أحدث المقالات

 

أ . د. محمد علي آذرشب(*)

تمهيد ـــــــ

لابدّ أولاً أن نبيّن قصدنا من القيم الدينية ليكون مدخلاً لدراسة هذه القيم في شعر الشاعر الجزائري مفدّي زكريا.

الدين هو المشروع الإلهي لإحياء «الإنسان»؛ ودليلنا على ذلك قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾.

والإحياء هنا ليس الإحياء البيولوجي، الذي يشترك فيه الإنسان مع سائر الحيوانات، بل هو إحياء كل ما أودعه الله في الإنسان من طاقات كامنة تدفعه إلى ارتقاء سلم الكمال المعنوي والمادّي.

ولتوضيح الفكرة نقول: الإنسان بالمفهوم القرآني يحمل «نفخة» من روح ربّ العالمين تؤهله لحمل أعباء «خلافة الله في الأرض». وهذه النفخة مودعة في الجسد الطيني بما يرمز إليه «الطين» من هبوط. وإذا اندثرت النفخة الإلهية تحت ركام الطين يبقى الإنسان يعيش همومه الخاصة وذاتياته وأنانياته، دون أن يتعدّاها إلى «مَثَل أعلى» خارج هذه الذات. وعندها يصاب الإنسان ويصاب المجتمع بكل مظاهر التردّي الفردي والاجتماعي، من ضعف واستسلام وجمود وتحجّر وذلّ وجهل واستكانة وخوف ونزوع إلى الراحة والبطر والكسل، هذا إضافة إلى حالة التمزّق والتشتت والتعصّب الأعمى.

والإحياء يتجه إلى «تحرير» الإنسان من «ظلمات» هذه الحالة، وإلى هدايته نحو «نور» الحركة نحو تحقيق الأهداف السامية، من عزّة وكرامة ووحدة ووئام وقوّة ومنعَة، وقدرة على الدفاع، وعلى الابتكار والإبداع، وعلى ضبط النفس وتوجيهها نحو ما يحقق خير الإنسان والمجتمع الإنساني.

وكل ذلك من أهداف الدين، ويندرج ضمن إطار القيم الدينية.

من هو مفدّي زكريا؟ ـــــــ

هو مفدي زكريا بن سليمان صالح([1]). ولد في بلدة بني يزفن (جنوبي الجزائر) عام 1908م، وتوفي في تونس عام 1977م.

عاش في الجزائر وتونس والمغرب، وزار القاهرة ودمشق وبيروت والكويت وقطر وطرابلس.

تلقى تعليمه الأولي في مسقط رأسه، ثم مدرسة السلام القرآنية، التي مكث فيها عامين محرزًا شهادتها الابتدائية، لينتقل بعدها إلى المدرسة الخلدونية، التي تلقى فيها الحساب والهندسة والجغرافيا والتاريخ، ثم التحق بجامع الزيتونة، فأخذ قسطًا من علوم اللغة والأدب، وهناك تكونت شخصيته الثقافية والسياسية؛ عززها التقاؤه بالكثير من العلماء والمثقفين في ذلك العهد.

عمل في الصحافة؛ حيث رأس تحرير مجلة الحياة عام 1933، وحرر في جريدتي البرلمان والشعب الجزائريتين 1937، ثم في إذاعة تونس، ومارس عدة أعمال بعد استقلال الجزائر، منها: التجارة والترجمة والتعليم الحرّ.

كان أمينًا عامًا لحزب نجمة أفريقيا الشمالية منذ عام 1936، ثم أمينًا عامًا لحزب الشعب الجزائري، وانضم إلى الشبيبة الدستورية وجبهة التحرير الوطني في تونس، وانشدّ إلى أهداف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي أسسها ابن باديس عام 1931.

أصبح الناطق الرسمي للحركة الثورية في الأربعينيات، وكلفه ذلك السجن لخمس مرات ما بين 1937 و1959م.

الإنتاج الشعري ـــــــ

له ثلاثة دواوين: «اللهب المقدس»([2])؛ و«تحت ظلال الزيتون»([3])؛ و«من وحي الأطلس»([4])، وله «إلياذة الجزائر»([5])، وأورد له كتاب «الشعر الجزائري الحديث، اتجاهاته وخصائصه الفنية»، للدكتور محمد ناصر، عددًا من القصائد والنماذج الشعرية، وجمع الدكتور محمد ناصر في كتابه عن مفدّي مجموعة من أشعاره المجهولة السابقة زمنيًا على ما نشر من شعره  سنة 1953 وما بعدها، وأعيدت طباعة كافة آثاره الإبداعية، كما طبعت دراسات وأبحاث عنه في الذكرى الخامسة والعشرين لوفاته، وفي بعض المناسبات الوطنية.

كتب كلمات النشيد الوطني الجزائري، وكلمات معظم الأناشيد الوطنية فيها، مثل: نشيد التحرير الوطني، ونشيد الشهداء، ونشيد الانطلاقة الأولى.

ومن أعماله الأخرى له كتابان: «تقويم المغرب العربي الكبير»([6])؛ و«أمجادنا تتكلم»([7]) .

وقفة عند الأصل العائلي لك ـــــــ

استوقفني أصل عائلة مفدّي زكريا، فقد ذُكر أن أصولها تعود إلى الرستميين، والرستميون فرس، ولذلك وجد كاتب هذه السطور نوعًا من القرابة مع هذه الأسرة الجزائرية، وهي قرابة تثير في النفس شجونَ أيامِ وحدتنا الحضارية، وتداخل شعوب دائرة الحضارة الإسلامية وتمازجها وتعارفها.

ولا مجال هنا للحديث عن الدولة الرستمية في الجزائر التي حكمت في تاهرت من 156 ـ 296 للهجرة.

ولكن لا بأس من الإشارة إلى أن هذه الدولة أسسها عبدالرحمن بن رستم (144 ـ 168هـ). وهذه الدولة، رغم تبنيها للمذهب الإباضي، كانت تفسح المجال لكل المذاهب لأن تمارس نشاطها العلمي بحرية، كما كانت تعمل بنظام الشورى.

ويظهر من الوثائق التاريخية أن عبدالرحمن بن رستم كان واليًا على (القيروان)، وهذا الحضور الفارسي في مدينة القيران (في تونس حالياً) يلفت النظر؛ لأن المدينة اسمها فارسي (كاروان)، أي محطة القوافل. ثم بعد حوادث استطاع عبد الرحمن هذا أن يؤسس الدولة الرستمية في تاهرت (في الجزائر حالياً)، وهذا الاسم البربري يعني أيضاً محطة القوافل.

ويذكر اليعقوبي: «والمدينة العظمى مدينة تاهرت جليلة المقدار، عظيمة الأمر، تسمى عراق المغرب، لها أخلاط من الناس، غلب عليها قوم من الفرس»([8]).

وفي كتاب ابن الصغير المالكي، الذي عاصر الدولة الرستمية، يرد ذكر «العجم» مرات ، ويتحدث عن ابن وردة، وهو واحد من «العجم» ابتنى في تاهرت سوقاً يُعرف به([9]).

مفدي زكريا عاشقًا ـــــــ

إن شاعرنا من الذين توفرت لهم الظروف النفسية والشعورية والاجتماعية كي يعيش مثلاً أعلى خارج ذاته، ويخرج من قوقعة مصالحه الشخصية ليسمو ويرتفع، ومن سما وارتفع رأى الجمال في مثله الأعلى، ومن رأى الجمال عشق.

مفدّي عشق الجزائر وتغزّل فيها، أي وظّف شعره لتحقيق عزّتها وكرامتها واستقلالها وتحريرها من المستعمر الفرنسي عسكريًا وفكريًا وثقافيًا، ولذلك كله جاء شعره طافحًا بالقيم الدينية بالمعنى الذي ذكرناه لهذه القيم.

عِشْقُه لهدفه الكبير جعله يستهين بكل هدف غيره، ولذلك آمن بقدسية الشعر، وبقدسية الهدف الإحيائي الذي يجب أن يتجه إليه الشعر، يقول([10]):

وإننا ـ الشعراءُ الناسُ ـ ما فتئتْ
رسالة الشعر في الدنيا مقدسةٌ
فكم هتكنا بها الأستارَ مغلقةً
وكم جلونا بها الأسرار مبهمةً
وكم صرعنا بها في الأرض طاغيةً
وكم حصدنا بها الأصنام شاخصةً
وكـــم رفعنـــا بها أعـلام نهضتنا
ـ
  أرواحنا تغمرُ الإنسانَ إيمانا
لولا النبوءةُ كان الشعرُ قرآنا
وكم غزونا بها في الغيب أكوانا
وكم أقمنا بها للعدل ميزانا
وكم رجمنا بها في الإنس شيطانا
وكم بعثنا من الأصنام إنسانا
فخلّـــد الشعر فـــي الدنيا مزايانا
ـ

ولعل ارتباط الشاعر بأصالته وعشقه لتراثه دعاه إلى الالتزام الصارم بالشعر العمودي، ورفض فكرة الخروج على أوزان الشعر العربي وقوافيه، يقول:

وعابثين أرادوا الشعرَ مهزلةً
تنكّروا للقوافي حين أعجزهُمْ
قالوا: جمودٌ على الأوضاع وزنكمُ
فأين من جَرَس الإيقاع خلطُكُمُ
وكيف؟! هــل خلّد التاريخ سخفكمُ
ـ
فأزعجوا برخيص القول آذانا
صوغُ القوافي وضلّوا عن ثنايانا
فشعرنا الحرُّ لا يحتاج أوزانا
ما الشعر إن لم يكن دوحاً وأغصانا؟
مهمـــا تفنّـنَ إخراجاً وإتقانـــا؟
ـ

قصيدة الذبيح الصاعد ـــــــ

هذه القصيدة نظمها سنة 1955 في سجن بربروس أثناء تنفيذ حكم الإعدام على أول شهيد دشن المقصلة، وهو أحمد زبانا.

وفيها يرسم صورًا شعريّة تعبّر عمّا يحسّه من جمال مشهد التضحية وجمال المضحّي، يقول([11]):

قـــام يختـــال كالمسيح ئيدا
ـ
يتهادى نشــــوان يتلو النشيـــدا
ـ

فالشهيد في اتجاهه إلى المقصلة (يختال) وهي مشية فخر واعتزاز وفرح وحبور، و(يتهادى نشوان)، أي يتمايل كالثمل، و(يتلو النشيد)، أي يعزف على أوتار حنجرته أجمل الالحان، والمشهد مفعم بالجمال، جمال شعور الشهيد، وجمال خروجه من ذاتيته وأنانيته (الثمل)، وجمال الصوت (النشيد).

بـــاسم الثغر كالملائــك أو الطفـ
ـ
ـــل يستقبل الصبــاح الجــديــــدا
ـ

والصورة تزداد جمالاً حين يكون المتقدم إلى الشهادة (باسم الثغر)، فهو مبتهج ابتهاج براءة وطهر ونقاء (كالملائك أو كالطفل)؛ لأنه ذاهب إلى (صباح) حياة مضيئة مشرقة و(جديدة).

شـــامخًا أنفه جـــلالاً وتيـــهاً
ـ
رافعاً رأســـه يناجــي الخلـــودا
ـ

جمال الشعور بالعزّة والكرامة (شامخًا أنفه)؛ لشعوره بجلال موقفه، ولإحساسه بالفخر والاعتزاز؛ لأنه خرج من العالم المحدود إلى عالم (الخلود).

وتتوالى صور الجمال في الشهيد، ويتحول إلى (روح) تسمو في (ليلة القدر)، وكأنه السلام الذي تبشّر به (سورة القدر):

وتسامـــى كالـروح فـي ليلة القد
ـ
رِ ســلامًا يشــعّ فـي الكون عيدا
ـ

بعدها يدخل الشاعر في وجدان الشهيد ليتماهى فيه، ويستشعر صموده وبطولته ورحمته حتى على جلاده، وهي صورة جمالية رائعة أن يدعو الشهيد جلاده بأن يسفر عن وجهه ولا يتلثم، لأنه يكنّ الحبّ له أيضاً، ولا يحمل حقداً على أحد، إذ يرحّب بالموت الذي يهب الحياة لشعبه ووطنه:

اشنقوني فلست أخشى حبالاً
وامتثل سافرًا محيّاك جلاّ
واقضِ يا موتُ في ما أنت قاضٍ
أنا إن مـــت فالجــزائـــر تحـيا
ـ
واصلبوني فلست أخشى حديدا
دي، ولا تلتثم، فلستُ حقودا
أنا راضٍ إن عاش شعبي سعيدا
حـــرة، مستقلــة، لــن تبيــدا
ـ

وما أروع التضمين القرآني في قوله: «واقض ما أنت قاضٍ» فهي قولة السحرة لفرعون بعدما آمنوا واستعدوا لأي مصير فيه رضا الله سبحانه: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾.

وتتقاطر صور الجمال والعظمة في رسم مشهد تقدم أحمد زبانا نحو مذبح الشهادة، ويوصيه أن يبلغ رفاقه في السماوات أنباء ثورة الجزائر والثوار الجزائريين من كهول وشباب استرخصوا الحياة في سبيل العزّ والكرامة والحرية، ويصوّر عدالة قضيته بمنطق إنساني، فطبيعة الإنسانية الحرّة تأبى الذل والتشريد والجبن أمام الظالمين، كل ذلك في تضمينات قرآنية بشأن (المستضعفين)، وفي عبارات: (يا أرض ابلعي) :

ليس في الأرض سادة وعبيد
أمن العدل صاحب الدار يشقى
أمن العدل صاحب الدار يَعرى
ويجوعُ ابنها فيعدمُ قوتاً
ويبيح المستعمرون حماها
يا ضَلال المستضعفين إذا هم
ليس في الأرض بقعةٌ لذليل
يـــا سماء، اصعقــي الجبان، ويا أر
ـ
كيف نرضى بأن نعيش عبيدا؟!
ودخيل بها يعيش سعيدا؟!
وغريبٌ يحتلُّ قصراً مشيدا؟
وينالُ الدخيل عيشاً رغيدا؟؟
ويظل ابنُها طريداً شريدا؟؟
ألفوا الذل واستطابوا القعودا!!
لعنته السماءُ فعاش طريدا
ض ابلعي القانــع الخنوعَ البليــدا
ـ

زنزانة العذاب رقم 73 ـــــــ

في زنزانة مظلمة زُجّ بها الشاعر سنة 1955 نظم هذه القصيدة وحفظها؛ لاستحالة كتابتها، وفيها صور رائعة للنفس الراضية المطمئنة للشاعر، كما تتضمن رسم لوحة فنية فيها مشاعر العاشق: عاشق (سلوى)، وعاشق (الجزائر)، وكأن صور الجمال تمازجت في ذهنه بين الحبيب (المرأة)، والحبيب (الوطن)، والحبيب (الحرية).

هذه القصيدة تذكرنا بما أنشده أبو فراس الحمداني في سجنه بمنفاه، حين راحت مشاعره تطوف حول الحبيبة التي تقول له:

أراك عصـــيّ الدمــع شِيمتك ‌الصبر
ـ
أما للهوى نهــــيٌ عليك ولا أمــر
ـ

وواضح من سرد القصيدة أنه يبث مشاعره نحو مثله الأعلى الحبيب، وهي كرامته وعزته وحريته، فهذه الحبيبة تقول له: إن الدهر أنزل بك ما أرى من المصائب، فيجيبها: بل إن ما أتحمله هو من حبي لكِ، لا من الدهر:

فقالت: لقد أزرى بك الدهر بعدنــا          فقلــت: معاذ الله، بل أنـتِ لا الدهـــر

ثم يختم أبو فراس قصيدته ببيان ما يهدف إليه من كل ما أنشده، وهو جمال المعالي، جمال العزّة والكرامة:

تهون علينا في الخطوب نفوسنا
ونــحن أنـــاس لا توســـط بيننا
ـ
ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
لنا الصدر دون العالـــمين أو القبــر
ـ

ومفدي زكريا يصدّر قصيدته بتصوير مشاعره المطمئنة، ورضاه بكل ما ينزل به في سبيل ما يعشقه([12]):

سيان عندي مفتوح ومنغلق
أنام ملء عيوني غبطـــة ورضــى
ـ
يا سجنُ بابُك أم شدّت به الحَلَقُ
على صياصيك لاهــــمٌّ ولا قــلق
ـ

وفي جوّ هذه النفس الهادئة الوادعة تمتلئ مشاعره بنجوى الحبّ وذكرى الحبيب:

وربّ نجوى كدنيا الحبّ دافئة
عادت بها الروح من (سلوى) معطّرة
ـ
قد نام عنها رقيبي ليس يسترقُ
فالسجن من ذكر (سلوى) كله عبـق
ـ

وتتماهى (سلوى) مع (الجزائر) في الهوى والحبّ:

يا لا ئمي في هواها إنها قبس
بنــت الجزائــر أهوى فيكِ طلعتها
ـ
من الجزائر والأمثال تنطبقُ
فكــل ما فيك من أوصافها خُلُــقُ
ـ

هذا الحبّ مقدّس، لأنه حبٌّ للجمال، وحبّ الجمال هو من حبّ الله الجميل المطلق:

أحبّها مثل حبّ الله أعبدها
أرض الجــزائر فــي أفريقيا قُدُسٌ
ـ
آمنتُ بالله لا كفرٌ ولا نزقُ
رحابها من رحاب الخلد إن صدقوا
ـ

والقصيدة تتضمّن درسًا هامًا في التضحية والفداء والإقدام وعدم الخضوع لوساوس وضع السلاح، أو ما يسمى السلام الخادع، وإنه لدرس هام لكل المقاومين والمدافعين عن عزّتهم وحريّة بلدانهم:

وضـــعُ الســلاح أحـاديث ملفّقة
ـ
خرافـــةٌ صادها للكيد مختلــــق
ـ

ويرفض تطميع فرنسا بالمال والمتاع، والتلويح بالثوب والرغيف؛ لتجعل أهداف الجزائريين هابطة تافهة:

لا تشـــغــــلــــــيــنــا بأثــــواب وأرغــــفـــة        أهــدافـنا المجــد ليــس الخبز والخِرَق

ويهزأ بالوعود التي يقطعها الجلادون لضحاياهم، ويرى أن الحقّ لا يُنال إلا بالجهاد الدامي، لا بالمعاهدات والاتفاقيات:

فكم قطعتِ عهوداً أصبحت حُلماً
حقـــوقنا بـــدمِ الأحــرار نكتبها
ـ
حتى غدونا بغير الحرب لا نثق
لا الحبــرُ أصبح يعنينا ولا الــورقُ
ـ

ونصر السماء لا يأتي إلاّ للشجعان ، والعزّ لا يتحقق إلاّ بحركة شعورية ثائرة (مغامرة):

لا أبتغـــي العــزّ إلاّ فــي مُغـــامرة
ـ
إن السمــاوات للمقــدام تنفتــــق
ـ

وقال الله ـــــــ

تحت عنوان: «وقال الله» أنشد الشاعر قصيدته، وهو في سجن «البرواقية»، مخلدًا الذكرى الثالثة للثورة الجزائرية، وألقيت في مهرجان أقيم في تونس بهذه الذكرى في نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1957، ومطلعها([13]):

دعـــا التــاريخ ليلَك فاستجابــا
ـ
(نفمبر)  هـــل وفيـــتَ لنـــا النصـابا؟
ـ

وفي هذه القصيدة يرسم بصورة فنية رائعة، ولغة بسيطة واضحة، سنن التاريخ في نصرة الشعوب من منظار قرآني، ومن هنا فقد جاءت مفعمة بالقيم الدينية.

 فالشعب إذا تحرّك فإن ليلته المظلمة سوف تتحول إلى ليلة القدر لترسم قَدَره، وتكون بذلك خيرًا من ألف شهر:

وهل سمع المجيب نداء شعب
زكت وثباتــه عــن ألـف شهـــر
ـ
فكــانت ليلـــة القــدر الجوابا؟
قضاها الشعب يلتحــــق السرابــا
ـ

وفي تضمين جميل لسورة (المزمل) تتحول هذه الليلة إلى ليلة القدر بناشئة الليل التي هي أشدّ وطاً وأقومُ قيلاً، وليست هذه الناشئة إلاّ لهيب الثورة الذي أضاء دجنّة الليل:

بناشئة هناك أشدّ وطأً
مضت كالشهب وانحدرت شظايـــا
ـ
وأقوم منطقاً وأحدّ نابا
تلهَّـبُ فــي دُجنّتهـــا التهــابـا
ـ

وتستمر تضمينات آيات سورة (القدر) وسورة (المزمل)، وكأنه يعيد إخراجها بلغة الثورة والحركة نحو المثل الأعلى السامي.

ثم يذكر سنّة إلهية في النصر، وهي:  ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ بلغة حوارية بين الشعب والله سبحانه:

وقال الله: كن يا شعب حرباً
وقال الشعب: كن ياربّ عوناً
فكــان وكـــان مــن شعبٍ وربٍ
ـ
على من ظلّ لا يرعى جنابا
على من بات لا يخشى عقابا
قـــرار أحــدث العجــب العجابا!
ـ

ويصوّر ما أحدثته ثورة الجزائر من زلزال في فرنسا، وما فجرته من روح جهادية واستشهادية، ويطوف على ما في الجزائر من جنات وخيرات، ثم يتناول مسألة قديمة جديدة هي اتهام الثائرين المسلمين بالإرهاب، وأنهم إذا انتصروا فسيقتلون الأجانب وأتباع الأديان الأخرى، فيتصدى لهذه التهمة بذكر القيم الإسلامية في التعامل مع الآخر، والاستشهاد بتعامل المسلمين في التاريخ:

وقالوا: في الجزائر سوف يَلقى
همُ كذبوا وما لهُمُ دليلٌ
ونحن العادلون إذا حكمنا
ونحن الصادقون إذا نطقنا
وعن أجدادنا الأشراف إنّا
كرامٌ للضيوف إذا استقاموا
ونحترم الكنيسةَ في (حمانا)
وكان محمد نسباً لعيسى
وموسى كــــان يــأمر بالتآخــي
ـ
أجانبها ـ إذا انتصرت ـ تبَابا
وكان حديثهم أبداً كِذابا
سلوا التاريخَ عنا والكتابا
ألفِنا الصدق طبعاً لا اكتسابا
ورِثنا النُّبل والشرفَ اللبابا
بسطنا في وجوههمُ الرحابا
ونحترم الصوامعَ والقبابا
وكان الحق بينهما انتسابا
وحـذّر قومـــه مكراً وعــابــا
ـ

ويشير إلى وسطية الأمة المسلمة وإنصافها في من ينصفها:

وإنــا أمـــة وســط نصــافــــي
ـ
مــودتــنا الألــى قـالــوا صــوابا
ـ

وتعطلت لغة الكلام ـــــــ

وفي قصيدة تحت عنوان: «وتعطلت لغة الكلام» نظمها في سجن بربروس سنة 1957، ومطلعها([14]):

نطــق الرصـاص فمــا يباحُ كــــلام
ـ
وجــرى القصــاص فما يُتاح مـلامُ
ـ

يصف فيها الجانب القبيح البشع للظالمين المعادين للإنسان وللقيم الإنسانية، ويصور أن مقاومة الجزائريين هي مكافحة كل مظاهر القبح تلك، ويشير إلى ما عاناه الشعب الجزائري من ممارسات بشعة للطغاة المحتلين، منها: إضرام النار والقتل والسجن والتنكيل والإعدام:

لا النارُ، لا التقتيــل، يثنــي عـــزمه
ـ
لا السجــــن، لا التنكيــل، لا الإعدام
ـ

ومن الممارسات البشعة التي لم تُثنِ الشعب الجزائري عن نضاله ما كان يمارسه المحتلون الوحوش من اغتصاب النساء، وخاصة الفتيات القاصرات:

لا القــاصرات الغافلات كـــواعباً
ـ
ديســت قـــداستها وفُضَّ ختــام
ـ

ولم تثنه أيضاً ما كان يمارسه جند المحتل من بقر بطون الحاملات واخراج الأجنة وذبحها:

لا الحامــــلاتُ  بطونُهــا مبقـــورة
ـ
ذُبحــــــت أجنــتها وفُـــكَّ حـــــــزام
ـ

ولا ما كان يفعلونه أيضاً من وضع فوهة المسدس في فم الأطفال الرضع ويفرغونه في أحشائهم:

لا والمــــراضع عُــــوّضت أثـــداؤها
ـ
بفم المسـدس والرصاص فطــــــام
ـ

وبعد ذلك يتعرّض لما انحطّ إليه المحتلون الفرنسيون، ولما يدّعونه من (عدل) و(سلام) و(تمدن):

يا للفظاعة من وحوش جوّع
وضعت فرنسا في النذالة بدعةً
يا لعنة الأجيال! أنت شهادة
والعدلُ زور، والسلام خرافةٌ
فلتكتـــب الأقـــلام سفر هناتكم
ـ
تسمو على أخلاقها الأنعام
لم تَرْوِها الأعصار وهي ظلام
أنت التمدن للشرور لثام
لغةٌ تُحلَّلُ باسمها الآثام
للعـالمين وتنطــــــق (الأفــلام)
ـ

وتكلم الرشاش ـــــــ

وفي الاتجاه نفسه يصوّر ما مارسه المستعمرون الفرنسيون الطغاة بالشعب
الجزائري باسم التمدن والسلم في قصيدة تحت عنوان: «وتكلم الرشاش جلّ جلاله» سنة 1959([15]):

 سل نسوةً فيها ذُبحن ورُضّعاً
وسلِ الحرائق في لظى نيرانها
وسلِ الحرائق في لظى نيرانها
لغة التمدن للقويّ ذريعةٌ
والسلم ستر للنذالة باسمها
والناس في الأطماع يأكل بعضهـــم
واسأل صبايا فُكَّ عنها المئزر
وانظر إلى الأحرار فيها تُقبر
مُهَجُ الكرام اصَّعَّدت تتبختر
كاللص ـ تحت ظلامها ـ يتستر
تؤتى (الشرور) ويستباحُ المنكر
بعضًا ويبتلــع الضعيــــفَ الأكبـر
ـ

وقفة عند القيم التاريخية ـــــــ

القيم التاريخية تكون ذات قيمة حينما تتضمن دلالات ترتبط بالطبيعة الإنسانية، وبساحة هذه الطبيعة التي يتصارع فيها الخير والشر، والجمال والقبح، والمستضعفون والمستكبرون.

وشعر مفدّي زكريا مفعم بهذه القيم، لأنه يصوّر في شعره ممارسات المتجبّرين ومواقف المظلومين الثائرين، وهي مواجهة دائمة على ساحة البشرية مادامت قوى الشر والخير متصارعة.

يصوّر مفدّي زكريا قوى الشرّ في ممارساتها العملية العسكرية، وفي أساليبها الإعلامية الخادعة، ليجعل منطلق قوى الاستكبار في كل هذه الممارسات والأساليب منطلقًا واحدًا، وهو الهيمنة والاستضعاف.

مرّ بنا ما يذكره من ممارسات الاحتلال الفرنسي بحقّ الآمنين في الجزائر، وكأنه يصوّر ما فعله الأمريكيون في العراق، والإسرائيليون في غزّة أخيراً، قتلٌ، وتدميرٌ، واغتصابٌ، ووحشيةٌ تفوق كل وصف.

كما مرّ بنا ما يبثه المستكبرون من أفكار لتغطية جرائمهم، مثل: المدنية، والتقدّم، والتحضّر، وما ينادون به من ضرورة إجراء (محادثات) و(تفاوض) و(سلام)، وما يلوّحون به من حاجة الجزائريين إلى (الملبس) و(المسكن) و(الطعام) ليجعلوا مَثَلَهم الأعلى لا يتجاوز هذه الحاجات، ويدعون الجزائريين إلى ضرورة التوجه لسدّ هذه الاحتياجات ولو كان ذلك على حساب كرامتهم وعزتهم واستقلالهم وحريتهم.

نفس هذا المنطق يتكرر اليوم؛ لأن قيم الصراع على الجبهتين واحدة.

ومارس المحتلون منطق إثارة المخاوف من المسلمين في خطابهم إلى شعوبهم، ومرّت بنا ردود مفدّي زكريا على هذا المنطق، وهو نفسه يتكرر اليوم في الخطاب الغربي الموجّه إلى شعوب الغرب، وهو ما نسميه اليوم (الإسلاموفوبيا)، أو نشر الخوف من الإسلام، وأن المسلمين (إرهابيون) يستهدفون قتل غير المسلمين وتخريب كنائسهم وغزو أراضيهم.

وأمام جبهة المتجبّرين تقف جبهة المظلومين لتتحدى بطش المحتلين وظلمهم، ولتكشف زيف ادعاءاتهم، ولتعلن رفضها لكل حلول الذل والاستسلام، وهو نفسه يتكرر اليوم على لسان «حماس» و«حزب الله» وسائر قوى «المقاومة» الفكرية والنفسية والاعلامية والعسكرية في عالمنا الإسلامي.

مرّت بنا نماذج أبيات شاعرنا تصوّر مواقف الجبهتين، ونذكر هنا أبيات أخرى من هذه المواقف([16]):

وإن ساومونا في (التفاوض) إننا
وإن دَاهَمُونا (بالبيادق) أسرَعَتْ
على رُقْعةِ (الشطرنج) رقعةُ أرضنا
وتُرصَدُ في دنيا المطامع أسهُمٌ
وتُعقد باسم السلم للحرب ندوةٌ
ستنقلب الأوضاع يا جمعُ إنها
شعوبٌ لإقرار السلام طليقةٌ
قراراتُ آمال الضعاف تجسدت
إذا ما الضعافُ الصامدون تنَمّــروا
ـ
ألفْنا ـ رهاناً ـ حول(مائدة خضرا)
بَنَادِقُنَا ـ تستأصِلُ العسكرَ الـمُجرا
يُغارِلُ نصّابونَ في جوفها التبرا
تَكَسَّرُ في الرمل الذي يجبرُ الكسرا
يصرِّفها السّمسارُ (بالعُمْلَةِ الصفرا)
(بِلَغْرادُ) نَضَّتْ عن تعصبّكَ السترا
فلا الكتلةُ اليمنى، ولا الكتلة اليُسرى
عزائمَ لن تبقى على ورقٍ حِبرا
فلا قيصرٌ في الأرض يبقى ولا كسرى
ـ

القيم الأدبية ـــــــ

مهما قيل في معايير القيم الأدبية للنص الشعري فإن الذي يجعل الشعر ذا مكانة على الساحة الإنسانية في كل زمان ومكان هو انطلاقه من «الشعور» وتأثيره على «الشعور».

والشعور له دور الكبير في حياة البشر، فهو الطاقة المحركة لكل علاقات الناس من حبّ وبغض، وهو وراء كل الأعمال الكبرى على الساحة الإنسانية بجانبيها الإيجابي والسلبي، والعقل له دور الموجّه والهادي إلى سواء السبيل، بعد أن يتحرك الشعور ويحرّك.

لاشكّ أن الناس جميعاً يمتلكون شعوراً يستقبلون به الكلام الصادر عن الشعور ويتأثرون به ويتفاعلون معه، غير أن شعور الشاعر يتميّز بالحرارة والسخونة، بل وبالالتهاب الذي ينقل الشاعر إلى عالم «الخيال»، فيرى ما لا يراه الآخرون، وتخرج الأصوات منه متناغمة في الحروف والألفاظ دون أن يقصد ذلك قصدًا.

وإذ قلتُ «الخيال» فلابد أن أميّز بينه وبين «الوهم»، فالخيال عالم من الحقيقة فوق هذا العالم المشهود المحسوس، تتحقق فيه إرادة الإنسان بعد أن منعتها ظروف الواقع عن التحقق([17]).

وأعود إلى مفدّي زكريا الشاعر، الذي تطفح قصائده بتجربة شعورية صادقة تجاه معاناة وطنه وشعبه، وتجاه آماله في مستقبل مشرق.

إنه إذن خاض تجربة شعورية صادقة، امتزجت بشاعريّة صادرة عن ذوق صقله القرآن الكريم والشعر العربي القديم والحديث، وموهبة ذاتية جعلت منه ينشد القصائد الطوال على أوزان الشعر العربي القديم ووحدة القافية، وهي مقدرة قلّ أن نجدها في نظرائه من شعراء الجزائر.

وأهمّ من ذلك أن شعوره اندمج بهدفه الكبير في تحرير شعبه، لذلك قلّما عزف على قيثارة مشاعره «الذاتية» بل خرج من هذه الذاتية بقوّة ليصوّر بكل مشاعره آمالَ أمته وآلامَها، لذلك اتجهت قصائده إلى قضيته الكبرى، وكلفه ذلك السجن تلو السجن، لكن ذلك لم يثنه عن عزمه على المواصلة.

هذا الاندماج الشعوري بالهدف الكبير جعل منه «شاعر الثورة»، فأنشد ما يجعل متلقيه عامة الشعب الجزائري، ويسير على الألسنة بيسر وسهولة، ومن ذلك النشيد الوطني الجزائري: ([18])

قسماً بالنازلات الماحقات
والبنـــود الــلامعـات الخافــقات
ـ
والدماء الزاكيات الدافقات
فـي الجبال الشامــخات الشاهقـات
ـ

نحن ثرنا، فحيــاة أو مـمات

وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا

نحن جند في سبيل الله ثرنا
لـــم يكن يُصغى لنا لــما نـطقــنا
ـ
وإلى استقلالنا بالحرب قمنا
فـاتــخـذنا رنـــة البارود وزنــا
ـ

فاشهدوا

ومثل ذلك أنشد التحية الرسمية لعَلَم الجزائر([19])؛ ونشيد جيش التحرير الجزائري([20])؛ ونشيد الشهداء([21])؛ ونشيد بنت الجزائر([22])؛ والنشيد الرسمي لاتحاد الطلاب الجزائريين([23])؛ والنشيد الرسمي للاتحاد العام للعمال الجزائريين([24])؛ ونشيد الانطلاقة الوطنية الأولى([25])؛ ونشيد عيد الجلاء([26]).

الوعي الحضاري ـــــــ

اتصف الخطاب الشعري لمفدي زكريا بوعي حضاري، أي إنه اتسم بنظرة مستقبلية وفهم تتطلبه الحركة نحو المستقبل من مسلتزمات، وأهمها: الخروج من الذاتية؛ والعِلْم..، ويأتي هذا الوعي الحضاري لدى الشاعر من رافدين: الأول: حركته نحو مَثَل أعلى كبير؛ والثاني: ارتباطه بتيار الوعي الذي انتشر في العالم الإسلامي بعد نهضة السيد جمال الدين الأفغاني، وتأثير هذه النهضة على المغرب العربي، وخاصة تونس من خلال جمعية قدماء الصادقية، وعلى الجزائر من خلال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ورائدها ابن باديس.

ونستعرض قصيدته التي أنشدها بمناسبة تدشين دار «ابن باديس» للطلبة الجزائريين التابعين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بمدينة قسنطينة عام 1953، ويسمي المدينة في أبياته (سِرْتا)، وهو اسمها الروماني القديم.

ومطلع القصيدة التي حملت عنوان «من يشتري الخلد إن الله بائعه» في ديوانه اللهب المقدس([27]):

يــا شاعـر الخلد حقّ اليوم تخليــد
ـ
وخالد الشعر قم أينَ الأناشيـــد؟
ـ

وهذا المطلع يبين أن الشاعر كان متحفّزاً لأن يصبّ عواطفه المتدفقة تجاه هذا الحدث في قصيدته، وكانت المناسبة مقترنة مع المولد النبوي الشريف.

يستحضر الشاعر الماضي الحضاري لمدينة قسنطينة (سَرْتا)، وكأنه يريد أن يحيي الجذور العريقة لاستعادة خصبها وإنماء دوحة جديدة على مستوى متطلبات العصر:

صُغها على المحفل الجبّار قافية
وانزل بدارات (سِرتا) مطرقاً أدباً
وامـــشِ الهوينا ففي أحشائها أمـم
ـ
يُسمَع لها من فم الأجيال ترديدُ
فبين أضلعها آباؤنا الصيدُ
وفـــي جـــوانحها أسدٌ معاميــدُ
ـ

ثم يمزج جمال الماضي بجمال الحاضر، ويتغنى بما تحفل به المدينة من صور الجمال الطبيعي:

مناظــر مــن صنيـع الله قـد مُلئت
ـ
سحراً وشعـــراً بها الخلاّق معبــودُ
ـ

ويقارن بين مشروع دار ابن باديس وبين مظاهر التخلف الموجودة في المجتمع الجزائري، ومن المقارنة نستطيع أن نفهم الآمال التي كان يعقدها على حركة جمعية العلماء، يقول عن فتية الدار:

وفتيـة أخلصـــوا لله أمـــرَهــم
ـ
والشعبِ، لــم يثنهم عسف وتهــديد
ـ

ثم يذكر مظاهر التخلف بعبارات: (نصّابون همهم على الدراهم)، و(للزعامة دجالون)، و(للشعائر دجالون)، و(في المجالس أصنام)، و(في القيادة أبقار)، و(في الوظائف أخشاب مسندة)، ثم يتناول المصطلحات التي شُوّهت على أثر التخلف، ومنها: السياسة. ولايزال هذا التشويه جارياً على الألسن، فالدجل الذي يمارسه المتهافتون على السلطة والمناصب والحكم يسمى سياسة، بينما السياسة جزء من ثقافتنا الإسلامية، وتعني رعاية مصالح الشعب، وفي ذلك يقول:

وما السياسة ضربٌ فـــوق مائــدة
ـ
إن السياســــة إنشاء وتجــديـــدُ
ـ

ثم يذكر المعنى الصحيح للزعامة والنضال والجهاد، ويشير إلى الآمال المعقودة على جمعية العلماء، فيقول:

جمعيةَ العلماء المسلمينَ ومَنْ
خاب الرجا في سواك اليوم فاضطلعي
سيروا، ولا تهِنُوا فالشعب يرقُبُكُمْ
أمانة الشعب قد شُدّتْ بعاتقكم
فابنوا المدارسَ في عُــرْضِ البـلاد فما
للمسلمين سواكِ اليومَ منشود؟
بالعِبء مُذْ فرّ دجّالٌ ورعْديد
وجاهدوا، فلواء النصر معقود
فما لغيركُم، تُلْقَى المقاليد
غيرُ الــمدارس للتحـــرير تمهيـد
ـ

فالتحرير بالمدارس، أي بنشر الوعي والعلم.

ويتنبأ بالنصر على يد هذه الدار، وهو ما تحقق عملياً، وكان لجمعية ابن باديس الدور الكبير في ذلك:

«دار ابن باديس» في سرتا، يظلّلهــا
ـ
نصـــر ألا إن نصـــرَ الله موعـودُ
ـ

ولاقتران التدشين بالمولد النبوي يستبشر الشاعر بالولادتين، ويراهما على مسار واحد:

هذا احتفال بطه أم بناشئة
محمد في ربيــع الكـــون مولـــده
ـ
من هدْي طه لها دين وتوحيدُ
وبيتكم فــي ربيع الدهـــر مولــود
ـ

ويحثّ أبناء شعبه على مساندة هذا المشروع بالمال، ويرى أن الحياة في البذل والعطاء، واكتناز المال يعادل الموت، في إشارة إلى أن حبيسَ الذات ميّتٌ، وهذا معنى يتكرر عند شعراء العرفان:

من يكنـــز المال لم يسعــد بــه وطنــاً ويْلُمِّهِ فهـــو في الأمــوات معـدود
ـ

ويختتم قصيدته بأبيات يعبّر فيها عن صدق تجربته الشعورية، وصدور قصيدته عن نفس ملتهبة وقلب خافق، وانبثاقها من شرايينه ودم كبده:

هذا نشيدي بني أُمي سكبت به
وهذه كلماتي صُغْتُها حكَماً
ميزانها خفقات القلب نابضةً
قطّرتهــا من شــراييني ومن كبــدي
روحي قوافيه أناتٌ وتنهيد
يحلو بها اليومَ إنشادٌ وتغريد
ولحنُها في فم الدنيا زَغَاريد
في ذمّـــة الله والتّاريخ يا عيـــد
ـ

ومن كل ما سبق نستطيع أن نعدّ مفدّي زكريا من الشعراء الذين مرّوا بتجربة شعورية صادقة، لأنه تحرر من ذاته، فسما وعشق، وكان شعره طافحاً بمفاهيم القرآن، التي تدعو إلى العزّة والكرامة والنهوض ومقارعة الظالمين ورفض الاستسلام والخضوع، كما أن التضمين القرآني في أشعاره وارتباطه بجمعية علماء المسلمين في الجزائر تؤكد رسوخ القيم الدينية في نفسه، ثم في شعره.

الهوامش

___________________________

(*) أستاذ جامعي، وعضو الهئية العلمية في جامعة طهران، من أبرز الناشطين في مجال التقارب المذهبي والقومي، عضو الهيئة الاستشارية لمجلّة نصوص معاصرة.

([1]) معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين.

([2]) منشورات المكتب التجاري ـ بيروت 1961، يضم شعره الثوري من 1953 إلى 1961.

([3]) طبع في تونس عام 1965.

([4]) مطبعة الأنباء ـ الرباط 1976.

([5]) وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية ـ الجزائر 1973، وهي مطولة ملحمية الطابع في ألف بيت وبيت .

([6]) المطبعة العصرية ـ تونس 1965.

([7]) وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية ـ الجزائر 1974.

([8]) اليعقوبي، كتاب البلدان: 192، دار الكتب العلمية، بيروت.

([9]) ابن الصغير، أخبار الأئمة الرستميين: 62، تحقيق: محمد ناصر وإبراهيم بحاز، دار المغرب الإسلامي، بيروت، 1986.

([10]) ديوان اللهب المقدس: 290 ـ 291، منشورات المكتب التجاري، بيروت، 1961.

([11]) اللهب المقدس: 9 وما بعدها.

([12]) اللهب المقدس: 20 وما بعدها.

([13]) المصدر نفسه: 30 وما بعدها.

([14]) اللهب المقدس: 42 وما بعدها.

([15]) اللهب المقدس: 133 وما بعدها.

([16]) اللهب المقدس: 311 – 312.

([17]) انظر: النقد الأدبي أصوله ومناهجه لسيد قطب.

([18]) ديوان اللهب المقدس: 71 – 72.

([19]) المصدر نفسه: 75.

([20]) المصدر نفسه: 79.

([21]) المصدر نفسه: 84.

([22]) المصدر نفسه: 93.

([23]) المصدر نفسه: 97.

([24]) المصدر نفسه: 100.

([25]) المصدر نفسه: 104.

([26]) المصدر نفسه:  107.

([27]) ص 363 وما بعدها.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً