أحدث المقالات

في تلف الجاني عند تنفيذ العقوبات الجزائية

أ. حيدر أمير پور(*)

د. السيد محمد رضا إمام(**)

السيد منذر الحكيم(***)

أ. أحمد مرتاضي(****)

 

تمهيد

يعتبر عنصر الأمة الإنساني، الفردي أو الإجتماعي، من حاجات الإنسان الأساسية، والطريق الموصل إلى هذا الهدف الهام هو تحقق العدالة الاجتماعية والقضائية، بحيث يعتبر من الإستراتيجيات الرئيسية في مجال التقنين الجنائي، إلى جانب أهمية الوقاية من وقوع الجرم، والمنع من الإضرار بالغير، وتضييع حقوق الآخرين، والمحافظة على حقوق الله.

وعلى هذا فللمدارس الحقوقية اتجاهات متعددة ومختلفة بالنسبة إلى ماهية الجرم والمجرم. فيرى سزار بكاريا أنّ الدفاع عن المنافع والمصالح الاجتماعية هو هدف مطلوب من إجراء العقوبات([1]). كما يراه علماء المدارس الحقوقية الجديدة في الإجراءات التربوية بالنسبة للمجرم([2]). وتؤكد المدرسة الاجتماعية على الإجراءات الوقائية الاجتماعية، وتؤكد المدارس النفعية الاجتماعية البراغماتية على المحافظة على المصالح الاجتماعية. وكان علماء المدارس الحقوقية القديمة يؤكِّدون على ضرورة استقرار العدالة المطلقة، معتقدين ضرورة معاقبة المجرم في قبال عمله، بمقتضى العدالة؛ لإيجاد الخوف والحذر عند الآخرين على تقدير تنفيذ العقوبة([3]).

إنّ الاسلام دين جامع ومتعال، ويتكفَّل الفقه ـ كأحد التعليمات الاسلامية ـ مهمّة تبيين القوانين العلمية. وهو نظرية كاملة وواقعية لتنظيم حياة المجتمع والفرد من المهد إلى اللحد([4]). وقد جعل تشريع كل واحد من قوانينه لحفظ الدين والنفس والمال والعقل وأعراض الناس؛ فنهى عن شرب الخمر مثلاً للمنع عن تضييع العقل؛ وحذَّر من ارتكاب الزنا للمحافظة على الأعراض؛ وذَمَّ التصرُّفَ في مال­ الغير بدون إذنه للزجر عن الاستيلاء على مال ­الغير؛ وحرَّم القتل وإتلافَ أعضاء الآخرين لحفظ النفوس([5]).

وقد فرض ثلاث عقوبات لمواجهة الجاني:

1ـ الحدود: الحدود جمع الحَدّ، بمعنى المنع. ويسمى البوّاب بالحداد لأنه يمنع من ورود الآخرين. وفي المصطلح الفقهي الحدود عبارة عن عقوبات محددة نوعاً وكمّاً من قِبَل الشارع، كحدّ الزنا، وحدّ اللواط، وحدّ السحق، وحدّ السرقة، وحدّ شرب ­الخمر، وحدّ القذف، وما إلى ذلك.

2ـ التعزير: ويعرّف بأنه عقوبة­ لم يعينها الشارع، لا نوعاً ولا كمّاً، بل هي بنظر الحاكم، فيعينها حسب المقتضيات الزمانية والمكانية، كالعقوبات المجعولة للغصب، والاختلاس، وشهادة الزور، وضرب مَنْ يقوم بالاتهام للغير، وما إلى ذلك.

و لا بأس بالتنبيه إلى أن هناك فرقين هامّين بين الحدّ والتعزير، وهما:

أـ إن الحدّ هو عقوبة تُفضي إلى إيذاء المجرم جسماً، ولكنّ التعزير أعم منه ومن السجن، ومنه: المجازاة النقدية، والتبعيد، و…([6]).

ب ـ إن التعزير عقوبة تتغير كمّاً، ولكنه من الضروري أن لا يتعدّى قدرها مقدار الحدّ، ولكن الحد مضبوطٌ من حيث القدر. ولهذا السبب اتفق الفقهاء على أنّ التعزير يسقط بالتوبة أو حدوث المفسدة([7]).

3ـ القصاص: وهو في اللغة بمعنى اقتفاء الأثر. وفي الاصطلاح الفقهي هو عبارة عن عقوبة المجرم بمثل ما ارتكبه([8]).

ولا بأس بالإشارة إلى أن الميزة الهامة التي تفرِّق بين الحد والقصاص هي نوع الحق، حيث إنّ الحدّ هو غالباً في حقوق الله، التي لا يقبل فيها الشفاعة، ولا الكفالة، وليست قابلة للتوكيل؛ ولكنّ القصاص من حقوق الناس، ويغفر بعفو المجنيّ عليه أو وليّ الدم([9]).

فتبيَّن مما ذكرنا أنّ الشريعة الاسلامية تُبرّز تأثيرها وعمليتها حول الجزائيات بتبيين الحدود والتعزيرات والقصاص. فالالتزام بحقوق النفس وحقوق الآخرين([10])، والمحافظة على المصالح الاجتماعية([11])، واجتناب ارتكاب المعاصي، وإنجاز الحسنات([12])، هي من أهم حِكَم العقوبات الإسلامية.

ولكنّنا لسنا بصدد تبيين فلسفة العقوبات الاسلامية هنا. بل سوف نبحث في نطاق ضمان مَنْ قتله الحدّ، والمسؤولية القانونية والشرعية وعدمها بالنسبة إليه، بمعنى أنه لو أدّى إجراء الحدّ أو التعزير أو قصاص العضو إلى إتلاف نفس الجاني، وانتهت حياته أثناءه، فهل يضمن الحدّاد أو المعزّر أو المُقتصّ ديته أم لا؟ وهل هناك فرق بين كونه من حقوق الله أو من حقوق النّاس؟

النظريات الفقهية

نقول: في هذه المسألة قولان:

القول الأول: إنّه من مات حين إجراء الحد فلا ضمان بالنسبة إلى دمه، سواءٌ كان في مجال حقوق الله أو في مجال حقوق النّاس، بحيث لو مات يكون مهدور الدم.

القول الثاني: إنّه لو كان نوع الحد من حقوق الله فلا ضمان في دمه، خلافاً لحقوق الناس، الذي يجب تداركه من بيت المال.

هذا مع أن كلا الفريقين اتفقا على مهدورية دمه إذا كان تلفه بسبب القصاص في العضو.

و بما أنّ الفريقين قد استـندا؛ لإثبات حجّية مختارهما، إلى أخبار المعصومين­^ فالجواب عن هذه المسألة يستدعي دراسة حديثية، ومناقشة أدلة الفريقين أيضاً.

ثم إن من نافلة القول: إنّ تلف المجرم لو كان نتيجة تعدّي مجري الحد أو تفريطه في إجرائه فهو لا محالة يضمن ديته في ماله، حيث إنّ التعدي هو ارتكاب أمر يلزم تركه، والتفريط بمعنى ترك أمر يلزم إتيانه([13]). وعليه فالمجرم الذي يمكن أن يتضرر جسمه بإجراء الحدّ في الحرّ أو البرد الشديد يلزم تأخير عقوبته إلى زمن اعتدال الجوّ. فإنْ عوقب مع العلم بحاله، فَتلف بسببه، يتحقَّق التعدّي، فيتكبَّد مجري الحدّ غرامته في ماله، قاضياً كان أو حدّاداً. وهذا ممّا لا خلاف فيه بين فقهاء الإمامية. كما أنهم يتفقون على أنّ تقصير القاضي لو أدَّى إلى تلف المجرم يضمن القاضي ديته في ماله([14]). وهذا واضح.

ولكنّ المقصود بالبحث هنا هو حكم الجاني المقتول عند إجراء الحدّ، من دون أن يتعدّى مجري الحد أو يفرّط. فلابدّ من توضيح وجه التمييز بين حق الله وحق الناس كمقدمة للبحث.

قد يقال في تمييز هذين الحقَّيْن: لا ترفع التوبة إلى الله تعالى المسؤولية والضمان عن الجاني، بل يرفعها عفو الشاكي ورضاه فقط، فيصدق عليه حقّ الناس في مثل: القتل، والقذف، وأما إذا لم يكن لرضا الناس وعفوهم دخلٌ في براءة المجرم، كشرب الخمر، فيصدق عليه حقّ الله. هذا مع أنّ للجرائم كلّها حيثية من حقّ الله([15]).

نظرية عدم الضمان، الأدلّة والشواهد

و قد استدل هؤلاء الفقهاء بأدلة مختلفة، واعتبروا كلّ واحد منها كافياً في إثبات دعواهم.

 فمن الأدلة النقلية استدلّوا بثلاث روايات صحيحة وحسنة، وكلها تدلّ على مهدورية دم الجاني الميت أثناء الحدّ مطلقاً، سواء كان من حقوق الناس أو من حقوق الله، وهي:

1ـ رواية الحلبي، عن أبي عبد اللّه× قال: أيّما رجلٍ قتله الحدّ أو القصاص فلا دية له([16]).

والمقصود من القصاص هنا قصاص الطرف الذي يؤدّي إلى تلف الجاني المقتصّ منه.

2ـ رواية محمد بن مسلم،عن أبي جعفرٍ× قال: مَنْ قتله القصاص بأمر الإمام فلا دية له، في قتلٍ، ولا جراحةٍ([17]).

3ـ رواية زيد الشحام، قال: سألتُ أبا عبد اللّه× عن رجلٍ قتله القصاص هل له ديةٌ؟ قال: لو كان ذلك لم يقتصّ من أحدٍ، ومَنْ قتله الحدّ فلا دية له([18]).

ومن الأدلة العقلية استدلوا بما يلي:

1ـ أنّ إجراء الحدّ والقصاص فعل سائغ، بل واجب في مثل الحدّ، وكل أمر سائغ أو واجب لايوجب المسؤولية والضمان لفاعله([19]).

2ـ الشهرة الفتوائية: ومما استدلّ به هؤلاء الفقهاء هو أنّ نظرية مهدورية دم المجرم الميت عند إجراء الحدّ ذات شهرة فتوائية بين فقهاء الإمامية. وعلى هذا الأساس فلا دليل على ضمان مجري الحد.

3ـ الرواية التي استـند إليها القائلون بالضمان، وهي تصحّح ضمان دية مَنْ قتله الحدّ، ضعيفة جداً؛ لأن صالح الثوري في سندها زيديّ بَتريّ([20]). ولا يليق بمثل هذه الرواية الضعيفة أن تخصِّص عمومات الروايات الدالّة على عدم ضمانه مطلقاً، في أيٍّ من الحقّين.

4ـ قاعدة الإحسان: ومقتضى هذه القاعدة، أن لايؤاخَذ المحسنون على أعمالهم الحسنة. وبما أنّ مجري الحد قام بإجراء الحدّ امتثالاً لأمر الشارع يعتبر محسناً، ويدخل تحت عموم الآية القائلة: {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (التوبة: 91). فالحاصل أن القول بضمانه ليس بصحيح([21]).

5ـ قاعدة «قبح عقاب الأمين وضمانه»: وتقريب دلالتها أنّ مجري الحدّ لا ضمان عليه؛ بحجة أنه أمين؛ لأنّ الأمين لايضمن إلا في صورة التعدي أو التفريط، فيقبح ضمانه بسبب إجراء العدالة بيده([22]).

6ـ أصالة البراءة: استدل صاحب جواهر الكلام([23]) وصاحب مهذّب الأحكام([24]) لعدم ضمان مجري الحدّ بأصالة البراءة. بمعنى أنه لو شككنا في مسؤوليته وضمانه في حقوق الناس أو الله فنتمسك بأصالة البراءة، إلا أن يقام دليل قطعي على خلافه.

7ـ ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه حتى لو جرى الحد في الحرّ والبرد الشديد فلا ضمان على مجريه؛ حيث إنّ تأخير إجراء الحد في الحرّ والبرد الشديد مستحب، غير واجب([25]).

8ـ تجري الدية والقصاص أيضاً في ما لو أتلف الجاني جسم فرد آخر بعمده أو خطئه. ولكنْ لمّا تلف الجاني بسبب إقامة الحدّ يكون التلف تبعاً لفعل الجاني نفسه، فينتفي موضوع الدية والقصاص، ولامجرى لهما([26]).

9ـ ومن الأدلة المستفادة للمنع عن الضمان تسالم الفقهاء([27])، بمعنى إجماعهم.

10ـ يقول البعض بأنّ مستند القائلين بالضمان هو خبر واحد، وقد ثبت في أصول الفقه أن خبر الواحد، وإنْ كان راويه عدلاً وثقة، لا يقاوم الروايات المتعدِّدة الدالّة على عدم الضمان([28]).

نظرية اختصاص الضمان بحقوق الناس، الأدلّة والمستندات

ذهب بعض الفقهاء إلى لزوم التفصيل بين حقوق الله وحقوق الناس، مستندين إلى رواية الصادق× المنقولة عن أمير المؤمنين×. ولعلّها أهم أدلتهم، وهي: عن أبي عبد الله× قال: كان عليٌّ× يقول: مَنْ ضربناه حدّاً من حدود اللّه فمات فلا دية له علينا؛ ومن ضربناه حدّاً في شيءٍ من حقوق النّاس فمات فإنّ ديته علينا([29]).

والذي جاء في آخر الرواية، أي عبارة: «فإن ديته علينا»، صار سبباً لاختلاف كلماتهم؛ بحيث قال البعض منهم: إنّ المراد منها أن الدية على الإمام([30])؛ وقال آخرون: إنَّها على بيت المال([31]). لكنّ الكثير منهم ذهبوا إلى الاحتمال الثاني، أي الضمان في بيت المال. هذا مع أنّ اللازم أن نذكر أن عبارة «علينا» لم تأتِ هنا بمعناها الحقيقي، بل لما كانت مسؤولية توزيع بيت المال وإدارة أموره على الإمام استخدم الإمام× عبارة «علينا»، بمعنى أن الدية في بيت المال، ولكن تُدفع بيد الإمام، وهو متصدّيه.

و التحقيق أنّ القول بعدم الضمان مخدوشٌ؛ وذلك لأنّ ما استدلوا به من الأدلة العقلية غير تامّ. وعليه فإذا أسقطنا هذه الأدلة، بأسلوب علمي ومنطقي لا يبقى مجالٌ إلاّ لأدلتهم النقلية. ومعه لو لم تُعتبر الروايات المعتمدة من جانب القائلين بالتفصيل بين حق الله وحق الناس ضعيفةً من حيث السند والدلالة فينتهي الأمر لامحالة إلى ضرورة الجمع العرفي بين الأدلة المتعارضة كلّها. ولكنْ لو سقطت روايات أحد الفريقين عن الاعتبار فلن نصل إلى مرحلة التعارض والترجيح، بل تبقى النصوص المعتبرة هي الدليل الذي ينبغي الاستناد إليه.

إذاً نناقش في بداية الأمر أدلتهم العقلية، فنقول:

1ـ نحن وإن قبلنا أنّ اجراء الحدّ والقصاص فعل سائغ، بل واجب في مثل الحدّ، ولكنه لا منافاة بينه وبين تحمّل الغرامة، كما سنذكره بالتفصيل في الجواب عن الاستناد إلى قاعدة الإحسان.

2ـ وأمّا من ناحية دعوى الشهرة الفتوائية بالنسبة لمهدورية دم الجاني الميت أثناء الحد مطلقاً، فيَرِدُ عليه أن بعض الفقهاء يفصّلون بين الحقّين، ويقبلون الضمان في حقوق الله فحسب. مضافاً إلى أنه لا اعتبار للشهرة الفتوائية، خلافاً للشهرة الروائية([32])؛ لأنه جاء في البحث عن المرجِّحات (الأخبار العلاجية) أنه لو تعارض الدليلان في خصوص إحدى الدلالات الثلاث، وجرى التكاذب بينهما، بحيث لا يمكن الجمع، فلا محالة نعمل بالرواية التي لها شهرة روائية([33])، و لا يعتـنى بالشهرة الفتوائية المؤيِّدة للرواية.

3ـ قد يجاب عن دعوى ضعف الرواية التي تصحّح الضمان في حقوق الناس بأنّ راويها وإن كان زيدياً بترياً ولكنّ الراوي عنه هو الحسن بن محبوب، الذي هو ثقة، ومن أصحاب الإجماع، وأصحاب الإجماع هم الذين لا يسندون رواية ما إلى المعصوم× بدون الفحص. وعليه فالأحاديث التي تُنقَل عنهم ـ لو كان الطريق إليهم صحيحاً ـ تُعتبر صحيحة، ولا يعتنى بمَنْ بعدهم([34]). وفي هذا الخبر الرواة إليه ثقات([35]). مضافاً إلى أنّه يكفي في صحة الرواية صدق الراوي ووثوقه. فالراوي من أي مذهب كان إن روى رواية عن المعصوم× فالميزان في صحتها هو صدقه ووثوقه. وقد زعموا أن صالح الثوري هو زيدي بتري، ولكنهم صرّحوا بوثاقته في كتب الرجال. كما ورد أنّ ما يرويه هؤلاء فاقبلوه، إلا في ما يكون في خصوص الإمام نفسه. إضافة إلى أن هذه الرواية جاءت في «مَنْ لا يحضره الفقيه» مرسلة، ومراسيل الشيخ الصدوق ـ كما اشتهر ـ كالمسانيد. وقد اعتبر صاحب إيضاح الفوائد هذه الرواية متواترة([36]).

4ـ إنّ الجواب عن التمسُّك بقاعدة الإحسان هو أنّنا وإن قبلنا كون مجري الحدّ محسناً إلا أنّ هذه القاعدة لا تجري في هذا المقام؛ لأنه لو كان ضمان دية الجاني على ذمة مجري الحدّ نفسه كان التمسك بهذه القاعدة صحيحاً، ولكنّ القائلين بالضمان، مستندين إلى الروايات، يرون الدية في خصوص حقوق الناس في بيت المال. وهذا لايرتبط بقاعدة الاحسان. مضافاً إلى أنه في كثير من الموارد، ومع صدق الإحسان، لا ترتفع المسؤولية عن المحسن، كبعض مصاديق القتل الخطئي، فلا شك في ضمان الطبيب الذي كتب لمريضه وصفة طبية، وأوصاه باستعمال دواء ما، وأخطأ فيه، فأدّى استعماله إلى موته. مع أنه قصد الإحسان إلى المريض وشفاءه، ولكن الإحسان لا يبرّر عدم مسؤوليته عن تدارك دية المريض. وكذا في ضرب الشخص ضرباً لا يقتل عادة، قاصداً التأديب، فيموت المضروب‏، وهو من الخطأ الشبيه بالعمد. إذاً لا حيلة إلا تأدية الدية([37]). والأمر كذلك في ضمان البائع الفضولي إذا قصد الإحسان إلى المالك؛ إذ لا منافاة بين الإحسان وتحمّل الغرامة.

5ـ وقد ينقض على إشكال قبح ضمان الحدّاد، مستنداً إلى قاعدة قبح عقاب الأمين، بأنّ جعل الدية على عهدة بيت المال ليس بمعنى عقوبة الأمين، فهذه القاعدة غير صالحة لهذا المقام؛ لأنها تجري في ما يلزَم به الأمين، رغم عدم التعدي والتفريط، من تأدية الغرامة وتداركها من كيسه. وهذا مما لا يرتاب أحد في قبحه. ولكنّ الضامن هنا ليس هو مجري الحدّ نفسه، بل الضامن هو بيت المال.

6ـ وقد يجاب عن الاستناد إلى الأصول العملية، وخاصة البراءة، بأنه لا يجوز الاستناد إليها إلا إذا لم يكن دليل قطعي أو أمارة معتبرة بالنسبة لحكم الموضوع؛ لأنّ الأصل دليل حيث لا دليل([38]).

7ـ إنْ ذهبنا إلى عدم الضير في إجراء الحد في الحر والبرد الشديدين؛ استناداً لاستحباب تأخيره، فهذا يتعارض مع القواعد العامة الدالة على الضمان، وخاصة في ما يعلم أو يظن بالظنّ الغالب أن إجراءه في البرد أو الحر الشديدين يسفر عن جرح المجرم أو موته، فلا ينبغي أن يوجب استحباب عملٍ ­ما مفسدة؛ لأن الشريعة الإسلامية عينت حقوقاً للمجرم، كما عينت التزامات وآداباً لكيفية التعامل معه، فكيف يمكن للشريعة، التي تدافع عن حقوق الطبيعة والبيئة، كحقوق الحيوان وحقوق النباتات، وجعل حقوق قيمة للأعداء والأسرى منهم، أن تختار الحكم المذكور، أي القول بعدم الضمان؟!

8ـ نحن لا نخضع لصدق عنوان القتل العمدي، ولا شبه الخطأ، ولا الخطئي، على تلف هذا الجاني، لكي يُشكل على لزوم دفع دية الجاني الميت، بل نعتقد بأنّ تدارك غرامته في خصوص حقوق الناس من بيت المال يكون بسبب كونه مصداقاً للمصالح، وهو كما نعلم مُعَدٌّ للمصالح، لا بسبب كونه قتلا خطئياً. لأنّ مُجري الحدّ، قاضياً كان أو حدّاداً، قد قام بمهمته دون أن يتعدّى أو يفرّط، فلا يمكن أن نقول بأنّه ارتكب القتل الخطئي أو شبه الخطأ. ولذلك نرى في بعض الروايات أن بيت المال يتكفَّل غرامة اشتباهه في صدور الحكم، أو إجرائه. نعم، ربما كان استخدام لفظ الدية في هذه الرواية سبباً لإيجاد هذا التوهم بين الفقهاء، وإعراضهم عن القول بالضمان.

9ـ إنّنا نجيب عن دعوى تسالم الفقهاء وإجماعهم على عدم الضمان بأنّ اختلاف كلمات الفقهاء ـ كما اتّضح إلى هنا ـ يحكي عن عدمه. مضافاً إلى أنّ الإجماع لو تحقَّق في المسألة هنا لكان إجماعاً مدركياً، ولا اعتبار له.

10ـ الذي ينبغي أن يقال في ردّ عدم اعتبار خبر الواحد الذي يصحّح ضمان مجري الحدّ هو أنّ جمهور الأصوليين ذهبوا إلى أنّ خبر الواحد إذا كان راويه عادلاً فهو حجّة، استناداً إلى مفهوم الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6)، فلا دليل يسوّغ طرحه.

و يبدو أن شبهة ضعف الرواية التي تصحِّح القول بالضمان كانت سبباً لإعراض كثير من الفقهاء عن لزوم تدارك الغرامة الناجمة عن تلف الجاني عند إجراء الحدّ من بيت المال. وبالتالي لو ارتفع الوهم من ناحية هذه الشبهة بما شرحنا لالتزم المخالف أيضاً بالضمان، مع التفصيل بين حقوق الله وحقوق الناس.

و بعد أن عرفنا أنّ الأدلة العقلية للقائلين بعدم الضمان مخدوشة، والرواية التي تصحِّح الضمان في خصوص حقوق الناس معتبرة وموثَّقة، نقول: إن الفريقين قد تمسَّكا لإثبات مختارهما في هذه المسألة بالروايات التي تقدَّمت، والنسبة بين الطائفتين من الروايات إما التباين، فتسقط الطائفتان لو تساوتا من حيث السند والدلالة، ويأتي دور التمسُّك بالأصل العملي، وهو البراءة هنا؛ وإما العموم والخصوص من وجه، فنعمل بقانون الجمع العرفي بين المتعارضين، لو أحرزنا حجية كلتا الطائفتين من الروايات، وكان العموم في أحدهما بالوضع والآخر بالإطلاق، ولو كان العموم في كليهما بالوضع فيقدَّم أحدهما بإعمال المرجِّحات في مادّة الإجماع([39]). ولكن يبدو أن الأمر بالنسبة إلى التباين منتفٍ. فضلاً عن أنّ كثيراً من الفقهاء يتخذون جانب الاحتياط في خصوص الدماء، لا البراءة. فيأتي دور الجمع العرفي، ويحترز عن طرحهما، أو طرح رواية أحد الفريقين، بكامل الاحتراز([40]).

و إذا انتهينا إلى هذا المقام فطبقاً لقانون التقييد تُحمل الروايات الدالة على عدم ضمان مجري الحدّ مطلقاً على الروايات التي تصحِّح الضمان في خصوص حقوق­ الناس، وتكون النتيجة تدارك دية الجاني الميت عند إجراء الحد في حقوق الناس من بيت المال.

وهناك أدلة أخرى تؤيِّد هذه النظرية، ومنها:

1ـ للجاني والمتَّهم حقوق خاصّة في الشريعة الإسلامية. كالسارق، فإنه ورد فيه أنه تستحبّ مداواة يده بعد القطع من بيت المال؛ للصدّ عن جري الدم([41])، بحيث ذهب بعض الفقهاء؛ استناداً إلى رواية أمير المؤمنين×، إلى وجوب معالجة الجاني الذي أُصيب بمرض بسبب الحدّ، واعتبروه مناسباً للشريعة السهلة السمحة([42]).

وعليه فإن تدارك دية الجاني الميت بسبب الحدّ من بيت المال يتناسب مع الشريعة السهلة السمحة، وخاصة عندما يكون الجاني ذا أسرة فقيرة، ويكفل عدداً من الأشخاص.

2ـ مع أن بيت المال مُعَدٌّ للمصالح، وتدارك دية الجاني المذكور منه، فإنه لو لم يكن ذا مصلحة فلن يكون ذا مفسدة قطعاً؛ لأن المجرم ربما يتوب بعد إثبات جرمه، وإنْ لم تؤثِّر توبته في براءته. وهذا بنفسه يكون دليلاً على صحة لزوم تدارك غرامته.

3ـ إنّ النصوص التي تؤيِّد نظرية لزوم تدارك دية الجاني المذكور من بيت المال، من قبيل: ما ورد في صحيحة أبي بصير، عن الصادق× قال: «…فإنه لا يبطل دم امرئ مسلم»([43])، والتي تتضمّن قاعدة فقهية مستقلة، كما في الكتب الفقهية، تدلّ بالدلالة المطابقية على عدم مهدورية دم المسلم مطلقاً، سواء كان بسبب إجراء الحدّ أو بسبب القتل العمدي، أو الخطئي، و… ولكن لمّا قام الدليل على مهدوريته وعدم ضمانه عند إجراء الحدّ في خصوص حقوق الله تعالى يخرج هذا القسم خاصةً من تحت عموم هذه القاعدة، أي رواية: «لا يبطل دم امرئ مسلم»، وتبقى سائر مصاديقه تحتها.

ومن اللازم أن نشير إلى أنه لا خلاف بين الفقهاء في عدم الفرق بين حكم الحد والتعزير في مسألتنا هذه؛ لأنّ الملاك في الحدّ هو كونه من شؤون الحاكم، والمفروض أن التعزير أيضاً من شؤونه([44]). مضافاً إلى أنه جاء في إحدى الروايات بأنّ الحدّ أعم من الحدّ بالمعنى الخاص والتعزير. وإن أبيتَ فنقول: إنّ التـناسب الموجود بين الحكم والموضوع يدلّ على عدم الفرق بينهما في خصوص هذه الروايات.

بالإضافة إلى أنه قد تردَّد بعض مانعي الضمان واحتمل الضمان في خصوص التعزير؛ لأنه غير محدَّد كمّاً، فيمكن الخطأ في تعيين قدره، الذي أدّى إلى تلف الجاني، لو كان تعيينه بنظر غير المعصوم.

4ـ إنّ دعوى مهدورية دم المجرم المذكور لا تتـناسب مع الملاكات الفقهية؛ لأن مهدور الدم في الاصطلاح الفقهي يقابل محقون الدم، ويستعمل في مَنْ كان دمه غير محترم، بحيث لو قتله فردٌ بعمده لا يُقاد، كالزاني المحصن، والمرتد الفطري، والسارق الذي سُجِن بعد إجراء الحدّ عليه أربع مرات، وهرب من السجن، وما إلى ذلك. وأما في ما نحن فيه فلا يجوز لأحد أن يقتل شارب الخمر مثلاً، أو المختلس؛ لأن دمه محقون ومحترم.

النتيجة

ثبت ممّا حقَّقناه بالتفصيل أنّه من الضروري تدارك دية الجاني الذي تلف عند إجراء الحدّ أو التعزير إذا كان في حقوق الناس، ولكن التدارك يكون من بيت المال، لا من مال مجري الحدّ نفسه. وهذا ما يقتضيه الجمع العرفي بين الروايات كلّها، مضافاً إلى القواعد العامة التي تدلّ على أن دم المسلم محترم ومحقون.

الهوامش

_________________________________

(*) طالب دكتوراه في قسم «الفقه وأصول الحقوق الإسلامية» في جامعة طهران.

(**) أستاذ مساعد في جامعة طهران.

(***) أستاذ الدراسات العليا في جامعة المصطفى’ العالمية.

(****) باحث جامعي، متخصّص في الفقه الإسلامي.

([1]) سزار بكاريا، 1368، ش 220.

([2]) المصدرالسابق: 73.

([3]) د. محمد علي الأردبيلي ، القانون الجنائي: 82؛ إيرج وكلدوزيان، القانون الجنائي: 71.

([4]) الخميني، صحيفة النور.

([5]) الفاضل المقداد، نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية: 7.

([6]) وهبة الزحيلي، المصدر السابق 7: 226؛ الجزيري، مازح، الغروي، الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت 5: 181.

([7]) المصدر السابق.

([8]) المصدر السابق 5: 117؛ الشهيد الثاني، مسالك الأفهام (ط. قديم) 2: 396.

([9]) انظر: وهبة الزحيلي المصدر السابق 5: 703.

([10]) الأردبيلي، المصدر السابق: 68.

([11]) نضد القواعد الفقهية: 7.

([12]) الأردبيلي، حقوق الجزاء 1: 68.

([13]) مراغه إي، عناوين الأصول 2: 448.

([14]) أصل 171 ق. 1.1.

([15]) المادة 2 آ.د.ك.

([16]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 29: 65، ح35165.

([17]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 29: 65، ح35164.

([18]) الكليني، الكافي 7: 291، ح3.

([19]) انظر: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 14: 472.

([20]) الفاضل اللنكراني، الحدود 485؛ المرعشي النجفي، القصاص على ضوء القرآن والسنة 2: 393.

([21]) مذهب الأحكام 27: 292؛ جواهر الكلام 41: 471.

([22]) مهذب الأحكام 29: 94.

([23]) جواهر الكلام 41: 471.

([24]) مهذب الأحكام 27: 292.

([25]) جواهر الكلام 41: 471؛ مهذب الأحكام 28: 105.

([26]) مصطفوي، مائة قاعدة فقهية: 235.

([27]) مائة قاعدة فقهية: 236.

([28]) القصاص على ضوء القرآن والسنة 2: 393.

([29]) الاستبصار في ما اختلف من الأخبار 4: 279؛ وسائل الشيعة 29: 64، ح35159.

([30]) مسالك الأفهام 14: 474.

([31]) الاستبصار 4: 279، ذيل ح1056.

([32]) كفاية الأصول: 292؛ مقالات الأصول 2: 75.

([33]) أجود التقريرات 2: 100.

([34]) رجال الكشي 1: 556.

([35]) النجعة في شرح اللمعة 11: 150.

([36]) إيضاح الفوائد 4: 516.

([37]) الروضة البهية 10: 106 ـ 108.

([38]) منتهى الدراية 4: 587.

([39]) انظر: مصباح الأصول 3: 427 ـ 431.

([40]) الجمع بين المتعارضين مهما أمكن أولى من الطرح (أصول‏ الفقه 2: 227).

([41]) وسائل الشيعة 28: 301، باب 30 من أبواب حدّ السرقة، ح3 و4؛ السنن الكبرى 8: 271.

([42]) مهذب الأحكام 28: 106.

([43]) وسائل الشيعة 29: 395، ح1.

([44]) مباني تكملة المنهاج 42: 262.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً