أحدث المقالات

مفهومه، حكمه، وحدوده

الشيخ محمد المؤمن القمي(*)

ترجمة: حسن علي مطر

مقدمة

لا شكّ في أنّ الغناء قد أضحى متعلقاً للحكم بالحرمة في الشريعة الإسلامية. وهذا ما يثبت من خلال النظر في كلمات الفقهاء والروايات المأثورة عن أهل البيت^. وفي هذا المقال سنتعرّض في البداية لجانب من آراء الفقهاء والمجتهدين في هذا الشأن، لندخل بعد ذلك في بيان الروايات المتعلقة بمحلّ بحثنا.

آراء الفقهاء في الغناء

قال الشيخ الصدوق في (المقنع): «إياك والغناء؛ فإنّ الله توعّد عليه النار» ([1]).

وقال الشيخ المفيد في كتاب (المقنعة): «وكسب المغنيات حرام، وتعلم ذلك وتعليمه محظور في شرع الإسلام»([2]).

ومن الواضح أنّ حرمة أخذ المغنية الأجرة على غنائها، وحرمة تعليمه وتعلمه، إنما هو لأجل حرمة الغناء في نفسه. وعليه ستكون حرمة الغناء هي الأصل، وأما حرمة هذه الأمور فهي متفرعة عن حرمته.

وقال الشيخ الطوسي في باب المكاسب المحرّمة من كتاب (النهاية): «وكسب المغنيات وتعلم الغناء حرام». ويتضح من هذا الكلام ـ كما بينا ذلك في ذيل كلام الشيخ المفيد ـ أن الغناء محرّم لذاته. وقال المحقق الحلي في كتاب (النكت)، تعليقاً على العبارة المتقدّمة: «وعليه الإجماع منا».

وقال أبو الصلاح الحلبي في كتاب (الكافي): «يحرم آلات الملاهي، كالعود والطنبور والطبل والمزمار وأمثال ذلك، وإعمالها للإطراب بها، والغناء كلّه»([3]).

وقال القاضي ابن البرّاج في (المهذب): «فأما المحظور على كلّ حال فهو كلّ محرّم…، وما جرى مجرى ذلك…، على اختلاف وجوهه وضروبه، وآلات الغناء»([4]).

وقال سلار في (العلوية): «فأما المحرّم:… وكسب المغنيات».

وقال المحقق الحلي في (الشرائع): «النوع الرابع: ما هو محرّم في نفسه، كعمل الصور المجسّمة والغناء».

كما جاء في كتاب الشهادات من (الشرائع): «وهنا مسائل: …الخامسة: مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، يُفسّق عليه، وردّ شهادته، وكذا مستمعه».

ومن الواضح أنّ المحقق الحلّي لم يذكر في هذه العبارة عنوان الغناء.

وقال العلامة في (القواعد): «النوع الرابع: ما نصّ الشارع على تحريمه عيناً، كعمل الصور المجسمة، والغناء، وتعليمه، واستماعه، وأجر المغنية. وقد وردت رخصة في إباحة أجرها في العرس إذا لم تتكلَّم بالباطل، ولم تلعب بالملاهي، ولم تدخل الرجال عليها».

وقال ابن العلامة (فخر المحققين) في كتاب (الإيضاح)، بعد نقل حرمة أخذ المغنية الأجرة حتى في غنائها في الأعراس عن ابن إدريس الحلي: «وهو [أي اختيار ابن إدريس] الأقوى عندي؛ لأنّ هذه الرواية ـ أي الرواية التي تبيح أجر المغنية ـ من الآحاد، فلا يعارض الدليل المانع ـ أي الروايات التي تحرّم أجرة المغنية وكسبها بقولٍ مطلق ـ؛ لتواتره».

وقال العلامة في كتاب (الإرشاد): «الرابع [من أقسام التجارات المحرّمة]: ما هو حرامٌ في نفسه، كعمل الصور المجسّمة والغناء».

وقال الشهيد الثاني في (مسالك الأفهام): «الغناء عند الأصحاب [فقهاء الإمامية] محرّم، سواء وقع بمجرّد الصوت أم انضمّ إليه آلة من الآلات».

وقال المحقق في كتاب (المختصر النافع): «الخامس: الأعمال المحرّمة، كعمل الصور المجسّمة والغناء».

وجاء في (الرياض): «والغناء، وهو مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، أو ما يسمى في العرف غناء، وإن لم يُطرب، سواء كان في شعر أو قرآن أو غيرهما، على الأصح الأقوى، بل عليه إجماع العلماء، كما حكاه بعض الأجلاء، وهو الحجّة».

ثمّ عمد بعد ذلك إلى تعداد الروايات الدالة على حرمة الغناء. وادعى الإجماع على أصل حرمة الغناء.

وقال السيد الخوانساري في كتاب (جامع المدارك): «ولكن لا خلاف في حرمة ذلك…».

وقال العلامة الحلي في (الإرشاد): «وتردّ شهادة اللاعب بالقمار كلّها، كالنرد و…، وسامع الغناء. وهو [أي الغناء] مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب ـ وإن كان في القرآن ـ، وفاعله».

وقال المقدّس الأردبيلي في كتاب (شرح الإرشاد): «وأما الغناء فلا شكّ في تحريم فعله وسماعه عندنا، لعله لا خلاف فيه، وتدلّ عليه أخبار كثيرة».

وقال بعد ذكره لعدد من الروايات: «ولكن الإشكال في معناه. المشهور في ذلك ما ذكره في المتن، من أنه مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب… وبعض الأصحاب ما قيّد بالمطرب؛ فيكون مطلقاً حراماً عنده، مطرباً كان أم لا».

وعلى أية حال فعلى كلا الفرضين فإنّ جميع المعاني التي ذكرت للغناء لم تبيّن في الشرع، ولا في اللغة.

قال في القاموس: «الغناء ككساء، من الصوت ما طرب».

ويفهم منه أنه مطلق الصوت المطرب، وحينئذٍ الحوالة فيه إلى العرف. من هنا فإنّ تعريف الغناء موكول إلى العرف، فكلّ ما يعدّ في العرف غناءً يحرم فعله وسماعه مطلقاً، في القرآن وغيره، شعراً وغيره. وبالجملة لا ينبغي الخروج عن التفسير المذكور، فإنه المشهور، وفسّر به المصنف والمحقق وغيرهما.

ومن الجدير بالذكر أنّ كلام المحقق الأردبيلي هنا كالصريح، ويدلّ على أنه لا شك ـ بل يبدو منه عدم الخلاف أيضاً ـ في أنّ الغناء بهذا المعنى قد وقع موضوعاً للحكم بالحرمة. فالإشكال يكمن في معنى الغناء، لا أنّ الغناء ينقسم إلى العديد من الأقسام، يكون في بعضها محرّماً، وفي الأخرى محلَّلاً، أو تحتمل فيه الإباحة.

هناك خلاف في الصوت الذي يخلو من الترجيع والطرب، فإننا في الحقيقة لا نعلم ما إذا كان عنوان الغناء ينطبق على هذا النوع من الأصوات أم لا، ولكن لو تيقّنّا بانطباق تعريف الغناء عليه فعندها لن يكون هناك خلاف في حرمته.

ومن هنا فإنّ كلام الأردبيلي هذا يشكّل قرينة على مراده من شرح عبارة العلاّمة في كتاب المتاجر، التي نقلها عن الإرشاد، حيث يقول: «قوله: (والغناء)، قيل: هو المدّ، (مدّ صوت الإنسان المشتمل على الترجيح المطرب). الظاهر أنه لا خلاف حينئذٍ في تحريمه، وتحريم الأجرة عليه، وتعليمه، وتعلمه، واستماعه. وردّه بعض الأصحاب إلى العرف، فكلّ ما يُسمى به عرفاً فهو حرام، وإن لم يكن مشتملاً على الترجيع، ولا على الطرب. دليله: إنه لفظٌ ورد في الشرع تحريم معناه، وليس بظاهر له معنى شرعي مأخوذ من الشرع، فيُحال إلى العرف. والظاهر أنه يُطلق على مدّ الصوت من غير طرب، فيكون حراماً؛ إذ يصح تقسيمه إلى المطرب وعدمه، بل لا يبعد إطلاقه على غير المرجَّع والمكرَّر في الحلق، فينبغي الاجتناب».

والتعريف الأول هو الأشهر. ولعلّ وجهه أنّ الذي عُلم تحريمه بالإجماع هو مع القيدين [الطرب والترجيع]، وبدونهما يبقى على أصل الإباحة. ولكنّ مدلول الأدلة أعمّ من ذلك، بل إنّ الإجماع على حرمة الغناء، وتخصيصه بالقيدين المذكورين بحاجة إلى دليل. وربما أمكن القول بأنّ الأخبار ليست بحجّة، وإنما الإجماع والشهرة مع القيدين [الترجيع والطرب]، فلا حجّة على غيره، والأصل [الإباحة] دليلٌ قويّ.

إنّ مراد المحقق الأردبيلي هو أنّ بعض الفقهاء قد أخذ قيدي الترجيع والإطراب في تحقق مفهوم الغناء، وقد قامت الأخبار والإجماع على عنوان الغناء، إلا أنّ اعتبار هذين القيدين مأخوذ عند بعض المجمعين في مفهوم الغناء، فيكون هذان القيدان محتملين. وعليه لا مندوحة لنا من قبول هذا الإجماع إذا توفَّر على هذين القيدين. ولن تكون الروايات حجة في غياب الإجماع أو الشهرة. وليس مراده أننا إذا قبلنا بصدق عنوان الغناء لن تكون هناك حجّة عليه.

ومن خلال توضيح عبارة المحقق الأردبيلي يثبت لنا ضعف كلام صاحب (مفتاح الكرامة) إذ قال: «وما يقال في توجيه ذلك، كما في (مجمع البرهان): إنّ الذي علم تحريمه بالإجماع هو ما قيّد بالقيدين، وبدونهما يبقى على أصل الإباحة، أوهن شيء».

إنّ هذا الإشكال من قبل صاحب (مفتاح الكرامة) ناشئ عن سوء فهمه لمراد المحقق الأردبيلي ـ والله العالم ـ، فقد قال صاحب الحدائق بعد ذكره هذين التعريفين المتقدّمين للغناء، نقلاً عن بعض الفقهاء: «لا خلاف ـ على ما أعلم ـ في حرمة الغناء»([5]).

وقال صاحب (الجواهر): «ومنه أيضاً [أي من أنواع التجارة المحرّمة في نفسها]: الغِناء، بالكسر والمدّ، ككساء، بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه [أي المحصّل والمنقول] عليه. والسنة متواترة فيه…، بل يمكن دعوى كونه ضرورياً في المذهب».

وقال أيضاً: «لا خلاف في الغناء، وهو عند المصنِّف والفاضل في (الإرشاد) و(التحرير) مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، يُفسّق فاعله، وتردّ شهادته، وكذا مستمعه، بلا خلاف، بل الإجماع بقسميه عليه».

وكما هو واضح فإنّ هذه الكلمات التي صدرت عن هؤلاء الفقهاء العظام تدلّ على أنّ الغناء عنوان أفتى الفقهاء بحرمته، ولم نعثر على مَنْ خالف فيه، بل ادعى بعض الفقهاء الإجماع عليه، حتى ذهب صاحب الجواهر إلى القول بأنّ حرمة الغناء من ضروريات مذهب التشيّع. من هنا يبدو أنه ليس هناك من شكّ في فتوى الفقهاء بوقوع عنوان الغناء متعلَّقاً للحكم بالحرمة.

أدلة حرمة الغناء، مجموعات النصوص الحديثية

من بين الأدلة اللفظية فإنّ الكتاب الكريم لم يتعرّض لحرمة عنوان الغناء، ولكن هناك مجموعة من الروايات الدالة على حرمة الغناء شرعاً، ويمكن تقسيم تلك الروايات إلى عدّة مجموعات:

المجموعة الأولى

أما المجموعة الأولى فهي عبارة عن روايات مستفيضة تذهب إلى القول باعتبار الغناء من مصاديق (قول الزور)، الوارد في قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (الحج: 30).

ومن باب المثال: جاء في صحيحة هشام بن سالم، المذكورة في تفسير علي بن إبراهيم القمي، عن الإمام×، في ذيل قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور﴾، قال: الرجس من الأوثان الشطرنج، وقول الزور الغناء([6]).

وعن ابن أبي عمير، في مرسلته عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله×، في قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور﴾، قال: الرجس من الأوثان الشطرنج، وقول الزور الغناء([7]).

ومن ناحية أخرى فإنّ إرسال هذه الرواية لا يؤدي إلى ضعف سندها؛ وذلك لقول النجاشي في حق ابن أبي عمير: «لقد أخذ أصحابنا مراسيل ابن أبي عمير  بالقبول».

وجاء في رواية زيد الشحام: «سألتُ جعفر بن محمد× عن قول الله عز وجل: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور﴾؟ قال: الرجس من الأوثان الشطرنج، وقول الزور الغناء»([8]).

وجاء في سند هذه الرواية (درست بن أبي منصور)، وهو واقفي، ولم يصرّح علماء الرجال بوثاقته، ولم يروِ عنه سوى بعض أصحاب الإجماع، وحكيَ عن المحقِّق في كتاب (المعتبر) أنه يذهب إلى القول بتصحيح روايات درست بن منصور.

وشبيهٌ بالرواية المتقدّمة في تفسير قول الزور بالغناء روايات أبي بصير([9])، وعبد الأعلى([10])، ومحمد بن عمرو بن حزم([11])، وهي بأجمعها مروية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق×، فلتراجع في مظانّها.

إنّ الاستدلال بهذه الروايات يكون بهذا الشكل: إنّ هذه الآية الشريفة تأمر باجتناب قول الزور، والأمر ظاهرٌ في الوجوب، وعليه تكون الآية ظاهرة وحجّة في وجوب اجتناب قول الزور. وإنّ وجوب الاجتناب هذا يعني حرمة قول الزور. ومن جهة أخرى فقد فسّر قول الزور في الروايات المستفيضة المتقدّمة ـ والتي اشتملت على بعض الروايات المعتبرة أيضاً ـ بالغناء. وعليه فإنّ الغناء محرّم، وإنّ ظاهر الروايات أنّ الغناء من حيث هو غناء مصداقٌ لقول الزور، وهو محرّم بصريح الآية الكريمة المتقدّمة.

يبدو من كلمات الشيخ الأنصاري في (المكاسب المحرّمة) أنه يذهب إلى القول بأنّ تفسير (قول الزور) بالغناء ظاهر في اعتبار الغناء من مقولة الكلام. وعليه يختصّ الغناء المحرّم بما كان مشتملاً على الكلام والمضمون الباطل. وبالتالي فإنّ هذه الآية ليس فيها دلالة ـ بغضّ النظر عن الكلام الباطل ـ على حرمة نفس كيفية الغناء.

يقال في توجيه هذه الدعوى: إنّ الإضافة في (قول الزور) من نوع إضافة المصدر إلى المفعول، و(الزور) يعني الكذب أو كل ما هو زائغ عن الصراط المستقيم، وإنّ مقول القول ـ على ما يبدو ـ هو المعنى الذي أراده المتكلم. من هنا فلا مندوحة لنا من القول: إنّ ظاهر الآية في النهي عن بيان كل ما هو كذب أو باطل. وعليه فإنّ تصنيف الغناء واعتباره من مصاديق الكذب أو الباطل يشير إلى أنّ المراد من الغناء هو الذي يكون مفاده كذباً أو باطلاً. وهذا هو مراد الشيخ الأنصاري.

ومع ذلك فالإنصاف أنّ كلام الشيخ الأنصاري مخالفٌ لظاهر المستفيض؛ وذلك لأنّ ظاهر هذه الروايات هو أنّ الغناء بما له من معنى ومن دون قيد من مصاديق قول الزور. من هنا فإنّ تقييد الغناء ببعض مصاديقه ـ أي الغناء المشتمل على المعنى الباطل ـ مخالف للإطلاق الظاهر من الخبر المستفيض. بل لنا أن ندّعي دلالة الروايات المستفيضة على أنّ الغناء مصداق لقول الزور مطلقاً. وحيث إنّ الغناء صوت مشتمل على كيفية خاصّة، وإنّ قوامه رهن بهذه الكيفية ـ سواء أكان كلاماً باطلاً أم لم يكن ـ فهو مصداق لقول الزور. وإنّ ملاحظة هذا الإطلاق يدلنا إلى أنّ اعتبار الغناء زوراً إنما هو بلحاظ الكيفية التي تقوّم الغناء. وعليه فإن قبلنا بأنّ لقول الزور ظهوراً في خصوص المورد الذي هو زور بلحاظ معناه، إلا أنّ الغناء عُدّ في المستفيضة من مصاديق قول الزور بشكلٍ مطلق. وهذا يشهد على أنّ المراد من قول الزور ليس خصوص المورد الذي يكون زوراً بلحاظ معناه، بل إنه في الأقل يشمل الموارد الشبيهة بالغناء من حيث الخصوصية والأداء.

وخلاصة القول: إنّ هذه الرواية المستفيضة ظاهرةٌ في كون المراد من (قول الزور) في هذه الآية الشريفة هو الغناء بشكل مطلق، وإنّ قوّة هذا الظهور بحيث لا يمكن رفع اليد عن هذا الظهور، بغضّ النظر عن ادعاء الشيخ.

المجموعة الثانية

إنّ روايات المجموعة الثانية روايات مستفيضة، تذهب إلى تفسير الغناء باعتباره مصداقاً للهو الحديث، الوارد في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (لقمان: 6).

روي في كتاب (الكافي) عن جماعة من الأصحاب، عن سهل بن زياد، أنه قال: «سمعت أبا الحسن الرضا× يُسأل عن الغناء؟ فقال: هو قول الله عز وجل:  ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾»([12]).

لا إشكال في سند هذه الرواية إلا من ناحية سهل بن زياد، وهو سهلٌ أيضاً؛ وذلك لروايتها في الكافي على نحو غالب عن جماعة من الأصحاب، وكذلك لأدلة أخرى.

وجاء في رواية محمد بن مسلم عن الإمام الباقر× أنه قال: «سمعته يقول: الغناء ممّا وعد الله عليه النار. وتلا هذه الآية: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ([13]).

وجاء في رواية مهران بن محمد، عن الإمام الصادق×، أنه قال: «سمعته يقول: الغناء ممّا قال الله عز وجل: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» ([14]).

ونظير هذه الرواية رواية الحسن بن هارون([15])، وعبد الأعلى([16])، وأبي بصير([17])، المروية بأجمعها عن الإمام الصادق×، فلتراجع.

بيان الاستدلال بهذه المجموعة من الروايات هو نفس الأسلوب الذي اتبعناه في ذيل الطائفة الأولى؛ إذ إنّ هذه الروايات عدّت الغناء من مصاديق شراء لهو الحديث من أجل الإضلال عن سبيل الله بقول مطلق، وقد دلت الآية الكريمة على أنّ مَنْ يشتري هذا الحديث سيبتلى بعذاب شديد ومشين. وإنّما قلنا باعتبار الغناء من مصاديق لهو الحديث مطلقاً؛ لأنّ الغناء ـ بمعنى الصوت بكيفية خاصّة ـ يؤدي بالسامع إلى الضلال عن سبيل الله، ويعرضه إلى السقوط في معصية الله سبحانه وتعالى.

المجموعة الثالثة

أما المجموعة الثالثة فروايات مستفيضة تدل على أنّ ثمن الجارية المغنية سحت. إنّ لهذه الروايات من الناحية العرفية ظهوراً في أنّ سرّ هذه الحرمة يكمن في كون الغناء غناء لجارية. وبعبارة أخرى: إنّ حرمة الغناء هو الذي أدى إلى حرمة ثمن الجارية المغنية.

كما جاء في توقيع لصاحب الأمر#، في أجوبته عن أسئلة إسحاق بن يعقوب: «أما ما وصلتنا به فلا قبول عندنا، إلا ما طاب وطهر، وثمن المغنية حرام»([18]).

وجاء في رواية الوشّاء، في كلٍّ من (الكافي) و(التهذيب) و(الاستبصار) بسند معتبر ـ باستثناء سهل بن زياد الذي تقدّم أن قلنا عنه: إنّ أمره سهل ـ لا غبار عليه، قوله: «سُئل أبو الحسن الرضا× عن شراء المغنية؟ قال: قد تكون للرجل الجارية تلهيه، وما ثمنها إلاّ ثمن كلب، وثمن الكلب سحت، والسحت في النار» ([19]).

إنّ قول الإمام: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه» بمنزلة التعبير بالقول: قد تكون للرجل الجارية تغني له. وعلى أية حال يُستفاد من هذه الرواية أنّ ثمن الجارية المغنية بمنزلة ثمن الكلب، فهو حرام. وهذا يعني أنّ الغناء محرّم.

وجاء في رواية إبراهيم بن أبي بلاد قوله: «أوصى إسحاق بن عمر بجوارٍ له مغنيات أن يُبَعْنَ، ويُحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن الرضا×، قال إبراهيم: فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم، وحملت الثمن إليه، فقلت له: إنّ مولى لك يقال له: إسحاق بن عمر أوصى عند وفاته ببيع جوارٍ له مغنيات، وحمل الثمن إليك…، فقال×: لا حاجة لي فيه، إنّ هذا سُحت، وتعليمهنّ كفر، والاستماع منهنّ نفاق، وثمنهنّ سُحت»([20]).

إنّ دلالة هذه الرواية كدلالة الروايتين السابقتين، رغم عدم ورود عبارة: «وتعليمهنّ كفر، والاستماع منهنّ نفاق» فيهما. وإنّ هاتين الإضافتين تدلان أيضاً بالدلالة الالتزامية على حرمة الغناء؛ وذلك لأنّ التغنّي هو الذي عبّر عنه بأنّ تعليمه كفر، وسماعه نفاق.

وفي رواية أخرى عن إبراهيم بن أبي بلاد، عن الإمام الرضا×، أنه قال: «إنّ ثمن الكلب والمغنية سُحت»([21]).

ويلحق بهذه المجموعة من الروايات روايات تدلّ على حرمة أجرة الغناء، كما جاء في مرسلة الصدوق: «رويَ أنّ أجر المغني والمغنية سحت»([22]).

وجاء في رواية نضر بن قابوس في (الكافي) و(التهذيب) و(الاستبصار): «سمعت أبا عبد الله× يقول: المغنية ملعونة، ملعون من أكل كسبها»([23]).

ومن الواضح أنّ حرمة الأجر على الغناء لها ظهور في حرمة نفس الغناء عرفاً، وهذا يُشير إلى أنّ حرمة الغناء هي التي أفضت إلى حرمة الأجرة عليه، وحيث إنّ حرمة الأجرة على الغناء مطلقة، ولم تقيّد بنوع خاص من الغناء، دلّ ذلك على حرمة الغناء بقول مطلق.

كما تلحق بهذه المجموعة من الروايات رواية محمد الطاطري، المروية عن الإمام الصادق×، والتي جاء فيها: «سأل رجلٌ عن بيع الجواري المغنيات؟ فقال: شراؤهن وبيعهنّ حرام، وتعليمهن كفر، واستماعهن نفاق»([24]).

إنّ حرمة بيع وشراء الجارية المغنية يستلزم حرمة الغناء نفسه، بل إنّ حرمة الغناء هو الذي أدّى إلى حرمة بيع الجارية المغنية وشرائها.

المجموعة الرابعة

أما المجموعة الرابعة فعبارة عن روايات متفرّقة تدلّ كل واحدة منها على حرمة عنوان الغناء. ومن الروايات التي تدلّ على الالتزام العرفي بحرمة الغناء: صحيحة حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله×، إذ قال: «سألته عن قول الزور؟ قال: منه قول الرجل للذي يغني: أحسنت»([25]).

علمنا مما تقدم أنّ كون الكلام مشتملاً على قول الزور دليل على حرمته. ومن هنا يحرم استحسان كلام المغني بالقول له: «أحسنت». ومن الواضح أنّ منشأ حرمة هذا القول من ناحية كونه نوعاً من التشجيع للمغني على غنائه، ولو أنّ غناءه لم يكن محرَّماً لما حرم تشجيعه.

ومن الروايات الدالة على المدَّعى: معتبرة يونس، التي يقول فيها: «سألت الخراساني عن الغناء، وقلت: إنّ العباسي ذكر عنك أنك ترخص في الغناء؟ فقال: كذب الزنديق، ما هكذا قلتُ له، سألني عن الغناء؟ فقلت: إنّ رجلاً أتى أبا جعفر صلوات الله عليه، فسأله عن الغناء، فقال: يا فلان، إذا ميّز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء؟ فقال: مع الباطل، فقال×: قد حكمت»([26]).

ومثلها معتبرة ريان بن الصلت، المنقولة في كتاب (عيون أخبار الرضا)، للشيخ الصدوق، و(رجال الكشي)، عن الإمام الرضا×([27])، فراجع.

ووجه دلالة هذه الروايات هو أنّ الغناء لو كان حلالاً لم يكن هناك من مبرّر لإنكار الإمام أن يكون قد رخَّص فيه. وعليه يكون إنكار الإمام مساوقاً لاعتباره الغناء من الباطل، وأنه حرام. وتوجد هنا روايات أخرى تدلّ على حرمة الغناء أيضاً، يمكن الوصول إليها من خلال التتُّبع، وربما تعرّضنا لها في البحوث القادمة.

والنتيجة أن هناك روايات كثيرة ـ وقد ذهب البعض إلى القول بتواترها ـ تدلّ على أنّ الغناء إنما حرّم في الشريعة من جهة أنه غناء. ومن هنا فإنّ هذه الروايات ستكون هي المعتمد في فتوى الفقهاء بحرمة الغناء. يبقى هنا دراسة مفهوم الغناء في هذه الروايات، وفي كلمات الفقهاء.

مفهوم الغناء عند علماء اللغة

يبدو من ظاهر عبارات اللغويين أنّ للغناء مفاهيم عدّة. ففي (لسان العرب)، نقلاً عن الأصمعي في مفهوم الغناء، تعريفه بالقصر والمد: «الغنى من المال مقصور، ومن السماع ممدود. وكلّ من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء».

والظاهر أنّ مراده من «الموالاة» هو مدّ الصوت مع ترجيعه. والحقيقة أنه أراد القول: إنّ الغناء هو مدّ الصوت الرفيع وترجيعه.

وجاء في المصباح المنير: «الغناء ـ مثال كِتاب ـ الصوت. وقياسه الضم؛ لأنه صوت، وغنّى بالتشديد: إذا ترنّم بالغناء».

وعلى الرغم من أنّ صاحب المصباح المنير ـ على ما حكي عنه ـ فسّر الغناء أولاً بالصوت، إلا أنه خصّه في شرحه بالصوت الرفيع الممدود.

وجاء في المصباح المنير أيضاً: «قول النبي الأكرم|: ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن»([28]).

وعن الأزهري: «أخبرني عبد الملك البغوي، عن الربيع، عن الشافعي: إنّ معناه تحزين القراءة وترقيقها، وتحقيق ذلك في الحديث الآخر: «زينوا القرآن بأصواتكم».

ونقل الأزهري عن الشافعي أنه فسّر الغناء بترقيق الصوت والقراءة بحزن. وقد نقل هذا التفسير ابن الأثير في (نهايته) عن الشافعي أيضاً، حيث يقول: «وقال الشافعي: معناه [أي معنى الغناء] تحسين القراءة وترقيقها، ويشهد له الحديث الآخر: «زينوا القرآن بأصواتكم». وكلّ مَنْ رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء».

وجاء في (الصحاح): «الغناء بالكسر من السماع.. والجارية المسمعة أي الجارية المغنية».

كما فسّر السماع في (أقرب الموارد) بالغناء: «السماع مصدر، والذكر المسموع يقال له: سماع. والغناء وكلّ ما التذّته الأذن من صوت حسن سماع. تقول: باتوا في لهو وسماع».

وجاء في (القاموس المحيط): «والغناء ككِساء، من الصوت: ما طرب به».

وهكذا فُسِّر في (المنجد).

وقال في (أقرب الموارد): «الغناء من الصوت ما طرب به. وقياسه الضم؛ لأنه صوت. وقال في الكليات: الغناء بالضمّ والمدّ التغني، ولا يتحقق ذلك إلا بكون الألحان من الشعر، وانضمام التصفيق لها، فهو من أنواع اللعب».

وجاء في (أقرب الموارد): «طَرَبَ الرجل طرباً: فرح، وحزن ضدّه… وقيل: الطرب خفّة تلحقك تسرّك. وقيل: تحزنك، وتخصيصه بالفرح وهم».

وجاء في (المنجد): «طرب ـ طرباً: خفّ واهتز من فرح وسرور، أو من حزن وغم».

هذا ما يقوله علماء اللغة في تعريف الغناء. وهي رغم اختلافها الظاهري لا يبعد أن تكون بأجمعها ناظرة إلى معنىً واحد، وهو الصوت المشتمل على كيفية خاصة، وكان لهوياً وموجباً للطرب، الذي يشتمل على شدة فرح أو حزن.

وعليه فإنّ الغناء ـ على ما صرّحت به المصادر، وأشار إليه التعريف الوارد في (الصحاح) وعن الأصمعي ـ من أنواع اللعب. وعلى الرغم من عدم استفادة لهوية الغناء من التفسير المنقول عن الشافعي، إلا أنّ سائر التفاسير الأخرى تشير إلى المعنى الذي ذكرناه. وكيف كان فإنّ وضوح هذا المعنى أدى باللغويين إلى شعورهم بعدم الحاجة إلى مزيد من الشرح والتوضيح في بيان هذا المعنى.

تعريف الغناء عند الفقهاء

ذهب العلامة الحلي في كتاب (إرشاد الأذهان) إلى القول في تعريف الغناء بأنه مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب. وقد نقل هذا التعريف صاحب (مفتاح الكرامة) عن كتاب (التحرير)، للعلامة. كما بيّن هذا التعريف صاحب (جامع المقاصد)، نقلاً عن الشهيد الأول في (الدروس). وقد نسب صاحب (مسالك الأفهام) هذا التعريف إلى المحقِّق وبعض الفقهاء. وقال المحقق الأردبيلي في كتاب الشهادات من كتاب (مجمع الفائدة والبرهان): «هذا التعريف هو المشهور»، وفي كتاب المتاجر من هذا الكتاب قال: إنّ هذا التعريف هو الأشهر، وعرَّف الطرب باللذة والاستمتاع. قال في كتاب الشهادات: «لعلّ المراد من (الترجيع) هو ترديد الصوت في الفم والحلق، ومن (المطرب) الذي يحصل منه اللذة والحظ (للنفس إلخ)، كما يحصل من كثير من الملاهي، مثل: الدف، والزمر، وإن حصل منه البكاء».

وعبارته ظاهر نصّ (جامع المقاصد)، إذ يقول بعد التفسير السابق للغناء: «وليس مطلق مدّ الصوت محرّماً، وإن مالت القلوب إليه، ما لم ينتهِ إلى حيث يكون مطرباً؛ بسبب اشتماله على الترجيع المقتضي لذلك».

وقال العلامة في باب الشهادات من كتاب (القواعد): «الغناء هو ترجيع الصوت ومدّه»، ولم يأتِ في هذا التعريف بقيد (أن يكون مطرباً). وقد حاول صاحب (مفتاح الكرامة) الجمع بين تعريفي العلامة، بتصوُّر أن الإطراب هو الترجيع. وقد انخدع بمثل هذا الكلام من صاحب (المصباح المنير)، إذ يقول: «طرّب في صوته أي رجّع فيه ومدّه»، فقال: «فقد تحصّل هنا أنّ المراد بالإطراب والتطريب غير الطرب بمعنى الخفّة لشدّة حزن أو سرور، كما توهمه صاحب (مجمع البحرين) وغيره من أصحابنا… فكأنه قال في (القاموس): الغناء من الصوت ما مدّ وحسّن ورجّع».

ومن الواضح أنّ الإطراب أو التطريب يعني إيجاد الطرب، وقد لوحظ فيه مفهوم الطرب. وعليه فإنّ تفسير التطريب بمدّ الصوت وترجيعه تفسير بمصداقه، وليس بمفهومه. والعبارة الكاملة في المصباح المنير هي: «طَرِبَ طرباً، فهو طَرِبٌ، من باب تَعِبَ. وطروبٌ مبالغة، وهي خفّة تصيبه لشدّة حزن أو سرور، والعامة تخصِّصه بالسرور. وطرّب في صوته بالتضعيف [في الراء] رجعه ومدّه».

والعجيب أنّ العلامة يعترف بأنّ الترجيع يعني التوافق بين حركات الصوت والنفس، ومن هنا يكون الترجيع ملازماً لمعنى الإطراب والتطريب، ومع ذلك ينسب التوهم إلى أمثال صاحب (مجمع البحرين).

ومهما كان فقد صرح الكثير بعدم اعتبار الإطراب في المفهوم العرفي للغناء. قال صاحب (مسالك الأفهام): «الغناء ـ بالمدّ ـ مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، فلا يحرم بدون الوصفين ـ أعني الترجيع مع الإطراب ـ، وإن وجد أحدهما. كذا عرّفه جماعة من الأصحاب. وردّه بعضهم إلى العرف، فما سمّي فيه غناء يحرم، وإنْ لم يطرب، وهو حسنٌ».

وقد أفاد هذا التفسير للغناء صاحب (الحدائق)، نقلاً عن الملا صالح المازندراني. كما ذكر هذا التعريف صاحب (الرياض) في كتاب التجارة أيضاً، حيث يقول: «والغناء، وهو مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، أو ما يُسمى في العرف غناء وإنْ لم يطرب، سواءٌ كان في شعر أو قرآن أو غيرهما على الأصح الأقوى، بل عليه إجماع العلماء، كما حكاه بعض الأجلاء، وهو الحجّة».

وذلك بناءً على إرجاع عبارته القائلة: «على الأصح الأقوى» إلى التعريف الثاني؛ أي التعريف العرفي للغناء، لا إلى التعميم الذي ورد في عبارة: «سواء كان…». وأيّاً كان فإنّ هذا بدوره نقل إجمالي آخر لتفسير معنى الغناء.

يظهر مما تقدم أنّ هناك بين الفقهاء اختلاف في لحاظ قيد الإطراب، بل وهناك اختلاف في لحاظ قيد الترجيع في مفهوم الغناء. وإنّ هذا الاختلاف هو من نوع الاختلاف المعنوي، وليس اللفظي البحت. من هنا يحتمل أن يكون تفسير العلاّمة في كتاب (القواعد) مفيداً لعدوله عن تفسيره الأول لمعنى الغناء، أو أنه تفسير ثالث.

جاء في (مفتاح الكرامة)، نقلاً عن (السرائر) و(إيضاح النافع): «الغناء: الصوت المطرب». وهذه العبارة خالية من قيد الترجيع، وعليه يحتمل أن تكون تعريفاً رابعاً لمفهوم الغناء.

ولا يبعد أن نقول: إنّ المراد من الغناء هو الصوت اللهوي، الذي يتناسب ومجالس اللهو واللعب والرقص. وهذا التعريف يتناسب مع قسم خاصّ من الصوت الجميل في مثل هذه المجالس المصحوبة بسائر أدوات اللهو، من قبيل: الرقص والأوتار والمزامير وما إلى ذلك من الأمور. فلا يبعد أن يكون التعريف الذي ذكره علماء اللغة للغناء، وأرادته الروايات الواردة في هذا الباب، هو هذا القسم من الغناء؛ وذلك لأن علماء اللغة، من أمثال: الأصمعي والجوهري، عدّوا الصوت المتناسب ومجالس اللهو واللعب من جملة مصاديق الغناء. كما قالوا: «باتوا في لهو وسماع».

وقد صرّح صاحب (الكليات) قائلاً: «لا يتحقق الغناء إلا إذا كان بألحان من الشعر، وأن يكون مصحوباً بالتصدية. من هنا كان الغناء من أنواع اللعب».

وعليه ليس هناك من شك في أنّ قول الفيروزآبادي في (القاموس المحيط): «الغناء من الصوت ما طرب به» ناظر إلى الطرب المتداول في مجالس اللهو واللعب. وبعبارة أخرى: إن في كلامه إشارة إلى كيفية خاصة من الصوت تتناسب مع سائر أدوات وآلات اللهو. وهكذا الأمر بالنسبة إلى تعريف (المصباح المنير): «الغناء مدّ الصوت» فإنّ فيه إشارة إلى هذا المعنى؛ وذلك لوضوح أنّ مدّ الصوت بكيفية لا تناسب مجالس اللهو لا تدخل ضمن مصاديق الغناء، لا عنده، ولا عند سائر علماء اللغة. كما أنّ صوت الحمار، رغم المدّ الطويل وترجيعه، من أنكر الأصوات وأقبحها. وعليه فإنّ مرادهم من الغناء هو الصوت اللهوي المتداول، بحيث يوجد لدى السامع خفة ووجداً واضطراباً من شدّة السرور والفرح.

مفهوم الغناء في الروايات

لقد جعلت أكثر الروايات الموضوع عنوان الغناء ومفهوم هذه الكلمة، ولكن هناك في بعضها إشارة بل دلالة على أنّ الغناء من مصاديق اللهو، وعليه يكون المراد من الغناء هو ذلك الصنف الخاص المتداول في مجالس اللهو واللعب عند أهل اللهو. ومن باب المثال: جاء في معتبرة الوشاء المتقدّمة: «سئل الإمام الرضا× عن شراء الجارية المغنية؟ فقال: قد تكون للرجل جارية تلهيه، وما ثمنها إلا ثمن كلب، وثمن الكلب سحت، والسحت في النار»([29]).

وفي قول الإمام: «قد تكون للرجل جارية تلهيه» دلالة واضحة على اعتبار الغناء من أقسام اللهو، حيث توفر الجارية بغنائها جوّاً من اللهو لمالكها، ولذلك يكون ثمنها كثمن الكلب.

وكذلك جاء في رواية الأعمش، عن الإمام الباقر×، في حديث (شرائع الدين): «والكبائر محرّمة، وهي: الشرك بالله…، والمحاربة لأولياء الله، والملاهي التي تصدّ عن ذكر الله عز وجل مكروهة، كالغناء وضرب الأوتار، والإصرار على صغائر الذنوب»([30]).

وبناءً على ذلك فإنّ هذه الرواية تشير إلى قسم خاص من الصوت والغناء المتناسب مع مجالس اللهو واللعب. بل لا يبعد أن نقول: إنّ الرواية تدلّ على أنّ الغناء من الكبائر؛ لأنها عدّت الغناء ضمن الذنوب الكبيرة، ثمّ عطف عليه الإصرار على الصغيرة، ولا نجد وجهاً لهذا العطف إلا إذا قلنا: إنّ المراد أنّ الإصرار على ارتكاب الذنوب الصغيرة هو واحد من مصاديق الذنوب الكبيرة.

وعليه فإنّ المراد من الكراهة للغناء في هذه الرواية ليس هو المصطلح الفقهي، بل المراد منها هو المعنى اللغوي الشامل للحرام أيضاً.

وكذلك جاء في صحيحة أبي بصير، عن الإمام الصادق×: «أجر المغنية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي تدخل عليها الرجال»([31]).

وهذه الرواية صريحة في حرمة أجر المغنية التي تغني في المجالس المختلطة؛ إذ هو من أبرز مصاديق ذلك القسم الخاص من الغناء المناسب لمجالس اللهو واللعب. وفي هذه الصحيحة إشارة إلى أنّ الغناء من مصاديق هذا النوع الخاص من الأصوات المناسبة لمجالس اللهو واللعب. ويتضح من هذه الرواية أنّ رواية أبي بصير الأخرى ناظرة إلى هذا المعنى أيضاً، حيث يقول فيها: «سألت أبا عبد الله× عن كسب المغنيات؟ فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، وهو قول الله عز وجل: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»([32]).

إشكال: دلت روايتا أبي بصير على عدم حرمة مطلق الغناء، بل الحرام منه هو خصوص الغناء في المجالس المختلطة. وعليه فإننا لو اعتبرناهما معارضتين للروايات المطلقة كان ذلك خيراً من جعلهما شاهدين على أن المراد من الغناء خصوص الصوت المناسب لمجالس اللهو واللعب.

والجواب: لا شكّ في دلالة هاتين الروايتين على حرمة الغناء في المجالس المختلطة، كما لا شكّ في جواز غناء المغنية للنساء في الأعراس، إلا أنّ دلالتها على نفي الحرمة عن سائر أقسام الغناء مرفوضة. وهذا المدعى واضح في الرواية الثانية لأبي بصير، فقد ذكرت هذه الرواية قسمين من الغناء فقط، ولا تدلّ على أنّ للغناء معنيين، كما لا دلالة فيها على جواز الغناء في غير هذا القسم. وأما صحيحة أبي بصير الأولى فيحتمل أن تكون جملة «وليست» معطوفة على جملة «تزف العرائس»، وصلة ثانية للاسم الموصول «التي». وفي هذه الصورة إنما يباح أجر المغنية في الأعراس إذا لم يدخل عليها الرجال في تلك المجالس. وعليه لن يكون فيها مفهوم، لتدلّ على جواز الغناء في غير هذا القسم.

نعم، لو كانت هناك صيغة أخرى لهذه الرواية من دون (واو العطف) ـ كما هو الحال في الرواية المذكورة في (مرآة العقول) ـ يمكن فهم التعليل والدلالة على الجواز من هذه الرواية الآنفة. ولكن هذا غير ثابت؛ لأنّ وجود (الواو) يبقى مجرّد احتمال.

ومن هنا فإنّ هذه الصحيحة لا تدلّ على الدعوى المذكورة. ويبقى إطلاق الروايات المتقدّمة قائماً في الدلالة على حرمة مطلق الغناء.

إذاً على فرض حرمة مطلق الغناء فإنّ صحيحة ورواية أبي بصير تشير إلى هذا المطلب، وهو أنّ قسماً خاصاً من الغناء اللهوي ـ كما تقدّم أن بيَّنّا ـ يشكِّل مفهوم الغناء.

ومن الروايات التي تستند إليها الدعوى روايات الطائفة الثانية، التي فسّرت آية (لهو الحديث) بالغناء، واعتبار مطلق الغناء من جملة مصاديق لهو الحديث، فإنها تشير بقوّة، بل فيها دلالة، على أنّ الغناء ـ أي الصوت المشتمل على كيفية جميلة ـ من مصاديق اللهو. وبالتالي سوف يختص مفهوم الغناء بأحد مصاديقه، أي الصوت المناسب لمجالس اللهو واللعب، والله العالم.

الهوامش

______________________

(*) أحد أبرز الفقهاء في إيران، له دراسات اجتهادية كثيرة في مجال مستحدثات الفقه والقانون.

([1]) الصدوق المقنع: 455.

([2]) المفيد، المقنعة: 588.

([3]) أبو الصلاح الحلبي، الكافي: 281.

([4]) المهذّب 1: 344.

([5]) الحدائق الناضرة 18: 102.

([6]) وسائل الشيعة، باب 99 من أبواب ما يكتسب به، ح26.

([7]) المصدر السابق، الباب 99، ح8.

([8]) المصدر السابق، الباب 102، ح1.

([9]) المصدر السابق، الباب 99، ح9.

([10]) المصدر السابق، ح20.

([11]) المصدر السابق، ح24.

([12]) المصدر السابق، ح11.

([13]) المصدر السابق، ح6.

([14]) المصدر السابق، ح7.

([15]) المصدر السابق، ح16.

([16]) المصدر السابق، ح20.

([17]) المصدر السابق، الباب 15، ح1.

([18]) المصدر السابق، الباب 16، ح3.

([19]) المصدر السابق، ح6.

([20]) المصدر السابق، ح5.

([21]) المصدر السابق، ح4.

([22]) المصدر السابق، ح17.

([23]) المصدر السابق، الباب 15، ح4.

([24]) المصدر السابق، الباب 16، ح7.

([25]) المصدر السابق، الباب 99، ح21.

([26]) المصدر السابق، ح13.

([27]) المصدر السابق، ح14.

([28]) قال الحاكم في المستدرك 1: 570: روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن أبي هريرة، عن النبي الأكرم| أنه قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن»؛ وفي السنن للبيهقي (10: 229)، في باب (تحسين الصوت بالقرآن والذكر)، هذه الرواية، نقلاً عن صحيح البخاري؛ وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن».

([29]) وسائل الشيعة، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، ح6.

([30]) وسائل الشيعة، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، ح36؛ الخصال: 610، الباب التاسع، ح9.

([31]) وسائل الشيعة، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، ح3.

([32]) المصدر السابق، ح1.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً