أحدث المقالات

قراءةٌ جديدة

الشيخ روح الله ملكيان(*)

من المباحث المطروحة في التفسير وعلوم القرآن والحديث وأصول الفقه وغيرها مبحث «المحكم والمتشابه»، فيطرح غالباً تبعاً وذيلاً للآية السابعة من سورة آل عمران، التي قسّمت آيات الكتاب الذي أنزله الله تعالى على النبيّ| إلى المُحْكَمات والمتشابِهات، حيث قال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ﴾.

هنا، وقبل الخوض في تدبُّر الآية، يجب التنبيه على دقيقةٍ، هي أنّ التدبُّر المزيل للأوهام، الموصل إلى حقيقة المرام، لأيّ كلامٍ من كلام الله العلاّم (بل لأيّ شيءٍ من خلقه تعالى)، هو التدبُّر الذي يعمّ جوانبه العديدة، ويبيِّنه كالواحد المتناسق الذي لا تناقض فيه، ويفسِّره تفسيراً لا يبقى معه أيُّ توهُّم تعارضٍ بين أجزائه أوّلاً، ثمّ بينه وبين سائر كلامه ثانياً، فقد قالوا: «إنّ مجاري القرآن مجاري الكلام الواحد والسورة الواحدة»([1]). وهذا لا يحصل إلاّ إذا نظرنا إلى أيّ كلامٍ من كلامه تعالى كجزءٍ من منظومةٍ منظّمة، غير مهملين سائر أجزاء المنظومة، متدبّرين للعلاقات القائمة بينها.

فلنبدأ البحث عن مفاد الآية الشريفه بدراسة مفرداتها الرئيسة، كالكتاب، والمُحْكَمات، وأمّ الكتاب، والمتشابِهات، والتأويل، وغيرها.

الكتاب

استعملت لفظة «الكتاب» في القرآن أكثر من مئتي مرّة، تشترك كلّها في الدلالة على معناه المعروف من عصر النزول إلى عصرنا هذا، وهو ما ثبت فيه خطوط أو نقوش يدلّ على المراد والمقصود؛ سواء كان في قرطاس، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتَاباً في قِرْطَاسٍ﴾ (الأنعام: 7)، أو في لوحٍ، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ في الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ﴾ (الأعراف: 145)، أو في غيرهما؛ وسواء اشتمل على جملاتٍ كثيرة، كما في غالب الكتب، أو جملاتٍ يسيرة، كما في قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَنْ لا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي‏ مُسْلِمِينَ﴾ (النمل: 30 ـ 31)، فأطلق عليه الكتاب، حيث قال قبله: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي‏ هَذَا… قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ (النمل: 28 ـ 29).

وكلامُنا هنا حول «الكتاب» الذي تعلّق به الإنزال والتنزيل تارةً، كما في قوله تعالى: ﴿أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ ثلاث مرّات، و﴿أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ ثلاث مرّات، و﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾، و﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾، و﴿الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى‏ رَسُولِهِ﴾؛ والتلاوة والقراءة أخرى، كما في قوله تعالى: ﴿الَّذينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾، و﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾، و﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى‏ عَلَى‏ شَيْ‏ءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى‏ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى‏ شَيْ‏ءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾، و﴿فَإِنْ كُنْتَ في‏ شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ والإيمان والكفر والتصديق والتكذيب ثالثةً، كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ﴾، و﴿تُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾، و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى‏ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ‏﴾، و﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾، و﴿صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ﴾، و﴿الَّذينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ﴾؛ والإيتاء والإيراث رابعةً، كما في قوله تعالى: ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ عشر مرّات؛ و﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ ثماني مرّات، و﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أربع عشرة مرّة، و﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾، و﴿أَوْرَثْنَا بَنِي‏ إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾، و﴿إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾.

وله أهلٌ سمّاهم القرآن «أهل الكتاب» في عشرات الآيات، وبيَّن أنّهم أهل التوراة والإنجيل والذكر، حيث قال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى‏ شَيْ‏ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (المائدة: 68)، وقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ (النحل: 43، الأنبياء: 7)، وغير ذلك، ممّا يحدِّد لـ «الكتاب» مفهوماً واضحاً، ويعيّن له مفاداً بيِّناً. وعليه يكون المراد بالكتاب في آيتنا المبحوث عنها هو كتاب الله الذي منه أنزل ما أنزل على رسله المتقدِّمين^ بنسخ مختلفة، وبأسماء شتّى، كالتوراة والإنجيل والفرقان والذكر والزبور وغيرها، ثمّ أنزله على خاتم أنبيائه| في نسخته الأخيرة التامّة الخالدة باسم القرآن. فالكتاب نسخة الأمّ لجميع الكتب الّتي أنزلها على رسله في نسخ متعدّدة، وبأسماء مختلفة. والنسخة الأخيرة منه هو ما أنزله الله تعالى على هذا الرسول|، وسمّاه القرآن.

وعلى هذا فالكتاب ليس واحداً من المفاهيم ذات الأهمّية في القرآن فحَسْب، بل هو أيضاً المفهوم الذي يتحدَّد به مفهوم القرآن نفسه. وبهذا المعنى للكتاب فإنّ القرآن ليس إلاّ خاتماً لتجسُّدات الكتاب، ﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْه﴾ (المائدة: 48)، فمَثَلُه في ذلك مَثَل التوراة والذكر والزبور والإنجيل من قبله، فهي كلُّها من الكتاب، ولكن من دون أن يكون أيّ واحد منها «الكتاب» بألف ولام التعريف([2]).

فإنْ قيل: لو كان الكتاب نسخة الأمّ لجميع الكتب التي أنزلها على رسله فكيف قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي‏ عَلَيْكَ وَعَلَى‏ وَالِدَتِكَ إِذْ… وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ‏﴾ (المائدة: 110)، و﴿يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ﴾ (آل عمران: 48)، حيث جعل تعليم الكتاب في مقابل تعليم التوراة والإنجيل، ولو كان التوراة والإنجيل نسختين من الكتاب لكان تعليم الكتاب تعليمهما أيضاً، ولا حاجة إلى إفرادهما بالذكر؟!

يُقال: كما أنّ كلّ نسخة من تلك النسخ المنزلة من الكتاب تختلف عن الأُخرى، كذلك نسخة الأمّ تختلف عن كلّ واحدة منها، ولاتساوي أيّاً منها؛ وذلك لأنّه كانت للمنزل إليهم ظروف مختلفة بحَسَب الزمان والمكان والقوم والإقليم وغيرها، بحيث لم يمكن عدم لحاظ ظروفهم المختلفة في النسخ التي أنزلت إليهم، فتختلف تلك النسخ باختلاف تلك الظروف في مسائل كان تغيُّر الظروف دخيلاً في تغييرها. فنسخة الأم إذا أنزلت على موسى لوحظت فيها خصائص تناسب ظروف المنزل إليهم، وكذلك إذا أنزلت على عيسى لوحظت فيها خصائص أخرى تناسب تلك ظروفهم أيضاً. وهذا لا يعني أنّ كلّ نسخةٍ من نسخ الكتاب يختصّ بقومٍ أو زمان؛ فإنّ أصول الحياة الإنسانية في المجتمعات بعد أن تشكّلت مدائنُ وممالك وتكاملت الحضارة لم تتغيَّر منذ أكثر من ألفين أو ثلاثة آلاف سنة، وإنّما الذي تغيّر هو طرق التوصل إليها، وآليات إعمالها. وأكثر ما جاء في هذه النسخ من الأحكام ناظرٌ إلى هذه الأصول الثابتة المشتركة بين المجتمعات الإنسانيّة. وهذا هو السرّ في اختلاف تلك النسخ بعضها عن بعض، وعن نسخة الأمّ، وهو المصحِّح لعطف «التوراة» و«الإنجيل» على «الكتاب». ولذا قال بعض أهل التفسير: «إنّ ذكر التوراة والإنجيل بعد ذكر كلمة كتاب ـ مع أنّهما من الكتب السماوية ـ إنّما هو من باب التفصيل بعد الإجمال»، كما في الأمثل([3])، أو «يكون عطفهما على الكتاب هو عطف بيان‏»، كما في «في ظلال القرآن»([4])؛ وقال بعضهم الآخر: إنّ عطف التوراة والإنجيل على الكتاب من باب عطف الخاصّ على العامّ، كما في آلاء الرحمان([5]) وإرشاد الأذهان([6]) وتبيين القرآن([7]) والبلاغ([8]) والأمثل([9]). قال بعض المعاصرين&: «هنا ﴿الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ قبل ﴿التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ﴾ علَّه من ذكر العامّ قبل الخاصّ، حيث التوراة والإنجيل هما كتابان حكيمان، فقد علم قبلهما أو معهما كلّ كتاب وحكمة بالوحي، تحليقاً لوحيه الرسالي على كلّ كتابات الوحي من ذي قبل، وكلّ الحِكَم المطويّة فيها»([10]). وقال نفسُه في موضعٍ آخر: «علَّ «الكتاب» هنا ـ وهو جنسه ـ كلّ كتابات السماء النازلة قبله، وذلك من شروطات كلّ رسالة لاحقة أن يعلِّم رسولها سابقتها بسابغتها، حيث الرسالات ككلٍّ هي سلسلةٌ موصولة بعضها ببعض، صادرةٌ عن مصدرٍ واحد، واردةٌ إلى أمّةٍ واحدة، مهما اختلفت شكليات وطقوس ظاهرية فيها… ثمّ «التوراة والإنجيل» هما أهمّ مصاديق «الكتاب» قبل القرآن، وأتمّها رباطاً بالرسالة العيسوية؛ حيث التوراة تحمل شريعة الناموس التي لم‌ تبدّل في الإنجيل إلاّ نذراً. ومما يلمح له إفراد «التوراة والإنجيل» وحدة كلٍّ منهما، دون كثرة مختلقة، ولا سيَّما في الإنجيل»([11]).

وآيتُنا هذه أيضاً وإنْ استخدمت لفظة «الكتاب»، لا «القرآن»، فقالت: ﴿أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ﴾، وهما متغايران مفهوماً، قضيّة تغايرهما لفظاً والقول بعدم ترادفهما اتّفاقاً، ولكنّ اختلاف لفظَيْ الكتاب والقرآن ومفهوميهما لا يمنع من صدقه على نسخته الأخيرة الخالدة المسمّاة بـ «القرآن»، فإنّ من المعلوم أنّ الله تعالى لم‌ ينزل على رسولنا| كتاباً غير القرآن، وفقاً لآياتٍ تقول: إنّ الكتاب فُصِّلت آياته أو جُعِل أو أُنزل قرآناً عربياً، منها: قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (فصلت: 3)، ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الزخرف: 3)، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 2)، ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ (طه: 113).

نعم، هنا نكتةٌ لاينبغي أن يُغفَل عنها، وهي أنّ من مقتضيات البلاغة ـ التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال‏ ـ أنّ توجيه الكلام إلى عنوانٍ من عناوين شيء إنّما هو لأجل إفادة معنىً تقتضيه البلاغة، فالله تعالى ـ وهو خالق البلاغة ـ حين يقول: «الكتاب» أراد إفادة معنى غير ما أراد إفادته حين يقول: «القرآن»، فلا بُدَّ أن نعرف ما اقتضى اختيار «الكتاب» على «القرآن» هنا حيث لم‌ يقُلْ: «هو الذي أنزل عليك القرآن»، مع أنّ القرآن نسخةٌ من الكتاب.

ولنذكر مثالاً من حياتنا الاعتيادية؛ تمهيداً لذلك، وهو أنّ زيداً مثلاً معنون بعناوين شتّى، مثل: الابن والأخ والزوج والأب والعمّ والخال والمعلّم والمسلم والعالم والمواطن والإنسان وعشرات غيرها، كلّها ذات مصداق واحد هو زيد المفروض، فبلاغة الكلام تقتضي مرّةً أن نحكم عليه بقولنا: «هو أب كذا»؛ وأخرى أن نحكم عليه بقولنا: «هو معلّم كذا»، وهكذا بالنسبة إلى سائر عناوينه، فإنّنا بقولنا: «هو أب كذا» نريد إفادة شيء غير ما نريد إفادته بقولنا: «هو معلّم كذا»، وإنْ كان مصداق كلا الحكمين إنساناً واحداً؛ وذلك لأنّ استخدام عنوان «الأب» إنمّا يحسن في كلامٍ ذي ربط بأبوّته، مثل: أن يكون المخاطب أو السامع ولده، فنلاحظ أبوّته، ونقول: «هو أبٌ كريم» مثلاً، ولا نقول: «هو معلِّم كريم»، إلاّ في كلامٍ ذي ربط بمعلِّميّته، مثل: أن يكون المخاطب أو السامع تلميذه أو مدير مدرسته مثلاً. وهذا من مقتضيات بلاغة الكلام، وقانون مطَّرد في كلّ شيءٍ له أكثر من عنوان، يُراد بكلّ عنوان من عناوينه إفادة شيء تقتضيها بلاغة الكلام، بحيث لا يجوز أن يستخدم غير هذا العنوان الذي اقتضت بلاغة الكلام استخدامه.

وفي مقامنا يظهر بأدنى التفاتٍ إلى آيات صدر السورة أنّ هذه الآيات موجَّهة إلى أهل الكتاب، كما أشار إليه ذكر إنزال التوراة والإنجيل فيها، وسيجيء تفصيله عند الكلام في «الذين في قلوبهم زيغ». فمطابقة الكلام لمقتضى الحال تستدعي أن يستخدم عنواناً يعرفه السامع، بل يؤمن به، ولهذا يقول لأهل الكتاب المؤمنين بالكتاب المنزل إليهم من عند الله:: ﴿اللهُ… نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ‏ِِ مُصَدِّقاً لِمَا بَينْ‏َ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ… وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ… هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ…﴾ يعني أنّ الذي أنزل عليكم الكتاب بالنسخة التوراتية والنسخة الإنجيلية وغيرهما هو الذي أنزل الكتاب على هذا الرسول| أيضاً بنسخته الراهنة، فإنْ كنتم مؤمنين بكتاب الله الذي أنزله إليكم فلا ينبغي لكم الرَّيْب فيه إذا أنزله إلى رسولٍ من بعد رسلكم، معتذرين بأنّ بعض آياته لا يطابق آيات كتابكم، فإن طائفة من آيات الكتاب الإلهي متشابِهات، بمعنى أنّ أحكامها في النسخ المتعدّدة من «الكتاب» ليست متماثلةً، بل هي متشابِهة. فالكتاب نسخة الأمّ لجميع الكتب التي أنزلها على رسله، في نسخ متعدّدة، وبأسماء مختلفة. والنسخة الأخيرة منه هو ما أنزله الله تعالى على هذا الرسول، وسمّاه القرآن.

وعليه لا بُدَّ أن يشترك «الكتاب» و«القرآن» في آيات كثيرة. وهذا ما صرّح به في مثل: قوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ (الحجر: 1)، فالآية تقول: إنّ الآيات المذكورة في سورة الحجر آيات الكتاب، كما أنّها آيات القرآن. بل يوجد في القرآن تصريحاتٌ عديدة باشتراكات كثيرة بينهما، منها: في سورة يونس، حيث إنّه بعد أن أنزل الله ثلاثاً وعشرين آية (الآيات 71 ـ 93) من قصّة نوح وموسى’ يقول: ﴿فَإِنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ‏﴾، فإنّ النبيّ| لم يكن ليشكّ قطّ في ما أنزله إليه ربّه، وإنّما كان شكّه في مطابقة ما أنزل إليه لما أنزل في الكتب السابقة، ولهذا أمره بسؤال الذين يقرؤون تلك الكتب، «فإنّه ثابتٌ في كتبهم مطابقته لما قصصنا عليك‏»([12])، «فإنّ ذلك محقّق عندهم، ثابت في كتبهم، حَسْبما أنزلناه إليك‏»([13])، «فإنّه محقّق عندهم، ثابت في كتبهم، على نحو ما ألقينا إليك‏»([14]). وقال السيّد الطباطبائي: «ومن لطيف الإشارة أنّ الله سبحانه لم‌ يذكر في القصص المذكورة في هذه السورة قصّة هود وصالح؛ لعدم تعرُّض التوراة الموجودة عندهم لقصَّتهما»([15]). وعليه فهذه الآيات أيضاً نفس آيات الكتاب.

ومنها: في سورة الأعلى، فقد صرّح بأنّ آياتها جاءت في الصحف السابقة، حيث يقول: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ (الأعلى: 18 ـ 19).

وفي سورة «النجم»، بعد أن قال تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا في‏ صُحُفِ مُوسَى‏ * وإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ (النجم: 36 ـ 37)، جاءت ثماني عشرة آية من صحف موسى وإبراهيم، ثمّ قال: ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى﴾‏ (النجم: 56).

كما أنّ قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ﴾ (الشعراء: 196) يُشعر بذلك، فقد روى الحافظ الرازي بإسناده عن قتادة أنّه قاله: «أي في كتب الأوّلين». وروى عن السدّي مثل ذلك أيضاً([16]). وقال السبزواري: «في كتب الأنبياء المتقدّمين»([17]). وقال ابن عاشور: «أي كتب الرسل السالفين، أي إن القرآن كائنٌ في كتب الأنبياء السالفين، مثل: التوراة والإنجيل والزبور، وكتب الأنبياء التي نعلمها إجمالاً»([18]).

وأيضاً إنّ القرآن مشتملٌ على «الذكر»، بتصريح قوله تعالى: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر﴾ (ص: 1)، و«الذكر» أنزل على النبيّ| بتصريح هذه الآيات: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لمَجْنُونٌ﴾ (الحجر: 6)، ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ (ص: 8)، ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا﴾ (القمر: 25)، وغيرها. وهو كتابٌ نزل قبل كتاب «الزبور» بتصريح هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)، وله أهلٌ في جزيرة العرب بتصريح الآيتين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِي‏ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43)، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِي‏ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (الأنبياء: 7)، كما فيه تصريحات بأنّ للتوراة والإنجيل أهلاً فيها.

كما لا يبعد أن تكون آيات سور السجدة والزمر وغافر والجاثية والأحقاف نفس آيات ذلك الكتاب؛ إذ هي ابتدأت بقوله: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، أو قوله: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾.

وبعد هذا كلّه اشتراكُ القرآن مع الكتب السابقة في بعض الآيات أمرٌ ثابت، ولذا جعل السيوطي في الإتقان([19]) النوع الخامس عشر من علوم القرآن «ما أنزل منه على بعض الأنبياء وما لم ينزل منه على أحدٍ قبل النبيّ».

بقي هنا إشكالان، لا بُدَّ من دفعهما:

أحدهما: إنّ الآياتِ المشارَ إليها في قوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ (الحجر: 1) بعض آيات الكتاب أو القرآن، فالمناسب التعبير بمثل: «تلك من آيات الكتاب»، ليفيد أنّ تلك الآيات المنزلة بعض آيات القرآن أو الكتاب، فكيف قال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾؟!

والجواب: إنّ المتكلّم إذا علم أنّ السامع أو غيره ممَّنْ يبلغه كلامه عارفٌ بأنّ ما يشير إليه في كلامه أو ما يحدِّث عنه بعضٌ من كلٍّ، وليس كلَّه، فلا بأس عليه أن يشير إليه في كلامه، ولا يصرِّحَ بأنّه بعضٌ منه؛ وذلك لدلالة القرينة الحاليّة عليه. وهذا كما نقول لأحدنا: «اقرأ لنا أشعار السيد الحميري&» فلا نريد أن يقرأ جميع أشعاره، وذلك لقرائن واضحة، مثل: ضيق المجال، أو إيجاد الملل للقارئ والسامع بقراءة جميعها واستماعها، أو عدم طاقة القارئ، أو لغيرها من القرائن الحالية. والأمر بالنسبة إلى القرآن كذلك؛ فإنّ مَنْ سمع عن القرآن شيئاً عرف أنّه نزل نجوماً، فإذا سمع أنّ الرسول| يتلو القرآن، ويقول: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ لم يشكّ أحدٌ أنّ هذه بعضُ آياته، لا كلُّها. هذا أوّلاً.

وثانياً: إنّ الجملة الخبرية إذا ألقيت ولم‌ يسبقها إنكارٌ فهي تتوجَّه مَحْضاً إلى حكاية الواقع فقط، فهي جملةٌ خبرية مَحْضة. وهذا بخلاف ما لو سبقها إنكار، فهي تتكفَّل ردّ الإنكار أيضاً. مثلاً: لو كان هنا مجلسٌ أراد شخص أن يقرأ أشعاراً من الكميت& من ظهر قلبه أو من ورقةٍ، وأراد أن يخبر السامعين بقائل تلك الأبيات، وهم غير عالمين أنّ الكميت أنشأ أشعاراً كثيرة غيرها، وأنّ ديوان الكميت يحتوي على أبيات كثيرة غيرها، يقول: «هذه أبياتٌ من ديوان الكميت»، أو «هذه أبياتٌ للكميت»، ولا يقول لهم: «هذه أبياتُ ديوان الكميت»، أو «هذه أبياتُ الكميت». وأمّا إنْ كان في المجلس آحادٌ يعلم القارئ أنّهم ينكرون ذلك، ويصرّون على أنّ تلك الأبيات أنشأها القارئ نفسه، لا الكميت، فهو يقول: «تلك أبياتُ ديوان الكميت»، أو «هذه أبياتُ الكميت»، فيحذف لفظة «من»؛ ليتمكّن من تركيز صوته على لفظة «الكميت» أو «ديوان الكميت» والجهر به أكثر؛ لأنّه يريد ـ مضافاً إلى الإخبار ـ أن يفيد السامعين (المنكرين وغير المنكرين) أنّ هنا منكرين، وهذا ردٌّ لإنكارهم، وإنّ تلك الأبيات ليست أنشودتي أكيداً.

فهذه الآية، ونحوها، مثل: قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ (البقرة: 252، آل عمران: 108، الجاثية: 6)، و﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ (النمل: 1)، من قبيل: ما ذكرناه في المثال، فالله تعالى ليس في مقام الإخبار المَحْض ليقال: إنّ تلك الآيات بعض آيات الله أو بعض آيات القرآن، وليس كلّها، فلِمَ لم‌ يَقُلْ: «تلك من آيات الله» أو «تلك من آيات القرآن»، بل هو في مقام ردّ إنكار المنكرين وريب المرتابين المدّعين أنّ هذه الآيات افتراءات على الله، إنكاراً وريباً داما ما دام الوحي نازلاً، فقال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللهِ﴾، وأكَّده بقوله: ﴿نَتْلُوهَا﴾، لا أنّ محمداً| افتراها، ثمّ أكَّده بقوله: ﴿عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾. كما أنّ قوله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ (الحجر: 1) وقوله: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ (النمل: 1) مؤكَّدان بذكر أسماء الله تعالى أو اليمين بها، على القول بأنّ الحروف المقطَّعة في أوائل السور أسماء الله العظمى أو أيْمانٌ بها، كما ذكره جماعةٌ من أهل التفسير والحديث واللغة في «كهيعص»، فراجع كتبهم.

والحاصل أنّ اللفظ وتكثيره وجهر الصوت وتشديده من أسباب التأكيد عند العُرْف، كما في القرآن. وأسلوب المشافهة قد يختلف عن أسلوب الكتابة، فقد ينتفع المشافِه؛ لإفادة التأكيد وردّ الإنكار، بتشديد الصوت أو تركيزه على كلمةٍ، والكاتب يُحْرَم منه، ومن المعلوم استخدام أسلوب المشافهة في القرآن. فانظر إلى هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ (البقرة: 267)، كيف لم‌ يستعمل أداة الاستفهام الإنكاري لإفادة العتاب والتقريع في قوله تعالى: ﴿مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾؟! وإنمّا انتفع باللحن خاصّةً. وممّا يدلّ على هذا اللحن الأمر بالإنفاق من الطيّبات، والنهي عن تيمُّم الخبيث، والتعريض المستفاد من قوله: ﴿وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾. فهذه الأمور تنافي صريحاً إرادة الإخبار بقوله: ﴿مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾، وهي قرائن ترشد غير المشافهين ـ كالمشافهين ـ إلى اللحن المستخدم في الآية.

الإشكال الثاني: إنّ القرآن إنْ كان نسخةً من الكتاب فكيف عطف «القرآن» على «الكتاب» في قوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾، فإنّه لا يجوز عطف الشيء على نفسه؟

والجوابُ يظهر ممّا تقدّم في وجه جعل تعليم الكتاب في مقابل تعليم التوراة والإنجيل، حيث قلنا: إنّ كلّ نسخةٍ من تلك النسخ المنزلة من الكتاب تختلف عن نسخة الأمّ. فنسخة الأمّ إذا أنزلت على نبيّنا| لوحظت فيها خصائص تناسب ظروف المنزل إليهم، كما لوحظت في النسخ الماضية منه خصائص أخرى تناسب ظروف الأمم الماضين أيضاً. فالمصحِّح لعطف القرآن على الكتاب هو لحاظ اختلافهما، بعد اشتراكهما في كثيرٍ من الآيات. فتلك الآيات آيات الكتاب بلحاظ أنّه كتاب الله الذي أنزل على رسله الماضين^، بنسخٍ مختلفة، وبأسماء شتّى، وآيات القرآن بلحاظ أنّه نسخةٌ منه غير النسخ المتقدّمة، أنزلها على هذا الرسول. والآية تقول: إنّ آيات سورة هود آيات الكتاب، كما أنّها آيات القرآن. فالقرآن والكتاب يشتركان في كثيرٍ من الآيات، منها: آيات السورة المذكورة. وما روى الحافظ الرازي، ذيلاً لقوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾، بإسناده عن مطر، من أنّ المراد بالكتاب «الزبور»، وعن الحسن، من أنّه «التوراة والزبور»، وعن قتادة، من أنّه الكتب التي خَلَتْ قبل القرآن([20])، فكلّها من قبيل: مصاديق للكتاب، لا أنّ المراد بالكتاب فيه نفس التوراة أو غيرها من الكتب المذكورة؛ إذ تقدَّم أنّ التوراة والذكر والزبور والإنجيل كلّها من الكتاب، من دون أن يكون أيّ واحد منها «الكتاب». كما أنّ ما حُكي عن مجاهد، من أنّ المراد بالكتاب «التوراة والإنجيل‏»([21])، كذلك. وسيأتي مزيدُ توضيحٍ عند البحث عن «المُحْكَمات» و»المتشابِهات».

وعليه كما أنّ الدين المقبول عند الله واحدٌ، حيث قال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ‏﴾ (آل عمران: 19)، وقال: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران: 85)، والأنبياء^ كلّهم، من نوحٍ إلى محمد|، كانوا مسلمين، وأُرسلوا بالإسلام، وإنْ اختلفت صياغات الدين من رسولٍ إلى آخر، حتّى انتهت صياغاته بالصياغة الخاتمة لنبيِّنا محمد|، كذلك كتاب الله واحدٌ، وإنْ اختلفت نُسَخُه من رسولٍ إلى آخر، حتّى انتهت نُسَخُه بالنسخة الخالدة لكتابنا القرآن.

وبعبارةٍ أخرى: وإنْ كان كلّ رسول لم‌ يبعث إلاّ بلسان قومه، كما صرّح به قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (إبراهيم: 4)، ولكنّ الرسل جميعاً، وعلى اختلاف ألسنتهم وتعدُّد أقوامهم، إنمّا هم مكلَّفون بتبليغ رسالةٍ واحدة هي تلك المحفوظة في «أمّ الكتاب». وعليه إنّ كلّ الكتب المنزلة بلغات الأقوام المبعوث إليهم إنما هي ترجماتٌ لفحوى «أمّ الكتاب»، أي ذلك الكتاب الأصلي الأزلي السرمدي المتجوهر بالمعنى لا باللفظ، والعابر لكلّ اللغات، والقابل للترجمة إلى كلّ الألسنة قابليّة الجوهر اللامتناهي للتجلّي في أعراضه الكثيرة المتناهية، وقابليّة اللغة الكونيّة الأولى المجرّدة واللامنطوقة إلى الترجمة إلى الألسنة الحسّية المنطوقة والمتعدِّدة بتعدُّد الأمم التي تنطق بها([22]).

فالكتب المنزلة على تعدُّد أسمائها ولغاتها هي نسخٌ من أصلٍ واحد، هو «أمّ الكتاب» الذي هو عند الله وحده، ينزل منه ما يشاء على مَنْ يشاء باللغة التي يشاء. ومن هذا المنظور تضيء كلمة ﴿جَعَلْنَاهُ﴾ القرآنية بدلالةٍ جديدة، فالقرآن «مجعول» من «أمّ الكتاب»، أي مستنسخ منها بلغةٍ عربية: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ في‏ أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 3 ـ 4)، وقد كان يمكن لله أن يجعله بلغةٍ أعجميّة، ولكان بالتالي ﴿قُرْآناً أَعْجَمِيّاً﴾ (فصّلت: 44). وبما أنّ كلَّ كتابٍ مُنْزَلٍ مجعولٌ من «أمّ الكتاب» لذا قد تعدَّدت أسماؤه، كما تعدّدت لغاته، فهو تارةً التوراة؛ وطوراً الزبور؛ تارةً الإنجيل؛ وطوراً أخيراً القرآن([23]).

ولهذا أضاف الله الكتاب إلى نفسه، حيث قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلى‏ كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَريقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ (آل عمران: 23)، و﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ (فاطر: 29)، وغيرهما؛ كما أضاف الدين إلى نفسه، حيث قال: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ (آل عمران: 83)، و﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في‏ دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً﴾ (النصر: 2)، وغيرهما.

فإنْ قلتَ: الضمير المجرور في قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ يرجع إلى الكتاب بلا شكٍّ، فالآية صريحةٌ في أنّ بعض الكتاب آياتٌ مُحْكَمات. فلو كان المراد بالكتاب المذكور فيها «القرآن» كانت منافيةً لآيةٍ أخرى تقول: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: 1)، حيث أرادت أنّ آياتها كلّها أحكمت؛ إذ الكتب الإلهيّة لها آياتٌ محكمة، ولا فضل للقرآن أن تكون بعض آياته محكمةً، وإنمّا فضله على سائر الكتب في أنّ آياته كلّها مُحْكَمات.

أقول: ليس المراد بالكتاب هنا القرآن، بل المراد نفس السورة، أو على الأقلّ آياتها الأولى إلى الآيات المتضمّنة لقصّة نوحٍ وبعض الأنبياء^، وهي أربع وعشرون آية منها؛ والدليل على ذلك أنّ آيات صدر سورة هود مماثلةٌ لآياتٍ من سورة النمل المتضمّنة لقصّة إرسال سليمان كتاباً إلى ملكة سبأ، وهي قوله تعالى: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَنْ لا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي‏ مُسْلِمِينَ﴾ (النمل: 29 ـ 31)، ففي هذه الآي جاء ذكر من «كتاب»، ثمّ بُيِّن مضمون الكتاب بقوله: «أن لا…». وهذا ما نرى مثله في آيات صدر سورة هود، حيث يقول: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي‏ لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ…﴾ (النمل: 1 ـ 3)، فجاء فيها ذكر عن «كتاب»، ثمّ بُيِّن هذا الكتاب بقوله: «أن لا…». وكما أنّ كتاب سليمان إلى الملكة مشتملٌ بعد البسملة على ما بيَّنه بقوله المُصَدَّر بـ «أن لا…»، كذلك الكتاب المذكور في الآية الأولى من سورة هود مشتملٌ على ما بيَّنه بقوله المُصدَّر بـ «أن لا…»، وليس غيره ولا أكثر منه. وعلى هذا فالمراد بالكتاب الذي أُحكمت آياته هذه السورة، وآياتها من قسم الآيات المُحْكَمات، وهي ـ على ما سيأتي ـ آياتٌ ثابتة المضامين في جميع نسخ الكتاب المُنْزَل من عند الله تعالى. نعم، هنا آيات تدلّ على أنّ القرآن حكيمٌ لا يغيَّر ولا يبدَّل بغيره، وسيأتي الكلام حولها.

المُحْكَمات

قالوا بالنسبة إلى الآيات المحكمات: إنّها آياتٌ ظاهرات واضحات. ففي التفسير الواضح([24]): «إنّ القرآن الذي أنزل على محمدﷺ بعض آياته محكمات واضحات ظاهرات لا خلاف بين ظاهر اللفظ والمعنى المراد منها». وفي التفسير الوسيط([25]): «آيات القرآن نوعان: محكمات، أي ظاهرات الدلالة لا خلاف في معناها». وفي متشابه القرآن([26]): « قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ‏﴾ خصّص البعض بكونه محكماً من حيث وصفه بأنه أمّ الكتاب، أي منه آيات ظاهرات المعاني». وفي تفسير ابن كثير([27]): «يخبر تعالى أن في القرآن آياتٍ محكمات، هُنّ أمّ الكتاب، أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحدٍ». وفي الجلالين([28]) ومحاسن التأويل([29]): «﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ‏﴾ واضحات الدلالة». وفي التفسير المعين للواعظين والمتّعظين([30]): «﴿آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ‏﴾ واضحات الدلالة لا احتمال فيها». وفي التفسير المنير([31]): «﴿مُحْكَمَاتٌ‏﴾ واضحات الدلالة، لا خلاف في معناها، من أحكم الشي‏ء: وثّقه وأتقنه، مفردها محكم: وهو ما عرف تأويله، وفهم معناه وتفسيره». وفي التفسير الوسيط([32]): «وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل هذا الكتاب ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ‏﴾، أي واضحات الدلالة، محكمات التراكيب، جليّات المعاني، متقنات النظم والتعبير، حاويات لكلِّ ما يسعد الناس في معاشهم ومعادهم، بيِّنات، لا التباس فيها، ولا اشتباه». وفي تفسير من وحي القرآن([33]): «﴿مِنْهُ﴾ أي من الكتاب، ﴿آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ واضحات الدلالة على المعاني، فلا مجال فيها لأيّ لبس في التفسير، ولأيّ غموض في المعنى، أو أيّ احتمال بعيد». وفي غيرها من التفاسير نحو هذه العبارات.

والذي يستفاد من هذه العبارات ونحوها في غيرها من التفاسير أنّ معنى «الإحكام» هو وضوح المعنى والدلالة والمراد، أو ظهورها.

ولكنْ يُلاحَظ عليها بأنّه لم‌ يوجد في اللغة والعرف واستعمالات القرآن مورد يدلّ الإحكام ومشتقّاته على معنى من قبيل: ظهور المعنى ووضوح الدلالة ونحوهما.

والتوضيح أنّ المحكمات جمع المحكمة من الإحكام، ومنه: قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ في‏ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى‏ لَهُمْ﴾ (محمد: 20). فالمحكمة هنا معناها غير قابلة للإزالة والإبطال والتغيير والإبدال؛ إذ مع قوله: ﴿وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ﴾، الذي هو صريحٌ في ذكر القتال، لا حاجة إلى وصف السورة بكونها واضحةً ظاهرة، بل لو قال: «فإذا أنزلت سورة ذكر فيها القتال» كفى، ولكنْ من المعلوم أنّ السورة التي كان الذين في قلوبهم مرض يفزعون منها هي التي ذكر فيها القتال، ولم‌ تكن قابلةً للإزالة والإبطال والتغيير والإبدال، بخلاف ما لو كانت السورة واضحةً أو ظاهرة أو مبيِّنة، وكان القتال المذكور فيها قابلاً للإزالة أو الإبدال؛ إذ حينئذٍ لما بقي لفزعهم وجهٌ، ولا لخوفهم سببٌ. ولذا قال الشوكاني: «﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ﴾ أي غير منسوخة، ﴿وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ‏﴾ أي فرض الجهاد»([34]). وقال الزبيدي في تاج العروس([35]): «سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ أي غَيْرُ مَنْسوخَةٍ». وفي تفسير الجلالين([36]): «﴿سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ﴾ أي لم‌ ينسخ منها شي‏ءٌ». وروى الطبري، بإسناده عن قتادة، أنّه قال: «كلّ سورة ذُكر فيها الجهاد فهي محكمة»([37]). فلم‌ يُرِدْ قتادة، ولا الطبري، بالإحكام الوضوح وما شابهه، بل أرادا به عدم قبول الإزالة والإبطال والتغيير والإبدال، كما هو واضحٌ. ويؤيِّده ما حُكي من أنّ ابن مسعود قرأ: «سورة محدثة»، وتُسمّى المحدثة محكمة؛ لأنّها إذا نزلت تكون محكمة ما لم‌ ينسخ منها شي‏ءٌ([38]).

وعليه فما قاله كثيرٌ من المفسّرين من أنّ «المحكمة» هنا بمعنى الواضحة أو الظاهرة أو المبيّنة أو نحوها مردودٌ إليهم؛ وذلك لمخالفته لسياق الآية أوّلاً.

ولاستعمالات القرآن ثانياً؛ حيث جعل الإحكام مقابل النسخ في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في‏ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (الحجّ: 52).

ولاستعمالات العُرْف ثالثاً؛ فإنّه يجعل «المحكم» في مقابل «المنسوخ»، لا في مقابل «المبهم»، فيُقال مثلاً: «الآية محكمة أو منسوخة» في مئات الموارد. وقد صرَّحوا في بعض التفاسير بكون النسخ والإحكام ضدّان، كما في البحر المحيط([39]) والجواهر الحسان([40]) ومحاسن التأويل([41]) والمحرر الوجيز([42]) ومفاتيح الغيب([43]) وغيرها.

وللّغة رابعاً، ففي متون اللغة تصريحاتٌ كثيرة تدلّ على نحوٍ من الثبات والنضج والحصانة والوثاقة والأصالة ونحوها في «الإحكام»، فقالوا مثلاً: «رَصِيْنٌ أي شَدِيدُ الثَّبَاتِ مُحْكَمُه»، «رَجُلٌ نَضِيجُ الرأي: مُحْكَمُه»، «رجلٌ حصيف الرأي أي مُحْكَمه، مأخوذ من الحبل المحصف، وهو الشديد الفتل»، «درعٌ حصينة أي مُحْكَمة»، «بناءٌ مُؤَجَّد: مقوّىً وثيق مُحْكَم‏»، «بِناءٌ أَصِيصٌ: مُحْكَم كرَصِيص‏»، «سِحْرٌ مُسْتَمِرّ أي مُحْكَمٌ قَوِيّ‏»، «حبلٌ مُحْصَدٌ أي مُحْكَم مفتول… ورجل مُحْصَدُ الرأْي: مُحْكَمه سديدُه، على التشبيه بذلك»، «دِرْعٌ حَصْدَاءُ: ضَيِّقَةُ الحَلَقِ مُحْكَمَةٌ صُلْبَة شديدة»، «أَوْثَقَه فيه أي شَدَّه، ووَثَّقَه تَوْثِيقاً، فهو مُوَثَّقٌ: أَحْكَمَه، وإِنّه لمُوثَّق الخَلْقِ أَي مُحْكَمُه»، «أَصِيلُ الرَّأي أَي مُحْكَمُه». هذه نصوص كلماتهم، ولم‌ نَرَ ولن ترى فيها مجيء المحكم في تفسير كلمة له معنىً من قبيل: الواضح والظاهر والمبيّن ونحوها. ولذا قال الشهيد الحكيم: «المتبادر من مادة الإحكام معنىً وجودي إيجابيّ، هو الإتقان والوثوق، كما يشير إلى ذلك تصريح أهل اللغة في تفسير أصل المادّة»([44]).

وعلى هذا كلّه فالمحكمة بمعنى الثابتة والمتقنة والسديدة ونحوها ممّا هو مصونٌ من طروّ ما ينافيها من الزوال والتغيّر والتبدّل ونحوها. فالآياتُ المحْكَمات آياتٌ كلُّ واحدة منها ثابتة: لا تزول ولا تتغيّر ولا تتبدّل، فإذا أنزلها الله على رسول من رسله مرّةً، ثمّ أراد أن ينزلها مرّةً أخرى على رسول آخر، أنزلها من دون أيّ تغيير في مضامينه أو أيّ تبديل فيها، فهي ثابتةُ المضامين في جميع ما أنزل الله من صحف إبراهيم وموسى والتوراة والزبور والإنجيل وغيرها. والمحْكَمات، كما قال ملا حويش: «لا يحول حولها التغيير والتبديل بالتعبير إلى أبد الآبد»([45]). وما حُكي عن ابن عبّاس وابن مسعود وقتادة والربيع والضحّاك، من أنّهم قالوا‏: «المحكم الناسخ»([46])، فإنّهم أرادوا بالناسخ الثابت غير المنسوخ؛ إذ هو في مقابل المتشابِه الذي وقع فيه التغيُّر والتبدُّل، كما سيأتي.

أمّ الكتاب

ذكر هذا الاصطلاح في القرآن ثلاث مرّات: أولاها: في آيتنا هذه؛ والثانية: في قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 39)، فيقول، ردّاً على طعن مخالفي النبيّ| عليه بأنّه لو كان صادقاً في دعواه أنّ ما نزل عليه هو من عند الله تعالى فلماذا غاير ما نزل من قبله على أهل الكتاب في بعض الأحكام. انظر إلى الآيات قبلها: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ الله مِنْ وَليٍّ وَلاَ وَاقٍ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأتيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ (الرعد: 36 ـ 38)، قال في إرشاد الأذهان([47]): «﴿مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ‏﴾ وهو ما خالف أحكامهم وشريعتهم». وفي جوامع الجامع([48]): «ممّا يخالف أحكامهم وغير ذلك ممّا حرَّفوه وبدَّلوه من الشرائع». وفي روح المعاني([49]): «وهو ما لا يوافق كتبهم من الشرائع الحادثة، إنشاءً أو نسخاً، وأمّا ما يوافق كتبهم فلم‌ ينكروه وإنْ لم‌ يفرحوا به. وعن ابن عبّاس وابن زيد: إنها نزلت في مؤمني اليهود خاصّةً، فالمراد بالكتاب التوراة، وبالأحزاب كَفَرَتهم». وفي الأصفى([50]): «وهو ما يخالف شرائعهم». وفي أنوار التنزيل([51]): «وهو ما يخالف شرائعهم أو ما يوافق ما حرَّفوه منها». وفي البحر المديد([52]): «و هو ما يخالف شرائعهم التي نسخت به، أو ما يوافق ما حرّفوا منها». وفي بحر العلوم([53]): «يعني: من أهل الكتاب مَنْ ينكر ما كان فيه نسخ شرائعهم». وفي تفسير شُبَّر([54]): «وهو ما خالف أحكامهم». وفي التفسير القرآني للقرآن([55]): «فالأحزاب هنا هم جماعات اليهود الذين كانوا حزباً على النبيّ مع مشركي قريش ومَنْ انضمّ إليهم من قبائل العرب». ونحوها أو مثلها في التفسير المنير([56]) والتفسير الواضح([57]) والوسيط([58]) وروح البيان([59]) وغيرها.

فآية ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ تقول: «هو ينسخ ما يشاء، ويُبقِي ما يريد، في كلّ عصر وكلّ زمان، بحَسَب ما تقضي مصالح العباد»([60])؛ إذ ﴿عِنْدَهُ﴾، لا عندكم، ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾، «لا يغيّر ولا يبدّل‏»، على ما رواه الطبري بإسناده عن ابن زيد([61]). قال ابن عجيبة: «هذا يترتَّب على قوله: ﴿وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾، وهو ما لا يوافق شريعتهم. قال سيّدي عبدالرحمن الفاسي: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ﴾ ما يستصوب نَسْخَه، ﴿وَيُثْبِتُ﴾ ما تقتضيه حكمته، فلا ينكر مخالفته للشرائع في بعض الأحكام مع موافقته للحِكَم، وهو الأصول الثابتة في أصول الشرائع، ولذا قال: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ‏﴾»([62]). وقال بعض المعاصرين&: «﴿يَمْحُو اللهُ﴾ ينسخ ﴿مَا يَشَاءُ﴾ ما يستصوب نسخه، ﴿وَيُثْبِتُ﴾ ما يشاء مكانه، ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أي أصل الكتاب، وهو اللوح المحفوظ فيه كلّ شي‏ء. وهذا ردٌّ لقولهم: إنْ كانت أحكام التوراة والإنجيل صحيحةً فلِمَ نُسخت»([63]). ونحوه في محاسن التأويل([64]). وفي متشابه القرآن، لابن شهرآشوب، مرسلاً عن ابن مسعود: قال النبيّ|: «هما كتابان: [1ـ] سوى أمّ الكتاب ﴿يَمْحُو الله﴾ منه ﴿ما يَشَاءُ ويُثْبِتُ﴾؛ و[2ـ] ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾ لا يغيّر منه شي‏ء»([65]). ومثله في مجمع البيان([66]) وزاد المسير([67])، عن ابن عبّاس، موقوفاً.

والثالثة: في قوله تعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ في‏ أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 1 ـ 4)، أي إنّ القرآن كائنٌ ﴿في أُمِّ الكِتَابِ﴾، وهو ﴿لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ﴾ رفيع القدر بين الكتب، شريف المنزلة، ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يغيّر ولا يبدّل.

ويظهر من هذه الآيات، ومن النبويّ، أنّ «أمَّ الكتاب» اسمٌ للجزء الأصليّ من الكتاب الإلهيّ، استنسخت منه الكتب الإلهيّة، كما صرّحوا بذلك الاستنساخ في بيان السعادة([68]) ومجمع البيان([69]) ومعالم التنزيل([70]) ومقنيات الدرر([71]) وغيرها. وهو الجزء الثابت الذي لا يزول ولا يتغيّر ولا يتبدّل، ولذا جعل في آيتنا المبحوث عنها الآيات المحْكَمات ـ وهي أيضاً ثابتات: لا تزول ولا تتغيّر ولا تتبدّل ـ أمَّ الكتاب، حيث قال: ﴿هُنَّ﴾ أي مجموع هذه الآيات المحكمات، فجَمَع الضمير تأكيداً على الجميع، ولكن لم‌ يجمع الأمّ، بل قال: ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾؛ إذ هي اسمٌ لهذا الجزء الثابت من الكتاب. كما أنّه تعالى لم‌ يقُلْ: «هُنّ أمّه»؛ ليفيد أنّ «أمّ الكتاب» اسمٌ لجزء من الكتاب، وهذا بخلاف قوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى‏ حَتَّى يَبْعَثَ في‏ أُمِّهَا رَسُولاً﴾ (القصص: 59)، حيث لم‌ يقُلْ: «أمّ القرى»؛ لأنّها اسمٌ لمكّة المكرّمة. نعم، «أمّ الكتاب» وإنْ كان يشبه «عبد الله» علماً، حيث لم‌ يُرِدْ به ما يُراد بكلمتي «عبد» و«الله» منفردتين، ولكنْ مع ذلك لم‌ يهجر في تسميته بأمّ الكتاب معنى الأُمّ اللغويّ والعرفي رأساً، ولذا صرّحوا بأنّ «أمّ الكتاب» يعني أصله، كما في كثير من التفاسير، مثل: إرشاد الأذهان([72])، الأصفى([73])، أنوار التنزيل([74])، البحر المديد([75])، الجلالين([76])، الصافي([77])، تفسير ابن كثير([78])،تفسير شبّر([79])، التفسير المبين([80])، التفسير المعين([81])، التفسير الوسيط([82])، روح المعاني([83])، التحرير والتنوير([84])، وغيرها من التفاسير. وبلحاظ المعنى اللغويّ أيضاً فأمّ الكتاب ثابتةٌ لا تزول ولا تُغيَّر ولا تُبدَّل؛ إذ هي أصله لغةً وعرفاً، وأصل كلّ شيء ثابت لا يزول ولا يتغيّر ولا يتبدّل.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ في‏ أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 4) يدلّ بوجهين على أنّ القرآن ممّا لا يتغيّر ولا يتبدّل بغيره: أحدهما: إنّ القرآن كائن في أمّ الكتاب التي هي مجموعة الآيات المحْكَمات؛ وثانيهما: وصف القرآن بكونه حكيماً. كيف لا، وهي النسخة الأخيرة من الكتاب التي أُنزلت هدىً للناس! وهذا من لطيف التعبيرات، حيث وصف القرآن بالحكيم، لا بالمحْكَم، وهما وإنْ كانا قريبين مفهوماً ـ لاشتراكهما مادّةً ـ ولكنْ لا يتساويان معنىً، وإنْ فسّر بعضهم الحكيم بالمحْكَم، حيث قالوا: «المحْكَم الذي لم‌ ينسخ منه شيءٌ بكتابٍ آخر بعده‏»([85])، أو «محكم آياته لم‌ ينسخ شي‏ءٌ منها»([86]). فالمحْكَمات آيات ثابتة المضامين في جميع الكتب المنزلة. ومن المعلوم أنّ مضامين بعض آيات القرآن يختلف عمّا في غيره من تلك الكتب، كما سيأتي. وأمّا كون القرآن حكيماً فيعني أنّه بجميع آياته مصونٌ من أن يأتيه شيءٌ يغيّره أو يبدّله. كما أنّ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصّلت: 41 ـ 42) يقول: إنّ الذكر الذي هو من القرآن ـ كما سبق ـ لا يعتريه البطلان. ولمّا كان النسخ إبطالاً لما في الآية من حكم فهو لا يَرِدُ على القرآن الحكيم. وتقدَّم بعض الآيات الدالّة على أنّ الذكر بعض القرآن، لا نفسه، فراجِعْ. وعليه ففي هذه الآيات، ونحوها من الآيات التي وصفت القرآن بالحكيم، مثل: قوله تعالى: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ (يس: 2)، دلالةٌ صريحة على أنّ القرآن كتاب لم‌ تنسخ منه آيةٌ، لا بآيةٍ منه، ولا بروايةٍ.

وأمّا النَّسْخُ المذكور في قوله تعالى: ﴿ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 106) فهو نسخٌ بالنسبة إلى أهل الكتاب؛ ضرورة الترابط بين الآية والسابقة عليها: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (البقرة: 105). قال الشيخ الطوسي&: «فإنْ قيل: أيّ تعلق بين هذه الآية وبين التي قبلها؟ قلنا: لمّا قال في الآية الأولى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ دلّ في هذه الآية على أنّه «جلَّ وعزَّ» لا يُخْليهم من إنزالِ خيرٍ إليهم، خلاف ما يودّ أعداؤهم لهم‏»([87]). فالآية الأولى تقول: إنّ الذين كفروا من أهل الكتاب، ولم‌ يؤمنوا بما أنزل عليكم، ما يودّون أن ينزّل عليكم خيرٌ من ربّكم، قد يكون ذلك الخير آيةً تنسخ آيةً من آياتهم. ثمّ تقول الثانية: إذا ما ننسخ أو ننسي آيةً من آياتهم نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها في القرآن، فإنّ الله على كلّ شيءٍ قدير. ولذا قال أبو مسلم الإصفهاني على ما حكى عنه الفخر الرازي: «إنّ المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل، كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب، ممّا وضعه الله تعالى عنّا، وتَعَبَّدَنا بغيره»([88])‏. وكيف كان، فإذا ثبت بالآيات المتقدِّمة وغيرها أنّ القرآن لم‌ تنسخ منه آيةٌ فلا بُدَّ أن يكون النسخ المذكور في قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ نسخاً لآيةٍ من غير القرآن.

والفخر الرازي، بعد أن اعترف في مفاتيح الغيب([89]) بأنّ الاستدلال بهذه الآية على إثبات النسخ في القرآن ضعيفٌ، قال: الأقوى أن نعوِّل في إثبات النسخ على قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 101). ولكنّ الحقّ أنّ التبديل المذكور فيه كان بالنسبة إلى أهل الكتاب أيضاً؛ وذلك لدلالة الآية التالية عليه، حيث تقول: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 102)، فهي تدلّ بوجهين على أنّ المراد تبديل آيةٍ من الكتب السابقة بآيةٍ قرآنيّة: أوّلهما: «إنّ النسخ للآيات القرآنيّة ليس من شأنه أن يثبِّت قلوب المؤمنين، بل إنّه يكون‏ داعياً من دواعي الإزعاج النفسيّ؛ بسبب تلك الآيات التي يعيش معها المسلمون زمناً ثمّ يتخلّون عنها»([90])؛ ثانيهما: إنّ «المسلمين» المذكورين هنا في مقابل «الذين آمنوا» هم من أهل الكتاب الذين آمنوا بما نزّل على الرسول|؛ وذلك لقرائن: أولاها: المقابلة في الآية بينهم وبين «الذين آمنوا»؛ ثانيتها: إنّ تبديل آية قرآنية لم‌ يكن لهم هدىً وبشرى، وإنّما الهدى والبشرى لهم في تبديل آيةٍ من آياتهم بآيةٍ بشّروا بأنّها من أمارات هذا الرسول|. ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني، على ما حُكي عنه: «﴿إَذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ في الكتب المتقدّمة، مثل: إنّه حوّل القبلة إلى الكعبة، قالوا: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾ في هذا التبديل»([91]). ففي مثل تبديل القبلة تثبيتٌ للذين آمنوا، بجعل قبلةٍ لهم خاصّةً، وهدىً وبشرى لأهل الكتاب الذين بُشِّروا في كتبهم بأنّ النبيّ الموعود| يصلّي إلى القبلتين([92])؛ ثالثتها: تصريح القرآن بذلك، حيث ذكر الذين آمنوا بالقرآن من أهل الكتاب بعنوان «المسلمين»، حيث قال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى‏ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ (القصص: 52 ـ 53).

المتشابِهات

قالوا بالنسبة إلى الآيات المتشابهات: إنّها آياتٌ مجملات مبهمات. ففي التفسير الوسيط([93]): «آيات القرآن نوعان: محْكَمات…؛ ومتشابِهات، أي التي لم يظهر معناها ولم يتَّضح، بل خالف ظاهر اللفظ المعنى المراد». وفي الجلالين([94]): «﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ لا تُفهم معانيها، كأوائل السور». وفي تفسير ابن كثير([95]): «ومنه آياتٌ أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم». وفي التفسير المنير([96]): «﴿مُتَشَابِهَاتٌ‏﴾ هي التي لم يظهر معناها ولم يتّضح، بل خالف ظاهر اللفظ المعنى المراد، كأوائل السور». وفي تفسير من وحي القرآن([97]): «﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ لا تملك من الوضوح في الدلالة على معناها ما تملكه الآيات المحْكَمات، فقد يتردَّد معناها بين نوعين من المعاني من حيث تبادر المعنى الحقيقي من اللفظ عند إطلاقه، فيخيَّل للسامع أنّه المراد منه، ومن حيث وجود بعض القرائن الموحية بالمعنى المجازي أو الكنائي».

والذي يُستفاد من هذه العبارات، ونحوها في غيرها من التفاسير، أنّ معنى «التشابه» هو الإبهام وإجمال المعنى وخفاء المراد وعدم فهمه ونحوها. وهذا ما لا تساعد عليه اللغة والعُرْف والاستعمالات القرآنية، وإنْ كان ـ كما سيجيء ـ من لوازم التشابه إجمالٌ في المصاديق أحياناً. ولكنْ هنا دلائل عديدة على أنّ المراد بالتشابه في الآية ليس الإبهام والإجمال، نذكر منها:

1ـ إنّ إجمال بعض آيات الكتاب نقضٌ للغرض الذي لأجله أُنزل الكتاب، ومنافٍ له؛ إذ الكلام المجمل لا يهدي المخاطب أو السامع، بل يجعله شاكّاً باقياً في حيرة الضلالة وتيه الجهالة! بل «إنّ وجود المتشابه في القرآن كان سبباً لاختلاف المذاهب والآراء، وتمسُّك كلّ واحدٍ منها بشيءٍ من القرآن بالشكل الذي ينسجم مع متبنّياته. وهذا يناقض الأهداف التي جاء من أجلها القرآن الكريم»([98]). وبهذا يظهر بطلان ما جاء في بعض التفاسير، مثل: غرائب القرآن([99])، من «أنّه متى كانت المتشابِهات موجودة كان الوصول إلى الحقّ أصعب وأشقّ، وزيادة المشقّة توجب مزيد الثواب. وأيضاً لو كان كلّه محْكَماً كان مطابقاً لمذهبٍ واحد فقط، فكان ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه والانتفاع به، وإذا كان مشتملاً على القسمين فحينئذٍ يطمع صاحب كلّ مذهب أن يجد فيه ما يؤيِّد مقالته، فيجتهد في فهم معانيه، وبعد الفحص والاستكشاف صارت المحْكَمات مفسِّرة للمتشابِهات، ويتخلّص المبطل عن باطله ويصل إلى الحقّ. وأيضاً إذا كان فيه محْكَم ومتشابِه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بالدلائل العقلية، فيتخلَّص من ظلمة التقليد إلى ضياء البينة والاستدلال والطمأنينة، وافتقر أيضاً إلى تحصيل علومٍ أُخَر، كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه وأصول الكلام إلى غير ذلك، ولما في المشابهة من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحقّ والمتزلزل فيه. وهاهنا سببٌ أقوى، وهو أن القرآن كتابٌ مشتمل على دعوة الخواصّ والعوام، وطباع العامّة تنبو في الأغلب عن إدراك الحقائق، فمَنْ سمع منهم في أوّل الأمر إثبات موجود ليس بجسمٍ ولا متحيّز ولا مشار إليه ظنّ أن هذا عدم ونفي، فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يُخاطَبوا بألفاظٍ دالّة على بعض ما توهَّموه وتخيَّلوه، مخلوطاً بما يدلّ على الحقّ الصريح. فالأوّل وهو الذي يُخاطَبون به في أوّل الأمر من باب المتشابِهات، والثاني وهو الذي يكشف لهم آخر الحال من قبيل: المحْكَمات‏».

2ـ عشرات الآيات تقول بصراحة تامّة: إنّ القرآن مبين ونور وبيان للناس وبلاغ لهم وهدى لهم، وآياته بيّنات مبيّنات، والذي هذا شأنه ووصفه لا يتطرّق إليه شائبة الإجمال والإبهام أبداً، فضلاً عن أن يكون مجملاً أو مبهماً؛ إذ الإجمال والإبهام على جهة النقيض من هذه الأوصاف.

3ـ أغلب المفسِّرين الذين رأوا أنّ الآيات المتشابِهات هي الآيات المجملة والمبهمة قالوا بأنّ الآيات المحْكَمات مرجعٌ لرفع الإبهام والإجمال عن غيرها؛ حيث إنّها أمّ الكتاب. ثمّ لو بقي مع ذلك إبهامٌ لها فالنبيّ| لم‌ يَدَعْ تلك الآيات إلاّ وبيَّنها للناس، فحينئذٍ لم‌ يبْقَ لها من الإبهام شيءٌ، وعليه فلم‌ يَبْقَ مجالٌ للفتنة للذين في قلوبهم زيغٌ. ولكنّ الآية صرّحت ببقاء هذا المجال لهم. وحينئذٍ لا بُدَّ من رفع اليد عن مرجعية الآيات المحْكَمات والنبيّ| لرفع الإبهام والإجمال عن المتشابِهات، أو عن كون المتشابِهات مجملات ومبهمات، أو عن كلَيْهما. وبعبارةٍ أخرى: إنّ وجه تشبُّث الذين في قلوبهم زيغٌ بالآيات المتشابهات للفتنة هو تشابه هذه الآيات، ومع الآيات المحْكَمات والنبيّ| لم‌ يبْقَ لها إبهامٌ وإجمال. والآية صرَّحت ببقاء مجال الفتنة لهم. فتشابه هذه الآيات كان باقياً. وعليه فالتشابه لايعني الإبهام والإجمال.

4ـ الآيات المتشابهات ـ كما تقول الآية ـ آياتٌ يتّبعها الذين في قلوبهم زيغٌ، و«الاتّباع» لا ينطبق إلاّ في حال كان للفظ مفهومٌ لغوي يكون أخذه والعمل به اتّباعاً له؛ إذ ليس من اتّباع الكلام ـ أيّ كلام ـ أن نأخذ بأحد معانيه المشتركة أو المردَّدة إذا لم‌ يكن له ظهورٌ فيه، وإنّما يكون هذا العمل من اتّباع الهوى والرأي الانفرادي في تعيين المعنى؛ لأنّ الكلام لايعيِّنه([100]).

5ـ «التشابه في الآية الكريمة أخذ بالشكل الذي يمكن استغلاله في مجال الفتنة»([101]). فلو كانت المتشابِهات مجملات مبهمات لما أمكنهم التشبُّث بها للفتنة؛ إذ الكلام المجمل المبهم مجمل مبهم لا يتبيّن مرادُه عند الناس، ولو وجَّهه الذين في قلوبهم زيغٌ للناس بما يوجب الفتنة لم‌ يقبل الناس منهم، بعد أن لم‌ يفهموا منه المراد بأنفسهم، وما زالوا في شكٍّ في المراد به. وبعبارةٍ أخرى: «إذا لم‌ يكن للفظ ظهورٌ في معنىً معيّن لايمكن استغلاله في مجال الفتنة»([102])؛ «حيث جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتَّبعوا ما هذا شأنه من الألفاظ، فلم‌ يقدم على مثله أهل اللسان، سواء في ذلك أهل الزيغ منهم والراسخون في العلم»([103]). فإنّ الفتنة كما يظهر من القرآن «هو ما يوجب اختلالاً مع اضطرابٍ‏»([104])، ولا يُعَدّ مطلق اختلاف الناس في أمرٍ، مثل: اختلافهم في استظهار مرادات الآيات، فتنةً، بل هو مَحْض اختلافٍ أو تنازع، وما كان مبهماً أو محتملاً لأكثر من معنىً إنما يوجب اختلاف أنظار الناس في استظهار المراد به، كما نرى هذا الاختلاف بين المفسِّرين والفقهاء والأصولين والمحدِّثين وغيرهم، ولكنّه لم‌ ينْتَهِ إلى الفتنة بينهم، ما لم‌ تنضمّ إليه الدواعي غير العلميّة والأهواء الفاسدة.

6ـ معنى كون القرآن إعجازاً أنّ السامع يدرك أنّه لا يقدر أحدٌ على إنشاء كلامٍ مثله. وهذا الإدراك العقلائي يتوقَّف على فهم آياته جيّداً؛ ليدركوا بالتَّبَع عجزهم عن إتيان كلام مثله. فلو كان بعض آيات القرآن مبهماً عليهم لم‌ يدركوا عجزهم عن إتيان مثله، بل لهم أن يقابلوا النبيّ| بإنشاء جملات مبهمة، ثمّ عدّها من سنخ الآيات المبهمات. والأمر بالنسبة إلى التحدّي أيضاً كذلك.

ولهذا كلّه عَدَّ الشهيد مطهَّري التصوُّرَ المتقدِّم بالنسبة إلى المحْكَم والمتشابِه تصوُّراً عامّياً، فقال: «هنا تصوُّر عامّي بالنسبة إلى المحْكَمات والمتشابِهات، فيُزعَم أنّ الآيات المحْكَمات هي التي طرحت فيها المطالب بشكلٍ بسيط وصريح، وعلى العكس في الآيات المتشابِهات، طرحت المطالب بصورة لُغْزٍ ومعمّىً. وطبقاً لهذا التعريف فللناس حقّ التدبُّر في الآيات المحْكَمات فقط، والآيات المتشابِهات لا يمكن المعرفة بها والتفكُّر فيها أصلاً. وبالطبع يطرح هنا سؤال هو: ما هي حكمة الآيات المتشابِهات؟ ولماذا جاءت في القرآن آياتٌ لا يمكن معرفتها؟ والجواب الإجمالي أنّ معنى المحْكَم ليس الصريح والبسيط، ولا معنى المتشابِه اللغز والمعمّى»([105]).

نعم، هنا إبهامات كثيرة على كثير من الناس في كثير من كلمات القرآن وعباراته في عصرنا، وكذا في سائر الأعصار المتأخّرة عن عصر النزول، فإنّها إبهاماتٌ حمّلها على الكتاب المبين أمور، منها:

1ـ تطوّر اللغة العربيّة بمفرداتها وتركيباتها. فاللغة العربيّة ـ كأيّ لغةٍ ـ كائنٌ متحرّك، تختلف مدلولات كلماتها حَسْب الزمان والمكان، وحَسْب الطوائف والمذاهب الفكريّة، وحَسْب المجتمعات.

2ـ محاولة ﴿الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ لتحريف معاني القرآن أوّلاً، وتلبّسه بالإبهام والإجمال ثانياً.

3ـ الروايات المختلقة أو المحرَّفة التي زعمت أنّها قرائن منفصلة لبعض مداليل الآيات والكلمات.

4ـ قصور أو تقصير علماء العربيّة في ضبط معاني مفردات القرآن وتراكيبه.

5ـ البُعْد الزمني بين عصر النزول والأعصار المتأخِّرة عنه، الموجب للتغيُّر الهائل في أساليب الحوار والكلام من ذلك العصر إلى ما بعده. فلم يَمْضِ من عصر النزول إلاّ مائة أو مئتين من السنين وحدثت أو أحدثت هذه الأمور وغيرها، وحمّلت الإبهام والإجمال على كثيرٍ من مداليل ومرادات الكتاب المبين، الذي هو نور وبيان وبلاغ وهدىً للناس بآياته البيِّنات المبيِّنات. ومع ذلك هنا فارقٌ بين المؤمن وغيره؛ فإنّ المؤمن يؤمن بما وصف الله كتابه به، ولا يقول بأنّه نزل مجملاً أو مبهماً أو مهملاً (أي ليس في مقام البيان)، وإنْ يرَ في القرآن كثيراً ممّا لا يتبيّن مراده له، بل يقول: إنّه للبيان قلّة، وللبلاغ قمّة، وللهدى راية؛ خلافاً لغير المؤمن، فحيث يرى في القرآن ما لا يتبيّن له مرادُه يَزعُم أنّه مبهمٌ أو مجمل أو قاصر أو غيرُها ممّا يليق بنا وبأنظارنا القاصرة وأفكارنا الفاترة. ولايقدح في هذا ما عرض من الإبهام على نوادر من الناس المعاصرين للنزول في نوادر من كلمات القرآن وعباراته، بحيث يحوجهم إلى الاستفهام عنها؛ إذ المدار على الغالب، وما نقل في التاريخ من هذه الاستفهامات ـ لو ثبت ـ نادرٌ كلَّ الندرة، بل في بعضه دلالة على أنّ القرآن كان مرجعهم وملاك عملهم، وإنْ أخطأوا أحياناً نادرةً في فهمه وتطبيقه.

بعد أن ثبت فساد ما قيل بالنسبة إلى المتشابِه أقول تبييناً للمراد به: إنّ المتشابِهات ـ جمع المتشابِهة ـ من التشابه، وهو نحوٌ من التشاكل والتوافق والتقارب بين شيئين مختلفين أو أشياء مختلفة. وبعبارةٍ أخرى: «التشابه توافق أشياء مختلفة واتّحادها في بعض الأوصاف والكيفيات‏»([106]). واستعمل في القرآن على نحوين:

أحدهما: يذكر متعدّياً بـ «على». وهذا في آيتين:

إحداهما: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنَا﴾ (البقرة: 70)، أي بما أنّ البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثيرٌ، وشابه بعضه بعضاً، صار البقر متشابهاً، فاشتبه علينا شخصه([107]). والبقر أُسند إليه التشابه واتّصف بكونه متشابهاً، وقيل: «البقر المتشابه»، إذا شابه بعضُ أفراده بعضاً. ولذا قال ابن منظور: «تَشابَه الشيئانِ واشْتَبَها: أَشْبَهَ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه‏»([108]).

وثانيتهما: قوله تعالى: ﴿أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ (الرعد: 16)، «والمعنى أنّهم ما اتَّخذوا لله شركاء خالقين مثله حتّى يتشابه عليهم الخلق، فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله»([109]). والخلق أُسند إليه التشابه، واتّصف بكونه متشابهاً، وقيل: «الخلق المتشابه»، إذا شابه بعض أفراده بعضاً. إذن هذه المشابهة بين الأفراد قد تنتهي إلى التباسٍ بينها وعدم امتيازٍ لبعضها عن بعض، ولكنّ الكلام إنّما يفيد الالتباس إذا استخدم المتكلِّم في كلامه «على» ومدخولها، وذلك لأجل تعدُّد الدالّ والمدلول. ولذا قال الفيروزآبادي: «وتشابها واشتبها: أشبه كلٌّ منهما الآخر حتّى التبسا»([110]). ولكنّ هذا الالتباس التباسٌ في ناحية المصاديق فقط، ولا يسري إلى المعنى والمراد من الكلام.

النحو الثاني: يذكر من دون أن يتعدّى بـ «على»، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً﴾ (البقرة: 25)، و﴿تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (البقرة: 118)، و﴿وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ (الأنعام: 99)، و﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ (الأنعام: 141). وفي هذا النحو أيضاً أُسند التشابه إلى شيءٍ واتّصف بالمتشابه إذا شابه بعض أفراده بعضاً، من دون أيّ فرقٍ مع النحو الأوّل. فالقلوب المتشابهة قلوبٌ شابه بعضها بعضاً، والزيتون والرمّان المتشابهان زيتون ورمّان شابه بعض أفرادهما بعضاً. كما أنّ البقر والخلق المتشابهين المذكورين في النحو الأوّل كانا كذلك. فلا يسند التشابه إلى الشيء ولا يتّصف بكونه متشابهاً إلاّ إذا شابه فرداً آخر من نوعه أو صنفه. وأمّا إذا شابه بعضُ أجزاء الشيء للبعض الآخر من أجزاء نفسه فلا يُقال: «هذا شيءٌ متشابه»، بل يقال: «هذا شيءٌ أجزاؤه متشابهة»، إلاّ على نحو من التجوُّز، ومن باب وصف الشيء بحال أجزائه.

ومنه أيضاً: قوله تعالى: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً﴾ (الزمر: 23). وبما قلناه آنفاً تعرف أنّ الكتاب المتشابه كتابٌ أشبه بعضُ أفراده بعضاً. ولذا قال المحقِّق مصطفوي في توضيح الآية: «أي كتاباً يحتوي على أحسن الحديث، يحدّث عن الحقائق والمواعظ والمعارف وقصص من السابقين، وهو في ظاهره شبيهُ كتبٍ أُخَر…»([111])، لا ما أشبه بعضُ أجزائه بعضَها الآخر.

إلاّ أن يُقال: إن إفراد الكتاب وتنكيره لا يساعدان لحاظ جنس الكتاب أو لحاظ كتابٍ آخر أشبه أحدهما الآخر، وأطلق على كلَيْهما كتابٌ متشابِه، فلا بُدَّ أن يكون إطلاق المتشابِه على الكتاب الواحد بلحاظ مشابهة أجزائه بعضها لبعض. وعليه ترتفع الخَدْشة في ما قالوه في تفسير الآية، من أنّ تشابه الكتاب لأجل مشابهة بعض أجزائه بعضاً. قال الشيخ الطوسي: «معناه متشابِهاً في الحِكَم التي فيه من الحجج والمواعظ والأحكام التي يعمل عليها في الدين وصلاح التدبير يشبه بعضه بعضاً لا تناقض فيه‏»([112]) وقال الطَّبْرِسي: «﴿مُتَشَابِهاً﴾ هو مطلقٌ في مشابهة بعضه بعضاً، فيتناول تشابه معانيه في الصحّة والإحكام ومنفعة الأنام، وتشابه ألفاظه في التناسب، والتناصف في التخيّر والإصابة، وتجاوب النظم والتأليف في الإعجاز»([113]). وقال البيضاوي: «وتشابهُه تشابهُ أبعاضه في الإعجاز، وتجاوب النظم، وصحّة المعنى، والدلالة على المنافع العامّة»([114]). ونحوه في الأصفى([115]). وقال أيضاً: «معناه أنّه يشبه بعضه بعضاً في صحّة المعنى وجزالة اللفظ»([116]). وقال أبو حيّان: «معناه يشبه بعضه بعضاً في الجنس والتصديق‏»([117]). وقال ابن عاشور: «أي متشابهة أجزاؤه، متماثلة في فصاحة ألفاظها وشرف معانيها، فهي متكافئةٌ في الشرف والحسن‏»([118]). وقال عبد الكريم الخطيب: «وهو كتابٌ متشابهٌ في جلال قدره، وعلوّ منزلته، وسموّ معانيه. إنّه الحقّ في آياته وكلماته. فهو على درجةٍ واحدة في كماله وجلاله‏»([119]). وقال بعض المعاصرين: «المقصود من «متشابه» هنا هو الكلام المتناسق الذي لا تناقض فيه، ويشبه بعضه البعض، فلا تعارض فيه، ولا تضادّ، وكلّ آيةٍ فيه أفضل من الأخرى، والمتماثل من حيث اللطف والجمال والعمق في البيان»([120]).

وكيف كان فآيتنا المبحوث عنها ـ أي قوله تعالى: ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ ـ أيضاً ممّا ذكر فيها التشابه من دون أن يتعدّى بـ «على»، فلا يفيد التشابه فيها إلاّ معنىً مثلَ المعنى الذي يفيده في الآيات المتقدِّمة. ولعمري، لا أدري كيف كان المتشابه في تلك الآيات بمعنى المتشاكل والمتماثل والشبيه، بل بمعنى «الكلام المتناسق الذي لا تناقض فيه ويشبه بعضه البعض»، كما تقدّم عن بعض المعاصرين، ولكنْ إذا وصلت النوبة إلى «الآيات المتشابِهات» صار معناه المجملات والمبهمات!

وعليه، فالصواب أنّ الآيات المتشابِهات آياتٌ «يشبه بعضها بعضاً»، كما في العين([121])، فهي مجموعةٌ من الآيات المتشابهة في نُسَخ الكتاب المتعدِّدة، فإنّه يشابه بعضها بعضاً موضوعاً، ويختلف حكماً اختلافاً تحفظ معه الشباهة العرفيّة بينها. ولذا روى العيّاشي، مرسلاً عن أبي ‌عبد الله×، أنّه قال: «…والمتشابِه: الذي يشبه بعضه بعضاً»([122]). ونحوه في مجمع البيان([123]). وأيضاً نرى أنّ الزركشي جعل النوع الخامس من علوم القرآن «علم المتشابِه»، وعرَّفه بقوله: «وهو إيراد القصة الواحدة في صور شتّى وفواصل مختلفة، ويكثر في إيراد القصص والأنباء»([124])، وجعل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة: 58) مشابِهاً لقوله: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف: 161)، وجعل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى‏﴾ (البقرة: 120) مشابِهاً لقوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى‏ هُدَى اللهِ‏﴾ (آل عمران: 73). ومثّل للمتشابِه بآياتٍ كثيرة غيرها. وهذا تصريحٌ منه بأنّ تشابه الآيات شباهة بعضها لبعض. كما أنّ كتاب «البرهان في متشابِه القرآن»، للكرماني، وكتاب «كشف المعاني عن متشابه المثاني»، يبحثان عن آياتٍ أشبه بعضها بعضاً، كما صرَّح به نفسه في نفس الكتاب([125])، وغيره، كالسيوطي في الإتقان([126]). ولاينقضي عجبي منه كيف قال مع ذلك، في النوع السادس والثلاثون من علوم القرآن، وهو «معرفة المحْكَم من المتشابِه»: «المتشابِه لا يرجى بيانه، والمحْكَم لا تتوقَّف معرفته على البيان»([127])!

ثمّ إنّ تصنيف آيات الكتاب إلى الصنفين المذكورين في الآية، حيث قال: ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ يدلّ على أنْ لا ثالث لهما، وأنّ المتشابِهات صنف يضادّ المحْكَمات، فهما ضدّان لا ثالث لهما. وبما أنّ التضادّ بينهما تعلَّق بوصف الإحكام والتشابه، ونشأ عنهما، فإلقاء المقابلة بينهما قرينةٌ داخليّة تدلّ على أنّ المتشابِهات آياتٌ ذات صفة هي ضدّ صفة اتّصف بها المحْكَمات. وثبت في ما تقدّم أنّ المحْكَمات آياتٌ ثابتة المضامين، لا يعرضها تغيير أو تبديل. وعليه فما يضادّها من المتشابِهات يعرضه التغيير والتبديل، فهي تتغيَّر أو تتبدَّل من كتابٍ إلى كتاب، وإنْ كانت مع ذلك التغيير والتبديل متشابهةً، أي تبقى الشباهة العرفيّة بينها، فيشبه بعضها بعضاً، ولكنْ لم‌ تكن متماثلة. ولذا روى في الكافي، عن أبي‌ جعفر× أنّه قال: «الْمَنْسُوخَاتُ مِنَ الْمُتَشَابِهَات»([128])، فقال× ـ على ما في الرواية ـ بأنّ المنسوخات بعض المتشابِهات، ولم‌ يقُلْ بأنّ المنسوخات هي المتشابِهات؛ إذ المتشابِهات مجموعة المنسوخات ونواسخها. وما حُكي عن ابن عبّاس وابن مسعود وقتادة والربيع والضحّاك‏ من أنّهم قالوا: «المحْكَم الناسخ، والمتشابِه المنسوخ»([129]) فلم يريدوا بذلك أنّ جميع المحْكَمات ناسخة وجميع المتشابِهات منسوخة، بل أرادوا أنّ المحْكَمات لايعرضها التغيّر والتبدّل، فهُنَّ ثابتات في الكتب الإلهيّة، والمتشابِهات آياتٌ يأتي فيها التغيّر والتبدّل من كتابٍ إلى كتاب بعده. ولعلّه لهذا قال سليمان بن حبيب المحاربي، على ما رواه الحافظ الرازي عنه: «إنما أُمِرْنا أن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ولا نعمل بما فيها»([130])؛ فإنّ عمل المسلمين على القرآن فقط. وقال الضحّاك، على ما رواه أيضاً الحافظ الرازي عنه: «نؤمن بمتشابِهه، ولا نعمل به»([131]). فما في التوراة والإنجيل ممّا لا نعمل به من الأحكام المشابِهة للقرآن يكون من الآيات المتشابِهات.

ولنذكر لهذه الآيات المتشابِهات نموذجاً بيِّناً من القرآن؛ ابتعاداً من الافتراضيّة واقتراباً إلى الموضوعيّة، وهو أنّ القرآن حكى لنا ما كتبه الله في التوراة على بني إسرائيل في مجازاة الجناية على النَّفْس والطَّرَف، حيث قال: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة: 45)، فجعل عليهم مجازاة القتل عَمْداً قتلَ القاتلِ مهما كان المقتول، وجَعَل للجناية على بعض الأعضاء مجازاةً مثلَها، ولمجازاة الجروح جروحاً مثلَها. هذا ما كتبه الله في التوراة على بني إسرائيل بتصريح الآية. فهذه آيةٌ من آيات التوراة حكاها الله تعالى في القرآن. ولكنّه تعالى غَيَّر قسماً من أحكام مجازاة القتل العمديّ بالنسبة إلى الأمّة الإسلاميّة، حيث قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلى‏ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى‏ بِالأُنْثَى‏…﴾ (البقرة: 178)، ففرض على المؤمنين في مجازاة القتل عَمْداً المساواة بين القاتل والمقتول في الحرّية والعبودية، والذكورة والأنوثة. وتنتج هذه المساواة ـ على ما شرحناه في مقالة «القصاص في القرآن الكريم» ـ عدم مجازاة القاتل في ستّ صور، هي أكثر ابتلاءً من تلك العشر التي يُقاد القاتل فيها. فهاتان الآيتان متَّفقتان في الموضوع، وهو القتل عَمْداً، وكذا في أصل حكم مجازاة الجاني على النفس والجاني على الطَّرَف، ولكنّهما تفترقان في بعض أحكام مجازاة الجاني على النفس، فكان حكم التوراة قود القاتل مهما كان مقتوله، ولكنّ حكم القرآن يختلف عنه في بعض صور الموضوع والمسألة. فكلّ واحدة من هاتين الآيتين تشابه الأخرى في الموضوع وفي بعض الأحكام، وتختلف عنها في بعض الأحكام. فهما آيتان متشابهتان، غيَّرت الآية القرآنية حكم الآية التوراتية في بعض صور القتل العمدي بالنسبة إلى المؤمنين فقط، وأمضاه في بعض صوره الأخرى، كما أمضاه بالنسبة إلى مجازاة الجناية على الطَّرَف، وبالنسبة إلى الجروح. والتفصيل يطلب من مقالتنا المذكورة.

وقد ظهر ممّا ذُكر أنّ المتشابِهات من آيات الشرائع، لا من آيات العقائد والأخلاق؛ فإنّ العقائد الحقّة والأخلاق الحَسَنة، وأضدادهما من العقائد الباطلة والأخلاق السيّئة، أمورٌ ثابتة لا تتغيَّر، وإنما المتغيِّر هو الشرايع. ولذا أشاروا في كلماتهم إلى العمل بالآيات المتشابِهات، كما تقدَّم، وما يتعلَّق بالعمل مباشرةً هي الشريعة، لا العقيدة، ولا الأخلاق. وظهر أيضاً أنّ الكتاب بنسخه المتعدِّدة كان مشتملاً على المتشابِهات من الآيات، بعد إذ أنزلت نسخةٌ ثانية منه، وفيها ما ينسخ شيئاً من نسخةٍ قبلها، وهكذا بعد إنزال النسخة الثالثة، فليس التشابه ظاهرةً مستحْدَثة ظهرت في الكتاب بإنزال نسخته الخاتمة المهيمنة القرآنيّة على النبيّ الخاتم|. وهذا ما تفيده الآية، حيث تقول: إنّ الكتاب مشتملٌ على الآيات المتشابِهات، فأسندت الحكم (أي وجود الآيات المتشابِهات) إلى الكتاب بما هو كتابٌ، لا بما هو قرآن، وإنْ سُمّي ما نزل منه على النبيّ الخاتم| بالقرآن. نعم، بما أنّ الآية وجّهت للذبّ عمّا نزل على الرسول|، وأنّ الله هو الذي أنزله عليه، يكون توجُّه الآية إلى متشابِهات القرآن وموقف معارضيه أكثر وأصرح. فاللهُ تعالى؛ بغرض إثبات أنّ القرآن نزل من عنده، قال: إنّ بعض آيات القرآن لا تطابق أو لا تماثل آيات كتابكم، ولكنّه لايضرّ بأنّه ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ (البقرة: 89؛ القصص: 49) ﴿مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ﴾ (البقرة: 41؛ النساء: 47)؛ فإنّ آيات كتاب الله طائفتان: طائفةٌ جاءت في ما جاءت من نُسَخ «الكتاب»، من دون أيّ تغيير في مفادها ومضامينها، هي «الآيات المحْكَمات»؛ والطائفة الثانية: آيات تغيَّرت من نسخة من «الكتاب» إلى نسخة أخرى، هي «الآيات المتشابِهات»، فأحكامها في تلك النسخ المتعددة ليست متماثلةً، بل هي مشابِهةٌ لبعضها البعض.

الذين في قلوبهم زيغٌ

﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏﴾: إنّهم ـ على ما أسند إليهم هنا ـ لم‌ يكونوا كافرين أو منكرين للكتاب رأساً؛ إذ المنكر أو الكافر ينكره رأساً، ويكفر به كلاًّ، وليس الكتاب عنده بشيءٍ ليتعلّق بجزءٍ منه؛ لغرض، صالحاً كان أو فاسداً. بل هم على الرغم من دعواهم الإيمان بالكتاب كانوا على مرّ العصور يعارضون الرسل المبعوثين بعد رسلهم، ولا سيَّما المبعوثين منهم بنسخةٍ أو نسخ من الكتاب غير نسختهم، بطرق عديدة، منها: إنكار أنّهم مبعوثون بوحي الله تعالى وأنّ ما أتوا به من الكتاب أنزله الله. وفي الآية التالية، وهو قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لاتُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ (آل عمران: 8) إشارةٌ إلى ذلك، حيث جعل نقمة إزاغة القلب بعد نعمة الهداية، فزيغ القلب يتحقَّق بعد أن كفر الإنسان بالهداية التي أنعم الله عليه بها. كما أنّ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى‏ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي‏ وقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (الصفّ: 5) يشير إليه أيضاً، حيث عبَّر عن إيذائهم لموسى، مع علمهم بأنّه رسول الله، بالزيغ. فالزيغ يتحقَّق في مَنْ كان عالماً بالحقّ، ومع ذلك يكفر به.

وعلى هذا فـ ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏﴾ من أهل الكتاب، كما يشهد على ذلك قول بعض أهل السيرة والحديث والتفسير بأنّ هذه الآيات نزلت في اليهود، ففي تفسير مقاتل([132]): «﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏﴾ يعنى ميل عن الهدى، وهم هؤلاء اليهود»، ونحوه في موضعٍ آخر([133]) منه. وقال السمرقندي: «يعني ميل عن الحقّ، وهم اليهود‏»([134]). وقال الطبري: «يعني هؤلاء اليهود، الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والحقّ»([135]). وفي بيان المعاني([136]): «﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ عن الحقّ، وميلٌ إلى الشكّ، كوفد نجران… واليهود». وسيأتي أنّ قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ…﴾ ممّا يشير إلى بعض مواضع اليهود الفاسدة في ذلك.

وقال بعضٌ آخر: إنّها نزلت في وفد نجران. ففي تفسير ابن كثير([137]): «قد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أنّ صدر سورة آل عمران، إلى بضع وثمانين آية منها، نزلت في وفد نجران». وفي زاد المسير([138]): «ذكر أهل التفسير أنها مدنيّةٌ، وأنّ صدراً من أوّلها نزل في وفد نجران‏». وفي مجمع البيان([139]): «قال الكلبي ومحمد بن إسحاق والربيع بن أنس: نزلت أوائل السورة إلى نيّفٍ وثمانين آية في وفد نجران‏». وفي أحكام القرآن، للجصّاص([140]): «روى الربيع بن أنس أنّ هذه الآية نزلت في وفد نجران‏». وفي البحر المحيط([141]): «هم نصارى نجران‏». وبه قال ابن عاشور ودروزة وغيرهما.

﴿فَـ﴾ هؤلاء من أهل الكتاب ﴿يَتَّبِعُونَ﴾ أي يتعلَّقون([142]) ﴿مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ أي الآيات المتشابِهة من الكتاب؛ فإنّها في نسخ الكتاب ـ مع كونها مشابهةً لبعضها البعض ـ يختلف بعضها عن بعضٍ في بعض الأحكام، فهي تغيّرت أو تبدّلت في النُّسَخ المتأخِّرة. وعليه فالمراد بـ ﴿مَا تَشَابَهَ﴾ مجموع الآيات الناسخة والمنسوخة، فهي متشابِهات؛ لكون الناسخ منها يشابه المنسوخ منها. ولذا حكى الحافظ ابن أبي حاتم الرازي، مسنداً عن السُّدّي أنّه قال: «فإنّهم يتَّبعون المنسوخ والناسخ»([143]).

وكان غرضهم من اتّباع ما تشابه من الكتاب أمرين فاسدين:

أحدهما: ما ذكره تعالى بقوله: ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾، أي طلباً لما يوجب اختلالاً واضطراباً بين المؤمنين بالرسل الذين أُرسلوا بعد رسولهم، وبكتبهم التي أنزلت بعد كتابهم؛ إذ ما من رسولٍ إلاّ وهو مصدِّقٌ للرسل من قبله، ولما بين يدَيْه من الكتاب، فلمّا سمعوا ذلك التصديق منهم ورأوا أنّ ما أتوا به من الكتاب قد يختلف عمّا بأيديهم من الكتاب قالوا: لو كنتم رسل الله، وكتابكم أنزل من عند الله تعالى، لماذا يختلف كتابكم عمّا قد أنزله الله علينا سابقاً؟ وكان لابتغاء الفتنة هذا سابقةٌ بسابقة ما تشابه من الكتاب، فلم‌ يُستحْدَث بعد نزول ما تشابه من القرآن، وإنْ وقع بالنسبة إلى رسول الله وكتابه القرآن أظهر وأكثر، حيث كان يقول القرآن خطاباً لأهل الكتاب: إنّ هذا الرسول ﴿صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الصافّات: 37)، وهو ﴿رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ (البقرة: 101)، و﴿رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ﴾ (آل عمران: 81)، وكتابه أيضاً ﴿مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ (البقرة: 89، القصص: 49)، ﴿مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ﴾ (البقرة: 41، النساء: 47)، و﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ (البقرة: 97، آل عمران: 3، المائدة: 48، فاطر: 31، الأحقاف: 30). وحيث أطلق التصديق المذكور للرسل الماضين والكتب السابقة، ولم‌ يقيِّده بقيدٍ، ولم‌ يستَثْنِ منه شيئاً، فلا يتحقّق التصديق بداهةً إذا لم‌ يطابق كتاب هذا الرسول| بعض ما في كتب الرسل الماضين^، فطعنوا عليه، وقالوا: لو كان القرآن من عند الله تعالى لماذا لايطابق بعضَ ما قد أنزله الله علينا أهل الكتاب، بل غيّره. كما تقدّم آنفاً كلامٌ في طعنهم على القرآن، عند قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 39). فكانوا يبتغون بذلك تزلزل إيمان المؤمنين بالرسول| وبما أنزل إليه، فيقولون؛ إلقاءً للشبهة في قلوبهم: ما بال هذه الآيات المنزلة على رسولكم، مع كونها مشابهةً لما أنزل علينا، تختلف عنه في بعض الأحكام؟! أليس رسولكم يقول: إنّ كتابه مصدِّقٌ لما في كتبنا فلماذا يختلف عنه في بعض هذه الأحكام من هذه الآيات؟! فإنّ شبهتهم هذه توجب الشكّ في قلوب المسلمين في حقّانية الرسول| وكتابه.

وثانيهما: ما ذكره تعالى بقوله: ﴿وَابْتِغَاءَ تَأوِيلِهِ﴾، أي طَلَباً لتأويله. فقال كثيرٌ: إنّ المراد بالتأويل هو التفسير.

ولكنه ليس كذلك؛ لوجهين:

1ـ لو كانت في الكتاب آياتٌ لا يعلم تفسيرها ومراداتها إلاّ الله (أو هو والراسخون في العلم) لأَخَلّ ذلك بغرض الهداية الذي لأجله أنزل الكتاب، بل لنافاه؛ إذ الهداية به تتوقّف على فهم مراداته، ولا يمكن الرجوع إلى الله لتعيين المرادات. ولو كان الراسخون يعلمون تفسيرها فالرجوع إليهم ممكنٌ ما داموا معلومين مشهودين، غير مقهورين، ولا محبوسين، وأمّا إذا كانوا مجهولين بالنسبة إلى أكثرية المسلمين، أو مقهورين أو محبوسين أو محجوبين بالنسبة إلى آخرين منهم، فلا. فبقيت هذه الآيات غير هادية، بل صريح الآية يقول: إنّها بقيت وسيلةً لاستغلال الذين في قلوبهم زيغٌ.

وبهذا اتّضح فساد ما قيل: إنّ إنزال المتشابِهات «لأجل مصلحة أن يحوج العباد إلى مسألة الأوصياء، ورفع مفسدة استغنائهم عن مسألة الأوصياء»([144]). ولعلّ مستنده ما رواه الطبرسي، مرسلاً عن أمير المؤمنين×، في احتجاجه الطويل على زنديقٍ جاء مستدلاًّ عليه بآيٍ من القرآن‏: «إِنَّ اللهَ جَلَّ ذِكْرُهُ؛ لِسَعَةِ رَحِمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بِخَلْقِهِ وَعِلْمِهِ بِمَا يُحْدِثُهُ الْمُبَدِّلُونَ مِنْ تَغْيِيرِ كِتَابِهِ، قَسَّمَ كَلامَهُ ثَلاثَةَ أَقْسَامٍ؛ فَجَعَلَ قِسْماً مِنْهُ يَعْرِفُهُ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ؛ وَقِسْماً لايَعْرِفُهُ إِلاّ مَنْ صَفَا ذِهْنُهُ وَلَطُفَ حِسُّهُ وَصَحَّ تَمْيِيزُهُ مِمَّنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ؛ وَقِسْماً لايَعْرِفُهُ إِلاّ اللهُ وَأُمَنَاؤُهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا فَعَلَ الله ذَلِكَ لِئَلاّ يَدَّعِيَ أَهْلُ الْبَاطِلِ مِنَ الْمُسْتَوْلِينَ عَلَى مِيرَاثِ رَسُولِ اللهِ| مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ مَا لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُمْ، وَلِيَقُودَهُمُ الاضْطِرَارُ إِلَى الائتِمَارِ لِمَنْ وَلاّهُ أَمْرَهُمْ، فَاسْتَكْبَرُوا عَنْ طَاعَتِهِ؛ تَعَزُّزاً وَافْتِرَاءً عَلَى اللهِ عزَّ وجلَّ، وَاغْتِرَاراً بِكَثْرَةِ مَنْ ظَاهَرَهُمْ وَعَاوَنَهُمْ وَعَانَدَ اللهَ عزَّ وجلَّ وَرَسُولَهُ»([145]). فإنّ العترة الطاهرة الهادية^ كانوا في معزلٍ عن المجتمع، مقهورين أو محبوسين أو مقتولين أو محجوبين، كما صرَّح به في ذيل المرسلة، حيث قال: «فَاسْتَكْبَرُوا عَنْ طَاعَتِهِ…»، فهل يعقل أن يجعل الله قسماً من كلامه ما لا يعرفه إلاّ أمناؤه، وهو يعلم أنّهم^ لم‌ يزالوا مقهورين أو محبوسين أو مقتولين، إلى أن جعل بقيّتهم× محجوباً عن أعين الناس، عجَّل الله تعالى فرجه الشريف؟! وعلى أيّ حالٍ كانت أيدي الناس عنهم قاصرةً، فكيف بيّنوا لهم هذه الإجمالات والإبهامات؟! مضافاً إلى ما صرَّحوا به من «عدم بيان الأئمّة^ تأويل أكثر المتشابِهات، بل تفسيرهم المتشابِه بالمتشابِه مزيدٌ في العلّة، لا رافعاً للشبهة، ولا مورثاً للقلّة»([146]). مع أنّ حاجة الناس إلى العترة^ لاينحصر في هذا؛ إذ هم ولاة المجتمع الإنساني. ولعمري ليست حاجة المجتمع إلى شيءٍ كحاجته إلى واليه، ولا سيَّما ولاةٍ كهؤلاء الصالحين^.

2ـ إبراز المتكلِّم كلامه الموجَّه إلى الناس للإفادة والبيان بعبارة لا يفهمها إلاّ نفس المتكلِّم والأوحديّ من الناس يدلّ على عجزه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً([147]).

قال السدّي: «تأويله عواقبه، متى يجيء الناسخ فينسخ المنسوخ»([148]). ونحوه عن السدي في جامع البيان([149]). يعني أنّهم يترصّدون أن يجيء ما يغيّر أو يبدّل حكماً من أحكام شرائعهم، ليتشبَّثوا به؛ للفرار عن الحكم الثابت عليهم في شرائعهم. كما أشير إلى ذلك في هاتين الآيتين: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (المائدة: 42 ـ 43). قال الجصّاص: «فأخبر تعالى أنهم لم‌ يتحاكموا إليه تصديقاً منهم بنبوّته، وإنما طلبوا الرخصة»([150]). وقال الكياهراسي: «إنهم لم‌ يتحاكموا إليك طلباً لحكم الله تعالى، وإنما تحاكموا إليك لطلب الرخصة»([151]). وقال الفيض الكاشاني&: «وفيه تنبيهٌ على أنّهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحقّ وإقامة الشرع، وإنّما طلبوا به ما يكون أهون عليهم، وإنْ لم‌ يكن حكم الله في زعمهم»([152]). وقال بعض المعاصرين: «كانوا حين يرَوْن حكماً في التوراة لايوافق ميولهم وأهواءهم يتركون ذلك الحكم، ويبحثون عن حكمٍ آخر في مصادر لم‌ يقرُّوا ولم‌ يعترفوا بها»([153]).

وكما تقدَّم في الابتغاء الأوّل، فالابتغاء الثاني أيضاً لم‌ يُستحْدَث بعد إنزال القرآن ومتشابِهاته وبالنسبة إليها، بل ظهر قبله، وبعد إنزال المتشابِهات في النُّسَخ السابقة من الكتاب، فهؤلاء أهل الزيغ لمّا رأوا أنّ مسير بعض الأحكام النازلة في المتشابِهات إلى السهولة، كما أشار إليه القرآن، حيث حكى عن عيسى× أنّه قال: ﴿وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ (آل عمران: 50)، وحيث قال بالنسبة إلى النبيّ|: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ… وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأَغْلالَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ…﴾ (الأعراف: 157)، وذكرنا أنّ ﴿القِصَاصَ في الْقَتْلَى﴾ كذلك، استقربوا أنّ ما نزل من الأحكام في نسخة الكتاب الأخيرة على خاتم النبيّين ـ وهي لا محالة من الآيات المتشابِهات ـ أسهل ممّا نزل عليهم، فاتَّبعوا ما تشابه من كتبهم؛ ابتغاء تأويله الأسهل في النسخة الأخيرة من الكتاب، فراراً عمّا ثبت عليهم في كتبهم.

وبهذا ظهر وجه تكرار «الابتغاء» في الآية، حيث لم‌ يقُلْ: «ابتغاء الفتنة وتأويله»، فإنّ للذين في قلوبهم زيغٌ ابتغاءين اثنين: أحدهما: بالنسبة إلى الذين آمنوا للرسل بعد رسولهم، وهو ابتغاء الفتنة بينهم بإلقاء شبهتهم المذكورة؛ والثاني: بالنسبة إلى أنفسهم، وهو ابتغاء تأويل المتشابه؛ طلباً للرخصة لهم، وفراراً عمّا ثبت عليهم. ومثل هذا في إفادة التكرار تغايُرَ المكرَّر قولُه تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ‏﴾ في خمس آيات، حيث قالوا: إنّ تكرار «أطيعوا» يدلّ على أنّ متعلَّق إطاعة الله وموردها يغايران متعلَّق إطاعة الرسول وموردها. راجع الميزان([154]) وغيره.

كما يظهر وجه التعبير بقوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ﴾، فالتغيير والتبديل في الشرائع بيده، وهو الذي يعلم أنّ الشريعة الخاتمة القرآنية تغيّر أو تبدّل أيّ حكم من أحكام الشرائع السابقة لصالح الأمّة المحمّدية. و﴿الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ لم‌ يبتغوا التأويل بعد نزول جميع ما تشابه من القرآن، ليُقال لِمَ لم‌ يقُلْ: «وما يفعل تأويله»، بل ابتغوه قبله، وحتّى قبل القرآن بالنسبة إلى ما تشابه في النُّسَخ الوسطى من الكتاب، ثمّ استمرّوا على ذلك إلى عصر نزول القرآن، علماً منهم بأنّ في القرآن أيضاً ما يشابه متشابِهات الكتب السابقة، فيبدّلها أو يغيّرها.

ولا يخفى أنّ ما حكاه الحافظ الرازي والطبري، عن السدّي(127هـ)، من أنّ تأويله عواقبه هو الذي يناسب سائر استعمالات التأويل في القرآن، وهي خمسة عشر مورداً، في أربع عشرة آية، غير آيتنا هذه، نذكرها، مع ما في بعض التفاسير ذيلاً لها.

1ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء: 59).

في إرشاد الأذهان([155]) وزبدة التفاسير([156]) والفواتح الإلهية([157]) ولباب التأويل([158]) والوجيز([159]): «أي وأحمد عاقبة»؛ وفي التبيان([160]) ومجمع البيان([161]) والبحر المحيط([162]): «قال قتادة والسدّي وابن زيد: أحسن عاقبة»؛ وفي زاد المسير([163]) والبحر المديد([164]): «أحسن عاقبة ومآلاً»؛ وفي تفسير مقاتل([165]) وبحر العلوم([166]): «أحسن عاقبة»؛ وفي التفسير المبين([167]) والتفسير الوسيط([168]) ومعالم التنزيل([169]): «مآلاً وعاقبة»؛ وفي جامع البيان([170]): «يعني: وأحمد موئلاً ومغبّة، وأجمل عاقبة»؛ وفي محاسن التأويل([171]): «أحسن عاقبة ومصيراً»؛ وفي إيجاز البيان([172])، للنيشابوري: «عاقبةً ومرجعاً»؛ وفي تفسير خسروي([173]): «﴿أَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ يعني أحمد عاقبة».

2ـ ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (الأعراف: 53 ـ 54).

في تفسير ابن أبي ‌حاتم([174]) وجامع البيان([175])، عن قتادة أنّه قال: «تأويله عاقبته»؛ وفي غريب القرآن([176])، لابن قتيبة: «أي هل ينتظرون إلاّ عاقبته‏»؛ وفي تفسير المراغي([177]): «أي هل ينتظرون إلاّ عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل‏»؛ وفي التفسير المنير([178]): «أي عاقبة ما فيه‏»؛ وفي روح البيان([179]): «أي يوم يأتيهم عاقبة ما وعدوا فيه‏»؛ وفي تفسير سورآبادي([180]): «أي ما ينظرون إلاّ عاقبة وعيد القرآن‏»؛ وفي زبدة التفاسير([181]): «المعنى: ما ينتظرون إلاّ عاقبة ما وعدوا به. ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ عاقبة ما وعدوا به‏»؛ وفي مجمع البيان([182])، عن الحسن وقتادة ومجاهد والسدّي‏: «أي هل ينتظرون إلاّ عاقبة الجزاء عليه، وما يؤول مغبة أمورهم إليه»؛ وفي مراح لبيد([183]): «أي ما ينتظر أهل مكّة إذ لايؤمنون إلاّ عاقبة ما وعدوا به في القرآن‏».

3ـ ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (يونس: 39).

في غريب القرآن([184])، لابن قتيبة: «أي عاقبته»؛ وفي التبيان([185]): «معناه ما يؤول أمره اليه، وهو عاقبته»؛ وفي بحر العلوم([186]): «يعني: ولمّا يأتهم عاقبة ما وعدوا في هذا القرآن»؛ وفي كشف الأسرار([187]): «يعني: ولمّا يأتهم عاقبة ما وعد الله عزَّ وجلَّ في القرآن»؛ وفي معالم التنزيل([188]): «أي عاقبة ما وعد الله في القرآن».

4 إلى 7ـ ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (يوسف: 6)؛ ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لأَمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21)؛ ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف: 100)؛ ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف: 101).

في أحكام القرآن([189])، للجصّاص: «﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾: فإنّ التأويل ما يؤول إليه المعنى، ويرجع إليه. وتأويل الشي‏ء هو مرجعه‏»؛ وفي التفسير المنير([190]): «﴿مِنْ تَأْوِيلِ الأَحادِيثِ‏﴾ تعبير الرؤيا، أي الإخبار بما يؤول إليه الشي‏ء في الوجود. وسُمِّيت الرؤيا أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها. وتعبير الرؤيا يميِّز بين أحاديث الملك الصادقة وبين أحاديث النفس والشيطان الكاذبة»؛ وفي روح البيان([191]): «﴿مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ‏﴾… المراد بتأويل الأحاديث تعبير الرؤى… وتسميتها تأويلاً لأنه يؤول أمرها إليه، أي يرجع إلى ما يذكره المعبِّر»؛ وفي غرائب القرآن([192]): «في ﴿تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ‏﴾ وجوهٌ، منها: إنه تأويل أحاديث الناس في ما يرَوْنه في منامهم، سمّى التعبير تأويلاً لأنه يؤول أمره إلى ما رآه في المنام، أو يؤول أمر ما رآه في المنام إلى ذلك»؛ وفي جامع البيان([193]): «قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ يقول: ويعلّمك ربك من علم ما يؤول إليه أحاديث الناس عمّا يرَوْنه في منامهم، وذلك تعبير الرؤيا»؛ وفي دقائق التأويل([194]): «قالوا: ﴿تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ المراد عواقب الأمور، وهو ما يؤول إليه آخره»؛ وفي زاد المسير([195]): «﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إنه تعبير الرؤيا، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. فعلى هذا سُمّي تأويلاً؛ لأنه بيان ما يؤول أمر المنام إليه»؛ وجاء نحو هذه العبارات في زبدة التفاسير([196]) والكشف والبيان([197]) ولباب التأويل([198]) ومجمع البيان([199]) ومعالم التنزيل([200]) وغيرها.

8 إلى 11ـ ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف: 36)؛ ﴿قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ (يوسف: 37)؛ ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ﴾ (يوسف: 44)؛ ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾ (يوسف: 45).

في تقريب القرآن([201]): «﴿نَبِّئْنَا﴾ أخبرنا ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾ ما يؤول إليه منامنا»؛ وفي روح المعاني([202]): «﴿نَبِّئْنَا﴾ أي أخبرنا ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾ بتعبيره وما يؤول إليه أمره‏»؛ وفي بيان المعاني([203]): «أي تفسير ما رأيناه وما يؤول أمر رؤيانا»؛ وفي مجمع البيان([204]) والتفسير المعين([205]) والتفسير الوجيز([206]): «أي أخبرنا بتعبيره وما يؤول إليه أمره‏»؛ وفي تفسير السعدي([207]): «أي بتفسيره، وما يؤول إليه أمره»؛ وفي محاسن التأويل([208]) ولباب التأويل([209]): «أي أخبرنا بتفسير ما رأينا وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا»؛ وفي أطيب البيان([210]): «﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ تأويل: نتيجة العمل وعاقبته، وما هو أثر هاتين الرؤيين؟ ويقولون له أيضاً: «تعبير»؛ وفي تفسير المراغي([211]): «﴿تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ﴾ أي مآلها وعاقبتها»؛ وفيه([212]): «﴿عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ أي وعلَّمتني ما أعبِّر به عن مآل الحوادث ومصداق الرؤيا الصحيحة، فتقع كما قلت وأخبرت‏»؛ وفي البحر المحيط([213]): «﴿هَذَا تَأْوِيلُ﴾ أي عاقبة رؤياي، أنّ تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين»؛ في التفسير المنير([214]) والوسيط([215]): «﴿تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ﴾ ما آل إليه الأمر».

12ـ ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (الإسراء: 35).

في أحكام القرآن([216])، للجصّاص: «معناه أن ذلك خيرٌ لكم وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة»؛ وفي أحكام القرآن([217])، لابن العربي: «أي عاقبةً. معناه: إنّ العدل والوفاء في الكيل أفضل للتاجر وأكرم للبائع من طلب الحيلة في الزيادة لنفسه، والنقصان على غيره، وأحسن عاقبة؛ فإنّ العاقبة للمتَّقين»؛ وفي إرشاد الأذهان([218])، للسبزواري: «أي مآلاً وعاقبة»؛ وفي الأصفى([219]) وإعراب القرآن وبيانه([220]) وأنوار التنزيل([221]) وفتح القدير([222]): «أحسن عاقبة»؛ وفي الجامع لأحكام القرآن([223]) وروح المعاني([224]): «أي عاقبة»؛ وفي الدرّ المنثور([225])، عن سعيد بن جبير: «﴿أَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ عاقبةً»؛ وفي التسهيل لعلوم التنزيل([226]): «أي أحسن عاقبة ومآلاً»؛ وفي التفسير لكتاب الله المنير([227]): «بمعنى أحسن مآلاً وعاقبة»؛ وفي البحر المحيط([228]): «أي عاقبة؛ إذ لا يبقى على الموفي والوازن تبعةٌ، لا في الدنيا، ولا في الآخرة. وهو من المآل، وهو المرجع، كما قال: ﴿خَيْرٌ مَرَدّاً﴾، ﴿خَيْرٌ عُقْباً﴾، ﴿خَيْرٌ أَمَلاً﴾، وإنما كانت عاقبته أحسن لأنّه اشتهر بالاحتراز عن التطفيف، فعوَّل عليه في المعاملات ومالت القلوب إليه».

13 و14ـ ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 78)؛ ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 82).

في تفسير مقاتل([229]): «يعني بعاقبة ﴿مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾»؛ وفي البحر المديد([230]) وروح البيان([231]): «التأويل: رجوع الشي‏ء إلى مآله، والمراد هنا: المآل والعاقبة»؛ وفي روح المعاني([232]): «التأويل ردّ الشي‏ء إلى مآله، والمراد به هنا المآل والعاقبة»؛ وفي تفسير المراغي([233]): «أي سأخبرك بعاقبة هذه الأفعال التي صدرت منّي‏»؛ وفي الجواهر الحسان([234]) والمحرّر الوجيز([235]): «قوله: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ﴾ أي مآل‏».

انظر أيُّها القارئ الخبير كيف اتَّحدت كلمتهم على أنّ تأويل الشيء عاقبته ومآله ومرجعه ونحوها. فهي معناه عندهم. ولذا تراهم ـ كما تقدَّم عن بعضهم ـ كلّما فسَّروا التأويل بـ «التفسير» لم‌ يكتفوا بذلك حتّى ضمُّوا إليه قولهم: «ما يؤول إليه أمره».

وهذا المعنى هو ما صرَّح به كثيرٌ من أهل اللغة أيضاً. ففي العين([236]): «آل يؤول إليه، إذا رجع إليه»؛ وفي المحيط([237]): «آلَ الشَّيْ‌ءُ: رَجَعَ، والأَوْلُ: المُرَاجَعَةُ. وأَوَّلَ الحُكْمَ: أي أَرْجِعْهُ إلى أَهْلِهِ»؛ وفي الصحاح([238]): «آلَ أي رَجَع. يقال: طبخت الشرابَ فَآلَ إلى قَدْرِ كذا وكذا، أي رَجَع»؛ وفي لسان العرب([239])، عن التهذيب: «وأَمّا التَّأوِيل فهو تفعيل من أَوَّلَ يُؤَوِّلُ تَأوِيلاً، وثُلاثِيُّه: آلَ يَؤُولُ أي رجع وعاد». بل صرَّح ابن فارس أنّ هذا أحد معنييه الأصليين، حيث قال: «الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر، وانتهاؤه. أمّا الأوّل فالأوّل، وهو مبتدأ الشيء… والأصل الثاني قال الخليل: الأَيِّل الذَّكَر من الوُعول… وإنّما سُمِّى أَيِّلاً لأنّه يَؤُول إلى الجبل يتحصَّن… وآلَ يَؤُول أي رجع… ومن هذا الباب تأويل الكلام، وهو عاقبتُهُ وما يؤُولُ إليه، وذلك قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَه([240]).

ومع ذلك شاع عند كثيرٍ من أهل التفسير واللغة والحديث وغيرها استعمال التأويل مقام التفسير، حتّى أنّ بعضهم، كالطبري، بعد أن سمّى كتابه الكبير في التفسير «جامع البيان عن تأويل القرآن»، عبَّر في آلاف المواضع من كتابه عن أهل التفسير وتفسير الآية بقوله: «أهل التأويل»، و«تأويل هذه الآية»؛ ولكنّه اصطلاح مستحْدَث بعد عصر النزول، بمائة سنة أو مئتين، انطلاقاً ممّا كانوا تسالموا عليه قبل ذلك من أنّ الآيات المتشابِهات آياتٌ مبهمات لا يعلم تأويلها إلاّ الله، أو هو والراسخون. ولا محالة كان العلم بتأويل المبْهَمات هو فهم مداليلها والوصول إلى مراداتها، وهذا يعادل التفسير عندهم، فحينئذٍ قالوا بأنّ التأويل هو التفسير على ما اصطلحوا عليه. ففي تفسير المنار: «إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَلْفَاظِ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ لِمَعَانٍ، ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، بِزَمَنٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، مِنْ ذَلِكَ لَفْظُ «التَّأْوِيلِ»، اشْتُهِرَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ مُطْلَقاً، أَوْ عَلَى وَجْه مَخْصُوصٍ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِمَعَانٍ أُخْرَى».

كما أنّ ما قالوا من أنّ «المراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما تُرِك ظاهرُ اللفظ»([241]) مصطلحٌ آخر عندهم، مستحدَثٌ بعد القرون الثلاثة الأولى، على ما في تفسير المنار، نقلاً عن ابن تيمية: «وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ، وَهُوَ صَرْفُ اللفْظِ عَنِ الاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إِلَى الاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ، فَهَذَا الاصْطِلاحُ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ عُرِفَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ، بَلْ وَلا التَّابِعِينَ، بَلْ وَلا الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ، وَلا كَانَ التَّكَلُّمُ بِهَذَا الاصْطِلاحِ مَعْرُوفاً فِي الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ، بَلْ وَلا عَلِمْتُ أَحَداً فِيهِمْ خَصَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ بِهَذَا. وَلَكِنْ لَمَّا صَارَ تَخْصِيصُ لَفْظِ التَّأْوِيلِ بِهَذَا شَائِعاً فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَطِنُوا أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي الآيَةِ هَذَا مَعْنَاهُ صَارُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ مَعَانِيَ تُخَالِفُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ». ولكنْ ـ بحمد الله ـ قد ثبت؛ بما تقدَّم، أنّ ما أرادت الآية بالمتشابِهات بعيدٌ عمّا شاع عندهم بُعْد المشرقين، فلا جَرَم ما نشأ منه من معنى التأويل وغيره ممّا جاء في الآية كذلك. وعلى هذا كلِّه لا يبعد أن يُقال: إنّ اللغة والعرف في عصر النزول واستعمالات القرآن متَّفقة على ذلك، فلا يوجد فيها ما استعمل التأويل وأريد به التفسير، خصوصاً في القرآن، وفي آيتنا هذه.

الراسخون في العلم

﴿وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ﴾ هم من أهل الكتاب خاصّةً أيضاً؛ وذلك لوجوهٍ أربعة:

الأوّل: إنّ الآية ـ كما تقدَّم ـ متوجّهةٌ إليهم، فينبغي أن يكون الراسخون منهم أيضاً.

الثاني: تقدَّم أنّ ﴿الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ من أهل الكتاب، فالمقابلة بينهم وبين ﴿الرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ﴾ قرينةٌ تدلّ على أنّ هؤلاء أيضاً منهم.

الثالث: القرآن أطلق على طائفةٍ من أهل الكتاب نفس هذا العنوان في موضعٍ آخر، حيث قال: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ… لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ…﴾ (النساء: 153 ـ 162)، فأسند الإيمان بكلّ ما أنزل الله إلى الراسخين في العلم من أهل الكتاب، وجعل هذا الإيمان علامة رسوخهم في العلم. كما أنّه هنا أيضاً أسنده إليهم، وجعله علامة رسوخهم في العلم، فقال تعالى: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ﴾ «يعني ما نسخ منه وما لم‌ ينسخ»([242])، في ما رُوي عن ابن عبّاس، ﴿مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾. كما أسند إلى بعض أهل الكتاب الإيمان بكلّ ما أنزل الله في مواضع أخرى، منها: آخر نفس السورة، حيث قال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ…﴾ (آل عمران: 199).

الرابع: إنّ الراسخين المذكورين إيمانُهم المذكورُ هنا نشأ عن علمهم التفصيلي بما نزل عليهم وما نسخ منه وبما نزل علينا وهو ناسخٌ لبعض ما نزل عليهم، ولكنّ المؤمنين ما كانوا يعلمون بما نزل على أهل الكتاب وما نسخ منه، بل كانوا مؤمنين بما نزل على أهل الكتاب، حيث أمرهم الله تعالى في مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى‏ رَسُولِهِ والْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ (النساء: 136) بالإيمان بالكتب السابقة، من دون أن يعلموها تفصيلاً أو إجمالاً.

بل لا يبعد القول بأنّ ﴿الَّذِينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾، وكذا ﴿الرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ﴾، من اليهود خاصّةً؛ وذلك لقرائن:

الأولى: إسناد الزيغ إليهم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى‏ لِقَوْمِهِ… فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ (الصفّ: 5).

الثانية: التصريح بأنّ الراسخين في العلم منهم في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ… لَكِنِ الرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ مِنْهُمْ…﴾ (النساء: 153 ـ 162).

الثالثة: ما تقدَّم في قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ…﴾ أنّ غرضهم من تحكيم النبيّ| طلب ما يكون أهون عليهم، وهو ابتغاء التأويل المذكور في آيتنا هذه.

الرابعة: ما تقدَّم من تصريح بعضهم بأنّ المراد بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾ هم اليهود خاصّةً.

وبهذا ظهر أنّ جملة ﴿والرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ…﴾ معطوفةٌ على جملة ﴿الَّذِينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏ فَيَتَّبِعُونَ﴾، كما عليه جماعةٌ من أهل النحو. قال ابن هشام: قد يُترك تكرارٌ إمّا بكلام يذكر بعدها في موضع ذلك القسم الثاني، نحو: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ أي وأمّا غيرهم فيؤمنون به…. ويدلّ على ذلك ﴿وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾، أي كلٌّ من المتشابه والمحكم من عند الله، والإيمان بهما واجبٌ، وكأنّه قيل: «وأمّا الراسخون في العلم فيقولون»([243]). وهناك رواياتٌ أيضاً تدلّ على أنّ الرسوخ في العلم هو الإيمان بالمتشابِهات بلا علم بتأويلها. فراجع: توحيد الصدوق([244])، وتفسير العياشي([245])، ونهج البلاغة([246]). وعليه فجملة ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ﴾ معترضة بينهما، مثل: قوله تعالى: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى‏﴾ المعترض بين الجملات المحكيّة عن امرأة عمران. والوجه في اعتراض هذه الجملة، وكذا كلّ جملةٍ اعتراضية، رفع الدخل المتوهَّم ممّا تقدَّم من الكلام، فإنّه تعالى لمّا قال: ﴿ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ‏﴾ لعلّ أن يُتوَهَّم أنّ تأويل ما تشابه من الكتاب ممّا يمكن للناس العلمُ به، فقال من دون أيّ فصل؛ حسماً لمادّة هذا التوهُّم الباطل: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ﴾.

وعلى هذا، من أنّ الراسخين في العلم هم من أهل الكتاب، فهم في رتبةٍ دون رُتَب أنبيائهم^ يقيناً، ورُتَب أنبيائهم دون رُتَب عترة نبيِّنا^، ورتبهم دون رتبة النبيّ|، فكيف يمكن أن يُقال: إنّ النبيّ| من الراسخين في العلم؟! أليس هذا إلاّ تنزيلُ رتبته ثلاث مراتب؟! كما أنّ عَدَّ عترته^ منهم تنزيلٌ لرتبهم مرتبتين! كيف لا، وهم بفضل الله «معدن العلم»([247])، فعنهم ينبع العلم، لا أنّ العلم عَرَض عليهم، فرسخوا واستقرّوا فيه. ترتيب رتب النبي| وعترته^ وسائر الأنبياء^ يستفاد من عدّة آياتٍ، منها: طائفةٌ من آيات سورة الإنسان، عسى الله أن يوفِّقنا للكلام فيها في ما يأتي.

النتيجة

والمعنى الحاصل؛ بتدبُّر الآية الشريفة، أنّ الله هو الذي أنزل على رسوله| كتابه، الذي أنزل نسخاً متعدِّدة منه على رسله الماضين^، بأسماء مختلفة، كالتوراة والإنجيل والفرقان والذكر والزبور وغيرها.

فصنفٌ من آيات هذا الكتاب آياتٌ محْكَمات لا تتغيّر ولا تتبدّل في نسخه المتعدِّدة وأسمائها المختلفة، وهذه الآيات بمجموعها تسمّى أمّ الكتاب.

وصنفٌ من آيات هذا الكتاب متشابِهات، فمنها في بعض نُسَخ الكتاب متَّحدٌ مع ما في بعضها الآخر في الموضوعات وبعض متعلّقات الموضوعات، ولكنّها مختلفة في بعض الأحكام اختلافاً يبقى معه الشَّبَه العرفي. فأمّا الذين في قلوبهم زيغٌ عن الحقّ من أهل الكتاب فيتَّبعون ما تشابه من الكتاب؛ ابتغاء الفتنة بين الناس بإلقاء الشبهة؛ لتزلزل إيمانهم برسولهم وبالنسخ المتأخِّرة من الكتاب، ولا سيَّما النسخة القرآنية منه، وابتغاء عاقبة ما تشابه ومآله من التغيير أو الإبدال، ليتشبَّثوا به للفرار عمّا ثبت عليهم في شرائعهم، وما يعلم عاقبته ومآله إلاّ الله تعالى. ولكنْ الراسخون في العلم من أهل الكتاب يقولون: آمنّا بما تشابه منه، ناسخاً كان أو منسوخاً؛ إذ كلُّه من عند ربِّنا. ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ﴾. صدق الله العليُّ العظيم.

وبهذا كلِّه اتّضحت وجوه الخدشة في الأقوال التي بناها أصحابها على أنّ الإحكام بمعنى الوضوح والظهور، أو أنّ التشابه معناه الإجمال والإبهام، أو أنّ التأويل هو التفسير. وهي أقوالٌ قال بها أكثر المفسِّرين، وتبعهم غيرهم فيها. وقد تعرَّض لتفنيد ستّة عشر منها السيد الطباطبائي& في الميزان([248])، واختار قولاً آخر. ثمّ اختار السيد الشهيد محمد باقر الحكيم قولاً آخر، واستدلّ له في كتابه علوم القرآن([249])، وجعل قول السيد الطباطبائي& سادس الاتّجاهات الرئيسة في المحْكَم والمتشابِه، وناقش في جميع تلك الاتجاهات([250])، فربما تناهز هذه الأقوال عشرين قولاً، كما صرّح به السيد الطباطبائي في كتابه «القرآن في الإسلام»([251]).

كما ظهر أنّه لا تعارض ولا تنافي بين هذه الآية وبين الآيات الدالّة على أنّ القرآن حكيمٌ، أو أنّه كتابٌ حكيم.

كما ظهر أنّه لا تنافي بينها وبين ما يقول: إنّ القرآن كتابٌ متشابِه، وبينها وبين ما دلّ على أنّه الكتاب المبين، وهو نور وبيان وبلاغ وهدى للناس بآياته البيّنات المبيّنات؛ إذ لاحظنا هذه الآية المباركة كجزءٍ من منظومة منظّمة، مركّبة من نحو ستّين آية، ناظرين إلى سائر أجزاء المنظومة، متدبِّرين للعلاقات القائمة بينها.

وهذا هو التدبُّر المزيل للأوهام، الموصل إلى حقيقة المرام، لآيةٍ من آيات الله الملك العلاّم.

 

الهوامش

(*) أستاذٌ في حوزة قم العلميّة.

([1]) مجمع البيان 10: 595.

([2]) من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: 180 (الهامش).

([3]) تفسير الأمثل ‏4: 185.

([4]) تفسير في ظلال القرآن 1: 399.

([5]) تفسير آلاء الرحمن 1: 285.

([6]) تفسير إرشاد الأذهان: 61.

([7]) تفسير تبيين القرآن: 138.

([8]) تفسير البلاغ: 126.

([9]) تفسير الأمثل 2: 504.

([10]) تفسير الفرقان 9: 291.

([11]) تفسير الفرقان 5: 144.

([12]) الجوهر الثمين 3: 186.

([13]) روح المعاني 6: 178.

([14]) انوار التنـزيل 3: 123؛ زبدة التفاسير 3: 241؛ كنـزالدقائق 6: 96.

([15]) الميزان 10: 123.

([16]) تفسير ابن أبي حاتم 9: 2819.

([17]) إرشاد الأذهان: 381.

([18]) التحرير والتنوير 19: 196.

([19]) الإتقان في علوم القرآن 1: 142 ـ 145.

([20]) تفسير ابن أبي الحاتم الرازي 6: 1922.

([21]) مجمع البيان 6: 505؛ جامع البيان 11: 58.

([22]) من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: 100 (الهامش).

([23]) من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: 180 ـ 181 (الهامش).

([24]) التفسير الواضح ‏1: 207.

([25]) التفسير الوسيط ‏1:: 174.

([26]) متشابه القرآن 2: 278.

([27]) تفسير ابن كثير 2: 4.

([28]) تفسير الجلالين: 53.

([29]) محاسن التأويل 2: 256.

([30]) التفسير المعين: 50.

([31]) التفسير المنير ‏3: 150.

([32]) التفسير الوسيط ‏2: 28.

([33]) تفسير من وحي القرآن ‏5: 223.

([34]) فتح القدير 5: 45.

([35]) تاج العروس، مادّة «حكم».

([36]) تفسير الجلالين: 512.

([37]) جامع البيان ‏26: 34.

([38]) تأويل مشكل القرآن: 238؛ بحر العلوم ‏3:: 302.

([39]) البحر المحيط 6: 119.

([40]) جواهر الحسان 3: 272.

([41]) محاسن التأويل 8: 467.

([42]) المحرر الوجيز 3: 149.

([43]) مفاتيح الغيب 17: 313.

([44]) الحكيم، علوم القرآن: 166.

([45]) بيان المعاني 5: 319.

([46]) البحر المحيط 3: 22.

([47]) إرشاد الأذهان: 259.

([48]) جوامع الجامع 2: 233.

([49]) روح المعاني 7: 156.

([50]) الأصفى 1: 607.

([51]) أنوار التنـزيل 3: 190.

([52]) البحر المديد 3: 33.

([53]) بحر العلوم 2: 230.

([54]) تفسير شُبَّر: 255.

([55]) التفسير القرآني للقرآن 7: 137.

([56]) التفسير المنير 13: 180، 183.

([57]) التفسير الواضح 2: 236.

([58]) التفسير الوسيط 2: 1173.

([59]) روح البيان 4: 383.

([60]) إرشاد الأذهان: 259.

([61]) جامع البيان ‏13: 114.

([62]) البحر المديد 3: 35.

([63]) تبيين القرآن: 266.

([64]) محاسن التأويل ‏6: 290.

([65]) متشابه القرآن 2: 94.

([66]) مجمع البيان 6: 458.

([67]) زاد المسير 2: 510.

([68]) بيان السعادة 4: 246.

([69]) مجمع البيان 10: 711.

([70]) معالم التنـزيل 5: 237.

([71]) مقتنيات الدرر 12: 117.

([72]) إرشاد الأذهان: 55.

([73]) الأصفى 1: 138.

([74]) أنوار التنـزيل 2: 6.

([75]) البحر المديد 1: 324.

([76]) تفسير الجلالين: 53.

([77]) الصافي 1: 318.

([78]) تفسير ابن كثير 2: 4.

([79]) تفسير شُبَّر: 86.

([80]) التفسير المبين: 63.

([81]) التفسير المعين 1: 145.

([82]) التفسير الوسيط 2: 27.

([83]) روح المعاني 2: 78.

([84]) التحرير والتنوير 25: 213.

([85]) البحر المديد 2: 447.

([86]) أسرار التنـزيل 3: 104؛ كنـزالدقائق 6: 106؛ زبدة التفاسير 3: 186.

([87]) التبيان 1: 398.

([88]) مفاتيح الغيب 3: 639.

([89]) مفاتيح الغيب ‏3: 638.

([90]) التفسير القرآني للقرآن 7: 369.

([91]) مفاتيح الغيب 20: 270؛ التفسير المنير 14: 237؛ وغيرهما.

([92]) الكشّاف 1: 203؛ مجمع البيان 1: 421؛ وغيرهما.

([93]) التفسير الوسيط ‏1: 174.

([94]) تفسير الجلالين: 53.

([95]) تفسير ابن كثير 2: 4.

([96]) التفسير المنير ‏3: 150.

([97]) تفسير من وحي القرآن ‏5: 224.

([98]) الحكيم، علوم القرآن: 182.

([99]) غرائب القرآن ‏2: 106 ـ 107.

([100]) علوم القرآن: 170.

([101]) علوم القرآن: 179.

([102]) علوم القرآن: 179.

([103]) الميزان 3: 34.

([104]) التحقيق في كلمات القرآن 9: 23، «فتن».

([105]) مجموعه آثار أستاد شهيد مطهري ‏26: 34 ـ 35.

([106]) الميزان 3: 21.

([107]) أنوار التنـزيل 1: 87.

([108]) لسان العرب 13: 503، «شبه».

([109]) أنوار التنـزيل 3: 185.

([110]) القاموس المحيط، «شبه».

([111]) التحقيق في كلمات القرآن 2: 34.

([112]) التبيان 9: 21.

([113]) جوامع الجامع: ج3: 453.

([114]) أنوار التنـزيل 5: 41.

([115]) الأصفى 2: 1083.

([116]) أنوار التنـزيل 2: 76.

([117]) البحر المحيط 3: 21.

([118]) التحرير والتنوير 24: 67.

([119]) التفسير القرآني للقرآن ‏12: 1143 ـ 1144.

([120]) الأمثل 15: 64.

([121]) العين 3: 404، «شبه».

([122]) تفسير العيّاشي 1: 11.

([123]) مجمع البيان 2: 699.

([124]) الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1: 112.

([125]) البرهان في علوم القرآن 1: 112.

([126]) الإتقان في علوم القرآن 2: 304.

([127]) البرهان في علوم القرآن 2: 68.

([128]) الكافي 2: 28، ح1.

([129]) البحر المحيط 3: 22.

([130]) تفسير ابن أبي حاتم 1: 243.

([131]) تفسير ابن أبي حاتم 2: 601.

([132]) تفسير مقاتل 1: 87.

([133]) تفسير مقاتل 1: 264.

([134]) بحر العلوم 1: 195.

([135]) جامع البيان 3: 119.

([136]) بيان المعاني 5: 320.

([137]) تفسير ابن كثير 2: 48.

([138]) زاد المسير 1: 257.

([139]) مجمع البيان 2: 696.

([140]) الجصّاص، أحكام القرآن 2: 285.

([141]) البحر المحيط 3: 26.

([142]) تبيين القرآن: 61؛ روح البيان 2: 6؛ الجوهر الثمين 1: 295؛ روح المعاني 2: 80؛ فتح القدير 1: 361؛ وغيرها.

([143]) تفسير ابن أبي حاتم الرازي ‏2: 596.

([144]) مجموعه‌ رسائل سيد عبد الحسين لاري: 408.

([145]) الاحتجاج 1: 253.

([146]) مجموعه‌ رسائل سيد عبد الحسين لاري: 409.

([147]) تقريرات في أصول الفقه: 255.

([148]) تفسير ابن أبي حاتم ‏2: 598.

([149]) جامع البيان 3: 121.

([150]) أحكام القرآن 4: 92.

([151]) الكياهراسي، أحكام القرآن 3: 79.

([152]) الأصفى 1: 276.

([153]) الأمثل ‏4: 12.

([154]) الميزان 3: 161.

([155]) إرشاد الأذهان: 93.

([156]) زبدة التفاسير 2: 91.

([157]) الفواتح الإلهية 1: 157.

([158]) لباب التأويل 1: 393.

([159]) الوجيز: 115.

([160]) التبيان 3: 237.

([161]) مجمع البيان 3: 101.

([162]) البحر المحيط 3: 688.

([163]) زاد المسير 1: 425.

([164]) البحر المديد 1: 519.

([165]) تفسير مقاتل 1: 383.

([166]) بحر العلوم 1: 312.

([167]) التفسير المبين: 110.

([168]) التفسير الوسيط 1: 336.

([169]) معالم التنـزيل 1: 654.

([170]) جامع البيان 5: 96.

([171]) محاسن التأويل 2: 266.

([172]) إيجاز البيان 1: 246.

([173]) تفسير خسروي 2: 222.

([174]) تفسير ابن أبي حاتم 5: 1494.

([175]) جامع البيان 8: 145.

([176]) غريب القرآن: 146.

([177]) تفسير المراغي 8: 167.

([178]) التفسير المنير 8: 229.

([179]) روح البيان 3: 172.

([180]) تفسير سورآبادي 2: 754.

([181]) زبدة التفاسير 2: 530.

([182]) مجمع البيان 4: 658.

([183]) مراح لبيد 1: 374.

([184]) غريب القرآن: 171.

([185]) التبيان 5: 380.

([186]) بحر العلوم 2: 117.

([187]) كشف الأسرار 3: 622.

([188]) معالم التنـزيل 2: 420.

([189]) الجصّاص، أحكام القرآن 4: 380.

([190]) التفسير المنير 12: 205.

([191]) روح البيان 4: 216.

([192]) غرائب القرآن 4: 67.

([193]) جامع البيان 12: 92.

([194]) دقائق التأويل: 268.

([195]) زاد المسير 2: 414.

([196]) زبدة التفاسير 3: 341.

([197]) الكشف والبيان 5: 198.

([198]) لباب التأويل 2: 513.

([199]) مجمع البيان 5: 321.

([200]) معالم التنـزيل 2: 476.

([201]) تقريب القرآن 2: 684.

([202]) روح المعاني 6: 430.

([203]) بيان المعاني 3: 212.

([204]) مجمع البيان 5: 356.

([205]) التفسير المعين: 239.

([206]) التفسير الوجيز: 313.

([207]) تفسير السعدي: 457.

([208]) محاسن التأويل 6: 175.

([209]) لباب التأويل 2: 527.

([210]) أطيب البيان 7: 193.

([211]) تفسير المراغي 13: 42.

([212]) تفسير المراغي 13: 45.

([213]) البحر المحيط 6: 327.

([214]) التفسير المنير 13: 70.

([215]) التفسير الوسيط 2: 1137.

([216]) الجصّاص، أحكام القرآن 5، 28.

([217]) ابن العربي، أحكام القرآن 3: 1211.

([218]) إرشاد الأذهان: 290.

([219]) الأصفى 1: 680.

([220]) إعراب القرآن وبيانه 5: 435.

([221]) أنوار التنـزيل 3: 255.

([222]) فتح القدير 3: 270.

([223]) الجامع لأحكام القرآن 11: 257.

([224]) روح المعاني 8: 70.

([225]) الدرّ المنثور 4: 182.

([226]) التسهيل لعلوم التنـزيل 1: 446.

([227]) التفسير لكتاب الله المنير 5: 209.

([228]) البحر المحيط 7: 47.

([229]) تفسير مقاتل 2: 597.

([230]) البحر المديد 3: 295.

([231]) روح البيان 5: 283.

([232]) روح المعاني 8: 332.

([233]) تفسير المراغي 16: 5.

([234]) جواهر الحسان 3: 539.

([235]) المحرّر الوجيز 3: 537.

([236]) العين 8: 259، «أول».

([237]) المحيط 10: 377، «أول».

([238]) الصحاح 4: 1628، «أول».

([239]) لسان العرب 11: 33، «أول».

([240]) معجم مقاييس اللغة 1: 158 ـ 162.

([241]) النهاية في غريب الحديث 1: 80، «أول».

([242]) جامع البيان 3: 124.

([243]) مغني اللبيب 1: 57.

([244]) الصدوق، التوحيد: 55 ـ 56.

([245]) تفسير العيّاشي 1: 163.

([246]) نهج البلاغة، خطبة الأشباح.

([247]) مصباح المتهجّد: 45، 361، 393، 828، 833.

([248]) الميزان 3: 32 ـ 39.

([249]) الحكيم، علوم القرآن: 169 ـ 171.

([250]) علوم القرآن: 172 ـ 182.

([251]) الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 33.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً