أحدث المقالات

للفلسفة والدراسات العقلية عموماً دور بيّن في تكوين عقل الإنسان وطريقة تفكيره، ولا نستطيع إلاّ أن نسمّي ذلك: عقلاً فلسفياً، له خصائصه وسماته وآلياته في التعاطي مع العلوم والفنون.

1 ـ انطلاقاً من ذلك نجد الدرس الفلسفيّ ـ بالمعنى العام للفلسفة، أيّ فلسفة كانت ـ ضرورةً استثنائية للمعاهد الدينية والحوزات العلمية؛ لأنّ هذا الدرس يساعد على تنشيط الفكر، وينضج من تصوّرات العقل الديني عن العالم والإنسان والحياة، وقد لاحظنا ـ بالتجربة الدينية ـ كيف ظهرت بعض النتائج السلبية في الفترات التي غاب فيها هذا الدرس عن الحواضر العلمية الدينية، ليحلّ مكانه أحد درسين هما: الدرس الصوفي، والدرس النصّي.

ونقصد بالدرس الصوفي النزعات الصوفية غير المرشّدة بوعي منطقي، فعندما حظرت الفلسفة في العصر الصفوي مثلاً أو في بعض فتراته على الأقلّ، ونفي صدر المتألهين الشيرازي (1050هـ) إلى خارج المدينة العلمية، ليعيش فترةً في قريةٍ نائية، كانت التيارات الصوفية وحركة الدروشة تضرب في العمق المجتمعَ الإيراني، بل وتهز العاصمة الصفوية نفسها (إصفهان)، لتخيف الفقهاء وغيرهم.

ونقصد بالدرس النصّي شيوع ظاهرة الدوران حول الموروث في عملية استهلاك له، دون ضخّه بحياة جديدة، فتكثر الشروح والحواشي والتعليقات والمختصرات، وتتصارع المدارس على تفسير هذه الكلمة لهذا العالِم أو ذاك، وليس في تصارعها هذا ضيراً، بل الضير في استهلاك طاقاتها في هذا التصارع حتى النفس الأخير، فيدخل العقل والفكر مدارات مغلقة ويدور في حلقة مقفلة.

2 ـ من هنا، تتجاذب العقل الديني ـ عادةً ـ تيارات عدّة أبرزها: التيار العقلاني الفلسفي، والتيار التراثي النصّي، ولا نعني بالعقلاني سلب العقل عن النصيّة الدينية، والعياذ بالله، بل سلب محوريته عنها، وفرق كبير بين الأمرين.

ولابدّ لنا من رصد أبرز المعالم الفاصلة ـ منهجياً ومعرفياً فقط ـ بين هذين التيارين، كي تتحدّد أمام الإنسان المعالم ليختار سبيله، على ضوء ما ترشده إليه الأدلّة والحجج بينه وبين الله تعالى.

3 ـ يسعى العقل الفلسفي لفهم العالم والمعرفة و.. فهماً مباشراً، بمعنى الانطلاق من المعطيات التي يكوّنها بنفسه للوصول إلى هذا الفهم، ولهذا نجده معتزاً بجهوده واثقاً من نفسه وقناعاته فاهماً ما توصّل إليه، أما العقل النصي فلا يسعى لفهم العالم على هذه الطريقة بل عبر وسيط، وهو النص نفسه، فهو يجهد لفهم رأي الآخر عبر تحليل نصوص، أكان هذا الآخر هو الله تعالى أو النبي 2 أو غيرهما، فالثقة بصاحب النص (على أساس مفهوم العصمة مثلاً)، ولنسمّه (الناصّ) هي التي تمنحه الثقة بتصوّراته عن الكون والحياة.

4 ـ وانطلاقاً من العنصر السابق البالغ الأهمية تنفتح أمام العقل النصي مساحة جديدة من المجهول؛ لأنك عندما تبني تصوّراتك عن العالم على أساس الثقة هذه، فهذا يعني أنك مستعدّ لتبنّي تصّورات عن العالم لم تفهمها بمعطياتك الذهنية وإنما حصلت عليها بمعطيات غيرك، وانطلاقاً من قناعتك بهذا الغير ـ وهي قناعة لم تنشأ من فراغ بل نشأت من براهين أقمتها تبرّر الوثوق به ـ صدّقت هذا التصوّر أو ذاك، دون أن تنتجه بنفسك.

من هنا، يغدو العلم بمضمون النص ومحتواه، بمعنى عدم الوصول المباشر إليه، أساساً في بعض الأحيان لدى العقل النصيّ، أما العقل الفلسفي فهو على النقيض من ذلك، إذ بسعيه لتكوين قناعاته من نفسه لا يسمح بالمجال لعدم العلم لصياغة تصوّره عن العالم، بل هذا التصوّر ينشأ عنده من المعلومات التي عرفها عن العالم، ولا تساهم المعلومات المجهولة لديه في بناء التصوّر، بل تساهم في نقصانه، فالعقل النصّي لا ينزعج من هذا bاللاعلمv، بل يكمل بناء منظومته المعرفية اعتماداً عل الناصّ، فيما لا يمكن للعقل الفلسفي، إكمال البناء دون توصّل مباشر للمعرفة.

إذن، فالعقل النصي يشيد تصوّراته عن العالم في ظلّ مبدأين: أحدهما الثقة بالناصّ وثانيهما: الجانب غير المفهوم ولا المعقلن من العالم، ولا تضادّ بين هذين المبدأين، أما العقل الفلسفي فيشيد تصوّراته على مبدأ واحد هو المعلوم الذي توصّل إليه لا غير، ومن هنا لم يكن للتعبّد والتعبديات مجال عنده، على خلاف العقل النصي الذي يستسيغ وبدرجة عالية مقولة التعبد بقول الغير حتى مع الجهل دون أن يرى في ذلك أية منقصة.

5 ـ واستتباعاً لما سبق، يغدو اندفاع العقل النصي قائماً على الثقة واللامعقول عنده، على خلاف العقل الفلسفي الذي يندفع على أساس المعقول والذات، ولهذا يتراءى من بعيد أن الفكر النصّي فكر غير عقلاني، ونحن لا نحكم في هذا الموضوع هنا، لكننا نحلّل هذه الصورة، إذ سببها ما أشرنا إليه.

6 ـ ونعلم جميعاً أن هذا النص الذي تدور حوله حركة العقل النصي كانت في الزمان والمكان، وهذه الزمكانية فيه بالنسبة لنا اليوم ماضوية، بمعنى أن نصّ القرآن مثلاً أو نصّ التوراة نصّ جاء في الماضي، ولحظة صدوره تعود إلى زمن بعيد.

إن الدوران حول النص الديني الصادر في الماضي سيفضي تلقائياً إلى انشداد غير عادي لما مضى، وحيث يمثل النص الديني الأصلي قمّة التطوّر المعرفي في العقل النصي، فهذا يعني ـ غالباً ـ أنه كلّما تحرّكنا نحو الحاضر كلّما ابتعدنا عن المصدر الأصلي، وهذا ما يفسح المجال لبناء صورة انحدارية عن الصيرورة التاريخية للإنسانية، فالأقرب لعصر النص أقرب إلى المثال والنموذج، فيما الأبعد على خلافه، أو لا أقلّ على شكٍ من أمره، حتى أنك لا تكاد تستطيع القول: إن هذا المتدين المعاصر خيرٌ من ذلك الصحابي (العادي)، وكأن في هذا القول خطأ.

أما العقل الفلسفي، فيرى ـ عادةً ـ أن الحال في تطوّر، لأن بناءاته قائمة على المعرفة، ومرور الزمان يساعد في التراكم المعرفي، مما يمنح العقل تحسّناً في أموره.

لكن على أيّة حال، تغدو المثالية الماضوية في العقل النصي سبباً أحياناً لرغبة جامحة في الاستنساخ الحرفي، لهذا نجد نحواً من التماهي مع الماضي حتى في شكلانيات الأمور، ونمط الحياة، وأسلوب العيش، إيماناً صادقاً بأن في ذلك مقاربة للأنموذج الأعلى، ومن هنا بالضبط تخرج بعض ظواهر السلفية والحرفية أحياناً، فنجد ركوداً في الحياة، وجموداً في صورتها، وخوفاً من التغيير، وقلقاً من حصول تبدّلات.

وعلى العكس من ذلك العقل الفلسفي الذي نجده أحياناً مندفعاً بشره للتغيير، والتحوّل، والصيرورة ونحو ذلك، حتى كأنه ينكر ـ أحياناً ـ القديم لقِدَمه ويأخذ بالجديد لجدته، وكأن قِدَم فكرةٍ يُبطل مفعولها، أو كأن المفاهيم تبلى جميعها بمرور الأيام.

7 ـ وأرغب في التركيز هنا على نقطة حسّاسة، وهي أن الأمل في استحضار الماضي والعيش في كنفه على الدوام في العقل النصي، يجعل هذا العقل ـ أحياناً ـ يعيش الماضي ويتفاعل معه، ويحياه بروحه وعقله وقلبه ولسانه ولحمه ودمه، فقضايا الماضي هي الروح والمصدر، وما يحصل أحياناً أن يؤدي هذا الاستغراق في العيش إلى حصول تمثل للماضي؛ فيحيا الإنسان وكأنه في عمق الأحداث الماضية، مما يثير فيه الغضب تارةً، والبكاء أخرى، والمحبة ثالثة، و.. وهذا ما يساعد على انفعال العقل النصي المتواصل إزاء أحداث الماضي وكأنها تحصل اليوم، فيرغب في الانتقام ممن أساء في الماضي، ويحب إكرام من أحسن فيه.

وتتطوّر هذه الحالة في بعض الأحايين لتحدث تصادماً في العصر، وطائفية وخصاماً، فيما طرفا الخصام اليوم ليس بينهما شيء مثلاً، إنما الشيء كان بين أطراف الماضي وتياراته.

أما العقل الفلسفي، فقد يفرط أحياناً فيوقع القطيعة مع الماضي، وينسحب منه، ويتركه، فتنبتر أوصال الاستمرارية الحضارية،وتحصل بعض ظواهر الارتماء في أحضان الآخر الحضاري.

8 ـ من هذا كلّه نجد الاختلاف الكبير بين نمطي التفكير هذين، لكن السؤال: ألا يمكن إزالة سلبيات التيارين للحصول على صورة جديدة؟ هل يمكن الجمع بين العقلين؟ كيف؟ هل فرز المساحات وإيلاء كل مساحة لطرف هو الحل؟ فنقول: تصوّرات العالم للعقل الفلسفي فيما التكاليف والحياة والحقوق للعقل النصي، كما راجت هذه النزعة كثيراً؟ هل يصحّ وضع أولويات وتقدّم وتأخر في علاقة العقلين مع بعضهما؟ وكيف يمكن التوصّل إلى حلّ هنا؟

ولا نقصد بالحلّ مشروع مصالحة توفيقية على الطريقة السياسية، يتنازل فيها كل طرف للوصول إلى حلّ دون أن يقوم الحلّ على معطيات معرفية ومنطقية جادة تضمن بمنطقيّتها ديمومتها وسلامتها في الاستمرار والمستقبل، ولهذا لا نهدف في مشاريع المصالحة هنا حلولاً مؤقتة، أو عابرة، بل حلول جذرية تعطي العقل والنص دورهما دون أحكام مسبقة مسقطة سلفاً، تعيق الإنتاج المعرفيّ الجديد.

لكن مع هذا، ورغم كلّ الدعوات العلمية لمعالجة هذا الموضوع المشكل والمساهمات الفكرية في هذا المضمار، إلاّ أنه يمكن تناول الإفراط والتفريط في الطرفين معاً؛ لممارسة نقد مركّز لهما، أي الإفراط والتفريط، بغية الحدّ من ظواهرهما التي لا تشرعنها الاتجاهات نفسها، فأن يغرق طلاب العلوم الدينية في الموروث، وينظروا بعين الاحتقار لكلّ منتجٍ جديد، ويتطلّعوا بسخرية لما يرفد الغربُ أو الإنسان المعاصر المعرفة الدينية من معطيات، وكأن المعاهد الدينية والحوزات العلمية هي الممثل الوحيد وإلى الأبد للمعرفة الدينية، لا يُحاد عن منتجاتها قيد أنملة مهما تغيّرت المعرفة أو تطوّرت مناهج التفكير.. هذا كلّه إفراط في النصية ومرجعية التراث المتبقي، يمكن نقده حتى على أساس الموروث نفسه، أي نقداً داخلياً صامتاً.

وهكذا الحال مع الاتجاهات الفكرية المعاصرة، فقد تكون أحياناً أشدّ قسوةً في سخريتها وتقزيمها للطرف الآخر، وكأن التراث أضحوكة أو مهزلة يمكن تجاوزه ببساطةٍ لأمّة أنتج تراثها حضارةً عريقة، وكأن نقاط الضعف في الموروث أو وجود بعض الثغرات فيه حجة كافية لتجاوزه بقسوة، انطلاقاً من مرجعية العقل، إن هذه الطريقة من التفكير يمكن نقدها حتى وفق الأسس الداخلية للتيار العقلي، ويمكن إبراز نقاط ضعفها من زاوية معرفية مغايرة لزوايا النص والموروث.

من هنا، ندعو ـ ويفترض ـ كلّ طرف من الطرفين، لا لتجاوز أوّلياته وأوالياته ونمط تفكيره، بل لممارسة نقد الظواهر المتطرفة الناتجة عن طريقة التفكير التي يتبعها، فلكل منهج عثرات أو فلنقل: نتائج خاطئة تظهر عبر الزمن، عند أنصاره وموظِّفيه، لكن بإمكان هذا المنهج، وبممارسة نقد داخلي هادئ، إعادة بناء نفسه وتطهيرها من أخطاء تطبيقه هنا أو هناك، وبذلك نصل إلى الحدّ الأدنى من التقارب أو الحلّ بين نزعتي: العقل والنص.

لعلّ في هذه الدعوة الكلمة السواء، التي تهيء لإعادة تواشج التيارين، عبر منطلقات معترف بها لديهما معاً، إن شاء الله تعالى.

 

>قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ…<.

 

 




(*) نشر هذا المقال في العدد الخامس من مجلة نصوص معاصرة، شتاء عام 2006م.


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً