أحدث المقالات

نظرة تأمّلية في مقولات سروش

د. محمود صدري(*)

ترجمة: حسن مطر

الأستاذ المحترم الدكتور سروش

بعد التحية والسلام، لقد وجدت الكلمات التي أثرتموها مؤخَّراً في باب الحقوق والواجبات في الإسلام، ونسبتها إلى الديمقراطية([1]) بديعة ومؤثِّرة بحق. ولكنني أرى ما ذكرتموه في باب الولاية والمهدوية في التشيُّع، وعدم انسجامهما مع الديمقراطية الحديثة، جديراً بالنقد والتمحيص، حيث لا توجد هناك من ناحية علم الاجتماع الديني أية علاقة متقابلة، أو علقة منطقية لا تنفك، بين هذه المعتقدات وبين الإعراض عن الديمقراطية والرضوخ للقوانين.

غاية ما يمكننا قوله: إنّ التعبير عن الولاية أو المهدوية يباين أو يناقض إحدى قراءات الديمقراطية. كما يمكن لنا أن نحصل من كلّ واحدة من هذه المعتقدات على تعابير موافقة ومنسجمة مع الحرية والإصلاح. وإلا ففي غير هذه الصورة سنعرِّض أنفسنا لتيارات لها أول وليس لها آخر.

في ما يتعلق بباب الولاية لو قلنا بأنّ مثل هذه العقيدة عند الشيعة تضعف إيمانهم بالخاتمية، وتقلِّل من التزامهم بالديمقراطية ـ وهو افتراض عليه الكثير الكثير من علامات التساؤل والاستفهام ـ يخطر هذا السؤال إلى الأذهان، وهو: ماذا جنى أهل السنة من وراء تمسكهم القوي بالخاتمية؟! فنحن نعلم أنه قبل التعبير اللطيف الذي صدع به إقبال اللاهوري بشأن الخاتمية، واصفاً إياها بنهاية عهد الطفولة الفكرية للناس، وبداية العقل الاستقرائي، فإنّ أهل التسنن لم يُبدوا أي توظيف ديمقراطي لمعتقدهم بشأن الخاتمية. وبعد إعلان هذه المزية لم يَجْنِ المسلمون السنّة في باكستان، التي كان إقبال اللاهوري من أبنائها، أي نفع منها. وها نحن في الجهة المقابلة نجد الكفار في الهند قد مارسوا الديمقراطية، في حين لم تلمس باكستان المسلمة، بما هي عليه من التسنُّن، والإيمان الغليظ بالخاتمية، بعد نصف قرن من استقلالها أطراف الديمقراطية، ولو لبضع سنين. فما هو السبب؟ لأنّ فلسفة إقبال وبيانه لمعنى الخاتمية لم يتحوّل إلى عقيدة شاملة. وحتى يومنا هذا تتكوّن أكثر الأحزاب الباكستانية دكتاتوريةً من هذه الجماعات الإسلامية السنية، التي لم تحصل على أدنى نصيبٍ ومسكة من العقل الاستقرائي. وهنا نجد موضع علم الاجتماع المعرفي، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم الاجتماع الديني، خالياً، وإلا لكان بإمكانه أن يشرح لنا سبب عدم إفضاء تلك العقيدة في باكستان، وفي سائر البلدان السنية الأخرى، إلى الديمقراطية. علينا أن نحذر هذا النهج في التحديد المسلكي المثالي الرائج حالياً ـ للأسف الشديد ـ حتى بين الكثير من الناقدين العلمانيين من أبناء وطننا أيضاً؛ إذ يقولون مثلاً: إنّ الإسلام هو السبب في تخلُّفنا، غافلين عن أن مجرّد العقائد في الغالب ليس هو السبب في ذلك، وإنما يعود السبب في ذلك إلى تفسيرها المتجدِّد في ضوء الظروف الطبقية والاجتماعية الخاصّة التي تحدد الواقعية الاجتماعية ذات الصبغة الدينية. إنّ الخاتمية ـ حتى بعد التفسير الجميل الذي أبداه إقبال اللاهوري ـ بحاجة إلى مفسِّرين مجدِّدين ومختلف علماء الاجتماع ليتمّ التصديق على استنتاجاتكم. وطبعاً فإنّ إقبال اللاهوري ليس هو الواضع لهذه النظرية ـ وإنّ نظريته كسائر آراء المصلحين الآخرين من المسلمين ـ مسبوقة بإبداعات الإلهيات المسيحية. فقد عمد هيگل قبل مئة سنة من مجيء إقبال اللاهوري إلى توجيه اعتقاد المسيحيين الراسخ بخاتمية دينهم على هذه الطريقة فلسفياً. وعليه نجد أنّ العقائد كامنة خلف أستار القابليات الاجتماعية العينية، وليست ظاهرة في التعيّنات التاريخية المحتومة.

هل ختم النبوّة بالمفهوم الشيعي عامل تثبيط وتخلّف؟! ــــــ

وهنا سنتعرض لهذه المسألة من ناحية خُلف القضية. فمن خلال الخاتمية (المهلهلة) عند الشيعة، التي أخذت في مفروض السؤال مباينتها ومعارضتها للحرية والديمقراطية، نجد احتدام الثورة الدستورية قبل مئة سنة، وقد حدثت بعد ذلك بخمسين سنة ثورة تناهض الاستعمار الجديد، وشهدنا مؤخَّراً ـ قبل ثلاثة عقود ـ ثورة أخرى تحمل مبادئ الديمقراطية والحرية. وفي الوقت الراهن نجد السيد علي السيستاني في العراق، الذي ينبغي وفقاً لأقوالكم أن تطغى ولايته المهدوية على خاتميته، كما هو الحال بالنسبة إلى أعلم المراجع في عصر الثورة الدستورية (المشروطة)، يميل إلى الديمقراطية، دون الشمولية، والديكتاتورية، والجماهيرية الدينية غير الديمقراطية، السائدة في بعض جوانب الحياة السياسية في إيران والعالم الإسلامي. وإذا تغلغلت بعض العناصر الدكتاتورية داخل الثورة الإيرانية، وعمدت إلى حرف مسارها، فإنّ الإنصاف يقتضي منا الإقرار والاعتراف بأن القصور في ذلك لم يكن من جانب الولاية والمهدوية، بل من نمط الاستبداد الشرقي، والتفكير المناهض للديمقراطية الغربية. علينا أن ندرك أنّ مسألة الرهائن، والدعوة إلى الاقتصاد المتمركز، تحت ذريعة الإسلام التقدمي، وتصدير الثورة، إلى غير ذلك من الأمثلة في تلك المرحلة، ما هي إلا موضة عصرية تستأثر بهوى الأجنحة الثورية من اليسار واليمين. فبأية صياغة راديكالية تاريخية جديدة نستطيع سحب كلّ هذه العربات بمقطورة مهجورة، وخارجة عن سكة حديد الولاية والمهدوية عبر الأزمنة السحيقة؟!

إذاً ليس هناك ارتباط لمفروض الكلام بين المعتقدات والحقائق الاجتماعية. إنّ المواءمة بين العقائد ونتائجها في الذهن طريقة غريبة على ميكانيكية علم الاجتماع، الذي يربط عقائد الناس وتوجهاتهم بمصالحهم المادية والمعنوية. إنّ الروابط الصورية والمفروضة آنفاً، من التزعزع، وعدم الاستقرار، ومستعصية على التكهُّن، بحيث قد تعطي نتائج معكوسة، وعلى خلاف المتوقَّع. إنّ الاعتقاد بالجبرية المحضة، بدلاً من الخمول واليأس، يؤدي إلى الحماس الإيماني والاقتصادي. وهناك فرق شيعية، من التي تتهمونها بعدم الاعتقاد بهذه الخاتمية مورد بحثكم، هي من الأمة المنبوذة والمبعدة، أي الإسماعيلية النزارية، تعدّ في زمرة أكثر الفرق الإسلامية ليبرالية ورفاهية. إن منتهى المثالية أن نعتقد بأنّ الآراء وحدها توجد واقعية سياسية واجتماعية على نحو تلقائي. إنّ الناس لا يستطيعون تهجئة المفاهيم التاريخية لآراء الدين، إلا في اللحظة التي تتلاقى فيها الأفكار بالمصالح المادية والمعنوية، وبواسطة الطبقات الاجتماعية. وهذا هو المفهوم الذي دعاه ماكس فيبر (الوشائج المنتقاة).

فلنرجع الآن إلى المهدوية، التي ـ بناء على رأيكم ـ بسبب افتراض العصر الذهبي لآخر الزمان ترفض تلقائياً الحكومات التاريخية،  وتعتبرها غاصبة، وقهقرائية، وتبطل الديمقراطية. وهذه طبعاً يمكن أن تكون واحدة من النتائج العملية المترتبة على المهدوية. وكما يقول الدكتور علي شريعتي: إنّ (السربداران)([2]) عبّروا عن ذلك بشكل آخر. وكان لعلي شريعتي بدوره تعبيرٌ آخر. فلنسأل هنا: كيف تأتى لهذا الاعتقاد، الذي كانت جذوره في المسيحية على نحو أشد وأكثر صراحة من الإسلام والتشيّع، أن يتأقلم مع واقع العلمانية؟ فلنشاهد كيف سار المتألِّهون من النصارى في هذا المضمار، واعتبروا الهجرة المقدّسة من التاريخ والرجعة المحتومة في آخر الزمان مسوّغاً للحكومات العلمانية في أيام الفترة اللامحدودة. وحتى في إسرائيل، التي ذكرتموها في مقالتكم، لم يحُلْ اعتقادها بعودة المنقذ الموعود لليهود دون تأسيس حكومتهم الديمقراطية الثابتة في تلك البقاع، ولم تسقطها من الاعتبار. إذاً يجب أن نستقي من ينبوع تلك النظرة التجديدية لأسلوب فهم النصوص الدينية. والحق أنّ مساركم كان على هذه الشاكلة، حتى كلمتكم الأخيرة في السوربون. ونأمل من بياناتكم القادمة أن تكون في سياق توضيح كلماتك الأخيرة أيضاً. وعلى هذا النحو يمكننا أن نخرج من المهدوية عند الشيعة بتاريخ مقدَّس، يعتبر عصر الغيبة مرحلة إيكال الناس إلى أنفسهم، وفترة الديمقراطية، ومنع المسلمين من إقامة وتأسيس حكومة إسلامية ثيوقراطية. إنّ هذا التفسير في الحد الأدنى خير من التفسير الأكثري لبعض أدعياء المهدوية في طهران. ومن غير الواضح في قبال أي هجوم على خطوط الخصم يجرّد الأحبة من دروعهم، ويضع ميدان التفسير السياسي للتشيع تحت تصرف الفاشية، ويشوّه مقالاته بنقل أقوالهم في ما يتعلق بالعلاقة بين الإسلام والديمقراطية؟

التجربة اليهودية والمسيحيّة وإمكان الجمع بين الخاتمية والمهدوية والديمقراطية ـــــ

فإذا كان لمفهوم الخاتمية والمهدوية والولائية ما يشابهها في اليهودية والمسيحية المعدَّلة، ومع ذلك لم تحُلْ عندهم دون تحقق الديمقراطية، فأيُّ مانع من أن يتكرر السيناريو بالنسبة للإسلام والتشيُّع، ولا نتفاءل بالشر؟ لماذا نترك طريقنا في نقد الرؤية العامة للدين، والتي أدت إلى إصلاح المسيحية واليهودية ـ وهي الطريقة التي اتبعتموها حتى الآن ـ، ونتجنب الطريق، لننشغل بوسوسة إثارة الغبار والتفرقة المذهبية والنزاع المذهبي المرير والعقيم بين الشيعة والسنة؟ إنّ الإشكال الرئيس يكمن في طريقة فهم الإسلام والتشيُّع أو التسنن، وليس في أصل ذلك الدين وهذه التوجّهات. فلنعُدْ إلى عملنا الأساس في النظر إلى القرآن، والنبوة، والمعاد، والإمامة، والعودة إلى الذات الواقعية، لنرى أيُّ الأديان والمذاهب العالمية أقرب إلى أهدافنا وتطلعاتنا. ولا ننسى التذكير بأن ميزان العقل جزء من أصول الدين لا يقلّ عن أصول المذهب، وإن الاعتقاد بالنبوة والمعاد لن يكون أهون من الاعتقاد بالولاية والإمامة. وقِسْ على ذلك.

إنّ رؤية علم الاجتماع الديني تذهب إلى أنّ المنطق الحاكم والسائد في العالم ليس هو المنطق النحوي، وإنما هو منطق الربان، ويتم تقييم العلاقة بين المعتقدات ونتائجها الاجتماعية لا على أساس المنطق الكلامي، بل على أساسٍ من المنطق الاجتماعي. وعلينا أن نعلم أنّ الظروف التاريخية والفكرية في هذا المعسكر تقتضي أحياناً أن تكون أكثر الفرق المقاتلة ساعية وراء السلم، وأكثر المعتقدات مسالمة محاربة، وأكثر الأفكار ديمقراطية دكتاتورية، وأكثر الأمزجة دكتاتورية ديمقراطية. إنّ مهمة المصلحين الإسلاميين حالياً تتلخص في التركيز على النصوص الدينية، من خلال الاستفادة من تجارب مذهب ما بعد التنوير في أوروبا. إنّ نموذجنا الذي علينا أن نحتذيه في إحلال الوفاق بين الإسلام والتنوير الفكري الحديث يكمن في مساعي نهضة (النقد الأعلى) في المسيحية البروتستانتية، و(التصحيح الأعلى) في الديانة اليهودية، (وخاصة جهود الحاخامات الألمان، من أمثال: زكريا فرانكل، وإبراهام جايجر. وكذلك النهضة التي أدت إلى إعلان (الفاتيكان الثاني) في الكنيسة الكاثوليكية، دون النهضات الدينية الخالصة، والحروب المذهبية الناشئة عنها، التي نشاهد قرائنها في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا، وفي القرنين التاسع عشر والعشرين في إيران.

نعلم أنّ بعض الذين يراقبونكم في الغرب يدعونكم بـ (أراسموس الإسلام)، وبعضهم يسمّونك بـ (لوثر الإسلام)، ولكنني؛ وبسبب الملاحظات المتعلقة بالظروف التاريخية والسياسية في إيران، وكذلك بسبب مما تقتضيه العلقة الاعتقادية والاجتماعية، أرى التسمية الأولى أليق بكم، وأقرب إلى المصلحة الإيرانية.

الهوامش

_____________

(*) باحث في علم الاجتماع والفكر الإسلامي.

([1]) في محاضرة بعنوان «التشيّع وتحديات الديمقراطية»، بتاريخ: 3 مرداد 1384هـ ش، جامعة السوربون.

([2]) حركة تحررية ناضلت للتخلص من الغزو المغولي لإيران، وكانت نواتها في نيسابور.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً