أحدث المقالات

مديات حجيّة الحديث خارج السياق المذهبي

حيدر حب الله([1])

تمهيد

لو فرضنا ـ كما هو الصحيح، وفق ما تقدّم ـ أنّ مسألة الاعتقاد لا علاقة لها بقضيّة العدالة، فهل يمكن فرض قيد سلامة الاعتقاد في حجيّة الخبر، بصرف النظر عن إشكاليّة العدالة أو لا؟

لقد توصّلنا من خلال ما تقدّم إلى أنّ العبرة في حجيّة خبر الواحد هي الوثاقة أو العدالة، دون أهميّة لاعتقاد الراوي، ومعنى ذلك أنّ الراوي إذا كان شيعياً أو سنياً أو إباضيّاً أو غير ذلك، يمكن الأخذ برواياته مع كونه ثقةً أو عادلاً؛ لأنّ نظريّة حجيّة خبر الثقة ونظريّة حجية خبر العدل لا تمانعان من ذلك كما قلنا، وقد ذهب إلى هذا الرأي العديد من علماء الإماميّة، كما ذهب إليه الكثير من علماء أهل السنّة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لم نلاحظ في الاجتهادات الفقهيّة وغيرها عند المذاهب الإسلاميّة أيّ ملاحظة للمصادر الحديثية الموجودة عند الطرف الآخر؟ فقلّما نجد فقيهاً شيعياً يستحضر في بحثه الفقهيّ روايةً من المصادر الحديثية السنية، وهكذا الحال في الوسط السنّي، إذ قلّما نجد من يراجع كتاب الكافي لأخذ رواية منه في موضوع فقهي حتى لو لم يكن هذا الموضوع من موضوعات الخلاف المذهبي كزواج المتعة، أو المسح على القدمين في الوضوء، أو التأمين، أو التكتف، أو شهود الزواج والطلاق أو.. فإذا كانت العبرة بالوثاقة فلماذا لا يرجعون إلى كتب بعضهم بعضاً للنظر في أسانيدها، بل يتعاملون وكأنّها غير موجودة إطلاقاً؟

ومن الواضح تاريخيّاً أنّنا لم نرَ فقيهاً أو غيره إلا نادراً ـ إذا كان ـ قد راجع كتب الحديث عند المذهب الآخر، وفنّدها روايةً رواية لتكون ضعيفة السند عنده، ثم ليكون ذلك هو السبب في إعراضه عنها، فهذا ما لا يظهر من سيرتهم ومصنّفاتهم، بل الظاهر أنّ هناك موقفاً مبدئيّاً مسبقاً هو الذي دفع إلى حصول هذه القطيعة المعرفيّة وعدم شعور الباحث بالحاجة إلى السعي والبحث في مصادر الفرق الأخرى.

مداخل ضروريّة للموضوع

من هنا، لابد من دراسة المنطلقات القَبْلِيَّة والأدلّة المسبقة التي تمّ الانطلاق منها لتحليلها ورصدها ومحاكمتها ومعرفة صوابها من خطئها، لكن قبل ذلك ـ ونظراً للأهميّة القصوى، مهما كانت النتيجة لهذا البحث الذي لم يُتطرّق إليه في كتب أصول الفقه ـ من الضروري الإشارة إلى بعض النقاط المدخليّة، وهي:

أ ـ ضرورة تحييد الموضوع عن الخطاب التقريبي العام

النقطة الأولى: من المهم للغاية أن لا ننطلق في مثل هذا البحث من منطلقات التقريب بين المذاهب، فيكون هذا هو شعارنا الذي نَلِجُ به الموضوع؛ إذ ذلك سيحرف البحث عن مساره الطبيعي العلميّ المحايد، فالتقريب شيء والبعد المعرفي شيء آخر، فهذا البحث أسبق رتبةً من قضيّة التقريب؛ لأنّه يُعالج الجذر المعرفي لواحد من منطلقات التقريب، فعلينا أن لا نتهم ـ دوماً ـ من لا يؤمن بمصادر الحديث عند الآخرين بأنّه طائفي أو متعصّب أو.. وهذه هي مشكلة بعض دعاة التقريب في عالمنا الإسلاميّ عند المذاهب كافّة، لاسيما وأنّ بعضهم ليس مستعدّاً للنظر في مبرّرات الطرف الذي يراه طائفيّاً، وهذا ما يقف على النقيض من البنيات المعرفيّة للتقريب نفسه، ويُدخل التقريبيين ودعاة الإصلاح في تناقضٍ داخلي.

ب ـ الحاجة لتحييد الموضوع عن الخلفيّات المذهبيّة الطائفيّة

النقطة الثانية: لا يصحّ في دراسة هذه المسألة المهمّة الانطلاق أيضاً من مواقف مذهبيّة مسبقة، ومن عُقَد طائفيّة؛ فلأنّ المصدر الحديثي الفلاني شيعيٌّ إذاً لا نريد الرجوع إليه، ولأنّ المصدر الحديثي الآخر سنّيٌّ إذاً لا نريد الرجوع إليه أيضاً، دون تقديم تبريرات منطقيّة ومُصاغة صياغة علميّة في هذا المجال؛ لأنّ معالجة مثل هذا الموضوع على أسس من هذا النوع تغيّب الروح الأكاديميّة المنصفة، وتعطّل النشاط الفكري الحرّ بالمرّة.

ج ـ الحياديّة وتطابق المسافة مع جميع الأطراف

النقطة الثالثة: نسعى في هذا البحث لدراسة الأدلّة التي يقدّمها الشيعي لرفض مصادر الحديث السنيّة، كما نتابع الأدلّة التي يقدّمها السنّي لرفض مراجعة المصادر الحديثيّة الشيعيّة، فنحن في هذا البحث سنكون خارج الإطار الشيعيّ والسنّي معاً، لنرى هل موقف الشيعي صحيح وفق معطياته أو لا؟ وهل هناك مبرّر صحيح للموقف الشيعي وفق معطياته أو لا؟ ولا نريد هنا أن نقول للشيعي: خذ بروايات أهل السنّة ونسكت عن إعراض السنّي عن الأخذ بروايات الشيعة، كما لا نريد هنا أن نقول للسنّي: خذ بروايات الشيعة، ونسكت عن إعراض الشيعي عن الأخذ بروايات أهل السنّة، بل نحن نخاطب الطرفين معاً.

نعم، قد تكون النتيجة لزوم أخذ الشيعي بروايات السنّة دون العكس، أو لزوم أخذ السنّي بروايات الشيعة دون العكس؛ لأسباب ومبرّرات معرفيّة، لكنّ هذا على مستوى النتائج، أما على مستوى البحث نفسه فنفترض تساوي الجميع في الرصد والمعالجة.

د ـ مرجعيّة مصادر الحديث بين البحث العلمي والجدل المذهبي

النقطة الرابعة: لا يُقصد من هذا البحث دراسة مسألة الرجوع إلى مصادر الفريق الآخر للتعرّف عليه أو لتسجيل إشكالٍ نقديٍّ عليه من مصادره عبر الاحتجاج عليه بما في مصادره، فهذا النوع من المحاججة صحيحٌ في باب الجدل لا غبار عليه، لكننا هنا لا نبحث على مستوى باب الجدل، وإنما على مستوى باب البرهان، أي جعل مصادر الحديث الإسلاميّة بمذاهبها مادّةً لرصد السنّة المحكيّة، في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة والمفاهيم الدينيّة، بعيداً عن باب الاحتجاج والنقض وإفحام الخصم و..

هـ ـ بين مبدأ الرجوع إلى المصادر الحديثية للمذاهب ومبدأ الحجيّة

النقطة الخامسة: إنّ القول بعدم صواب الرجوع إلى مصادر الحديث السنيّة مثلاً معناه عدم حجيّة الروايات الواردة في هذه المصادر، فإذا قام دليل على عدم الرجوع من رأس كان معناه سقوط حجيّة هذه الروايات، أما إذا قام دليل على لزوم الرجوع إلى هذه المصادر، فإنّه لا يعني بالضرورة حجيّة تمام الروايات الموجودة، ولا حجيّة بعضها بشكل ناجز، بل يمكن أن يعني ترقّب وجود روايات حجّة في هذه المصادر بمقدار عقلائي من الترقّب، فهذ أشبه شيء بالبحث عن الدليل أو عن المخصّص، حيث يجب أن يكون السعي في المواضع التي يُترقّب فيها عقلائياً ومنطقيّاً وجود الدليل أو المخصّص، فقد نجده فنأخذ به، وقد لا نجده فنرجع إلى أصالة البراءة في الأوّل (الدليل) وأصالة العموم في الثاني (المخصّص)، فالإلزام بالرجوع معناه أو يكفي فيه ترقّب الحجّة، لا ثبوت الحجّة بالضرورة بوصف ذلك قضيّة مسبَقة مسقَطة، فليُنتبه جيّداً لذلك.

و ـ المسؤوليات اللاحقة لتكريس مبدأ مرجعيّة مصادر الحديث عامّة

النقطة السادسة: لا شكّ في أنّ النتيجة التي تقول بعدم لزوم الرجوع إلى مصادر الفريق المذهبي الآخر أكثر سهولةً ويُسراً من النتيجة الأخرى؛ لإفضاء الثانية إلى توسيع نطاق عمل الفقيه والباحث وجهودهما، وهذا ما يصعّب عمله جداً، لكنّه ليس مبرّراً للرفض إذا قام الدليل عليه، فالمسألة مسألة وجوب الأمانة والإنصاف وبذل الوسع في البحث عن الدليل، وليس مهماً أن أجتهد في كلّ الفقه، بقدر ما المهم أن يكون اجتهادي بمستوى المعرفة المطلوبة، ولو كان في بابٍ واحد من الفقه وحده.

نطاقات الجهود البحثية في هذا الموضوع

وبعد هذه الكلمات المقدّمية، نشرع في دراسة أصل الموضوع، وقد لاحظنا أنّ علم أصول الفقه لم يدرس هذا الموضوع من هذه الزاوية، وإنما كما تقدّم درس ـ وبشكل غير واسع أيضاً ـ مسألة شرط الإيمان والعدالة والوثاقة، كما أنّ علم الفقه والحديث والرجال لم يعالج هذا الموضوع إلا بمقدار بسيط نسبيّاً كما سوف نرى، كلّ ما في الأمر أنّ هناك كلمات هنا وهناك متفرّقة يستوحى منها إشارة في هذا الإطار أو ذاك، وقد وجدنا أنّ هذا الموضوع أثير على ثلاثة صُعد، وبشكل مختصر أيضاً:

الصعيد الأوّل: في الصراع الإخباري ـ الأصولي عند الإماميّة، فقد انتقد علماء الإخباريّة الشيعة ما اعتبروه تأثر العلامة الحلّي وأنصار مدرسته بأهل السنّة، لهذا طالبوا بقطيعة صريحة بين علوم الطرفين، وصرّحوا بأنّ علوم الشيعة غير علوم السنّة، بل قالوها بصراحة: إنّ هموم الفقيه الشيعي مغايرة لهموم الفقيه السنّي، وأحاديثهم غير أحاديثهم، وفقههم غير فقههم، واعتقاداتهم غير اعتقاداتهم، حتى عبّر الإخباريون بتعابير مثل: إلههم غير إلهنا، ونبيّهم غير نبيّنا و.. وفي ثنايا كلمات الإخباريين وجدنا لفتات تطالب بمزيد من هذه القطيعة؛ لبناء كلّ المنظومات الفكريّة السنية على الباطل وخلاف الحقّ، الأمر الذي لا مبرّر معه للتواصل الفكري معهم.

الصعيد الثاني: في السجال المذهبي، ففي إطار المساجلات المذهبيّة ظهرت مواقف هنا وهناك تتعلّق بهذا الموضوع، فعلى الصعيد السنّي كانت دائماً الصورة النمطيّة المكوّنة عن الإنسان الشيعي حاكمة على العقل السنّي؛ ألا وهي صورة المنافق الوضّاع الدجّال الذي يعمل بالتقيّة، وهذا معناه أنّه لا يمكن أخذ شيء منه، وكذلك على الصعيد الشيعي حيث السنّي هو الموالي للسلطان الذي يضع الأحاديث لمصالح ومنافع، وفي هذا الإطار لم يعد يمكن إحداث وصلة بين الفريقين، وسيأتي أنّ مثل الشيخ محمد حسن المظفر قال: إنّ أحاديث السنّة في مناقب أهل البيت( حجّة حقيقةً لا من باب الجدل، أما غير ذلك فهي ليست بذات قيمة أساساً.

الصعيد الثالث: وهو ما طُرح في بعض الكلمات في علم الحديث والأصول والرجال، من عدم الأخذ بروايات المبتدعة وأنصار بعض الفرق، وهذا موجود عند أهل السنّة، كما سوف نرى بحول الله تعالى.

وعلى أية حال، ففي بداية البحث نطرح نظريّة التواصل والدمج في مصادر الحديث ومقتضيات القاعدة العامّة في هذا المجال، ثم نعقبها بالمحاذير أو العوائق التي تمنع عن الأخذ بروايات الفريق الآخر، وبهذا نجعل البحث في ملفّين اثنين.

1 ـ المقتضيات الأوليّة لقاعدة الدمج الحديثي أو توحيد الحديث الإسلامي

نقصد بقاعدة التواصل والدمج الحديثي أنّ الباحث المسلم يلزمه ـ منطقيّاً وموضوعيّاً وأخلاقيّاً وشرعيّاً ـ النظر في مختلف مصادر الحديث الإسلاميّة عند المذاهب كافّة، قبل تكوين رؤيته في القضيّة الفقهيّة أو الكلاميّة أو التاريخيّة أو التفسيريّة أو غير ذلك، وله الحقّ بعد ذلك في نقد أيّ من هذه الأحاديث في موضوع بحثه، واختيار أيّ منها وفقاً لمعالجات علميّة منطقيّة جادّة.

والحديث في مقتضى القواعد ـ بعيداً عن معوّقاتها ـ يمكن صياغته على الشكل التالي:

تارةً نبني في باب الأخبار على نظريّة الوثوق أو اليقين، وأخرى نتبنّى نظريّة الوثاقة بالمعنى الأعم أو السند، فهنا افتراضان قبليّان:

الافتراض الأوّل: أن نبني على اليقين أو الوثوق، وهنا:

1 ـ أما البناء على اليقين، كما لو أتى من التواتر أو القرائن الحافّة، فلا فرق فيه بين أن يكون الخبر صحيحاً من الناحية السنديّة أو يكون ضعيفاً؛ لأنّ بناء اليقين في مثل هذه الحالة على معطيّات خارجيّة أو على حساب الاحتمال، ومقتضى القاعدة أن لا يميّز بين خبرٍ وآخر في إدخال هذا الخبر في حساب عناصر الاحتمال ما لم يقم ما يعيق هذا الحساب، أو نجزم مسبقاً بكذب وعدم صدور جميع أخبار هذا المذهب بضرس قاطع. نعم، أشكال الأخبار توجب تسريع حصول اليقين وعدمه، فإنّ عشرة أخبار تامّة السند تعطي نسبةً احتمالية أكبر من عشرة أخبار لا سند لها، بل هي مرسلة جداً.

وعليه، فطبقاً لفرضيّة اليقين يفترض أخذ كلّ خبر يحكي عن مصادر الدين والشريعة بالحسبان، ولا معنى لاستبعاد أيّ خبر أو مجموعة أخبار من الحسبان إلا إذا كان هناك عنصرٌ معيق، أو معطىً ما يلغي احتماليّتها من رأس دفعةً واحدة، وإلا فمقتضى الحالة الطبيعيّة القواعديّة هو أخذ هذه الروايات بعين الاعتبار.

من هنا، يُفترض ـ قواعدياً ـ الرجوع إلى مصادر أهل السنّة لتتبّع الروايات عندهم؛ إذ قد تكون بعض الروايات لا تحصّل تواتراً في عددها بحسب المصادر الشيعيّة، أمّا لو ضُمّت إليها المصادر السنّية فيمكن أن يبلغ العدد والكمّ والكيف حدّ التواتر، وهكذا الحال في خبر الشيعي بالنسبة للسنّي والإباضي بالنسبة للطرفين وهكذا..

وهكذا الحال في الخبر المحفوف بالقرينة؛ فإنّ العبرة هنا بالقرينة أينما كان الخبر، نعم وجوده في هذا المصدر أو ذاك يساهم في قوّة القرينة، فمثلاً ورود روايات توافق مذهب الشيعة في مصادر الحديث السنّية يعدّ بنفسه قرينة حافّة قد تدفع لتقليص احتمال الكذب، كما قال المظفّر في روايات فضائل أهل البيت النبوي الواردة في كتب الحديث السنيّة، فمقتضى القاعدة لزوم الرجوع إلى هذه المصادر للبحث فيها؛ إذ يُترقب فيها وجود عدد لا بأس به من الأخبار المحفوفة بالقرينة المفيدة لليقين بالصدور.

والذي قلناه بعينه، يجري مع السنّي في المصادر الشيعيّة، فإنّ هذه المصادر تساعد على تبلور التواتر في بعض الأحيان، كما تحتفّ في أحيان أخرى بقرينة القطع أو تشكّل هي قرينة القطع تبعاً للموضوع، فمقتضى القاعدة لزوم التفتيش عن روايات الفرق الإسلاميّة كلّها للنظر في التواتر أو القرائن الحافّة، وما هو غير ذلك يحتاج إلى بيان ما يعطّل هذه القاعدة أو يعيقها عن العمل.

2 ـ وأما البناء على الوثوق، بلا فرقٍ في تفسير الوثوق بأنّه الاطمئنان الشخصي أو النوعي، والظنّ الشخصي أو النوعي، فمن الواضح انطباق الكلام عينه هنا بشكل أوضح منه في باب التواتر واليقين؛ لتوفّر حصول الاطمئنان والظنّ أكثر من حصول اليقين الجازم، وعليه فوجود الروايات في مصادر الفرق الأخرى يُساعد ـ قواعدياً ـ على حصول الاطمئنان أو الظنّ، ولما كانت العبرة بهما مهما كان طريق الوصول إليهما، كان المفترض التفتيش عن كلّ ما يُحتمل معه التأثير عليهما.

ومعنى ذلك كلّه أنّ مقتضى القاعدة في بابَي: الوثوق واليقين، هو لزوم أخذ روايات المسلمين جميعاً بالحسبان، ما لم يظهر ما يعيق ذلك، وحيث بنينا سابقاً على الوثوق واليقين في باب الأخبار، كان المفترض على نظريّاتنا الأخذ بالحسبان تمام روايات المسلمين.

وعليه، فلو فرضنا أنّ رواية في الإرث أو الطلاق منقولة عند الشيعي في مصادره عن أهل البيت، ثم وجد مضمونها منقولاً عن النبي أو عن أحد أئمّة أهل البيت في مصادر الحديث السنيّة، وكان يبني على نظريّة اليقين أو الوثوق، فلا شكّ في أنّ هذا الأمر يساعده في بحثه وتقوية يقينه، بل قد تحتوي الرواية في مصادر السنّة على قيد يرفع إبهاماً من الرواية في المصادر الشيعية أو العكس، أو قد ترشد إلى سياق يساعد على فهم أفضل للرواية الواردة في مصادر الشيعة.

وحتى لو أراد الشيعي مثلاً أن يرفض الرواية السنيّة على تقدير مخالفتها للرواية الشيعيّة وله في ذلك مبرّره الخاصّ فلا بأس، فهذا تفصيلٌ في آليات الرجوع والاستفادة، وهو لا يخلّ بالمبدأ كما هو واضح، لكن ما دام يحتمل وجود عناصر تقوية وثوقيّة مثلاً للحديث الوارد عنده، أو يحتمل وجود عنصر دلالي مساعد هناك، فكيف يتسنّى له ردّه لعدم حصول اليقين عنده منه في مصادره مع أنّه ربما لو رجع لمصادر سائر المسلمين لأمكن تقوية يقينه في بعض الحالات، ورفع الخبر إلى مستوى الحجيّة على نظريّاته الخاصّة، وقد تؤثر روايات سائر المذاهب في حصول الشك عنده في روايته هو نفسه. وهكذا الحال على مستوى الاستعانة الفهميّة بروايات سائر المذاهب.

ويزداد هذا الأمر وضوحاً في ضرورته ومنطقيّته على مسالك اليقين والوثوق، كلّما اقتربت المذاهب من بعضها عقديّاً وفكريّاً، فمثلاً الأمر بين الزيديّة والإماميّة يفرض رجوع بعضهم بعضاً إلى مصادر بعضهم بعضاً فيما رووه عن أهل البيت النبوي، وهكذا عندما نكون بين المذاهب العقديّة والفقهية لجمهور أهل السنّة كالمتصوّفة والماتريديّة والحنفية والمالكية والشافعية والأشاعرة وكذا المعتزلة، فكلّما ازداد التقارب قويت إمكانات الاستفادة من بعض الجهات، بل كلّما ابتعد كانت الاستفادة قويّةً من جهات أخر، كتحصيل التواتر بسبب تعدّد الطرق غير المتداخلة أبداً.

إنّ تقوية الحديث وردّ بعض إشكاليات المستشرقين والناقدين عليه تستدعي توحيد الحديث الإسلامي؛ لأنّ ذلك يضاعف من إمكانات التصحيح بدرجة مقبولة.

هذا كلّه، فضلاً عن مثل النظريّة التي يُعرف بها السيّد البروجردي، والتي تقول بأنّ فهم نصوص أهل البيت متفرّع على فهم المواقف العامّة في تلك العصور عند الفقهاء وعامّة المسلمين، فإنّ هذا يفرض النظر في الروايات التي عند سائر المسلمين؛ لما لها من دور عظيم في تحصيل هذا السياق العام المحيط بمجمل التجربة التي قدّمها أهل البيت النبوي، فكأنّ الرجوع لسائر المصادر نوعُ تكوينٍ لأسباب الصدور ومناخاته.

هذا، وقد بُذلت محاولة مؤخّراً في جمع الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت من مصادر الحديث السنيّة، أي تلك الروايات المرويّة في كتب الحديث عند غير الشيعة، وتنقل حديثاً عن الإمام علي أو الصادق أو الباقر أو العسكري أو غيرهم، وهي محاولة جيّدة ونافعة أيضاً في هذا السياق، وقد صدر منها عام 1421هـ المجلّد الأوّل، وحمل عنوان: أحاديث أهل البيت عن طرق أهل السنّة، للسيّد مهدي الروحاني (1421هـ) والشيخ علي الأحمدي الميانجي (1421هـ)، وذلك عن جماعة المدرّسين في مدينة قم في إيران([2])، إلا أنّ الظاهر أنّ المشروع توقّف ولم يكتمل، بعد وفاة المؤلّفين معاً رحمهما الله في نفس العام الذي صدر فيه الكتاب.

وهناك محاولة أخرى قامت بها مؤسّسة دار الحديث في إيران التي يشرف عليها الشيخ محمدي الري شهري، وهي جمع الروايات السنيّة ـ ولو بشكل غير موسّع وغير مستقصى ـ لوضع كلّ مجموعة من الروايات طبقاً لأبواب كتاب تفصيل وسائل الشيعة للحرّ العاملي، فكلّ كتاب من كتب الوسائل تجمع الروايات التي تتصل به عند أهل السنّة، وتوضع في الباب المخصّص لها، بحيث تكون الروايات السنيّة بين يدي الباحث الذي يراجع كتاب الوسائل، وهذا عمل قيّم لم يكتمل بعدُ أيضاً، ويتوقّع صدوره في خمسين مجلداً، وقد صدر منه أكثر من مجلّد تحت عنوان (مدارك فقه أهل السنّة على نهج وسائل الشيعة).

هذا إلى جانب محاولات متفرّقة أخرى صدرت عن دار الحديث أيضاً من جهة، وعن مجمع التقريب بين المذاهب الإسلاميّة من جهة أخرى، ليس آخرها (السنّة النبويّة في مصادر المذاهب الإسلاميّة) التي أصدرها مجمع التقريب بين المذاهب في عشرين مجلّداً ضخماً.

يُشار هنا إلى أنّه صدر مؤخّراً أيضاً كتاب (الجامع الكافي في فقه الزيديّة) في عشرة مجلدات، تحقيق العلامة عبد الله حمود العزي، وقد اشتمل على ما يزيد عن 2000 رواية نبويّة، و2500 رواية علويّة من مختلف مصادر الزيديّة.

الافتراض الثاني: أن نبني على السند والوثاقة والعدالة و.. وهنا:

1 ـ أما البناء على العدالة:

أ ـ فإن اُخذ الاعتقاد شرطاً أو جزءاً في العدالة، كان من الصعب استفادة كلّ فريق من مصادر حديث الفريق الآخر، إلا لتحصيل تواترٍ أو يقينٍ واطمئنان؛ لندرة وجود سندٍ يحوي هذا الشرط في كتب كلّ واحدة من الفرق الإسلاميّة بالنسبة إلى غيرها، وهذا واضح. نعم، هناك رجالٌ شيعة في أسانيد أهل السنّة وقد صُنّف في هذا الأمر، مثل ما ذكره السيد عبد الحسين شرف الدين في المراجعات من مائة راوٍ شيعي مذكورين في مصادر الحديث السنّية، ومثل الكتاب المستقلّ الذي صنّفة الشيخ محمد جعفر الطبسي تحت عنوان (رجال الشيعة في أسانيد السنّة) وجمع فيه مائةً وأربعين اسماً شيعيّاً متكرّراً في مصادر وأسانيد الحديث السنيّة. كما وهناك رجال سنّة في مصادر الحديث الشيعيّة كالسكوني وحفص بن غياث وغيرهما، إلا أنّ المشكلة في العثور على سند كامل يكون رجالُه جميعاً من العدول بحيث لا يكون فيه أيّ راوٍ عنده خلل اعتقادي، ومن ثمّ فوفقاً لهذه النظريّة لا تقتضي قواعد الحجيّة مبدأ الدمج الحديثي أو توحيد الحديث الإسلامي بشكلها الموسّع على نظريّة الوثوق أو اليقين.

لكنّ نظرية العدالة المأخوذ فيها شرط صحة الاعتقاد، لا تختصّ بمصادر الحديث عند الطرف الآخر، بل تشمل حتى الروايات الموجودة في كتب الفريق نفسه من حيث وجود أشخاص في السند أحياناً ليسوا على المذهب الحقّ أو ليسوا عدولاً، فعلى هذا المبنى تنعدم ـ بشكلٍ كبير ـ فرص الاستفادة من مصادر الحديث الأخرى، لكنّها لا تزول بالمرّة كما ألمحنا.

وتظلّ هناك منافع من وراء الرجوع لمصادر الحديث الإسلاميّة الأخرى مثل تحصيل بعض القرائن المحتملة التي تساعد الفقيه على فهم النص بشكل أوضح، وكذلك مراكمة الأسانيد لرفع حجيّة الخبر الضعيف بناءً على صحّة ذلك، وكذلك تحقيق المناخ العام عند أهل السنّة لتطبيق قواعد التقيّة في التعارض عند من يلتزم بذلك، وغير ذلك من المنافع.

يُشار إلى أنّ الآيات القرآنيّة ليس فيها إشارة مباشرة ـ أي من دون فكرة العدالة ـ لمذهب الراوي، إلا آية الاُذن، فإنّها تشير للإيمان بمعنى الإسلام فيه، فإذا ثبت لها مفهوم أو اقتصرنا على مفادها في منح الحجيّة وبقي الباقي تحت أصل عدم الحجيّة، أفادت شرط الإسلام في الراوي، وإلا فسائر الأدلّة القرآنية لا تكاد تدلّ هنا على شيء مستقلّ. لكنّ آية الاُذن حقّقنا أنّها لا تدلّ على باب حجيّة الخبر، ولو دلّت فلا مفهوم لها لنفي حجيّة خبر الثقة أو العدل لو كان غير مسلم، بناء على إمكان تحقّق مفهوم العدالة في غير المسلم أيضاً إذا كان قاصراً.

ب ـ أما إذا لم يؤخذ الاعتقاد شرطاً في العدالة، على ما هو الصحيح كما تقدّم، فإنّ مقتضى القاعدة الأخذ بروايات العدول الموجودة عند الطرفين؛ لأنّ الراوي السنّي العادل أو الراوي الشيعي العادل أو الراوي الإباضي العادل، لا فرق في حجيّة روايته بين أن تأتي هذه الرواية في كتاب الكافي أو في صحيح البخاري أو في مسند الربيع بن حبيب الأزدي؛ فالعبرة بعدالة الراوي، فمقتضى القاعدة عدم التمييز في حجيّة الرواية بين مصادر الفرق الإسلاميّة.

2 ـ وأمّا البناء على الوثاقة، فالأمر أوضح من مسألة العدالة؛ لعدم أخذ الاعتقاد في ذاته شرطاً في الوثاقة عند أحد؛ وهذا معناه أنّ وثاقة الراوي إذا تحقّقت كفت في حجيّة الخبر، بلا فرقٍ في الموضع الذي يأتي فيه الخبر، وفي أيّ مصدر كان.

والنتيجة التي نخرج بها من تحليل المقتضيات الأوليّة للقواعد أنّ القاعدة تقتضي الرجوع إلى مصادر الحديث الإسلاميّة كلّها؛ لأنّها مما يُترقّب فيه وجود الخبر الحجّة أو المُعين على إثبات أو فهم الخبر الحجّة، نعم هذه النتيجة تتضاءل بشكل كبير جداً عند من يرى شرط العدالة آخذاً معها أو فيها قيد الاعتقاد، فإنّ حجم الروايات الحجّة سوف يكون عنده أقلّ نسبياً من غيره، إذا أخذت مبانيه بعين الاعتبار.

هذا في مقتضيات القواعد وعمومات وأساسيات دليل الحجيّة، وقد تبيّن أنّها تؤسّس في الغالب لقاعدة الدمج أو التوحيد الحديثي، ومعنى ذلك أنّ المحدّث أو الباحث أو الفقيه المسلم يلزمه النظر في تمام مصادر الحديث الإسلاميّة قبل الشروع في البحث الاجتهادي، وأن يتخذ موقفاً ميدانيّاً منها، لا موقفاً أولياً مسبقاً أو أصوليّاً، فالمصدر الحديثي الذي لا يثبت عنده أنّ له اعتباراً أو العكس، وكذلك الرواية التي يثبت عنده عدم اعتبارها أو العكس نتيجة خصوصيّة هنا أو هناك، عليه أن يعمل بموجب ما توصّل إليه فيهما، وإلا بقي الأمر على حاله.

وعليه، فالمهم هنا رصد معوقات الأخذ والرجوع إلى روايات الفرق الأخرى، لنرى هل تعطّل اقتضاءات قواعد الحجيّة العامّة فيها، بحيث تُخرجها من الأوّل عن أن تكون مما يُترقّب فيه وجود الدليل الحجّة أو المخصّص الحجّة أو نحو ذلك أو لا؟

2 ـ معوقات الرجوع إلى المصادر المذهبيّة الحديثيّة الأخرى

وفي سياق استعراض معوّقات الرجوع إلى مصادر الحديث المذهبيّة الأخرى، يمكننا ذكر عدّة معوقات وموانع، أبرزها:

2 ـ 1 ـ حاجز الثقة

المانع الأوّل أو العائق الأوّل أمام توحيد الحديث الإسلاميّ أو قاعدة الدمج والوصل هو ما نسمّيه حاجز الثقة العام، حيث يقال: إنّه لا يمكن حصول وثوق بروايات الفرق الأخرى، ولا نعرف شخصاً من هؤلاء يمكن عدّه من الثقات، فهم مشكوكٌ فيهم، أتباع السلطان وصنّاع رواياته، أو أتباع الغلوّ وصنّاع روايته، فكيف يمكن للشيعي أن يثق بالبخاري الذي لم يورد عن أئمّة أهل البيت إلا رواياتٍ محدودة جداً رغم جلالتهم ووثاقتهم في الأمّة فيما روى عن بعض الخوارج؟! إنّ مثل هذه المواقف من هذا الرجل تفقدنا الوثوق به، كما أنّ انحيازهم المذهبي لا يجعلنا نثق بما يروونه في هذه القضايا، وهكذا الحال في رؤية السنّي لمصادر الحديث الشيعيّة، حيث يرى أنّ تعصّب الكليني وأمثاله بلغ حداً أنّه لم ينقل ولا رواية واحدة عن مصادر الحديث السنّية التي اُلّفت قبله، ورواياته كلّها مشحونة بالغلوّ والتطرّف المذهبي، فباب الإمامة عنده أكبر من باب العقل والجهل والتوحيد وغيرها من أبواب العقائد، ففي الإمامة (كتاب الحجّة) يوجد 129 باباً، أي أكثر من التوحيد والمعاد، وقد روى الكليني عن الغلاة الذين ضعّفتهم الطائفة الشيعيّة ولم يرو حديثاً من صحاح السنّة ولا عن بعض الصحابة الكبار مثل أبي بكر وعمر وعثمان وابن العاص وأبي هريرة وعائشة وغيرهم؟!

تعليقات حول حاجز الثقة، جولة في منبّهات ضروريّة

لا شكّ في أنّ الصراع المذهبي الممتّد أكثر من ألف وثلاثمائة عام لا يمكن محوه بجواب عن إشكال؛ فمن فَقَدَ الثقة لا يرى في أبناء المذهب الآخر من هو صادقٌ متديّن مخلص لله ولرسوله، غاية الأمر أنّه مشتبه. كيف يمكن أن نُقنع السنّي بأنّ في الشيعة صادقاً وهو يرى فيهم منافقين يستخدمون التقيّة، فلا يمكن تصديقهم بشيء؟! فالحلّ الوحيد لتحديد مدى صواب هذه الثقة أو عدم الثقة يكمن في التواصل الاجتماعي الذي سيكون كفيلاً بفهم الآخر عن كثب لا عن بعد، كما يكمن بشكل أكبر في تفكيك مبرّرات عدم الثقة والخروج من حالتها في اللاوعي إلى تحويلها لأمر يخضع للوعي والترجمة والبيان، كي تتمّ مناقشة كلّ مفردة من مفرداته التي كوّنت هذه الحالة العامّة من فقدان الثقة، وإلا فبناء موقفٍ بهذا الحجم من أممٍ كبيرة من الناس يحتاج للكثير من التريّث ومجاهدة النفس والتقوى، وعدم الاكتفاء بما تربّى الإنسان عليه منذ طفولته واعتاد سماعه من منابر أهل ملّته، كي تفرغ ذمّته أمام الله تعالى ويقدر على تقديم أجوبة مقنعة لمواقفه الكبيرة هذه، وليرى أنّ مراوغة هذا العالم الشيعي هنا أو السنّي هناك أو خطؤه الكبير هنا أو هناك، هل تختص به أو يوجد مثل ذلك عند علمائي وأقوم بحمله على الأحسن أو تأويله، فيما لا أسمح لنفسي ـ لأجل الخلاف العقدي ـ بذلك في حقّ الآخرين؟

وبعبارة موجزة: إنّ حاجز الثقة يجب أن يكون معلولاً للمعطيات المبرّرة له، ومن ثم يجب دراستها لتكوينه تكويناً واعياً، وليس هو العلّة لاتخاذ المواقف أو ردّ مبرّرات عدمه.

لهذا، ولكي نسجّل ملاحظات على هذا المانع، نؤكّد سلفاً أنّها منبّهات وجدانية تحاول إحداث إنزياح وحلحلة في الصور النمطية المرسومة، تلك الصور التي ترى كلّ سنّي ناصبياً، وكلّ شيعي مغالياً يؤلّه علياً وآل عليّ.

وأبرز هذه المنبّهات هو الآتي:

المنبّه الأوّل: هناك فرق في المحدّث والمؤرّخ بين أن يُنقص حقّاً وأن يزيد باطلاً، وهذه نقطة جوهريّة جداً، فكثير وربما جميع مؤرّخي العالم لم يذكروا كلّ ما عرفوه، ربما لخوفٍ أو مصالح وقتيّة أو اعتباراتٍ ما ذات تبريرات دينيّة أو سياسية أو.. فربّ رواية تضرّ بالمصالح المذهبية لا يذكرها المحدّث لذلك، وربّ حدث تاريخي لا يتناسب مع اعتقادات المؤرّخ فيحذفه كذلك، أو يكون في ذكره عليه مضرّة أذية السلطان فيكفي نفسَه شرَّه فيحذف ذلك من كتابه. إنّ هذا ما يحصل كثيراً في التوثيق التاريخي وما يزال حتى عصرنا الراهن، فاليوم يوجد كثير ممّن يملكون معلوماتٍ مهمّة عن حقبة زمنية سابقة عاشوها لا يبوحون بأسرارها لمصالح أو اعتبارات.

ونحن ـ كما أشرنا في دراسة أخرى حول كتابة التاريخ الإسلامي([3]) ـ لا نحبّذ استخدام هذه الطريقة في تدوين التاريخ إلا في حالات نادرة جداً، لكنّه لا يمكن عدّ أصحابها غير ثقات فيما ينقلونه إلا عندما ينقلون قصّةً ويتعمّدون حذف مقطع منها له علاقة بدلالات القصّة الأخرى، فإنّ هذا ما يعبّر عن نوع من أنواع الكذب في النقل، فإذا كنّا نرى عدم وثاقة من لا يذكر في كتابه بعض الروايات؛ لأنّها خلاف معتقده أو.. فسيكون ذلك مشكلة؛ لأنّه لا العرف ولا العقلاء يعتبرونه كاذباً، نعم قد لا يصوّبون فعله أو يذمّونه، لكنّ الذمّ على فعلٍ ما لا يعني عدم الوثاقة، فحتى يخرج الإنسان عن أن أثق به فلابد أن أشكّك في صدق نقله، لا أنّه بمجرّد عدم ذكر بعض الأخبار يصبح غير ثقة، إلا إذا تعهّد بنقل تمام الأخبار التي يعتقد بها والتي لا يعتقد بها، وشهد بأنّه ينقل كلّ ما هو صحيح السند عنده، ثم يحذف بعضه، فهذا فيه مشكلة، وإن كان قد يُحمل على تعديل نظره، فمثلاً الشيخ الطوسي في مقدّمة الفهرست وعد ببيان التوثيق والتضعيف([4])، لكنّه لم يف بوعده كما قيل، فهذا لا يعني اتّهامه بالكذب، كما أنّ الشيخ الصدوق وعد بأن لا يورد إلا ما هو حجّة بينه وبين ربّه في كتاب من لا يحضره الفقيه، فإذا صحّت عنده رواية سنداً لكنّه رآها باطلة المضمون لمخالفتها للمسلّم عنده عقائدياً، فإنّ حذفه لها ليس خيانةً ما دام قد جعل اعتقاده هو المعيار في اختيار الأحاديث، من حيث قضيّة نقد المتن الحديثي.

إذن، كما حقّ للصدوق حذف ما لا يعتقد به، كذا يصحّ للبخاري حذف ما لا يعتقد به، والعكس صحيح؛ لشيوع أساليب نقد المضمون في تلك الفترة، ومن الواضح أنّ نقد المحتوى يقوم بالدرجة الأولى على الخلفيّات المعرفيّة للمحدّث نفسه، ولا يمكن فصل هذه الخلفيّات عن اختيار الأحاديث، فانتقاء الأحاديث تبعاً للخلفيّات المسبقة ولو في الجملة، أمرٌ فعله كلّ محدّثي الإسلام إلا من شذّ وندر، نعم لو ذكر المحدّث تعهّده برواية كلّ ما وصل إليه فهذه خيانة، لكنّنا أشرنا إلى أنّه ليس لازمها الكذب في النقل.

وعليه، فلا يمكننا تضعيف رواية في الكافي لعدم رواية البخاري لها، لكنّه لا يمكن تكذيب البخاري لعدم روايته لهذه الرواية، والعكس صحيح، هذا فضلاً عن أنّ البخاري بعدم نقله عن الصادق قد ينطلق من كون الإمام الصادق عنده مجتهداً، وغالب ما يقوله هو آراؤه الاجتهاديّة، وغالب ما ينقله عن النبي لعلّه يراه مرسلاً لا سند له، لأنّ كثيراً من روايات أئمّة أهل البيت عن شخص النبيّ لا يُذكر فيها السند على شكل رواية، فلعلّه اعتبر ذلك إرسالاً، فالمبرّرات المحتملة موجودة.

وهكذا الحال في عدم نقل الكليني روايات عن بعض الصحابة، فإنّه على عقيدته لا يرى هؤلاء ثقاتاً، وإذا اختلف السنّي معه في هذا الاعتقاد فلا يعني أنّه يحقّ له اتهامه بالخيانة أو الكذب، لكون عمله الحديثي جاء على وفق قناعاته الشخصيّة، تماماً كأغلب المحدّثين المسلمين يكون عملهم الحديثي منطلقاً من قناعاتهم.

هذا، وقد تعرّضتُ لإشكاليّة سياسة التعصّب والانحياز عند المحدّثين في موضعه([5])، فليُراجع.

المنبّه الثاني: من الطبيعي في النقاط الخلافيّة المذهبيّة التي ثار جدلٌ فيها بين المذاهب أن يكون احتمال الجعل في الفريق الآخر وارداً، فداعي الكذب موجود بنسبة جيّدة، لهذا فإنّ النقاط الخلافيّة الساخنة حتى في المجال الفقهي مثل (حيّ علي خير العمل) وزواج المتعة، وغير ذلك، يحقّ لكلّ فريق أن لا يرى روايات الفريق الآخر موجبةً للوثوق أو للموثوقيّة الناشئة عن الوثاقة عنده، ولعلّ هذه النقاط هي التي عمَّمت فقدان الموثوقيّة، فيما داعي الكذب في الأمور الأخرى ليس على الوتيرة نفسها بحيث يتميّز المحدّث المنتمي إلى مذهبي عن غيره فيها، بل هما متساويان في ذلك.

فإذا وردت رواياتٌ في البخاري والكافي تتعلّق بمسألة الإمامة، فمن الطبيعي أن يضعُف الوثوق أو الموثوقيّة بروايات الكافي عند السنّي وروايات البخاري عند الشيعي (بل يفترض أيضاً أن يكون كذلك في حدّ نفسه بصرف النظر عن انتماء الباحث)؛ لأنّ داعي الكذب في أحد الرواة يرتفع حينئذٍ؛ لوجود مصالح مذهبيّة، أما لو وردت روايات في موضوع استحباب ذكر الله تعالى في المصدرين المذكورين، فإنّ هذا الداعي المنبعث من التحيّز المذهبي يتلاشى بنسبة كبيرة جداً، فأيّ مبرّر لتعميم هذا الداعي لسائر الأبواب الفقهيّة والأخلاقيّة والتفسيريّة والتاريخيّة وغيرها؟! والتفكيك في الداعي بين المجالات تقدّم أنّه صحيح، وفاقاً للسيّد الصدر.

المنبّه الثالث: إنّ وجود روايات عديدة مشتركة في المضمون على الأقلّ في مصادر الفرق الإسلاميّة المختلفة، وتشكّل نسبة تعدّ بآلاف الروايات، يؤكّد أن هناك نظرة منصفة عند الآخر تسمح بالركون إليه بدرجةٍ ما، فعندما تشترك آلاف الروايات في مئات الموضوعات، فهذا يؤكّد وجود صادقين عند الطرفين بنسبة جيّدة، وانطلاقاً من ذلك يتبلور تصوّر مختلف عن الفريق الآخر حينئذ. إلا إذا أصرّ إنسانٌ وقال بأنّ كلّ ما عند الآخر مما هو صدقٌ وصحيح، إنّما هو سرقة مما عندنا، مع تركيب سندٍ آخر له! وهي دعوى لو صحّت في موضعٍ أو اثنين، لكنّه لا يمكن تصحيحها بمجرّد تشابه المتون، وإلا لزم إسقاط جميع الروايات التي يكون مضمونها موجوداً في كتب الديانات السابقة!

المنبّه الرابع: إنّ وجود روايات كثيرة جداً في مصادر أهل السنّة يمكن للشيعي أن يستفيد منها، دليلٌ على أنّ السني لما روى لم يكن دائماً متعصّباً، وإلا لحذف فضائل أهل البيت(، وهو يعرف أنّ الشيعيَّ يستفيد منها، حتى لو كان هو نفسه يأوّلها، فوجود حديث الغدير والثقلين والمنزلة والمباهلة وعشرات الأحاديث في مدح أهل البيت وإبراز مناقبهم في مصادرهم الحديثية يرفع من مستوى الصورة الإيجابيّة، وإلا فلماذا لم يحذفوها من كتبهم حتى لو كنّا نعتقد أنهم حذفوا الكثير، بل ووجود الكثير من الأحاديث في الطعن على بعض الصحابة وذكر مثالب لهم هو الآخر يعزّز من هذه المصداقيّة على الصعيد المذهبي، وأنّ الصورة ليست سوداء تماماً.

طبعاً لا نستبعد الحذف عند الفرقاء كافّة، انطلاقاً من قناعات تارةً أو من ميول وتعصّبات أخرى، وهذا شيء نحتمله في موضوعات متعدّدة، وقد احتملناه في روايات عرض الحديث على القرآن، وقلنا بأنّه من الممكن أن يكون للموقف السلبي عند المحدّثين السنّة من هذه الروايات دورٌ في هجرانهم لها، وبالتالي موتها تدريجياً في التراث الحديثي السنّي.

وليس هذا أمراً غريباً، فابن الجنيد الاسكافي الفقيه والعالم الشيعي المعروف ينقل النجاشيُّ أنّ له كتاباً اسمه: كتاب إظهار ما ستره أهل العناد من الرواية عن أئمّة العترة في أمر الاجتهاد([6])، فإنّ هذا العنوان يشي بأنّ ابن الجنيد يتهم المعارضين للاجتهاد بأنّهم ستروا روايات شرعيّته، ومن ثم ولهذا السبب لم نعد نجد هذه الروايات في كتب الشيعة اليوم من وجهة نظر ابن الجنيد، كيف وابن الجنيد نفسه اختفت كتبه حتى قال الطوسي عنه بأنّه كان جيّد التصنيف حَسَنَه، إلا أنّه كان يرى القول بالقياس، فتُركت لذلك كتبه ولم يعوّل عليها([7]).

بل نحن نجد أنّ المحدّث قد يترك نقل الروايات لأسباب دينيّة، رغم أنّه قد يرى هذه الروايات صحيحةً، يقول الشيخ الصدوق (381هـ) في مباحث رؤية الله من كتاب التوحيد ما نصّه: «والأخبار التي رويت في هذا المعنى وأخرجها مشايخنا رضي الله عنهم في مصنّفاتهم عندي صحيحة، وإنّما تركت إيرادها في هذا الباب، خشية أن يقرأها جاهل بمعانيها فيكذّب بها، فيكفر بالله عز وجل وهو لا يعلم. والأخبار التي ذكرها أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره، والتي أوردها محمد بن أحمد بن يحيى في جامعه في معنى الرؤية صحيحة لا يردّها إلا مكذّب بالحقّ أو جاهل به وألفاظها ألفاظ القرآن، ولكلّ خبر منها معنى ينفي التشبيه والتعطيل ويثبت التوحيد، وقد أمرنا الأئمّة صلوات الله عليهم أن لا نكلّم الناس إلا على قدر عقولهم»([8]).

المنبّه الخامس: لا يُراد من الرجوع إلى مصادر الفريق الآخر التوصّل إلى حجيّة تمام رواياته، بل المقصود ولو صحّة خمسة في المائة من هذه الروايات، وهذا كافٍ، وهذا المقدار هل هو مستبعد حقاً؟ فهل يوجد داعي لتكذيب هؤلاء الرواة حتى في خمسة في المائة من الروايات، أي لا يزيد عدد الروايات الصحيحة التي نريد العمل بها من مجموع كتب السنّة على بضعة مئات مثلاً من أصل ما يقارب العشرين ألفاً أو خمسين ألفاً أو أكثر مثلاً؟ هل القول بصحّة هذا العدد مبالغة في التصديق؟ وهل رفض هذا العدد إنصافٌ في النقد؟

وإنّما نقول ذلك لأنّنا بعد الرجوع إلى تلك المصادر سوف نُعمل النقد فيها سنداً ومتناً، ونحن مطمئنّون إلى ضعف أكثر الروايات على هذا الصعيد، فعلى طرائقنا في النقد لمصادر الحديث الشيعي لم تثبت الحجيّة لآلاف الروايات بل وأكثر، فمن المتوقّع أن يكون المشهد قريباً من ذلك لو أعملنا المنهج عينه في مصادر الحديث السنيّة. وهكذا الحال بالنسبة للسنّي فإنّ حركة نقد الحديث عنده أودت بآلاف الأحاديث، أفهل من المعقول بحساب الاحتمال أن يكون الشيعة قد كذبوا فيما يقرب من خمسين ألف رواية موجودة في مصادرهم كلّها؟ فبعد إجراء النقد السندي والمضموني وحذف قضايا الاختلاف المذهبي، هل يصحّ التعامل مع سائر الروايات بالمنهج نفسه عقلائيّاً وموضوعيّاً؟!

بل إنّ الكثير من علماء السنّة قريبون جداً من الشيعة حتى وفق قول الشيعة أنفسهم، مثل النسائي والشافعي ومالك والحاكم النيسابوري وغيرهم، فلماذا لم يكن هذا الحاجز النفسي مرتفعاً في حقّ هؤلاء، لو فرضنا وجوده في حقّ مثل البخاري أو ابن حنبل أو غيره؟ والعكس صحيح. بل لماذا لم يكن هناك تقارب حديثي بين أبناء الخطّ الواحد مثل الزيدية والإماميّة؟! هل يُعقل أن يكون حاجز الثقة إلى هذا الحدّ؟

وكلامي هنا في أئمّة الحديث الموسوعيّين، وإلا فالكلام يجري أيضاً في كبار الرواة السابقين عليهم زمناً.

المنبّه السادس: لا يُراد هنا من الشيعي أن يجعل قوّة الكشف في الرواية السنيّة مطابقةً لقوّة الكشف في الرواية الواردة في المصادر الشيعيّة؛ ولا نطلب من السنّي ذلك، فمثلاً مع التعارض يمكن تقديم المصدر الحديثي المذهبي وهكذا، لكن المقصود أصل وجود الحدّ الأدنى من الحجيّة؟ فهل يُعقل عدم وجوده في تمام هذه المصادر؟ وإذا كنت أحرز في مصادر الفريق الآخر وجود أكاذيب فأنا أحرز في مصادري وجود أكاذيب أيضاً، كما أنّه إذا كان في مصادر الفريق الآخر روايات ضعيفة فهي كذلك في مصادري وهكذا، فالمقصود جامع الحجيّة حتى لو تفاضلت المصادر، فهذا شيءٌ طبيعي.

نكتفي بهذه المنبّهات؛ لأنّ إعادة تقويم الثقة بالآخر تتبع المطالعات المحايدة المسبقة، وتطالب بالكثير من مطالعة الموروث بهذه الطريقة.

2 ـ 2 ـ الاستغناء وعدم الحاجة للمصادر غير المذهبيّة، قراءة نقديّة

المانع الثاني: وهو عدم الحاجة، إذ يطرح كل فريق عادةً مقولةً تقول: لسنا بحاجة إلى المصادر الروائيّة عند الفريق الآخر؛ لأنّ ما عندنا من روايات يكفينا في ممارسة الاجتهاد الكلامي والفقهي و.. فلماذا نسعى خلف روايات فريقٍ آخر كثير منها مشكوك في أمره؟

وتتعزّز هذه الفكرة عند الشيعة كما عند السنّة؛ لأنّ الروايات الشيعيّة الأصليّة كثيرة للغاية وبعشرات الآلاف كما هي الحال عند السنّة، وهي عند كلّ فريق ممتدة على امتداد موضوعات الفكر الإسلامي، ففي أيّ موضوع يجد الشيعي والسنّي إجابات في القرآن وفيما عنده من روايات، فهذا التراث الغنيّ يكفي كلاً من الطرفين مما لا يعوزه بعد ذلك إلى التفتيش في المصادر الأخرى.

وهذه تجربة التاريخ خيرُ شاهدٍ على صحّة هذا الكلام، فقد استطاع الشيعة والسنّة ـ كلّ فريق على حدة ـ أن يبنوا نظاماً فقهياً وعقديّاً شاملاً وتراثاً واسعاً بالاعتماد على مصادرهم دون أن يجدوا حاجة للذهاب إلى هذا المصدر أو ذاك، فهل المهم تكثير المصادر وإتعاب النفس في ذلك أو المهم الوصول إلى نتيجة في البحث ولو بطريقٍ مختصر؟ بل قد يزداد الأمر وضوحاً عند السنّي، وهو يرى من وجهة نظره أنّ فقه الشيعة كان هامشاً على فقهه، وأنّ السنّة هم الأصل في الثورات العلميّة في تاريخ الإسلام، فما الذي يحيجهم إلى اللهث وراء مصادر فريق هامشي مثل الإماميّة لا يعتدّ به كي يبنوا نظامهم الفقهي وغيره عليه؟!

يقول الحرّ العاملي (1104هـ): «اللازم بعد التسليم هو النظر في كتبهم لتحقيق مسألة خاصّة، قد وردت فيها أحاديث مختلفة مع عدم حسن الظن بهم، لا مطالعة جميع الكتاب، وإنّما ننظر مذهبهم بقصد مخالفته، لا لأجل الاستفادة من ذلك الكتاب، ومع ذلك فإنّ مطالعة كتبهم مفاسدها كثيرة مشاهَدَة، أقلّها حسن الظن بهم فيما لا يعلم أنّه موافق للإماميّة أو مخالف لهم»([9]).

لكنّ هذا المانع لا يصحّ الاعتماد عليه؛ وذلك أنّه قد تقرّر في علم أصول الفقه الإسلامي أنّه لا يمكن إجراء أصالة البراءة إلا بعد اليأس من الظفر بدليل، وكذلك الحال لا يصحّ العمل بالعام إلا بعد اليأس عن الظفر بالمخصّص، فهنا نسأل هل يحصل يأس عن الظفر بدليل عندما أستبعد من حسابي دفعةً واحدة أكثر من خمسين ألف رواية مثلاً موجودة في مصادر أهل السنّة، أو خمسين ألف رواية موجودة عند الشيعة؟ إذا كانت عند الشيعي خمس روايات ضعيفة السند ألا يحتمل وجود عشرين رواية ـ ولو ضعيفة السند ـ عند أهل السنّة في الموضوع عينه قد يحصل له بضمّها إلى روايات الشيعة اطمئنانٌ بالصدور؟ هل يكون الإعراض منسجماً مع لزوم البحث عن الدليل؟ وهل يكون ترك هذه المصادر يأساً عن الظفر بدليل؟ وهكذا الحال في السنّي عندما تكون لديه روايات ضعيفة السند.

هل يمكن للفقيه الشيعي مثلاً اليوم أن يكتفي بالروايات الفقهيّة التي في الكتب الأربعة، ويقول بأنّه غير معنيّ بأي رواية خارج هذه الكتب ـ كالروايات التي في عشرات المصادر الحديثية الشيعيّة الأخرى ـ لأنّ الكتب الأربعة تكفيني، إذا لم تكن لديه نظريّة ميدانية في سائر الكتب غير الكتب الأربعة؟ هل له إطلاق عنوان عام بالاستغناء بهذه الطريقة وفي الكتب الأربعة أكثر من عشرين ألف رواية تقريباً؟ هل يمكن للفقيه السنّي الاكتفاء بما في الصحيحين وترك سائر كتب الحديث للبيهقي والنسائي وابن حِبان والطبراني وابن أبي شيبة وابن ماجة وأبي داود والترمذي وغيرهم؟! مع أنّه بإمكانه تكوين نظام كامل من وراء الصحيحين.

يُضاف إلى ذلك، أنّه إذا وُجدت روايتان متعارضتان عند الشيعة والسنّة داخل كتبهم المذهبيّة، ألا يمكن أن يكون وجود عشرة روايات لصالح إحدى الروايتين مقوّياً لها وموجباً للترجيح أو لا أقلّ موجباً لترجيح الرواية المعارضة لأهل السنّة بناءً على نظريّة الأخذ بما خالفهم؟ أليس هذا معناه لزوم الرجوع إلى تلك المصادر كي يتضح الموقف بشكل أكثر جلاءً؟ وكيف تفرغ الذمّة البحثيّة دون ذلك؟

إنّ مجرّد اعتياد الفقهاء على بناء نظامٍ فقهيّ قائم على مصادرهم المذهبيّة لا يعني عدم وجوب السعي خلف ذلك؛ لأنّ هذا ليس اكتفاءً، بل وصولٌ لنتيجة من خلال أحد المصادر، وهو ما يمكن تطبيقه في مواضع أخرى، أليس الأخذ بكتاب البخاري ومسلم يكفيان أيضاً إذا أردنا؟ وأليس التهذيب والكافي يكفيان كذلك؟ فلماذا السعي خلف سائر المصادر إذاً؟ ليس هكذا يكون حساب الأمور في تقديري.

وأمّا الكلام عن الخوف من تسرّب الضلال، فلو صحّ للزم الخوف من تسرّب الضلال من مراجعة كتب الحديث كلّها؛ للجزم بوجود الموضوع وغير المطابق للواقع فيها، فلماذا لا يكون الحقّ مع القرآنيين الذين يذهبون لترك الحديث مطلقاً لما فيه من مفاسد ومشاكل. علماً أنّنا نتكلّم هنا مع مختصّين نقّاد علماء في الحديث وأهل خبرة به، لا مع (عامّة) الناس لكي يتسرّب إليهم (الضلال).

2 ـ 3 ـ المانع الشرعي والإشكاليّة الدينيّة

المانع الثالث: وهو ما نسمّيه بالمانع الشرعي، أي المانع الذي ينطلق من مبرّرات دينية تجعل الأخذ بأخبار غير الشيعي محظوراً شرعاً بالنسبة للشيعي، والأخذ بأخبار غير السنّي ومصادره محظوراً كذلك بالنسبة للسنّي مثلاً، فليست القضيّة قضية انعدام الثقة أو عدم وجود حاجة، إنّما هي قضيّة وجود نصوص أو منطلقات فقهيّة تحول دون إمكان الأخذ بخبر غير الشيعي، أو بمصادر الحديث عند سائر المذاهب.

ولا نقصد هنا ما دلّ على شرط العدالة في الراوي، مع أخذ الاعتقاد مستبطناً في العدالة، فهذا ما تقدّم بحثه وأنّه غير صحيح، وفاقاً للمتأخّرين، بل نقصد وجود روايات أو معطيات فقهية وفقهائيّة تتصل بشكلٍ أو بآخر بهذا الموضوع، وتعيق جريان القواعد العامّة ومقتضياتها في هذا الملفّ.

ومنهجةً للبحث، نرى أنّ ما نسمّيه بالمانع الشرعي، يمكن جعله على أنواع، أبرزها:

2 ـ 3 ـ 1 ـ المانع الشرعي الروائي المباشر، أو نصوص القطيعة المعرفيّة

النوع الأوّل هنا هو المانع الشرعي الروائي المباشر، ونقصد به وجود روايات عن أهل البيت النبويّ تمنع عن الرجوع في مسائل الدين إلى غير الشيعي الإمامي، فهذه الروايات تشكّل مستنداً قويّاً لظاهرة القطيعة بين التراثين: الشيعي والسنّي، وقد لاحظنا بعض علماء الإماميّة يستند إلى بعض هذه الروايات لإثبات مخالفة أهل السنّة حتى في غير حال تعارض الأحاديث مثل المحدّث الجزائري([10]).

ونظراً للأهميّة الفائقة لهذه النصوص، سوف نستعرضها ونستقصيها قدر الإمكان من مواضعها المتفرّقة؛ لننظر فيها سنداً ودلالةً، وذلك على النحو الآتي:

الرواية الأولى: خبر علي بن أسباط، قال: قلت للرضا×: يحدث الأمر لا أجد بُداً من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحدٌ أستفتيه من مواليك؟ قال: فقال: «ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك، فإذا أفتاك بشيءٍ فخُذ بخلافه، فإنّ الحق فيه»([11]).

فهذه الرواية تدلّ على عدم الرجوع إلى السنّي من ناحيتين:

الناحية الأولى: ما يكشفه فرض السائل ـ وهو علي بن أسباط الثقة ـ من أنّه فَقَد أحداً من الشيعة كي يرجع إليه، فإنّ هذا معناه أنه لو وجَدَ شيعياً يرجع إليه ويستفتيه لرجع إليه، فمركوزيّة هذا الأمر في ذهن السائل تدلّ على وجود وعي متشرّعي بعدم الرجوع إلى غير الشيعي في قضايا الدين.

الناحية الثانية: ما يكشفه جواب الإمام عليّ الرضا، حيث طلب منه مخالفة المستفتى غير الشيعي، فإنّ هذا دالّ على كمال القطيعة، ليس حدّ عدم الأخذ فقط، بل حدّ العمل بعكس ما يقول الآخر.

فالرواية من الروايات الواضحة الدلالة على المطلوب في المقام.

إلا أنّه يوجد مجال للنقاش في الرواية، وذلك:

أوّلاً: إنّ الرواية قد وردت في عيون أخبار الرضا وتهذيب الأحكام بثلاثة أسانيد ترجع كلّها إلى أحمد بن محمّد السياري، وهو رجلٌ ضعيف جداً وصفه الرجاليّون بالفاسد المذهب والضعيف في الحديث والمجفوّ الرواية، وهو من مشاهير الكذابين([12]).

ويوجد للرواية سندٌ رابع ورد في علل الشرائع عن علي بن أحمد البرقي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن علي بن أسباط، فالخبر محذوف منه ـ مقارنةً بالسند بالسابق ـ شخصان، وهما:

أ ـ ماجيلويه الذي كان واسطةً بين علي بن أحمد وأحمد بن محمد.

ب ـ السياري الذي كان واسطةً بين أحمد بن محمد وعلي بن أسباط.

فالظاهر وقوع سقط في السند في علل الشرائع، وحتى لو لم يكن هناك سقط في السند كما ليس ببعيد، فإنّ علي بن أحمد البرقي مجهولٌ لم يذكره أحد، سوى أنه شيخ الصدوق الذي ورد في المشيخة([13])، فالخبر ضعيف.

ثانياً: إنّ الرواية أجنبيّة عن باب الإخبارات، فهي من مسائل شرط الإيمان في المُفتي، فلم يأت فيها حديث عن حجيّة ما ينقله عن رسول الله$، وإنّما في عدم حجيّة ما يفتي به، ومن الواضح أنّ باب الفتوى مختلفٌ تماماً عن باب الرواية؛ ولهذا نجد الكثير من الفقهاء شرطوا في مرجع التقليد الإيمان ولم يشرطوه في باب الروايات، وقد قلنا غير مرّة عن الاستدلال القرآني على حجيّة خبر الواحد أنّ الاجتهاد في ذلك الزمان وإن كان قريباً من الروايات، إلا أنّه كان يُعمل فيه الرأي والقياس والنظر والمناهج البحثية الخاصّة أيضاً، لاسيما عند أهل السنّة في عصر الإمام الرضا، حيث كان فقهاء كبار لهم آراء قد ظهروا كالشافعي ومالك وأبي حنيفة والأنصاري والشيباني وغيرهم، وفاقاً لرأي السيد الخميني([14])، فالرواية لو تمّت سنداً لا علاقة لها بما نحن فيه دلالةً؛ لأنّ نظرها لاجتهاداتهم لا لخصوص رواياتهم.

ثالثاً: لو تمّ الاستدلال بهذه الرواية لم يكن هناك فرقٌ بين الراوي السنّي في المصادر السنّية وهو عينه في المصادر الشيعيّة، فكيف ميّز الأصوليّون والفقهاء والمحدّثون ـ عملياً ـ بينهما؟ وبأيّ وجه اُخذ بروايات غير الشيعة الموجودة في مصادر الشيعة؟! وهذا في الحقيقة إشكالٌ نقضيّ عليهم.

رابعاً: ما ذكره السيد نور الدين العاملي، في الشواهد المكيّة، مورداً على الأمين الاسترآبادي في استعراضه هذه الروايات، من أنّه لا يمكن الأخذ بها؛ لمخالفتها للعقل والاعتبار، فإنّنا لا نختلف مع أهل السنّة في كلّ شيء حتى نعمل دوماً بعكس ما يقولون، فكيف يصحّ هذا التعميم؟!([15]).

وهذا الإشكال قد يورد عليه بأنّه تكفي المخالفة في أغلب الأحكام؛ ليعطي الإمام أمارةً غالبيّة تكشف عن الواقع، لهذا فالأفضل تغيير صيغة الإشكال، إلى أنّه يُحرز التوافق بين الشيعة والسنّة في أكثر الأحكام، بمعنى أنّنا لو حسبنا في زماننا هذا الرأي الشيعي وما فيه من اختلاف بين الشيعة، وحسبنا الرأي السنّي وما فيه من اختلاف بين السنّة، فإنّ القضايا المشهورة عند السنّة بحيث يأخذ بها الأغلب وتكون في الوقت عينه مما لا يُحرز اتفاق الرأي فيها مع الشيعة وعندهم، لن تكون هذه القضايا إلا يسيرةً، فكيف يجعل الأخذ بالمخالف أمارة حينئذ؟!

وبعبارةٍ أخرى: إنّنا نحرز اليوم أنّ أغلب ما هو في الفقه مما هو مشترك بين الشيعة والسنّة، ومع هذه الغلبة كيف يقدّم الإمام أمارة نوعيّة في هذا السياق؟ إلا إذا قيل بحُسن المخالفة لهم في ذاتها، كما اختاره بعضهم! وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.

ولعلّه لهذا كلّه، لا يعمل أحد من الفقهاء بهذا المعيار قبل إجراء البراءة وبعد فقده الأدلّة، فلاحظ سيرة الاجتهاد الفقهي عن الشيعة تجد صدق ما نقول، فهل تجد فقيهاً شيعيّاً إذا فقد الأدلّة المحرزة والأمارات على الحكم الشرعي يذهب ـ بدل إجراء أصالة البراءة ـ إلى فقه السنّة، فما أفتوا به يفتي بخلافه ويعتبر ذلك حكماً شرعيّاً؟!

الرواية الثانية: خبر أبي إسحاق الأَرَّجَاني رفعه قال: قال أبو عبد الله جعفر الصادق: «أتدري لم اُمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة؟»، فقلت: لا أدري، فقال: «إنّ علياً× لم يدين الله بدينٍ إلا خالف عليه الأمّة إلى غيره، إرادةً لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين× عن الشيء الذي لا يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّاً من عندهم؛ ليلبسوا على الناس»([16]).

فالرواية تدلّ على أنّ العمل بخلاف ما عليه أهل السنّة ليس معاندةً، وإنما هو لسببٍ تاريخي، وهو أنّ الإجيال السابقة هي من عاندت أمير المؤمنين، ولهذا عندما نَذَرُ ما عندهم ونعمل بعكسه فإنما هو من باب الكشف عن الموقف الحقيقيّ للشريعة المتمثّل بعلي وآل عليّ.

وهذه الرواية ترد عليها:

أ ـ الملاحظة الثالثة المتقدّمة عند الكلام في الرواية السابقة؛ لأنّها تشمل ما يرويه السنّة مما دخل في كتب الحديث الشيعيّة، إذ يصدق على روايات السكوني أنّها روايات السنّة، فينطبق عليهم القاعدة المذكورة، وإخراجهم يحتاج إلى دليل. وإجماع الشيعة على العمل بهذه الروايات ـ بوصفه مخصِّصاً أو مقيّداً لهذه الرواية وأمثالها ـ لا ينفع؛ لعلمنا بأنّه ليس مستندهم إلا الثقة بالسكوني وأمثالهم وتصحيح مضمون رواياته، وهذا العنصر لو أحرزناه في مكان آخر لزم تطبيقه بعينه، فالتمييز المطلق غير واضح منهجيّاً.

وأمّا القول بالفرق بين ما يروونه عن النبي وما يروونه عن أحد الأئمّة فهو بلا مبرّر، بل مرجعه للوثوق بهم في رواياتهم عن الأئمّة دون النبيّ، لا لمانع ذاتي عام، فإذا حصل الوثوق النوعي في مرويّاتهم النبويّة ارتفع المانع، وهذا كاشف عن عدم كون المانع هنا شرعيّاً وفي نفسه، بل هو طريقي أداتي.

ب ـ ما أثرناه في الملاحظة الثانية المتقدّمة على الرواية السابقة، وذلك لظهور كلمة (ما تقول العامّة) في الرأي لا في الإخبار، ولا أقلّ من التردّد، فيقتصر في الدلالة على القدر المتيقّن، ولعلّ الضدّ الذي من عندهم نشأ من الاجتهاد لا من جعل رواية من قبلهم حصراً.

ج ـ إنّ هذه الرواية ضعيفة السند؛ لأنّ الأرجاني رفعها إلى الصادق، والمرفوعة مرسلة لا يحتجّ بها على الإطلاق، فضلاً عن كون الأرجاني نفسه رجلاً مهملاً جداً في كتب الرجال الشيعيّة والسنيّة([17])، بعد الأخذ بعين الاعتبار طبقته.

د ـ ما ذكره بعض الأصوليّين، من أنّ هذه الرواية وأمثالها ليس فيها إطلاق يأمر بالأخذ بما خالف العامّة، بل هي تحاول تفسير السبب من وراء وجود مثل هذا الأمر، أمّا أين كان هذا الأمر، فلعلّه خاصّ بحال التعارض بين أخبار الإماميّة، فلا يكون لها إطلاق يشمل المخالفة الابتدائيّة([18]).

وهذا التحليل يقف على خلاف تحليل أمثال المحقّق الإصفهاني، الذي فهم من هذا الخبر والخبر السابق الدعوةَ لمخالفة جمهور أهل السنّة حتى لو لم يوجد خبر، فضلاً عن وجود تعارض بين خبرين([19]).

إلا أنّ هذه الإشكاليّة يمكن مناقشتها بأنّ تعليل الإمام في الرواية يوضح وجود حالة عامّة كانت سائدة، وهي جعل الروايات ـ لو سلّمنا أنّ الخبر ناظر لمسألة الرواية بعد تجاوز ما تقدّم من ملاحظات ـ في مقابل قول عليّ، وهذا الأمر نسبته إلى حال التعارض وعدمه متساوية، فلو أنّه علّل بالتقيّة لاحتملنا مسألة التعارض، لكنّ التعليل هنا له روح عامّة أوسع من باب التعارض كما هو واضح، وبهذا يترجّح في الدلالة ما قاله الإصفهاني وإن لم نطابقه تماماً في المعنى، وسيأتي المزيد.

الرواية الثالثة: خبر الحسين بن خالد، عن الإمام الرضا×، قال: «شيعتنا المسلّمون لأمرنا، الآخذون بقولنا، المخالفون لأعدائنا، فمن لم يكن كذلك فليس منّا»([20]). فإنّ إطلاق المخالفة للأعداء يقتضي رفضاً لما عندهم مطلقاً، وهو المطلوب.

وهذه الرواية:

أ ـ مضافاً لشمولها للروايات السنّية في المصادر الحديثيّة الشيعيّة، ومن ثمّ فترد عليها الملاحظة المتقدّمة.

ب ـ ضعيفة السند بعلي بن معبد؛ إذ هو رجل مجهول لا توثيق له شيعيّاً([21])، نعم يوجد شخص اسمه علي بن معبد ورد عند أهل السنّة ووثقه بعضهم، لكنّه وُصف بالمصري، فيما الوارد شيعياً عن هذا الرجل أنّه بغدادي، ولا ندري إذا كان هو عينه، فالمسألة بحاجة لمزيد من التدقيق.

ج ـ إنّه من البعيد إرادة الإطلاق في هذه الرواية؛ لعدم تصوّره، بل الظاهر منها مخالفة من يعادي أهل البيت والوقوف في الصفّ المقابل لهم، وأين هذا من مطلق التعامل معهم أو الاستفادة منهم في الجملة، فنحن نخالف أعداء الأمّة الإسلامية لكنّ هذا ليس فيه إطلاق لعدم الاستفادة العلميّة منهم مثلاً، وإلا لزم تحقيق القطيعة الاجتماعيّة مع سائر المسلمين، والقول بعدم جواز متاجرتهم ولا مناكحتهم ولا غير ذلك، تمسّكاً بإطلاق المخالفة!

د ـ إنّه ليس كل سنّي أو زيديّ أو فطحيّ أو صوفي معادياً لأهل البيت، فالخبر أخصّ من المدّعى، فلعلّه يريد خصوص النواصب والسلطات الغاشمة الظالمة الغاصبة لحقّ أهل البيت، لا مطلق من ليس شيعيّاً، فضلاً عن أن يراد مطلق من ليس إماميّاً.

هـ ـ ما ذكره السيد الخميني والميرزا هاشم الآملي وغيرهما، من أنّ ظاهر هذه الرواية هو المخالفة في العقائد لا مطلق المخالفة ولو بنحوٍ يكون هناك خبر موافق لهم وليس له معارض فنطرحه لأجل المخالفة([22]).

ولعلّه يقرب منه ما ذكره الميرزا حبيب الله الرشتي، من أنّ هذه الأخبار لا مساس لها بالأخبار المتعارضة، ولا بالأخبار مطلقاً، بل الظاهر أنّها وردت في حقّ طائفة من ضعفاء الشيعة كانوا يخالطون ويراودون أعداء الدين بغير إذنهم عليهم السلام ويستمعون وينقادون لهم فيما يأمرون من غير إذنهم، فوردت هذه الأخبار تنبيهاً على غفلاتهم وردعاً لهم عن الباطل([23]).

إلا أنّ افتراض الرشتي لا شاهد له، وتخصيص الخبر بالجانب العقدي غير واضح، بل الأظهر أنّ الحديث يريد من الشيعة إعلان مخالفتهم لأعداء آل محمّد والوقوف في صفّ مقابل لهم وعدم الاتّباع لهم، ولهذا وجدنا الرواية تقابل بين الاتباع والمخالفة، فلا يحقّ للشيعي اتّباعهم والسير في ركبهم، لكنّ هذا غير الاستفادة منهم والتعاون معهم والتواصل.

الرواية الرابعة: خبر المفضل بن عمر، قال الصادق×: «كذب من زعم أنّه من شيعتنا، وهو متمسّك بعروة غيرنا»([24]). فالرواية تنهى عن التمسّك بعروة غير أهل البيت، والرجوع إلى أهل السنة تمسّكٌ بغير عروة أهل البيت.

وهذا الخبر لا دلالة له في المقام، فإنّه:

أوّلاً: يدلّ على عدم جواز التمسّك بعروة غير أهل البيت، ونحن إنّما نرجع إلى المصادر السنّية لا للتمسّك بعروتهم، بل للتمسّك بأحاديث الرسول$، إذ من الواضح أنّ هذه الروايات تؤخذ طريقاً للوصول إلى أخبار النبيّ، ليكون التمسّك بها، وشاهد ذلك أنه لا يدّعي أحد أنّ التمسّك بروايات مصادر الشيعة تمسّكٌ بغير أهل البيت من الرواة، سواء كانوا شيعةً أم سنّة، نعم لو اُخذت روايات الصحابة والتابعين غير المنسوبة إلى الرسول$ مصدراً، واحتجّ بها لصدقت هذه الرواية هنا.

ويؤيّد ما نقول ما ذكره بعض المعاصرين، قال: «ثمّ فرق بين الخبر والفتوى، فإنّ ناقل الخبر ناقل لكلام المعصوم عليه السّلام، فيقبل منه لو كان من الثقات وإن كان مخالفاً، بخلاف الفتوى، فإنّه ينسب الحكم إلى نفسه بأنّه استفاد ذلك من الأدلَّة التفصيليّة، وحينئذٍ كيف يتبصّر في الفروع ولا يتبصّر في عقائده؟ والمرجعيّة الحقّة تتلو منصب الإمامة المعصومة، فمن وهن المذهب الحقّ أن يسلَّم مقاليد الأُمور وزعامة المؤمنين إلى من كان فاسد المذهب وباطل العقيدة»([25]).

ثانياً: إنّ هذه الرواية ضعيفة السند، فإنّه قد ورد في سندها محمد بن سنان، ولم تثبت وثاقته، وقد وردت هذه الرواية بصيغة أخرى وهي: «كذب من زعم أنّه يعرفنا..» رواها إبراهيم بن زياد (إبراهيم بن أبي زياد)([26])، ولم تثبت وثاقته أيضاً إلا على مبنى وثاقة كلّ من روى عنه ابن أبي عمير، وهو مبنى حقّقنا في علم الرجال عدم ثبوته.

هذا، وهناك الكثير من الأحاديث التي وردت في ضرورة الرجوع إلى أهل البيت وأنّهم مرجع الأمّة، مما لا علاقة له ببحثنا إطلاقاً كما هو واضح.

يُشار إلى وجود خبر لابن مُسكان، عن أبي عبد الله الصادق يقول فيه: «نحن أصل كل خير ومن فروعنا كلّ بر، فمن البرّ التوحيد والصلاة والصيام وكظم الغيظ والعفو عن المسيء ورحمة الفقير وتعهّد الجار، والإقرار بالفضل لأهله، وعدوّنا أصل كلّ شرّ، ومن فروعهم كلّ قبيح وفاحشة، فمنهم الكذب والبخل والنميمة والقطيعة وأكل الربا وأكل مال اليتيم بغير حقّه وتعدّي الحدود التي أمر الله، وركوب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والزنى والسرقة وكلّ ما وافق ذلك من القبيح، فكذب من زعم أنّه معنا وهو متعلّق بفروع غيرنا»([27]).

ولعلّ ما في الرواية التي نحن فيها يرجع إلى هذه الرواية، من حيث إنّ من يتعلّق بعروة أهل البيت يعمل الصالحات، فكذب من يدّعي أنّه تعلّق بعروتهم وهو متعلّق بالمفاسد والسيئات، فتكون أجنبيّة عمّا نحن فيه، والله العالم.

الرواية الخامسة: خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: قال الصادق×: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله.. فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»، ونحو هذا الخبر خبرٌ آخر([28]).

فهذا الخبر يجعل الميزان أخبار العامّة، على خلاف الحال من روايات أخرى تعطي المرجّح في أقوال العامة لا أخبارهم، وعليه فتكون هذه الرواية مؤشراً على أمارة غالبيّة ظنيّة بمخالفة أخبار أهل السنّة للواقع، ومعه، كيف يكون لنا الرجوع إلى أخبارهم مع جعل مخالفتها قرينةً على مطابقة الواقع في كلام الإمام؟!

ويناقش هذا الخبر:

أوّلاً: إنّه ضعيف السند؛ إذ هو من روايات سعيد بن هبة الله الراوندي في رسالته في اختلاف الأخبار، وقد تعرّضنا لها مفصّلاً في كتابنا (حجيّة الحديث)([29])، وقلنا بضعفها السندي، والخبر الثاني أيضاً كذلك.

ثانياً: إنّه يشمل مطلق الأخبار، فكيف ـ لو فسّرناه بأنّه قرينة كاشفة وأمارة نوعيّة ـ مع وجود هذه الرواية عمل الشيعة بأخبار السنّة الموجودة في كتب الشيعة بالآلاف؟! فمقتضى هذا الخبر عدم التمييز في الروايات السنّية بين وجودها في مصادر الحديث الشيعي أو غيرها، إلا إذا قيل بأنّ المراد في هذا الخبر ما يروونه عن رسول الله$ لا ما يرويه السنّي عن أحد أئمّة أهل البيت، وهذا يحتاج إلى شاهد، وأمّا دعوى إخراج هذه الروايات التي في مصادر الشيعة بالإجماع القائم، فقد سبق التعليق عليه، فلا نعيد.

وربما يدّعى الانصراف إلى خصوص المتداول بينهم من الحديث النبويّ مما لم يكن متداولاً بين الشيعة.

ثالثاً: إذا كان هذا المعيار صحيحاً فلابد أن يكون غالبيّاً، مع أنّنا نجد اشتراكاً كبيراً جداً في أحاديث الطرفين، فإما أن يكون هذا الأمر خاصّاً بفترة الإمام الصادق حيث لم تكن أحاديثهم قد تبلورت، أو يراد ـ وهذا احتمال جادّ نطرحه للتداول ـ أنّه لا يُقصد من العامّة أهل السنّة، بل هذا الاصطلاح متأخّر عند الفقهاء والأصوليّين، وإنما يُقصد عامّة الناس مقابل أهل الحديث ونقّاده، وحيث الأخبار بيد عامّة الناس تكون غير دقيقة وفيها طابع مضاف على الحديث، وتكون بعيدةً عن الروح الحقيقيّة للإسلام؛ لكثرة الخرافة والزيادة والاضطراب عندهم في هذا الأمر، جعل ذلك أمارة على صحّة الحديث أو سقمه([30]).

ويطرح السيد محمّد تقي الحكيم تفسيراً لمفهوم (العامّة) في روايات مخالفة العامّة، يظهر منه قربه مما طرحناه، لكنّه يقدّم فهماً آخر، حيث يقول في نصّ مهم: «المراد بالعامّة هنا أولئك الرعاع وقادتهم من الفقهاء الذين كانوا يسيرون بركاب الحكّام ويبرّرون لهم جملة تصرّفاتهم بما يضعون لهم من حديث، حتى انتشر الوضع على عهدهم انتشاراً فظيعاً.. وليس المراد بالعامّة في الصحيحة وأمثالها أولئك الأئمّة الذين عُرفوا بعد حين بأئمّة المذاهب الأربعة وأتباعهم، لأنّ هؤلاء الأئمّة ما كان بعضهم على عهد الإمام الصادق عليه السلام، كالشافعي، وابن حنبل، والذين كانوا على عهده ما كان لهم ذلك الشأن، بحيث يكونون رأياً عاماً؛ ليصحّ إطلاق لفظ العامّة عليهم وعلى أتباعهم. وعامّة الناس من السنّة لم تجمع كلمتهم عليهم ـ بواسطة السلطة ـ إلا في عصورٍ متأخّرة جداً عن عصر الإمام الصادق عليه السلام، حيث أبطل الظاهر بيبرس البندقداري غيرها من المذاهب في مصر وقصرها عليها، ومنه انتشرت في بقيّة الأمصار. وعلى هذا، فإنّ كلمة الإمام الصادق عليه السلام لم توجّه إلا إلى أولئك الكذابين من أذناب الحكّام فقهاء ومحدّثين، ممن يستسيغون الكذب والدسّ مراعاةً لعواطفهم وميولهم السياسيّة وغيرها»([31]).

رابعاً: لو بُني على اختصاص هذا الخبر وأمثاله بحال التعارض، لأمكن افتراض أنّ الإمام جعل هذه العيّنة هنا لا من باب أنّ أخبارهم لا قيمة لها، بل من باب أنه قد يصدر عنه ما يوافقهم تقيّةً، أو أنّه كان يبيّن فتاوى سائر المذاهب إضافة إلى فتواه لمن كان يسأله من أبناء تلك المذاهب، كما يحتمله بعضهم([32])، فأراد بيان ما صدر واقعاً عنه واُريد جدّاً منه، وهذا لا علاقة له بأصل رواياتهم في نفسها في هذا الصدد.

الرواية السادسة: خبر الحسين (الحسن) بن السري، قال: قال أبو عبد الله×: «اذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم»([33]). ومثل هذا الخبر أخبارٌ اُخَر مثل مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها من الروايات الواردة في التعارض.

وهذا النوع من الروايات ليس له علاقة ببحثنا؛ لظهوره في نظرهم وآرائهم لا في رواياتهم ومرويّاتهم مما نبحث عنه هنا، فقد يوردون روايةً لكنّهم لا يعملون بها ولا يفتون على وفقها، وهذه هي سيرة علماء الإماميّة في التعامل مع الروايات المتعارضة عندهم، حيث يرجعون إلى الآراء لا إلى الأخبار، فتكون أجنبيةً عما نحن فيه، بصرف النظر عن سندها، فخبر ابن السري مثلاً ضعيف السند بالإرسال و.. مضافاً إلى ورود بعض الإشكالات المتقدّمة مثل قرينة الغالبيّة، ومسألة الاختصاص بالتعارض مع فرض التقيّة، وغير ذلك و..

الرواية السابعة: خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله، قال: «ما أنتم ـ والله ـ على شيء مما هم فيه، ولا هم على شي مما أنتم فيه، فخالفوهم، فما هم من الحنيفيّة على شيء»([34]).

وهذه الرواية قويّة جداً في الدلالة على المفاصلة والقطيعة بين الفريقين، ومعها كيف يمكن الرجوع إلى مصادرهم الحديثيّة؟!

لكن يمكن مناقشة الاستناد إلى هذه الرواية بأمور:

أوّلاً: وردت هذه الرواية في رسالة الراوندي التي لم يُعثر عليها بنفسها لحدّ الآن، وهذا معناه أن هذا المقطع وصلنا على الشكل التالي، فكيف عرفنا أنّ المراد من الضمير في الحديث هم أهل السنّة، إلا الاستئناس؟ فلعلّهم فرقة خاصة أو جماعة بعينها تحدّث عنها الإمام، وربما كان يقصد غلاة الشيعة أو النواصب، بقرينة نفي الحنيفية عنهم، ونحن لا نعرف طبيعة الأمر، فكيف نستند إلى الرواية للتعميم وإن كان احتماله قائماً؟!

ثانياً: إننا نقطع ببطلان مضمون هذه الرواية لو فُهم منه الإطلاق الذي قد يقصده المستدلّ هنا؛ ذلك أنّها تفيد التباين التام بين المذهب الشيعي ومطلق غير الشيعي كالسنّي، وهو أمر غير صحيح قطعاً، بل مفادها تكفير كلّ ملّة الإسلام إلا الإماميّة، وهذا مناقضٌ للواقع والروايات في إسلام أهل السنّة ومخالف في شقّه الثاني لمشهور المتأخّرين في إسلام أهل السنّة، فكيف يمكن التصديق بهذه الرواية إلا على ضرب من المبالغة؟! هل يعقل أنّ الشيعي لا يلتقي مع السنّي في شيء، وهما يؤمنان بمشتركاتٍ تكاد لا تحصى؟! ألا يوحي ذلك بأنّ واضع هذا الحديث ـ لو كان موضوعاً ـ يمكن أن يكون قد انطلق من حالٍ من الحقد الطائفي أو على الأقلّ يشكّكنا في ذلك؟!

ولعلّه لهذا ذهب السيّد الخميني إلى جعل هذه الرواية واردة في قضايا العقائد فقط([35])، كما سبق منه ما يشبه ذلك في خبرٍ آخر.

إلا أنّ قضايا العقائد هي الأخرى لا تصحّ هنا، فكم من مشترك عقدي يعدّ في أصول الإسلام تشترك المذاهب فيه؟ فلماذا هذا التجاهل لكلّ هذه المشتركات الواقعيّة التي نراها بأمّ أعيننا؟! كيف يمكن التصديق بذلك على أرض الواقع؟!

وبعد هذا، فمن الغريب ما يقوله الحرّ العاملي من أنّه لا يخفى أنّ ذلك إن لم يكن كلّياً فهو أكثريّ غالب في المسائل النظريّة([36])، فهل اتفق الشيعة أنفسهم في تلك المسائل النظريّة؟ ونظرة واحدة على ما اختلف فيه الصدوق والمرتضى والمفيد فقط، تكفي لمعرفة أنّ هناك أكثر من مئة مسألة عقائديّة تفصيليّة مختلف فيها داخل الشيعة الإماميّة.

ثالثاً: إنّ الخبر ضعيف السند بعلي بن أبي حمزة البطائني الذي وصفه ابن فضال ـ حسب نقل الكشي ـ بأنه كذاب متهم، وهذا ما يعارض بعض مباني توثيقه، فلا يحتجّ برواياته، فضلاً عن كون هذا الخبر قد ورد في رسالة الأخبار للراوندي التي لم تثبت أساساً كما قلنا.

الرواية الثامنة: مرسل داود بن الحُصَيْن، عن أبي عبد الله× قال: «والله ما جعل الله لأحد خيرة في اتّباع غيرنا، وإنّ من وافقنا خالف عدوّنا، ومن وافق عدوّنا في قول أو عمل فليس منّا، ولا نحن منهم»([37]).

ويرد على الرواية:

أ ـ مضافاً إلى ضعفها السندي بالإرسال، إلى جانب ورودها في رسالة الراوندي المفقودة غير الثابتة.

ب ـ أنّ العمل بها في غاية الإشكال مع لحاظ صيغتها الإطلاقيّة، فلابد أن تُحمل على موافقة الغير فيما هو مخالف لأهل البيت، فكيف يعقل أن يكون الموافق لأهل البيت في العمل بالصلاة مخالفاً لغيرهم، مع أنّ الآخر يؤمن بالصلاة ويؤدّيها أيضاً؟ وكيف يمكن أن يكون الموافق لأهل السنّة في الإيمان بالقرآن مخالفاً لأهل البيت؟ كما أنّها تشير إلى موضوع الاتّباع الظاهر في موالاة غيرهم لا في مجرّد الاستفادة من علومهم ووثائقهم وما ينقلونه.

ج ـ على أنّ كلمة (عدوّ) يشكل إطلاقها على مطلق المخالف كما قلنا.

هذا، وسيأتي احتمال في تفسير مثل هذه الرواية عند الحديث عن الرواية اللاحقة.

الرواية التاسعة: خبر الحلبي، عن بشير في حديث سليمان مولى طِرْبَال، قال: ذكرت هذه الأهواء عند أبي عبد الله× قال: «لا والله، ما هم على شيء مما جاء به رسول الله$ إلا استقبال الكعبة فقط»([38]).

فهي تفيد المباينة التامّة ما بينهم وبين ما جاء به رسول الله، حتى لم يبقَ إلا استقبال الكعبة، في إشارة رمزيّة إلى بقاء بعض القشور الشكليّة الطفيفة.

ولكن يناقش هذا الخبر:

أوّلاً: إنّ المشار إليهم من أهل الأهواء في هذه الرواية غير واضح، والإشارة بـ (هذه) نحو تخصيصٍ وتعيين؛ إذ يوجد احتمال أنّه كان يريد بعض الفرق الخاصّة المنحلّة أخلاقياً أو الفرق الإباحيّة التأويليّة أو النواصب أو الغلاة أو غير ذلك، فكيف نعرف أنّه يقصد كلّ المذاهب الأخرى غير الإماميّة؟

ثانياً: إنّ الرواية لو حُملت على مطلق غير الشيعي مطلقاً لكانت مقطوعة البطلان، فهذه الألسنة غير واقعيّة بأجمعها، وهذا تاريخ المسلمين شاهد على نقاط اشتراك كثيرة جداً، فكيف تصدر مثل هذه المبالغة غير الواقعيّة من أهل البيت النبوي بحيث يبدون وكأنّهم غير منصفين على الإطلاق؟!

ثالثاً: إنّ الرواية ضعيفة السند، إذ إنّ بشير الراوي عن سليمان مولى طربال الواقع في السند مجهول تماماً في هذه الطبقة.

رابعاً: لعلّ الأرجح في تفسير هذه الرواية، وبعضٌ آخر من الروايات هنا، أنّها لا تريد النظر إلى الجانب العلمي والعقدي والروائي وأمثال ذلك، بل تقصد النظر إلى الجانب العملي، فهي تريد أن تقول بأنّ ما هم عليه ليس سوى قشور الإسلام، وأنّهم لا يعملون بالإسلام ولا يطبّقونه ولا يجرون منه إلا قشوره وظواهره، لكنّهم في حياتهم متهتّكون لاعبون بالشريعة متمرّدون على أحكام الله تعالى.

ومثل هذا اللسان موجود في بعض الروايات عن بعض الصحابة الذين كانوا يقولون بأنّ ما كان على عهد رسول الله لم يعد موجوداً، في إشارة إلى خروج الكثيرين عن مقتضى سنّة النبيّ واتّباعه، وهذا غير أصل اعتقاداتهم ورواياتهم وأنظارهم، بل هو ناظر لجانب العمل والسلوك وتحكيم الدين والشريعة، فهو مثل بعض النصوص التي تتكلّم عن آخر الزمان أو نحو ذلك، وأنّه سيأتي زمان على الناس لا يبقى من الدين إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه.

الرواية العاشرة: خبر علي بن سويد السابي (النسائي)، قال: كتب إليّ أبو الحسن× وهو في السجن: «وأما ما ذكرت يا علي ممّن تأخذ معالم دينك، لا تأخذنّ معالم دينك عن غير شيعتنا، فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين، الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم، إنهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه، فعليهم لعنة الله ولعنة رسوله، ولعنة ملائكته، ولعنة آبائي الكرام البررة، ولعنتي، ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة..»([39]).

والرواية واضحة في القطيعة المعرفيّة، ووصف الخيانة والاتهام بالتحريف مؤشران على سلب الوثاقة عن هؤلاء، والسياق التعليلي يفيد العموم.

لكن يناقش:

أوّلاً: إنّ الرواية ضعيفة السند، فقد ورد فيها علي بن حبيب المدائني المهمل جداً([40])، والذي يبدو أنّه لا رواية له غير هذه الرواية الواردة عند الكشي فقط، ولا أثر له في الكتب الأربعة، كما لم أجد اسمه في أيّ مصدر حديثي ولا رجالي سنّي، ولعلّه حصل تصحيف.

ثانياً: ليس المقصود في الرواية الأخذ بمعنى النقل، بل الظاهر أنّه بمعنى المرجعيّة، بحيث يكون هؤلاء هم المرجع لك في أمور الدين ومعالمه في مقابل الأخذ عن أهل البيت النبوي، ويشهد لذلك أنّه ليس كلّ غير شيعي شارك في تحريف الكتاب وتبديله وخيانة الله ورسوله، بل هو إشارة إلى زعماء القوم الذين مارسوا ذلك.

ولعلّ هذا ما قصده السيّد محسن الحكيم وغيره من قوله بأنّ مركز الأمر في الرواية هو الخيانة لا مطلق الخلاف، وأنّ نظر الرواية إلى مثل القضاة وأمثالهم ممن كانوا يعملون بالقياس وغيره من السبل غير المشروعة في مذهب أهل البيت النبويّ([41]).

لكنّ هذه المناقشة برمّتها مبنيّة على تفسير التحريف في الرواية بتحريف القرآن حقيقةً، لا التحريف المعنوي للقرآن، وإلا لشمل مفهومها تحريف الحديث، وهذا يعني أنّهم إذا حرّفوا نصّ الكتاب، فكيف يوثق بهم في سلامة نصّ السنّة، ويكفينا الترديد للشكّ في الدلالة.

ثالثاً: لو تمّ الاستناد لمثل هذه الرواية لشملت مطلق غير الشيعي أينما وردت روايته كما تقّدم مراراً، فلا يختصّ برواية السنّي في مصادره، بل حتى بروايته في مصادر الشيعة.

الرواية الحادية عشرة: خبر دعائم الإسلام، عن أبي جعفر (بن) محمد بن علي×، أنّه ذكر له عن عبيدة السلماني، أنّه روى عن علي× بيع أمّهات الأولاد. قال أبو جعفر: «كذبوا على عبيدة، أو كذب عبيدة على علي×، إنّما أراد القوم أن ينسبوا إليه الحكم بالقياس، ولا يثبت لهم هذا أبداً، نحن أفراخ علي، فما حدّثناكم به عن علي، فهو قوله، وما أنكرناه فهو افتراء، فنحن نعلم أنّ القياس ليس من دين علي، وإنما يقيس من لا يعلم الكتاب ولا السنّة؛ فلا تضلّنكم روايتهم (رواتهم)، فإنّهم لا يدعون أن يضلّوا..»([42]).

فإنّ هذه الرواية تؤكّد عدم الانخداع برواتهم وروايتهم، مما يدلّ على ضرورة ترك مرويّاتهم وعدم الاعتداد بها.

ولكن يُجاب:

أوّلاً: إنّ الرواية ضعيفة السند بالإرسال الشديد، حيث لم يُذكر لها سندٌ أساساً. وكتاب دعائم الإسلام لم تثبت صحّته أو وثاقة رواته غير المعروفين، على ما حقّقناه في علم الرجال أيضاً.

ثانياً: إنّ الرواية واردة في مسألة القياس، ولعلّ المراد بروايتهم هنا هو تلك الرواية التي رووها عن علي، لجعله من العاملين بالقياس، فأرادت الرواية تحذير الشيعة من أن ينغرّوا بما يقولونه لهم من مرويّاتٍ عن علي في أمر القياس، فلا يكون لها إطلاق.

وبتعبير آخر: لعلّ الرواية ناظرة إلى ضرورة الانتباه والحذر من المرويّات التي لا تكون بطريق أهل البيت بحيث يمكن أن يدخلها الخلل، وعليه فيكون المرجع في تصحيح تلك الروايات هو مرويّات أهل البيت، فما وافقها ووافق مزاجها العام يمكن الأخذ به، وإلا تمّ تركه لمكان مخالفته لروايات أهل البيت، فأكثر من هذا المقدار لعلّه لا يستفاد من مثل هذه الرواية.

وربما يشهد له أنّه لم يقل: لا تأخذوا بروايتهم أو لا ترجعوا إليها، بل قال: لا تضلّنّكم روايتهم، فيجب الحذر من ضلال روايتهم عبر عرضها على معايير، والله العالم.

الرواية الثانية عشرة: خبر أحمد بن حاتم بن ماهويه، قال: كتبت إليه ـ يعني أبا الحسن الثالث× ـ أسأله: عمّن آخذ معالم ديني؟ وكتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما: «فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما على كلّ مستنّ (مسنٍّ) في حبّنا، وكلّ كثير القدم في أمرنا، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى»([43]).

وهذا ما تؤيّده رواية زيد الشحّام في تفسير آية: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس: 24)، حيث جاء فيها عن الإمام أبي جعفر×: «إلى العلم الذي يأخذه عمّن يأخذه»([44]).

فهذه الرواية تجعل مرجع الدين هو الشيعي، معتبرةً أنه يكفي الإنسان أمورَ دينه إن شاء الله، ومعه فلا حاجة إلى غير الشيعي حتى نستفيد منه في قضايا الدين، سواء بالرأي أم الاجتهاد أم الرواية.

لكن يمكن الجواب:

أوّلاً: إنّ الرواية ـ بصرف النظر عن احتمالها لباب الاجتهاد والتقليد والاتّباع والمعرفة، لا مثل مجرّد النقل والرواية ـ ضعيفة السند:

أ ـ تارةً بابن ماهويه المهمل جداً([45])، نعم ذكره التفرشي في نقد الرجال، واعتبر أنّ هذه الرواية تفيد مدحه([46])، ولعلّه لذلك عدّه المجلسي في الوجيزة من الممدوحين([47]).

لكنّها حتى لو أفادت مدحه ـ مع أنّها لا تدلّ سوى على الأمر، إلا إذا قيل بأنّ نفس خروج مكاتبة لهما من السجن دليل وثاقتهما، كما قيل مثله في خروج التوقيعات في زمن الغيبة الصغرى، وهو ضعيف على ما بحثناه في علم الرجال ـ لا تنفع؛ لأنّه هو راويها، ويبدو أنه لا رواية أخرى له إطلاقاً في كتب الحديث سوى هذه الرواية التي نقلها الكشي في رجاله، فالصحيح ضعف الرواية كما نصّ عليه السيد الخميني والسيد الخوئي والشيخ المنتظري والسيد الحائري([48]).

ب ـ وأخرى بموسى بن جعفر بن وهب الذي لا توثيق له، سوى أنّه ورد في كامل الزيارة أو كان له كتاب أو ما شابه ذلك من المباني الضعيفة([49]).

ج ـ وثالثة بجبريل الفاريابي الذي لم تثبت وثاقته.

كما أنّ خبر زيد الشحام ضعيفٌ بالإرسال، حيث رواه البرقي عمّن ذكره عن زيد، مضافاً إلى أنّه مطلق غير محدّد المعالم.

ثانياً: ما ذكره بعضهم، من أنّ هذا الحديث يُحمل على الاستحباب ونحوه؛ لأنّه مخالف للإجماع القطعي([50]).

ولعلّ مرادهم أنّه من المقطوع به أنّه لا يشترط في أخذ معالم الدين أن يكون المأخوذ عنه بهذه المثابة من المواصفات العالية، فأغلب الرواة ليس حالهم كذلك، مع أنّ الطائفة عملت برواياتهم منذ مئات السنين.

وربما يمكن الردّ بأنّ هذه التعابير كناية عن تشيّع الرجل تشيّعاً حقيقيّاً([51])، فلو صحّ هذا التفسير ارتفع هذا الإشكال.

وقد يراد بالإجماع المقطوع به هو عمل الطائفة قطعاً بروايات أهل السنّة التي في كتبها، كالسكوني وحفص بن غياث وأمثالهما، فلو كان العمل منحصراً بخبر الشيعي فهذا يخالف ما أجمعت عليه كلمتهم وعملهم، الأمر الذي يوجب مهجوريّة هذا الخبر عندهم لو فسّر بهذه الطريقة وهو من موجبات وهنه النوعي بوصف ذلك قرينةً لا دليلاً.

ثالثاً: إنّ هذه الرواية تسأل عن حالة شخصيّة، والجواب فيها شخصي بحت، وليس مرفقاً بتعليل يشير إلى قانون عام، ومن المحتمل جداً أن يكون الإمام بصدد التأكيد على هذين الشخصين السائلين أن لا يذهبا خلف أشخاص ليسوا بتلك المثابة من المواصفات العالية، ولو من باب أنّه يخاف عليهما الضلالة بعد الهداية، وحيث إنّ اللسان لسانٌ شخصي ويحتمل معه مثل هذه الاحتمالات والمناشئ فلا نستطيع التمسّك بالإطلاق في مثل هذه الأمور التي تحتمل بطبيعتها القضايا المتحرّكة الميدانية والمورديّة، خاصّة عندما تكون العمومات والمطلقات على خلاف ما تفيده مثل هذه النصوص.

رابعاً: إنّ الظاهر من التعبير الوارد في الرواية كفاية أن يكون الشخص محباً لأهل البيت ومتعلّماً على يديهم بحيث كان يتردّد عليهم ويأخذ منهم، وهذا أعمّ من كونه شيعيّاً إماميّاً أو غيره، ومن كون رواياته وردت في مصادر السنّة أو غيرهم، فقد يكون زيديّاً ووردت روايته في مصادر السنّة، فيكون مشمولاً لهذا الحديث، فالنسبة بين منطوق الحديث وما نحن فيه ليست متطابقة، إلا إذا قيل بكون التعابير كنائية عن التشيّع الإماميّ الخاصّ، فتأمّل جيداً.

وقفات تحليلية نقديّة في قاعدة: الرشد في مخالفة (العامّة)

الرواية الثالثة عشرة: الخبر المشهور الذي ذكره الكليني في الكافي، وهو: «دعوا ما وافق القوم؛ فإنّ الرشد في خلافهم»([52])، على أساس أنّ هذا التعليل الوارد في الرواية يمثل قاعدة عامّة تجعل الرشد في مخالفة أهل السنّة، ومثل هذا المفهوم القواعدي الكبير لا يمكن أن ينسجم مع جعل كتبهم وأحاديثهم وعلومهم مرجعاً أو مادّةً للاستفادة منها، بل الأصحّ مخالفتهم وهجرانهم وعدم التشبّه بهم وما شاكل ذلك.

وقد ذهب جماعة من أكابر العلماء الشيعة إلى جعل هذا النص أصلاً لا يؤخذ به في باب التعارض فقط لأجل قضية التقيّة؛ لأنّ الرواية ليس فيها مؤشر على ذلك، بل المخالفة لأجل «أنّ المخالفين للحقّ لذواتهم المنكوسة وقلوبهم المعكوسة لا يرتضون غالباً إلا الباطل، فالرواية التي يخالف قولهم أقرب إلى الصحّة والصواب، وهذا نظير ما روي عن النبي$ من الأمر بمشاورة النساء ومخالفتهنّ..»([53])، كما أنّ «من جملة نعماء الله على هذه الطائفة أنّه خلّى بين العامّة والشيطان، فأضلّهم في كلّ مسألة نظريّة، ليكون الأخذ بخلافهم ضابطة لنا»([54]). على حدّ تعبير الحرّ العاملي في رسالته في الغناء.

بل احتمل صاحب الكفاية أن تكون المخالفة في نفسها حسنةً وبما هي بقطع النظر عن أنّهم يوافقون الباطل وما شابه ذلك([55]).

ومثل هذا الخبر أيضاً ما جاء في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله ×: «.. ما خالف العامّة ففيه الرشاد»([56])، والواردة في مورد الخبرين المتعارضين، وهذا النصّ وإن لم يظهر منه التقعيد العام في غير باب التعارض، غير أنّ نقل الطبرسي في الاحتجاج له جاء على الشكل التالي: «يُنظر إلى ما هم إليه يميلون، فإنّ ما خالف العامّة ففيه الرشاد»([57])، حيث سيق النصّ مساق التعليل بكبرى كلّية.

ويمكن التعليق على هذين الخبرين:

أوّلاً: إنّ الخبر الأوّل المشهور جداً لم نجده في أيّ كتاب حديثي سوى في مقدّمة كتاب الكافي للكليني، حيث ذكره وهو يبيّن للسائل الذي كتب له الكتاب ما العمل في حال التعارض، فذكر الخبر دون ذكر أيّ سند له، بل دون ذكر راويه، فيكون في غاية الضعف، حتى لو أرسله إرسال الأمر الواضح، إذ لا قيمة لذلك، فغايته يقينه بصدوره وهو حجّة له وعليه، لاسيما وأنّ هذا الخبر لم يذكره أحدٌ من المحدّثين حتى بعد الكليني، مثل الصدوق والطوسي، فكيف يمكن الاعتماد عليه وهو بهذه الحال؟

ونحن نحتمل أن يكون أصل هذا الخبر هو مقبولة عمر بن حنظلة وأمثالها، فلا يكون هناك خبران أساساً، بل خبرٌ واحد.

وأما مقبولة عمر بن حنظلة، فهي لم تثبت سنداً كما ذكرنا سابقاً رغم اشتهارها بين المتأخّرين؛ لأنّها ليست من المشهورات الروائيّة، حيث لم يذكرها سوى الكليني في الكافي لا غير، وإنّما أخذها بعد ذلك الطبرسي، ثم المتأخّرون. نعم هي معمولٌ بها بين المتأخّرين، لكنّنا لا نرى عمل متأخّري الأصحاب بهذه الطريقة جابراً لضعف السند كما سوف يأتي.

ثانياً: إنّ هذه الرواية وأمثالها تحتمل احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن يُقصد مخالفة أهل السنّة بحيث تكون هذه المخالفة طريقاً إلى إدراك الواقع، مع الأخذ بعين الاعتبار حالة التعارض، وفي هذه الحال لا تفيد هذه الرواية شيئاً هنا؛ لأنّ معناها أنه عندما يقع أمامك خبران متعارضان فانظر المخالف لأهل السنّة وخذ به، وهذا المقدار صامت؛ إذ يحتمل أن تكون هذه القاعدة قد اُعطيت من قبل الإمام على أساس أنها قاعدة عامّة، كما يحتمل أن يكون قد أعطاها على أساس غلبة احتمال الموافقة لأجل التقيّة بمعانيها، أو لأجل كونه كان يفتي الناس مشيراً إلى مذاهبم، فتكون مؤشراً يدلّنا على المراد الجدّي عند الإمام في أقواله المتعارضة، لا مؤشراً كلّياً بما يفيد أنّهم غالباً على خلاف الحقّ..

ومن الواضح أنّ مقبولة عمر بن حنظلة يصعب تعميمها لغير حالة التعارض بهذا اللحاظ، لاسيما على غير صيغة كتاب الاحتجاج، حيث لا تعليل بكبرى كلّية فيها، فإنّ المقبولة اعتبرت أنّ ما خالف العامّة ففيه الرشاد، ومن المترقّب أن يكون المراد بالاسم الموصول (الحديث) أي إنّ حديثي المخالف لهم هو الحقّ، وهذا ما يستوي فيه كونهم مخالفين دائماً للحقّ، وكون الإمام يصدر خلاف الحقّ تقيّةً منهم أو لسبب ثالث لا نعرفه، ولو في بعض الموارد.

وهذا هو ما فهمه الفقهاء، ولهذا فخلاف السنّة ليس دليلاً لوحده في الفقه عندهم بوصفه كاشفاً ولو ظنيّاً أو غالبيّاً عن الواقع بصرف النظر عن باب التعارض.

الاحتمال الثاني: أن تكون المخالفة طريقاً إلى إدراك الواقع بصرف النظر عن التعارض، وهنا كي يكون هذا الطريق منطقيّاً، لابدّ من افتراض مسبق، وهو دوام أو غلبة مخالفتهم للواقع، وقد بيّنا سابقاً أنّ هذا الكلام صعبٌ جداً مع الأخذ بعين الاعتبار اختلافاتهم واختلافاتنا فيما بينهم وبيننا، فلو صحّت هذه القاعدة للزم منها تخصيص الأكثر المستهجَن عرفاً.

ودعوى أنّ المراد غلبة مخالفتهم للواقع في ما لم يصدر عن أهل البيت موافقٌ له، لا تنفع هنا، فهي ـ مضافاً إلى عدم وجود قرينة عليها في النصّ ـ تارةً يُفهم منها ما لم يصدر واقعاً من النبي وأهل بيته، ففي هذه الحال لا شكّ في مخالفة ما ذهب إليه أهل السنّة للواقع، لكنّه ليس هو المنظور لنا؛ إذ كيف نعرف أنّه لم يصدر واقعاً عنهم بعد فرض ورود روايات نبويّة من طرق أهل السنّة عن المعصوم في ذلك، وعدم وجود نافٍ لها في روايات الشيعة؟! وأخرى يفهم منها غير الواصل لكم من رواياتنا، وهذا مفهوم هلامي؛ إذ يختلف غير الواصل بين شخصٍ وآخر، فإذا جعل المعيار هو مخالفة أهل السنّة مع كون غير الواصل مختلفاً، فلا معنى لهذا المعيار إلا كون أغلب ما عندهم مخالفاً للواقع، ومن ثمّ فهذا عود إلى مناقضة هذا المفهوم للوح الواقع كما قلنا مطلع هذه الملاحظة.

يضاف إلى ذلك أنّه لو صحّ هذا النصّ بهذا التفسير العام، لعنى ذلك أنّ كلّ ما عند أهل السنّة فإنّ خلافه ـ بمقتضى هذا النص الحديثي ـ هو الواقع الحقيقي، ومن ثمّ لزم إخراج كلّ ما ثبت عند الإماميّة عبر مستند كتابي أو حديثي، مما هو مشترك مع السنّة، وهذا الإخراج يقع من خلال الأدلّة التفصيلية لكلّ موردٍ مورد، وبالتالي يشكّل مخصّصاً لقاعدة الرشد في خلافهم، ونظراً لكثرة التخصيصات، سوف يؤدّي ذلك إلى التخصيص المستهجن عرفاً، وهو من موهنات هذا الخبر؛ لأنّه يسوف يعارضه عدد هائل من المخصِّصات تتعدّى التخصيص العرفي، فتأمّل جيداً.

الاحتمال الثالث: أن يراد المصلحة السلوكيّة، أي أنّ نفس المخالفة بصرف النظر عن الواقع ممدوحة، كما احتمله صاحب الكفاية، وهذا الاحتمال:

أ ـ غير ظاهر من سياق مثل مقبولة عمر بن حنظلة التي هي بصدد ترجيح رواية أو حكم على آخر، وذكر سبل الوصول لمعرفة الصادر الواقعي، وليست بصدد تعيين وظيفة عمليّة محضة.

ب ـ لا علاقة له ببحثنا؛ لأنّنا نبحث في السُبُل إلى الواقع الشرعي، لا في المخالفات التي تميّز الشيعة عن السنّة، فقد لا يعملون بخبرٍ وارد عندهم وقد يعملون.

ج ـ إذا حملت المخالفة هنا على قضاياهم الشرعيّة ورواياتهم وما يُفتون به لزم المحذور عينه الموجود في الاحتمال الثاني، فكيف يؤخذ بإطلاق هذه الرواية مع كون أغلب ما عندهم مما هو موجود عند غيرهم، فيلزم تخصيص الأكثر المستهجن عرفاً، إذ سيصبح المعنى: خالفهم في كلّ ما عندهم إلا في كذا وكذا وكذا مما هو كثير جداً.

وأمّا إذا حُملت على عاداتهم وأعرافهم كمجتمعاتٍ سنّية، فهذا ما لا ربط له ببحثنا هنا إطلاقاً؛ إذ هو سيشبه ما جاء في بعض الروايات من ترك التشبّه بالكفّار أو ترك التشبّه بالعجم في عاداتهم وملابسهم، عندما نحملها على ذلك، وهذا المفهوم فرع عدم ثبوت هذا الشيء الذي يفعله الكفار عندنا، فلو ثبت عندنا خرج من تحت عموم النهي عن التشبّه بشكل واضح، والمفروض أنّ بحثنا هنا فيما هو الداخل عندنا في الشرع أو لا؟ وفي أنّ روايات غير الشيعي هل يمكن اعتبارها من ضمن السبل التي نصل من خلالها إلى ما هو الداخل عندنا أو لا؟ فإذا بحثنا فلم نتوصّل إلى دخول شيء في الدين الإسلاميّ، ثم رأينا أنّه عُرف وعادة قائمة وجارية يدعون إليها في المذاهب الأخرى، فهنا نطبّق هذا الحديث بهذا المفهوم، وإلا فلا معنى لتطبيقه، فتأمّل جيداً فإنّ رتبة بحثنا أسبق من رتبة تطبيق هذا المفهوم.

ثالثاً: إنّ الظاهر من الرواية مخالفتهم في اعتقاداتهم وآرائهم، لا مخالفتهم بمعنى ترك ما يروونه أو ما يطرحونه من علوم، وإلا لزم ترك جميع علومهم والتي منها كتب التاريخ والتفسير وأسباب النزول، والعلوم الطبيعيّة وغيرها، فهذه الأمور منصرفة عنها الرواية إلى قضاياهم الدينية التي يذهبون إليها اعتقاداً.

إلا إذا قيل بأنّ الرواية أعمّ من الاعتقاد، خاصّةً لو لاحظنا مقبولة عمر بن حنظلة، فتخصيص هذه النصوص بالاعتقادات غير واضح.

رابعاً: نحن لا نعرف كيف يمكن التمييز في التعامل مع أهل السنّة، إذا أخذنا بهذه الرواية، بين رواياتهم في مصادرنا وغيرها، وبين علم الفقه والعقيدة وغيرها من العلوم؛ وهكذا و..، ومن ثمّ فيكون العمل المجمع عليه عند الإمامية في الأخذ بروايات أهل السنّة الواردة في كتب الإماميّة ناقضاً لهذا المفهوم من هذه الرواية.

فهذا كلّه دليل على أنّه لا يراد بهذا الخبر إلا الاحتمال الأوّل من الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة، والذي عليه اعتقاد الكثير وعملهم من أصوليّي الشيعة وفقهائهم حيث نجدهم يتلفّظون باحتمال التقية في هذه الموارد بوصفها المفسّر لهذا الترجيح في باب التعارض، وربما يعثر الإنسان على تفسير آخر.

فهذه الرواية وأمثالها يصعب الاستناد إليها بوصفها قاعدةً عامة في غير باب التعارض.

الرواية الرابعة عشرة: خبر بشير الدهان، قال: قال أبو عبد الله×: «لا خير فيمن لا يتفقّه من أصحابنا يا بشير، إنّ الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم؛ فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم»([58]).

والرواية دالّة على التحذر من الرجوع إليهم في قضايا الدين احتياطاً على الدين، فتدلّ على ضرورة الاستقلال العلمي للشيعة عن أهل السنّة في الفكر والرواية.

ويناقش الاعتماد على هذا الحديث:

أوّلاً: الظاهر أنّ الإمام هنا يطالِب بالاحتياط مخافة الضلالة، وهذا معناه أنّه إذا أحرزنا عدم الضلالة ولو مع الرجوع إلى علومهم وروايتهم لم يكن هناك بأس، إلا إذا كان ذلك إعلاناً من الإمام بعلمه الغيبي أنّ كلّ من يرجع إليهم أو أغلب من يرجع إليهم يقع في الضلالة.

ولعلّ ما قلناه في هذا الإشكال هو مراد الحرّ العاملي من اعتباره هذه المفسدة أقرب إلى الأولاد الصغار؛ لضعف تمييزهم([59]).

ثانياً: إنّ هذا الحديث ضعيف السند، كما اعترف بذلك العلامة المجلسي في مرآة العقول([60])، والظاهر أنّ الضعف جاء من أبي إسحاق المهمل جداً عند المسلمين جميعاً([61])، ولعلّه ليس له سوى هذه الرواية، وليس المراد به أبا إسحاق الكندي المعروف بابن الخنازيري الذي نقل الخطيب البغدادي توثيقه عن الدارقطني([62])، لأنّ ابن الخنازيري توفي عام 312هـ فيما يقع الراوي هنا في الطبقة الرابعة قبل الكليني المتوفى 329هـ؛ وبينه وبين الإمام الصادق (148هـ) واسطة واحدة هي بشير الدهان؛ فالرواية ضعيفة، فضلاً عن عدم وثاقة بشير كما حقّقناه في محلّه.

الرواية الخامسة عشرة: خبر يونس بن ظبيان، عن الصادق× ـ في حديث ـ قال: «لا تغرّنك صلاتهم وصومهم (وكلامهم) ورواياتهم وعلومهم، فإنّهم حُمُر مستنفرة، ثم قال: يا يونس، إن أردت العلم الصحيح فعندنا أهل البيت..»، فقلت: يا ابن رسول الله، كل من كان من أهل البيت ورث ما ورثت (كما ورثتم) من كان من ولد علي وفاطمة؟ فقال: «ما ورثه إلا الأئمّة الاثنا عشر»([63]).

فالرواية كالصريحة في عدم وجود شيء عند الآخرين حتى يرجع إليهم، وقد شملت الروايات والعلوم، وهذه قمّة القطيعة.

ويناقش:

أوّلاً: إننا لا نعرف عمّن تتحدّث الرواية، بل لعلّ نظرها إلى بعض مدّعي الإمامة من الفرق الشيعيّة الصغيرة التي تلاشت اليوم.

وربما يؤيّد هذا الإشكال الصحيح في نفسه بقرينة الدليل المشير إلى عدم علم أولاد علي غير أهل البيت الإثني عشر، ومن ثم يصعب التمسّك بإطلاق لها في المقام.

إلا انّ هذا التأييد غير مقنع مع صحّة أصل الإشكال؛ لعدم معقوليّة سؤال يونس للإمام بعد حصره له العلم بأهل البيت، فلابدّ أن يكون النظر في مطلع الحديث لعامّة المسلمين لا لخصوص أئمّة الفرق الشيعيّة من أهل البيت.

ثانياً: قد يقال بأنّ الرواية ليست بصدد بيان عدم الرجوع إليهم، بل هي بصدد عدم الاغترار بما عندهم، بما يوحي وكأنّهم أصحاب العلم، في مقابل التأكيد على أنّ العلم الحقيقي تجده عندنا، فهي لا تريد نفي قيمة علومهم ورواياتهم بالمطلق، بل تريد القول بأنّ هذه العلوم غير كافية، وليست شيئاً أمام علوم أهل البيت، فهي أشبه بالحصر الإضافي، وأين هذا مما نحن فيه؟!

ثالثاً: إنّ الرواية ضعيفة السند جداً بعمر بن علي العبدي فهو رجل مهمل للغاية([64])، ولعلّه ليس له سوى روايتين أو ثلاث في المصادر الحديثية، ولم يُشر إليه رجاليٌّ شيعي أو سنّي، فمثل هذا الإهمال يُضعف الرواية جداً، لاسيما مع ورودها فقط في كتاب كفاية الأثر للخزاز القمي (400هـ).

يضاف إلى ذلك ورود يونس بن ظبيان في السند، وهو المتهم بالغلوّ الذي ضعّفه الغضائري، ووصفه النجاشي بالضعيف جدّاً وأنّه لا يُلتفت إلى ما رواه وأنّ كلّ كتبه تخليط، وأورد فيه الكشي بعض الروايات الذامّة أيضاً([65]).

الرواية السادسة عشرة: خبر هارون بن خارجة قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّا نأتي هؤلاء المخالفين، لنستمع (فنسمع) منهم الحديث يكون حجّةً لنا عليهم؟ قال: «لا تأتهم، ولا تستمع (تسمع) منهم، لعنهم الله، ولعن مللهم المشركة»([66]).

ويناقش:

أوّلاً: إنّ الخبر ضعيفٌ، بجهالة طريق ابن إدريس الحلّي (598هـ) إلى أبان بن تغلب، مع وجود بعض المشاكل الأخرى المعروفة.

ثانياً: إنّ السائل يسأل عن الذهاب إليهم للاستماع منهم كي يحتجّ عليهم بحديثهم، ومع ذلك ينهاه الإمام، فلابدّ من حمل النهي على خصوصيّة في ذلك الشخص من حيث كونه يخشى عليه من الانحراف مثلاً أو لخصوصيّة في تلك الفترة أو نحو ذلك، وإلا فلا يُعقل أن ينهاه عن ذلك، مع أنّ القصد هو الردّ عليهم، فهذا المضمون في غاية النكارة ومهجور تماماً لو اُريد الأخذ بإطلاقه فيحمل على أنّه خطاب خاصّ لذلك الشخص، ولعلّه لهذا استخدم الإمام صيغة المفرد في الجواب.

الرواية السابعة عشرة: صحيحة محمد بن إسماعيل بن يزيع، قال: سألت الرضا× عن صلاة طواف التطوّع بعد العصر؟ فقال: «لا»، فذكرت له قول بعض آبائه عليهم السلام: «إنّ الناس لم يأخذوا عن الحسن والحسين’ إلا الصلاة بعد العصر بمكّة»، فقال: «نعم، ولكن إذا رأيت الناس يُقبلون على شيء فاجتنبه»، فقلت: إنّ هؤلاء يفعلون؟ فقال: «لستم مثلهم»([67]).

فهذه الرواية تفيد ضرورة اجتناب ما يقول به جمهور الناس، وقد فهم منها المحدّث البحراني قاعدةً عامّة خارج بحث التعارض أيضاً، وأنّها تفيد وتؤكّد مبدأ أنّهم ليسوا على الحنيفيّة في شيء والمستفاد من سائر الأخبار هنا([68]).

إلا أنّ هذه الرواية لا يعقل فهمها بهذه الطريقة، بل لابدّ من القول بشيء من الإجمال فيها أو تقديم تفسير آخر، والسبب في ذلك أنّ الإمام يقرّ بكون صلاة التطوّع بعد العصر شرعيّة، وأنّ المسلمين اتبعوا في ذلك ما قاله لهم الحسن والحسين، ومع ذلك يقول لابن بزيع بأنّ عليه أن يتجنّب ما عليه الناس! فكيف يُعقل الجمع بين هذين المفهومين؟ وهل يمكن أن يستفاد من ذلك أنّ كلّ ما ثبت عن أهل البيت يجب التوقّف عن العمل به إذا كان الناس قد أخذوه من النبيّ وأهل البيت النبوي أيضاً؟!

لهذا صار بعض العلماء بصدد تقديم تفسير آخر لهذه الرواية يمكن أن يُعقل، أو رفع اليد عنها، فذهب السيّد الخميني إلى أنّه لابدّ من رفع اليد عنها لو فسّرت بشكل مطلق([69])، فيما قد يستوحى من بعضٍ آخر أنّ الإمام نهاه عن ذلك خوفاً من أن يفهم الآخرون فعلهم أنّه ناتج عن تشيّعهم، وناقش آخرون في هذا بأنّه غير واضح بعد فرض أنّهم يعملون مثلهم.

والرواية عندي مجملة تحتمل تفاسير متعدّدة لا نخوض فيها الساعة، فيصعب الاستدلال بها على شيء هنا.

ثالثاً: إنّ الرواية ليست في مقام الحديث عن مرجعيّة علومهم ورواياتهم، بل هي في مقام الحديث عن سلوكهم وما يفعلونه ولو على أساس ما وصلهم عن النبي وأهل البيت، فلا تساوي مطلقاً في النسبة بين المفهومين، فقد يروون رواية لكنّهم لا يعملون بها.

الرواية الثامنة عشرة: خبر التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، حيث جاء فيه: «.. فمن قلّد من عوامنا [من] مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم. فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه. وذلك لا يكون إلا [في] بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً، ولا كرامة لهم، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك؛ لأنّ الفسقة يتحمّلون عنا، فهم يحرّفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير [مواضعها و] وجوهها؛ لقلّة معرفتهم، وآخرين يتعمّدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم»([70]).

ولكنّ هذا الخبر ـ بغض النظر عن ضعف سند هذا التفسير، بل قال بعضهم كالسيّد الخوئي بأنّه موضوع، ورفض بعضٌ آخر كالسيد السيستاني ما ادُّعي من ظهور علامات الصدق عليه([71]) ـ لا علاقة له بما نحن فيه؛ فإنّه يشير إلى فسقة فقهاء العامّة، وهذا غير أنّ جميع فقهاء العامّة فسقة، فغايته أنّ ظاهرة الفسق في فقهاء العامّة منتشرة، لا أنّ كلّ فقهاء العامّة هم فسقة، فلا يؤخذ بكلامهم، فلاحظ جيّداً، فالرواية لا تنفع في تأسيس مبدأ عدم الرجوع، ولهذا لا يحتجّ بها لترك روايات أهل البيت عند الشيعة، بسبب أنها تشير إلى كثرة الكذابين عليهم والمخلّطين في الشيعة أنفسهم.

ولعلّه لهذا فهم الشيخ الأنصاري من هذا الحديث أنّ المعيار هو التحرّز عن الكذب وليس العدالة وإن كان يظهر منه العدالة([72]).

إلا إذا قيل بأنّ الإمام ينفي وجود الفقهاء الصالحين إلا في بعض الشيعة لا غير فتدلّ، لكنّها ضعيفة السند.

المقاربة الإجماليّة التحليليّة لروايات القطيعة المعرفيّة

هذا هو مهم الروايات ذات الصلة بشكلٍ من الأشكال بموضوع بحثنا، وبالرجوع إلى مصادر الحديث نجد:

1 ـ إنّ هناك الكثير جداً في مصادر عامّة المسلمين من الروايات الدالّة على مرجعيّة أهل البيت النبوي، وعدم جواز تركهم إلى غيرهم، وأنّ كل ما لم يخرج من عندهم فهو باطل، وهذه لا علاقة لها ببحثنا؛ لما قلناه من أنّ الرجوع إلى مصادر الحديث الشيعيّة أو السنّية إنّما هو على سبيل الطريق للرجوع إلى كلمات النبيّ وأهل بيته دون غيرهم.

2 ـ ثمّة الكثير من الروايات الناهية عن الأخذ ببعض أساليب الاجتهاد مما هو متداول عند جمهور أهل السنّة كالقياس، وعدم التأثر بهم فيما وقع عندهم من أخطاء في مناهج العمل الاجتهادي، وهذا أيضاً خارجٌ عن بحثنا؛ لأنّنا لا نتكلّم في مناهج الاجتهاد ولا في الرجوع إلى فتاوى المخالفين في المذهب وتقليدهم، بل في الروايات ومجال النقل والتحديث فحسب.

كما أنّ هذا لا يختصّ بالسنّة ولا بالمسلمين، بل يشمل بعض الشيعة أيضاً في أخطائهم في مناهج الاجتهاد، وهنا المفروض النظر في نصوصهم وعلومهم وتحقيقها ونقدها وتمحيصها لاستخراج المفيد منها طبق القواعد المقرّرة سلفاً، والمبرهن عليها عقلاً ونقلاً.

ومن هذا النوع الروايات الدالّة على عدم الرجوع إليهم في القضاء والنهي عن الترافع إليهم، فهذا راجع تارةً إلى عدم جعلهم نافذين في مجتمع الشيعة، وأخرى إلى تخطئتهم في استنتاجاتهم الفقهيّة، ولا علاقة له بما نحن فيه.

3 ـ إنّ هناك العديد من الروايات أيضاً تدلّ على ابتلاء النبي وأهل بيته بالكذّابين عليهم، وهذا أيضاً لا علاقة له ببحثنا أبداً؛ لأنّه متساوي النسبة لجميع المذاهب الإسلاميّة، فدعوى أنّ هذه النصوص تريد أن تُلزمنا بترك أحاديث سائر المذاهب غير واضحة؛ فقد يكون الكذاب مغالياً وشيعيّاً وقد يكون غير ذلك، ومن ثمّ فيجب وضع قواعد لتمييز الأحاديث الصحيحة من الكاذبة، بلا فرق في طريق هذا الحديث أو ذاك، ولا في مصدره أو مرجعه.

4 ـ ثمّة العديد من الروايات تحتمل الدلالة على ما أسميناه القطيعة المعرفيّة، وهي ما ذكرناه بحسب ما تتبّعنا مما رأيناه يستحقّ أن يُدرج فيما يكون له ترقّب احتمال الدلالة احتمالاً معتداً به، وحاصل ما استخلصناه:

أ ـ لقد رأينا أنّ هناك ثماني عشرة رواية قد يكون لها نوع ترقّب دلالي في موضوع بحثنا، وجميعها ضعيفٌ من حيث الإسناد إلا واحدة، وهي صحيحة ابن بزيع (رقم: 17)، وهذا بصرف النظر عن الدلالة في هذه النصوص.

ب ـ إنّ اللافت في هذه المجموعة من الروايات، هو أنّ أسماء الرموز الكبيرة المتفق أو شبه المتفق على توثيقها ومكانتها من الثقات الأثبات في عالم الرواية عند الشيعة غائبة عنها مثل: محمد بن مسلم، ويونس بن عبد الرحمن، وزرارة بن أعين، وبريد العجلي، ومعاوية بن عمار، وأبي حمزة الثمالي، والفضيل بن يسار، وجميل بن دراج، وعبد الله بن مسكان، وسائر كبار وجوه الشيعة الأخرى الغائبة عن هذه الروايات، إلا ما شذّ وندر، بينما نجد أسماء مجاهيل كثيرة ومهملين ومضعّفين متهمين بالغلوّ، كما رأينا، بل بعضهم لم نعثر له إلا على رواية أو روايتين، ولم يُترجم في كتب الرجال والتراجم والفهارس، كما بيّنّا ذلك عند الحديث عن كلّ رواية على حِدة.

ج ـ إنّ ضعف أغلب هذه الروايات السندي من النوع القويّ جداً، حيث ورد في غير واحد منها رواة لا أثر لهم في مصادر الحديث والرجال، لا السنّية ولا الشيعيّة، وبعض الأسانيد ـ كما قلنا ـ تالفة بوجود مضعَّفين في هذه الطرق كيونس بن ظبيان وغيره.

د ـ لو رجعنا إلى مصادر هذه الروايات، لوجدنا أنّه لم يرد منها في الكافي إلا خبران لو وحّدنا مقبولة ابن حنظلة مع مرسل الكافي في المقدّمة، ولم يرد في التهذيب إلا خبران، وورد خبر واحد في محاسن البرقي، وآخر في رجال الكشي، أمّا سائر الروايات ـ أي اثنتا عشرة رواية أخرى، وهي تشكل ثلثي هذه الروايات ـ فوردت في مصادر من الدرجة الثانية والثالثة، مثل رسالة الراوندي التي ظهرت في القرن الحادي عشر الهجري، وعلل الشرائع وصفات الشيعة ومعاني الأخبار للصدوق، وكفاية الأثر للخزاز القمي، ودعائم الإسلام للقاضي النعمان، والتفسير المنسوب للعسكري، وكلّها بأسانيد واحدة منفردة غير متعدّدة المصادر ولا الطرق غالباً.

هـ ـ بعد البحث والفحص وجدنا أنّ عدد الروايات التي لا دلالة فيها هو أغلب هذه الروايات ـ وفي الحدّ الأدنى يشكّل ثلثي هذه الروايات ـ على ما تقدّم توضيحه؛ إذ رأينا أنّها من حيث الدلالة لا تدلّ على المطلوب هنا، كما رأينا أنّ القليل الدالّ منها ـ وفقاً لبعض التفاسير فيه ـ يعارض بعضُه حقائقَ الواقع والتاريخ، بحيث لا يمكن الأخذ بإطلاقه، بل إنّ سيرة المشهور قائمة على معارضة بعض إطلاقات هذه النصوص كما رأينا، وبناءً عليه كيف يمكن التوصّل إلى نتيجة بهذه الخطورة ـ أي القطيعة المعرفيّة ـ ببضع روايات من هذا النوع؟! سواء على مبنى حجيّة خبر الثقة أو الموثوق، فضلاً عما بنينا عليه من حجيّة خصوص الخبر الاطمئناني والعلمي فقط، خاصّة في القضايا البالغة الخطورة.

يُضاف إليه، إنّ زيادة هذه الروايات التي هذه حالها من حيث المصادر والأسانيد لا يحصّل تواتراً حتى لو تجاهلنا ضعفها الدلالي؛ لأنّ داعي الكذب فيها موجود وعالٍ، وهو التحيّز المذهبي المهيمن آنذاك على حياة المسلمين، وهذا ما يضعّف منطقيّاً من قوّة الضخّ الاحتمالي في هذه النصوص، ويعجزها عن تخصيص عمومات ومطلقات الأدلّة الدالة على حجيّة خبر الثقة أو العادل.

و ـ إنّ ما دلّ على الأخذ بما اشتهر بين أصحابك، لو صحّ سنداً، لا ينفع هنا، خلافاً لما أفاده الوحيد البهبهاني فيما تحتمله عبارته في حاشيته على مدارك الأحكام([73])؛ فإنّ الشهرة بين أصحابك جاءت في مقابل الندرة والشذوذ، لا أنّ عنوان (أصحابك) جاء في مقابل غير أصحابك؛ إذ الرواية ليست في مقام البيان من هذه الناحية، فيصحّ إطلاقها بملاحظة الغلبة، فلاحظ جيّداً.

نصوصٌ حديثيّة معارضة تساعد على خلق فضاء التواصل المعرفي

ز ـ إنّه ربما يمكن أيضاً الاستئناس ـ في مقابل هذه الروايات ـ ببعض النصوص الحديثية، ولو الضعيفة سنداً، أو غير المباشرة دلالةً، والتي تُعطي ثقافةً معاكسة، إلى جانب عمومات ومطلقات دليل حجية الخبر، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

الرواية الأولى: مرسل الطوسي في العدّة، عن الإمام جعفر الصادق أنّه قال: «إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما رووا عنّا، فانظروا إلى ما رووا عن عليّ عليه السلام فاعملوا به». وعقّب الطوسي بالقول: «ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث، وغياث بن كلوب، ونوح بن دراج، والسكوني، وغيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم السلام، فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه»([74]).

وقد ذكر الشيخ حسين بن عبد الصمد في هذا الصدد فقال: «وأما الموثق، فلأنّ نقل المذهب قد يُعلم بالفسّاق فضلاً عن الموثقين، كما يُعلم من مذهب الشافعي كذا وإن لم ينقله عنه عدل؛ لقول الصادق عليه السلام: إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها..»([75]).

ويقول الشيخ الأنصاري معلّقاً على هذا الحديث: «دلّ على الأخذ بروايات الشيعة وروايات العامّة مع عدم وجود المعارض من روايات الخاصّة»([76]).

الرواية الثانية: عن أمير المؤمنين×: «الحكمة ضالّة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»([77]).

وقد وردت هذه الرواية مرسلةً في نهج البلاغة، ووردت مسندةً بسند ضعيف بعمرو بن شمّر الكذاب عن الإمام الصادق، وفي ذيلها: «فحيثما وجد أحدكم ضالّته فليأخذها»، حسب نقل الكليني في الكافي([78])، وجاءت مرسلةً في تحف العقول وفي ذيلها: «فليطلبها ولو في أيدي أهل الشرّ»([79]).

وبمضمون هذا الحديث ما جاء في نهج البلاغة وخصائص الأئمّة للشريف الرضي مرسلاً عن علي×: «خذ الحكمة أنّى أتتك؛ فإنّ الحكمة تكون في صدر المنافق، فتلجلج في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن»([80]).

بل وردت هذه الرواية أيضاً منسوبة إلى رسول الله$ عن أبي هريرة بسندٍ ضعيف في سنن ابن ماجة([81])، وكذلك في سنن الترمذي([82])، وعن أبي بردة موقوفةً في مصنّف ابن أبي شيبة([83])، ومسندةً إلى زيد بن أسلم في مسند الشهاب([84])، ومرسلةً إلى علي بن أبي طالب في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر([85]) وغيرها من المصادر.

فهذا الحديث يربّي على الاهتمام بمضمون الفكر لا بصاحبه، وعدم الوقوف عند الرجال، بل العبور منهم إلى الأفكار والحكمة والمعرفة.

الرواية الثالثة: ما جاء في محاسن البرقي مرفوعاً ضعيف السند قال: قال المسيح×: «خذوا الحقّ من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحقّ»([86]).

الرواية الرابعة: خبر السكوني الضعيف بالنوفلي، عن أبي عبد الله× عن آبائه ^، عن رسول الله$ قال: «غريبتان: كلمة حكمة من سفيه فاقبلوها، وكلمة سَفَهٍ من حكيم فاغفروها»([87]).

الرواية الخامسة: خبر زرارة، عن أبي جعفر×، قال: «قال المسيح×:.. خذوا العلم ممّن عنده، ولا تنظروا إلى عمله»([88]).

الرواية السادسة: خبر أبي بصير (وهو صحيح السند على بعض المباني الرجاليّة)، عن أبي جعفر× أو عن أبي عبد الله× قال: «لا تكذّبوا الحديث إذا أتاكم به مرجئ ولا قدريّ ولا حروري ينسبه إلينا، فإنّكم لا تدرون لعلّه شيء من الحقّ، فيكذّب الله فوق عرشه»([89]).

الرواية السابعة: خبر هشام بن سالم في بصائر الدرجات، قال: قلت لأبي عبد الله×: جعلت فداك، عند العامة من أحاديث رسول الله$ شيء يصحّ؟ قال: فقال: «نعم، إنّ رسول الله$ أنال وأنال وأنال، وعندنا معاقل العلم وفصل ما بين الناس»([90]).

فهذا يؤكّد وجود الصحيح عندهم، غايته أهل البيت هم الفصل بحسب الثبوت.

وبمضمون هذا الخبر أخبار أخرى تزيد عن ستة، تلتقي في نفس المضمون وتتقارب في التعبير، فراجع([91]).

الرواية الثامنة: قوله$: «اطلبوا العلم ولو في الصين»([92])، إذا اُخذ عنصر كفر أهل الصين بالاعتبار، لا ما إذا اعتبرت الصين إشارة إلى محض البُعد، والرواية ضعيفة السند جداً.

الرواية التاسعة: خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله×، أنّه سئل عن اليوم الذي يقضى من شهر رمضان، فقال: «لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر..»([93]).

يقول الميرداماد وهو بصدد تصحيح العمل بروايات غير الشيعي كالسكوني: «وتدلّ على قبول خبر العدل الواحد وإن كان عامّيّاً، صحيحةُ أبي بصير، عن الصادق× فيمن لم يصم يوم ثلاثين من شعبان، ثمّ قامت الشهادة على رؤية الهلال ـ وذكر الرواية المتقدّمة، ثم قال ـ: وجه الدلالة أنّ شهادة عدلين في باب الشهادة، كإخبار عدل واحد في باب الرواية على ما سيستبين لك إن شاء الله العزيز، فإذا كانت شهادة عدلين من جميع أهل الصلاة معتبرةً، فكذلك تكون رواية عدل واحد معتبرةً منهم جميعاً»([94]).

الرواية العاشرة: خبر عبد الله الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح، قال: سئل الشيخ ـ يعني أبا القاسم رضي الله عنه ـ عن كتب ابن أبي العزاقر بعدما ذمّ وخرجت فيه اللعنة، فقيل له: فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها مِلاء؟ فقال: أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما، وقد سُئل عن كتب بني فضال، فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها مِلاء؟ فقال صلوات الله عليه: «خذوا بما رووا وذروا ما رأوا»([95]).

وبنو فضال من الفطحيّة، والرواية لا تختص ـ بحسب الجواب الوارد فيها ـ بخصوص ما هو موجود في مصادر الإماميّة من أحاديث بني فضال.

الرواية الحادية عشرة: صحيحة عبد الله بن المغيرة، قال: قلت لأبي الحسن الرضا×: رجل طلّق امرأته وأشهد شاهدين ناصبيّين، قال: «كلّ من ولد على الفطرة وعُرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته»([96]).

فالرواية لم تأخذ في شهود الطلاق مسألة الاعتقاد، وإنما ربطت الأمر بالصلاح في النفس، رغم أنّ العدالة شرطٌ في الشاهد.

الرواية الثانية عشرة: صحيحة البزنطي، قال: سألت أبا الحسن× عن.. قلت: فإن أشهد رجلين ناصبيّين على الطلاق، أيكون طلاقاً؟ فقال: «من ولد على الفطرة أجيزت شهادته على الطلاق بعد أن يُعرف منه خير»([97]).

الرواية الثالثة عشرة: خبر سلمة بن كهيل، عن أمير المؤمنين×، أنّه قال: «واعلم أنّ المسلمين عدولٌ بعضهم على بعض، إلا مجلود في حدّ لم يتب منه، أو معروف بشهادة الزور، أو ظنّين»([98]).

الرواية الرابعة عشرة: صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد الله× قال: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً..»([99]).

فإنّ الضيوف عنوان مطلق، لاسيما في تلك الأزمنة حيث كان اختلاط المسلمين ببعضهم.

الرواية الخامسة عشرة: صحيحة عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله×: بِمَ تُعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تُقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: «أن تعرفوه بالستر والعفاف، وكفّ البطن واليد واللسان و.. (وعدّد جملةً من الواجبات والمحّرمات)»([100]).

وغيرها من الروايات التي عندما طرحت عدالة الشاهد أو غيره، وهو ممّن يحتجّ بخبره، لم تأتِ على ذكر مذهبه أو اعتقاده، وفي سياق تعريفها للعدالة لم تتعرّض لمثل هذا المفهوم إطلاقاً.

إلى غيرها من النصوص([101]) التي تركّز على المضمون، والوثاقة والسمة الخلقيّة، لا على الأشخاص من حيث الانتماء العقدي والمذهبي، ونحن وإن كنا نناقش سنداً أو دلالةً في أغلب هذه النصوص، لكنّنا أتينا بها هنا للاستئناس فقط، ولمزيد من إرباك الاستدلال بالمجموعة الحديثية السابقة الداعية للقطيعة المعرفيّة.

وبهذا، ونتيجة هذه المعطيات الصدورية والدلالية والعناصر المضعّفة، يظهر أنّ المانع الشرعي الروائيّ المباشر لم يثبت في المقام، خاصّةً على مسلك حجيّة الخبر الاطمئناني.

2 ـ 3 ـ 2 ـ المانع الشرعي القرآني العام

النوع الثاني من الموانع الشرعيّة هو المانع الشرعي القرآني العام، ويتمثل في كلماتهم في ثلاثة أدلّة، وهي:

الدليل الأوّل: إنّ الله قد حرّم الركون إلى الظالمين، فقد قال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ (هود: 113).

والرجوع إلى مصادر الحديث عند سائر المذاهب ركونٌ إلى الظالمين، فضلاً عن الرجوع إلى اجتهاداتهم وآرائهم في الرواة والروايات والفقه وغير ذلك.

وقد أجاب العلامة المامقاني هنا بأنّه لا ملازمة بين الاثنين([102]).

وما أفاده صحيح واضح؛ فإنّ الاستفادة من الآخرين لتحقيقِ أمرٍ ديني أو أخلاقي أو علمي ليس ركوناً، إنّما الركون هو نوعٌ من العلاقة معهم توجب الانتماء أو التبعيّة أو السكوت عن أفعالهم واللحاق بهم ووقف العمل بالدين من أجلهم ونحو ذلك، وأين هذا مما نحن فيه؟!

أضف إلى ذلك أنّه أوّل الكلام صدق عنوان الظالمين على كلّ الرواة وأصحاب الكتب الحديثيّة، فإنّ العنوان غير واضح الانطباق، ولو صحّ هذا الاستدلال للزم حرمة المتاجرة والمناكحة والتعامل مطلقاً معهم في كلّ أمور الحياة، وهو مقطوع البطلان عند كلّ المذاهب في حقّ المذهب الآخر.

كما أنّه لو صحّ تفسير الظلم بهذا المعنى العريض هنا، للزم النهي عن الاحتجاج بخبر الفاسق الثقة، مع أنّهم يلتزمون بإمكان الاحتجاج بخبره في قول كثيرٍ من العلماء، كما أنّ هذا يمنع عن القبول بروايات الشيعي الواردة في كتب السنّة ومصادرهم، وكذلك بروايات السنّي الواردة في كتب الشيعة ومصادرهم وغير ذلك من المذاهب، مع أنّ سيرتهم وإجماعهم عند كافّة المذاهب على العمل بذلك في الجملة، فكم من راوٍ شيعي أو قدري أو خارجي عملوا برواياته في كتب السنّة، وكم من راوٍ واقفي أو فطحي أو سنّي أو زيدي عملوا برواياته في كتب الشيعة كالسكوني وغياث بن كلوب وأبي الجارود وغيرهم.

الدليل الثاني: إنّ القرآن الكريم يقول: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ﴾ (السجدة: 18)، حيث يُعتبر المخالف في المذهب فاسقاً وغير مؤمن، ومن ثم فلا يستوي مع المؤمن، فكيف يساويه في الأخذ بخبره؟!

ولم يقبل العلامة المامقاني هنا بهذا الاستدلال معلّقاً بعبارة مختصرة([103]).

والحقّ معه؛ وذلك أنّه لو كان كذلك لزم التمييز بين كلّ مسلم وكلّ شيعي أو بين الشيعة والسنّة في كلّ شيء حتى لا يستوي أي أحد مع الآخر، وهذا تخصيص للأكثر واضح الفساد.

علماً أنّ الآية الكريمة ليست في هذا الصدد أصلاً، ولا بهدف وضع معطيات قانونية وفقهيّة، وما قبلها وما بعدها من آيات يؤكّد أنّ المراد هو أنّ المؤمن لا يكون جزاؤه كالفاسق، بل كلّ واحد يذهب إلى نهاية مختلفة عن الآخر، فلنلاحظ سياق الآيات لنجد ذلك بشكل واضح، ومن ثمّ فهي منصرفة تماماً عن مثل هذه الأمور هنا. قال تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ (السجدة: 13 ـ 22).

علماً أنّ هذا الاستدلال يلزم منه أيضاً عدم جواز العمل بخبر غير المنتمي للمذهب الحقّ ولو كانت رواياته في كتب هذا المذهب، وهو ما جرت سيرتهم على عكسه كما قلنا.

الدليل الثالث: الاستناد إلى النصوص القرآنية والحديثيّة الناهية عن العمل بالظنّ، وذلك بدعوى أنّه خرج منها المنتمي للمذهب الحقّ ـ كلّ حسب اعتقاده ـ ويبقى الباقي تحت عمومات النهي عن العمل بالظنون.

والجواب واضح؛ فإنّه ـ مضافاً إلى أنّ الرجوع إلى سائر المصادر أعمّ من تحصيل الظنّ والاطمئنان، ولو بضمّها إلى المصادر المذهبيّة ـ قد بحثنا في أدلّة حجيّة الظنّ الصدوري الخاصّ، وتبيّن أنّها عامّة تشمل مطلق الثقة أو الخبر الموثوق، وأنّه لا يوجد دليل فيها على التخصيص بخصوص المنتمي لمذهب معيّن، ومن ثمّ فالمخصّص بسعة تخصيصه يُخرجنا من العامّ هنا، وهذا واضح.

2 ـ 3 ـ 3 ـ المانع الشرعي الأصولي أو الفقهي

النوع الثالث من الموانع الشرعيّة هو ما نسمّيه بالمانع الشرعي الأصولي أو الفقهي، ويمكننا صياغة هذا المانع من عدّة جهات، ولا نقصد التمييز بين الفقه والقرآن والحديث، وإنما استخدمنا هذا المصطلح للذهاب خلف المعطيات الفقهيّة والأصوليّة التي تشكّل موانع، وإن كان خلفها ـ بطبيعة الحال ـ أدلّتها الخاصّة.

وأهم أشكال المانع الشرعي الفقهيّ أو الأصولي أو الحديثي هو:

الشكل الأوّل: المزاج الفقهي الإمامي العام تجاه غير الشيعي

أوّل الاشكال هو ما نعتبره مانعاً فقهيّاً يمكن التوصّل إليه عبر تتبّع الموقف الفقهيّ من الشخص غير الشيعي الإمامي، بوصف ذلك مقدّمةً لمعرفة أنّ مذاق الشارع هو عدم إعطائه مكانةً في الدين والدنيا. فمثلاً يذهب الفقه الإمامي إلى أنّه لا يصحّ أن يكون غير الشيعي ولياً وحاكماً للمسلمين، ولا مرجع تقليد، ولا قاضياً، ولا إمام جماعة، ولا يُعطى الخمس ولا الزكاة إلا بعنوان المؤلّفة قلوبهم ونحوه، ولا يكون شاهداً في أيّ قضيّة يوجد فيها شهادة في حقّ الشيعي، بل هو يجوز غيبته والوقيعة فيه وسبّه، وغير ذلك، فضلاً عن قول بعضهم بكونه كافراً في الواقع يتعامل معه معاملة المسلم في الدنيا تقيّةً أو لما يرجع لمصلحة الشيعي.

فتجميع هذه الموارد الجزئية يكوّن لدينا تصوّراً كلياً يقضي بأن الشارع لا يرغب في إعطاء غير الشيعي مكانةً ومنزلة في المجتمع الشيعي المتديّن، ومعه فكيف يمكن أن يكون محروماً من مثل هذه الأمور ثم نضع فقهنا وديننا بيده ونأخذ أخبار الرسول$ وأهل بيته منه؟!

وهذا المانع يمكن الجواب عنه بالآتي:

أوّلاً: لا ملازمة بين هذه الأحكام وبين جواز أخذ الروايات من غير الشيعي على تقدير وثاقته أو جواز الرجوع إلى علومهم لأخذ ما يثبت لدينا أنّه صحيح موافق لقواعد العقل والنقل. وقد ذهب الكثير من العلماء إلى الأخذ بروايات غير الشيعة مع الوثاقة، بل قد تقدّم إدعاء الطوسي الإجماع عليه مع التزامهم بهذه الفتاوى، دون أن يشعروا بأيّ حرج، فالموارد مختلفة، تماماً كما هي الحال في الكافر، حيث لا تجوز معه هذه الأمور أيضاً لكن يجوز الاستفادة من علومه وأفكاره ونقولاته وإخباراته ما دامت خاضعةً للمعايير كاليونانيّين.

بل لهذا لا يشترطون في أهل الخبرة التشيّع، رغم أنّ قوله قد يوجب إفطار الإنسان في شهر رمضان أو ترتيب آثار شرعيّة كثيرة مختلفة، واشتراط إيمان الشاهد أمرٌ آخر؛ لأنّ باب القضاء له أحكامه الخاصّة، والدليل أنّهم مجمعون على اشتراط التعدّد في البينة مع العدالة، وفي الوقت عينه لا يشرطون ـ إجماعاً تقريباً ـ التعدّد في خبر الثقة في باب الروايات، كما يذهب الكثيرون منهم إلى عدم اشتراط العدالة، فأدلّة الأبواب مختلفة، ولعلّ ذلك لخصوصيات ترجع إلى باب القضاء وحساسيّته وطبيعة عمله، وربما لهذا تجد أنّ الشهادات عند القاضي تختلف بين جريمة الزنا مثلاً وجريمة القتل، فالباب المعرفيّ شيء والباب العملي الميداني شيء آخر.

ثانياً: إنّ جملةً من هذه الموارد المذكورة لا دليل عليها سوى بعض الوجوه الضعيفة، ونحن لن نخوض فيها هنا، بل بحثنا بعضها في مكانه، فمثلاً لا دليل يذكر على شرط الإيمان في مرجع التقليد سوى روايات ضعيفة بعضها مما مرّ معنا في المانع الروائي المتقدّم، مضافاً إلى السيرة المتشرّعية التي مجال نقاشها واسع هنا، وهكذا الحال في القضاء، وقد كتبنا بحثاً مفصّلاً في نفي شرط الإيمان الخاصّ في مستحقّ الخمس والزكاة([104])، وكان لنا بحث آخر في نفي القول بشرعيّة غيبة المخالفين في المذهب، وأنّ الصحيح هو حرمة غيبة كلّ مسلم، كما أثبتنا في موضع آخر أنّ الدعاء والترحّم والاستغفار يثبت لجميع المسلمين بلا فرق بين مذاهبهم، وأثبتنا جواز تغسيل وتجهيز الميت من قبل أبناء المذاهب في حقّ بعضهم بعضاً([105]).

ونحن نعرف أنّه لا يُراد جعل الآخر ذا نفوذ وهيمنة في المجتمع الشيعيّ، لكنّ هذا شيءٌ والاستفادة من علومه وأخباره وخبراته شيء آخر، لهذا لا تمانع الدول من الاستفادة من عقول وأدمغة رعايا الدول الأخرى، لكنّها لا تسمح لهم بأن يكونوا نافذين وقادةً لدولها. وهذا تماماً مثل مطبعة لشخصٍ غير شيعي تطبع الكتب الشيعيّة، فهي طريق لمعرفة الكتب، وكتبُ الحديث هنا طريق لمعرفة الروايات.

ثالثاً: إنّ أكثر هذه الأحكام ثابت في حق المرأة فقهيّاً عند المشهور، كعدم جواز كونها إماماً للمسلمين ولا الجماعة ولا المرجعيّة ولا القضاء وأكثر موارد الشهادات، ومع ذلك لم يلتزم أحد بعدم حجيّة رواياتها أو عدم الرجوع إلى علومها وخبراتها، فإذا كان هذا دليلاً لزم على الآخذ به أن يقول بسقوط حجيّة أخبار النساء الثقات أيضاً، وهو واضح الضعف ولم يقل به أحد، وهذا إشكال نقضي عليه.

الشكل الثاني: اشتهار اشتراط سلامة العقيدة في الأخذ بخبر الراوي

ثاني أشكال الاستناد إلى معطيات الموروث الفقهي والأصولي والحديثي، هو الاستناد إلى دعوى شهرة اشتراط الإيمان بالمصطلح المذهبي ـ أي الاثني عشريّة ـ في الراوي؛ فقد ادّعى الشيخ حسن بن الشهيد الثاني في كتاب المعالم أنّ المشهور بين الأصحاب اشتراط الإيمان([106])، وتبعه في ادّعاء الشهرة غيره([107])، فتكون هذه الشهرة حجّةً حينئذٍ وعائقاً أمام الأخذ بخبر كلّ راوٍ غير إماميّ.

وربما تؤيّد هذه الشهرة بنصوص العديد من العلماء أو سلوكيّاتهم في التعامل مع أحاديث غير الإماميّ، بل قد يُدّعى أنّ السيرة المتشرّعية قامت على ذلك أيضاً في القرون الثلاثة الهجريّة الأولى؛ إذ لم نجدهم يرجعون لكتب وحديث سائر المذاهب الإسلاميّة.

وهذا الأمر لا يختصّ بالشيعة، بل يطال العديد من علماء أهل السنّة، فالمعروف بين علماء أهل السنّة والحديث النقاش في إمكانيّة قبول قول غير السنّي من فرق الخوارج ومتطرّفي الشيعة والقدريّة والجبريّة والمرجئة وغير ذلك بحسب تصنيف المحدّثين وفقاً لعقيدتهم، ويُطلقون على هذه الفرق اسم أهل الأهواء تارةً وأهل البدع أو المبتدعة أخرى، فبعضهم قبل قوله مطلقاً، وبعضهم رفض قوله مطلقاً، وبعضهم كان له تفصيل، وهذا كلّه يشهد على أنّ المزاج العام ـ متشرّعياً وفقهائيّاً وعلى مستوى المشتغلين بالحديث منذ القرون الأولى ـ هو مزاج متحفّظ، ومن ثمّ يشكّل عائقاً متبادلاً بين أطراف التنازع المذهبي عن الرجوع للحديث الشريف في سائر المصادر غير المذهبيّة.

إلا أنّه يمكن التوقّف عند هذا الشكل من العوائق التاريخيّة/الفقهيّة، وذلك:

أوّلاً: سلّمنا بانعقاد هذه الشهرة بين الفقهاء والأصوليّين والمحدّثين والرجاليّين، لكنها ليست حجّةً، خاصّةً تلك الشهرة التي تنعقد خارج مدرسة الإماميّة، أعني خارج إطار عصر النصّ عندهم، والذي ينتهي بوفاة الرسول الأكرم، لاسيما وأنّ هذا الأمر من الأمور النظريّة الاجتهاديّة.

ولعلّ بل المعطيات تؤكّد أنّ مدركهم في ذلك:

أ ـ إما تقصير المخالف للحقّ في العقيدة أو كفره ولو كفر تأويل، مما يمنع عن عدالته على مسلك أخذ العقيدة قيداً في مفهوم العدالة الذي افترضوا أنّه مأخوذ في آية النبأ، ومع بطلان المدركين السابقين، لا يمكن الاعتماد على مثل هذه الشهرة المدركيّة.

ب ـ أو الروايات التي تقدّمت سابقاً، وقد تبيّن عدم إمكان الاعتماد عليها.

ج ـ أو المزاج الفقهي العام بشكله الأوّل السالف الذكر، وقد تبيّن أنّه لا ينهض لتشكيل معيق حقيقي هنا.

د ـ أو المستندات القرآنية التي ذكرها بعضهم وناقشناها.

هـ ـ أو الخوف من الحاجة لأهل المذاهب الأخرى أو نفوذ أفكارهم، كما رأيناه في بعض الروايات المنسوبة لأهل البيت، وكما هو المنقول ـ في المقابل ـ عن زائدة بن قدامة الثقفي (161هـ)([108]).

وهذا الخوف مجرّد قلق، وإلا فكما نرجع لكتب التاريخ واللغة والتفسير وغيرها عند مختلف المذاهب، ثم نناقشها ونفنّدها ولا يكون خوف، فلماذا هذا الخوف هنا ما دمنا نعتمد منهجاً علميّاً ونقديّاً سنديّاً ومتنياً، يؤصّل لرؤية واضحة، وليس الأمر حركةً شعبيّة جماهيرية قد يُخشى منها هنا وهناك؟! فنحن نتحدّث في سياق نُخب متمرّسة تعيش خبرويّة الحديث وقادرة على ممارسة النقد الداخلي والخارجي فيه، سواء جاء في مصادرها أم في مصادر غيرها.

وعليه، فلعلّهم استندوا إلى شيء من هذا كلّه أو إلى مجموعه، فشكّل لهم قناعةً بالتحفّظ عن الرجوع لمصادر الآخرين من غير مذهبهم، فيكون إجماعهم أو شهرتهم قائمين على المستندات الاجتهاديّة التي من حقّنا الفحص عنها والنقاش فيها.

وبعبارة أخرى: إنّ غاية ما يستفاد هنا هو أنّ المشهور من العلماء ذهبوا ـ بحسب اجتهاداتهم ـ إلى الوصول إلى هذه النتيجة، لكنّ اجتهاداتهم ليست ملزمةً لنا وإن كنّا نحترمهم جميعاً، إلا عندما يقدّمون لنا مستنداتهم في هذا الاجتهاد، لننظر فيها، ولعلّنا لا نقتنع بتلك المستندات، كما رأينا فيما سبق، وقولهم ولو اشتهر بينهم في فترةٍ زمنية معيّنة ليس ملزماً لنا تعبّداً.

بل حتى التفكيك الذي مارسوه بين حديث المخالف في المذهب مما هو موجودٌ في مصادرهم وحديثه في غير مصادرهم، هذا التفكيك يمكن أن يكونوا قد انطلقوا فيه ـ رغم اعتقادنا أنّ فيه قدراً من الازدواجيّة الأوليّة([109]) ـ من أزمة الوثوق والثقة، لا من أساسٍ شرعي وديني عام وملزم، أي من عدم تحقّق الصغرى عندهم، لا من تحقّق الكبرى المانعة، بمعنى أنّ السني الذي كانت له خلطة بالشيعة كانوا لمعرفتهم به يثقون به، بل قد يلحقونه بهم، كما نجد أنّ النجاشي مثلاً يذكر بعض من هم من غير الشيعة ويترجمهم؛ لخلطتهم بالشيعة وتصنيفهم في قضاياهم، وهكذا الحال في الشيعي الذي تكون له خلطة بالسنّة بحيث يعرفونه فيحصل لهم في بعض الأحيان وثوق أو ثقة به، أمّا في غير هذه الحالات، وبسبب القطيعة التواصليّة فيما بينهم، وصيرورة كلّ واحد منهم منفصلاً عن الآخر، وبسبب الصراعات المذهبيّة والطائفيّة وطبيعة الجفاء الذي ساعدت عليه السلطات السياسيّة، فإنّهم يحصل لهم هذا الارتياب العام، فيفضّلون عدم الرجوع إليهم والاكتفاء بما عندهم والاستغناء به، وهذا مبرّر تاريخي لهم، لكنّه ليس أساساً دينيّاً، بمعنى أنّه لو حصل لشخص اليوم وثوق أو إحراز وثاقة بعض المخالفين له في المذهب من الرواة والمحدّثين، فلا يكون ما حصل مع السابقين ملزماً له شرعاً أو عقلاً، بل هي تجربتهم التاريخيّة ولسنا ملزمين بها قانوناً، غاية ما في الأمر أنّها تدفعنا نحو الحذر والتريّث في القبول بحديث الآخرين، لا أنّها تُلزمنا شرعاً وقانوناً بذلك، وفرقٌ كبير بين الأمرين.

هذا، وقد قلنا سابقاً بأنّ عملهم جميعاً تقريباً بروايات غير أهل مذهبهم التي في كتبهم، شاهد على أنّهم ما كانوا يؤمنون بكلّ تلك الأدلّة التي تقدّمت معنا، إذ لا فرق فيها بين كون رواية المخالف في المذهب في كتب هذا الفريق أو ذاك.

بل يمكن أن نتخطّى فكرة اشتهار شرط الإيمان بالمعنى الخاص في الراوي، سواء أخذ الإيمان مستبطناً في العدالة أم لا، ونقول: إنّنا نشكّك في أخذهم الاعتقاد شرطاً في العدالة، إلا على نظريّتي التقصير والكفر السالفتين أو على فرضيّة الحرام الواقعي؛ لأنّ الذي يراجع تعريفات وكلمات الفقهاء والأصوليّين الشيعة ـ وقد استعرضنا بعضها مطلع المحور السابق ـ لا يجد أيّ إشارة إطلاقاً لأخذ الإيمان في العدالة، وعليه فإذا اُبطلت نظريّة الكفر، والتقصير، والعصيان الواقعي، فلا نحرز أنّ الفقهاء الشيعة يأخذون الإيمان في العدالة، حيث لم يذكروا ذلك في نصوصهم وأبحاثهم حولها، ومعه فإذا أبطلنا هذه النظريّات الثلاث السابقة ـ إضافةً إلى إبطال المستندات الخاصّة المتقدّمة آنفاً في هذا المحور ـ لم يعد هناك شيء يُستند إليه في كلمات المشهور.

بل إذا قمنا بجولة سريعة في بعض الروايات الأساسيّة في باب العدالة والشهادة، سنجدها لا تحكي بتاتاً عن موضوع الاعتقاد بوصفه شرطاً أو قيداً فيها، وقد ذكرنا بعضها فيما تقدّم فليراجع ما نقلناه عند الحديث عن الروايات المعارضة التي استأنسنا بها في مقابل روايات القطيعة المعرفيّة، خاصّةً الروايات رقم (11، 12، 13، 14، 15)، فلا نعيد.

ثانياً: إنّنا نشكّك في أصل انعقاد هذه الشهرة الغالبة:

أ ـ أمّا عند الشيعة الإماميّة، فقد وجدنا الطائفة الشيعيّة الإماميّة تعمل منذ قديم الأيام بأخبار الرواة الشيعة والسنّة بمذاهبهما، وتُدرجها في مختلف مصنّفاتها الحديثية، ولو حذفنا أخبار الرواة غير الإماميّة، مما كان في السند فيه ولو شخصٌ واحد غير إمامي، لحذفنا في الحدّ الأدنى ثلاثة أرباع الروايات الموجودة بين أيدينا، أو نصفها، فكيف اهتمّ الشيعة بجمع هذه الروايات كلّها واستخدموها في أبحاثهم الفقهيّة وغيرها، والحال أنّهم يمنعون عن الأخذ بخبر غير الإماميّ بوصفه قانوناً دينيّاً مطلقاً؟!

إنّ هذه الظاهرة تشكّكنا بدعوى اشتهار شرط الإيمان في الراوي؛ فسيرة الشيعة على العكس من ذلك تماماً، بل نصّ الشيخ الطوسي (460هـ) المتقدّم واضح في التدليل على عمل الطائفة بروايات أهل السنّة مثل أخبار حفص بن غياث والسكوني وغياث بن كلوب وغيرهم، فعدم الإيمان ليس عندهم مانعاً من الأخذ بالرواية.

بل حتى التجربة الرجاليّة الإماميّة شاهدٌ واضح على اعتمادهم في بعض الأحيان على غيرهم، فالطوسي اعتمد على كتاب رجال الصادق لابن عقدة الزيدي، في تأليفه لرجاله كما ذكر هو نفسه، فجعله أساساً وأضاف إليه ما رآه([110])، وهكذا اعتمدوا في تقويمات الرجال على الفطحيّة كبني فضّال، كما يظهر من الكتب الرجاليّة الإماميّة بوضوح، فمثل هذه الحال في إقدام عالم شيعي إمامي كبير كالطوسي على اعتماد مصنّف ضخم لابن عقدة الزيدي في مسألة الرجال وطبقاتهم وما يتصل بهم وبهذا الحجم الكبير شاهدٌ على أنّهم ما كانت لديهم مواقف مسبقة تمنع عن الأخذ باجتهادات وإخبارات غير الإمامي، فلماذا لا يحقّ لنا اليوم ـ لو اقتنعنا في موضعٍ ما ـ أن نقوم بخطوات شبيهة بمثل هذه الخطوة من الطوسي والمتقدّمين؟!

ولعلّ تجربة السيد البروجردي في القرن العشرين مفتاح جيّد للقيام بخطوة من هذا النوع في العصر الحاضر، فقد نقل عنه الشيخ المنتظري والسيد محمد رضا الجلالي أنّه كان من سيرته التي استقرّ عليها أنّه في بحوثه ودروسه يستحضر فقه وروايات الفريقين، وأنّ ذلك كان سنّةَ المتقدّمين من العلماء([111]). فلماذا لا يمكن البناء على مثل هذه التجارب بدل ادّعاء وجود شهرة عكسيّة، فالمعطيات لصالح الانفتاح على التراث الحديثي ولو في الجملة ومن حيث المبدأ، لا في صالح الانغلاق التام.

هذا مضافاً إلى وجود كلمات متفرّقة هنا وهناك، نجد من خلالها ما يشير إلى دعوةٍ هنا أو قبولٍ هناك، بمبدأ إمكانيّة الرجوع إلى الحديث عند سائر المذاهب([112]). بل في بعض الموارد طبّق بعض الفقهاء قاعدة الجبر السندي على رواياتٍ غير شيعيّة بعد فرض أنّها ضعيفة السند وفق المعايير الشيعيّة، كما فعل السيد علي الطباطبائي (1231هـ)، والميرزا فتاح الشهيدي (1372هـ)، الأمر الذي رفضه المحقّق النجفي (1266هـ)، ناسباً عدم جريان قاعدة الجبر في أخبار أهل السنّة إلى طريقة الأصحاب وظاهرهم([113])، والأمر عينه حصل بين ابن الجنيد الذي نُسب إليه الإفتاء أخذاً بظاهر رواية غير شيعيّة، فيما رفض ذلك منه الشهيد الثاني([114]).

ويظهر من المحدّث البحراني أنّ العلامة الحلي ومن تبعه، كان مسلكهم العمل أحياناً بروايات غير شيعيّة، حيث يقول البحراني ما نصّه ـ معلّقاً على العلامة الحلي ـ: «أما ما احتجّ به من الرواية فلا تقوم بها حجّة في هذا المجال، وإن اشتهر نقلها في كتب الاستدلال، حيث إنّها عامية، والعجب منه ـ رحمه الله ـ وممن تبعه في ذلك، حيث إنهم كثيراً ما يطعنون في الأحاديث الصحيحة ويردّونها لمخالفتها ما اصطلحوا عليه من هذا الاصطلاح الجديد، ويعتمدون هنا في أصل الحكم على رواية عامية، ويفرّعون عليها فروعاً، ويرتّبون عليها أحكاماً، والحال كما ترى»([115]).

ويقول الميرزا فتاح الشهيدي التبريزي (1372هـ) في حاشيته المشهورة على المكاسب بأنّ «الرواية إذا كانت موثوقاً بها، ولم تكن مشتملةً على تشييد أهل البدعة والضلالة، لا بأس بالعمل بها، فإنّهم عملوا بأردأ منها من حيث الراوي..»([116]).

ويستخدم الشيخ ناصر مكارم الشيرازي روايةً غير شيعيّة للتأييد في البحث الفقهي في مباحث الحدود والتعزيرات([117]).

يضاف إلى هذا كلّه، أنّ المُلفت أنّنا لم نسمع ادّعاء الشهرة هنا إلا من الشيخ حسن العاملي المتوفّى بدايات القرن الحادي عشر الهجري (1011هـ)، نعم لا نرتاب في أنّ فكرة التمييز بين الشيعي وغيره في الروايات كانت موجودة منذ ابن إدريس، وكذلك أنصار مدرسة العلامة الحلّي، كما أنّ فكرة المفاضلة بين روايات الشيعي وغيره وتقديمها على روايات غيره عند التعارض، موجودة منذ قديم الأيّام، كما يظهر من نصّ الطوسي نفسه، إلا أنّ ادّعاء الشهرة في الاشتراط المطلق مشكل، وتفصيل هذا الأمر موكول إلى ما بحثناه في كتابنا (نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي).

ب ـ وأمّا عند جمهور أهل السنّة، ففي تقديري إنّ الأمر أوضح؛ إذ لا يوجد إجماع ولا شهرة، بل القبول بأخبارهم هو الرأي السائد، غاية الأمر أنّه قد وضعت شروط.

ويحدّثنا هذا النصّ للخطيب البغدادي عن الاتجاهات التي كانت سائدة بين علماء أهل السنّة في هذا الموضوع حتى زمانه، حيث يقول: «اختلف أهل العلم في سماع من أهل البدع والأهواء كالقدريّة والخوارج والرافضة، وفي احتجاج بما يروونه، فمنعت طائفة من السلف صحّة ذلك؛ لعلّة أنّهم كفّار عند من ذهب إلى إكفار المتأوّلين، وفسّاق عند من لم يحكم بكفر متأوّل، وممّن (لا) يروى عنه ذلك مالك بن أنس. وقال من ذهب إلى هذا المذهب: إنّ الكافر والفاسق بالتأويل بمثابة الكافر المعاند والفاسق العامد، فيجب أن لا يُقبل خبرهما ولا تثبت روايتهما. وذهبت طائفة من أهل العلم إلى قبول أخبار أهل الأهواء الذين لا يعرفون منهم استحلال الكذب والشهادة لمن وافقهم بما ليس عندهم فيه شهادة، وممن قال بهذا القول من الفقهاء أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، فإنه قال: وتُقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطّابية من الرافضة؛ لأنّهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم، وحكى أنّ هذا مذهب ابن أبي ليلى وسفيان الثوري، وروى مثله عن أبي يوسف القاضي. وقال كثير من العلماء: يُقبل أخبار غير الدعاة من أهل الأهواء، فأما الدعاة فلا يحتجّ بأخبارهم، وممّن ذهب إلى ذلك أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل. وقال جماعة من أهل النقل والمتكلّمين: أخبار أهل الأهواء كلّها مقبولة، وإن كانوا كفّاراً وفسّاقاً بالتأويل»([118]).

وهكذا نجد أنّ جمهوراً من العلماء لم تكن لديه مشكلة في أصل الأخذ من المخالف في المذهب، وإنّما كانوا يضعون القيود لأجل ضمان النقل الصحيح أو نحو ذلك، فمثلاً يشرط بعضهم أن لا يكون ممّن يستحلّ الكذب، وهذا شرطٌ معقول؛ لأنّ استحلال الكذب لنصرة مذهبه أو لغيره معناه أنّ احتمال كذبه كبير رغم تديّنه، وكذلك الداعية إلى البدعة أو الرأس فيها فإنّه من الممكن فيه أن يكون واضعاً للحديث انتصاراً لبدعته التي يدعو لها بخلاف سائر الرواة الذين ينقلون الحديث ولا يكونون أعلاماً دعاةً إلى بدعتهم مثلاً([119]).

وهذا كلّه يؤشر أنّ هناك تيارات كبيرة لم تمانع من الأخذ بحديث المختلف في المذهب، وبالإمكان مراجعة الخطيب البغدادي في الفصل اللاحق على كلامه هذا، حيث قام بسرد بعض المواقف لكبار العلماء من أهل السنّة ممن يقبل برواية المبتدع([120]). ولا نريد أن نطيل هنا في استعراض المواقف والنصوص، فمراجعة بعض الكتب العمدة في علوم الأصول ومصطلح الحديث ترشد لذلك بشكل واضح.

بل إنّ واقع كتب الحديث عند أهل السنّة ـ بما فيها صحيح البخاري وصحيح مسلم ـ يشهد على أنّ بعض الرواة كانوا من المذكورين بالتشيّع تارةً وبالانتماء للخوارج ثانية، وغير ذلك، ولهذا نجد الخطيب البغدادي عندما يريد أن يسرد حجّة القائلين بجواز الاعتماد على خبر أهل الأهواء يقول: «والذي يعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم ما اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم ومن جرى مجراهم من الفسّاق بالتأويل، ثم استمرار عمل التابعين والمخالفين بعدهم على ذلك؛ لما رأوا من تحرّيهم الصدق وتعظيمهم الكذب وحفظهم أنفسهم عن المحظوارت من الأفعال وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم ويتعلّق بها مخالفوهم في الاحتجاج، فاحتجّوا برواية عمران بن حطان وهو من الخوارج، وعمرو بن دينار وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيّع، وكان عكرمة إباضيّاً، وابن أبي نجيح وكان معتزليّاً، وعبد الوارث بن سعيد وشبل بن عباد وسيف بن سليمان وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وسلام بن مسكين، وكانوا قدريّة، وعلقمة بن مرثد وعمرو بن مرة ومسعر بن كدام وكانوا مرجئة، وعبيد الله بن موسى وخالد بن مخلد وعبد الرزاق بن همام وكانوا يذهبون إلى التشيّع، خلق كثير يتسع ذكرهم، دوّن أهل العلم قديماً وحديثاً رواياتهم واحتجّوا بأخبارهم فصار ذلك كالإجماع منهم، وهو أكبر الحجج في هذا الباب، وبه يقوى الظنّ في مقاربة الصواب»([121]).

ولهذا ينقل الخطيب البغدادي بسنده عن علي بن المديني أنّه «لو تركتُ أهل البصرة لحال القدر، ولو تركت أهل الكوفة لذلك الرأي، يعني التشيّع، خربت الكتب. قوله: خربت الكتب، يعني لذهب الحديث»([122]).

ويذكر الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب فيقول: «أبان بن تغلب الكوفي، شيعي جلد، لكنّه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي، وقال: كان غالياً في التشيّع. وقال السعدي: زائغ مجاهر. فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحدّ الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟ وجوابه أنّ البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلوّ التشيع، أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق. فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبويّة، وهذه مفسدة بيّنة. ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلوّ فيه، والحطّ على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتجّ بهم ولا كرامة([123]). وأيضاً فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتقيّة والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله! حاشا وكلا. فالشيعيّ الغالي في زمان السلف وعُرفهم هو من تكلّم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممّن حارب علياً رضي الله عنه، وتعرّض لسبّهم. والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفّر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضالّ معثر، ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلاً، بل قد يعتقد عليّاً أفضل منهما»([124]).

نعم يوجد فريق لا يُستهان به بين علماء أهل السنّة ومتقدّميهم يرى التشدّد في الأخذ عن غير السنّي، خاصّةً الشيعي، كما هو المعروف من مذهب زائدة بن قدامة الثقفي (161هـ)([125]).

يقول ابن قدامة المقدسي: «فالفسوق نوعان: أحدهما من حيث الأفعال، فلا نعلم خلافاً في ردّ شهادته. والثاني من جهة الاعتقاد، وهو اعتقاد البدعة، فيوجب ردّ الشهادة أيضاً، وبه قال مالك وشريك وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور، وقال شريك: أربعة لا تجوز شهادتهم: رافضي يزعم أنّ له إماماً مفترضة طاعته، وخارجيّ يزعم أنّ الدنيا دار حرق، وقدري يزعم أنّ المشيئة إليه، ومرجئ. وردّ شهادة يعقوب، وقال: ألا أردّ شهادة من يزعم أنّ الصلاة ليست من الإيمان؟ وقال أبو حامد من أصحاب الشافعي: المختلفون على ثلاثة أضرب: ضرب اختلفوا في الفروع، فهؤلاء لا يفسّقون بذلك، ولا تردّ شهادتهم، وقد اختلف الصحابة في الفروع، ومن بعدهم من التابعين. الثاني من نفسّقه ولا نكفّره، وهو من سبّ القرابة كالخوارج أو سبّ الصحابة كالروافض، فلا تقبل لهم شهادة لذلك. الثالث من نكفّره، وهو من قال بخلق القرآن ونفي الرؤية. وأضاف المشيئة إلى نفسه فلا تقبل له شهادة، وذكر القاضي أبو يعلى مثل هذا سواء قال: وقال أحمد: ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدريّة لمعلنة. وظاهر قول الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي حنيفة وأصحابه قبول شهادة أهل الأهواء، وأجاز سوار شهادة ناس من بني العنبر ممن يرى الاعتزال، قال الشافعي: إلا أن يكونوا ممن يرى الشهادة بالكذب بعضهم لبعض كالخطّابية، وهم أصحاب أبي الخطاب يشهد بعضهم لبعض بتصديقه، ووجه قول من أجاز شهادتهم أنّه اختلاف لم يخرجهم عن الإسلام أشبه الاختلاف في الفروع، ولأنّ فسقهم لا يدلّ على كذبهم؛ لكونهم ذهبوا إلى ذلك تديّناً واعتقاداً أنّه الحقّ ولم يرتكبوه عالمين بتحريمه بخلاف فسق الأفعال»([126]).

والنتيجة التي نخرج بها أنّه من غير المعلوم أن يكون هناك إجماع أو شهرة على ردّ رواية المختلف في المذهب، بل طبيعة مناقشاتهم تدلّ على اعتمادهم على المعطيات التي سبق أن ناقشناها، وغالباً ما تكون تحفظاتهم ـ سنّة وشيعة ـ ناتجة عن مواقف مذهبيّة، فيما نريد نحن هنا شيئاً يتصل بمعايير علميّة واضحة تسمح بإخراج رواية غير المنتمي لما تعتقده أنت المذهب الحقّ عن الحجيّة لو تحقّقت فيه الشروط من العدالة والوثاقة، فضلاً عن حالة انضمام إخبارات مجموعة بعضها على المذهب الحقّ دون بعض، في الإخبار بأمرٍ معيّن مما يفيد الوثوق به، ففي تقديري القضية في مواقفهم كانت ناتجة عن اجتهادات شخصيّة ميدانيّة غالباً، وليس عن قوانين عقلية أو نصوص دينيّة، ومن ثم فلسنا ملزمين باجتهاداتهم هذه بعد أن ناقشنا المستندات.

الشكل الثالث: المقاطعة الاجتماعيّة لأبناء المذاهب الأخرى

تتّجه الثقافة الفقهيّة والحديثية إلى القول بضرورة الحذر في التعامل مع الآخر المذهبي في الحياة الاجتماعيّة والسياسية، ففي أدبيّات أهل السنّة الكثير الكثير من التحذير من الخلطة والتواصل والمداهنة لأهل البدع والأهواء والزنادقة والفرق المنحرفة، والدعوة للشدّة والغلظة معهم، وليس هنا مجال نقلها فإنّها كثيرة، وفي ثقافة أهل البيت وفق الفقه الإمامي والمنقول الحديثي رفضٌ للفرق الأخرى، وذمٌّ لأنصارها، والتجريح بهم ولعنهم والتحذير منهم، والدعوة حتى لترك مجالستهم كما ورد في حقّ مثل المرجئة([127])، وعدم أخذ الدين إلا من الثقات المأمونين من الشيعة، فهذه الثقافة تعارض الأخذ من غير أبناء المذهب الواحد في أمر الروايات، بحيث يقول كلّ فريق: كيف نسلّم لهم برواياتنا ونأخذ منهم ونثق بهم فيها، ونحن مطالبون بضرب من الحذر والقطيعة الاجتماعيّة والعلائقيّة معهم وسوء الظنّ بهم؟!

والحقيقة: إنّ هذا الكلام فيه خلطٌ بين التحذير من التواصل مع هؤلاء خوف التأثر بأفكارهم والانحراف العقائدي معهم، أو خوف زوال الخصوصيّة والهويّة المذهبيّة، وبين تصديقهم إذا كانوا ثقاتاً في إخباراتهم، فهذان موضوعان مختلفان.

والذي يظهر بمراجعة الروايات والنصوص أنّ أئمّة أهل البيت النبوي كانوا أحياناً يحذّرون من باب عدم التأثر بأفكارهم، لا من باب الوثاقة أو مطلق القطيعة وأمثال هذه المفاهيم، فلم تذكر النصوص ولم يُفت الفقهاء يوماً ـ كما هو المشهور بين المذاهب كلّها تقريباً ـ بحرمة إجراء المعاملات معهم، ولا السلام عليهم، ولا زيارتهم، ولا أمثال ذلك، وإنّما قيّدوه بخوف الفتنة، بل الروايات الأكثر والأقوى سنداً عن أهل البيت تحثّ على التواصل معهم، وحضور جنائزهم والصلاة معهم في مساجدهم، وغير ذلك مما هو كثيرٌ، لا نطيل به هنا.

نعم، إذا روى هؤلاء روايات فيها منافع عقائديّة لهم، فقد تسقط رواياتهم عن الاعتبار من وجهة نظر المختلف معهم في المذهب، لا لأنهم مخالفين في المذهب، بل لانخفاض قوّة الاحتمال نتيجة وجود داعي الكذب كما بحثناه فيما سبق، فلا يوجد دليل معتبر على تركهم مطلقاً وهجرهم إلا لخوف الفتنة أو زوال الهويّة أو من باب إنكار المنكر، بل بعض الروايات جاء فيه الأخذ برواياتهم ولو كانوا من غير الإماميّة، كما في الخبر المتقدّم الوارد في روايات بني فضال، ولو كان هذا الأمر صحيحاً وبنينا على شهرة عمل الشيعة بأخبار الآحاد الظنّية فإنّ سيرة المتشرّعة قائمة على تناقل روايات غير الشيعة الإماميّة، وهذا بنفسه دليلٌ قطعي معارض لبعض الروايات الدالّة على ترك التعاطي معهم مطلقاً، الأمر الذي يفرض إمّا فهماً تاريخيّاً لها أو كونها جاءت في سياق الحماية والتحذير وأخذ الحيطة وعدم الاغترار وغير ذلك من المفاهيم التي نتفّهم أخذ جميع المذاهب لها، لكنّها لا تعني القطيعة المطلقة بما فيها القطيعة التي ترجع للأخذ بالأخبار من باب الوثوق أو الوثاقة أو العدالة.

بل لو صحّ هذا التفسير ببُعده الإطلاقي في القطيعة الاجتماعيّة وغيرها هنا، للزم عدم إمكان الرجوع إلى كتب اللغة والنحو والصرف والمعاجم وكتب التاريخ والتفسير والسيرة، وكلّ أشكال الرجوع لما هو غير إمامي! ولا أظنّ أحداً يقول بذلك.

والنتيجة التي يمكن الخروج بها أنّه لم يقم دليل خاصّ لا في الكتاب الكريم ولا في السنّة الشريفة ولا في التراث الفقهي المذهبي لا بطريقة مباشرة ولا غير مباشرة كزاوية العدالة، على شرط المذهبيّة (الاثني عشريّة أو التسنّن أو غير ذلك) في الراوي؛ فالصحيح ما ذهب إليه مشهور علماء المسلمين ـ على مستوى النظريّة ـ من لزوم كون الراوي ثقةً مأموناً، حتى لو لم يكن متّفقاً معي أو معك في المذهب والعقيدة الخاصّة، وهذا معناه القبول برواية المختلف في المذهب ولو في الجملة وضمن شروط.

فلا المانع الروائي ولا المانع الفقهي يصلحان عائقاً حقيقياً عن الرجوع إلى غير الإمامي بالنسبة للإمامي، وغير السنّي بالنسبة للسنّي.. في العلم والفكر والرواية مع تحقّق الشروط، نعم لابد من التدقيق والنقد والتمحيص وعدم حصول ذوبان في الآخر ـ فيما أراه مخطئاً فيه ـ بطريقة غير علميّة، ولعلّ هذا هو ما أرادته النصوص من التحذيرات السابقة.

2 ـ 4 ـ الموانع التطبيقيّة الميدانيّة

آخر الموانع التي أعتقد أنّها من الموانع الأساسيّة في العلاقات الحديثية بين المذاهب هو الإشكاليّات الميدانية في كتب الحديث المذهبي من وجهة نظر المذاهب الأخرى، ويمكن تلخيص أهم هذه الإشكاليّات التي تثار بين المذاهب على الشكل التالي:

1 ـ أزمة الدسّ والتزوير والتحريف والاختلاق في الكتب الحديثيّة، وهذه تهمة وجّهها الجميع تقريباً ضدّ الجميع.

2 ـ أزمة مناهج النقد الحديثي والرجالي عند الفرق كلّها، فكلّ فريق يرى أنّ مناهج الفريق الآخر غير مجدية ولا بالموثوق بها، بينما يرى مناهج محدّثيه ممتازة وقويّة ومتينة ومتقدّمة خطوات على مناهج غيره.

3 ـ إشكاليّة العنعنة في تراث بعض المذاهب مثل الشيعة، حيث اتخذت بمثابة دليل على عدم الوثوق بكتبهم الحديثيّة.

4 ـ إشكاليّة التعارض واختلاف الأخبار الموجودة في كتب هذا الفريق وذاك خاصّة الإماميّة، فقد اعتبرت شاهداً على ضعف حديثهم، ومن ثم عدم إمكان الرجوع إليه نتيجة ذلك.

5 ـ أزمة الانحراف العقائدي لدى المحدّثين، فكلّ شخص يقول عن محدّثي الفريق الآخر بأنّه منحرف عقائديّاً وغير مأمون على الدين من حيث تحكيمه لعقائده.

6 ـ الضعف المتني في الأحاديث، حيث يرى كلّ فريق أنّ حديث الفريق الآخر يعاني من أشكال كبيرة من ضعف المتن وتناقض رواياته مع القرآن والسنّة القطعيّة والعقل وحقائق التاريخ ومنطق الأشياء.

7 ـ مشكلة التعصّب والانحياز الطائفي والمذهبي، وقد أشرنا لبعضه عند الحديث عن حاجز الثقة العام.

8 ـ أزمة التوثيق، بمعنى كيف للشيعي أن يوثق كبار أئمّة الحديث السنّة وأئمّة الرجال السنّة، ولا توثيق لهم في كتب الحديث والرجال الشيعيّة؟! وكيف للسنّي أن يوثّق كبار أئمّة الحديث الشيعة أو كبار أئمّة الجرح والتعديل عندهم، وهم لا توثيق لهم على الإطلاق في كتب الرجال والحديث والتراجم السنيّة؟!

9 ـ كثرة وجود الضعفاء في كتب الحديث، وهذا إشكال سجّله السنّة على الشيعة وسجّله الشيعة على السنّة، فقال الطرفان بأنّ الكثير من كبار المحدّثين، بل أئمّة الحديث والجرح والتعديل وردت فيهم طعونٌ عدّة([128])، وأنّ الوضّاعين كثروا في كتب الحديث المذهبي الآخر، ومن ثم لا يمكن الوثوق بحديث سائر المذاهب الإسلاميّة؛ لكثرة الوضاعين عندهم، ومن كبار الرواة الواقعين في الطرق والأسانيد، كيف وبعض كبار رواتهم كانوا من جماعات الدولة الأمويّة كالزهري وغيره، ومن النواصب والخوارج([129])، كما يقول بعض الإماميّة، أو من الغلاة الخارجين عن جادّة الصدق كما يقول بعض أهل السنّة.

وعليه، فحتى لو كانت المعطيات النظريّة ومقتضيات القواعد العامّة وأدلّة الحجيّة في باب الرواية والخبر، لا تميّز بين مذهبٍ وآخر في حجيّة الحديث ما دام شرط العدالة أو الوثوق أو الوثاقة موجوداً، إلا أنّ الحواجز الميدانيّة هي التي تعيق إمكانيّة الرجوع إلى مصادر الحديث المختلف في المذهب.

مثلاً يذكر العلامة الأميني (1970م) في المجلّد الخامس من الغدير، بحثاً مطوّلاً للحديث عن الوضع والموضوعات والوضاعين في مصادر أهل السنّة راداً على بعض أهل السنّة ـ مثل عبد الله القصيمي ـ الذين اتهموا بدورهم الشيعة بالوضع، وقد جمع الأميني انطلاقاً من كلمات علماء رجال أهل السنّة 702 كذاباً عندهم، وقدّم فهرساً بـ35 وضاعاً تبلغ مجموع أحاديثهم الموضوعة والمقلوبة 98683 حديثاً، بل ذكر بعض أسماء علماء أهل السنّة ممّن اتهموا بالكذب([130]).

وعلى المنوال عينه، تأتي أعمال الشيخ محمد حسن المظفر (1375هـ) حيث قدّم لنا تجربتين فيهما قدر كبير من التكرار:

إحداها ما جاء في كتابه الشهير (دلائل الصدق لنهج الحقّ)، حيث أورد أسماء علماء ورجال كبار سنّة طعن عليهم، وسجّل أسماء 366 راوياً عندهم وصفوا بالكذابين([131]) وقد طبعت هذه التجربة عينها في القاهرة في كتاب مستقلّ حمل عنوان (رجال السنّة).

أمّا التجربة الثانية، فكانت كتاب (الإفصاح عن أحوال رواة الصحاح) الذي نشرته مؤسّسة آل البيت في أربعة مجلّدات، جمع فيه من طُعن فيهم من الرواة، كما تعرّض فيه لمن ضعّفوه لأنّه روى فضائل أهل البيت.

إلى غيرها من كتب في هذا المجال.

وفي هذا السياق، يظهر حجم الروايات الموضوعة والرجال الوضّاعين في كتب أهل السنّة، ويكفي أبو هريرة الذي كتب عنه السيّد عبد الحسين شرف الدين للتدليل على ذلك، إذ لديه أكثر من خمسة آلاف رواية لوحده، ومعه فكيف يمكن لعاقل أن يعتمد على هذه الكتب وهذا هو حالها؟!

وهكذا الحال على المقلب الآخر؛ فالسنّة يعتقدون بأنّ الشيعة بيت الكذب([132])، وأنهم كذبوا حتى على مستوى اختلاق كتاب الكافي برمّته ونسبته إلى الكليني؛ وكذلك الزيادة لآلاف الروايات على كتاب التهذيب للشيخ الطوسي وهكذا.

مداخلات وتعليقات على الموانع التطبيقيّة الميدانيّة

لابدّ لنا هنا من بعض الوقفات، لكن من الضروري أن نعرف أنّ أغلب هذه المشاكل الميدانية قد بحثناها بالتفصيل في كتابنا: (المدخل إلى موسوعة الحديث النبوي عند الإماميّة)([133])، حيث درسنا مجمل هذه الملاحظات وتفاصيلها بما لا يمكن تكراره هنا؛ إذ بلغ مئات الصفحات، وقد تعرّضنا لمختلف الاتجاهات في تقويم الحديث النبوي عند المذاهب، وناقشنا الكثير من إشكاليّات الشيعة على الحديث السنّي وإشكاليات السنّة على الحديث الشيعي، وتوصّلنا إلى ما أطلقنا عليه (الاعتبار الإجمالي للحديث غير المذهبي).

وقد رأينا هناك في تحرّينا ـ وبالأرقام والشواهد ـ أنّ أغلب إن لم يكن جميع الإشكاليّات التي يوجّهها كلّ فريقٍ مذهبي إلى حديث الفريق الآخر يعاني هو منها في مكانٍ ما من حديثه، ولكنّه يمتلك تخريجات لحلّ المشكلة التي واجهها هو في حديثه المذهبي، فيما يرفض تطبيق تلك المخارج على الحديث غير المذهبي، وهذا نوع من الازدواجية غير الموضوعيّة التي رأيناها.

لكننّا هنا سنتوقّف قليلاً عند بعض الملاحظات التي قد لا نكون قد ذكرناها أو بعضَ جوانبها في ذلك الكتاب، أو نشير إليها هنا بوصفها عناوين عامّة باختصار شديد، ومن أراد التفصيل فليراجع هناك.

وعلى أيّة حال، فهذه الموانع التطبيقية يمكن التعليق عليها بتعليقات سريعة أبرزها:

التعليق الأوّل: إنّ النظريات التي تعطي الحجيّة لقول الرجالي يمكن فرض مصداق لها في علم الرجال غير المذهبي، فمثلاً على نظريّة الخبروية أو مطلق الظنّ أو الاطمئنان النوعي والشخصي أو على نظريّة خبر الثقة أو العدالة (كما بيّنا سابقاً) أو غيرها، لا يوجد مانع يمنع عن الرجوع إلى توثيقات وتضعيفات ومعطيات علماء المذاهب الأخرى فيما يقدّمونه، وقد تعرّضنا في بحوثنا الرجاليّة لمشكلة الفساد العقدي في بعض الرجاليّين مثل ابن عقدة الزيدي وابن فضال بالنسبة للإماميّة، وأجبنا وغيرنا عن تلك الملاحظة هناك.

لكن توجد مشكلة واحدة بسيطة، وهي أنّه كيف نوثق أئمّة الفقه والأصول والتاريخ والحديث والرجال عند المذاهب الأخرى؟ إنّنا لا نجد لهم توثيقاً في علم الرجال المذهبي فكيف نفتح هذا الباب الأوّل الأهم في هذا المجال؟

الجواب الذي نراه هنا هو ما طرحناه في مباحثنا الرجاليّة عند الحديث عن إثبات الوثاقة والعدالة بالشهرة والاستفاضة، حيث قلنا هناك بأنّ شهرة وثاقة عالم من العلماء وعدالته ونزاهته وتقواه وتديّنه وورعه، بين أبناء طائفته كافٍ لأبناء الطوائف الأخرى الذين لا اطّلاع لهم على أحوال هذه الطائفة وخصوصيّاتها من الداخل، فتوثيق الشيخ الكليني لا يحتاج أن يثبت في مصادر أهل السنّة، وتوثيق الشيخ البخاري لا يحتاج أن يثبت في مصادر الشيعة، فكلّ أمّةٍ من الناس أعرف برجالها ورموزها، فإذا أطبقت ـ واشتهر بينها، بلا معارض عندها ولا عند غيرها، ولا كاشف عن الخطأ في هذا الإطباق ـ على وثاقة شخص من كبار رموزها، كفى في التوثيق، نعم لو ثبت المعارض أمكن التفصيل في المسألة.

وهذا الذي ندّعيه أمرٌ عقلائي، فأنت عندما تذهب إلى قرية أو مدينة، وترى اشتهار الحديث عن كرم شخصٍ من الأشخاص، بحيث يبدو أمراً منتشراً، ولا يظهر لك مبرّرٌ عكسي لهذه الشهرة ولا معارض أو مخطّئ، ففي هذه الحال ترى أنّ هذا الشخص كريم، وهكذا لو دخلت مسجدهم فوجدت المئات يصلّون خلفه، وأنت تعلم أنّهم يطلبون عدالة الإمام في العادة، ففي هذه الحال حتى لو لم تتأكّد من عدالتهم هم فرداً فرداً، فإنّ منطق الاحتمال يشير إلى الاطمئنان بوثاقة هذا الشخص في العادة، ما لم يبرز بعد الفحص اللازم معارض أو معطى عكسي تماماً، فهذه سبل عقلائيّة معرفية متداولة.

وهذا تماماً كاشتهار شخص بالخبرويّة في قريته في مجال معين، فلا يحتاج أن يكون شهد لك شخص من أبناء قريتك أو تكون قد أحرزت وثاقة أبناء قريته، بل تكفي حالة الشياع في قريته ما لم يظهر معارض فيها أو في قريتك أو يظهر لك خطأ منشأ هذا الشياع، وهذا أمر عقلائي واضح، ليس يمكن أن يواجهه إلا أزمة الثقة التي تحدّثنا عنها سابقاً.

وبعد تحقيق هذا المدخل الأساس([134])، يرجع الشيعي ولو لبعض رجاليّي السنّة وبالعكس مثلاً، فيطبّق عليهم ما يطبّقه على أيّ عالم رجالي.

نعم، لو ثبت له خطؤهم في التوثيق أو التضعيف أو استنادهم إلى نظريّة غير ثابتة عنده في توثيقٍ هنا أو تضعيف هناك، مثل نظريّة عدالة الصحابة بالنسبة للإمامي، فمن حقّه رفض التوثيق، وهكذا لو ضعّفوا على أساس فهمهم لروايات الراوي واتّهامه بالتشيّع وكان الإمامي لا يرى أنّ هذه الروايات موجبةً للطعن في هذا الراوي، فمن حقّه رفض هذا الطعن وتخطئة الرجاليّين السنّة فيه([135])، وهكذا.

ومرجع ذلك كلّه إلى أنّ حجيّة قول الرجالي تسقط عند العلم بخطئه أو تهاوي الظنّ بصحّة قوله على جميع المسالك في حجيّة قول الرجالي تقريباً، وهذا تطبيقٌ من تطبيقاته.

ولو فرضنا أنّ باب التوثيقات والتضعيفات تكثر فيه المشاكل المتناقضة على مستوى النظريّات التي ينطلق منها الرجاليّون من المذاهب، والأصول الموضوعة التي يعتمدون عليها، فإنّ علم الرجال لا يقف عند هذا الحدّ، بل هو يتصل بالتعريف باسم الراوي واسم والده وجدّه وكُنيته ولقبه وانتسابه المناطقي والعشائري والقبلي، وبعض المعلومات عن حياته، وكذلك تاريخ ولادته ووفاته، وأسماء كتبه ومصنّفاته، وطبيعة عمله ومهنته، ومن روى عنهم ورووا عنه والكثير من المعلومات الأخرى التي لا تدخل في إطار الاختلاف في الأصول الموضوعة للتوثيق والتضعيف عند المذاهب، وهذا لا أظنّ أنّه يوجد مبرّر لتجاهلها من قبل أحد بحجّة التمايز المذهبي.

يشار أيضاً إلى أنّ الرواة المشتركين الواردين في مصادر الشيعة والسنّة، ليسوا قلّة، بل عددهم معتدّ به، وقد صدر عن (دفتر تبليغات) في إيران مؤخّراً كتاب (راويان مشترك پژوهشی در بازشناسی راویان مشترک شیعه واهل سنت)، لمجموعة مؤلّفين هم: حسین عزیزي، وپرویز رستگار، ویوسف بیات، وقامت بنشره مؤسّسة بوستان كتاب، في مدينة قم، وقد صدر منه باللغة الفارسيّة ثلاثة مجلّدات، اشتملت على 523 راوياً، مرتبين على الترتيب الألفبائي، وأوّلهم أبان بن تغلب، وآخرهم يونس بن يعقوب.

التعليق الثاني: لم أفهم وجه التمييز الدقيق في الأداء المذهبي تجاه تراث المذاهب الأخرى، فالشيعة مثلاً يرجعون عندما يريدون ممارسة بحث تاريخي إلى كتب التاريخ بلا فرق في مؤلّفيها بين الشيعة والسنّة، وهذه سيرتهم منذ قديم الأيام إلى يومنا هذا، وهكذا عندما يريدون دراسة مسألة فلسفية أو كلاميّة أو لغوية أو معجميّة أو نحوية أو صرفيّة أو بلاغية أو تفسيرية أو عرفانية أو قرآنية أو غير ذلك، ليس يتجاهلون في الغالب تراث المذاهب الأخرى، لاسيما المذاهب الكبرى السائدة، بل حتى في كتب الفقه والأصول استمرّت هذه الحال حتى القرن الحادي عشر الهجري حيث بدأت بالانحسار، ولهذا نجد بحوثاً أصولية شيعيّة على متون سنيّة كمختصر ابن الحاجب، لكنّ الغريب أنّه عندما نصل اليوم إلى الحديث والرجال والفقه والأصول، تظهر هذه القطيعة تماماً! فلا يشعر الباحث الفقهيّ أو الأصولي أنّه معنيّ أساساً بالذهاب خلف التراث الأصولي أو الفقهي للمدارس الإسلاميّة الأخرى، لا لكي يقلّدها، بل لكي ينظر فيها ويثري معلوماته ويناقش ويحلّل كما يفعل في تراثه بنفسه!

كيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ هل تجد مفسّراً شيعيّاً لا يرجع إلى تفسيرَي الطبري والفخر الرازي؟ ألم يضع العلامة الطباطبائي تفسيرَي الرازي والمنار أمامه، وهو يقوم بتدوين تفسيره الوزين؟ وهل تجد مؤرّخاً شيعياً لا يرجع إلى مقدّمة ابن خلدون أو تاريخ الطبري؟ وهل تجد فيلسوفاً أو باحثاً فلسفيّاً شيعياً أو سنياً لا يرجع إلى ابن سينا أو الفارابي أو بهمنيار أو حتى غير المسلمين مثل أرسطو وأفلاطون وغيرهم، فلا يرى بُداً من الرجوع إليهم لاستكمال بحثه وإنضاجه، ولا يشعر بأيّ حرج في هذا المجال ولا بأيّ خوف على الهويّة؟ فلماذا عندما نصل إلى كتب الحديث والفقه يظهر الحظر أو القطيعة؟ هل السنّي في علوم اللغة يمكن أن نرجع إليه لننظر في تراثه ونستفيد منه فيما لا نرى عنده فيه من خطأ، وهناك يكون صادقاً وخبيراً، أمّا في كتب الحديث فلا؟ ما هو السبب الموضوعي العلمي في هذا الأمر غير أزمة الثقة العامّة التي تمثل تراكمات الصراع المذهبي لا أنّه توجد خصوصية علميّة في الموضوع؟

ولعلّه لهذا نجد المحقّق القزويني يورد نقضاً على الذين يُشكلون على علم الرجال بأنّه يرجع إلى المصادر الرجاليّة غير الإمامية كابن فضال الفطحي وابن عقدة الزيدي بالقول بأنّهم يرجعون لكتب أهل اللغة بفروعها، وغالب مصنّفيها من غير الإماميّة([136])، مع أنّ الانحيازات المذهبيّة لم تبتعد أحياناً عن كتب اللغة ونتائجها أيضاً كما يعرف المختصّون.

التعليق الثالث: إنّ ما نتحدّث عنه هنا هو رفض إصدار حكم مسبق على التراث الحديثي للمذاهب الأخرى، أمّا لو أنّ شخصاً إماميّاً ذهب وبحث في كلّ كتب الحديث السنيّة مثلاً، وتوصّل إلى وجود خلل مشترك فيها يؤثر في كلّ قيمتها التاريخيّة، وقدّم شواهد على ذلك، أو قام بهذا الفعل في حقّ كتاب البخاري أو مسلم أو غيرهما، فهذا خارج عن إطارنا تماماً، فنحن نقرّ له بما توصّل إليه ونقبل منه موقفه، حتى لو اختلفنا معه في المعطيات التي قدّمها ولم نوافقه في نتيجته لكنّنا نحترم جهده.

وهذا معناه أنّه يوجد فرقٌ عظيم بين إصدار حكمٍ مسبق على التراث الحديثي للمذاهب الأخرى، وبين أن يقوم الباحثون في كلّ مذهب بدراسة مصادر الحديث الأخرى في سائر المذاهب، كما يدرسون مصادرهم، ويحقّقون فيها وفي نُسَخها، وفي إثبات نسبتها لأصحابها، وفي مناهج مؤلّفيها، وفي مشاكلها الداخليّة والخارجية، ثم يقولون ما يقولون، فهذا مثل أن يبحث الإمامي في التفسير المنسوب لعليّ بن إبراهيم القمي، ويرى أنّه لا قيمة لنُسخة التفسير المتداولة اليوم بين أيدينا ـ كما هو الصحيح، وفقاً لما بحثناه مفصّلاً في علم الرجال ـ فهذا شيء طبيعي.

لكنّ هذا معناه أنّه يلزم على جميع المذاهب أن يدرسوا دائماً مصادر الحديث الإسلاميّة الأخرى بموضوعية وتجرّد، لينظروا فيها، كما يدرسون دائماً مصادر حديثهم، وليخرجوا بما يريدون بعد ذلك، أما أن يغلقوا باب البحث فيها أو يبحث فيها شخص أو شخصان، كما هي الحال عند الإماميّة بالنسبة لكتب السنّة، حيث يوجد بعض الأشخاص المهتمّين بهذا الموضوع([137])، ولا يشكّلون الواحد في العشرة آلاف من المتخصّصين بالحديث والرجال والفقه، بحيث لا نجد عند الإماميّة درساً قائماً ثابتاً في تحقيق التراث الحديثي السنّي كما هي الحال في دراسة الحديث الإمامي، بل يتخذون موقفاً مسبقاً، ثم لو دخلوا الموضوع فيكون دخولهم متفرّعاً على هذا الحكم المسبق وليس سابقاً عليه.. إنّ هذا كلّه هو الذي لا نفهم مبرّراً له.

والمشهد على المقلب السنّي أشدّ وأقسى، في تجاهل الحديث الإمامي والإباضي والزيدي والإسماعيليّ، وكأنّه لا وجود له في تاريخ المسلمين، وإذا اُريد له أن يُدرس فيُدرس بعد الحكم المسبق عليه سلباً، لا أنّه يُدرس لكي نخرج بنتائج في الحكم عليه سلباً أو إيجاباً!

من هنا، نحن نطالب بأن تكون دراسة مصادر الحديث والرجال عند كافّة المذاهب مادةً أساسيّة في جميع المعاهد الدينية عند المسلمين قاطبة، لتُدرس المصادر الحديثية دراسة موضوعيّة محايدة، يتمّ التعامل فيها بطريقة مهنيّة وأكاديميّة عالية، قبل صدور الأحكام عليها، وتظل مادّةً ثابتة يدرسها كلّ متخصّص، لا أنّه يبحث شخصٌ أو شخصان فيها، ثم يتّكل المذهب كلّه على أحكامهم، فيما لا يفعلون ذلك مع مصادرهم المذهبيّة الداخليّة!

التعليق الرابع: إنّ عدد الضعفاء يختلف حسب اختلاف النظريات، وطريقة الأميني والمظفر وأمثالهما قامت على جمع كلّ من كان هناك نصّ لعالم سنّي رجالي في تضعيفه، ولو كان هذا العالم السنّي مثل الذهبي المتأخّر زمناً جداً، ونحن إذا طبقنا هذه الطريقة في الوسط الشيعي وجمعنا الضعفاء في كتب الشيعة آخذين بعين الاعتبار مباني مثل العلامة الحلي وابن داود والجزائري و.. لوصلنا لأرقام كبيرة أيضاً، فالضعفاء أو المذمومين أو المتروكين عند ابن داود بلغ عددهم 565 راوياً، وعند العلامة الحلي 509 رواة، وعند الجزائري (1021هـ)، 1168راوياً، وعند محمد طه نجف (1277هـ) 541 راوياً، وعند الغضائري 159 راوياً، بل قد استدرك السيد الجلالي على النسخة المطبوعة اليوم لرجال الغضائري، مما نُقل عن الغضائري في الكتب الأخرى، فبلغ ضعفاء الغضائري معه 225 راوياً وهكذا.

بل قد قام الشيخ حسين الساعدي مؤخراً، تحت إشراف مؤسّسة دار الحديث، بطباعة كتاب من ثلاثة مجلّدات تحت عنوان: الضعفاء من رجال الحديث، جمع فيه كل من جرى حديثٌ عن تضعيفه فبلغت موسوعته 407 رواة.

إذن، فالفارق بين السنّة والشيعة في عدد الضعفاء، ليس بالفارق الهائل الخيالي حتى يتهم السنّي الشيعة بضعف رواتهم عندهم، أو يتهم الشيعي السنّي بضعف رواته عنده، لاسيما وأنّ عدد الرواة في كتب الشيعة لا يقل عن عشرة آلاف راوٍ فالضعيف لا يزيد عن العُشر لو بلغنا به ما بلغنا، كما أنّ الرواة في كتب السنّة أزيد من ذلك بكثير، فالحال هي الحال نفسها.

إذن، فيجب أن ننظر بشموليّة لهذه الظاهرة، أي ظاهرة الوضّاعين والضعفاء وعند الطرفين معاً، ثم نحكم بعدها بما نريد أن نحكم به.

التعليق الخامس: إنّ بعض رجال أهل السنّة ـ وكذا الشيعة ـ قد يضعّفون راوياً، لكن ليس من الضروري أن ينسب تضعيفه للطائفة كلّها، لكثرة وجود اختلاف في تضعيف بعض الرجال، مثل محمد بن سنان وسهل بن زياد و.. وهذا معناه أنه لا يصحّ أن نحكم بضعف هذا الراوي عند الشيعة أو السنّة بمجرّد أن يكون أحد علماء الرجال ـ لاسيما المتأخّرين ـ قد ضعّفه، وقد كانت بعض الأسماء في تجربة الأميني والمظفر والساعدي من هذا النوع.

التعليق السادس: لقد كتب السنّة والشيعة في الضعفاء، بل كتب السنّة أكثر من الشيعة، فعلى الصعيد السنّي كان هناك كتاب الضعفاء الصغير للبخاري (256هـ)، والضعفاء والمتروكين للنسائي (303هـ)، والضعفاء الكبير للعقيلي (322هـ)، والمجروحين من المحدّثين لابن حبان البستي (354هـ)، وتاريخ أسماء الضعفاء والكذابين لأبي حفص ابن شاهين (385هـ)، والضعفاء والمتروكين للدارقطني (385هـ)، والكامل في الضعفاء لابن عدي (365هـ)، والضعفاء لأبي نعيم الإصفهاني (435هـ)، والضعفاء والمتروكين لأبي الفرج ابن الجوزي (597هـ)، والمغني في الضعفاء للذهبي (748هـ)، والكشف الحثيث عمّن رمي بوضع الحديث لبرهان الدين الطرابلسي الحلبي المعروف بسبط العجمي (841هـ)، وغيرها من الكتب.

وأما على الصعيد الشيعي الإمامي، فكان هناك كتاب الضعفاء للغضائري، والقسم الثاني من كتاب الممدوحين والمذمومين لأبي علي الكوفي (346هـ)، وكذلك الممدوحين والمذمومين لأبي الحسن القمي (368هـ)، وأيضاً لأبي جعفر الكرخي، والجزء الثاني الخاصّ بالمجروحين والمجهولين لابن داود الحلي (704هـ)، والقسم الثاني من الخلاصة للعلامة الحلي (726هـ)، والقسم الرابع من حاوي الأقوال للجزائري (1021هـ)، والقسم الثالث من إتقان المقال لمحمد طه نجف (1277هـ)، ومعرفة الحديث للبهبودي المعاصر الذي خصّص فيه قسماً كاملاً للضعفاء ذكر فيه 150 رجلاً، والضعفاء من رجال الحديث للشيخ حسين الساعدي المعاصر وغير ذلك.

وبناءً عليه، فإذا كان علماء الطرفين وجهابذتهم، متنبّهين بنسبةٍ ما إلى الضعفاء، وقد صنّفوا فيهم بكلّ جرأة وبسالة وشفافية ووضوح، وكشفوا الكثير من الضعفاء، إذاً فلماذا نهوّل عليهم بوجود ضعفاء عندهم، بدل أن يزيد ذلك اطمئناناً بوجود سعي لتصفية الحديث على الدوام؟!

ولا ندّعي صحّة كلّ الأحاديث الباقية، لكنّ تضعيف كلّ فريق لمئات من رواة الفريق نفسه دليلٌ واضح على التنبّه لهذا الموضوع وكشف الوضّاعين، وهذا ـ مبدئيّاً ـ من علامات الوثوق لا عدم الوثوق.

التعليق السابع: لقد صنّف السنّة كثيراً في علم موضوعات الحديث على خلاف الحال إماميّاً، فقد ألّفوا كتاب: الموضوعات للمقدسي (507هـ)، والموضوعات لابن الجوزي (597هـ)، والدرّ الملتقط في تبيين الغلط للصاغاني (650هـ)، والموضوعات لابن تيمية الحراني (728هـ)، والمنار المنيف لابن قيم (751هـ)، واللئالي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة لجلال الدين السيوطي (911هـ)، وتنزيه الشريعة لابن عراق (963هـ)، والموضوعات الكبير للملا علي القاري (1014هـ)، وله أيضاً المصنوع في معرفة الحديث الموضوع، و..

ولم يصنّف الشيعة الإماميّة مستقلاً في هذا العلم، ولعلّ أهمّ كتابين لهما جاءا في القرن العشرين، وهما كتاب الأخبار الدخيلة للمحقّق التستري (1405هـ)، والموضوعات في الآثار والأخبار للسيد هاشم معروف الحسني (1403هـ)، ويبدو أنّ هناك مشروعاً ضخماً في هذا الإطار سيقوم به مركز دار الحديث في قم قريباً كما سمعنا.

وعليه، فمهما اختلفنا مع هذا أو ذاك في تقويم الموضوع، وبعضهم جعل الحديث الضعيف السند موضوعاً وهو خطأ، إلا أنّ هذا يدلّ على وجود حسّ نقدي في هذا المجال، ويؤكّد سعيَ السنّة والشيعة لتصفية الحديث، مما يزيد الوثوق في الجملة ولا يضعّفه.

التعليق الثامن: إنّ رقم 98683 حديثاً من صنع 35 وضاعاً كما يذكر العلامة الأميني رقم موهم جداً؛ إذ يتصوّر أنّ هذا العدد من الأحاديث موجودٌ الآن في مصادر أهل السنّة، في حين ليس المراد ذلك، بل كلّ ما في الأمر أنّ هؤلاء الرواة نُقل تاريخياً أنهم وضعوا هذا العدد، ولا يعني ذلك وجود هذا العدد من الروايات لهم في مصادر الحديث اليوم، تماماً كما يقال: إنّ فلاناً جمع كتابه من أصل 600000 حديث، لكنّ الستمائة ألف هذه لم تعد موجودة اليوم، فلا ينبغي أن يؤخذ الإنسان بمثل هذه الأرقام فيُفهم مراد العلامة الأميني خطأ.

التعليق التاسع: إنّ عندي ملاحظة على دعوى الأميني والمظفّر وغيرهما أنّ علماء الرجال السنّة ضعّفوا بعضهم بعضاً، وهي أنّني وجدت أنّ أكثر المعلومات حول نصوص التضعيف قد أتوا بها من كلمات كلّ من الذهبي (748هـ)، وابن حجر (852هـ)، وهي نصوص متأخّرة جداً، لا أنها موجودة في مصادر هؤلاء الرجاليّين أنفسهم، بل تفصلهم عنهم أربعمائة سنة وأقلّ أو أكثر، فكيف نعرف صحّة هذه المنقولات؟!

نعم، نحن لا نشكّ في وجود جدل حول عدد محدود من علماء الرجال السنّة، لهذا نحن لا نأخذ بمن كانت هذه حاله كائناً من كان، لكن نظراً لكثرة عدد علماء الرجال السنّة الذين وصلتنا مؤلّفاتهم في القرون الخمسة الهجرية الأولى، فإنّ تضعيف عدد قليل منهم لا يضرّ، كما أنّ تضعيف النجاشي لأبي جعفر الكرخي أحد الرجاليّين الشيعة المفقود كتابه لا يضرّ أيضاً، وكذلك إسقاط بعض علماء الشيعة ـ كالسيّد الخوئي ـ لنسخة كتاب الغضائري، أو عدم قولهم بحجيّة قول المتأخّرين وهم يعدّون بالعشرات.

ويزداد الأمر وضوحاً عندما نعرف أنّ متأخّري السنّة بعد القرن الخامس الهجري أغلب كلامهم نقلٌ عمّن سبقهم وتحليلٌ وحدس واجتهاد تقريباً في حقّ الرواة الأوائل، ومعه فإذا كانت حجيّة قول الرجالي من باب أهل الخبرة أو الظنّ أو الاطمئنان أو الوثاقة فأيّ فرق بين السنّي والشيعي إلا من وقع فيه كلام بخصوصه؟!

علماً أنّ نصوص علماء الشيعة في حقّ بعضهم ليست هيّنةً أبداً، ولك مراجعة نصوص المرتضى والمفيد والنجاشي من باب المثال، بل هناك نصوص لبعض العلماء من الإماميّة تحدّثنا عنها في بحوثنا الرجاليّة تعدّ في غاية القسوة في حقّ الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق والشيخ الكليني، ولنترك هذا الموضوع ونطوي عنه كشحاً فلا داعي للإطالة.

نظريّة المظفر في حجيّة روايات أهل السنّة، مداخلة عابرة

ذهب الشيخ محمّد حسن المظفر في (دلائل الصدق) إلى سقوط حجيّة روايات أهل السنّة؛ لكثرة الوضّاعين ولتضعيف بعضهم بعضاً، وقد تقدّم الحديث في هذا الموضوع. لكنّ النقطة الأخرى في نظريّته هي قوله بحجيّة روايات أهل السنّة الواردة في فضائل أهل البيت حجيّةً حقيقيّة، لا من باب إلزام الخصم، والسبب أنّ مدح أهل البيت كانت عقوبته الموت، فمن يروي إذاً فهو مضحٍّ لا يُحتمل في حقّه الكذب.

يقول المظفر: «إنّ عامّة أخبارهم التي نستدلّ بها عليهم حجّة عليهم؛ لأمرين: [الأمر] الأوّل: إنّها إمّا صحيحة السند عندهم، أو متعدّدة الطرق بينهم؛ والتعدّد يوجب الوثوق والاعتبار، كما ستعرفه في طيّ مباحث الكتاب. الأمر الثاني: إنّها ممّا يقطع عادةً بصحّتها؛ لأنّ كلّ رواية لهم في مناقب أهل البيت ومثالب أعدائهم، محكومة بوثاقة رجال سندها وصدقهم في تلك الرواية وإن لم يكونوا ثقاتاً في أنفسهم، ضرورة أنّ من جملة ما تُعرف به وثاقة الرجل وصدقه في روايته التي يرويها: عدم اغتراره بالجاه والمال، وعدم مبالاته في سبيلها بالخطر الواقع عليه، فإنّ غير الصادق لا يتحمّل المضارّ بأنواعها لأجل كذبة يكذبها لا يعود عليه فيها نفع، ولا يجد في سبيلها إلَّا الضرر. ومن المعلوم أنّ من يروي في تلك العصور السالفة فضيلة لأمير المؤمنين عليه السّلام أو منقصة لأعدائه فقد غرّر بنفسه، وجلب البلاء إليه، كما هو واضح لكلّ ذي أذن وعين»([138]).

ونحن نقبل ـ من حيث المبدأ ـ مثل هذا التحليل، لكنّنا نورد عليه بأنّ نظريّته ليست بجامعةٍ ولا مانعة:

أ ـ أما أنّها ليست بجامعة؛ فلأنّه إذا كان هذا هو المعيار، وهو ظهور علائم الصدق، فهو لا يختصّ بروايات فضائل أهل البيت؛ إذ الروايات التي تنادي بالثورة على الحاكم أو عدم التعاون مع النظام الفاسد، فيها هذا الشقّ أيضاً، وكذلك العديد من الروايات التي فيها هذه الخاصّية، فلماذا اختار المظفر شيئاً واحداً وترك سائر الأقسام؟ أليس رواية روايات في قدم القرآن ـ بصرف النظر عن المعارض ـ في عصر حكم المعتزلة فيه ذلك، والعكس صحيح في ظرف حكم الحنابلة؟!

ب ـ وأما عدم المانعيّة؛ فلأنّه كما صحّ لأهل البيت وأنصارهم في فترة انهيار الحكم الأموي وصعود العباسيّين أن يرووا آلاف الروايات؛ فلماذا في هذه الفترة لا يصحّ لأيّ كاذب أن يروي في الفضائل مع عدم وجود بُعد التضحية المذكور؟!

يُضاف إليه فترة الحكم البويهي (321 ـ 447هـ) التي ظهرت فيها كتب سنّيةٌ كثيرة في الحديث، فإنّ رواية فضائل أهل البيت فيها موجبٌ للمدح لا للعقاب، وكذلك ظهرت في العصر العباسي وهو عصر تدوين الحديث والموسوعات الكبرى عند أهل السنّة، عدّة دول شيعيّة مهمّة لم تكن تمارس قمعاً على من يروي في فضائل أهل البيت، مثل الدولة الحمدانيّة (317 ـ 399هـ)، والدولة الفاطميّة (358 ـ 567هـ) وغيرها، على أنّ رواية فضائل علي في العصر العباسي لم يكن فيها عقوبة إذا ضمّ لها الراوي فضائل سائر الصحابة، وهذه كتب الحديث السنّية ـ بما فيها الصحيحان ـ زاخرة بمدح أهل البيت، وقد اُلّفت في العصر العباسي، ولم يتعرّض أصحابها لمضايقات تُذكر، فلم يحصل مع سائر العلماء ما حصل مع الإمام النسائي مثلاً.

فنظريّة الشيخ المظفر صحيحة من حيث المبدأ، غير أنّها ليست جامعةً ولا مانعة، ولا شك في أنّ وجود روايات المدح لأهل البيت في مصادر أهل السنّة موجبٌ لتقوية الوثوق بها نوعاً ـ على تفصيل ـ كما لا يخفى، لكن إذا كان هؤلاء يضحّون لأجل الرواية في مدح أهل البيت ألا يوجب ذلك نوع مدحٍ لهم أو شيئاً من هذا القبيل، ومن ثم يمكن ـ ولو في الجملة ـ الاستفادة من سائر رواياتهم في غير هذا المجال؟!

نتائج البحث في المصادر الحديثية غير المذهبيّة

والنتيجة: إنّنا بعد أن كانت العبرة بالوثوق أو الوثاقة، لا العدالة ولا شرط الإيمان، لم نرَ فرقاً في لزوم الرجوع بين مصادر الحديث عند المسلمين جميعاً، مع اعتقادنا بوجود تفاضل بينها كما هو واضح، وبضرورة ممارسة نقد داخلي فيها بشكل متوازٍ.

من هنا دعونا ـ وما نزال ـ إلى تأسيس موسوعة حديثيّة إسلاميّة عامة تكون مرجعاً حديثيّاً لكافّة المسلمين، ودعونا ـ وما نزال ـ لموسوعة رجاليّة إسلاميةّ عامّة كذلك، وكذلك أيّدنا طرح العلامة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في العمل على فقهٍ إسلامي عام، كما هي عادة القدماء، يجمع بين العموميّة ويحترم لكلّ فقيهٍ ما عنده من الهويّة المذهبيّة.

والذي يبدو أنّ سيرة علماء الإماميّة وأمثالهم قد انعقدت على هذا التواصل، لهذا تجدهم يرجعون في علم التفسير والتاريخ واللغة والنحو والصرف وأسباب النزول والفلسفة والكلام والعرفان و.. إلى كتب سائر فرق المسلمين، بل وغير المسلمين أحياناً كالفلسفة، ثم يبحثون فيها ويأخذون ما يرونه الصالح منها وينتقدون ما يعتقدونه الباطل.

_____________________________________

([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 109 ـ 210)، من تأليف حيدر حبّ الله، نشر مؤسّسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2017م.

([2]) يُذكر أنّه قد اُشير في مقدّمة الكتاب أنّه ساهم في المساعدة فيه كلّ من: الشيخ واعظ زاده الخراساني، والسيد جعفر مرتضى العاملي.

([3]) انظر: حيدر حبّ الله، مسألة المنهج في الفكر الديني: 384 ـ 385.

([4]) انظر: الطوسي، الفهرست: 3 ـ 4.

([5]) انظر: حيدر حب الله، المدخل إلى موسوعة الحديث النبوي: 609 ـ 629.

([6]) انظر: رجال النجاشي: 387 ـ 388.

([7]) الفهرست: 209.

([8]) الصدوق، التوحيد: 119 ـ 120.

([9]) الحرّ العاملي، الفوائد الطوسيّة: 251.

([10]) انظر: الجزائري، التحفة السَّنيّة: 15.

([11]) علل الشرائع 2: 531؛ وعيون أخبار الرضا 1: 249؛ وتهذيب الأحكام 6: 295؛ والحرّ العاملي، الفصول المهمة 1: 575، أبواب أصول الفقه، باب30، ح1.

([12]) انظر: معجم رجال الحديث 3: 71 ـ 73؛ رقم 874.

([13]) انظر: المصدر نفسه 12: 275 ـ 276، رقم: 7905.

([14]) الخميني، الاجتهاد والتقليد: 75.

([15]) انظر: نور الدين العاملي، الشواهد المكيّة: 387.

([16]) علل الشرائع 2: 531؛ والفصول المهمة 1: 576، أبواب أصول الفقه، باب30، ح2.

([17]) انظر: النمازي، مستدركات علم رجال الحديث 8: 323.

([18]) انظر: الخميني، الرسائل 2: 82؛ والحكيم، المحكم في أصول الفقه 6: 187.

([19]) انظر: الإصفهاني، نهاية الدراية 3: 374 ـ 375.

([20]) الصدوق، صفات الشيعة: 3؛ والفصول المهمة 1: 576، أبواب أصول الفقه، باب30، ح3.

([21]) انظر: معجم رجال الحديث 13: 195 ـ 196، رقم: 8535.

([22]) انظر: الخميني، الرسائل 2: 83؛ والآملي، مجمع الأفكار 4: 471؛ والروحاني، زبدة الأصول 4: 369.

([23]) بدائع الأفكار: 443.

([24]) الصدوق، صفات الشيعة: 3؛ والفصول المهمة 1: 576 ـ 57، أبواب أصول الفقه، باب30، ح4.

([25]) القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد 1: 414.

([26]) معاني الأخبار: 399؛ وتفصيل وسائل الشيعة 27: 129، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب10، ح16.

([27]) الكليني، الكافي 8: 242 ـ 243.

([28]) تفصيل وسائل الشيعة 27: 118، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9، ح29، 34.

([29]) انظر: حيدر حبّ الله، حجيّة الحديث: 253 ـ 261.

([30]) الأمر يحتاج لدراسة تتبّعية موسّعة في مصطلح (العامّة) في نصوص أهل البيت، إذ يبدو لي أنّ الكثير منها ناظر إلى العامّة دون الخاصّة، ولا علاقة له بخصوصيّة المذاهب، فقد يشمل بعض الشيعة.

([31]) محمد تقي الحكيم، الأصول العامّة للفقه المقارن: 369 ـ 370.

([32]) انظر: المصدر نفسه: 370؛ وعبد الحسين شرف الدين، أجوبة مسائل موسى جار الله: 61.

([33]) تفصيل وسائل الشيعة 27: 118، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9، ح30.

([34]) المصدر نفسه 27: 119، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9، ح32.

([35]) الخميني، الرسائل 2: 83.

([36]) الحر العاملي، الاثنا عشريّة: 124.

([37]) تفصيل وسائل الشيعة 27: 119، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9، ح33.

([38]) البرقي، المحاسن 1: 156.

([39]) رجال الكشي 1: 7 ـ 8؛ وتفصيل وسائل الشيعة 27: 150، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب11، ح42.

([40]) انظر: معجم رجال الحديث 12: 328؛ رقم: 7992؛ والنمازي، مستدركات علم رجال الحديث 5: 324.

([41]) محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 1: 42؛ وراجع: الأنصاري، فرائد الأصول 1: 310؛ ومرتضى الحائري، شرح العروة الوثقى 1: 96؛ والخوئي، التنقيح (الاجتهاد والتقليد): 219 ـ 220؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة (الاجتهاد والتقليد): 74؛ واللنكرودي، الدرّ النضيد 1: 422.

([42]) دعائم الإسلام 2: 536.

([43]) رجال الكشي 1: 15 ـ 16؛ وتفصيل وسائل الشيعة 27: 151، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب11، ح45.

([44]) تفصيل وسائل الشيعة 27: 151، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب11، ح44.

([45]) النمازي، مستدركات علم رجال الحديث 1: 274؛ والأمين، أعيان الشيعة 2: 331، 490.

([46]) التفرشي، نقد الرجال 1: 110.

([47]) انظر: المجلسي، الوجيزة: 18؛ والنمازي، مستدركات علم رجال الحديث 1: 274.

([48]) الخميني: الاجتهاد والتقليد: 100 ـ 101؛ وتهذيب الأصول 3: 183؛ والخوئي، التنقيح (الاجتهاد والتقليد): 219؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 2: 92، 102؛ وكاظم الحائري، بحث في التقليد، مجلّة فقه أهل البيت، العدد 49: 16.

([49]) انظر: معجم رجال الحديث 20: 38.

([50]) محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 1: 42.

([51]) انظر: مرتضى الأردكاني، الاجتهاد والتقليد: 70.

([52]) الكافي 1: 8.

([53]) الإصفهاني، الفصول الغرويّة: 444.

([54]) الحرّ العاملي، رسالة في الغناء: 60، (ضمن كتاب غناء وموسيقى).

([55]) الخراساني، كفاية الأصول: 509.

([56]) الكافي 1: 68.

([57]) الطبرسي، الاحتجاج 2: 107.

([58]) الكافي 1: 33.

([59]) تفصيل وسائل الشيعة 21: 477.

([60]) مرآة العقول 1: 107.

([61]) انظر: معجم رجال الحديث 22: 22، رقم: 13931؛ وقاموس الرجال 11: 207.

([62]) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 6: 155.

([63]) الخزاز، كفاية الأثر: 255؛ وتفصيل وسائل الشيعة 27: 71 ـ 72، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب7، ح29.

([64]) انظر: النمازي، مستدركات علم رجال الحديث 6: 104.

([65]) رجال النجاشي: 448؛ ورجال الكشي 2: 657 ـ 658؛ والغضائري، الضعفاء: 101.

([66]) مستطرفات السرائر: 76؛ وبحار الأنوار 2: 216.

([67]) تهذيب الأحكام 5: 142؛ والاستبصار 2: 237.

([68]) انظر: الحدائق الناضرة 1: 110، و16: 152.

([69]) الخميني، الرسائل 2: 83.

([70]) تفسير الإمام العسكري: 300.

([71]) انظر: الخوئي، معجم رجال الحديث 13: 157، وعلي السيستاني، حجيّة خبر الواحد: 136.

([72]) انظر: فرائد الأصول 1: 304 ـ 305.

([73]) انظر: البهبهاني، الحاشية على مدارك الأحكام 3: 181.

([74]) الطوسي، العدّة في أصول الفقه 1: 149 ـ 150.

([75]) وصول الأخيار إلى أصول الأخبار: 179.

([76]) فرائد الأصول 1: 302.

([77]) نهج البلاغة 4: 18؛ والشريف الرضي، خصائص الأئمّة: 94.

([78]) الكافي 8: 167.

([79]) تحف العقول: 201، ووردت الرواية ببعض الاختلافات في أمالي الطوسي: 625.

([80]) خصائص الأئمّة: 94؛ ونهج البلاغة 4: 18.

([81]) سنن ابن ماجة 2: 1395.

([82]) سنن الترمذي 4: 155.

([83]) ابن أبي شيبة، المصنّف 8: 317.

([84]) مسند الشهاب 1: 119.

([85]) ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله 1: 101.

([86]) البرقي، المحاسن 1: 230.

([87]) المصدر نفسه.

([88]) المصدر نفسه.

([89]) المصدر نفسه 1: 231.

([90]) بحار الأنوار 2: 214.

([91]) المصدر نفسه 2: 214 ـ 215؛ والاختصاص: 307 ـ 308.

([92]) روضة الواعظين: 10.

([93]) تهذيب الأحكام 4: 157.

([94]) الرواشح السماوية: 99.

([95]) الطوسي، الغيبة: 389 ـ 390.

([96]) تفصيل وسائل الشيعة 27: 398، كتاب الشهادات، باب 41، ح21.

([97]) المصدر نفسه 22: 27، كتاب الطلاق، أبواب مقدّماته وشرائطه، باب10، ح4.

([98]) المصدر نفسه 27: 211 ـ 212، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، باب1، ح1.

([99]) المصدر نفسه 27: 372، كتاب الشهادات، باب29، ح3.

([100]) المصدر نفسه 27: 391، كتاب الشهادات، باب41، ح1.

([101]) يستدلّ بعض الباحثين المعاصرين، لتبرير حجيّة حديث أهل السنّة عند الإماميّة بالروايات التي رويت عن أهل البيت بضرورة عرض حديثهم على حديث النبي، ويرى أنّه من غير المعقول أن يقصدوا حديث النبي الذي يروونه هم، فهذا مستبعد، فلابدّ من فرض أنّ المراد هو حديث النبيّ المعروف بين الناس والمنقول من طرق الصحابة في الوسط السنّي والإسلامي العام، فانظر: جعفر نكونام، التراث الحديثي عند السنّة والشيعة، محاولة لاعتراف متبادل، كتاب سؤال التقريب بين المذاهب، أوراق جادّة: 228.

([102]) راجع: مقباس الهداية 1: 312، 320 ـ 321.

([103]) المصدر نفسه 1: 312، 320.

([104]) انظر: حيدر حبّ الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 4: 337 ـ 391.

([105]) انظر: حيدر حبّ الله، إضاءات في الفكر والدين والاجتماع 1: 337 ـ 338، 405 ـ 407، 470 ـ 479.

([106]) الشيخ حسن، معالم الدين: 200.

([107]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: علي الخليلي النجفي، سبيل الهداية في علم الدراية: 107.

([108]) انظر: الرامهرمزي، المحدّث الفاصل: 574 ـ 575.

([109]) قناعتي الشخصيّة أنّ نفس تفكيكهم في الجملة في المذاهب المختلفة بين رواية المخالف في المذهب في كتبهم وروايته في كتب مذهبه، دليل على أنّهم لم ينطلقوا من تأسيسٍ شرعي عام لهذا الموضوع، وإنّما جاءت القضيّة على خلفيّة الثقة والوثاقة والاطمئنان والخوف ونحو ذلك من السياقات النفسية والاجتماعية والتاريخيّة التي خضعت لطبيعة الأنماط العلائقيّة بين المسلمين تاريخيّاً.

([110]) انظر: رجال الطوسي: 17.

([111]) انظر: المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلاميّة 1: 19؛ ومحمد رضا الجلالي، المنهج الرجالي والعمل الرائد في الموسوعة الرجاليّة للسيد البروجردي: 116 ـ 119.

([112]) انظر: محمد محسن الطهراني، الدرّ النضيد في الاجتهاد والتقليد والمرجعيّة، تقرير السيد محمد حسين الطهراني لبحوث الشيخ حسين الحلي، مع تعليقات السيد محمد محسن الطهراني: 340؛ حيث يقول محمد محسن الطهراني في سياق حديثه عن ضرورة الاطلاع على فقه غير الإماميّة من المسلمين: «هناك أحاديث رائجة بين أهل السنّة، ينبغي على المجتهد أن يلتفت إليها، ويعمل بها إذا كان سندها صحيحاً موثوقاً»؛ وانظر أيضاً: حسين الخشن، أصول الاجتهاد الكلامي: 23 ـ 25.

([113]) انظر: الطباطبائي، رياض المسائل 12: 464؛ والشهيدي، هداية الطالب إلى أسرار المكاسب 3: 454؛ والنجفي، جواهر الكلام: 2: 30، 38.

([114]) انظر: مسالك الأفهام 6: 92.

([115]) الحدائق الناضرة 18: 381.

([116]) الشهيدي، هداية الطالب إلى أسرار المكاسب 3: 454.

([117]) انظر: أنوار الفقاهة (الحدود والتعزيرات): 391.

([118]) الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية: 148 ـ 149؛ وانظر: ضعفاء العقيلي 1: 8؛ ومقدّمة ابن الصلاح: 90 ـ 91.

([119]) وإن كنّا نرى أنّ الداعي إلى بدعته ينبغي التحفّظ ـ على أبعد تقدير ـ في رواياته التي تمسّ ما ينتصر له ويدعو إليه ويتحمّس له، وليس مطلقاً، ما لم يكن مستحلاً للكذب بشكل عام في القضايا الدينيّة، وخصوصيّة دعوته لما ينتصر إليه وضعف القوّة الاحتمالية في خبره هناك يتساوى فيها هو ومن يدعو للحقّ، فقد يبتليان في هذه القضيّة معاً، وإلا فهل هناك آية أو حديث تعطي حكماً خاصاً في القبول بشهادة من يدعو لبدعته؟! إنّما هي مقاربات شخصيّة منهم.

([120]) الكفاية في علم الرواية: 154 ـ 160.

([121]) المصدر نفسه: 153 ـ 154؛ وانظر: الرازي، المحصول 4: 396 ـ 397؛ والبصري المعتزلي، المعتمد 2: 618.

([122]) الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية: 157.

([123]) لا أدري ما الفرق بين الشيعيّ والرافضي في قبول خبر هذا دون ذاك؟ فإذا كان نفس العقيدة فكلاهما عقيدته باطلة عند الذهبي، فلماذا يُعذر هذا ولا يُعذر ذاك؟ هذا يحتاج لتبرير علمي، وليس عاطفيّاً أو شعاريّاً يدغدغ قناعات وعواطف جمهور أهل السنّة، وإذا كان الموقف من بعض الصحابة، فلماذا كان هذا الموقف موجباً لردّ الرواية دون ذاك الموقف؟ ولماذا كان اجتهاد هذا معذوراً فيه دون ذاك رغم أنّ الاجتهادين معاً خاطئان؟! وهل في ذلك آية كريمة أو حديث شريف خاصّ. إنّني أعتقد أنّ هذا بأجمعه ناتجٌ عن المواقف العقديّة ومنطق التفسيق والتكفير وعن حدّة الانقسام، لا عن مبرّرات موضوعية في عالم الرواية ومجال نقل الحديث. نعم، قول الإمام الذهبي بعد ذلك بأنّه ليس فيهم ثقة، كلامٌ جيّد، وهذا حقّه، وإن كنّا نختلف معه فيه، أمّا لو فُرض أنّهم ثقات، ومع ذلك لا نأخذ بحديثهم؛ لأنّهم يرون هذا الموقف من الشيخين مثلاً، فهذا يحتاج لتبرير في موضوع حجية الأخبار غير مجرّد المنطلقات العاطفيّة العامّة إلا إذا قيل بالتكفير.

([124]) الذهبي، ميزان الاعتدال 1: 5 ـ 6.

([125]) انظر: ابن حبان، مشاهير علماء الأمصار: 269؛ والمزي، تهذيب الكمال 9: 277.

([126]) ابن قدامة، المغني 12: 29 ـ 30.

([127]) ثمّة وجهة نظر ـ شهدت تنامياً نسبيّاً عند الإماميّة في العصر الإخباري (ق 11 ـ 12هـ) ـ تقول بأنّ المراد من المرجئة في بعض الروايات عن أهل البيت هم عموم أهل السنّة، وأنّ المرجئة عنوان يطلق على من أرجأ علياً، ويُطلق على المذهب المعروف، أيضاً، وبعد المراجعة لم يظهر لي وجه مقنع لهذا الكلام على صعيد نصوص أهل البيت إلا في روايات محدودة يحتاج فيها الأمر لقرينة، وتوجد شواهد على عكسه في بعض الروايات الأخرى، فدعوى أنّ هذه الكلمة تنصرف عند الإطلاق إلى عموم غير الشيعة تحتاج لمزيد بحث، نتركه الساعة.

([128]) انظر: أحمد الماجد البحراني، توثيق رواة الصحاح: 20 ـ 28، 46 ـ 56.

([129]) حاول الكاتب أحمد الماجد البحراني في كتابه الذي خصّصه لهذا الموضوع، جمع عدد من الرواة المعتمدين في كتب حديث أهل السنّة، ممّن رووا عنه، من الخوارج والنواصب، فانظر له: توثيق رواة الصحاح: 57 ـ 251.

([130]) انظر، الأميني، الغدير 5: 298 ـ 464.

([131]) المظفر، دلائل الصدق 1: 7 ـ 286.

([132]) انظر: ابن تيمية، منهاج السنّة النبويّة 1: 59 ـ 68، و2: 464 ـ 468.

([133]) راجع: حيدر حبّ الله، المدخل إلى موسوعة الحديث النبويّ عند الإماميّة: 385 ـ 648.

([134]) بهذه الطريقة حصل لنا شخص غير إمامي موثّق، فيطبّق قانون الأخذ بتوثيقاته على اختلاف المباني في حجية قول الرجالي، وقد قبلوا بالأخذ بتوثيقات غير الإمامي الموثَّق، فانظر: مقباس الهداية 1: 364.

([135]) يحسُن في هذا المجال مراجعة ما صنّفه العلامة محمد بن عقيل العلوي الحسيني الحضرمي، من كتابٍ ماتع وهو: العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل، ولكنّه رغم كل النقد الذي يوثقه، يلتمس للمتقدّمين عذراً فيما سلكوه من تضعيف أو غمز أو تجاهل لأهل البيت وللرواة المنتمين إليهم، ويرى أنّ القرون المظلمة بالجور والعسف في زمن الأمويين والعباسيين تصلح عذراً لهؤلاء العلماء ولو في بعض الحالات وغير ذلك، ذاكراً بعض الشواهد على هذا الأمر، فانظر له: العتب الجميل: 171 ـ 179.

 ([136]) التعليقة على معالم الأصول 7: 229.

 ([137]) مثل شيخ الشريعة الإصفهاني، والعلامة الأميني، والشيخ محمد حسن المظفّر، والسيد هاشم معروف الحسني، والسيد علي الميلاني، والسيد محمد رضا الجلالي، وأمثالهم، وغالبهم ـ بصرف النظر عن خلفيّاتهم البحثية، وطريقة تناولهم للموضوعات، مما فيه الكثير من المناقشات التي أشرنا لبعضها في كتاب المدخل لموسوعة الحديث النبوي ـ غالبهم ظهروا في العصر الحديث، أمّا قبله فلا تكاد تعثر على شيء مهمّ في هذا الصدد.

 ([138]) انظر: المظفر، دلائل الصدق لنهج الحقّ 1: 7.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً