أحدث المقالات

تحليل المفهوم ونقد النظريات

ترجمة: نظيرة غلاب

 مقدمة ــــــ

إن جمع الروايات ذات الموضوع الواحد أو المشترك تتيح فرصة كبيرة في فهم موضوعها، والتسلط على جميع حيثياته. كما تبرز شأن الصدور ودواعيه. لربما يوحي ظاهر اللفظ بأن المعنى يفيد العموم أو الإطلاق، لكن بعد معرفة شأن الصدور يتبيَّن أن الآية لم تكن في صدد بيان ما يوحي به ظاهر اللفظ، وبالتالي يتغيَّر معنى الآية إلى التقييد أو التخصيص للحكم، مما يعني أنه قد يكون المعنى المستشفّ من ظاهر اللفظ غير الذي يتوصل إليه حين وضع القرائن بعضها إلى جانب بعض، وإضافة شروط المقام والحال الذي صدرت فيه الرواية؛ لأن كل هذه الأبعاد تساعد في إبراز المعنى الحقيقي والدقيق للرواية. ويكشف الإلمام الدقيق بواقع الصدور وشروطه الموضوعية عن معطيات في المعنى غير تلك التي يكشفها اللفظ، فقد تكون كلمة أو جملة اصطلاحاً خاصّاً في زمن النزول أو الصدور ثم وقع هذا التحوُّل وانسلخ اللفظ من قيوده ليصبح اصطلاحا كلياً، الشيء الذي لا يمكن التوصل إليه عند التوقف على اللفظ لوحده.

ومن النكات التي يجب الإشارة إليها الارتباط بين الروايات ذات الموضوع الواحد، وإن اختلفت مصادرها، وطرق وصولها، وسواء رواها الشيعة أو السنة. ومن الأمثلة على هذا: أن تصل رواية عن طريق الرواة الشيعة تحكي العموم أو الإطلاق، وتأتي نفس تلك الرواية في كتب السنة، مخصَّصة أو مقيَّدة، وبمزيد من التوضيحات التي تقلب العموم المفهوم في كتب الشيعة إلى تخصيص، أو الإطلاق إلى تقييد في كتب السنة، أو العكس. أو أن يكون مضمون الرواية قد وصل نقلاً عن النبي الأكرم|، وقد نقل مفصلاً عن النبي الأكرم|، وانتقلت بعد ذلك إلى اصطلاحات، فليس من الضروري أن يرد نفس الاصطلاح وبنفس التوضيحات والقيود في رواية أئمة أهل البيت^؛ لأن أهل البيت^ قد كرَّروا عنوان الكلام بصورة مطلقة.

ما سبق كان مقدمة لبيان بعض الاصطلاحات التي وصلت إلينا عن طريق أئمة أهل البيت^. فقد روي عن أهل البيت^ هذه العبارة: «ضرب القرآن بعضه ببعض». والسؤال: ما هو المقصود من ضرب القرآن بالقرآن؟ هل أن تفسير القرآن بالقرآن والتفسير الموضوعي يندرجان ضمن هذا الاصطلاح، وبالتالي يصبحان عنواناً للمذمّة والكفر؟

ولا معنى لكون المراد بضرب القرآن تفسير القرآن بالقرآن أو التفسير الموضوعي، خصوصاً وقد عدّ ضرب القرآن بالقرآن مذموماً، بل تجاوز المذمّة إلى اعتباره كفراً وخروجاً عن الدين؛ وذلك للاختلاف بلحاظ الموضوع.

وقبل التعرُّض إلى تحليل ونقد تفسيرات هذه العبارة، وما قيل في معناها، لابد من عرض المصادر الحديثية، وطرق نقل تلك الروايات، والتي نقلت في المجاميع الحديثية للشيعة، كما السنّة.

و الغرض من هذا معرفة أسباب وشأن الصدور. وبالتالي سنبحث في الدواعي التي جعلت البعض يأخذ الموضوع انطلاقاً من كلام وروايات أهل البيت×، فيذهب إلى حمل الرواية على العموم والإطلاق، بل سيمدّنا البحث بالأسباب التي دعت البعض، من دون أن يأخذ القيود والاصطلاحات بعين الاعتبار، وراح يلوِّح بعمومية القضية، إلى الذهاب أبعد من ذلك، حيث عدّوا تفسير القرآن بالقرآن ـ والذي كان أسلوب النبي الأكرم| وأهل البيت^ في فهم القرآن، بل هو أسلوب ومنهج عقلائي، وأن يجعلوا كذلك التفسير الموضوعي ـ واحداً من أساليب الضرب، رغم أن لدينا شواهد متعدِّدة من روايات أهل البيت^ على تحسينهم له، وتعاطيهم الإيجابي معه!. وقد انطلقوا من ذلك التعميم ليستنبطوا أحكاماً خاصّة في علوم القرآن.

و قد ساد هذا الفهم المنحرف لروايات ضرب القرآن بالقرآن في أوساط القدماء وأهل الحديث خلال القرن الرابع، حتى أنتج حركة راديكالية في التفسير.

 

  أـ روايات ضرب القرآن ــــــ

1ـ ما جاء في الطبقات الكبرى، لابن سعد الزهري(230هـ)، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن ولدي عمرو بن العاص: «ما جلسنا في عهد رسول الله| وكنا أشد اغتباطاً من مجلس جلسناه يوماً، جئنا فإذا ناس عند حجر رسول الله| يتراجعون في القرآن، فلما رأيناهم اعتزلناهم، ورسول الله خلف حجر يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول الله مغضباً، يعرف ذلك في وجهه، حتّى وقف عليهم، فقال: أي قوم، بهذا ضلَّت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض. إن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن يصدِّق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه عليكم فآمنوا به، ثم التفت إليّ وإلى أخي فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم»([1]).

يجب التركيز ضمن هذه الرواية على النقطة التالية، وهي أن مجموعة من الناس كانوا جالسين خلف باب بيت النبي الأكرم|، وكانوا يتكلمون في القرآن بشكل فيه الأخذ والرد والاعتراض، واشتد وطيس الكلام والجدال لدرجة أن ولدي عمرو بن العاص قد استحسنا ومدحا موقفهما، حيث تجنَّبا الانضمام إلى تلك المجموعة، ولم يشاركاها في الكلام. وإن النبي| قد خرج عليهم، وقد ظهرت على ملامحه الشريفة أمارة عدم الارتياح، وقال لهم:…الرواية.

2ـ في مسند أحمد بن حنبل(241هـ) ـ بقليل من الاختلاف ـ: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه شعيب بن عبد الله بن محمد بن عمرو، عن جدّه عبد الله بن عمرو بن العاص: سمع النبي| قوماً يتدارؤون، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذِّبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه»([2]).

3ـ كذلك في مسند أحمد بن حنبل، عن طريق آخر: عن نفس عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: خرج رسول الله| ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، فقال لهم، وكأنّما تفقأ في وجهه حبّ الرمان من الغضب: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟! بهذا هلك من كان قبلكم([3]).

4ـ وبسند آخر، عن عمرو بن شعيب، عن جده: لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحبّ أن لي به حمر النعم. أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله| جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نطرق بينهم، فجلسنا حجرة إذ ذكروا آيةً من القرآن، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله| مغضباً، قد احمرّ وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: مهلاً يا قوم، بهذا هلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضرب الكتب بعضها ببعض. إن القرآن لم ينزل يكذِّب بعضه بعضاً، بل يصدِّق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه»([4]).

و ترجَّح هذه الرواية الأخيرة عن السابقة بلحاظ سندها، فقد اتفق عليها البخاري ومسلم، كما أنها حملت أبعاداً أخرى بلحاظ موضوعها، حيث ذكرت أن تلك المشيخة كانت تماري وتجادل في بعض آيات القرآن، وكانوا يضربون القرآن بعضه ببعض، في محاولة لردّه، وتكذيب آية بآية أخرى، مما جعل النبي الأكرم| يقول لهم:…الرواية.

و قد ذكر ابن كثير هذه الروايات في تفسيره بأسانيد أخرى، نقلها عن مسلم النيشابوري والنسائي([5]). كما يُشار إلى أن روايات قريبة لتلك السابقة قد نقلت في مجاميع أحاديث أهل السنة من طرق مختلفة

5ـ أحمد بن أبي عبد الله بن خالد البرقي الكوفي(274هـ) في كتاب المحاسن: عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن الإمام الصادق× أنه قال: «سمعت أبي يقول: ما ضرب الرجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر»([6]).

والملاحظ بالنسبة إلى هذه الرواية فقدانها لأي توضيح أو كلام قبلي وبعدي كما أنها قد طرحت مسألة ضرب القرآن بشكل مطلق، وقرنته بالكفر. والظاهر أن مسألة ضرب القرآن في عهد الإمام الصادق× واضحة لا لبس فيها أو إبهام.

6ـ ما نقله الشيخ الصدوق(381هـ) في التوحيد: إن رجلاً أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب× فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي شككت في كتاب الله المنزّل، فقال له علي×: …وكيف شككت في كتاب الله المنزَّل؟ قال: لأني وجدت الكتاب يكذِّب بعضه بعضاً، فكيف لا أشك فيه؟! فقال علي بن أبي طالب: إن كتاب الله ليصدِّق بعضه بعضاً، ولا يكذِّب بعضه بعضاً، ولكنك لم ترزق عقلاً تنتفع به([7]).

والكلام في هذه الرواية يدور حول محاولة تكذيب بعض الآيات القرآنية بآيات أخرى، ومحاولة خلق نوع من التردُّد في كتاب الله. وهذه الرواية المتقدمة تاريخيّاً والتي تمّ نقلها في المنابع الحديثة بعد مضيّ ما يقارب مئة عام بعد زمن البرقي، تظهر أنها على عكس ما جاء في الرواية السابقة المرويّة عن الإمام الباقر×.

والشيء الجديد في هذه الرواية أن الإمام علي× عزا عمل هؤلاء الذين يضربون القرآن بالقرآن إلى كونهم لا علم لهم ولا عقل حتى يفهموا به القرآن، ويستفيدوا من معارفه المتدفِّقة في كل أبعاد الحياة الدنيا والآخرة. وهنا يظهر واضحاً الفرق في طريقة تفسير أو توضيح ضرب القرآن بين زمان كلٍّ من الإمام علي والباقر والصادق^.

7ـ الرواية التي نقلها الشيخ الصدوق في معاني الأخبار، والقريبة المضمون من الرواية الخامسة المروية عن الإمام الصادق×: قال لي أبي×: ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر([8]).

وقد نقل الشيخ الصدوق في ختام هذه الرواية عن أستاذه محمد بن الحسن بن الوليد ما سنتطرق إليه لاحقاً بالتوضيح.

8 ـ ما جاء في رسالة «المحكم والمتشابه»، المنسوبة إلى السيد المرتضى، نقلاً عن محمد بن إبراهيم النعماني(342هـ) في تفسيره، عن الإمام الصادق×، أن الأمة الإسلامية قد انحرفت بعد وفاة النبي الأكرم|، وقال: إنه بين دليل انحرافها حين قال: «وذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم، واحتجوا بالخاصّ وهم يقدّرون أنه العام، واحتجوا بأول الآية، وتركوا السبب في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره؛ إذ لم يأخذوه من أهله، فضلّوا وأضلّوا([9]).

9ـ في الكافي: عن قاسم بن سليمان، عن الإمام الصادق×: ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر([10]).

10ـ ووردت نفس هذه الرواية في تفسير العياشي، عن عمر بن سليمان، عن الإمام الصادق× قال: قال أبي×: ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلا كفر([11]).

وما يلاحظ على هذه المجموعة من الروايات المروية عن أهل البيت^، وبشكل خاصّ عن الإمامين الصادقين’، أن الضرب كان فيها مطلقاً، بل على شكل اصطلاح كلي، وهو بلحاظ ظاهره غير مبيَّن المراد منه، على العكس ممّا نقل من طرق أهل السنة، حيث قد ذكرت بعض خصوصيات هذا الضرب المذموم والمعادل للكفر.

 

    ب ـ وجهات نظر مختلفة حول الرواية ــــــ

 1ـ النظرية القديمة (من القرن الرابع، والتي لا زال هناك من يتبناها ويقول بها) ــــــ

إن المراد بضرب الرجل القرآن بعضه ببعض أنه فسَّر بعض آي القرآن بآيات أخرى منه. وقد نقل هذا المعنى عن محمد بن الحسن بن الوليد أستاذ الشيخ الطوسي، حين قال: إنه فسَّر الرواية بقوله: هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بآية أخرى([12]).

وقد رجَّح نفس المعنى العلامة المجلسي، في الباب الذي خصَّصه لهذا الموضوع في البحار([13]).

وقد أعرب الفيض الكاشاني في كتابه «الأصول الأصيلة» عن رأيه في تلك الروايات التي حملت نفس الموضوع، وقال: ولا يخفى أن هذه الأخبار تتناقض بظواهرها([14]).

وقد وُجد من بين المتأخِّرين من قال بصراحة ووضوح: إن تفسير القرآن بالقرآن نموذج لضرب القرآن بالقرآن، ولن يكون التفسير الموضوعي من هذا التصنيف، خصوصاً أن التفسير الموضوعي يقوم بتفسير آية بأخرى تتفق واياها في الموضوع([15]).

 

 2ـ النظرية الثانية ــــــ

وهي تمثِّل آراء مجموعة، أمثال: علي أكبر الغفاري، الذي علَّق على كلام محمد بن الحسن الوليد، وقال: إن كلام هذا الأخير قد جانب الصحة في إطلاقه، وقال: ضرب القرآن بعضه ببعض ـ كما يستفاد من روايات أخرى ـ هو أن يأخذ الرجل ببعض الآيات المتشابهة، التي ربما يوافق ظاهرها ـ في نفسها، مع قطع النظر عن سائر الآيات ـ مذهبه الفاسد، ويؤوِّل سائر الآيات على طبقها، ويحملها دون أن يتدبَّر فيها، ويفسِّرها بسائر الآيات([16]).

وكتب الفيض الكاشاني يقول: لعل المراد من الضرب بعضه ببعض تأويل بعض متشابهاته، من دون سماع من أهله أو نور وهدى من الله([17]).

 

  3ـ النظرية الثالثة ــــــ

أما أصحاب النظرية الثالثة فهم يرون أن ضرب القرآن بعضه ببعض شيء آخر غير تفسير القرآن. فهو يعني صوراً من الجدال والمراء والمخاصمة وإيجاد الاختلاف بين آيات القرآن. فالقرآن أنزل لهداية وتربية الإنسان وفق أسس إلهية. كما أنه دعوة إلهية للانفتاح على المعارف السماوية. وقد استُهدف القرآن بالجدال والضرب من أجل ابتداع التناقض، وإظهار أن آي القرآن يناقض بعضه بعضاً.

ردّ الشيخ جوادي الآملي قول أصحاب النظرية الأولى بأن تفسير القرآن بالقرآن هو نوع من ضرب القرآن بالقرآن بقوله: تفسير القرآن بالقرآن غير ضرب القرآن بالقرآن الذي ذمته الروايات… ضرب القرآن بالقرآن له معنى مقابلة القرآن بالقرآن، أي إنه محاولة لضرب النظم والتناسق بين معاني الآيات، ونفي الارتباط بين الناسخ والمنسوخ، وعلقة التخصيص، والرابط بين الخاص والعام، والمطلق والمقيد. كما أن ضرب القرآن هدفه نزع أي توافق بين صدر الآية وذيلها.. وكل هذا من شأنه إخراج الآيات من سياقها الأصلي، والابتعاد بها عن أي نوع من المناسبة بينها والآيات الأخرى. وهو منهاج ضالٌّ مضِلٌّ؛ لأنه يسيغ لأيّ واحد أن يأخذ القرآن ويفسِّره وفق ذوقه ووفق أهوائه. وكلّ ذلك خلاف لتفسير القرآن بالقرآن، الذي يقوم على الاعتقاد الكامل بتواجد تناسق في معاني الآيات وارتباط بينها، وأن فهم القرآن يجب أن ينطلق وفق أصول منطقية ومبادئ أصيلة وعلمية([18]).

 

النظرية المختارة ــــــ

لا يوجد أدنى شك في أن ضرب القرآن بالقرآن شيء مغاير تماماً لتفسير القرآن بالقرآن، الذي موضوعه كشف الستار عن المراد الإلهي، وإيضاح معاني الآيات، انطلاقاً من الآيات الأخرى.

إن منهج تفسير القرآن منهج عقلائي. وقد استفادت منه كل الأطياف الدينية في فهم الخطاب الإلهي. فهذا القديس أغوسطين(430م) قد تحدَّث عن منهجه في كشف وفتح رموز الكتاب المقدس، حيث قال: «إن الطريق الصحيح لفهم وفتح رموز الكتاب المقدس يجب أن تكون منه وفيه، أي أن يكون الكتاب المقدس مفسِّر نفسه»([19]). لذا فهو يرى أن يُكشَف جزءٌ منه بجزء آخر منه.

وقد رأى إسبينوزا هو الآخر أن تأويل أيّ متن يجب أن ينطلق من داخل المتن، وأن الاعتماد على أساليب أو مناهج خارجة عن المتن لغرض فهمه وتفسيره خطأٌ كبير([20]).

في الإسلام نجد التاريخ قد حمل نماذج كثيرة تلح على ضرورة اعتماد التفسير الداخلي للنصّ. فالإمام علي× قد أرشد في أكثر من مرة إلى أن فهم الآيات يتمّ بالاعتماد على آيات أخرى. وقد كان ذاك أسلوبه في تفسير العديد من الآيات. بل بيَّن أن تفسير القرآن بالقرآن كان أسلوب النبي الأكرم|([21])، وقال: وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض.

وفي خطبة أخرى من الخطب التي نقلها ابن الحديد في نهج البلاغة: وإن الكتاب يصدِّق بعضه بعضاً([22]).

وفي حديث عن الإمام الباقر×: ليس شيء من كتاب الله إلا عليه دليل ناطق عن الله في كتابه، ممّا لا يعلمه الناس([23]).

ومن جهة أخرى فإنه من خلال التوجه إلى محيط صدور هذه الروايات المنقولة عن النبي في هذا الشأن يصبح سهلاً إدراك معنى ضرب القرآن بالقرآن، وأن له معنى خاصاً، فأتى أهل البيت ليأخذوا المعنى بشكل مصطلح، وبصورة الإطلاق. فقد جاء فيه: يتراجعون في القرآن؛ يتدارؤون في القرآن؛ إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها.

بل ذكرت بعض الروايات أن ضرب القرآن بالقرآن كان لغرض إيجاد حالة من الجدال والتناقض في القرآن: يتكلمون في القدر.

لذا فقد تبيَّن أن ضرب القرآن بالقرآن ليس سوى الجدال فيه، والنزاع، والمراء، ومحاولة إيجاد التناقض فيه بمقابلة آية بآية أخرى.

نقل العياشي روايات الضرب ضمن باب «كراهة الجدل في القرآن». وكان قد ابتدأ برواية الإمام الباقر×: إياكم والخصومة؛ فإنها تحبط العمل، وتمحق الدين. وإن أحدكم لينزع بالآية يقع فيها أبعد من السماء([24]).

والملاحظ في الرواية الأخيرة أنه تم استبدال اصطلاح ضرب القرآن بالقرآن بكلمات أخرى، كالنزاع، والتخريب، والخصومة، وإنه دليل على الكفر. وهي رواية تبيِّن بشكل دقيق حقيقة ضرب القرآن.

والملاحظ أيضاً هو أن الرواية المنقولة عن النبي الأكرم| قد جعلت ضرب القرآن بالقرآن في مقابل تصديق القرآن بعضه لبعض. وهذا يعني جعل معنى الضرب في مقابل التصديق. فاذا كان التصديق يعني التأييد، وكشف المعاني لكلام الخطاب الإلهي، فإن الضرب يكون على الطرف المقابل، أي إن الضرب لا يعني سوى إيجاد التناقض والتنافر بين الآيات القرآنية. وهذا المعنى هو ما تؤيِّده رواية مسند أحمد بن حنبل، التي جاء فيها: فلا تكذِّبوا بعضه بعضاً.

فضرب القرآن بالقرآن يقوم على أساس تكذيبه وإسقاط حجته. كما قيل: إذا لم تفهموا معنى الآية فاعرضوها على العالم بالقرآن. وهذا ما فعله بعضهم؛ إذ ذهب إلى الإمام علي، وعرض عليه آيتين، حيث تصوَّر له من خلال ظاهرها أنها تتضمَّن تناقضاً بينها، مما زرع في روعه نوعاً من الشكّ والريبة في مدى صدق وصحة القرآن، فكان جواب الإمام علي×: إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً، ولا يكذِّب بعضه بعضاً، ولكنك لم ترزق عقلاً تنتفع به([25]).

فقد ردّ الإمام علي× وجود هذا الشك وسوء الفهم إلى غياب العقل والتفكير العقلاني الراشد.

لذا فإن تفسير القرآن بالقرآن والتفسير الموضوعي ينطلق من مبدأ كشف الحجاب عن معاني الآيات، بالاستناد إلى نفس الآيات القرآنية، انطلاقاً من الإيمان بوجود وحدة موضوعية لكل الآيات القرآنية، وترابطاً بنائياً لكلّ القرآن. بينما لاحظنا أن الغرض الأساس لضرب القرآن بالقرآن هو محاولة إظهار نوع من اللاترابط في البناء الموضوعي للقرآن، وبالتالي سحب مصداقيته وحجيته. والبون شاسعٌ بين هدف كلّ واحد منهما، ولا يمكن أن يخفى على ذي لبّ أو من ألقى السمع وهو شهيد.

نعم، إذا انطلق المفسِّر من فرضيات أو معانٍ لا دليل عقلياً وعلمياً عليها، ثم أراد إسقاطها على الآيات القرآنية، فهذا نوع من ضرب القرآن بالقرآن، ومحاولة ساخرة لسوق القرآن نحو المجهول. ولهذا ذمَّت الروايات هذا النوع من التفسير، واعتبرت التفسير بالرأي ضرباً للقرآن وكفراً. وهو ما عبَّر عنه السيد المرتضى: إنهم ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا بالخاصّ وهم يقدِّرون أنه العام([26]).

وفي الختام نتوصَّل إلى أن جمع الروايات التي تحدَّثت عن ضرب القرآن بالقرآن في كتب السنة والشيعة، وأخذ محتوى بعضها إلى جانب البعض، قد كشف لنا معنى هذا الاصطلاح، كما بينت سبب استعمالاته بنحو الإطلاق والعموم. كما أن الاطلاع على زمان الصدور قد أفصح عن علل صدور هذه الروايات، وعن الحالة التي دعت إلى صدور هذه الروايات، سواء في عصر النبي الأكرم أو في عصر أهل البيت^.

ولا ينبغي أن يقتصر الاعتماد على البناء الداخلي والترابط الداخلي الموضوعي؛ لتفسير وكشف المعاني، على القرآن وحده. فكما أن تفسير القرآن بالقرآن منهج عقلائي كذلك يفترض أن يكون التعامل مع الأحاديث والروايات بنفس المنهج، يفسِّر بعضه بعضاً.

 

 

الهوامش

([1]) الطبقات الكبرى 4: 92.

([2]) مسند أحمد بن حنبل 2: 170 ـ 185.

([3]) المصدر نفسه 2: 185.

([4]) المصدر نفسه: 178.

([5]) تفسير القرآن العظيم 1: 347.

([6]) المحاسن 1: 335.

([7]) التوحيد: 255، باب الرد على الثنوية؛ بحار الأنوار 90: 127.

([8]) معاني الأخبار: 190.

([9]) بحار الأنوار 90: 4؛ الرسالة المنسوبة للسيد مرتضى تحت عنوان «الناسخة والمنسوخة»: 47.

([10]) أصول الكافي 2: 632 ـ 633.

([11]) تفسير العياشي 1: 97.

([12]) معاني الأخبار: 190.

([13]) بحار الأنوار 89: 39.

([14]) الأصول الأصيلة: 22، بنقل عن معجم الفقيه.

([15]) السيد حسن أبطحي، ضمن الرسالة التي شارك بها في مؤتمر علوم ومفاهيم القرآن. وقد اعتبر تفسير القرآن بالقرآن ضرباً للقرآن بالقرآن. وهو فهم ورأي شخصي يفتقد إلى دليل علمي.

([16]) معاني الأخبار: 191، في هامش الصفحة، ضمن نقد نظرية المتن.

([17]) الأصول الأصيلة: 22.

([18]) تفسير موضوعي قرآن كريم، قرآن در قرآن: 396.

([19]) ساختار وتأويل متن 2: 502.

([20]) المصدر نفسه: 509 بالنقل عن رسالة خداشناسي سياسي، الباب 7.

([21]) يرجع إلى: نور الثقلين 1: 121، ح344، و214، ح813، و19، ح109؛ 1: 27، ح16، وأحاديث أخرى كثيرة.

([22]) نهج البلاغة،الخطبة 133، و18.

([23]) بحار الأنوار 89: 90.

([24]) تفسير العياشي 1: 96.

([25]) التوحيد: 255؛ بحار الأنوار 90: 127.

([26]) بحار الأنوار 9: 3؛ رسالة المحكم والمتشابه.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً