخراجنا من المأزق، لا مرجعيّة قد تضعنا أمام مآزق في المستقبل، انطلاقاً من عدم وعيها لأصول خطّ الإمام الخميني. إذاً فهناك تحدٍّ كبير يواجه استمراريّة الخطّ الذي تركه فضل الله.

هناك وجهة نظر تدعو إلى طرح مرجعيّة صغيرة في حضورها العلميّ والفكريّ والحوزويّ؛ ضماناً لاستمراريّة الخطّ، وهذا الأمر حتى لو ووجه بخروجه عن أعراف التنصيب المرجعيّ الموروثة، لكنّه لا يضرّ، فهي مشاكل آنيّة يمكن تجاوزها في المستقبل لتكريس أمرٍ واقع.

وفي مقابل هذا الرأي قد نجد مَنْ يقول بأنّ وجهة النظر هذه ترتكب خطأً واضحاً، من جهة أنّ تحطيم قواعد التنصيب المرجعيّ أمرٌ يمكن الإمساك بخيوط البداية فيه، لكنّ نهاياته غير واضحة، وقد يؤسّس لفوضى غير خلاّقة؛ ليس ذلك لأنّ قواعد التنصيب لا عيب فيها، بل حتى لو احتوت ثغرات هنا وهناك فإنّ كسر هذا العرف، وبهذه الطريقة بالذات، قد يولّد مشاكل، فليس المهم الخروج من المأزق الآني بأيّ حلّ.

وهناك وجهة نظر ثالثة تذهب ناحية التوجُّه إلى المرجعيّة الثورية أو بعض رموزها على الأقلّ؛ كونها الأقرب والأفضل والأنضج. وإذا لم تتطابق هذه المرجعيّة مع أفكار العلامة فضل الله تماماً، وهذا حقّها كما هو حقّه، لكنّها تظلّ الأقرب إليه، حتّى على المستوى الثقافيّ والفكريّ، فضلاً عن المستوى السياسيّ والاجتماعيّ.

ولعلّ هذا المقترح يواجه لدى بعض أنصار خطّ العلاّمة فضل الله من اللبنانيين وغيرهم بعض القلق الذي يستدعي من الطرف الآخر ملاحظته، والعمل على تجفيف منابعه، والتعامل معه بجديّة أكثر. قد يعيش بعضهم قلقاً من الموضوع من زاوية ثنائي: العربيّ؛ وغير العربي، الذي ظهرت بوادره في العقد الأخير بدرجة ساخنة جدّاً على السواء في الأوساط العربية وغيرها، وصار لدى هؤلاء صعوبة في بلورة مفهوم المرجعيّة العابرة للمناطق والبلدان، ويمثل أبويّة تتخطّى اللغات والقوميّات.

وقد ينطلق القلق مرّةً أخرى من زاوية الجانب التواصليّ، فقد امتاز العلاّمة فضل الله ـ وهذا يسجَّل له ـ بأنّه كان مرجعيّة تواصليّة، وكان على صلة وثيقة ودائمة بالجماهير والقاعدة الشعبيّة. إنّ غياب هذا النوع من التواصل بين القاعدة والمرجع نتيجة العوائق اللغويّة والجغرافيّة وغيرها قد يسبِّب مشكلةً لدى بعضهم، وينطلق ليتحدّث عن ضرورة هذا الجانب التواصليّ في المرجعيّة؛ ليكون مرجِّحاً عنده في تفضيل مرجعٍ هنا على آخر هناك.

إنّ هذه التساؤلات ـ وكلّها مشروعة تستحقّ الدرس ـ تستدعي التعامل معها بجدّيّة كبيرة، وعدم الاستهانة بالاستحقاق الجديد الذي فرضه غياب العلاّمة الراحل.

لا أريد أن أقف كثيراً عند هذا الموضوع، رغم أنّ الكلام فيه كثير جدّاً، ويمكن الحديث عنه بتفصيلات أكبر، ولاسيما من الزوايا المحايدة؛ لأعرّج على رصد موجز للمعالم الفكريّة لتجربة العلاّمة الراحل.

2ـ المعالم الفكرية العامّة لمدرسة العلامة فضل الله

يبدو من الواضح أنّ الأنموذج الفكريّ الذي قدّمه العلاّمة فضل الله يتمتَّع بسمات خاصّة لا يشترك معه في بعضها سوى عددٍ محدود من الفقهاء والمفكّرين النهضويين في الأمّة. ويمكن أن أقف هنا عند بعض الإشارات المتَّصلة بهذا الموضوع:

1ـ 2ـ الإشراف والجامعية

يبدو من مراجعة نتاج العلاّمة فضل الله أنّه كان رجلاً جامعاً إلى حدٍّ كبير. فقد اشتغل في المجال الأدبيّ والشعريّ، وكانت له مساهماته في هذا المجال، بل عرف تفسيره mمن وحي القرآنn حضوراً جادّاً للجانب الأدبيّ والبلاغيّ في فهم النصّ القرآنيّ وعرض تفسيره.

ومن اللغة إلى التفسير، حيث ترك العلامة فضل الله تفسيراً قرآنيّاً تشرف طبعته الأخيرة المزمع نشرها على ثلاثين مجلّداً كما سمعنا، ويمكن القول بحقّ: إنه كان مفسِّراً جديراً لللكتاب الكريم.

ومن التفسير إلى الفقه والعلوم الشرعية، كانت للعلامة فضل الله اجتهاداته الخاصّة، حيث ترك ما يقرب أو يزيد عن خمسة وعشرين مجلَّداً ـ في الحدّ المطبوع حتّى الآن ـ في فقه الحجّ والقضاء والوصايا والمواريث والنكاح والرضاع والأطعمة والأشربة والجهاد والإجارة والنذر والعهد واليمين و… لتتَّصل دراساته هذه إلى جانب دراساته التفسيريّة بمجال علمَي الحديث والرجال والنقد السنديّ والمتنيّ والصدوريّ والتاريخيّ.

وفي سياق التاريخ، ورغم أنه لم يترك أثراً خالصاً في هذا المجال، إلا أنّ قراءاته ذات الطابع النقديّ والتحليليّ كانت باديةً وواضحة. وإذا أخذنا السيرة جزءاً من التاريخ فقد كانت له قراءاته المعروفة في تحليل سيرة المعصومين تحليلاً موسَّعاً، كما هو موجود في ثنايا مختلف كتبه ودراساته.

وبتخطّي الجانب العلميّ الخالص إلى الجانب الثقافيّ، يعرف الجميع أنّ هذا الرجل يشكِّل واحداً من ألمع الفقهاء المثقَّفين في تاريخنا المعاصر، إنّه رجل الانفتاح والوسطيّة والثقافة والحضور والحوار والعالميّة والسياسة والاجتماع، وهو الفقيه النادر ـ بحقّ ـ الذي عاش مع الناس، وسمعوه، وأنصتوا إليه، وتفاعل معهم، وكانت له مؤسَّساته الخيريّة التي لم نشهد فقيهاً أو مرجعاً قام بمثلها، إلا ما شذّ وندر، يعرف ذلك ـ في ما أظنّ ـ الموافق والمخالف.

هذه الجامعية ـ وإن اخترقت في بعض الاختصاصات كالفلسفة و… ـ من العلم إلى الدين إلى الثقافة إلى الاجتماع إلى السياسة إلى الإعلام إلى النشاط الدعوي والخيري إلى تربية أجيال من العاملين في الخطّ الإسلامي، سمةٌ تستحقّ الوقوف عندها لرفع سقف المطالبة بتحسين ظروف المرجعية في عصرنا، فقد كان هذا الرجل حجّةً على غيره في هذا المجال، وأثبت ـ كما أثبتت شخصيات أُخَر من قبل ـ كالسيد الخميني والسيد الصدر والسيد الشيرازي و.. ـ أنه يمكن فعل شيء، ويمكن تحقيق شيء، ويمكن نحت نماذج ممتازة.

هل يجوز يا تُرى في عصر المعلوماتية والاتصال، وبعد تجارب هؤلاء العلماء الكبار، أن يرضى الشباب المسلم بوصاية شخصيّات نجلّها ونحترمها، لكنّها ليست حاضرة في حياتهم، في الوقت الذي تطرح المقولات الدينيّة التي تجعل لهؤلاء الولاية على كلّ تفاصيل حياة هذا الشابّ المسلم أو ذاك؟! كيف يمكن أن نعرض وجهة نظرنا هذه بصدق وإخلاص ثمّ لا يراها إخواننا في الله تهجُّماً على المناصب الدينية؟! أليس من حقّ كلّ مسلم أن تكون مرجعيّته العليا في قضايا الدين ذات حضور وفاعليّة، وإطلالة وجاذبيّة، ونشاط وحيوية، وممارسة وعيش؛ ليفتخر بها أمام أتباع الأديان والمذاهب الأخرى؟! ألا يحقّ له أن يرى مرجعيّته ـ كما كان يراها في العلاّمة فضل الله، وما زال يراها في بعض الشخصيات القليلة اليوم، من أمثال: السيد الخامنئي والسيد المدرّسي ـ تحضر في أروقة الجامعات، ومحاريب المساجد، وفوق أعمدة المنابر، ومن على شاشات التلفزة و..، لتنطق بوضوح وجرأة، بدل أن يعيش ملايين المسلمين لم يسمعوا يوماً واحداً ـ إلاّ القليل منهم ـ صوتَ مرجعهم؟! هل هذه جرأة؟! هل هذه شطحة؟! هل هذا تطاول؟! أم مطالبة بأبسط الحقوق في مقابل تقديم الواجب بالانقياد لفكر هذا المرجع ونتائجه العلميّة، كما تستدعيه مقولة المرجعيّة والتقليد.

ـ يتبع ـ

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً