أحدث المقالات

دراسة تاريخية فقهية تحليلية في وقائع غزوة بني قريظة

القسم الأوّل

 

مدخل موجز عن غزوة بني قريظة

وقعت غزوة بني قريظة في السنة الخامسة للهجرة عَقِب غزوة الأحزاب، وذلك أن رسول الله‘ بعد أن رأى ما انطوت عليه نفوس يهود بني قريظة من اللؤم والغدر والتحزب مع قريش وحلفائها، وبعد أن أعلنت له إبّان اشتداد معركة الأحزاب أنها نقضت عهدَها معه، وكانت وهي تساكن الرسول في المدينة، تهَِِمُّ بِشَرٍّ عظيم قد يقضي على المسلمين جميعاً لولا انتهاء معركة الأحزاب بمثل ما انتهت إليه. حينئذ رأى رسول الله‘ أن يؤدّبَ هؤلاء الخائنين الغادرين ويُطهِّر المدينةَمنهم، مقرَّ جهاده ودعوته، حتى لا تواتيهم الظروف مرة أخرى، فينقضّوا على جيرانهم المسلمين.

لقد قرر النبي معالجة قضية بني قريظة بعد المعركة دون انتظار، وذلك بأمر من اللّه تعالى؛ فسار مع المسلمين ليحاصر حصونهم التي تحصنوا بها وأغلقوا الأبواب. ولما كان اليوم السبت فإنّهم لم يبتغوا القتال فيه أو الحرب. ثمّ إنّ وفداً منهم طلب من النبي أن يتركهم ليخرجوا من المدينة بأموالهم مثلما فعل مع بني النضير، أو يتركوا سلاحهم وأموالهم، فرفض النبي‘ مقترحاتهم ومطالبهم حتى لا يفعلوا فعلَ بني النضير في تحريك العرب المشركين ضدّ المسلمين؛ لذا فقد سلَّموا أنفسهم للمسلمين دون أيَّة شروط، فدخل المسلمون الحصن وجرَّدوهم من سلاحهم، ثمّ حَكَّموا فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس، حيث كان بنو قريظة حلفاء الأوس، فحكم سعد بأن تُقتَلَ مُقاتِلَتُهم، وأن تُسبى ذراريهم، وأن تُقسَّمَ أموالهم، رغم الإلحاح عليه بحسن الحكم في حلفائه بني قريظة. فنفذ الرسول حكمه، وبذلك قضى على مؤامرات اليهود ودسائسهم وتآمرهم قضاءً مبرماً في المدينة وما حولها. وقد قُسِّمت الغنائم بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها، وأُعطي للفارس سهمان، وللراجل سهم واحد، وسَلَّم الرسول‘ أموال الخمس لزيد بن حارثة، ليشتري بها السلاح والعتاد والخيل من نجد. وقد استشهد سعد بن معاذ الذي كان قد جرح في معركة الخندق، بعد أحداث بني قريظة. وسنذكر بعض التفصيل([1]).

وكان بين بني قريظة وبين رسول الله عهد فنقضوه، ولكن الرسول أراد أن يتأكد من هذا الأمر الخطير فأرسل سعد بن معاذ وآخرين إليهم لاستطلاع الأمر، فحاول سعد إقناعهم بالتخلي عن فكرة نقض العهد، فسمع منهم ما يكره، ولم يزدهم ذلك إلا استكباراً وإصراراً. فلما انقضى شأن الأحزاب في الخندق بالهزيمة الذليلة بعد قتل فارسهم عمرو بن عبد ود ومَنْ عبر الخندق معه، عاد النبي والمسلمون إلى المدينة، فجاءه جبرئيل فوراً، وأمره بالمسير إلى بني قريظة. وكان النبي ـ على ما هو الأظهر ـ في بيت فاطمة÷، فدعا علياً× وأمره بالتقدم إلى بني قريظة في مجموعة من المسلمين ففعل. ثم أمر المسلمين بأن لا يصلّوا العصر إلا في بني قريظة. وسار‘ على حمار عري يقال له: يعفور، حتى نزل على بئر لبني قريظة يقال له: بئر “أنا” بأسفل حرّة بني قريظة، فتلاحق به الناس وجاء المسلمون أرسالاً، ووصل بعضهم بعد العشاء الآخرة. ومنهم مَنْ لم يكن قد صلى الظهر أو العصر بعد. وحاصر المسلمون بني قريظة أشدّ الحصار، ودعاهم‘ في بادئ الأمر إلى الإسلام، فأبوا واستمر الحصار أياماً([2]). وأرسل إليهم أكابر أصحابه، فهُزِموا. فبعث علياً فكان الفتح على يديه([3])، وكلموا رسول الله بالنزول على ما نزلت عليه بنو النضير، فأبى عليهم رسول الله ذلك([4])، وأسلم من يهود بني قريظة ثعلبة، وأسيد أبناء سعية، وكذلك أسد بن عبيد، وانضموا إلى صفوف المسلمين. واستشار بنو قريظة أبا لبابة في النزول على حكم النبي، فأشار إليهم بيده إلى حلقه: إنه الذبح. فنزلوا على حكم سعد بن معاذ. وقال معظم المؤرخين: إن أبا لبابة قد تاب من ذنبه هذا، وربط نفسه إلى سارية في المسجد حتى أنزل الله توبته، فحلَّه رسول الله بيده. وحين نزلوا على حكم سعد([5]) أمر بهم رسول الله‘ فكُتِّفوا، وجُعِلوا ناحية، وجعل النساء والذرية ناحية. وجاؤا بالأسرى إلى المدينة، وجعلوهم في دار أسامة بن زيد ودار بنت الحارث. وجعل السلاح والأمتعة في دار بنت الحارث أيضاً. وكان عدد السبي من الذراري والنساء سبع مئة وخمسين، وقيل: كانوا تسع مئة، وقيل: كانوا ألفاً. وكان سعد يُداوى من جرحه في خيمة رفيدة أو كعبية، فجاؤا به وكلَّمه بعض الناس من الأوس في أمر العفو عن بني قريظة، فلم يجبهم. ثم أصدر حكمه بقتل من حَزَبَ على رسول الله منهم. فقال له رسول الله‘: «حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة»([6]). فقتل النبي من أنبت([7]) ممن حزب عليه من بني قريظة. وأمر بضرب أعناقهم، فضربت ثم رد عليهم التراب. وكان علي× هو الذي قتلهم مع رؤسائهم. وقيل: إن الزبير قد شاركه أيضاً. وقيل أيضاً: إن الأوس قد شاركوا في عملية القتل هذه. وأسلم بعضهم مثل رفاعة بن سموأل فلم يقتل. وقد اختلفت كلمات المؤرخين في عدد من قتل منهم، فبلغت ثلاثة عشر قولاً تتراوح ما بين الثلاثمائة رجل والألف. ويظهر من النصوص أن بني قريظة لم يُقتلوا كلهم، بل قُتِل منهم خصوص من حَزَبَ على النبي والمسلمين. أما من استشهد من المسلمين، فلعله لا يزيد على رجلين أو ثلاثة. ثم جُمعت أمتعتهم، وأُخرج الخمس منها، ثم قسمت للفارس سهمان وللراجل سهم واحد. وكانت خيل المسلمين ستة وثلاثين فرساً أو ثمانية وثلاثين. أما السبي فبيع في من يزيد، ثم قسم ثمنه في المسلمين المشاركين في هذه الغزوة. وبعث‘ ببعض السبي إلى نجد أو الشام فبيع هناك، واشترى بثمنه سلاحاً وخيلاً، وقَسَّم ذلك بين المسلمين. وبعد أن انتهى أمر بني قريظة، انفجر جرح سعد بن معاذ ودام نزفه حتى مات رحمه الله شهيداً، فكرَّمه الرسول مزيد تكريم وحزن عليه، وبكاه أبو بكر وعمر، ورثاه حسان بن ثابت.

غدر بني قريظة

   إن بني قريظة إضافةً إلى ما ارتكبوه من الغدر الشنيع ونقضهم للعهد، وما استقبلوه به يوم الأحزاب، يوم أن ذهب النبي يناشدهم الوفاء فأفحشوا له القول، كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين من الأسلحة ما تعجَّب المسلمون منه وهم يجمعونه بعد نزولهم من حصنهم، ثم أمر النبي‘ بتنفيذ حكم سعد فيهم، وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة، الذين نقضوا الميثاق، وأعانوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة مرّت عليهم، فصاروا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام، وقتل معهم شيطان بني النضير، وجرثومة هذه الفتن: حيى بن أخطب، الذي أغراهم بنقض العهد، ووعدهم أن يكون معهم في حصنهم إن تخلى عنهم الأحزاب، حيث جيء به ليُقتل أمام رسول الله، فقال: أما والله ما لمت نفسي في معاداتك! ولكن من يغالب الله يُغلب! ثم قال: أيها الناس لا بأس بأمر الله! كتاب وقدر، وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضرب عنقه! وروى القمي في تفسيره قصة كعب بن أسد مفصَّلةً وفيه: فأخرج كعب بن أسد مجموعة يداه إلى عنقه فلما نظر إليه رسول الله‘ قال له: يا كعب! أما نفعك وصية ابن الحواس الحبر الذكي الذى قَدِمَ عليكم من الشام فقال: تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور لنبي يُبعث، مخرجه بمكة، ومهاجرته في هذه البحيرة، يجتزي بالكسيرات والتميرات، ويركب الحمار العري، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر. فقال: قد كان ذلك يا محمد، ولولا أن اليهود يعيروني أني جزعت عند القتل لآمنت بك وصدقتك، ولكني على دين اليهود عليه أحيى وعليه أموت. فقال رسول الله: قَدِّموه واضربوا عنقه، فضُرِبت. وفيه أيضاً: فقتلهم رسول الله في البردين بالغداة والعشي في ثلاثة أيام.

حقيقة عدد القتلى من يهود بني قريظة

   تقدم قول بعض المؤرخين أن سعداً حكم على بني قريظة بقتل الرجال، وسبي النساء والذراري، وغنيمة الأموال. لكن الظاهر أنه حكم عليهم: «أن يقتل كل من حزب عليه، وتغنم المواشي، وتسبى النساء والذراري، وتُقَسَّم الأموال»([8]). وهناك روايات أخرى تقول بأنه حكم بقتل المقاتلة فقط: «وبعث رسول الله‘ إلى سعد بن معاذ فجيء به، فحكم فيهم: بأن يقتل مقاتليهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم، وتغنم أموالهم، وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار» ([9])، «فقتل المقاتلة، وسبى النساء والذرية»([10]). وتذكر الروايات أن الرسول قد أرسل لسعد بعد نزول بني قريظة على حكمه، فأُتي به محمولاً على حمار وهو مضنى من جرحه، فقال له: أَشِر عليَّ في هؤلاء. فقال: إني أعلم أن الله قد أمرك فيهم بأمر أنت فاعله. قال: أجل، ولكن أشر عليَّ فيهم. فقال: لو وُلِّيت أمرهم لقتلت مقاتلتهم، وسبيت ذراريهم، وقسَّمت أموالهم. فقال: والذي نفسي بيده، لقد أشرت فيهم بالذي أمرني الله به([11]).

وقد ذُكر أن سعد بن معاذ الذي حكم في بني قريظة قال: حكمت بأن يقتل مقاتلهم، ويُسبى ذراريهم، وأمر بأن يكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت فهو من الذراري، فبلغ ذلك النبي([12]). فقد أمر ‘ بقتل خصوص من حزب عليه منهم، والباقون لم يقتلوا بل وقعوا في الأسر. فإن كان قد كشف عن مؤتزر أحد، فإنما ذلك في خصوص هذا الفريق من الخونة والأشرار، أي من فريق المحازبين على النبي والمحاربين له. وبالتالي فإن النبي لم يقتل من كان من المحاربين غير نابت أي غير مكلَّف. وهذا وجه من وجوه الرحمة النبوية أيضاً([13]).

ويؤيده ما سيأتي من الاختلاف الفاحش في عدد المقتولين، فقد ذكروا أرقاماً متفاوتة جداً الأمر الذي يثير لدينا شكوكاً في أنَّ ثمة من يريد أن يستفيد من هذا الأمر ويوظفه إعلامياً لمقاصد سياسية، أو دينية، أو غيرها. والأقوال هي التالية: يُصَرِّح ابن شهر آشوب: «فقتل منهم أربعمائة وخمسين رجلاً وقسَّم الأموال واسترقَّ الذراري.. وكانوا سبعمائة رجل»([14]). ويؤيد هذا الرقم قول مقاتل بن سليمان في تفسيره: «فقتل منهم أربع مائة وخمسين رجلاً، وسبى سبع مائة وخمسين رجلاً، فذلك قوله في (سورة) الأحزاب: فَرِيقَاً تَقْتُلُوُنَ يعني المقاتلة الأربع مائة وخمسين، وَتَأْثِرُوُنَ فَرِيقَاً يعني السبع مائة وخمسين»([15]). أما عدد المقتولين فالروايات فيه مختلفة: كانوا تسع مئة([16])، وقد ذكر ابن هشام: «لما ظفر رسول الله ببني قريظة أخذ منهم نحواً من أربعمائة رجل من اليهود.. فأمر رسول الله‘ بأن تضرب أعناقهم»([17])، كما قال: المكثر لهم يقول: كانوا بين الثمان مئة والتسع مئة ([18])، وكانت عدتهم سبعمائة وخمسين ([19])، وهم ما بين الستمائة والتسعمائة([20])، كانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة([21])، كانوا ستمائة([22])، وكانوا أربع مائة([23])؛ فقتل رسول الله منهم ثلاثمائة وقال لبقيتهم: انطلقوا إلى أرض المحشر (يعني أرض الشام) فإنا في آثاركم فسيَّرهم إليها([24]). وقد يكون هذا هو الأقرب إلى الواقع والحقيقة انسجاماً مع ظاهر قوله تعالى: فَرِيقَاً تَقْتُلُوُن وَتَأْثِرُوُنَ فَرِيقَاً (الأحزاب: 26)، وقد فسَّر بعضهم قوله تعالى: تأسرون فريقاً، بالسبايا والذراري، وهو تفسير غير مقبول؛ فإن الأسر هنا إنما يناسب المقاتلين، أما النساء والذراري فالأنسب التعبير عنهم بالسبايا. وقد ورد في بحار الأنوار روايتان: الأولى تذكر أنهم كانوا تسعمائة وخمسين رجلاً([25])، والثانية تذكر أن عدد مقاتلي بني قريظة مائة مقاتل([26])، وهو أقلّ عدد وجدته في المصادر التاريخية والروائية.

ومما يؤيد ما نقوله في عدد بني قريظة، قولهم: إن عدد الذراري والنساء كان سبعمائة وخمسين، أو تسعمائة أو ألفاً على أبعد التقادير. والسبي لا بد أن يكون أضعاف عدد المقاتلين، حيث إن لكل رجل متزوج امرأة وأولاد يصل عددهم ـ كمعدل وسطي ـ إلى أربعة أولاد، وهذا يؤيد أن يكون عدد المقاتلين ما بين المائة وخمسين إلى المائتين على أبعد تقدير([27]). زد على ذلك أنّ ما تقدم من الأقوال في عدد المقتولين، قد لا يكون ناظراً إلى خصوص الذين قتلوا استناداً إلى حكم سعد بن معاذ فيهم، بل شاملاً لمن قتلوا في المعركة وأثناء الحصار. ونجد في بعض النصوص أنّ الذين قتلهم علي× وحده في بني قريظة كانوا عشرة([28]). وهذا يعني أن عدد المقتولين بناء لحكم سعد بن معاذ هو أقلّ من العدد المذكور في الروايات التي ذكرناها؛ لأن الروايات تذكر عدد المقتولين إجمالاً في غزوة بني قريظة دون تفصيل([29]).

ومن المعلوم أن مواجهات عسكرية حصلت بين الفريقين قبل أن ينكفئ بنو قريظة إلى حصونهم. كما أن المناوشات العسكرية والتراشق بالنبال كالمطر الغزير أثناء الحصار الذي دام من عشرة أيام إلى شهر بحسب الأقوال المختلفة. وقد صرَّح الواقدي بذلك قائلاً: «فقدَّم رسول الله‘ الرماة، وعبَّأ أصحابه فأحاطوا بحصونهم من كل ناحية، فجعل المسلمون يرامونهم بالنبل والحجارة.. فما برح رسول الله‘ يراميهم حتى أيقنوا بالهلكة.. كانوا يراموننا من حصونهم بالنبل والحجارة أشدَّ الرمي، وكنا نقوم حيث تبلغهم نبلنا.. فجعلنا ندنو من الحصن ونرميهم من كثب»([30])، وقال اليعقوبي: «قتل من بني قريظة، ثم تحصنوا فحاصرهم..»([31]). زد على ذلك أن بعض الروايات تفيد بأن علياً× هو الذي تولّى مهمة قتل المحاربين من بني قريظة: «وقد قتل علي رجالهم»([32]). أضف إلى ذلك أنه قد ظهر من الأقوال الآنفة الذكر مدى التفاوت في عدد قتلى بني قريظة، حيث بلغت الأقوال إلى اثني عشر قولاً. وكثرة الأقوال إلى هذا الحدّ تدل على أنه لم يكن ثمة من يملك معلومات دقيقة عن هذا الموضوع. ويبدو أنها تقديرات تبرُّعية تأثرت برياح الأهواء السياسية أو العصبيات الدينية، بهدف إظهار قسوة الإسلام ونبي الإسلام على أعدائه وخصوصاً اليهود.

النتائج الفقهية لغزوة بني قريظة

ولا شك أن غزوة بني قريظة تحمل في طياتها أحكاماً وعِبَرَ نذكر منها:

1 ـ جواز قتل من نقض العهد؛ فالصلح بين المسلمين وغيرهم ينبغي احترامه والتزامه على المسلمين ما لم ينقض الآخرون العهد، وحينئذ يجوز للمسلمين قتالهم. ولا زالت الدول تحكم بقتل الخونة الذين يتواطؤون مع الأعداء حتى زماننا هذا.

2 ـ جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم، كما في تحكيم سعد بن معاذ.

3 ـ مشروعية الاجتهاد في الفروع، ورفع الحرج إذا وقع الخلاف فيها. فقد اجتهد الصحابة في تفسير قول الرسول‘: «ألا لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصرَ أو الظهرَ إلاّ في بني قريظة». وإنما تعجّل النبي الصحابة للخروج قبل أن يتحصّن اليهود بالحصون ويأخذوا العدّة لذلك، وقد أدرك جماعة من الصحابة صلاة العصر في الطريق، حاملين أمر الرسول بعدم صلاتهم على قصد السرعة، ولم يصلِّها الآخرون إلا في بني قريظة بعد مضي وقتها، حاملين الأمر على حقيقته، فلم يُعنِّف أحد الفريقين؛ لأن كليهما عمل باجتهاده، فلا يأثم وقد بذل وسعه، فلكلّ مجتهد نصيب، والحق واحد لا يتعدد. وقد اختلفت الكلمات في توجيه ذلك. فمفهوم كلامه‘ المبادرة بالذهاب إليهم وأن لا يشتغل عنه بشيء، لا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه. بل أمرهم بالإسراع في الحضور إلى بني قريظة بحيث لو تأخر بعضهم عمداً، أو انصرف عن الذهاب عصياناً أو لعذر، فإن صلاة العصر لا تسقط عنه بل تبقى واجبة عليه، وعليه أن يصلّيها.

أضف إلى ذلك أنّ الانتصار على بني قريظة قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين، ومن جملتها:

1 ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة، واطمئنان المسلمين وتخلُّصهم من جواسيس اليهود.

2 ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخلياً.

3 ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

4 ـ فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية، وخصوصاً «فتح خيبر».

5 ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق، في داخل المدينة وخارجها.

غزوة بني قريظة في النصّ القرآني

قال الله سبحانه: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا*وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (الأحزاب: 26 ـ 27)

إنّ من جملة التعبيرات التي تُلاحظ في الآيات أعلاه، أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب: «فريقاً تقتلون» أي أنّها قدّمت «فريقاً» على «تقتلون»، في حين أنّها أخّرت “فريقاً” عن الفعل «تأسرون»!. ولعلّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا اُناساً معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافةً إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر»، وهما عاملا بالانتصار على العدو، ويكون أحدهما إلى جنب الآخر، مراعاة للانسجام بين الأمرين. وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة: «وقذف في قلوبهم الرعب» في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك، أي أنّ الخطوة الأولى هي إيجاد الرعب، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين والمفرح لهم، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّاً. والتعبير بـ «أورثكم أرضهم وديارهم» يبيِّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلَّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة. والمعنى: وأنزل الذين عاونوا المشركين من أهل الكتاب وهم يهود بني قريظة من حصونهم وألقى في قلوبهم الرعب والخوف، «فريقاً تقتلون» وهم الرجال، وتأسرون فريقاً وهم «الذراري والنساء»، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاًلم تطؤوها وهي أرض.

خيبر أو الأرض التى أفاء الله مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وأخيراً فإنّ التأكيد على قدرة الله عزّوجلّ في آخر الآية؛ إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوماً، وهزم ناصريهم، أي يهود بني قريظة، بجيش الرُّعب والخوف يوماً آخر. وقد نزلت هذه الآية في بني قريظة، ويؤيد ذلك بل يدل عليه أن الضمير في «ظاهروهم» يعود إلى الذين كفروا في الآية السابقة، الذين هم الأحزاب، والذين ظاهروا الأحزاب وأنزلهم الله من صياصيهم، وقتل المسلمون فريقاً منهم وأسروا فريقاً، هم بنو قريظة([33]) بالذات.

الاستشراق وقراءته لغزوة بني قريظة

1 ـ آرمسترونغ: محمد في موقف السلطة، والمنهج المتبع منهج قبلي!!

تطرح آرمسترونغ سؤالاً مهماً: «ما الذي كان على محمد أن يفعله حيال بني قريظة الذين دفعوا بالأمة إلى حافة الموت؟ لم يترك رجاله يستريحون إذ ألهمه جبريل في صباح اليوم التالي بالسير إلى بني قريظة، وما حدث لبني قريظة قصّة تثير عندنا اليوم في الغرب معاني أخرى من الرعب والكآبة»([34]). وتكمل آرمسترونغ قائلة: «واليوم قد تجعل قراءة هذه القصة الكثيرين منا يقارنونها بالأعمال النازية وتدفع بالكثيرين إلى الاغتراب الدائم عن الإسلام، لكن في الوقت ذاته نجد علماء غربيين مثل مكسيم رودنسون، ومونتغمري وات يقولون: إنَّ تقييم القصة بمعايير القرن العشرين أمر غير صحيح، لقد كان المجتمع بدائياً أكثر من بدائية المجتمع اليهودي الذي عاش فيه يسوع وأعلن بشارته بالرحمة والحب قبل نحو 600 سنة من هذه الحادثة، لقد كانت المدينة في عصر النبي محمد مثل القدس في عهد الملك داود الذي كان سفاحاً جباراً لمن كان يدعوهم أعداء الله»([35]). وتكمل آرمسترونغ محاولة تفسير هذا القرار تفسيراً آخر يرتكز على سياسة القوة لا على سياسة الحق: «لقد كانت الاعدامات بمثابة رسالة موجّهة إلى يهود خيبر، ولابد أنّ القبائل العربية لاحظت أن محمداً لم يكن خائفاً لا من أصدقاء بني قريظة ولا من حلفائهم للانتقام لموتاهم في قتال دموي، لقد كان رمزاً لسلطة غير عادية قد كسبها محمد بعد الحصار عندما أصبح قائداً للجماعة الأكثر قوّة في الجزيرة»([36]).

وتكمل آرمسترونغ انتقادها لقرار محمد الذي نفذه، ولكن من وجهة نظر أخرى، وهي الوجهة الدينية والاجتماعية الحضارية حيث تعتبر أن ما ارتكبه محمد مع يهود بني قريظة هو جريمة بحسب مفاهيم المجتمع الغربي المعاصر، لكنها ليست جريمةً كبرى! وأن محمداً لم يخرج عن أخلاقيات القبيلة التي كانت سائدة في عصره وفي شبه الجزيرة العربية، والتي كانت تسمح بارتكاب جريمة في حقّ جماعة للحفاظ على جماعة أخرى، قائلةً: «إنّ ما جرى لبني قريظة يذكِّر بالظروف السيئة التي كانت سائدة في الجزيرة خلال حياة محمد، فبالطبع نحن محقّون بإدانتها ضمن مفاهيمنا اليوم، لكن حينها لم تكن لتشكل جريمة كبرى، فمحمد لم يكن يعمل ضمن إمبراطورية عالمية تفرض استقراراً واسع الانتشار، ولم يكن يعمل ضمن واحد من التراثات الدينية المستقرة. لم يكن لديه ما يشبه الوصايا العشر.. والمجتمع الذي كان يعيش فيه محمد لم يكن قد تشكّل لديه بعدُ سوى الأخلاق القبلية التي كانت تسمح بهذه الذريعة حفاظاً على الجماعة. لقد كانت المشكلة مركّبة»([37]).

لقد طرحت آرمسترونغ هذه الأفكار التي تتعارض مع أسس العقيدة الإسلامية، والتي تحاول أن تشوّه شخصية خاتم الأنبياء والرسل‘ سواء كان ذلك عن قصد أم عن غير قصد، فخاتم الرسل والأنبياء محمد لم يأت لذلك الزمان فقط، ولم يأت لتلك البقعة الجغرافية المحدودة، بل كانت رسالته لكل زمان ومكان، فهي الرسالة الخاتمة، وهي رسالة إلهية تتضمّن كل معاني الرحمة والمحبة، لكنها تتضمن أيضاً معاني العدالة وإصلاح المجتمع ومواجهة الفساد والإفساد. وقد عملت آرمسترونغ بعد ذلك على التخفيف من حدّة وخطورة ما طرحته، مبيّنة بعض إيجابيات الموقف الإسلامي العام تجاه اليهود والأقليات الدينية إضافة إلى بيان خطورة وسوء ما فعله بنو قريظة؛ حيث لم يكونوا حلفاء أوفياء.

قراءة نقدية لنظريات المستشرقة آرمسترونغ

إن كلامها هذا خطير، وهو يعبِّر برأيها عن أمور مرفوضة في عقيدة الإسلام:

ـ إن رسالة محمد ليست خالدة ولا تصلح لكل زمان ومكان، هذا إن كانوا قد اعترفوا بنبوته أصلاً.

ـ إن قيم المسيحية هي القيم الأسمى مقارنة بقيم الإسلام. ونحن نتساءل: هل أن الرحمة والمحبة تنفع مع كل إنسان؟ وهل أن العدالة تستقيم عبر الثواب فقط، أم أنه لابد من العقاب أحياناً؟ ثم، ألم يصبر الرسول‘ على يهود بني قينقاع وبني النضير حيث عفا عنهم، ولم يقتلهم بالرغم من أنهم خانوه ونقضوا العهد عدّة مرات؟

ـ إنّ مفهوم كلامها هو أن قرار سعد بن معاذ الذي وافق عليه محمد بل أقرَّه ناتج عن انفعالات جياشة وليس عن حكم عادل بالضرورة.

ـ إنّ النبي أعدم بني قريظة ليُوَجِّه رسالة إلى يهود خيبر. ولكنه اتهام خطير أيضاً فهل يعقل أنَّ نبياً مُرسلاً من الله تعالى يقتل إنساناً ظلماً وعدواناً؟! هل يعقل أن يقتل إنساناً كي يوصل رسالةً إلى جماعة سياسية؟ نعم، قد يتم تبادل رسائل سياسية بين مجموعة قوى موجودة على ساحة واحدة، لكن لا يمكن لنبي أن يقتل إنساناً واحداً بغير حقّ، إن الإسلام يجعل قتل نفس واحدة بغير حق كقتل الناس جميعاً، قال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (المائدة: 32).

ولكن آرمسترونغ تناقض نفسها في محطات عديدة:

1ـ إنها تتفهم موقف محمد قائلةً: «بصعوبة نجت الأمة من الانقراض أثناء الحصار، فكان من الطبيعي أن تكون الانفعالات جياشة»([38]).

2ـ تقرُّ آرمسترونغ بصحة قرار محمد، وتكمل شرحها لسياسة القوة التي انتهجها قائلةً: «فكما نرتجف من المنظر المرعب في سوق المدينة عام 627م، إلا أنه ولأسباب سياسية محضة كان القرار الصحيح، لقد كانت آخر الفظائع لأنها كانت نقطة دالّة أو نقطة بارزة في بداية نهاية أسوأ وجه من وجوه الجهاد، لقد هزم محمد أكبر جيش في الجزيرة، وسحق معارضة ثلاث قبائل يهودية قوية، وأوضح أنه لا يحتمل المزيد من الخيانة والتآمر على الأمة. لقد أثبت أنه الأقوى في الجزيرة العربية، وأنهى سريعاً نزاعاً دموياً كان من الممكن أن يستمر لسنوات تالية»([39]).

3 ـ أضف إلى ذلك أن اليهود كانوا يعرفون درجة القبح في عملهم، حيث لم يتوقعوا الرحمة ممن أرسل رحمةً للعالمين فتقول: «انضمَّ حُيي إلى قريظة في مقراتهم بعد أن غادرت قريش والأحزاب المدينة، وعندما سمعوا أن محمداً قادم إلى منطقتهم حصَّنوا أنفسهم في قلاعهم، وتمكنوا من الصمود طوال خمسٍ وعشرين ليلةً([40])،لم يكونوا يتوقعون الرحمة لأنهم لم يكونوا حلفاء أوفياء.. لقد اتضح أن بني النضير كانوا أكثر خطراً على الأمة بعد مغادرتهم المدينة»([41]).

4 ـ وتضيف آرمسترونغ مسوِّغةً قرار النبي‘ من جهة حسم الصراع الدموي بسرعة، فقد رحمهم من قبل، كما حصل مع بني قينقاع وبني النضير، ولكنهم تآمروا على النبي مجدَّداً وزاد خطرهم على الإسلام والمسلمين، حيث تقول: «كان بنو قريظة قد أوشكوا أن يدمِّروا المدينة، فلو أن محمداً سمح لهم بالذهاب لكانوا أجَّجوا حالاً من المعارضة اليهودية في خيبر، ونظموا هجوماً آخر ضد المدينة، وقد لا يحالف الحظ المسلمين في مرة قادمة، ويدفع بالتالي إلى استمرار الصراع الدموي من أجل البقاء لفترة غير محددة، مصحوباً بعذابات أكثر وبالمزيد من القتلى»([42]).

5 ـ إنّ آرمسترونغ نفسها تقرُّ بأن المسلمين قوم متسامحون، وإنْ حاربوا فللدفاع عن أنفسهم، كما تميِّز آرمسترونغ بين هذه البداية المأساوية ـ بحسب تعبيرها ـ وبين الموقف الإسلامي العام تجاه اليهود عبر الأزمنة والعصور قائلة: «من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن هذه البداية المأساوية لم تصبغ الموقف الإسلامي تجاه اليهود إلى الأبد، فعندما أسّس المسلمون إمبراطوريتهم العالمية طوّروا قانوناً أخلاقياً أكثر إنسانية وتعقيداً في شريعتهم المقدسة، لقد رسَّخوا منهجاً من التسامح ساد مدة طويلة في أجزاء العالم المتمدن في الشرق الأوسط، حيث عاشت جماعات دينية متنوعة معاً جنباً إلى جنب ولمدة طويلة، فمعاداة السامية هي رذيلة المسيحية الغربية، ولا علاقة لها بالإسلام، ولم يعان اليهود في البلدان الإسلامية مثلما عانوا في ظلّ المسيحية»([43]).

وقد ذهبت آرمسترونغ أبعد من ذلك؛ حيث أقرّت أن محمداً سمح بعيش جماعات يهودية في المدينة بسلام: «فحتى في عصر محمد بقيت جماعات يهودية صغيرة في المدينة بعد عام 627م، وسمح لها بالعيش بسلام دون انتقام.. كثيراً ما يشير القرآن إلى أن الحرب مقيتة، وأنه ينبغي على المسلمين ألا يبدأوا العداوة، لأن الحرب العادلة الوحيدة هي حرب الدفاع عن النفس. لكن ما إن تنشب الحرب حتى يفرض على المسلمين القتال بالتزام مطلق، كي يجعلوا الحرب تبلغ نهايتها بأقصى سرعة ممكنة. فإذا اقترح العدو هدنة أو أبدى ميلاً نحو السلام، فالقرآن يأمر المسلمين بإنهاء العداوات حالاً شرط أن تكون شروط السلام أخلاقية ومشرِّفة»([44]).

2 ـ مونتغمري وات: محمد وتصفية الحركات الداخلية المعارضة!!

   أما فيما يتعلق بالمستشرق مونتغمري وات، فقد اعتبر أن موقف بني قريظة كان مشبوهاً فقط، حيث إنهم بقوا على الحياد أثناء حصار الأحزاب للمدينة، ولكنهم قاموا بمفاوضات مع أعداء محمد ولم يحسموا أمرهم ولم ينقضوا العهد مع الرسول. لكنّ محمدا ًهاجم بني قريظة بعد أن تخلّص من أعدائه؛ ليظهر أن الدولة الإسلامية الفتية لا تسمح بمثل هذا الموقف المشبوه! ويدَّعي وات أيضاً أن قريظة لم تردّ على الهجوم بحماس، بل انسحبت إلى أطُمِهَا ثم أرسلت وفداً يطلب الاستسلام بالشروط نفسها التي استسلم بها بنو النضير، فأجيبت بأن عليها أن تستسلم دون قيد أو شرط. ويزيد وات أنه وبعد أن طلب بعض الأوس من محمد أن يعفو عن قريظة إكراماً للأوس، كما عفا عن قينقاع إكراماً لابن أُبيّ والخزرج، أجاب محمد طلبهم، فعيَّن سعد بن معاذ الذي جرح في معركة الأحزاب أثناء حصار المدينة([45]).

ويذكر وات أيضاً أنَّ بعض الكتّاب الأوروبيين انتقدوا هذا الحكم على بني قريظة، ووصفوه بأنه وحشي وغير إنساني! وأنّ محمداً اتّبع في السنة الثانية للهجرة سياسة شديدة، فطرد جميع اليهود من المدينة، لا لسبب إلا لأنهم يهود، وأنه وضع هذه الإجراءات موضع التنفيذ بشدة متناهية، بالرغم من أنه لم تكن من عادة محمد اتباع سياسة قاسية بهذا الشكل، بل كان معتدلاً يحسب حساب المشاكل الرئيسية التي تؤثر في الحالة الراهنة وفي الأهداف البعيدة التي يسعى لتحقيقها. ويعتبر وات أن للمؤرّخ الحق في البحث عن الأسباب العميقة لهذه القرارات القاسية والحازمة التي اتخذها محمد، حيث ظهر له خلال السنتين اللتين قضاهما في المدينة أنّ اليهود هم أخطر معارضيه بإنكارهم عليه نبوته، فخطّط محمد لتصفية المعارضة اليهودية في المدينة، ولكنه انتظر الظروف لكي تصبح مؤاتية، وحين بلغت زعامته الذروة وزعامة ابن أبي الحضيض بدأ محمد الحرب على اليهود.

مطالعة نقدية لمقولات مونتغمري وات

1ـ إنّ كلمة عيَّن ليست بريئة، فالمصادر التاريخية([46]) تذكر أن محمداً طلب منهم أن يقترحوا حكماً من المسلمين، فحكَّموا سعد بن معاذ زعيم الأوس في قضيتهم، فحكم عليهم سعد، الذي كان يحظى بمكانة مرموقة عند الأوس بل عند جميع المسلمين، بقتل الرجال وتقسيم الأموال وسبي الذراري والنساء، فنفَّذ الرسول حكم سعد.

2 ـ إن وات يتناقض أيضاً مع نفسه، حيث يعترف بخيانة بني قريظة للنبي، ويُسوَّغ عقاب النبي لهم، حيث يعتبر أن قتل رجال بني قريظة في نظر المسلمين لم يكن عملاً حربياً ضدّ عدو، بل هو عقاب حليف لحليف خانه، وأن بني قريظة سقطوا في أكثر من امتحان حيث لم يتعظوا مما حدث مع بني قينقاع وبني النضير، وأنه لم يكن بوسع الرسول هذه المرة أن يسامحهم؛ لأن المسألة لم تكن تحتمل خيانة كبرى بحجم خيانة بني قريظة([47]).

3 ـ إن الإسلام دين الرحمة، ومن نماذجها يوم فتح الرسول‘ مكة المكرَّمة حيث عفا عن الناس إلا نفر قليل، وهم الذين كفروا برسالته وشرَّدوه، وحاولوا اغتياله، وقاتلوه وقتلوا أعزّ أقاربه وأصحابه.

3 ـ ولفنسون: إعدام اليهود الذين ساعدوا المسلمين!!

أما ولفنسون، فقد ذكر أن المسلمين استعانوا ببعض المؤن والسلاح وآلات الحفر من بني قريظة([48])، الذين كانوا يميلون إلى الهدوء والسلم، لأنهم كانوا رجال فلاحة وزراعة، فلم يكونوا في القوة والبطش والحماس الحربي بالدرجة التي كان عليها بنو قينقاع وبنو النضير([49])، ويشيد ولفنسون بما يعتبره رسوخ الديانة في نفوس يهود بني قريظة، وأنهم ما كانوا ليعبأوا بالموت في سبيل التمسّك بدينهم والمحافظة على عقائدهم([50])، وأنهم كانوا طوال الليل قبل إعدامهم يقرأون في كتاب الزبور، ويتناقشون في شؤون الدين الإسرائيلي، حيث اتفقوا على أن ينصروه إلى آخر رمق في الحياة([51]).

وقفة نقدية مع المستشرق ولفنسون

1ـ إن مساعدة المسلمين ببعض المؤن والسلاح وآلات الحفر، هو الحدّ الأدنى المطلوب، بل واجبهم كان يقضي بالدفاع عن المسلمين والقتال معهم ضدّ قريش والأحزاب.

2ـ لقد صرّح ولفنسون أيضاً، أن انضمام بني قريظة إلى الأعداء قد أرهب المسلمين؛ لأنهم علموا ما يحتمل أن ينجم عنه، حيث اقتربت جيوش الأحزاب إلى يثرب وعظم البلاء واشتدّ الخوف حتى ظن المسلمون كلّ الظن([52]).

3 ـ صحيح أن كعب بن أسد الذي أبى أن ينقض صحيفته مع المسلمين، وقال لحُيي ابن أخطب([53]): «ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمداً، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً»([54])، إلا أنه في نهاية النقاش نقض العهد وبرئ مما كان بينه وبين الرسول.

4 ـ إن نصر اليهود لدينهم التوحيدي يقضي بوقوفهم إلى جانب أخوتهم في التوحيد، أي المسلمين الذين يؤمنون بإله واحد وبأنبياء بني إسرائيل كلّهم، بل وبكل الأنبياء. إن نصر اليهود لدينهم يقضي أيضاً أن يحاربوا الكفار والمشركين والوثنيين من العرب، وليس أن يتحالفوا معهم وينوّهوا ويشيدوا بوثنيتهم وعبادتهم للأصنام، إن كل يهودي يعلِّق على نجاة داره صحيفة تشتمل على وصية موسى لبني إسرائيل، يطلب منهم فيها أن يحتفظوا بإله واحد، ولا يبدّلوه ولو عُذِّبوا وقُتِّلوا. وهذه عقيدة تلمودية معروفة([55])، وعادة متبعة عند اليهود إلى يومنا هذا([56]). إن نصر الدين يعني الوفاء بالعهود والمواثيق التي التزموا بها، فهناك تناقض بين سلوك اليهود وتعاليمهم الدينية، إلا إذا كان دينهم يأمرهم بنقض العهود والمواثيق والكذب والخيانة والخداع في كل حين وعلى كلّ حال.

5 ـ لقد أقرَّ ولفنسون واعترف بمحاربة بني قريظة للمسلمين، وبالتالي فهو يقرّ بأنهم ليسوا بمسالمين، ولا بمستسلمين مساكين، وعداوتهم للنبي‘ وخيانتهم له ليست مشكوكة: «يظهر أنّ بني قريظة كانوا يميلون إلى الهدوء والسلم، لأنَّهم كانوا رجال فلاحة وزراعة.. وليس معنى هذا أن بني قريظة لم تكن لديهم أية كفاءة حربية.. ومع هذا فقد أبلوا بلاءً حسناً في يوم بُعاث، وأبدوا من الشجاعة وقوة العزيمة ما يستحقّ الاحترام، وأيضاً فإنهم قد منعوا حصونهم خمساً وعشرين ليلة، ولم ينزلوا إلا حين أيقنوا بالهلاك»([57]). وينقل ولفنسون عن الواقدي وابن هشام أنه حدث قتال بين اليهود وبين المسلمين أثناء الحصار؛ حيث كان الفريقان يتراميان بالنبل والحجارة، حتى أن بعض الأنصار من الخزرج وبني حارثة قتلوا في هذه المقاتلة الضعيفة، ولم يجرؤ بنو قريظة أن يخرجوا من الآطام مرّةً واحدة طول مدة الحصار، لأن عدد المسلمين كان يربو على الآلاف بينما كان عدد اليهود لا يتجاوز السبعمائة إلا قليلاً([58]).

6 ـ إن بني قريظة ليسوا بأسرى؛ فهم لم يقبلوا أن يستسلموا وينزلوا على حكم الرسول‘، بل نزلوا على حكم حليفهم سعد بن معاذ زعيم الأوس. لقد استسلموا بشرط أن يرجع الحُكْمُ فيهم إليهم، فهم ليسوا بأسرى، فالأسير لا يشترط على آسره ولا يقرّر مصيره. وما يدريك، لعلهم لو نزلوا على حكم الرسول، واعترفوا بخيانتهم العظمى، واستفادوا من سماحة الرسول وعفوه ورحمته الواسعة، لكان عفا عنهم، ولم يقتلهم بل اكتفى بأخذ أسلحتهم وأموالهم وإجلائم عن المدينة، كما فعل مع بني قينقاع وبني النضير، مع الإشارة إلى أن خيانة بني قينقاع وبني النضير لم تصل إلى مستوى خيانة بني قريظة العظمى([59]).

7 ـ لقد برهن يهود المدينة أنهم أفعى سامة، لا تروِّضها التجارب، ولا يستطيع الإنسان أن ينام إلى جانبها، بل لا يستطيع أن يعيش معها في نفس المنزل. كما برهنوا أنهم مجرمو حرب، وبالتالي ينبغي قتلهم ولو كان عددهم كبيراً. ولو تُركوا وهم على هذا القدر من الإصرار على العداء لشكَّلوا مجموعات إرهابية، ومصدر خطر على الدولة الإسلامية، إنَّ لديهم من يساندهم ويدعمهم وهم يهود خيبر([60])، الذين كانوا من أقوى الطوائف اليهودية في بلاد الحجاز، وأكثرهم عدداً وعدةً وأمنعهم حصوناً.

ـ للبحث صلة ـ

الهوامش



(*) باحث في التاريخ والفقه الإسلامي، وناشط في مجال الإعلام الديني، من لبنان.

([1]) مرتضى، جعفر، الصحيح من سيرة النبي الأعظم 11: 9.

([2]) مرتضى، جعفر، الصحيح من سيرة النبي الأعظم 11: 9.

([3]) راجع: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار 20: 261، ط3، بيروت، دار إحياء التراث، 1983م.

([4]) مفاوضة نباش بن قيس مع النبي‘: حين أيقن بنو قريظة بالهلاك، بسبب رمي المسلمين لهم أنزلوا نباش بن قيس، فكلم رسول الله ساعة، وقال: يا محمد! ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير، لك الأموال، والحلقة، وتحقن دماءنا، ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري، ولنا ما حملت الإبل إلا الحلقة. فأبى رسول‘. فقالوا: فتحقن دماءنا، وتسلم لنا النساء والذرية، ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل. فقال رسول الله‘: لا. إلا أن تنزلوا على حكمي. فرجع نباش إلى أصحابه بمقالة رسول الله.

([5]) قال الزهري: وقال رسول الله‘ حين سألوه أن يُحكّم فيهم رجلاً: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعد بن معاذ، فرضي بذلك النبي. راجع تفسير الميزان 16: 302.

([6]) الحميري، المعافري، عبد الملك بن هشام بن أيوب، السيرة النبوية لابن هشام: 509. الأرقعة: السماوات.

([7]) أي من أنبتت عانته وبلغ سن التكليف. ولكن هناك نقاش يحتاج إلى تحقيق حول دقة هذه الروايات، حيث إن هناك من يقول بأن الذين صدر في حقهم حكم سعد بن معاذ هم رجال بني قريظة المحاربون، وليس كل من أنبتت عانته.

([8]) الصحيح من سيرة النبي الأعظم 11: 11.

([9]) الطبرسي، مجمع البيان 8: 149، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1995م.

([10]) المقريزي، تقي الدين، إمتاع الأسماع 8: 376.

([11]) الذهبي، شمس الدين، سير أعلام النبلاء 1: 288، ط9، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1993م؛ ومحمد بن سعد، الطبقات الكبرى 3: 425.

([12]) الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف 3: 281، الطبعة الجديدة، قم، إيران، مؤسسة النشر الإسلامي، 1411هـ.

([13]) الصحيح من سيرة النبي الأعظم 11: 181.

([14]) ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب 1: 173، النجف، المطبعة الحيدرية، 1956م.

([15]) تفسير مقاتل بن سليمان 3: 341.

([16]) الأربلي، كشف الغمة 1: 208، ط2، بيروت، دار الأضواء، 1405هـ – 1985م.

([17]) السيرة النبوية لابن هشام: 570 – 571.

([18]) المصدر نفسه 3: 721.

([19]) أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي 2: 52.

([20]) ابن خلدون، العِبَر وديوان المبتدأ والخبر 2: 293، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1391هـ.

([21]) محمد بن عمر بن واقد، المغازي: 518، تحقيق مارسون جونس، ط2، إيران، مكتب الإعلام الإسلامي، 1418 هـ.

([22]) المصدر نفسه 2: 517.

([23]) إمتاع الأسماع 13: 303.

([24]) المتقي، الهندي، كنز العمال 10: 458.

([25]) بحار الأنوار 37: 58.

([26]) المصدر نفسه 90: 69.

([27]) عدد المقاتلين = عدد السبايا / 5. مثال: عدد المقاتلين يتراوح بين 750/5 = 150 و 1000/5=200.

([28]) مناقب آل أبي طالب 2: 333.

([29]) عدد المقتولين من بني قريظة بعد استسلامهم = عدد المقتولين الإجمالي (بحسب الروايات) ـ عدد المقتولين في المعركة قبل حصارهم وأثناءه.

([30]) المغازي للواقدي 1: 501.

([31]) تاريخ اليعقوبي 2: 52.

([32]) زين الدين، الصراط المستقيم 2: 80، إيران، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

([33]) قريظة: فخذ من جذام إخوة النضير. نزلوا بجبل يقال له: «قريظة»، فنسبوا إليه. وقد قيل: إن قريظة اسم جدهم. وكانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله×. وهو أمر محتمل لأن شعيباً كان من قبيلة جذام، القبيلة المشهورة.

([34]) آرمسترونغ، كارين، الإسلام في مرآة الغرب، محاولة جديدة في فهم الإسلام: 240، ط2، ترجمة محمد الجورا، سورية، دمشق، دار الحصاد 2002م.

([35]) المصدر نفسه: 242.

([36]) المصدر نفسه: 243.

([37]) المصدر نفسه: 243.

([38]) المصدر نفسه.

([39]) المصدر نفسه: 245.

([40]) هذا يؤكد أن بني قريظة لم يستسلموا ولم يخضعوا للرسول، إلا بعد أن خاضوا مواجهات مع المسلمين استمرت خمساً وعشرين ليلةًً.

([41]) المصدر نفسه: 240 ـ 241.

([42]) المصدر نفسه: 243.

([43]) المصدر نفسه: 243 – 244.

([44]) المصدر نفسه: 245.

([45]) وات، مونتغمري، محمد في المدينة: 326 ـ 327.

([46]) قال ابن هشام: حدثني بعض من أثق به من أهل العلم، أن عليا بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: «يا كتيبة الإيمان»، وتقدم هو والزبير بن العوام، وقال: «والله لأذوقنّ ما ذاق حمزة أو لأفتحنّ حصنهم». فقالوا: «يا محمد! ننزل على حكم سعد بن معاذ». وبذلك يكون اليهود هم الذين طلبوا بأنفسهم النزول على حكم سعد بن معاذ حليفهم السابق علَّهم ينجون من الموت الذي جلبوه لأنفسهم. راجع: السيرة النبوية لابن هشام: 509.

([47]) محمد في المدينة: 327 ـ 331.

([48]) المصدر نفسه: 190.

([49]) المصدر نفسه: 193.

([50]) ولفنسون، إسرائيل، تاريخ اليهود في بلاد العرب: 196.

([51]) المصدر نفسه: 195.

([52]) المصدر نفسه: 190.

([53]) صاحب مشروع يوم الخندق، الذي حاول أن يؤثر في أبناء جلدته من بني قريظة ويحرِّضهم على نقض المعاهدة.

([54]) السيرة النبوية لابن هشام: 498.

([55]) كتاب التثنية: فصل 6 آية 5.

([56]) ولفنسون، إسرائيل، تاريخ اليهود في بلاد العرب: 180.

([57]) المصدر نفسه: 193.

([58]) المصدر نفسه: 193 ـ 194.

([59]) من المعلوم أن الخيانة يعاقب عليها بالقتل حتى في النظم الحديثة.

([60]) فخيبر قرية كبيرة من قرى اليهود المجاورة للمدينة، تقع على قمة جبل، ويحيطها حصن حجري، ظنّ أهله أنه مانعتهم من إرادة الحق وسيوف المجاهدين المؤيدين بنصر الله سبحانه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً