أحدث المقالات

النظرية العرفانية في النزول القرآني اللفظي

أ. محمد حسن قدردان قراملكي (*)

ترجمة: السيد علي محمود هاشم

تمهيد ـــــــ

إن مسألة كيفية نزول القرآن هي من المباحث التفسيرية والكلامية التي اهتم بها علماء المسلمين منذ القِدَم، واليوم؛ وبسبب تطبيق بعض المباحث العلمية المعاصرة، نظير التجربة الدينية([1])عليها، أنكر بعض المفكرين النزول السماوي للقرآن، وذهب إلى القول: إنه نتيجة تجربة نبوية خاصة.

وفي بحثنا سيتم التعرض للنظريات القديمة والمعاصرة في الموضوع، وسيكون البحث حول:

1ـ النزول اللفظي للقرآن (القرآن هو كلام الله).

2ـ النزول المعنوي للقرآن (القرآن هو كلام النبي).

3ـ إنكار النزول (القرآن وليد التجربة النبوية).

4ـ نزول حقيقة القرآن المجردة (التفسير العرفاني).

ولا بأس بالإشارة إلى أن النظرية الأولى ــ وهي النظرية المعروفة بين المتكلمين والمفسرين ـ بقدر ما تنسجم مع ظواهر الآيات فإنها تبتعد عن أصول ومباني الفلسفة والعرفان، والنظرية الرابعة هي خلاصة لما قام به العرفاء ومدرسة الحكمة المتعالية التي جمعت بين الآيات والمباني العقلية والفلسفية.

إن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي لا زال البشر يستمدون منه الفيض والهداية، وقد نزل على النبي الأكرم في مدّة استوعبت كامل فترة نبوته، وعبر تجارب وحيانية([2]) مختلفة، وبما أن نزول القرآن ومخاطَبَه اختصّ([3]) بشخص النبي فإن معرفة حقيقته أمر صعب جداً، بل ربما يكون مستحيلاً، إلا أنه يمكن لنا الكشف عن بعض وجوهه بمعونة الآيات والروايات وبعض الأصول الفلسفية والعرفانية.

النظرية الأولى: النزول اللفظي للقرآن الكريم (القرآن كلام الله) ـــــــ

المشهور أن عين الآيات والألفاظ القرآنية قد تلقاها جبرائيل من الله تعالى، وقد قام بنقلها وإلقائها الى النبي‘؛ إما بصعود وتلبس النبي بصورة ملك؛ نتيجة لتكامله وارتقائه الروحي؛ وإما بأن يتمثل الملك بصورة البشر، ومن ثمّ يأخذ النبي الوحي منه.

يقول الزركشي: والتنزيل له طريقان: أحدهما: أنّ رسول الله‘ انخلع من صورة البشرية الى صورة الملائكة، وأخذه من جبرائيل؛ والثاني: أن الملك انخلع الى البشرية حتّى يأخذ الرسول منه([4]).

ويقول العلامة الطباطبائي:…فإن ألفاظ القرآن نازلة من عنده تعالى، كما أن معانيها نازلة من عنده، على ما هو ظاهر قوله تعالى([5]).

وكذا قال غيرهما([6]).

الأدلّة والبراهين ـــــــ

1ـ نسبة الوحي إلى الله ــــــ

إن الله تعالى ينسب وبصراحة ـ وفي كثير من الموارد ـ آيات القرآن إلى نفسه، بأنه هو الذي أوحاها، وأن القرآن ليس إلا هذا الذي أوحاه، قال تعالى:

{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الشورى: 3).

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} (الشورى: 52).

{أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ} (يوسف: 3).

{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (الأنعام: 19).

{قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} (الأعراف: 203؛ الكهف: 110؛ فصلت: 6؛ آل عمران: 44؛ النجم: 10؛ الشورى: 7).

2ـ نسبة إنزال القرآن إليه تعالى ـــــــ

إن الآيات الدالة على وحيانيّة القرآن، وأنه وحي من الله، هي بنفسها تشير إلى أن نزول القرآن هو من قبله تعالى، واحتمال أن يكون المراد من الوحي الإلهي ذاك الإلهام القلبي والوحي النفساني ضعيفٌ، تدفعه الآيات التي استعملت مصطلح «النزول، التنزيل، الإنزال» بدل كلمة «الوحي»، مما يدل على أن الإيصال إنما كان من خارج نفس النبي‘، ولا يختص هذا بوحي القرآن، وإنما يشمل التوراة والإنجيل أيضاً، قال تعالى:

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} (آل عمران: 3).

{وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (النساء: 103).

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89).

{تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ} (الحاقة: 44).

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).

{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23؛ الزخرف: 3؛ العنكبوت: 47).

والآية الأخيرة هي الآية المعروفة بآية التحدي، التي تطلب من الناس أن يشحذوا هممهم لمحاولة الإتيان ولو بمثل سورة واحدة من القرآن، ونفس هذا التحدي وعدم معارضة البشر له دليل على أن القرآن من الله.

3ـ نسبة تلاوة القرآن إليه سبحانه ــــــ

إن استعمال مفردة التلاوة للدلالة على القراءة وإبلاغ المخاطب هو استعمال شائع ومتداول، وقد استعمل اللهُ تعالى هذه المفردةَ في أكثر من موضع للدلالة على أنّ الوحي معنىً ولفظاً هو منه تعالى، فلا يتوهم الوحي النفسي، قال تعالى:

{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ} (آل عمران: 58).

{تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ} (البقرة: 252).

هذه الآيات، وبالإضافة إلى دلالتها على سماوية القرآن، تدل على أن نزوله نزول لفظي، وأن التلاوة إنما هي من الله والملائكة.

 وهناك آيات تدل على أن التلاوة هي من النبي‘:

{قُل لَّوْ شَاء اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ} (يونس: 16).

{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (الأنعام: 151).

{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} (الكهف: 83).

{وَأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} (النمل: 92).

والدلالة هنا أوضح؛ إذ إن النبي كان أمّياً، فلا يمكنه أن يكتب أية نسخة ليقرأ منها، مما يعني أن النبي كان يقرأ من النسخة التي جاءه بها الوحي.

4 ـ وصف القرآن بأنه قول الله ــــــ

هناك آيات تصف القرآن بأنه قول وكلام الله، وهي نفسها تنسب ألفاظ الوحي إلى الله:

{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (الحاقة: 40).

{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} (الطارق: 13).

5 ـ نسبة قراءة القرآن إلى الله ــــــ

وهناك آيات أُخَر تدل على أن قراءة القرآن هي منه تعالى إلى النبي الأكرم‘:

{سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى} (الأعلى: 6).

{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: 18).

والآية الأولى تخبر أن الله سيُقرئ القرآن للنبي، وتنهاه عن نسيانه، والثانية تأمر النبي‘ بمتابعة القراءة له، مما يثبت النزول اللفظي للقرآن.

قراءةٌ في الأدلة الخمسة المتقدمة ـــــــ

سيتبين لنا عند التعرض للنظرية العرفانية القائلة بنزول حقيقة القرآن المجردة أن المراد من الوحي، التلاوة، القول، القراءة، ليس هو المعنى الظاهر منها، إذ إنها منحصرة في الأمور المادية، بل المقصود هو الإعطاء وإنزال الوجود المجرد للقرآن إلى النبي، نزل أولاً إلى الصادر الأول، أي الحقيقة المحمدية، ومنه إلى المراتب الوجودية الدنيا إلى أن يصل إلى العنصر المادي للنفس النبوية. ومن هنا يمكن لنا إسناد النزول حقيقة إلى الله، ولا يتنافى هذا مع قول العرفاء بدخالة الحقيقة المحمدية في نزول القرآن.

6ـ نسبة القرآن إلى الملك ــــــ

هناك بعض الآيات في القرآن تنسب «نزول القرآن» إلى الملك:

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ} (الشعراء: 193).

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالحَقِّ} (النحل: 102).

{قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} (البقرة: 97).

ويتضح منها وجود «واسطة» في الوحي تارة باسم الروح الأمين، وروح القدس، وأخرى باسم جبرائيل([7])، وبعضها ملكٌ شديدُ القوى: {إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى} (النجم: 4 ـ 5)([8])، والآيات التي تلتها تخبر عن رؤية الملك: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى} (النجم: 6 ـ 14).

ويرى المفسرون أن هذا الملك هو جبرائيل، وقد رآه النبي على صورته الحقيقية. وفي مقام التحليل لهذه النقطة يجب القول: إن نزول «حقيقة القرآن» المجردة بواسطة الملك على العنصر المادي للنبي الأكرم‘ أمر منسجم تمام الانسجام مع المباني الفلسفية والعرفانية؛ إذ قد برهن فيهما أن أول وجود ممكن صدر من الذات الإلهية هو «الحقيقة المحمدية»، والموجودات الأخرى إنما اكتسبت الوجود منها وبواسطتها، فالملائكة بأجمعهم ما هم إلا معاليل وتجليات لهذه الحقيقة، والقول: إن جبرائيل يتلقي «الحقيقة المجرَّدة» للقرآن من «الحقيقة المحمدية» وينقلها إلى الجسد المادي للنبي محمد‘ لا يتنافى مع القول بإمكان اتصال النفس النبوية مباشرة بعالم الغيب، وأخذ القرآن مباشرة منها، وسيأتي مزيد بيان لذلك.

7ـ التذكير بتاريخ الأمم السابقة ــــــ

يعتبر القرآن أن الإحاطة بتاريخ وجزئيات الأنبياء والأمم السابقة وحي يوحيه الله إلى نبيه، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ} (يوسف: 3).

وتشير الآية بوضوح إلى أن علم النبي بتاريخ الأنبياء والأمم السابقة هو من الله بواسطة الوحي، وترد زعم من قال: إن النبي يعلم ذلك بواسطة الأمور العادية، كمطالعة التاريخ، والسماع من المؤرخين وعلماء الأديان، وما شابه ذلك…..

فضلاً عن أن هناك من الأنبياء من لم يقصصهم الله على النبي : {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء: 164).

 8 ـ ظاهرة الحدّة في الخطاب ــــــ

 قد يستدل باللهجة الحادة في بعض الآيات القرآنية على عدم دخالة النبي في القرآن، وأنه وحي من الله تعالى، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ} (الحاقة: 44 ـ 46)؛ و{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُإِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ}([9]) (الإسراء: 73 ـ 75).

فنسبة القرآن إلى النبي‘ لا ينسجم وهذا الخطاب، بل هو دليل على وجود مُوحٍ يرفع أي ضعف أو تساهل في أداء الوحي، وإذا رجعنا الى القرآن نجد أن الآيات المتصدرة بـ{قُلْ} تقارب 300 آية، وبـ{يَا أيُّهَا النَّبِي} 23 آية، وبـ{يَا أيُّهَا الرَّسُول} 3 آيات، فإذا كان القرآن كلام النبي فلا معنى لاستعمال أدوات النداء هذه.

9ـ ظاهرة انقطاع الوحي وانحباسه ــــــ

انقطع الوحي عن النبي‘ في بدايات البعثة لفترة دامت ثلاث سنوات، عرفت بدورة الفترة، وفي كثيرٍ من الأحيان كان الوحي ينزل متأخراً رغم إصرار المشركين على أن تنزل ولو آية واحدة، قال تعالى:

{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} (الأعراف: 203).

وسورة الضحى قد نزلت بعد انقطاعٍ للوحي أثار قلق النبي‘، فخاطبه الله تعالى فيها {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وطمأنه بـ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}، وتشير بعض الروايات إلى فترة تتراوح بين اثني عشر إلى أربعين يوماً، فكيف يمكن والحال هذه توجيه القول بأن الوحي أمرٌ اختياري للنبي، وقد أخبر جبرائيل النبي قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (مريم: 64)، وتفيد الآية أن نزول الوحي انما هو بأمره تعالى فقط([10]).

10ـ تصريح النبي‘بإلهية القرآن ــــــ

{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (يونس: 15).

{قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (الأعراف: 118).

{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً… وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الأحقاف: 8 ــ9)

وقد يقال: إن هذا الذي ذكر مرتبط بالعالم المادي للنبي الأكرم‘، ولا ينافي أن القرآن قد نزل بواسطة الحقيقة المحمدية.

وفي مقام الجواب نقول: أولاً: إن المشكل الأساسي الذي تواجهه هذه النظرية هو قاعدة الواحد، فلا ينسجم القول بنسبة القرآن إلى الله مع عدم الأخذ بعين الاعتبار الدور الواسطي للصادر الأول «النبي»، اللهم إلا أن نكون كأكثر المتكلمين، فننكر هذه القاعدة من رأس.

وثانياً: لو سلمنا جدلاً أن القرآن قد نزل بالألفاظ والأصوات المتعارفة فلماذا اختص السماع به ‘ دون غيره من الصحابة؟ أليس هذا بنفسه دليلاً على أن الوحي لم يكن بهذه الألفاظ المتعارفة([11]).

وثالثاً: هناك الكثير من الأسئلة التي تطرح حول كيفية نزول القرآن، ومنها: أين تم خلق اللفظ القرآني؟ وهل أنه أُنزل على جبرائيل مباشرة، أو أنه أُلهمه إلهاماً، أو أنه استفاضه من اللوح المحفوظ؟ وكيف تحوَّلت حقيقة القرآن المجرَّدة إلى أمر مادي واعتباري؟

ورابعاً: إنّ القول بأصل العلية في عالم الإمكان، والتأثير والتأثر، لا يتنافى مع الفقر الذاتي للكون؛ وذلك عبر التفسير الطولي لها، فنسبة نزول قراءة وتلاوة القرآن إليه تعالى لا تنفي عللاً أخرى، فكما ننسب حركة الغيوم إلى الله ننسبها كذلك إلى العلل الطبيعية، كالريح والهواء، ولا منافاة في المقام. وبعبارة أخرى: إن نزول القرآن له حيثيتان: الحيثية الأولى: نشأته الحقيقية الغيبية من ذات الحق، وهذه هي حيثية النسبة إليه؛ والحيثية الثانية: انتقال تلك الحقيقة العقلية والغيبية والمثالية من الحقيقة المحمدية إلى نفس النبي‘، وتحول ذاك الوجود العقلي والغيبي والمثالي إلى وجود مادي لفظي بواسطته‘، لذلك أمكن لنا أن نسمي القرآن كلامَ النبي بلا إشكال في المقام.

وخامساً: إن لغة القرآن لغة عربية خاصة، يكثر فيها الكناية والمجاز، ولما لم يكن لمخاطبيه وقتها أن يدركوا حقائقه الغيبية والمجردة؛ باعتبار أنهم كانوا أهل جاهلية، ولم يمكن له أيضاً أن يشير إلى النكات والأسرار العرفانية المتضمنة فيه، طرحت مسألةُ نزول القرآن حسب المفهوم العرفي المتداول، وهو النزول اللفظي.

وأما كيفية تحول الأمر العقلي المجرَّد إلى أمر لفظي مادي فقد حاول بعض العلماء المعاصرين حلّه بالقول: إن حقيقة القرآن المجردة قد تنزَّلت أولاً إلى النبي محمد‘ عبر القنوات الإدراكية له (القوى الإدراكية)، التي منها يتجلى الكلام الإلهي،ويظهر بقالب ألفاظ، قال: «إن نفس النبي محمد‘ هي الرابط بين عالم التكوين وعالم الاعتبار، فالروح الطاهرة للنبي؛ وبالتخلص من التعلقات الاعتبارية، تتعالى إلى أن تصبح قواها الإدراكية (السمع والبصر والنطق و….) سمع وبصر ونطق الله، عندها تتنزل تلك الحقائق التكوينية العقلية، وتتجلى المسائل الاعتبارية النقلية، وتتحول المعاني إلى قوالب لفظية»([12]).

ويشكل قبول هذا القول؛ إذ لم يتضح لنا هل أن جبرائيل عندما قام بنقل الوحي إلى النبي نقله بشكل عقلي إلى مجاريه الإدراكية ‘ ــ كما يظهر ذلك منه ــ أو أنه نقله بشكل لفظي؟ فإن كان الأول فهذا مخالف للآيات والروايات؛ وإن كان الثاني فلم تتضح بعد كيفية تبدل القرآن المجرد إلى ألفاظ.

والشيخ أحد القائلين بقاعدة الواحد، فكيف يمكن معها نسبة النزول اللفظي إلى الله مباشرة، فلو فُرض واسطة في المقام فلا محيص عن انتهائها إلى الصادر الأول (الحقيقة المحمدية)، مما يعني تأييد نظرية أن القرآن كلام نبوي.

فضلاً عن أنه لم يتضح مدى دخالة (النفس النبوية) في المقام، فهل هي شريكة في ذلك التنزل أو لا؟

إن ظاهرَ صعود النفس النبوية إلى عالم العقل والألوهية، واتصاف فعل وحركات النبي بالقول والفعل الإلهي، مطابقَةُ تلك الأفعال والأقوال مع المقام الإلهي ورضاه تعالى، وبهذا التطابق والسنخية يصدق عنوان المظهرية، لكن هذا لا يعني سلب فعل الإنسان عن نفسه، والقول: إنه عين فعله وقوله تعالى.

ويظهر من بعض عبائر صدر المتألهين أن كلام العارف بعد أن يصحو ويعود إلى حاله العادي هو كلام رب العالمين([13])، والحديث القدسي: «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً» يؤيِّد ذلك أيضاً.

النظرية الثانية: النزول المعنائي للقرآن (الكلام النبوي) ـــــــ

النظرية الثانية في المقام هي النظرية القائلة بالنزول المعنوي للقرآن، أي إن الله تعالى نقل المعنى إلى الملك جبرائيل الذي نقله عيناً إلى النبي، ومن ثمّ قام النبي بصياغته وقولبته بهذه الجمل والألفاظ.

وفي مقام تقرير هذه النظرية هذه ينقل السمرقندي أن جبرائيل نزل على النبي بالمعاني خاصة، وأنه‘ علم تلك المعاني، وعبّر عنها بلغة العرب([14])، مستدلاً بآية {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193 ـ 194).

ونُقل أنّ القرآن عرض، والعرض لا ينسب إليه تعالى، وإنما إلى المعروض عليه، فليس هو بالكلام الإلهي، وإنما هو كلام النبي([15]).

ويرى محيي الدين أن النبي مترجم لا ناقل للقرآن، ففي آية {عَلَّمَهُ البَيَانَ} يقول: «فينزل عليه القرآن ليترجم منه بما علمه الحق من البيان، الذي لم يقبله إلا هذا الإنسان، وظهر في قلبه على صورة لم يظهر بما في لسانه؛ فإن الله جعل لكل موطن حكماً لا يكون لغيره، وظهر في القلب أحديّ العين فجسّده الخيال، وقسّمه فأخذه اللّسان، فصيَّره ذا حرف وصوت وقيّد به سمع الآذان، وأبان أنه مترجم عن الله…، فالكلام لله بلا شك، والترجمة للمتكلم به كان ما كان([16]).

و يرى أيضاً أن النبي عالم بباطن القرآن قبل نزوله، رافضاً أن يكون قد تلقى الوحي سماعاً من جبرائيل.

نظرية الكلام النبوي، تحليل وتقييم ـــــــ

وفي مقام التحليل نقول:

 أولاً: ما المقصود من النزول المعنوي للقرآن؟ فإن كان هو الوجود الغيبي العقلي أو المثالي لحقيقة القرآن فهذا يرجع إلى نظرية العرفاء؛ وإذا كان المقصود أن اللفظ هو نوعُ اعتبار فيشكل حينئذٍ تقرير أصل انتقال الأمر الاعتباري إلى النفس النبوية بواسطة الملك، اللهم إلاّ أن يراد به الإلهام، كأن نقول: إن الله قد ألهم النبي حقيقة ومعنى التوحيد، ومن ثم قام النبي بصياغتها بقالب «لا إله إلا الله».

غير أن هذه النظرية لم تحظَ بعناية العلماء الكبار، «فلا يُعبأ بقول من قال: إن الذي نزل به الروح الأمين إنما هو معاني القرآن الكريم، ثم كان النبي يعبر عنها بما يطابقها ويحكيها من الألفاظ بلسان عربي…»([17]).

النظرية الثالثة: إنكار النزول (القرآن نتيجة تجربة دينية) ـــــــ

تفسر «التجربة الدينية» الوحي بما لا يعدو كونه نوع حالة نفسية وكشف شهودي([18])، يحصِّل من خلاله المكاشف بعضاً من تجليات الله تعالى، فيعتبرها أموراً قدسيةً، ومتناً دينياً، يبلغها ويخبر عنها، مما يعني أن ليس هناك أية مفردة من قبل الله، وأنّ ما هو وحيٌ وقرآن ليسا إلا تفسير النبي لتجربته الدينية.

ولوازم هذا تأثر التجربة بظروفها ومحيطها، فـ«القرآن ــ كما هو معروف ــ تدريجي النزول، وتدريجي الحصول، مما سمح بإيجاد تكونٍ تاريخيٍّ انعكس عليه، بحيث إنه لو قدّر للنبي أن يعيش أكثر لأمكن للقرآن أن يكون أكثر مما هو عليه اليوم…، فالنبي لم يخبر من كتاب، وإنما تجارب عايشها النبي في حياته تمتد بامتدادها»([19]).

وما كان يقوله النبي من أنه يسمع صوتاً، أو يرى صورة ملك، ما هو إلا خيال وتخيل وسماع أصواتٍ ليس إلا([20]).

إن التجربة تنسحب على شخصية النبي، فيصبح ذا شخصية متبدِّلة، تختلف حاله قبل وبعد التجربة، فيخبر عن الواقعيات كما يراها، والإشكال على هذا يتوجه إلى أصل الوحي، ومنه إلى كل المعارف المبتنية عليه.

النظرية الرابعة: نزول الحقيقة المجردة للقرآن (النظرية العرفانية)([21])ـــــ

1ـ تنزل وجود القرآن البسيط من الحضرة العلمية إلى الحقيقة المحمدية ـــــ

يعتقد العرفاء أن مبدأ الوجودات هي الذات الأحدية للباري تعالى، المعبر عنه بمقام الأحدية، ثمّ مقام الواحدية الإلهي، وهو مقام تجلي الصفات والأسماء الإلهية، أي مقام الخلق والإيجاد.

وعالم المادة غير خارج عن هذه مما يعني أنه كان له وجود في تلك العوالم المجرَّدة.

وكذلك كان القرآن؛ اذ تكشفت حقيقته العلمية المخزونة في الذات الأحدية للحقيقة المحمدية؛ نتيجة مواجهة الروح القدسية للنبي مع الحضرة العلمية، فكان النبيُّ أول مخاطَب بالقرآن؛ لأن الكلام عبارة عن انتقال المعنى والمقصود من المُخاطِب الى المخاطَب، وهو ما يعبَّر عنه بالكلام الذاتي للحق مع الحقيقة المحمدية([22]). ويعبر عن هذه المرحلة بـ«النبوة التعريفية».

فلا يتلخص الوحي فقط بما هو المعروف من الوحي، وأنه باللفظ من قبله تعالى، بل إن أول نزول للقرآن على النبي يرجع إلى تلك المواجهة التي تمت بين الحقيقة المحمدية والحضرة العلمية، وبعض الآيات القرآنية تلفت لوجود القرآن السابق بتعابير مختلفة، أمثال: «اللوح المحفوظ»، و«الكتاب المكنون»، و«أم الكتاب»، و«لدينا»، وأمثال ذلك، قال تعالى:

{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: 4).

{الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (هود: 1؛ الواقعة: 80).

{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21 ــ 22).

{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} (الواقعة: 77 ــ 78).

كما أن بعض الروايات تشير الى تنزلات القرآن المختلفة،من قبيل «إن القرآن نزل على سبعة أحرف»([23]).

2ـ الحقيقة المحمدية واسطة الفيض ــــــ

لقد ثبت في الحكمة المتعالية والعرفان أن أول مخلوق وصادر عن الحق تعالى هوالحقيقة المحمدية، وبناء على قاعدة الواحد هي الواسطة في الفيض، وعبرها اكتست الموجودات ثوب الوجود، فكل هذا الوجود ــ بما فيه المادي والمجرد ــ استمد وجوده من الحقيقة المحمدية.

3ــ مقولة تنزل الوجودات ــــــ

تقدم معنا أن أول وجود إمكاني تم إيجاده هو الحقيقة المحمدية، ومنها تنزلت الوجودات عبر عالم العقول الدنيا إلى أن انتهت إلى العقل الفعال ــ آخر العقول المجرَّدة ـــ،ومن ثمّ عالم المادة.

ويذهب الإشراقيون إلى أن هناك عالماً يفصل بين عالم المادة والعالم المجرَّد، واسمه عالم المثال أو عالم البرزخ، فكلّ هذه الموجودات لها وجود برزخي قبل هذا العالم «وجود مجرد بشكل مادي».

ولأجل أن يتلبس القرآن الكريم بلباس المادة يجب عليه أن يتحمل عدة تنزلات، من عالم الأحدية إلى عالم الواحدية، ومنه إلى عالم العقول، ثم عالم المثال، إلى أن ينتهي إلى عالم المادة، ويعتبر الإمام الخميني ــ بالإشارة إلى حديث «إن القرآن نزل على سبعة أحرف»([24]) ــ أن التنزلات هي: 1ــ الحضرة العلمية. 2ــ حضرة الأعيان. 3ــ حضرة الأقلام. 4ـ حضرة الألواح. 5ــ حضرة المثال. 6ــ حضرة الحس المشترك. 7ــ الشهادات المطلقة([25]).

4 ـ جبرائيل وجود من الحقيقة المحمدية ــــــ

يتضح من المطالب السابقة أن الملائكة المقربين، ومنهم جبرائيل، تكتسب الفيض عبر الحقيقة المحمدية، فجبرائيل؛ بمقامه التجرّدي الذي له يمكن أن يعرف المعارف العقلية، التي من جملتها معارف القرآن المخزون في الحقيقة المحمدية، وينقلها عبر العوالم العقلية، فهو في كل آنٍ خاضع لتصرف وتسخير الحقيقة المحمدية، وهذا هو معنى معلوليته لها.

5 ـ ارتباط العنصر المادي للنبي‘ مع جبرائيل والحقيقة المحمدية ــــــ

لقد برهن في الفلسفة والعرفان أن كل إنسان له عين وجوديّة في الأعيان الثابتة، وعلى إثره يكون عنصره المادي في هذا العالم، والنبي الأكرم‘ أيضاً كذلك بمقام نبوته، بل بمقام خاتميته، وقد اختصه الله لتصبح عنده قابلية النبوة والرسالة، وعندها يمكن له أن يرتبط بالعقل الفعال «العقل العاشر»، وقد يحصر دور جبرائيل في أنه واسطة لا أكثر([26])، وكلما تعالت النفس المحمدية كلما زاد ارتباطها بجبرائيل، إلى أن تمكّنَ من الارتباط المباشر مع الحقيقة المحمدية بلا واسطة.

6ـ كيفية تلقي الوحي من جبرائيل (الكلام الخيالي أو العقلي المجرد) ـــــــ

إلى هنا تمت الإشارة إلى أصل ارتباط النفس النبوية مع المقامين المجردين، أي العقل الفعال «جبرائيل»؛ والحقيقة المحمدية، ولا كلام هنا في أن القرآن الذي أُفيضَ عليها من الحقيقة المحمدية هو قرآن عقلي ومجرد، وانما المناقشة هي في ما أخذه النبي من جبرائيل، فهل هو مادي أيضاً، أي ألفاظاً وكلاماً، أو أن النفس النبوية قامت بتنزيله إلى عالم المادة بعد أن تلقته قرآناً بسيطاً عقلياً؟

إن استقراء كلام العرفاء يمكّننا من طرح الطريقين التاليين:

الأول: الصورة الخيالية، بمعنى أن جبرائيل ونداءه هما جزء من القوة التخيلة للنبي، والمقصود من الصورة الخيالية هي تلك الصورة الواقعية التي خلقت بواسطة القوة العاقلة ومخيلة النفس النبوية([27]).

الثاني: الصورة العقلية، بمعنى أن جبرائيل ووحيه أمران مجرَّدان عقليان، وردا على قلب النبي بصورة مجردة عقلية، ومشاهدة صورة جبرائيل وسماع صوته من النبي إنما هي بالقلب والشهود العقلاني فقط، لا أن النبي يسمع الصوت المادي للوحي أولاً ثم يقوم بإبلاغه عيناً إلى الناس.

و السماع والمشاهدة المادية ممكنة في التفسير الأول، إلا أنه معلولٌ للنفس النبوية؛ بخلاف التفسير الثاني؛ فإن الوحي وسماعه أمران عقليان ينزِّلهما النبي إلى عالم المادة، وفي كلا التفسيرين يكون القابل والفاعل هو الوجود المادي للنفس القدسية للنبي‘.

مواقف العرفاء وكلماتهم ــــــ

وهنا نذكر نموذجاً من كلام بعض العرفاء:

1ـ محيي الدين بن عربي ــــــ

قال:… وإياك أن تظن أن تلقي النبي‘ كلام الله بواسطة جبرائيل وسماعه منه كاستماعك من النبي‘، أو تقول أن النبي‘ كان مقلِّداً لجبرائيل([28]).

ومع أنه يقبل الأطوار والتنزلات المختلفة للقرآن الكريم يصرِّح أن القرآن الذي نزل على قلب النبي هو غيره الذي ظهر على لسانه، فإن قوة الخيال للنبي هي التي أعطت للقرآن صورة حرفية وصوتية، «ظهر في قلبه على صورة لم يظهر بها في لسانه، فإن الله جعل لكل موطنٍ حكماً لا يكون لغيره، وظهر في القلب أحدِيّ العين، فجسَّده الخيال، وقسّمه، فأخذه اللسان فصيّره ذا حرف وصوت»([29]).

وبما أن النبي كان على علم سابق بالقرآن: «إن هو إلا ذكرٌ لما شاهده حين جذبناه، وغيّبناه عنه، وأحضرنا به عندنا، ثم أنزلنا عليه مذكّراً يذكّره بما شاهد، فهو ذكرٌ له لذلك وقرآنٌ، أي جمع أشياء كان شاهدها عندنا، مبينٌ ظاهرٌ له؛ لعلمه بأصل ما شاهده وعاينه في ذلك التقريب»([30]).

2ـ عبد الكريم الجيلي (805هـ) ــــــ

وهو أيضاً ممن يرى أن القرآن الكريم هو مظهر الصفات الإلهية النازلة على الحقيقة المحمدية، يقول: «اعلم أن القرآن عبارة عن الذات التي يضمحل فيها جميع الصفات المجلى المسماة بالأحدية، أنزلها الحق تعالى على نبيه محمد‘، ليكون مشهده الأحدية من الأكوان([31]).

3ـ صدر المتألهين الشيرازي (1050 هـ) ــــــ

لقد أظهر الفيلسوف صدر المتألهين عناية خاصة بالعرفاء، أمثال: محيي الدين بن عربي، ومبانيهم، وهو من القائلين بالأطوار العقلية المختلفة للقرآن، ويرى أن الوحي ونزول القرآن نتيجة تحول واتصال النفس النّبوية بالجوهر القدسي (العقل الفعّال)، والقوة العاقلة والخيالية للنبي تجسّم وتمثل له صوت الملك وصورته بأمر محسوس مادي، وصاحب الصورة هو الملك، وصوته هو كلام الله، يقول: «يتعدى تأثيرها إلى قواها…، سيّما السّمع والبصر؛ لكونها أشرف الحواس الظاهرة، فيرى ببصره شخصاً محسوساً في غاية الحسن والصباحة، ويسمع كلاماً منظوماً في غاية الجودة والفصاحة، فالشخص هو الملك النازل بإذن الله، الحاملُ للوحي الإلهي، والكلام هو الله تعالى»([32]).

ويؤكد أن سماع الوحي أولاً كان أمراً عقلياً استمع له النبي‘ من الروح الأعظم، يقول: «يسمع كلاماً بعدما كان وحياً معقولاً، ويسمع بسمعه العقلي كلام رب العالمين من الروح الأعظم»([33]).

ثم يؤول الآيات التي تشير إلى النزول اللفظي للقرآن بالقول بأن للقرآن أطواراً عقليةً، ومثاليةً، ولفظيةً، وكتبية، تختلف حسب اختلاف العوالم([34]).

4 ـ الإمام روح الله الخميني (1410هـ) ــــــ

يرى الإمام أن الوجود الأول للقرآن هو ذاك الوجود البسيط في الذات الإلهية ومقام الأحدية([35])، وبعدها في مقام الواحدية والحضرة العلمية([36])، وأول من تعلم من هذه الحقيقة البسيطة الحقيقة المحمدية؛ لأنها هي الصادر الأول، وكلامية القرآن هنا تعني التكلم الذاتي.

يقول: «حقيقة القرآن الإلهي قبل التنزل إلى المنازل الخلقية والتطور بأطوار الفعلية هي من الشؤون الذاتية والحقائق العلمية للحضرة الواحدية…، وهذه الحقيقة لا تحصل لأحد أصلاً مهما كان إلا بالمكاشفة التامة الإلهية للذات المباركة للنبي الخاتم([37]).

وفي مقام آخر يرى أن أدنى تنزّلات القرآن هو قبوله التعينات والبناء اللفظي في عالم المادة، «فإن للقرآن منازل ومراحل، وظواهر وبواطن، أدناها ما يكون في قشور الألفاظ وقبول التعينات»([38]).

ويبين أن مراتب القرآن سبعة؛ إذ «إن القرآن نزل على سبعة أحرف»، وقد تقدمت الإشارة إليها([39])، وعليه فالحقيقة القرآنية لها وجود إلهي في المقامين الإلهيين ــ الأحدية والواحدية ــ أولاً، وبعدها تتنزل إلى الوجود المنبسط والحقيقة المحمدية، ثم يتنزّل الوجود المجرد والجمعي للقرآن بواسطة الحقيقة المحمدية بعدة تنزلات، إلى أن يصبح في قالب ألفاظ، ويصرح الإمام أن الحقيقة المحمدية كانت على علمٍ بجميع هذه التنزلات من مقام التجردية المحمدية إلى القلب الشريف للحضرة النبوية في عالم الدنيا.

إن مُنزِلَ القرآن في ليلة القدر هو النبي الأكرم، والنازل هي التجليات المتعددة للحقيقة المحمدية([40]).

كيفية نزول القرآن من وجهة نظر الإمام الخميني.ـــــــ

لقد تقدم معنا أن الكلام كل الكلام هو في كيفية نزول القرآن بواسطة جبرائيل إلى النفس الدنيوية للنبي‘، فهل أن جبرائيل أنزل ألفاظ القرآن بعينها من قبل الله تعالى على قلب النبي أو أنه قد أنزل الحقيقة المجردة، وقام النبي بتنزيلها إلى مرتبة القوالب اللفظية؟

إن الاستقراء في آثار الإمام لا يوصلنا إلى نتيجة واضحة وشفافة([41])، إلا أن بعض العبائر ـ التي إذا ضممناها إلى المباني العرفانية للإمام ـ تشير إلى الرأي الثاني.

إن حقيقة إنزال القرآن الكريم لا يعرفها إلا النبي الأكرم‘؛ وذلك لأن القضية ليست إدراكاً عقلياً، ولا برهاناً فلسفياً، وإنما مشاهدة وكشف اختُصّ به‘، مشاهدة غيبية، ليست بالعين ولا بالعقل، بل بالقلب الذي هو قلب العالم، إنّه قلبه‘([42]).

وبعد أن يذكر الإمام أن الوحي هو مشاهدة وتنزل للوجود المجرد للقرآن، يلفت إلى أن النبي لا يمكنه إعلام الناس بهذا النزول الغيبي إلا بواسطة القوالب اللفظية، «كيف يمكنك أن تُفهم الشمس ما هو النور؟»([43]).

ويؤكد في موضع آخر أن الوحي قد نزل على قلب النبي، يقول: القرآن سرٌّ مقنّع، يجب أن ينزل ويتدنى إلى قلب النبي، وبعدها إلى مرتبة يمكن للآخرين أن يفهموا معها([44]).

فلو قلنا: إن جبرائيل قد أنزل عين ألفاظ القرآن على قلب النبي فلا معنى للقول بالتنزل الثاني من النبي «حتى يفهمه النّاس»، ونفس أنّ الرسول‘ لا يمكنه أن يبيّن مشاهداته إلا بالألفاظ هو دليلٌ على أن النبي لم يكن يسمع عين ألفاظ القرآن؛ إذ تلاوة الآيات النازلة على الناس لا يحتاج إلى معونة. ويضاف إليه أن تشبيه الإمام الأمر النازل بالنور لهو قرينة أخرى على ذلك([45]).

5 ـ السيد جلال الدين الأشتياني ــــــ

يذهب المحقق الأشتياني، والذي يعتبر أحد أبرز شارحي الفلسفة والعرفان من المعاصرين، إلى «أن حقيقة القرآن والفرقان النازلة على قلب صاحب الشريعة المحمدية، المسماة بالكلام ــ قبل نزولها ــ، هي الكلام الذاتي للحق وعين ذاته المقدسة؛ وذلك لعلم الحق بالنظام الأتم وبجميع الكلمات والحروف والآيات الوجودية»([46]).

وفي مقام الإشارة إلى مصدر القرآن وواسطة النزول يرى أن القرآن المشتمل على العلوم والمقامات الخاصة بخاتم الرسل نزل من المقام الباطن له إلى باطن خاتم الأولياء، الذي كانت حقيقته ــ أي حقيقة خاتم الأولياء ــ واسطةً في نزول القرآن إلى الملك؛ لإبلاغه إلى الوجود المادي لخاتم الرسل([47]).

 مديات الاختلاف بين التفسير العرفاني والتجربة الدينية ـــــــ

ولا ينبغي الخلط في المقام بين التفسير العرفاني لنزول القرآن والتجربة الدينية؛ وذلك لأن التجربة الدينية لا تعتقد بالوجود القبلي العقلي، ولا بالوجود المثالي للقرآن، بل تنسب ألفاظه إلى النبي محمد، بينما التفسير العرفاني يعتقد بالوجود القبلي للقرآن، وأن حقيقته العقلية هي شأن وطور من أطوار الحقيقة المحمدية، وقد نقلها جبرائيل إلى النفس الدنيوية للنبي الأكرم، الذي أعطى القرآن تنزلاً مادياً في قالب الحروف والألفاظ.

والوجهة العرفانية تعتبر عالم المادة كله منشأً ومتأثراً من حقيقة القرآن، فجميع الحقائق والأمور الجزئية الدنيوية([48]) كان ولم يزل لها وجود جمعي وبسيط في عالم العقل والملكوت، وما نزول القرآن منجّماً، وحسب ترتيب موارد النزول، إلا من قبيل الترتيب والتطابق مع ما هو سابق، لا أن المورد هو السبب الموجب لنزول الآية.

القرآن اللفظي نتاج القرآن العقلي لا التاريخ ـــــــ

مما ذكر يتضح ضعف الادعاء القائل: إن القرآن نتاج ثقافة خاصة يقتضيها المحيط الذي هو فيه، وإنه نتاج تكوُّنٍ تاريخيٍّ([49])؛ لأن جميع الوجودات البسيطة وجميع الحوادث كان لها تحقق، وفي القرآن العقلي كان واضحاً أن نبي الإسلام سوف يظهر في شبه الجزيرة العربية، وسوف تحدث حوادث خلال فترة بعثته، وذكر القرآن الزيتون والتين و… ليس من باب تأثره بمحيطه، وإنما بسبب وجوب التطابق بين القرآن اللفظي والقرآن العقلي.

الهوامش

____________________________

(*) أستاذ في مركز الدراسات الثقافية الإسلامية، ومن أبرز المهتمين بعلم الكلام المدرسيّ في إيران.

([1]) وبعض الأبحاث الأخرى كـ «حقيقة الدين والنبوة».

([2]) المراد بالتجربة هنا المعنى اللغوي فقط، أي محطات وحيانية مختلفة (المترجم).

([3]) أي المخاطب أو لاً وبالذات (المترجم).

([4]) البرهان في علوم القرآن 1: 290، وهنا تعليقة لطيفة للعلامة الطباطبائي في الميزان 15: 319.

([5]) الميزان 15: 317، والنكتة الملفتة في المقام أن العلامة في 15: 319 يرى إبهام ومحالة انخلاع صورة البشر أو الملك، ولكن يظهر أن مراد من قال بذلك هو التمثل.

([6]) جواي آملي، المبدأ والمعاد: 78؛ ومصباح اليزدي، معرفة القرآن 1: 93.

([7]) وتحقيق أن هذه الوسائط هذه هي واحدة بالحقيقة أو متعددة؟ وهل هي طولية أو عرضية؟ ليس هنا مكان بحثه.

([8]) ويرى المفسرون أنه جبرائيل.

([9]) في مقام تحليل هذا الدليل يجب القول: إن المخاطِب بـ {قل} هو الحقيقة المحمدية، فالحقيقة المحمدية؛ بإشرافها على العنصر المادي للنبي‘ لتعليمه وتربيته، تخاطبه تارةً وتهدِّده تارة أخرى، وسيأتى توضيح ذلك.

([10]) يراجع في ذلك التفاسير المختلفة، ذيل الآية؛ وبحار الأنوار 18: 245، فإذا كان الوحي تجربة نبوية فلا معنى لهذا كله، والحالات المعنوية لبدن النبي تعتريها التغيرات والتحولات فيمكن تأخير الوحي والحال كذلك.

([11]) لقد ورد عندنا أن أمير المؤمنين× كان يسمع الوحي كالنبي، ولكن هذا لا يخدش بأصل المطلب الذي يريد أن يقوله المؤلف (المترجم).

([12]) جوادي آملي، پيرامون وحي ورهبرى: 78، بتلخيص وتصرّف.

([13]) فإذا رجع إلى الصحو بعد المحو… نفذ حكمه وأمره، واستجيب دعوته، وتكرم بكرامة التكوين، وتكلم بكلام رب العالمين. الأسفار 7: 22. والشاهد على المدعى المتقدم تفسير الوحي، ونزول الملك، والكلام الإلهي بواسطة القوة الخيالية للنبي (ص25)، ويصرح في صفحة 27 أن مصدر كلام الوحي هو الروح الأعظم، وبما أنه ناشئ من داخل نفس النبي‘ فهو غير قابل لأن يشعر الآخرون به.

([14]) البرهان في علوم القرآن 1: 291.

([15]) المصدر نفسه 3: 193.

([16]) الفتوحات المكية 3: 108.

([17]) الميزان 15: 317.

([18]) كشف وشهود للمقام الألوهي.

([19]) بسط تجربة نبوي: 20 ــ 21.

([20]) والمقصود بسماع الصوت أن النبي يسمع، ولكن هذا لا يعني أنه وحي.

([21]) مما يجب التأكيد عليه قبل البدء أن سَبر وغَور المطالب العرفانية لا يقتصر في الوقوف على لزوم المعرفة النظرية بها فقط، وإنما لا بد من أن يصحبها معرفة شهودية أيضاً، والمؤلف يعترف بالعجز والضعف في كلا المقامين، فالأمل في أن يكون البحث خطوة للتعمق أكثر في هذه المطالب، ولزيادة الإيضاح يرجع إلى مقال «حقيقة الوحي تجربة دينية أو عرفانية»، قبسات، شتاء سنة 1381هـ ش.

([22]) فالحقيقة المحمدية أو ل مخاطب وسامع للكلام الإلهي (الكلام الذاتي والعقلي)، والله هو أو ل متكلم.

([23]) بحار الأنوار 89: 83، ولأجل التوضيح أكثر: الإمام الخميني، آداب الصلاة: 323.

([24]) بحار الأنوار 89: 83.

([25]) آداب الصلاة: 323.

([26]) السيد جلال الدين الأشتياني، شرح الرسالة القيصري،المندرج في رسائل القيصري: 171.

([27]) المصدر نفسه 30: 108؛ الأسفار 7: 25.

([28]) الفتوحات 3: 344.

([29]) المصدر نفسه: 108.

([30]) الفتوحات 4: 403.

([31]) الإنسان الكامل: 113.

([32]) الأسفار 7: 25.

([33]) الأسفار 7: 27.

([34]) المصدر السابق: 30.

([35]) لعله يظهر من عبارة الإمام أنه في مقام الواحدية لا الأحدية.

([36]) هذه التعابير للإشارة إلى مقامات شؤون الذات الإلهية، فالأحدية هي مقام الذات، والواحدية هي مقام الخلق.

([37]) آداب الصلاة: 181.

([38]) شرح دعاء السحر: 38.

([39]) الإمام، في تعليقاته على مصباح الأنس: 214، يعبر عن هذه المراحل بـ: مقام الأحدية الغيبية، حضرة الواحدية، مقام المشية والفيض المنبسط، عالم العقل، النفوس الكلية، عالم المثال المطلق، عالم الطبيعة.

([40]) المصدر نفسه: 66.

([41]) الإمام يذكر حول النـزول الكشفي للقرآن في النـزول الدفعي: القرآن نزل جملة في ليلة القدر بطريقة الكشف المطلق الكلي، وأيضاً نزل منجماً في مدة 23سنة في ليلة القدر. (تفسير سورة الحمد: 329).

([42]) آداب الصلاة: 93.

([43]) المصدر نفسه.

([44]) المصدر نفسه.

([45]) تعليقة ناسفة.

([46]) مقدمة مصباح الهداية للإمام الخميني: 152.

([47]) رسائل القيصري: 171.

([48]) ينكر الشيخ السبحاني انتقاش الجزئيات وآيات الأمر والنهي في عالم المثال والعقول. (مدخل مسائل جديد كلام (فارسي) 2: 28.

([49]) قال نصر حامد أبو زيد: إن القرآن ظاهرة لا يمكن أن يكون لها وجود خارج التاريخ (مجلة كيان، العدد 54؛ ومعنى المتن في الضميمة: 504؛ وأيضاً عبد الكريم سروش، بسط تجربة نبوي: 20 ــ 21؛ وصراطهاى مستقيم: 18.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً