أحدث المقالات

حسين إبراهيم شمس الدين*

مدخل

يمكن رصدُ الأفكار العلميّة في الاختصاصات المعرفيّة انطلاقًا من مدخليْن:

– الأوّل من خلال الاختصاصات العلميّة أكاديميًّا.

– والآخر من خلال كيفيّة نشوئها وحركتها وتأثّرها في الواقع.

الفرق بين المدخليْن أنّ الأوّل يختزل تطوّرَ العلوم وفق مسارٍ يَحْصر الأفكارَ ضمن المناقشات العلميّة المتعلّقة بالاختصاص: كتطوّر الفيزياء من فيزياء الميكانيكا النيوتونيّة، مرورًا بنسبيّة آينشتاين، وصولًا إلى فيزياء الكمّ، وما بين هذه القفزات النظريّة من آراء. أمّا الثاني فيقرأ مسارَ الأفكار بعد تحريرها من الاختصاص، وذلك من خلال معرفة السياقات التاريخيّة والسياسيّة والفلسفيّة وغيرها من السياقات المؤثِّرة في تكوين النظريّات والآراء. لذا، فإنّ مسارات نشوء العلوم، وفق المدخل الثاني، لم تكن يومًا منفصلةً بعضها عن بعض؛ فنظريّاتُ نيوتن الفيزيائيّة مثلًا تشكّلتْ وفق سياقٍ تداخلتْ فيه الأفكارُ المعرفيّةُ كلُّها، بحيث نجد أنّ للتاريخ والسياسة واللغة وغيرها من قضايا المعرفة سهمًا في تشكّل الفيزياء الميكانيكيّة النيوتونيّة.

بتعبيرٍ آخر: العلوم لم تولَدْ تخصّصاتٍ، بل وُلدتْ نسيجًا واحدًا متداخلًا؛ وأمّا التخصّص فجاء تبعًا لمؤثِّراتٍ أخرى ليس هنا محلّ ذكرها.[1]

وإذا أردنا أن نعطي مثلًا لكلّ من المساريْن، فإنّ الفيزياء وفق النقاش الأكاديميّ – أي المسار الأوّل – قد تطوّرتْ بعد فشل النظريّة السابقة في تفسير بعض الظواهر؛ ما دفع فيزيائيّين لاحقين إلى إجراء اختباراتٍ ومعادلاتٍ رياضيّةٍ حتى تتمكّن الفيزياءُ من تفسير الظواهر الطارئة. أمّا مسار “السياقات المختلفة” فيرى أنّ تطوّرَ النظريّات الفيزيائيّة كان ممزوجًا بحركةٍ فكريّةٍ عارمةٍ على مختلف الصعد لتحريك عجلة التفكير، بحيث يشترك البعدُ الدينيّ والسياسيّ والفلكيّ والرياضيّ وغيرُها في طرح السؤال الجذريّ أوّلًا، وفي صياغة الأجوبة والنظريّات ثانيًا؛ ذلك أنّه لا يمكن (وفق هذا المسار الثاني)، من أجل فهم نشوء فيزياء نيوتن، عزلُ تاريخ الكنيسة وكيفيّةِ تفسيرها لحركة الأفلاك والكواكب وحركة الإصلاح الدينيّ. وبعبارةٍ أخرى، وخلافًا للمسار الأول، فإنّ المسارَ الثاني يرى أنّ الفضاءَ المعرفيّ العامّ يجول فيه العلماءُ والفلاسفة والمفكّرون من جميع الاختصاصات، وليس سياقُ كلّ علم معزولًا عن سياق العلوم الأخرى، بل إنّ سياقات العلوم ونتائجَها يؤثِّر بعضُها في سياق بعضها الآخر؛ فالوصول إلى نتيجة فيزيائيّة سيؤثّر في النظريّات السوسيولوجيّة والتاريخيّة.

إنّ العلوم، بحسب المسار الثاني، تسير وفق كتلةٍ واحدةٍ في التاريخ: إذا جرّت نظريّةٌ ما، في علمٍ ما، نفسَها إلى مكانٍ آخر من الفضاء الفكريّ، فإنّ باقي النظريّات ستنجرّ معها وتفكّر ضمن الفضاء الجديد. هذه الكتلة هي ما أسماه توماس كون “البرادايم” (paradigm)، وهي الفضاءُ المعرفيّ الذي يجعل بعضَ الرؤى والنظريّات المتشكّلة في علمٍ ما – نتيجةً لسياقٍ تاريخيٍّ معقّد – حاكمةً على بقيّة العلوم والنظريّات، بحيث تجعل مجالَها واحدًا.

في ما يأتي سنَعْرض بعضَ المؤثِّرات التي تسهم في تشكيل الفضاء المعرفيّ في النظريّات الفلسفيّة والإنسانيّة خصوصًا، وهي: اللغة، والعقائد الدينيّة، والنظريّات العلميّة التطبيقيّة.

اللغة أهمُّ صانعٍ للفضاء المعرفيّ

لا يمكن إغفالُ أنّ اللغة تمثّل المجالَ الحيويَّ الذي تجري فيه المناقشاتُ والمناظراتُ العلميّة، مشكّلةً عنصرًا أساسًا في تشكّل البرادايم المعرفيّ عند مختلف المفكّرين في العلوم الإنسانيّة خصوصًا.

ذلك لأنّ “العقل شيءٌ يَكشف عن نفسه باللغة دائمًا، كما أنّنا نعيش ونولد باستمرار في بطن اللغة. واللغة تستمرّ في وجودها بدون وجود الإنسان، والإنسان لا يمكنه أن يستمرَّ في حياته بدون اللغة (…). إنّ الفرد لا يخلق اللغة، بل اللغة هي التي تخلق الفرد.”[2]

بناءً على هذا الأمر، فإنّ الفضاءَ اللغويَّ الذي يعيش فيه المفكِّرون يمثّل ركنًا رئيسًا في الفضاء النظريّ الذي ينتجونه. فوجودُ مقوِّماتٍ نحويّةٍ وبلاغيةٍ في لغةٍ معيّنة يساهم في نشوء نظريّات إنسانيّة وفلسفيّة، بخلافِ ما لو فُقدتْ هذه المقوّمات. ولذا وجدنا أنّ بعضَ الفلاسفة (كالكندي) حاولوا نحتَ مصطلحاتٍ وألفاظٍ عربيّةٍ لم تكن موجودةً بعد ترجمة الفلسفة اليونانيّة عمومًا والمنطق الأرسطيّ خصوصًا، فواجهوا حملةً عنيفةً من قِبل النحويّين واللغويّين، فقال بعضُهم إنّ “استناد المنطق الأرسططاليسيّ إلى خصائص اللغة اليونانيّة مخالف للغة العربيّة، فأدّى تطبيقُ منطق الأولى على الثانية إلى كثيرٍ من التناقض.”[3]

ونجد في آواخر القرن الماضي بدء حركة دائبة في سبيل معالجة قضايا فلسفة اللغة وتم تدشين هذا المشروع بشكل أساسي على يد الوضعية المنطقية وحلقة فيينا وكلّ من فتجنشتاين ودي سوسير اللذين يعتبران من أهم من ربط بين تشكّل “المعنى” واللغة، وبعبارة دي سوسير ” فلولا اللغة أصبحت الفكرة شيئًا مبهمًا غير واضح المعالم، إذًا لا توجد أفكار يسبق اللغة وجودها، ولا تتميز هذه الأفكار قبل ظهور اللغة”[4].

انطلاقًا من هذا الأمر، فإنّ دراسةَ السياقات الفكريّة للنظريّات المختلفة تُحتِّم على الباحث الابستمولوجيّ أن يدرس المكوِّنات التي تتميّز بها لغةُ العلم، ومدى قدرتها على التعبير عن الأفكار وكيفيّةِ تأثيرِها في صناعة الفكر.

العقائد الدينيّة بوصفها مجالًا لصناعة الأفكار

العنصر الثاني الذي يمثّل أساسًا في تشكيل الفضاء المعرفيّ لصناعة الأفكار هو الموقفُ من العقائد والأساطير والسرديّات الدينيّة. يرى بعضُ المفكّرين أنّ عمقَ نظريّات فرويد في علم النفس التحليليّ، مثلًا، ترجع إلى مسألة الإيمان بالإله، التي تبدو لدى فرويد “مشبعةً، بعمقٍ، بالتراث اليهوديّ- المسيحيّ، (…) والتي يعبِّر عنها بمقولة عقدة أوديب الشهيرة.”[5]

كذلك الأمرُ بالنسبة إلى نظريّات ماكس فيبر عن علاقة البنى الدينيّة بالبنى السياسيّة، وكيفيّة تأثير الأخلاقيّات الدينيّة في صناعة الرؤى الاقتصاديّة والسياسية. فهنا يبدو واضحًا أنّ الإصلاحَ الدينيّ، الذي قاده لوثر، كان مؤثِّرًا جدًّا في صناعة الرؤى الرأسماليّة الليبراليّة وتبرير حريّة السوق والمراباة. وبعبارةٍ أخرى، فـ”إنّ الدراسة الكلاسيكيّة التي خصّصها ماكس فيبر في [كتابه] الأخلاق البروتستانتيّة وروح الرأسماليّة يَعْرض من خلالها فكرةَ أنّ الطهريّة الكالفينيّة هي التي وَلّدتْ عقليّةَ الربح والفائدة…”[6] التي تُعدّ من أساسيّات الرأسماليّة الحديثة.

وبناءً على هذا الأمر، فإنّ دراسةَ النظريّات الإنسانيّة المختلفة لا بدّ من أن تنطلقَ كذلك من ارتكازها على رؤًى دينيّةٍ، تأييدًا أو نقدًا أو رفضًا.

ولا بد عندئذ من الالتفات إلى أن تبدّل العقائد والبنى الدينية يؤثر كذلك في مسار التشكل المعرفي العام، فلقد نتج عن تفكك سلطة الكنيسة في القرن السادس عشر تحرر الفرد من النظام الديني الوحيد والسلطوي، رافق هذا الأمر اعتبار العقل معيار الموازنة والحكم على الأنشطة الإنسانية، وعندئذ تغيرت ملامح قراءة المقدس وفهمه وتغيرت كذلك الرؤى السياسية بالتبع.

النظريّات العلميّة التطبيقيّة وتأثيرها في الفكر الفلسفيّ والإنسانيّ

لا يمكن إغفالُ أنّ العلوم التطبيقيّة عمومًا، والفيزياءَ خصوصًا، كان لها أثرٌ كبيرٌ في صناعة التصوّرات العلميّة للعالم. وهذا ما ألقى بظلاله على الأفكار في العلوم الإنسانيّة، وفي الفلسفة كذلك.

فعلمُ الاجتماع، الذي رأى النورَ كاختصاصٍ معرفيّ، بدأ على أساس كونه “فيزياء اجتماعيّةً،” ثمّ تتالت النظريّاتُ الاجتماعيّة التي تحاول محاكاةَ النظريّات الفيزيائيّة. فمع ميكانيكيّة نيوتن، التي تحاول تفسيرَ حركة الأجسام وفق قوانينَ ثابتةٍ وصارمةٍ، وأنّ لكلّ جسم وضعًا خاصًّا ووظيفةً خاصّةً، نشأت “الوظيفيّةُ” في العلوم الاجتماعيّة. واتّسعتْ عمليّةُ التأثير مع اتّساع رقعة النظريّات، وصولًا إلى النسبيّة الفيزيائيّة التي تعاصرتْ نوعًا ما مع شيءٍ من النسبيّة الاجتماعيّة في تفسير الظواهر والثقافات المختلفة.

ومن أهم الأمثلة المطروحة في الآونة الأخيرة، تأثير فيزياء الكم على نظريات الذهن والمعرفة، فإن التجربة المعروفة ” Double-slit experiment” ربطت بين الواقع والوعي، بحيث لا يمكن فصل أحدها عن الآخر، هذا الأمر أثر على كثير من النظريات ومناهج البحث في العلوم الإنساني، ولعل “الظاهراتية” في العلوم الاجتماعية يلتقي مع هذه النتيجة الفيزيائية حيث ذهب بعض منظري الانتروبولوجيا والسوسيولوجيا إلى وجوب دراسة الظواهر الاجتماعية من منظار الوعي للمختبر لها لا من “خارج” وعي الأشخاص الذين يعيشون التجربة، وكأن حقيقة الظاهرة ترجع إلى تمثلها في الوعي أكثر.

خاتمة

ما نخلص إليه يوضح أنّ المسارَ الفكريّ الذي يشكّل الذهنيّاتِ والبنى المعرفيّةَ للعلماء، وللمفكّرين في خطاباتهم، وتؤثّر من ثمّ في بنى الفهم والمعرفة لدى الناس والشعوب، لا يُمْكن اعتبارُه “محايدًا” تجاه المنظومة المعرفيّة السائدة في كلّ زمانٍ ومكان.

إنّ الباحثَ الناقدَ الذي يسعى إلى النهوض بالمجتمع عامّةً، وبالجماعةِ الفكريّةِ خاصّةً، لا بدّ له من السعي الجاهد نحو ربط المكوِّنات المختلفة للعلوم من أجل تفسير الواقع ونقدِ الرؤى التي تفسّر ما هو موجود.

 ____________________________

* أستاذ المنطق والإلهيات في الحوزة الدينية في لبنان باحث في الانتروبولوجيا. مجاز في علم الاجتماع وحائز شهادة الماستر في الانتروبولوجيا من الجامعة اللبنانيّة.

[1] ومنها: إفرازاتُ الثورة الصناعيّة، التي أدّت إلى تحوّلات بنيويّة في الاقتصاد؛ وكان لتقسيم العمل دور أساس أيضًا في تقسيم التخصّصات. كما يمكن إرجاعُ الأسباب الكامنة وراء التخصّصات إلى علاقة المعرفيّ بالسياسيّ.

[2] غلام حسين الديناني، حركة الفكر الفلسفيّ في العالم الإسلاميّ (بيروت: دار الهادي، ط2، 2008، ج 1)، ص 341.

[3] علي سامي النشار، مناهج البحث عند المسلمين ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسيّ (القاهرة: دار الفكر العربيّ، 1947)، ص 62.

[4] فرديناند دي سوسير، علم اللغة العام، ترجمة يوئيل يوسف عزيز(بغداد: دار آفاق عربية ، 1984) ص 131.

[5] ميشال مسلان، علم الأديان مساهمة في التأسيس، ترجمة: عز الدين عناية (بيروت: المركز الثقافي العربيّ، 2009)، ص 142.

[6] المصدر السابق، ص 107.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً