أحدث المقالات

 

مطالعة في الموقف الفقهي

ــ القسم الأول ــ

الشيخ علي دهيني(*)

 

1 ـ النظرة الاجتماعية المعاصرة للألعاب والمسابقات

إن ظاهرة الترفيه عن النفس تكاد تكون أصيلة في شخصية كل إنسان، ولكن لكل إنسان أن يعبِّر عن تلك الظاهرة تبعاً لقناعاته وأسلوب حياته وعاداته وتقاليده والمنظومة الفكرية التي ينتمي إليها.

ويمكن القول: إن الألعاب والمسابقات هي من أهم الأمور التي يلجأ إليها الإنسان في مقام الترفيه عن النفس، وهي تختلف من مجتمع لآخر، وإن كانت هناك الكثير من الألعاب مورد اشتراك الكثير من المجتمعات البشرية، وخاصة في هذا الزمن الذي بات فيه التواصل والتفاعل بين المجموعات الإنسانية أمراً في غاية السهولة والبساطة.

بل يمكن الادعاء أن ظاهرة الترفيه عن النفس، ولو من خلال الألعاب والمسابقات، كانت منذ أن كان الإنسان يواجه عدواً من أبناء نوعه، أو من سائر الكائنات الحيّة، فهي ظاهرة تسري في أعماق الحياة البشرية، ولذا نرى أنه لا يخلو مجتمع من تعبير عن هذه الظاهرة، سواء أخذ التعبير عنها بُعداً في جانب الألعاب العسكرية أو المدنية، كما أن بعضاً منها قد يأخذ بعداً عالمياً وشمولياً. وهذا يعود إلى اختلاف العادات والتقاليد وتلاقيها.

ثم إنه مع تقدم المجتمعات وتطورها، ولو في الجانب المادي، بدأت هذه الألعاب والمسابقات تتكثر وتتعدد، إلى أن أصبحت في زماننا هذا موضع اهتمام ومتابعة من مؤسسات دولية. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مدى أهمية الألعاب في الحياة الاجتماعية المعاصرة. ولذا لابدّ من الإشارة إلى بعض جوانب الأهمية:

1ـ إنها وسيلة من وسائل الترفيه عن النفس، حيث لا يخلو إنسان بلحاظ النظرة العامة للمجتمعات من الإحساس بالإرهاق والانزعاج من أمور عديدة وأثقال ومشاكل نفسية متنوعة، فيلجأ إلى الترفيه، ولو من خلال هذه الألعاب؛ لأجل التخفيف من حدّة هذه المشاكل والمتاعب. ويمكن استفادة التعبير عن هذه النقطة من خلال بعض الأحاديث الشريفة، التي قسمت وقت الإنسان، وأشارت إلى لذّة من غير محرم، حيث يمكن تطبيقها على المقام.

2ـ إنها وسيلة لتواصل أبناء المجتمع مع بعضهم، وكذا الشعوب مع بعضها البعض.

3ـ إنها وسيلة للحفاظ على سلامة البدن وحيويته، وخاصّة في مثل هذا الزمن، حيث خفَّت نسبة حركة الإنسان البدنية، وأصبحت تشكّل ظاهرة مرضية في عدد من الشعوب، حتى بات الكثير من الأطباء يحاولون اكتشاف الأدوية التي تحد من بدانة الإنسان.

4ـ إنها وسيلة لفهم ثقافة الشعوب وعاداتها. فمثلاً: لو أردنا دراسة النظرة الإسلامية إلى الألعاب والمسابقات، كما هو الحال في هذا البحث، فسوف نجد في نهاية المطاف أن الإسلام، وإنْ تشدّد كثيراً في رفض بعض الألعاب، فإنّه حثّ على غيرها إلى درجة الترغيب والاهتمام، أي عندما يقبل الإسلام أشكالاً معينة ويرفض أخرى يمكن لنا أن نفهم الخلفية الثقافية والفكرية التي تهيمن على هذا المجتمع، حيث إنها قد تكون  خلفية الجد والمتابعة والمثابرة في سبيل رقي المجتمع وازدهاره، كما هو الحال في ديننا الحنيف، كما يمكن أن تكون الخلفية الثقافية هي اللهو والعبثية، من دون الحصول على أي غرض عقلائي، كما هو الحال في بعض الألعاب في الغرب. وسوف نشير إلى هذه النقطة في مطاوي هذا البحث.

5ـ إنّها وسيلة من وسائل الكسب المادي، وبغض النظر عما إذا كانت بعض أشكالها شرعية أم لا فإن إقامة المسابقات الجماعية، كما هو الحال في هذا الزمن، في أي مجتمع تؤدي إلى حركة اقتصادية كبيرة تقدّر بمليارات الدولارات، كما هو الحال في لعبة كرة القدم العالمية، التي تقام كل أربع سنوات في إحدى دول العالم.

6ـ إنّها وسيلة لتنمية المواهب والاستعدادات عند أبناء المجتمع، ولو في الإطار العسكري. وهذه النقطة مما ينبغي أن تكون موضع اهتمام من قبل وزارة الثقافة أو وزارة التربية، كما وزارة الرياضة، في الدول الإسلامية، حيث من وظيفة هذه الوزارات الكشف عن الميول والرغبات والطاقات الهائلة والكبيرة التي يختزنها كل جيل في أبنائه. وكم من الناس من يصل إلى حدّ النبوغ في مجال ما تبعاً للظروف التي تهيّأت له بينما يبقى الكثيرون ممن يملكون هذه الطاقات من دون أن يعرف بهم أحد. وهذه نقطة أساسية ومحورية في كل مجتمع… وهذه النقطة ليست غريبة، كما هو موجود في الحوزة العلمية، حيث من المفروض أن يدرس كل طالب الجانب العلمي والتخصُّصي الذي يحبه أو يمكن أن يبدع فيه. ونأمل أن تتحقق هذه السياسة الإدارية في حوزتنا العلمية في يومٍ ما.

إضافة إلى أن الإعداد الحربي في هذا الزمن؛ لمواجهة خطر أي عدو، يرتكز في كثير من الحالات على مستوى الإبداع، سواء في مجال الصناعات العسكرية أو في مجال وضع الخطط الحربية. وهذا ما سيأتي الحديث عنه لاحقاً في كتاب السبق والرماية من هذا البحث.

7ـ إنّها وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث بات من الواضح أننا في زمن لم يعد المسجد هو المكان الوحيد للتبليغ، بل ليس هو المكان الأكثر استقطاباً للشباب في العالم الإسلامي. وليس هذا استخفافاً مني بدور المسجد وأهميته، وإنّما نوصّف واقعاً في بلادنا الإسلامية. كما أنه ليس من سبل وطرق النجاح أن نعتمد في سياسة الأمر والدعوة إلى الدين والنهي عن المنكر على أسلوب وحيد، ولا سيما أننا نعيش في مجتمعات تتنوع فيها أساليب الانحراف إلى حدّ باتت تستقطب الكثيرين من أبناء العالم الإسلامي. فلذا كان لزاماً على المشرفين على أمور التبليغ الديني والدعوة أن يتخذوا من ظاهرة الألعاب وسيلةً لجذب الشباب ودعوتهم إلى الالتزام بالقيم الدينية والمحافظة عليها. إضافة إلى أن الألعاب قد تكون باباً لإبعاد الشباب وعموم الناس عن ظاهرة الانغماس في المخدرات وغيرها من مظاهر التفلُّت. ولذا نرى أن المحطات التلفزيونية المعنية بنشر تعاليم الدين تضع في جملة برامجها بعضاً من برامج الترفيه والمسابقات، وما هذا إلا لشعورهم بأن هذا المشروع يستقطب نسبة من الناس تجاه مشاهدة البرامج الخاصّة بهذه المحطة.

كما أن الجمهورية الإسلامية في إيران، والوحدة الثقافية في حزب الله ـ لبنان، قد اهتمتا إلى حدّ كبير بهذا الجانب، ولو في إطار المسابقات الدينية، كالمسابقات القرآنية وغيرها. كما نلحظ في المقابل حجم المسابقات في المحطات المتفلتة من القيم الدينية والأخلاقية، ومستوى التأثير الذي تخلفه وتتركه على أنصارها ومريديها.

وبالنظر لهذه الأهمية التي وصلت إليها الألعاب والمسابقات في هذا الزمن نجد أن الحكومات قد جعلت لها وزارة خاصّة تهتم بشؤونها. كما أن مؤسسات المجتمع المدني، مثل: البلديات، والأحزاب، والنوادي الثقافية، والرياضية، قد اهتمت بهذا الجانب كثيراً. كما ينبغي أن لا ننسى أن هناك مؤسسات دولية تُعنى بالإشراف على الجوانب الإدارية والتنظيمية للكثير من الألعاب.

ولهذا كان لزاماً على المؤسسة الدينية أن تقدِّم نظرة شاملة تجاه هذه الألعاب. ومن هذا المنطلق نقدم هذا البحث المتواضع. كما آمل من جميع الإخوة والأساتذة، الذين يكتبون ويؤلِّفون ويدرّسون، أن يضعوا قسماً من اهتماماتهم في جانب البحث في المسائل المستحدثة، وإعطاء وجهة نظر الإسلام فيها، ولعلها تبلغ المئات، أو على الأقل إعادة النظرة والمنهجة الحديثة تجاه ظاهرة أو موضوع ما، كما هو الحال في هذا البحث؛ فإننا، وإنْ لم نأتِ بشيء جديد، لكن حاولتُ أن أقدّم الموضوع ونظرة الإسلام إليه بصورة جامعة، تحاكي الحاجة إليه وإلى غيره من الموضوعات.

 

2 ـ المعنى اللغوي والاصطلاحي للقمار

المعنى اللغوي

لابدّ في المقام من استعراض كلمات أهل اللغة؛ لنرى هل بالإمكان ـ بعد الاطلاع على كلماتهم ـ الخروج بمعنى واضح لا لبس فيه لهذا المفهوم أو لا؟

جاء في كتاب «العين»، للخليل: وقامرته فقَمَرته من القمار([1]).

وفي «تهذيب اللغة»، للأزهري: القمار أصله تقمّر الصياد الظباء والطير بالليل: صادها في ضوء القمر، فتقمر أبصارها، فتصاد، وكأن القمار مأخوذ من الخداع، يقال: قامره بالخداع فقمره([2]).

وقال ابن منظور «في لسان العرب»: قامر الرجل مقامرة وقماراً: راهنه، وهو التقامر، والقِمار: المقامرة، وتقامروا: لعبوا القمار، وقميرك: الذي يُقامرك. وقمرتُ الرجل أقمِره ـ بالكسر ـ قمْراً: إذا لاعبته فيه فغلبته، وتقمَّر الرجل: غلب من يقامره. وقال أبو زُبيد يصف الأسد: وراح على آثارهم يتقمّر، أي يتعاهد غِرّتهم، وكأن القمار مأخوذ من الخداع، يقال: قامره بالخداع فقمره([3]).

وفي «مجمع البحرين»: القِمار ـ بالكسر ـ المقامرة، وتقامروا لعبوا بالقمار، واللعب بالآلات المعدة له على اختلاف أنواعها، نحو الشطرنج والنرد وغير ذلك، وأصل القمار الرهن على اللعب بشيء من هذه الأشياء، وربما أُطلق على اللعب بالخاتم والجوز([4]).

أما أصحاب «تاج العروس» و«مختار الصحاح» و«المصباح المنير» و«مفردات ألفاظ القرآن» فلم يأتوا بشيء أوسع وأوضح مما ذكر.

ويمكن الخروج من هذه الكلمات بما يلي: من الواضح جداً أن مفهوم القمار يصدق في حال المراهنة، ولكن يُشكّ في صدقه وانطباقه على مورد لا رهان فيه؛ فإن هذه الكلمات لا تدلّ بشكل واضح على توسعة مفهوم القمار لحالة عدم وجود رهان. وأعتقد أن هذا لا يؤثِّر إلى حدٍّ كبيرٍ على طريقة الاستدلال، حيث يمكن التمسّك بالروايات التي حدّدت الدائرة التي تحرم فيها الألعاب والمسابقات، مع غمض النظر عن انطباق مفهوم القمار عليها، حيث قد لا ينطبق عليها المفهوم ومع ذلك تحرم لجهة حرمة اللعب بآلات القمار.

 

المعنى الاصطلاحي

وهو ما يؤخذ من ألسنة الفقهاء وأصحاب القواميس الفقهية لنرى كيف استعمل الفقهاء هذا المصطلح؟ وما هي سعة الدائرة التي ينطبق عليها هذا المفهوم؟

ومع أن كلمات الفقهاء لا تشكّل حجة يمكن الركون والاعتماد عليها لتحديد هذا المفهوم؛ لأن رأيهم لا يعدو كونه اجتهاداً، وهو قابل للمناقشة والردّ، إلا أننا نذكر بعضاً ممّا ذكروه في هذا المجال؛ استئناساً بكلماتهم، فنقول:

قال الشهيد الثاني في «المسالك»: «القمار هو اللعب بالآلات المعدّة له، كالنرد والشطرنج، ومنه اللعب بالخاتم والجوز ونحوهما»([5]).

وقال المحقِّق الكركي في «جامع المقاصد»: «القمار هو اللعب بالآلات المعدّة له على اختلاف أنواعها، من الشطرنج والنرد وغير ذلك، وأصل القمار الرهن على اللعب بشيء من هذه الأشياء، وربما أُطلق على اللعب بهما مطلقاً»([6]).

وقال النراقي في «المستند»: «الظاهر أن القمار يكون في كل لعب جُعل للغالب أجر مطلقاً، أو إذا كان بما أُعِدّ لذلك عند اللاعبين»([7]).

وقال الأنصاري في «المكاسب»: «القمار ـ كما عن بعض أهل اللغة ـ الرهن على اللعب بشيء من الآلات المعروفة، وحكي عن جماعة أنه قد يطلق على اللعب بهذه الأشياء مطلقاً، ولو من دون رهن، وبه صرّح في جامع المقاصد»([8]).

وقال السبزواري في «مهذب الأحكام»: «يحرم القمار، سواء كان بالآلات المعدّة له مع العوض، أو بالآلات المعدّة له بلا عوض، أو بغير الآلات المعدّة له بعوض، أو كان بغير عوض، في غير ما نصّ على جواز المسابقة فيه»([9]).

وقال الجرجاني في «التعريفات»: «هو كل لعب يشترط فيه غالباً من المتغالبين شيء من المغلوب»([10]).

أما الشيخ المشكيني فقد ذكر في «مصطلحات الفقه» نفس ما جاء في «مجمع البحرين»([11]).

وقال السيد الخوئي: «إن الظاهر من أهل العرف واللغة هو الرهن على اللعب بأي شيء كان»([12]).

والمتحصل من هذه الكلمات أن الفقهاء على رأيين:

الأول: هو أن القمار لا يصدق إلا في حال المراهنة.

والثاني: إن القمار يصدق على المراهنة وبدونها، في آلات القمار أو في كل لعب محرم.

وعلى أية حال فإنّ هذا الاختلاف قد يلعب دوراً ما في عملية الاستدلال، أي في الحالة التي لا يوجد فيها نصّ على حالة ومسابقة معينة؛ فإنّه بناء على الشمول يمكن التمسّك بإطلاق المفهوم ليشمل الحالة التي هي محل الخلاف؛ وبناء على حصره في المراهنة لا مجال للتعدي من المراهنة إلى غيرها، إلاّ من خلال النصّ. ولكن مع وجود النصوص العديدة قد لا تصل النوبة إلى هذه الثمرة أصلاً، حيث إن النصوص الشرعية قد وسعت من دائرة الحرمة لتشمل اللعب مراهنة، أو اللعب بآلات القمار من دون مراهنة، كما هو الرأي المشهور. فهي تحرم من جهة النص، وإنْ لم ينطبق عليها عنوان القمار، بل قد ينطبق عليها عنوان اللعب بآلات القمار دون مراهنة، وهو عنوان آخر ـ كما هو واضح ـ بناءً على حصر مفهوم القمار في خصوص المراهنة.

 

أنواع الألعاب والمسابقات في التقسيم الفقهي

وفيه أنواع الألعاب والمسابقات من الناحية الشرعية، وهي:

1ـ اللعب بآلات القمار مع العوض.

2ـ اللعب بآلات القمار من دون عوض.

3ـ اللعب بغير آلات القمار مع العوض.

4ـ اللعب بغير آلات القمار من دون عوض.

ثم إن الشيخ الأعظم قد ذكر هذا التقسيم في مكاسبه بشكل واضح. وإنْ كان العلماء قبله قد أشاروا بنحو وآخر إلى حكم هذه الصور إلا أنّ الشيخ قد بحث كل صورة وقسم من هذه الأقسام على حدة. وقد سار الكثير من العلماء من بعده تبعاً لهذه المنهجة. ونحن بالتأكيد سوف نتعرّض لحكم هذه الصور الأربع. كما نشير إلى أقسام أُخر كانت موجودة في الزمن الماضي، كما هو الحال في كتاب السبق والرماية، تبعاً لدائرته الوسيعة في هذا الزمن. كما نشير إلى حكم بعض الألعاب؛ فإنّها وإنْ كانت بحسب الدقّة العلمية تدخل في الصورة الرابعة ولكنّنا سوف نفردها في إطار خاص بها؛ حتى تكون الأفكار في هذا البحث في غاية الوضوح، كالألعاب والمسابقات التي يترتب عليها الضرر والإضرار بالآخرين، مع عدم وجود أية منفعة عقلائية فيها.

 

1ـ اللعب بآلات القمار مع العوض

والبحث يتمحور حول الأدلّة لإثبات الحرمة التكليفية في هذه الصورة، ونتعرّض بعد ذلك للحرمة الوضعية.

والأدلة التي يمكن أن تذكر في المقام ما ذكره الشيخ الأعظم في «المكاسب»، وتبعه غير واحد، حيث قال: القمار حرام إجماعاً. ويدلّ عليه الكتاب، والسنّة المتواترة. وأضاف: أما الصورة الأولى: فلا إشكال في حرمتها وحرمة العوض. والإجماع عليها محقَّقٌ، والأخبار بها متواترةٌ([13]).

وسوف نتعرض في المقام إلى الأدلة بأنواعها الثلاثة:

الدليل الأول: النص القرآني.

الدليل الثاني: الإجماع.

الدليل الثالث: النصوص الروائية.

أما الدليل الأول ففيه عدّة آيات:

الآية الأولى: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاء فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ (المائدة: 90 ـ 91).

وهناك عدّة وقفات في هذه الآية:

1ـ في شرح بعض المفردات وبيان معناها اللغوي.

أـ الميسر: وهو القمار؛ لأنه أخذ مال الغير بيسر وسهولة، من غير كدّ ولا تعب([14]).

وقال فخر الدين الطريحي في مجمع البحرين: الميسر القمار، وقيل: كل شيء يكون منه قمار فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز الذي يتقامرون به؛ لأنه يجزأ أجزاء، وكل شيء جزّأته فقد يسرته، ويقال: سمي ميسراً لتيسر أخذ مال الغير فيه من غير تعب ومشقّة([15]).

وقال ابن منظور في لسان العرب: الميسر القمار، والجزور نفسه سمي ميسراً لأنه يجزأ أجزاء، وكل شيء جزّأته فقد يسرته([16]).

ب ـ الأنصاب: النُّصُب: حجر كان ينصب فيعبد، وتصبّ عليه دماء الذبائح، وجمعه أنصاب([17]).

وفي لسان العرب: النُّصُب: العلم المنصوب قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ (المعارج: 43). وكذلك النصب كل ما عبد من دون الله تعالى([18]).

ج ـ الأزلام: الزَّلم: القدح لا ريش عليه، والأزلام هي السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. وكذلك الأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها: أمر، ونهي، وأفعل، ولا تفعل([19]).

وفي كتاب العين: زلم جمع أزلام، وهي القداح التي لا ريش لها، كانت العرب تستقسم بها عند الأمور إذا همّ بها أحدهم، مكتوب عليها: افعل، لا تفعل([20]).

وقد جاء في الرواية عن الإمام أبي جعفر الباقر×، قال: لما أنزل الله تعالى على رسوله’ ﴿إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ (المائدة: 90) قيل: يا رسول الله، ما الميسر؟ فقال: «كل ما تقومر به، حتى الكعاب والجوز»، قيل: فما الأنصاب؟ قال: «ما ذبحوا لآلهتهم»، قيل: فما الأزلام؟ قال: «قداحهم التي يستقسمون بها»([21]).

2ـ إنه بعد التسليم بأن الميسر هو القمار لا يمكن لأحد أن يناقش في دلالة الآية على حرمة المذكورات، ولكن قد يدور النقاش حول كيفية استفادة الحرمة من هذه الآية، فإن بعض العلماء قد تفنَّنوا في بيان دلالة الآية على الحرمة. ومن جميل ما ورد في هذا الشأن ما ذكره صاحب كنز العرفان. حيث قال: وقد أكد التحريم في الآية بتسعة أمور: الأوّل: تصديرها بإنما المؤكِّدة؛ الثاني: ضمّ الخمر إلى الأصنام في وجوب اجتنابها؛ الثالث: تسميتها ـ رجساً ـ؛ الرابع: جعلها من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر؛ الخامس: إنه أمر باجتنابها الشامل لجميع أوصافها؛ السادس: إنه جعل الاجتناب موجباً للفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الركون إليه خيبة؛ السابع: إنه ذكر ما ينتج منها، وهو العداوة والبغضاء؛ الثامن: إنها تصدّ عن ذكر الله؛ التاسع: إن فيه وعيداً بقوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}، وهو مبالغة في الوعيد والتهديد، وهو أبلغ من (انتهوا) عرفاً([22]).

وقد استدل المشهور من العلماء على حرمة القمار بهذه الآية، وإنْ اختلفوا في بعض الصور في انطباق عنوان القمار عليها أو لا، ولكن القدر المتيقن من حرمة القمار في هذه الآية هو الصورة الأولى، التي نحن بصدد إثبات حرمتها، وهي اللعب بآلات القمار مراهنة. وقد استدل بها الشيخ الطوسي في المبسوط([23])، والعلامة الحلي في تذكرة الفقهاء([24])، والشيخ النجفي في الجواهر([25])، والشيخ البحراني في الحدائق([26])، والسيد الخوانساري في جامع المدارك([27])، والسيد الخوئي في مصباح الفقاهة([28])، والسيد السبزواري في مهذب الأحكام([29])، وغيرهم الكثير.

والمتحصل في هذه الآية أنها على أقل تقدير تدلّ على حرمة الصورة الأولى التي نحن بصددها، ولو بدلالة ﴿رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾؛ فإن الأمر بالاجتناب دالٌّ على التحريم.

وقد يقال أيضاً: إن المناسبة التي نزلت فيها الآية تدلّ على حرمة هذه الصورة، مع عدم إمكان تعدية الحكم إلى الصور الأخرى من خلال دلالة نفس هذه الآية، حيث إن الميسر مصدر ميمي من يسر، بمعنى لأن يتيسَّر، واستعمل في القمار لتيسر أخذ كل منهما مال الآخر، وكان يُستعمل في مقامرة الجزور، حيث كان العرب يتقامرون عليها؛ وذلك لأنهم كانوا ينحرون جزوراً، ويقسِّمونها ثمانية وعشرين جزءاً، وكان لهم أقداح عشرة: ثلاثة منها غير مكتوب عليها؛ وسبعة منها مكتوب، وقد كتب على أحدها واحد، وعلى الثاني اثنين، وهكذا إلى السابع سبعة، ثم كانوا يجعلون القداح في خريطة، ويعطونها أحداً، وهو يحرك الخريطة، ويخرج لكل منهم قدحاً، فمن خرج له مكتوب ذا سهم أخذ سهمه، ويغرم الثلاثة الذين لا سهم لأقداحهم قيمة الجزور، وليس لهم نصيب منه.

وهذه العادة تنطبق على هذه الصورة التي نحن بصدد إثبات حرمتها، ويكفي الشك لعدم إمكان الاستدلال بنصّ الآية لإثبات حرمة بعض الصور الأخرى.

الآية الثانية: قال تعالى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ (البقرة: 219).

ثم إن الاستدلال بهذه الآية على تحريم القمار قد يتم من خلال وجهين:

الأول: بعد الفراغ عن أن الميسر هو القمار ـ كما تقدّم سابقاً ـ يقال: إن الآية اعتبرت إثمهما أكبر من نفعهما، وإذا زادت مضرّة الشيء على منفعته يحكم العقل بلزوم الامتناع عنه.

ولكنْ يرِدُ على هذا الوجه:

أولاً: إن هذا الدليل أقصى ما يثبت أنه يحسن الامتناع، أما أن العقل يحكم بضرورة الامتناع على نحو الوجوب واللزوم فهذا محلّ نقاش وتأمُّل.

وثانياً: إذا ثبت عقلاً حسن الامتناع فكيف حصّل المستدلّ حكماً شرعياً بملازمة حكم شرعي لحسن عقلي. وهذا نقطة جدلية وخلافية بين العلماء على ما ذكر في علم الأصول.

الثاني: إن الآية ذكرت أن فيهما الإثم، وقد حرّم الإثم في آية أخرى، حيث قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ…﴾ (الأعراف: 33).

والنتيجة أن الإثم محرَّم، وهو مصرَّح به في هذه الآية التي هي محل البحث. ومما يؤكّد الحرمة أيضاً أنه قد وصف الإثم بأنه كبير.

ولكن يرِد عليه: إن الإثم الوارد في محل البحث غير الإثم الوارد في الآية من سورة الأعراف، حيث يمكن القول: إن المراد في المقام من الإثم هو الضرر؛ وذلك من خلال قرينة المقابلة ما بين الإثم والنفع. وعليه فالآية لا تعدو كونها في مقام الإرشاد إلى أن هذه الأمور فيها من الضرر أكثر مما فيها من المنافع، فيحسن تركها، ولا يفهم العرف من لسانها أنها في مقام بيان حكم شرعي.

فالخلاصة من هذه الآية أن الوجه الأول للاستدلال يتوقف على أن كل ما كان ضرره أكثر من نفعه فهو حرام. وهذا مخالفٌ لمشهور الفقهاء؛ والوجه الثاني يتوقف على أن الإثم محرم. ولكن ذكرنا أن المراد منه هنا هو الضرر؛ بقرينة المقابلة مع النفع. فلا دلالة في الآية على حرمة القمار. نعم، هي ترشد إلى حسن تركه.

الآية الثالثة: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلامِ﴾ (المائدة: 3).

إن الاستدلال بهذه الآية يتوقف على كون الاستقسام بالأزلام هنا هو الأنصاب في الآية الأولى، التي كانت تمثّل لعبة قمارية في زمن النزول. ولكن قد ذكرنا أن المراد من الأزلام القداح التي لا ريش لها، كانت العرب تستقسم بها عند الأمور إذا همّ بها أحدهم، مكتوب عليها: افعل، لا تفعل. وعليه فإن الآية تشير إلى معنى آخر لا علاقة له بمحل البحث.

الآية الرابعة: ﴿وَلا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ﴾ (البقرة: 188).

وقد يقرّب الاستدلال بالآية على حرمة القمار من خلال الاستعانة برواية زياد بن عيسى، قال: سألت أبا عبدالله× عن قوله: ﴿وَلا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ﴾ فقال: «كانت قريش تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك([30])؛ فإن الجمع بين الآية والرواية يوصلنا إلى الحكم بحرمة المقامرة. وهي بالتأكيد صادقة على هذه الصورة التي نحن في مقام إثبات حرمتها.

ولكن يرِد عليه: إنّ المطلوب الالتفات إلى نفس الآية مع غمض النظر عما إذا كانت هناك روايات في المقام أو لا، فإن البحث الآن يدور حول الدليل القرآني لإثبات الحرمة، لا الدليل الروائي. فالمطلوب محاولة فهم ظهور الآية بنفسها؛ لنرى مدى دلالتها؟

قد يقال: إنّ الآية تشير إلى حكم وضعي يترتب عليه حكم تكليفي، وهو أنّ كل أنواع المعاملات التي أبطلتها الشريعة، أو هي في نظر الشريعة معاملات باطلة، فلا يجوز التصرف في المال المأخوذ من خلالها وهناك الكثير من المعاملات التي يرى الشارع أنها معاملات باطلة، وبعضها قد تكون بنظر العرف معاملات صحيحة، ولكن الشارع يصنّفها في عداد المعاملات الباطلة، كما هو الحال في الربا، فالآية تشير إلى حكم وضعي، وهو عدم تملك المال الذي انتقل من خلال المعاملة الباطلة، ويترتب عليه حكم تكليفي بعدم جواز أكله.

هذا أقصى ما يستفاد من الآية، وهو كلام صحيحٌ، ولكن الآية لا تنظر إلى تعداد المعاملات الباطلة، بل نحن من الخارج نعرف المعاملات الباطلة بنظر الشريعة، ونرتب عليها هذا الحكم.

ومن جملة النواقل المالية الباطلة بنظر الشريعة القمار، ولكن نحن لا نستفيد من نفس هذه الآية حرمة القمار، فهي أجنبية عنه، بل استفدنا حرمة القمار من الآية الأولى التي ذكرناها، وسيأتي المزيد من الأدلّة الروائية.

فالخلاصة أنّ الآية تدلّ على الحكم الوضعي، وهو حرمة التصرف بالمال المأخوذ بسبب باطل. ولا ملازمة بينه وبين الحكم التكليفي، الذي يعني حرمة الفعل في المقام. فالنتيجة أنّ الآية لا تدلّ على حرمة القمار، وإنّما تدل على أنّ السبب الباطل بنظر الشريعة لا يجوز أكل المال على أساسه.

والمتحصّل من عرض هذه الآيات الأربع أنّ الآية الأولى تدلّ على حرمة القمار، دون الآيات الثلاثة الأخرى.

وبهذا ينتهي الكلام في الدليل الأول.

أما الدليل الثاني فهو الإجماع، حيث قال الشيخ الأعظم في المكاسب، في مقام بيان حرمة هذه الصورة: «لا إشكال في حرمتها، وحرمة العوض. والإجماع عليها محقَّقٌ، والأخبار بها متواترةٌ»([31]).

ويمكن القول: إنّ من المقطوع به أنّ هناك إجماعاً على حرمة هذه الصورة من القمار، حيث إنها الأوضح والأبرز من مصاديقه. ولكن من المحتمل جداً أنه إجماع مدركي، أو محتمل المدركية؛ بلحاظ كثرة الروايات التي وردت في مقام بيان حرمته وذمّه، وهي بالتأكيد تنطبق على هذه الصورة بلا أية عناية ونقاش، وإن نوقش في دلالة بعض الروايات على صور أخرى، كما سيأتي.

وبالتالي لابدّ من تركيز البحث حول الدليل الثالث، حيث من خلاله يمكن معرفة الدائرة التي يحرم فيها القمار، وما هي الصور التي تدخل تحت هذا العنوان؟ بعد أنّ كان الدليل القرآني والإجماع دالين على حرمة هذه الصورة مع الخلاف في دلالتهما على أكثر منها.

 

المستند الحديثي

لابدّ من الإشارة أولاً إلى أنّ النصوص الروائية التي وردت حول القمار والميسر وبعض آلاته كثيرة. ونحن لا نريد في هذه الصورة أنّ نستعرض كافة الروايات في هذا المجال، بل سوف نقتصر على ذكر بعض الروايات التي من شأنها أنّ تبيّن بوضوح حرمة هذه الصورة، على أن نذكر بقية الروايات في الموطن المناسب لها من الصور الآتية؛ تبعاً لدلالتها، حتى لا نقع في محذور تكرار نفس الروايات، وإنْ كنّا قد نذكر رواية أكثر من مرة؛ تبعاً لإمكانية استفادة حكم صورة أُخرى منها، ولكن سوف نحرص قدر الإمكان على عدم التكرار في سرد الروايات.

1ـ رواية جابر، عن أبي جعفر× قال: لما أنزل الله على رسوله’ ﴿إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ قيل: يا رسول الله، ما الميسر؟ فقال: «كل ما تقومر به، حتى الكعاب والجوز»، قيل: فما الأنصاب؟ قال: «ما ذبحوا لآلهتهم»، قيل: فما الأزلام؟ قال: «قداحهم التي يستقسمون بها»([32]).

والنقاش في هذه الرواية تارة يقع بلحاظ السند؛ وأُخرى بلحاظ الدلالة.

أما من ناحية السند فإن عمرو بن شمر قد ضعّفه النجاشي، وعليه فإن الرواية ساقطة عن الحجية. ولكن يمكن أن يصحّح سند الرواية من خلال أنّ بعض أصحاب الإجماع روَوْا عنه؛ فإن بنينا على صحة هذا المبنى في التوثيقات يمكن الأخذ بالرواية؛ وإن لم نبنِ على صحة هذا المبنى فلا مجال للأخذ بالرواية. وعلى أية حال فإن هذه الكبرى من المباحث التي تعرض لها العلماء في المباحث الرجالية، وقيل هناك: إنّ ثمانية عشر رجلاً يُعرفون بأصحاب الإجماع، فإن رووا عن أحد من الضعفاء فيمكن الأخذ بروايته؛ تبعاً لهم بادعاء أنّ الأمة قد أجمعت على ما يرِدُ عن هؤلاء. إلا أننا لا نأخذ بهذا المبنى في علم الرجال، وعليه فلا يعتَدُّ بهذه الرواية.

وأما بلحاظ الدلالة فبناء على ما مرَّ من أن الميسر هو القمار، إضافةً إلى أنّ السائل حين يسأل النبي’ عنه فإنه يقول: هو كل ما تقومر عليه. وقد تُفهم أو تفسَّر هذه العبارة بطريقتين:

الأولى: إن كل ما قامرت عليه فهو محرم، أي كل ما كان فيه مراهنة. وبالتالي فما لم يكن فيه مراهنة لا دليل على حرمته.

الثانية: إنّ كل ما تقامر الناس عليه فهو حرام عليك، حتى لو لم تقامر عليه، أي إنّ تعاطي الناس بأدوات القمار بمثابة الموضوع لحرمتها على سائر الناس، ولو لعبوا بها من دون قمار.

إلا أنّ الصحيح من هاتين الطريقتين هي الثانية، حيث يقول النبي’: «كل ما تقومر به»، ولم يقُلْ: كل ما قامرت أنت عليه، أي لم ينسب النبي الفعل إلى سائله، ليكون المحرَّم هو عنوان المقامرة، بل قال: ما كان عنواناً للمقامرة فهو حرام مطلقاً، أي حتى لو لم تلعب به بهذا العنوان. وتكون هذه الرواية ـ بناءً على هذا ـ دالة على حرمة اللعب بأدوات القمار مطلقاً، أي مع الرهن وبدونه.

2ـ رواية محمد بن مسلم، عن أحدهما‘: قال: لا تصلح المقامرة، ولا النهبة([33]).

والرواية لا نقاش فيها بلحاظ السند؛ فإنها رواية صحيحة.

ولكن النقاش هو في دلالتها، حيث قد يقال بداية: إنّ الرواية قد نهت عن المقامرة، التي هي المراهنة، بصيغة لا يصلح، وهذه الصيغة قد يناقش في دلالتها على الحرمة، حيث قد يدّعى أنها تدلّ على الكراهة، وبالتالي فحتى لو أخذت الرواية عنوان المقامرة فلا دلالة فيها على التحريم.

ولكن قد يقال في مقابله: إنّ الرواية تنهى عن المقامرة، والنهبة، وهي عبارة عن الاختلاس، وحيث إنه حرام بالاتفاق، فبقرينة السياق والاستعمال، حيث لا نستظهر أن تكون كلمة لا يصلح قد استعملت في الحرمة والكراهة في استعمال واحد، يكون الميل إلى هذا الوجه أقرب من سابقه. وعليه فالرواية تدلّ على حرمة هذه الصورة التي نحن بصددها.

ولكن يرِدُ عليه: إنّ القرينة الخارجية توجب الإجمال، فلا مجال للاستدلال بالرواية في المقام.

3ـ رواية السكوني، عن أبي عبدالله× قال: كان ينهى عن الجوز يجيء به الصبيان من القمار أن يؤكل، وقال: «هو سحت»([34]).

وقد يناقش في سند الرواية بلحاظ كلٍّ من النوفلي والسكوني. ولكن بناء على اعتبار روايتهما تكون الرواية موثَّقة. وبالتأكيد هناك خلاف في علم الرجال حول هذه النقطة وذكروا هناك بعض الوجوه لتوثيق الرجل، أو للأخذ برواياته، ومنها أنهم قد اعتبروه من المعاريف. وبالتالي فإن هؤلاء، وإنْ لم ينصّ على توثيقهم، يؤخذ برواياتهم، أو على أساس أنه أكثر من الرواية عن السكوني، وهو ممَّن تلقّى الأصحاب رواياته بالقبول، فهذا يعني أنهم أخذوا بروايات النوفلي. وهذا ما نراه. وعلى أية حال فإن موضع هذا البحث في علم الرجال.

أما دلالة الرواية فلا حديث لنا حول إمكانية استفادة الحكم الوضعي منها أو لا، بل هل هي دالة على حرمة القمار بصورته الأولى التي نحن بصدد إثبات حرمتها أو لا؟

يمكن القول: إنّ النبي قد طبّق عنوان القمار على المراهنة بهذه الأمور، ولو كانت جوزاً.

والخلاصة في هذه الصورة أنّ أغلب أو كل الروايات الواردة في القمار تنطبق عليها بشكل وآخر، وليس الكلام فيها، فهي من أوضح مصاديق القمار، بل النقاش في سائر الصور، وفيها سوف نستعرض عدداً أكبر من الروايات.

2ـ اللعب بآلات القمار من دون عوض

والكلام فيها ينصبّ على استعراض الروايات في المقام، وهي على طائفتين:

الأولى: وهي الروايات التي ذكرت عناوين محدّدة للحرمة، كالنرد والشطرنج وغيرهما، وفيها روايات:

1ـ رواية أبي بصير، عن أبي عبدالله× قال: قال أمير المؤمنين×: «الشطرنج والنرد هما الميسر»([35]).

ويقع النقاش في هذه الرواية سنداً ودلالة.

أما من الناحية السندية فإن فيها سهل بن زياد. وقد ضعّفه النجاشي. وقال الشيخ في الاستبصار: هو ضعيف جداً عند نقّاد الأخبار. وقد استثناه أبو جعفر بن بابويه في رجال نوادر الحكمة. ولكن مع هذا نجد أن هناك اتجاهاً لتوثيقه؛ اعتماداً على أن النجاشي قد بيّن السبب في عدم توثيقه، وهو الغلو والكذب. وبالتالي فإن كذبه هو من جهة الغلو، لا مطلقاً. ثم إذا جئنا إلى رواياته لا نجد فيها ما يدلّ على الغلو. وبالتالي فإن الغلو وعدمه مسألة جدلية في علم الكلام. فكلام النجاشي والطوسي لا يكفي دليلاً للتضعيف. إضافةً إلى أنه من مشايخ الإجازة. والدليل أن الكليني قد أكثر الرواية عنه، حيث قد وقع في 2304 مورداً في الكتب الأربعة([36]). وعلى أية حال فهذا الاتجاه الثاني يبني على توثيقه. ونحن نميل إليه، بلحاظ أن النكتة الثانية التي ذكرت كافية لإفادة الوثوق بوثاقته.

وأما النقاش في دلالة الرواية فيقال: إن كلام الأمير مطلق، بلحاظ أن الشطرنج والنرد هما من القمار، سواء حصلت المراهنة في اللعب بهما أم لا، فإن نفس عنوان آلة القمار قد وقع مصبّاً وموضوعاً للتحريم.

وهناك من يناقش بأن الرواية ـ مع كونها ذكرت الآلة ـ ناظرة إلى اللعب القماري، أي المراهنة. ولكن سوف نجد مع تتبع الروايات، وخاصّة في الطائفة الثانية، ما يدلّ على عكس هذا الاتجاه.

2ـ رواية زيد الشحام، قال: سألت أبا عبدالله× عن قول الله عزّ وجلّ ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ فقال: «الرجس من الأوثان الشطرنج، وقول الزور الغناء»([37]).

والنقاش في هذه الرواية يقع أولاً بلحاظ السند، فنقول: إن الجدل في سلسلة السند قد يقع حول درست؛ بلحاظ أن النجاشي والطوسي لم ينصّا على توثيقه بشكل واضح. ورغم ذلك هناك اتجاه واسع لتوثيقه، من جهات عديدة: إما من جهة أنه من أصحاب الكتب، حيث ذكر الطوسي  أنه صاحب كتاب؛ وإما من جهة أن علي بن الحسن الطاطري يروي عنه؛ وإما من جهة أن ابن أبي عمير يروي عنه؛ وإما من جهة أن اثنين من أصحاب الإجماع يرويان عنه، وهما: عبد الله بن بكير؛ ويونس.

واستناداً إلى هذه الوجوه الأربعة، أو أحدها، تكون الرواية معتبرة. ونحن نميل إلى اعتبار الوجه الثالث منها، دون غيره. وعليه فالرواية معتبرة.

وأما الحديث حول دلالة الرواية فإن الإمام قال بضرورة اجتناب الشطرنج على نحو الإطلاق، ولم تقيد الرواية اجتنابه بحالة ما إذا كان اللعب فيه على نحو الرهان. وبهذا نستفيد حرمة هذه الصورة؛ بلحاظ أن الشطرنج أخذ مثالاً للآلة القمارية، وبالتأكيد ليس له سوى هذه الخصوصية.

3ـ رواية زرارة، عن أبي عبدالله×، أنه سئل عن الشطرنج، وعن لعبة شبيب، التي يقال لها: لعبة الأمير، وعن لعبة الثلاث، فقال: أرأيتك إذا ميّز الحق من الباطل مع أيهما يكون؟ قال: قلتُ: مع الباطل، قال: «لا خير فيه»([38]).

والرواية لا نقاش فيها من ناحية السند، فهي رواية معتبرة.

ولكن النقاش من جهة الدلالة، حيث يقال: إن جواب الإمام× لا دلالة فيه على التحريم؛ لأنه إنما نفى الخير في الشطرنج، وهذا لا يلازم التحريم، حيث قد يكون ذلك في المكروهات، أو قد يدّعى وجوده حتى في بعض المباحات، أو قد يقال بأنها إرشاد إلى ضرورة عدم اعتناء واهتمام المؤمن بهذه الأمور؛ بلحاظ عدم منفعتها الأخروية، فلينزّه المؤمن نفسه عن الانشغال بهذه الأمور باتجاه الأمور التي تقرّبه إلى الله تعالى.

وعلى أية حال لا مجال لاستفادة الحرمة من نفس هذه الرواية.

4ـ رواية عبدالملك القمي، قال: كنتُ وإدريس أخي عند أبي عبدالله، فقال إدريس: جعلنا اللهُ فداك، ما الميسر؟ فقال أبو عبدالله×: «هي الشطرنج»، قال: فقلت: أما إنهم يقولون إنها النرد، قال: «والنرد أيضاً»([39]).

وهي رواية غير معتبرة سنداً؛ بلحاظ عدم توثيق عبد الملك القمي. إضافة إلى الخلاف حول محمد بن سنان، الذي نصّ كلٌّ من النجاشي والطوسي وابن الغضائري على تضعيفه، فإن الشيخ الطوسي، وإن نسب الضعف إلى غيره في كتاب الفهرست، إلا أنه في الاستبصار قد تبنّى ضعفه بنفسه؛ مع العلم بأن هناك اتجاهاً آخر يوثّقه. ونحن لم نطرحه على بساط البحث فإن فيه كلاماً كثيراً بحاجة إلى بحث رجاليٍّ مستقلٍّ لا مجال لطرحه هنا. وعلى أية حال فالرواية ضعيفة بالراوي الأول.

وأما بلحاظ الدلالة فإنها تامّة؛ لأن الإمام يطبّق عنوان القمار والميسر على الشطرنج والنرد، وهما من باب المثال، ولا خصوصية لهما، فكل ما كان من أدوات القمار يحرم اللعب به حتى في صورة عدم وجود الرهان. وبالتالي فالرواية دالة على حرمة الصورة التي نحن بصدد إثبات حرمتها.

5ـ رواية السكوني، عن أبي عبدالله×، قال: نهى رسول الله’ عن اللعب بالشطرنج والنرد([40]).

والنقاش السندي في هذه الرواية يقع حول كلٍّ من النوفلي والسكوني.

أما الأول، وهو الحسين بن يزيد (النوفلي)، فقد قال النجاشي: عن قوم من القميين أنه غلا في آخر عمره. إذاً فإن نسبة الضعف إليه إنما كانت بلحاظ الغلو، وهي قضية جدلية في علم الكلام، حيث يمكن لأحد أن يتبنّى عدم غلوّه، فما هو غلو عند زيد قد لا يكون غلوّاً عند عمرو. إضافة إلى وجود اتجاه واسع في علم الرجال لتوثيقه؛ بلحاظ أنه من المعاريف. مع أنه يكثر الرواية عن السكوني، وإنّ الأصحاب قد عملوا بروايات السكوني، فهذا يدلّ على أنهم قد تلقَّوا رواياته بالقبول.

وأما نفس السكوني (إسماعيل بن أبي زياد) فقد قال الطوسي: إن الإمامية مجمعة على العمل بما يرويه السكوني وعمّار ومن ماثلهما من الثقات، وإنْ مال الشيخ الصدوق إلى عدم الأخذ برواياته التي ينفرد بها.

وعلى أية حال فالمشهور بينهم أنهم يعملون برواياته. والخلاف مبنائي؛ فإن قلنا بوثاقته، مع وثاقة النوفلي، فالرواية معتبرة؛ وإلا فلا. وقد اتضح مما سبق ذهابنا إلى وثاقته، مع النوفلي.

وأما بلحاظ الدلالة فبما أن نهي النبي’ عن اللعب بالشطرنج والنرد ورد على نحو الإطلاق، ولم يقيّد بما إذا كان اللعب على نحو المراهنة، فهذا يعني حرمة اللعب بهما مطلقاً، وما ذلك إلا لأنهما من آلات القمار.

وهناك العديد من الروايات التي تشاكل الروايات التي ذكرناها في هذه الطائفة، ولا داعي لسردها وعرضها كاملة بعدما كان في هذه الطائفة الدلالة الواضحة على حرمة اللعب بأدوات وآلات القمار مطلقاً.

الثانية: وهي الطائفة التي ذكرت عنوان ما تقومر به, وفيها روايتان، وهي:

1ـ رواية جابر، عن أبي جعفر× قال: «لما أنزل الله على رسوله’ ﴿إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ قيل: يا رسول الله، ما الميسر؟ فقال: كل ما تقومر به، حتى الكعاب والجوز…»([41]).

وقد مرت هذه الرواية في الاستدلال على حرمة الصورة الأولى، ولهذا لم نذكر سلسلة السند، إضافة إلى عدم إعادة النقاش فيه، فإنا ذكرنا أنها ضعيفة لا يعتمد عليها.

وإنّما ندخل في عالم الدلالة مباشرة، فنقول: إن الرواية ذكرت عنوان ما تقومر به، أي ما كان يتعاطى به الناس على أنه آلة قمارية فهو حرام، سواء لعبتَ به قماراً أم لا. وبهذا فهي تدلّ على حرمة اللعب بآلة القمار مطلقاً.

2ـ رواية معمر بن خلاد، عن أبي الحسن× قال: «النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة، وكل ما قومر عليه فهو ميسر»([42]).

وهي رواية معتبرة بلحاظ السند.

وأما من ناحية الدلالة فيقال: إن الرواية ذكرت بعض المصاديق من آلات القمار، ثم ذكرت قاعدة عامة يمكن تطبيقها على كافة المصاديق، وهي أن ما كان من آلات القمار؛ بلحاظ قوله: كل ما قومر عليه، فيحرم اللعب به مطلقاً.

والمتحصِّل من هاتين الطائفتين الدلالة على حرمة هذه الصورة، وهي اللعب بآلات القمار، ولو من دون مراهنة.

ولكن لابدّ في ختام هذه النقطة من الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية على مستوى ما يفهم من هاتين الطائفتين، فنقول: إنا قد استفدنا الحرمة من الطائفة الأولى؛ بلحاظ الإطلاق، حيث إن مجمل الروايات التي ذكرناها، إضافة لعدد آخر لم يذكر، قد دلّ على حرمة اللعب بهذه الآلات بنحو الإطلاق، أي دلّت الروايات على حرمة الشطرنج، ولم تذكر أنه يحرم في حال اللعب به مراهنة، بل أطلقت، ومع الإطلاق استفدنا منها حرمة اللعب بنفس الآت القمار، ولو من دون مراهنة. وهذه الاستفادة تختلف عمّا يستفاد من الطائفة الثانية، حيث دلّت الروايتان في الطائفة الثانية على حرمة كل ما قومر عليه، فهي أوضح من الطائفة الأولى في تحديد ميزان الحرمة.

ومن خلال ما يُفهم من الطائفة الثانية قد نجيب على إشكال يُطرح في المقام، وهو أن ما يحرم من الشطرنج والنرد وغيرهما هو حالة ما إذا لعبنا بهما مراهنة، دون ما إذا لعبنا بهما من دون مراهنة، فإنه يقال: إن الطائفة الثانية التي حدّدت عنوان التحريم بكل ما قومر عليه تلغي احتمال أن يكون المقصود من الطائفة الأولى ذلك، بل الصحيح أن كل ما تعنون بعنوان أن الناس تقامر عليه فهو حرام، سواء لعبتَ به بنحو القمارية أم لا. وبهذا فإن مستوى الدلالة وتحديد ميزان الحرمة في الطائفة الثانية أوضح منه في الطائفة الأولى.

 

3ـ اللعب بغير آلات القمار مع العوض

وهنا نستعرض العديد من الأدلة التي أقيمت لإثبات حرمة هذه الصورة، وهي:

1 ـ الإجماع؛ 2 ـ صدق مفهوم القمار؛ 3 ـ النصوص الروائية.

أما الدليل الأوّل، وهو الإجماع، فلو سلّمنا بالصغرى، وهي أن هذه الصورة قد تحقق فيها الإجماع على الحرمة، فيُحتمل أن هذا الإجماع يستند إلى هذه الوجوه والأدلّة المذكورة لإثبات حرمة هذه الصورة، ولا نطمئن بكونه إجماعاً تعبّدياً.

وأما الدليل الثاني فإن صدق مفهوم القمار على هذه الصورة يتبع المعنى الذي يُتبنّى في تحديد هذا المفهوم. وهناك احتمالات عدّة لما يمكن أن يُتصوَّر أو يقال في هذا المجال. وهذه نقطة ينبغي أن تبحث على مستوى المقدمات أو البحوث التمهيدية. وقد أشرنا إلى ذلك في مقدمات هذا البحث، ونعيد فنقول: إذا كان المراد من مفهوم القمار هو مطلق المغالبة مع العوض فهذا يعني أن المفهوم يشمل هذه الحالة قطعاً. وهذا هو الصحيح كما أشرنا سابقاً؛ وإذا قيل: إن هناك العديد من العناوين ذكرت في قسم من الروايات جوَّزت المغالبة مع الرهن نقول: إن هذه العناوين خرجت من تحت الأدلّة العامة للحرمة، كما هو الحال في مصاديق كتاب السبق والرماية. وكذا إذا قلنا: إن مفهوم القمار هو مطلق المغالبة فإنه في هذه الحالة يصدق المفهوم على الحالة التي نحن فيها.

وهناك وجوه واحتمالات أخر لا يصدق فيها المفهوم على هذه الصورة، ولكن ذكرنا أن الصحيح من الاحتمالات هو الأوّل.

وأما الدليل الثالث فإن النصوص الروائية على طوائف:

الأولى: وهي ما دلّ على نفار الملائكة عند الرهان، ما خلا الحافر والخف والريش والنصل، أو ما دلّ على حضورها في بعض الحالات. وهذه الطائفة فيها عدّة روايات:

1ـ رواية محمد بن علي بن الحسين قال: قال الصادق×: «إن الملائكة لتنفر عند الرهان، وتلعن صاحبه، ما خلا الحافر والخف والريش والنصل. وقد سابق رسول الله’ أسامة بن زيد، وأجرى الخيل»([43]).

والنقاش في هذه الرواية سنداً ودلالة.

أما الأول، وهو النقاش السندي، فنقول: إن كتاب من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق، يشتمل على 5963 حديثاً على ما قيل. بيدَ أن قسماً كبيراً منها، يبلغ 2050 حديثاً، من المراسيل. ومن هنا نشأت الحاجة إلى التفكير في طريقة يمكن بها تصحيح المراسيل المذكورة. وقد ذهب البعض إلى حجيتها، وأن مراسيل الصدوق في من لا يحضره الفقيه كمراسيل ابن أبي عمير في الحجية والاعتبار، ويمكن توجيه حجيتها بأن الصدوق ذكر في المقدمة أنه لا يذكر في كتابه إلا ما يحكم بصحته، ويفتي به، ويكون حجة بينه وبين ربه، أو من جهة أنه ذكر في المقدمة أيضاً أن جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعتمد والمعول.

ولكنْ ناقش العلماء في كلا هذين البيانين. أما الأوّل فإن مصطلح الصحة في زمن الشيخ الصدوق يختلف عنه في زماننا، وبالتالي فإن ما يراه صحيحاً قد لا يكون كذلك عندنا. إضافةً إلى أن اعتماده على كتب مشهورة لا يغني عن وجود الحاجة إلى وجود طريق معتبر للكتاب، حيث يُحتمل الزيادة أو النقيصة. إضافةً إلى أن التعويل على كتاب لا يعني صحة جميع أحاديثه.

وهناك رأي ذهب إليه غير واحد من الأعلام يفصِّل بين ما إذا عبّر الصدوق بكلمة «قال» وبين ما إذا عبّر بكلمة «روي»؛ فالأوّل حجة، دون الثاني. وممن اختار هذا التفصيل السيد الخوئي في الدراسات، والإمام الخميني في بحث بيع المصحف إلى الكافر. هذا، وهناك مجال للتأمل في هذا الرأي، حيث إنّ تعبير الصدوق بكلمة «قال» وإن دلّ على جزمه بصحة الرواية وحجيتها إلا أن ذلك لا يعني شهادته بوثاقة رجال السند، بل قد يكون ذلك لاحتفافها بقرائن توجب العلم بصدقها في نظره دون نظرنا.

ومن هنا فقد تراجع السيد الخوئي عن هذا الرأي في الدورات المتأخِّرة، كما في مصباح الأصول([44]).

وخلاصة القول: إنْ بنينا على حجية هذه المراسيل فتكون الرواية معتبرة، وإلا فلا.

ونحن لا نبني على حجية مراسيل الصدوق.

وأما النقاش في الدلالة، فتارة يناقش في دلالة كلمة نفار الملائكة؛ وأخرى في أنها تلعن صاحبه.

أما الأولى، وهي أن الملائكة تنفر عند الرهان، ما عدا المذكورات، فقد يقال: إنّ الملائكة كما تنفر من الأمور المحرمة فإنها تنفر من المكروهات؛ بلحاظ أنها تنافي قداستهم وطهارتهم.

كما أن اللعن قد استعمل في مورد الكراهة، فإذا جاء في روايةٍ ما فلا يدلّ على التحريم. ومما نقطع به أنه قد ورد في بعض الروايات بمعنى الكراهة، ففي الوسائل: عن أبي الحسن موسى بن جعفر× قال: «لعن رسول الله’ ثلاثة: الآكل زاده وحده، والنائم في بيت وحده، والراكب في الفلاة وحده»([45]).

وورد أيضاً عن أبي الحسن موسى× قال: «لعن رسول الله’ ثلاثة: أحدهم راكب الفلاة وحده»([46]).

وورد علي× في الدواب أنه قال: «لا تضربوا الوجوه، ولا تلعنوها، فإن الله عزّ وجلّ لعن لاعنها»([47]).

هذا، وقد يقال في مقام الجواب أن الإشكال الأول قد يكون وارداً، وهو أن نفار الملائكة لا يستلزم الحرمة؛ بلحاظ أن نفارهم قد يكون في مورد الكراهة أيضاً.

ولكن الإشكال الثاني مرفوض؛ بلحاظ أن اللعن في القرآن الكريم قد استعمل في مورد التشديد على الأمور المحرَّمة، وفي أغلب الروايات هو بهذا المعنى وإذا ورد في بعض الروايات بمعنى الكراهة فذلك لقرينة واضحة على عدم حرمة الأمور المذكورة، كارتكاز متشرِّعيّ، وإجماع، وغير ذلك. وعليه فقد يقال: إن اللعن في لسان الرواية موجب للحرمة.

ولكن الإنصاف أن يقال في المقام: إنه لا مجال للجزم بهذه النقطة إلا بعد إجراء عملية استقراء تامّ أو شبه تامّ على موارد الاستعمالات الروائية لهذه الكلمة، وعندها يمكن أن نخرج بنتيجة واضحة في هذا المجال.

2ـ رواية أبي بصير، عن أبي عبدالله×: قال: «ليس شيء تحضره الملائكة إلا الرهان وملاعبة الرجل أهله»([48]).

ويقع النقاش هنا في السند والدلالة.

أما سنداً فإن الرواية مجهولة؛ بسعدان بن مسلم، حيث لا توثيق له في كتب الرجال. نعم، روى عنه ابن أبي عمير. فإن قلنا بحجية روايات كل من يروي عنه ابن أبي عمير فتكون الرواية معتبرة؛ وإلا فلا.

والأول هو الوجيه.

وأما دلالة فهي تدلّ على أن الملائكة تحضر الرهان، ولا تحضر غيره، بمفهوم الحصر. ومع ذلك فهذا لا يدلّ على حرمة الرهان في غير هذه الموارد؛ لأن عدم حضور الملائكة لا يلازم الحرمة؛ إذ قد يكون ذلك بلحاظ التنزه وغيره.

3ـ رواية العلاء بن سيّابة، عن أبي عبد الله× قال: سمعته يقول: «لا بأس بشهادة الذي يلعب الحمام، ولا بأس بشهادة المراهن عليه؛ فإن رسول الله’ قد أجرى الخيل وسابق، وكان يقول: «إن الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر والريش، وما سوى ذلك فهو قمار حرام»»([49]).

والنقاش يقع هنا بلحاظ السند فإن العلاء بن سيّابة لا توثيق له في كتب الرجال، ولكن روى عنه ابن أبي عمير وغيره من أصحاب الإجماع؛ فإن قبلنا هذا المبنى في التوثيق أخذنا بالرواية؛ وإلا فلا.

ونحن لا نقبل مبنى الأخذ بروايات أصحاب الإجماع. وعليه فالرواية غير معتبرة بناء على هذا المبنى. نعم، يمكن الأخذ بها من باب الأخذ بروايات مَنْ يروي عنه أحد الثلاثة، ومنهم: ابن أبي عمير، وعليه فالرواية معتبرة.

وأما من حيث الدلالة فهي تدلّ على أن المراهنة في المذكورات جائزة، وما عداها حرام. وهي واضحة في الدلالة على المطلوب من حرمة المراهنة، إلا ما أخرجه الدليل.

الثانية: وهي تدل على أن كل ما قومر به فهو من الميسر، حتى اللعب بالجوز. وفيها عدة روايات:

1ـ رواية زياد بن عيسى، قال: سألت أبا عبد الله× عن قوله: {وَلا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ} فقال: كانت قريش تقامر الرجل بأهله وماله، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك([50]).

والرواية ضعيفة سنداً؛ بلحاظ علي بن الحكم. إضافةً إلى اشتراك أحمد بن محمد بين عشرات بين الثقة والضعيف وغير الموثّق. فالرواية قاصرة سنداً.

وأما دلالةً فهي واضحة في حرمة المقامرة، ولا خصوصية لوقوع المقامرة على الأهل؛ بلحاظ أنه قد ذكر المال أيضاً.

2ـ رواية جابر، عن أبي جعفر× قال: «لما أنزل الله على رسوله’ ﴿إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾. قيل: يا رسول الله، ما الميسر؟ فقال: كل ما تقومر به، حتى الكعاب والجوز، قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم، قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها»([51]).

وقد تقدم النقاش السندي فيها سابقاً.

وأما دلالةً فهي، وإنْ دلت على حرمة الصورة الثانية المتقدِّمة، فإنها تدلّ على حرمة هذه الصورة لانطباق عنوان المقامرة عليها. ومن البعيد جداً أن يكون المراد من عنوان ما تقومر به ما كان يمارس فيه القمار عرفاً، فيحرم، ولا تحرم المقامرة عليه؛ فإن هذا الفهم بعيد جداً، بل هي تدلّ على حرمة المقامرة، وحرمة ما تعنون بهذا العنوان، وإن لم يُلعب به بنحو القمارية والمراهنة، على ما ذكرنا سابقاً.

3ـ رواية محمد بن مسلم، عن أحدهما‘: قال: «لا تصلح المقامرة، ولا النهبة»([52]).

وهي رواية صحيحة سنداً، كما أشرنا لهذا في ما سبق.

ولكن النقاش في الدلالة. وذكرنا في ما سبق أيضاً أن الرواية تنهى عن المقامرة، وهي اللعب مراهنة، ولم تذكر المتعلَّق، ممّا يعني أنها أفادت الإطلاق، وهي دالة تماماً على حرمة الصورة التي نحن فيها. ومع ذلك ذكرنا إشكالاً على دلالتها على الحرمة.

4ـ رواية إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبدالله×: الصبيان يلعبون بالجوز والبيض ويقامرون؟ فقال: «لا تأكل منه؛ فإنه حرام»([53]).

وهي رواية صحيحة من حيث السند.

وأما دلالة فسيأتي أنها تدلّ على الحكم الوضعي، وهو عدم جواز التصرف في ما أُخذ من المقامرة، ولكن هل تدلّ ـ إضافةً لذلك ـ على الحكم التكليفي أو لا؟

الإجابة عن هذا السؤال مرتبطة بدلالة الحرمة الوضعية على عدم الجواز التكليفي أو عدم دلالتها؟، مع العلم أن الحرمة التكليفية لا تستتبع البطلان وضعاً؛ فإن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، وإنْ كان حراماً، ولكنه لا يستلزم بطلان البيع.

ولكن الحالة التي نحن فيها معاكسة، حيث نملك حكماً وضعياً بالبطلان، فهل يستلزم حكماً تكليفياً بالحرمة أو لا؟ فإن استلزم دلّت الرواية على الحرمة؛ وإلا فلا.

5ـ رواية السكوني، عن أبي عبدالله×: قال: «كان ينهى عن الجوز يجيء به الصبيان من القمار أن يؤكل، وقال: هو سحت»([54]).

وقد تقدم النقاش السندي فيها، فلا نعيد.

إضافةً إلى أن استفادة الحرمة منها كما هو الحال في الرواية السابقة.

والخلاصة: إن هذه الطائفة دالّة على حرمة المقامرة.

الثالثة: وفيها رواية واحدة، وهي: ما جاء في تفسير العياشي: عن ياسر الخادم، عن الرضا× قال: سألته عن الميسر؟ قال: «التفل من كل شيء، قال: الخبز والتفل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم وغيره»([55]).

وهي ضعيفة سنداً.

أما ما جاء في الرواية فإن كان التفل فهو رميك بالبزاق، أو البزاق نفسه. وكذلك هو سوء ريح جلد الإنسان، كما جاء في العين، للخليل. وكذا في لسان العرب: تَفَل بمعنى بصق، وهو بالفم، ولا يكون إلاّ ومعه شيءٌ من الريق.

وأما إن كان الثقل، لا التفل، فهو بمعنى متاع المسافر وحشمه، كما في العين. وكذا في لسان العرب: الثقْل الحمل الثقيل، والثَّقَل نقيض الخِفَّة.

وسواء كانت الرواية تحمل اللفظ الأول (التفل)، أو الثاني (الثقل)، فهي غير واضحة في معناها، إلا أن يكون الإمام قد قصد معنى ما لهذه الكلمة، وهو ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم وغيره؛ لمناسبة مع أحد المعنيين، وإلا فلا معنى لها، على ما ذكر بعض المحققين([56]). إضافةً إلى الضعف السندي فيها. فلا يمكن التعويل عليها في مقام الاستدلال.

الرابعة: وهي التي دلّت على قيء الإمام للبيض. وفيها رواية واحدة، وهي رواية عبد الحميد بن سعيد، قال: بعث أبو الحسن× غلاماً يشتري له بيضاً، فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها، فلما أتى به أكله، فقال له مولى له: إن فيه من القمار، قال: فدعا بطشت، فتقيأ، فقاءه([57]).

وهي رواية مجهولة سنداً؛ بلحاظ عبدالحميد بن سعيد، حيث لا توثيق له في كتب الرجال. ولكن روى عنه صفوان بن يحيى من أصحاب الإجماع. فإن أخذنا بهذا المبنى كانت الرواية معتبرة؛ وإلا فلا. وهو مبنى دار حوله نقاش في علم الرجال من أن أصحاب الإجماع إن رووا عن شخص فهذا يدلّ على قبول رواياته. وهناك من قال: إن هذا المبنى غير صحيح، فلا يركن إليه. وهذا هو الصحيح. ولكن الرواية معتبرة من باب آخر، وهو حجية مسانيد ومراسيل الثلاثة.

وأما دلالة فإن مجرد قيء الإمام لا يستلزم الدلالة على الحرمة، حيث قد يكون فعل الإمام قد صدر من جهة التنزُّه.

نعم، بناء على حرمة المقامرة، كما ظهر معنا في الطائفة الأولى والثانية من هذه الصورة، يكون قيء الإمام للبيض لجهة أن لا يصير الحرام الواقعي جزءاً من بدنه.

وقد تفرّع جدلٌ واسعٌ من هذه الرواية حول علم الإمام× بالموضوعات الخارجية، وهل أنه يملك ذلك فعلاً من غير توقف على الإرادة، كما دلت عليه جملة من الروايات، أو أن علمه تابع لإرادته واختياره، كما دلت عليه روايات أخر؟ وقد ذكر الكافي عدداً من هذه الروايات في الجزء الأول([58]). هذا وقد ذكر السيد الخوئي في التنقيح أن البحث حول علم الإمام من المباحث الغامضة، والأوْلى ردّ علم ذلك إلى أهله([59]).

والمتحصل من هذه الطوائف الأربع أن الأولى والثانية دالة على حرمة التقامر، إلا ما أخرجه الدليل، كما في دائرة جريان كتاب السبق والرماية على ما سيأتي، وأما الثالثة والرابعة فغير دالّة؛ إما لضعف في السند؛ أو لضعف في الدلالة؛ أو للاثنين معاً. وبالتالي فهذه الصورة، وهي التي تقع فيها المراهنة في غير آلات القمار، يكون حكمها الحرمة.

 

4ـ اللعب بغير آلات القمار من دون عوض

والبحث فيها يتمحور حول أدلة متعددة استدل بها العلماء لإثبات الحرمة أيضاً.

والأدلة التي نتعرض لها في المقام هي:

1 ـ الإجماع؛ 2ـ روايات السبق؛ 3ـ مفهوم القمار؛ 4ـ عنوان اللهو واللعب.

أما الدليل الأول، وهو الإجماع، فقد ادعاه عدد من الأصحاب. ولكن النقاش فيه تارة يقع بلحاظ الصغرى؛ وأخرى بلحاظ الكبرى. أما أولاً فنحن نشكّك في أصل انعقاد مثل هذا الإجماع، حيث إن كلام الشيخ في المبسوط([60]) حدّد الحرمة بما إذا كانت بآلات القمار مع المراهنة أو بدونها، ولم يشر إلى حرمة هذه الصورة أصلاً. إضافةً إلى أنه من المحتمل جداً أن يكون الإجماع مدركيّاً مستنداً إلى أحد الوجوه الآتية.

وأما الدليل الثاني، وهو روايات كتاب السبق والرماية، فنحن في هذا الدليل لا نستعرض كافة الروايات الواردة في هذا الكتاب، حيث إن لها فصلاً خاصاً، سوف يأتي النقاش فيه، ولكن نحاول ذكر عدد من الروايات؛ من أجل معرفة ما تدل عليه، وهل يمكن أن نفهم منها حرمة هذه الصورة أو لا؟

والروايات هي:

1ـ رواية حفص، عن أبي عبد الله× قال: لا سبق إلا في خفّ أو حافر أو نصل([61]).

وهي رواية صحيحة سنداً.

2ـ رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله× قال: سمعته يقول: لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل([62]).

وهذه الرواية فيها معلى بن محمد، وهو غير موثَّق في كتب الرجال. ولكن بناء على مبنى وثاقة المعاريف مع عدم القدح فيهم يمكن توثيقه؛ حيث إنه منهم. وعليه تكون الرواية معتبرة، وإلا فلا. ومبنى وثاقة المعاريف مع عدم القدح فيهم هو الصحيح.

3ـ رواية الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال رسول الله’: لا سبق إلا في حافر أو نصل أو خف([63]).

والرواية هنا معتبرة.

وعلى أية حال ينصبّ البحث هنا على مستوى دلالة الروايات. ومن استدل بها لإثبات حرمة هذه الصورة قدّم استدلاله بالشكل التالي: إنّ السبْق ـ بالسكون ـ مصدر لكلمة سبقه، أي تقدمه. وعليه فيراد نفي المشروعية للمسابقة، وإن لم يكن فيها رهان، فيكون مفاده على وزان «لا رهبانية في الإسلام».

ولكن يمكن أن يرِد على هذا الاستدلال:

أولاً: إن هذا الاستدلال يتم لو كان المذكور هو السبْق ـ بسكون الباء ـ. ولم يثبت ذلك، بل من المحتمل أن تُقرأ بالفتح، أي السَبَق، وهو العوض الذي يتراهن عليه المتسابقون. وعليه فالرواية تدل على حرمة المراهنة في غير المذكورات.

ثانياً: يمكن الادعاء أن المراد السَبَق، لا السبْق؛ بقرينة الرواية عن أبي عبد الله يقول: لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام، ولا بأس بشهادة المراهن عليه، فإن رسول الله قد أجرى الخيل وسابق، وكان يقول: إن الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر والريش، وما سوى ذلك فهو قمار حرام.

وقد تقدمت هذه الرواية في ما سبق، مع النقاش السندي، وذكرنا أنها رواية معتبرة. وعليه فإنها تكون قرينة على أن المراد والمقصود من سائر الروايات في هذا الباب أو الكتاب (السبق والرماية) السَّبَق ـ بالفتح ـ، لا السبْق ـ بالسكون ـ. وبالتالي فهي تدل على حرمة المراهنة، لا على حرمة مطلق الألعاب والمسابقات.

وأما الدليل الثالث فإن مفهوم القمار يصدق على هذه الصورة، حيث إنه مطلق المغالبة، ولو بدون عوض، كما ذكرت الروايات أن اللعب بالشطرنج بدون المراهنة قمار. وعليه فتشمله الإطلاقات الدالة على حرمة القمار.

ولكن يرِدُ على هذا الاستدلال:

أولاً: إن الرهان مأخوذ في مفهوم القمار، سواء كان اللعب بالآلات المعدة له أم لا، وإطلاق القمار عليه لا يدل على الحقيقة.

ثانياً: لو سلّمنا أن إطلاق القمار عليه على سبيل الحقيقة فإن القسم المذكور خارج بالسيرة القطعية على الجواز.

وعليه فقد قام الدليل على حرمة المقامرة، إضافة إلى حرمة اللعب بآلات القمار، مع عدم وجود دليل يدل على حرمة هذه الصورة.

وأما الدليل الرابع، وهو صدق عنوان اللهو واللعب، وهي عناوين محرمة في لسان الروايات، وهي عديدة:

1ـ رواية الفضيل، قال: سألت أبا جعفر× عن هذه الأشياء التي يلعب بها النّاس النرد والشطرنج، حتى انتهيت إلى السُدَّر؟ فقال: إذا ميَّز الله الحق من الباطل مع أيِّهما يكون؟ قال: مع الباطل، قال: فما لك والباطل؟([64]).

وهناك نقاش سندي فيها؛ بلحاظ سهل. فإن قبلت وثاقته كانت الرواية معتبرة. إضافة إلى عبد الله بن عاصم؛ حيث لم يوثّق، ولكن روى عنه أحد أصحاب الإجماع، وهو أبان بن عثمان. فإن تجاوزنا هاتين النقطتين سنداً فقد تمت المرحلة السندية. لكن الصحيح عدم اعتبار الرواية؛ لعدم صحة الاستناد إلى مبنى أصحاب الإجماع.

ونأتي بعدها إلى عالم الدلالة، حيث إن الله تعالى عندما يميّز بين الحق والباطل فإن هذه الألعاب، سواء كانت من قبيل: الشطرنج أو النرد، وهما من جملة آلات القمار، أو كانت لعبة من غير آلات القمار، ينطبق عليها عنوان الباطل، بلحاظ أنها ليست من الحق، وليست مما يقرِّب إلى المولى، فسوف تكون من الباطل الذي يؤدي إلى ضياع الأوقات من دون ترتُّب فائدة عليه.

ولكن يردُ على هذا البيان: إنه لا ملازمة بين الحرمة والباطل، فإنه قد يكون شيء ما داخلاً تحت عنوان الباطل ومع ذلك لا يكون حراماً، كما قد ينطبق عنوان الباطل على المكروهات أو على ضياع الأوقات من دون فائدة. فكأن الرواية إرشادية إلى عدم تضييع الوقت والتلهي بهذه الأمور. وبالتالي فهي بعيدة عن التأسيس لحكم شرعي إلزامي.

2ـ رواية عبد الواحد بن المختار، قال: سألت أبا عبد الله× عن اللعب بالشطرنج؟ فقال: إن المؤمن لمشغول عن اللعب.

ولكن يرِد على الاستدلال بها: إنها إرشادية إلى أنه لا ينبغي للمؤمن اللعب بأمثال هذه الأمور التي لا تفيد في دنياه وآخرته. مع العلم أنها غير معتبرة؛ فإن علماء الرجال لم يوثِّقوا عبد الواحد بن المختار.

وقد يكون في الرواية مشاكل سندية أخرى، إلا أن هذا يكفي لعدم اعتبارها.

3ـ رواية زرارة، عن أبي عبد الله× أنه سئل عن الشطرنج، وعن لعبة شبيب، التي يقال لها: لعبة الأمير، وعن لعبة الثلاث؟… فقال: مع الباطل، قال: فلا خير فيه([65]).

والرواية معتبرة سنداً.

ولكن يرِدُ على دلالتها أن نفي الخير أعم من الحرمة والكراهة، ولا يمكن للمستدل أن يدعي أن نفي الخير يلازم الحرمة، فإن إثبات ذلك دونه خرط القتاد.

4ـ رواية عبد الله بن المغيرة، رفعه، قال: قال رسول الله’ في حديث: كل لهو المؤمن باطل، إلا في ثلاث: في تأديبه الفرس، ورميه عن القوس، وملاعبته امرأته؛ فإنهن حقّ([66]).

وهي رواية غير معتبرة؛ بسبب الرفع والإرسال.

ومن الواضح أن المسابقة وإن كانت بغير عوض فإنها تلهي عن ذكر الله تعالى.

ولكن يرِدُ على الاستدلال بها: إنها ضعيفة سنداً. إضافة إلى عدم وجود دليل على حرمة مطلق اللعب. فكأن المراد من الباطل هنا هو عدم الفائدة المترتبة، وذلك بلحاظ أن النبي قال في آخر كلامه: فإنهن حقٌّ، حيث يترتب على هذه الأمور فوائد. فكأن المراد من الحق والباطل هنا هو ترتُّب الفائدة وعدم ترتبها. ويضاف إليه أنه قد يقال لغةً: إنه لا فرق بين اللهو واللعب، فهما بمعنى واحد، أو متساويان في الخارج، فكل ما ينطبق عليه أحد العنوانين ينطبق عليه الآخر، وبالعكس. وبناء عليه لا يعقل أن يكون اللعب حلالاً في هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الرواية، وغيرُها حرام؛ إن السيرة المتشرعية قائمة على خلاف هذا الادعاء، بل قد يدّعى أكثر من هذا، وهو أنه سواء اتحد معنى اللهو واللعب أم لا فلا مجال لانطباق هذين المفهومين على كثير من الاعمال التي تسمّى في زماننا هذا بالألعاب؛ لأنه إن كان اللعب ضد الجد، كما في لسان العرب، أو كان بمعنى من يفعل فعلاً لا يقصد به مقصداً صحيحاً، كما في المفردات، أو من يعمل عملاً لا يترقب فيه نفعاً، كما في مجمع البحرين، فإنه على هذه المعاني الثلاثة لا تسمى كثير من الأمور التي يمارسها الناس في هذا الزمان ألعاباً، فإن الرياضة ـ مثلاً ـ هي على خلاف هذه المعاني الثلاثة، فهي ليست ضد الجد، ولا من الأعمال التي لا نفع فيها، أو لا يقصد بها مقصداً صحيحاً، بل هي أعمال هادفة، وفيها العديد من المنافع. وبالتالي ينبغي عدم تحميل المعنى اللغوي لكلمة لعب على ما هو متداول عرفاً أو اصطلاحاً حديثاً في هذا الزمن.

وأما اللهو فإن كان بمعنى ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه ويهمه فليس كل ما كان كذلك اكتسب حرمة شرعية.

والمتحصِّل أنه لا ينبغي أبداً أن نسمّي المسابقات والأعمال الرياضية والفكرية وغيرهما بالألعاب، تبعاً لما تحمله هذه المفردة في اللغة، بل ينبغي أن تسمى باسم آخر؛ إذ لا يوجد عُرْفِيٌّ في هذا الزمن يؤمن بعدم وجود فوائد وأغراض عقلائية للألعاب الرياضية وغيرها.

والمحصَّل في هذه الصورة هو عدم وجود دليل ينهض لإثبات الحرمة. وبالتالي فالمصير إلى حلية وجواز هذه الصورة.

 

 

ـ يتبع ـ

 

 

الهوامش

 

(*) باحث في الحوزة العلمية، من لبنان.

([1]) الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين 5: 161.

([2]) محمد بن أحمد الأزهري، تهذيب اللغة 9: 148.

([3]) ابن منظور، لسان العرب 5: 113.

([4]) فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين 3: 463.

([5]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 129.

([6]) الكركي، جامع المقاصد 4: 24.

([7]) النراقي، مستند الشيعة 14: 104.

([8]) الشيخ الأنصاري، المكاسب 1: 133.

([9]) السبزواري، مهذب الأحكام 16: 140.

([10]) محمود عبد الرحمن، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 3: 112.

([11]) فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين 3: 463.

([12]) الخوئي، التنقيح 35: 572.

([13]) الأنصاري، المكاسب 1: 185.

([14]) حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم 14: 242.

([15]) مجمع البحرين 3: 521.

([16]) ابن منظور، لسان العرب 5: 298.

([17]) الفراهيدي، العين 7: 136.

([18]) ابن منظور، لسان العرب 1: 759.

([19]) المصدر السابق 12: 270.

([20]) الفراهيدي، العين 7: 370.

([21]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 17: 165، باب 35 (تحريم كسب القمار)، ح4.

([22]) الفاضل المقداد، كنـز العرفان في فقه القرآن 2: 17.

([23]) الطوسي، المبسوط 8: 58.

([24]) الحلي، تذكرة الفقهاء 12: 141.

([25]) النجفي، جواهر الكلام 22: 109.

([26]) يوسف البحراني، الحدائق الناضرة 8: 186.

([27]) أحمد الخوانساري، جامع المدارك 3: 27.

([28]) الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 370.

([29]) السبزواري، مهذب الأحكام 16: 139.

([30]) الحر العاملي، الوسائل 17: 164، باب 30 (تحريم كسب القمار)، ح1.

([31]) الأنصاري، المكاسب 1: 185.

([32]) الحر العاملي، الوسائل 17: 165، باب 35 (تحريم كسب القمار)، ح4.

([33]) المصدر السابق 17: 166، ح5.

([34]) المصدر السابق 17: 166، ح6.

([35]) الكليني، الكافي 6: 435، باب النرد والشطرنج، ح3.

([36]) جعفر السبحاني، الموسوعة الرجالية الميسرة: 228.

([37]) الكليني، الكافي 6: 435، باب النرد والشطرنج، ح2.

([38]) المصدر السابق 2: 436، ح6.

([39]) المصدر السابق 2: 436، ح8.

([40]) المصدر السابق 2: 437، ح17.

([41]) الحر العاملي، الوسائل 17: 165، باب 35 (تحريم كسب القمار)، ح4.

([42]) الكليني، الكافي 6: 436، باب النرد والشطرنج، ح1.

([43]) الحر العاملي، الوسائل 19: 251، كتاب السبق والرماية، باب 1، ح6.

([44]) الخوئي، مصباح الأصول (من الموسوعة) 47: 603.

([45]) الحر العاملي، الوسائل 11: 410، أبواب آداب السفر، باب 30، ح7.

([46]) المصدر السابق 11: 411.

([47]) المصدر السابق 11: 483، باب 10 (أحكام الدواب)، ح6.

([48]) المصدر السابق 19: 251، باب 2، ح1.

([49]) المصدر السابق 19: 253، باب 3، ح3.

([50]) المصدر السابق 17: 164، باب 35 (تحريم كسب القمار)، ح1.

([51]) المصدر السابق 17: 165، باب 35، ح4.

([52]) المصدر السابق 17: 166، باب 35، ح5.

([53]) المصدر السابق 17: 166، باب 35، ح7.

([54]) المصدر السابق 17: 166، باب 35، ح6.

([55]) المصدر السابق 17: 167، باب 35، ح12.

([56]) الخوئي، التنقيح 35: 574.

([57]) الحر العاملي، الوسائل 17: 165، باب 35، ح2.

([58]) الكليني، الكافي 1: 256 ـ 258.

([59]) الخوئي، التنقيح 35: 579.

([60]) الطوسي، المبسوط 8: 221.

([61]) الحر العاملي، الوسائل 19: 253، كتاب السبق، باب 3، ح1.

([62]) المصدر السابق 19: 253.

([63]) المصدر السابق 19: 253.

([64]) المصدر السابق 17: 324، باب 104 (تحريم اللعب بالنرد)، ح3.

([65]) المصدر السابق 11: 321.

([66]) المصدر السابق 19: 251، باب 1، ح6.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً