أحدث المقالات

ترجمة: محمد حسن زراقط

جودة الكلام وصلاحه رهن بنقده [سعدي الشيرازي]

مقدّمة في تاريخ القراءات النقدية عند المسلمين  ـــــــ

فكرة النقد ونقد الفكرة قديمان ضاربان في أعماق التاريخ، وترجع أصول النقد الأدبي إلى الفكر اليوناني عند أرسطو مثلاً، الذي كتب فن الشعر (بوطيقا)، أمّا في الإسلام فيمكن العثور في القرآن على موارد تحدّد أصول النقد وضوابطه، من ذلك قوله تعالى: >ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ…< (المؤمنون: 96)، وقوله: >وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ< (النحل: 125)، >فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ…<  (الزمر: 17 ـ 18)، وقوله: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا…< (الحجرات: 6)، وقوله: >وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ…< (الإسراء: 36)، وقوله: >قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ…< (المائدة: 10)، وقوله: >قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ…< (الزمر: 9)، وغيرها من الآيات المشابهة.

وفي التراث العلمي الإسلامي محاولات نقدية هامّة تتجلّى في ميادين الفلسفة والأدب والعلم، من ذلك الجهود التي بذلها المحدّثون الأوائل في مجال تصنيف الحديث النبويّ وتدوينه وجمعه.

وفي الفلسفة، كلّنا يعلم أن أبا حامد الغزالي (505هـ) دوَّن كتباً كثيرة تعدّ ذات طابع نقدي، منها كتاب bتهافت الفلاسفةv، الذي صنّفه لردّ بعض أصول الفلاسفة التي رأى أنها لا تنسجم مع أصول العقيدة الدينية، وأتى من بعده ابن رشد، الفيلسوف الأندلسي المسلم (559هـ)، فصنَّف كتاب bتهافت التهافتv، للردّ على أبي حامد، وكذلك يُشار إلى السيد المرتضى (436هـ) الذي كتب في الإمامة ردّاً على كتاب bالمغنيv للقاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي، مع ما بينهما من اتفاق في الرؤية على كثير من الأصول والمسائل، والكتاب المشار إليه للسيد المرتضى هو كتاب bالشافيv في الإمامة، ونظراً لأهميّة الكتاب لخّصه الشيخ الطوسي (460هـ) بعنوان bتلخيص الشافيv.

وها هو ابن تيمية (728هـ) يكتب bمنهاج السنّة النبوية في نقض كلام الشيعة القدريةv، في الردّ على العلاّمة الحلي (726هـ) في كتابه bمنهاج الكرامةv، وهذا غيض من فيض، فالتراث الإسلامي مملوّ بالكتب التي ألِّفت للردّ على كتبٍ سبقتها.

وإذا تجاوزنا ميدان الجدل العقدي، نشير إلى تأسيس المسلمين علم الفهرسة والتكشيف الذي يتضمّن في كثير من الأحيان نقداً للكتاب إلى جانب التعريف به.

ومن الكتب المصنّفة في هذا المجال نذكر: bالفهرستv لابن النديم (380هـ)، وbكشف الظنونv لحاجي خليفة (1067هـ)، وفي العصر الحاضر يقع على رأس القائمة كتاب bالذريعةv لآغا بزرك الطهراني.

هذا، ولكنّ النقد بمعناه الاصطلاحي فنّ جديد، ومن مبتكرات هذا العصر، ولم يكن رواج هذا الفن مرتبطاً بانتشار الطباعة بقدر ما هو مرتبط بظهور المجلاّت الدورية في القرنين الأخيرين.

تاريخ النقد العلمي والأدبي في إيران  ـــــــ

أما في إيران، فلم يبلغ عمر هذا الفنّ قرناً كاملاً؛ إذ قلّما نجد له حضوراً في مطبوعات فترة الحركة الدستورية (المشروطية أو المشروطة)، وأوّل مقالة مستقلّة لنقد الكتاب طبعت في أوائل القرن الرابع عشر الهجري الشمسي.

ومن الدوريات الإيرانية الأولى نذكر: أرمغان (مؤسّسها وحيد دستجردي سنة 1298هـ. ش.)، وإيرانشهر (مؤسّسها حسين كاظم زاده إيرانشهر سنة 1296 هـ. ش.)، وآينده (مؤسّسها الدكتور محمود أفشار 1304 هـ. ش.)، يادكار (مؤسّسها عباس إقبال سنة 1323 هـ. ش.)، ويغما (مؤسّسها حبيب يغمائي، سنة 1327 هـ. ش.)، وكلّ هذه المجلاّت كانت تنشر مقالات متفرقة وبشكل غير دوري في نقد الكتب.

ونقطة التحوّل الأساس في هذا المجال كانت صدور مجلة سخن (1322 هـ. ش.) التي أضفت رونقاً على مسألة نقد الإصدارات الحديثة وأخذتها على عاتقها سحابة ثلاثين سنة، وتوجد مجلاّت جادة أخرى اهتمّت بهذا الميدان الثقافي، منها مجلّة جهان نو (مؤسّسها حسين حجازي، سنة 1325هـ. ش.) وأنديشه وهنر (ناصر مكارم الشيرازي، سنة 1332هـ. ش.)، ووحيد (سيف الله وحيد نيا، سنة 1342هـ. ش.)، نكين (محمود عنايت، سنة1344هـ. ش.)، ورودكي وفرهنَك وزندكي (العقد الرابع هـ. ش.)، وكذلك المجلاّت الجامعية التابعة لكلّيتي الإلهيات في جامعة طهران (1349هـ. ش)، ومشهد (1347هـ. ش).

  ونقطة التحوّل الأخرى كانت صدور المجلّة المتخصّصة في الببليوغرافيا ونقد الكتب، باسم راهنماي كتاب (نشرة لجنة الكتاب، صاحبها إحسان يار شاطر ومديرها إيرج أفشار، تأسست سنة 1337هـ. ش.) واستمرّت 20 سنة، وقد عملت هذه المجلّة على تقعيد النقد وقوننته، ولا ننسى بالتأكيد الإشارة إلى مجلّة سبقت راهنماي كتاب، كانت تصدر بعنوان انتقاد كتاب، وهذه النشرة رغم قلّة عدد نسخها التي كانت تُطبع، إلا أنّ عدد قرّائها الراغبين بها كان كبيراً، وقد استمرّت زهاء اثنتي عشرة سنة.

وبعد ذلك، صدرت نشرة أخرى عن مؤسّسة مرواريد للنشر، يشرف عليها داريوش آشوري، واستمرّت من سنة 1344هـ. ش حتى سنة 1348هـ. ش، وتحمل اسم بررسي كتاب، وكذلك صدرت نشرة أخرى نصف سنوية عن مؤسّسة فرانكلين بعنوان: كتاب امروز، بإشراف جماعة منهم جهانكير أفكاري، كريم إمامي نجف دريا بندي، الدكتور حسن مرندي، أبو الحسن النجفي.

وبعد أفول نجم هذه النشرة المشرقة، صدرت مطبوعة أخرى أقلّ إشراقاً باسم bخبرنامه أنجمن كتابدرانv، واستمرّت من سنة 47 إلى 59 (1980م)، وقد كانت تهتمّ بقضايا اقتناء الكتب والمكتبات، ولكنها منذ سنة 53 (1974م) فصاعداً، أولت لقضية النقد اهتماماً، حتى صارت واحدةً من المجلات المفيدة في هذا الميدان.

وأكثر هذه المجلات التي أشرنا إليها دخلت في محاق الاحتجاب عن الصدور ولم يبق منها إلا بعض المجلاّت الجامعية، ومما ينبغي الشكر عليه صدور مجلات جديدة، ورثت سابقاتها في القيام بهذا الدور البنّاء على الصعيد الثقافي، منها: bنشر دانشv التي تصدر عن مركز نشر دانشكاهي (مركز النشر الجامعي)، ومديرها المسؤول الدكتور نصر الله بورجوادي، تأسست عام 1359 (1980م)، وهي تصدر مرة كل شهرين، والثانية مجلة bنقد آكَاه وكتاب آكَاهv التي تصدر عن مؤسّسة آكَاه بشكل غير منتظم، والثالثة مجلة bآيندهv بإشراف إيرج أفشار.

أشرنا من قبل، إلى أن العقود السبعة من عمر فنّ النقد في إيران كانت ملأى بالفائدة، وليس في هذا الوصف مجاملة أو محاباة لأحد، بل الواقع يشهد أن عدداً من العلماء والكتّاب حبروا مقالات مفيدة وسطروا ملاحظات نافعة على أو لما صدر في هذه الفترة من الزمان، وأحد أبرز روّاد هذا الميدان العلاّمة محمد القزويني (1328هـ)، الذي يعدّ مؤسّس طريقة جديدة في البحث التاريخي والأدبي في إيران.

وقد برز من كتّاب النقد عددٌ كبير من الكتّاب، نذكر منهم ـ على سبيل المثال لا الاستقصاء ـ: مجتبى مينوي، عباس إقبال، سعيد نفيسي، السيد محمد فرزان، عبد الحسين زرين كوب، محمد بروين كنابادي، حبيب يغمائي، السيد محمد علي جمال زاده، محمد تقي دانش بجوه، عباس زرياب خوئي، إيرج أفشار، برويز ناتل خانلري، إحسان يار شاطر، فتح الله مجتبائي، السيد جعفر محجوب، مصطفى مقربي، حسين محبوبي أردكاني، منوشهر ستوده، السيد حسين خريوجم، محمد رضا شفيعي كدكني، داريوش آشوري، نجف دريابندي، رضا داوري، مصطفى رحيمي، رضا براهني، أحمد أحمدي بيرجندي، عبد العلي دستغيب، مسعود رجب نيا، إيرج وامقي، علي رواقي، وعلي أشرف صادقي([1]).

بعد هذه المقدّمة التاريخية حول الموضوع، أشير إلى شيء من تقنيات النقد، وما يرتبط به من موضوعات.

فائدة النقد  ـــــــ

لا تنفصل وظيفة النقد عن فائدته المترتبة عليه، بل تتوقّف الفائدة على حسن أداء هذه الوظيفة في مقام العمل والتطبيق، يذكر الأستاذ عبد الحسين زرين كوب أنه تترتب على النقد فائدتان هما: تهذيب الذوق العام، وتنمية فكر الكاتب([2])، وقد أصاب في إشارته لهاتين الفائدتين الأساسيتين؛ فإن النقد، وبالرغم من عدم صدوره من جهة رسمية، فإنه إن كان نقداً سليماً وصحيحاً، مرجعيةٌ هامة في تحديد مصير الكتاب، وإذا كانت دوائر الرقابة على النشر تعطي ترخيص النشر، فإن ذوق أهل الكتاب وقبولهم ورأي الناقد ـ الذي هو الممثل الطبيعي لهم ـ يعطيان ترخيص القبول والرواج.

ولست أقصد أن النقّاد بالضرورة غير معرّضين وليس لهم أهداف خاصة، فإن بين النقاد من هو ضحل الثقافة، كما أن بين الكتَّاب من هو bمستأكل بعلمهv مرتزق به، وباحث عن الشهرة والجاه فحسب، لكن القاعدة والأصل أن يكون الناقد مهذّباً، يقوم بدور يشبه دور الطبيب إلى حدّ بعيد، وليس الأطباء عيسويّو النفس (نسبةً إلى النبي عيسى %) والطوية، وهذا لا يقلّل من دور الطبيب وعظم منزلته، وبحسب القول المعروف: لا ينبغي أن تقفل المساجد؛ لأن واحداً من الناس لا يصلّي.

ووجه تشبيهي الناقد بالطبيب أنه يقلب وجوه العلل ويدرسها لمعالجة المرض لا بقصد الإشارة إليه وكشفه فحسب، وهذه هي وظيفة الأطباء أن يبحثوا عن أمراضنا الداخلية والخارجية بكل ما أوتوا من وسائل التشخيص لمعالجتها وكذلك النقّاد، والفرق الوحيد بين الطائفتين أن الأطباء تشرف على عملهم إدارة رسمية تحاسب المقصّر منهم والمخطئ في أداء دوره، والنقّاد ليسوا كذلك، ولكن على أي حال هناك مرجعية معنوية تمارس دور الرقابة على نتاجهم، هي الذوق العام ووجدان المهتمّين بالكتاب.

يُنقل عن أبي سعيد أبو الخير أن مدلّكاً في الحمام سأله: ما هي المروءة؟ فقال له: أن لا تُعلِم الإنسان بالأوساخ الموجودة على جسده! هذا التعريف للمروءة ليس تعريفاً كاملاً ولا صحيحاً؛ وذلك لأنه هو نفسه أعلم هذا المدلّك المسكين بأوساخه الأخلاقية الموجودة فيه، وربما يوجّه النقد عينه إلى كاتب هذه السطور بأنني فعلت الشيء نفسه مع أبي سعيد أبو الخير، ومن الطبيعي أن هذه السفسطات لا تؤدي إلى نتيجة؛ فإن هذا المدلّك المسكين وظيفته الأخلاقية أن يُعلِم الداخل إلى الحمام بأوساخ بدنه ويعمل على تنظيفه، فيخرج من الحمّام بغير الحال التي دخل عليها، وهذا العمل غاية في الشرف ويصل إلى أقصى درجات المروءة.

وعلى العكس من قول أبي سعيد يمكن القول: إن المروءة هي أن لا تخفي عيوب الناس ولا تسترها، وتبقيهم على قذارتهم، فهذا شيء والاستعراض والرياء شيء آخر.

نعم، إن فائدة النقد هي دور المحتسب الذي يؤدّيه الناقد بشكل سليم، وبالمعنى الحسن لكلمة المحتسب الذي يمنع الفساد، لا الذي يقبل الرشا ويضيّق حرية الناس. وبعبارة أخرى: وظيفة الناقد تطبيق القانون غير المدوَّن ما يؤدي إلى التمييز بين النافع وغير النافع، مما تسوِّده الأقلام من قرطاس، حفاظاً على الذوق العام للمهتمّين بالكتاب.

وعندما يُكتَب نقدٌ مدروس لكتاب سيء، لا تقتصر فائدته على هذا الكتاب بل تعود فائدته الأهم إلى أنه يحولُ دون صدور مثله في أوقات لاحقة، ويصدق العكس على الكتاب الجيّد.

أدب النقد ولحن خطابه  ـــــــ

ترتبط سلامة النقد وحسن خطابه بسلامة طوية الناقد وأدبه، وضعف النقد وعلوّ جلبته وضعف مضمونه ناتج عن ضعف الناقد في جمع الشواهد والأدلّة، التي تدعم تصوراته وأحكامه على الكتاب أو له، ومن المهم في نقد أيّ كتاب الإشارة إلى السوابق العلمية والفكرية للكاتب، والبعد عن المسائل الشخصية؛ فإنها لا يترتب عليها أيّ فائدة بل تضرّ بغرض الناقد، وتحول بينه وبين الوصول إلى أهدافه.

وربما يأتي النقد ـ بعد الكثير من التمهيدات ـ مرّ المذاق على الكاتب، ويستطيع الناقد أن يدافع عن نفسه فيقول: bالشفاء يحتاج إلى الدواء المرّv، ولكن ليس الدواء المرّ هو الطريقة الوحيدة للعلاج؛ ولذلك فلا يحقّ لأيّ ناقد أن يستخدم ألفاظاً نابية جارحة، متترساً بكونه ناقداً، والحدّ الأكثر المسموح به هو شيء من الفكاهة في نقده، على أن لا يصل الأمر إلى حدّ السخرية، ومن الممكن أن نكتب نقداً جاداً ورصيناً دون أن نكدّر خاطر الكاتب.

وعلى أي حال، ليست حساسيات صاحب الكتاب هي المعيار الوحيد، بل هناك القرّاء المحايدون؛ فهم خير حَكَم بين الطرفين، فكثيراً ما تجد شخصاً حساساً إلى درجة لا يسمح بأن يقال له: إن فوق عينك حاجباً([3]). وعلى حدّ قول سعدي الشيرازي: كلّ الناس راضون بعقولهم وبجمال أبنائهم.

ينقل شمس قيس الرازي (من أعلام القرن السابع) صاحب المعجم في معايير أشعار العجم، قصّةً معبرة ومفيدة حول الشعراء الناشئين الذي لا يحتملون أيّ نقد أو إرشاد فيقول: في هذا الزمان صار كلّ من تعلّم أوزان الشعر وحفظ عدداً من القصائد يعدّ نفسه شاعراً، لا يقبل نصحاً ولا إرشاداً، ولا يلتفت إلى عيوب شعره ونواقصه، بل كل من يوجّه إليه النصيحة متهم بالبخل والحسد، فيقابله بالسبّ والهجاء. ومن ذلك أنني التقيت في بخارى سنة 601هـ فقيهاً رغب بصحبتي، فعاشرته زهاء ست سنوات وكنت أعتقد فيه الصلاح وسلامة النفس، وكان مصرّاً على نظم الشعر السيئ ما يجعل المستمعين يسخرون منه، وكانت معرفته بالأدب واللغة ضحلةً إلى حدّ أنه كان يعتقد أن bأَخْرَجَهv ينبغي أن تقرأ bآخرجهv (جيم منقوطة بثلاث نقط من تحت) اعتقاداً منه أن هذه الكلمة ذات أصل عربي، مؤلفة من أخرج + هـ. ولذلك نظم قصيدة استخدم فيها هذه القافية، وطلب مني تأييده والشهادة له بصحّة ذلك.

ثم بعد ذلك زارني غروب أحد الأيام ـ وكنت صائماً ـ فعرض عليّ قصيدة من هذا النوع الخفيف لغةً ومضموناً، فلم أجد من المناسب السكوت؛ فنصحته بعدم الدخول في ميدان الشعر؛ لأنه ليس من أهله، وما كان ذلك مني إلا حرصاً عليه ووفاء له بحقّ الصحبة والصداقة، فوقع هذا النصح منه موقعاً سيئاً، وتكدّر عليّ وشرع في هجائي…([4]).

وبعد حوالي ثمانمائة سنة من هذه الحكاية، نقرأ في افتتاحية مجلّة bسخنv عتاباً مشابهاً: لن يحصل الراغب بتطوير العمل الثقافي والفكري في بلادنا إلا على العداوة ممن يوجّه إليهم نقداً لكتاب أو مقالة، فلم يعتد أهل القلم عندنا على استماع النقد أو الإصغاء له، فلا يعتقد كاتبٌ ـ مهما كان شاباً أو شيخاً هرماً ـ بوجود عيب في ما يكتب، ولو اعتقد بوجوده فلا يعتقد بوجود من يستطيع اكتشافه دون أن يكون مغرضاً، فإنك لو سطرت السطور وملأت الصفحات في بيان عظمته فلن تشكر إذا [شرت إلى خال في وجه عروسه المحبوبة]([5])، ولكن لا بد من الاعتراف بأن السبب الأكثر إثارةً هو النقد اللاذع والشتائم.

نعم، كان عندنا في إيران مجلّة باسم bفردوسv، خاصّة بالمصارعين من الأدباء، وطريقتها هي الفن غير الأخلاقي أو الأخلاق غير الفنية، وكان أبطال هذه المجلّة من مؤلفين ونقاد في الشعر والقصة وغيرها من فنون الأدب يُعلون وتيرة النقد حتى يسعروا تنّور مبيعاتهم، وباختصار فإن ما كانت تفعله هذه المجلّة لا يصدق عليه بأي وجه أنه خدمة للأدب، وكأن لسان حالها دعوة الأدباء إلى هتك بعضهم أعراض بعض؛ فالمجلة الهادفة باستطاعتها توجيه كتَّابها إلى الحفاظ على الأدب والأعراف المقبولة في توجيه النقد للآخرين، وإن لم يكن ذلك ممكناً فعلى الأقل يستطيع محرّروها تشذيب بعض الإساءات وحذفها، وليس في هذا العمل افتئاتاً على حرية التعبير أو إعمالاً لمقصّ الرقيب.

مواصفات الناقد  ـــــــ

تقتضي القاعدة أن يكون الناقد خبيراً في المجال الذي يُعمل قلمه فيه، قادراً على التمييز بين الجيّد والرديء، وليس من الضروري أن تكون هذه الخبرة موثقة بشهادة جامعية، رغم كون الخبرة الجامعية مطلوبة في بعض المجالات والميادين؛ وذلك لأن الذوق الفني في مجال الكتابة رغم أهميّته إلا أنه ليس شرطاً كافياً إن لم يكن مقروناً بخبرة تخصّصية في المجال الذي يمارس الناقد حرفته فيه.

يعرّف بعضهم المحرّر بأنه قارئ دقيق، وهذا التعريف يصدق إلى حدّ ما على الناقد أيضاً، ولكنه تعريف بالحدّ الأدنى؛ لأن القراءة الجيدة مطلوبة ولكنها ليست كافية فرب قارئ جيد لا يصلح لأن يكون ناقداً ولا محرّراً.

بلى، لا بد في ممارسة فعل النقد من معرفة عميقة بالمجال، فمن يريد نقد ديوان شعري أو مقطوعة شعرية ربما ليس من الضروري أن يكون شاعراً، ولكن لا بدّ من معرفته بأصول الشعر وقوانينه من عروض وأوزان وقافية، ولا بد له من أن يكون قد قضى شطراً من عمره في تأمّل الشعر وتذوّقه، وكذلك الناقد لنصّ فلسفي لا يشترط فيه أن يكون فيلسوفاً، ولكن لا بد من أن يكون فعله النقدي مسبوقاً بمعرفة فلسفية تسمح له بالحكم للنص أو عليه، وعلى الشعر والفلسفة تقاس سائر المجالات العلمية.

وربما يكون من توضيح الواضحات أن الناقد لا بدّ لـه ـ مضافاً إلى المعرفة ـ من ذوق سليم وعقل كذلك؛ لأن الذوق السليم أساس في ممارسة العمل الفكري والثقافي حتى في غير الذوقيات، والذوق السليم أو العقل المشترك مركّب من الذكاء والفن والعقل والمنطق والعلم وسعة الاطلاع والتجربة المصقولة مع دقة النظر، وليس هذا المركّب نادراً ولكن لا يكفي في حصوله المعرفة التخصصية، بل ليس هذا المركّب أمراً مطلوباً في النقد فحسب، بل هو مطلوب في كلّ الأنشطة الفكرية والثقافية وهو موجود في حالته الجنينية عند البشر أكثرهم، ولحسن الحظ فإنه يقبل التنمية والتطوير.

وللنقد ركنان يقوم بناؤه عليهما: أحدهما عقلي، والآخر تجريبي (سوف يأتي الحديث عنه). الركن الأول يحتاج إلى العقل السليم والذوق المستقيم أكثر من الآخر.

على كلّ ناقد أن يكون في مجال نقده إما مؤلفاً بالفعل أو بالقوّة القريبة من الفعل، والمقصود من المؤلف بالقوة أن يكون الناقد عالماً مطّلعاً على حيثيات إنجاز الكتاب ومشكلاته ومعاناة الكاتب، وإلا فإن من يمارس فعل الحبّ للكتابة من بعيد دون الاكتواء بنار العشق سوف تكون توقعاته بعيدة عن عالم الواقع وإمكانيات التحقيق.

هذه هي بعض مواصفات كلّ ممتشقٍ لقلم النقد وممارسٍ لفعله، وإذا كنّا لم نقف عند الصفات الأخلاقية كالعدالة والإنصاف وغيرها من المواصفات المشابهة؛ فلأننا نعتبر ضرورة وجودها أمر مسلّماً ومقطوعاً به، وإلا فأيّ حرفة؛ علمية كانت أم غير علمية، لا تحتاج إلى الأخلاق والضمير الحي؟! وحيث إن الناقد يمارس فعلاً أشبه ما يكون بالقضاء فإنه مطالب برعاية كلّ مقتضيات العدل والإنصاف والبعد عن الغرض وهوى النفس.

وعلى أي حال، فإن هذه الصفات لا يكفي في تحققها وجودها الفعلي فما كلّ من توفر عليها كان ناقداً نافذ البصيرة، بل لا بد من الاعتراف بوجود شيء من الموهبة الإلهية هي التي تحدّد مصير الناقد ومدى نجاحه، ويكشف عن توفيق الناقد الإجماع السكوتي أو الكلامي على سلامة فعله وجودة نقده، فإن النقد أيضاً ربما يكون خاضعاً لحكم قانون بقاء الأصلح، وكما أن الناقد يُعمل قلمه في آثار الآخرين تشريحاً، فإن لكل ناقد نقّاد يراقبون فعله وآثاره.

المقالة النقدية، الإجراءات والتنفيذ  ـــــــ

يستطيع من يريد تدوين عرض أو تعريف بكتاب أن يقرأ مقدّمته وخاتمته وخلاصات الفصول، ثم يمسك قلمه لكتابة تعريفه، أما من يهدف إلى كتابة مقالة نقدية، فلا يسعه الاكتفاء بما تقدّم، بل لا بد لـه من قراءة عميقة متأنية، الأمر الذي ربما لا يفعله كثير من النقّاد المحترفين تبعاً لكثرة انشغالاتهم وقلّة أوقات فراغهم، وهذه واحدة من إشكاليات العمل النقدي الذي لا يثمر إلا سراجاً لا زيت فيه وشعيراً يسمّى بالقمح ادعاءً وزوراً.

الناقد المسؤول يلتزم بقراءة الكتاب موضوع النقد مرّةً واحدة على الأقل، ويدوِّن ملاحظاته على الكتاب؛ ليؤمن المادة الخام لكتابة مقالته؛ فالقراءة النقدية ـ كالقراءة التحريرية ـ لا بد من أن تكون أعمق وأبعد غوراً من القراءة العادية؛ حيث الهدف منها تقييم الكتاب لا الاطلاع واكتساب المعرفة فحسب.

وينبغي النظر إلى كلّ كتاب من زاويتين عامّتين:

أ ـ الصورة والشكل.

ب ـ المضمون والمحتوى.

هذا، ولكن لا يمكن رسم خطّ فاصل بين الاثنين؛ من هنا، نجد أننا لا نستطيع حسم الأمر لمصلحة إحدى الزاويتين في بعض الأعمال مثلاً: النثر غير الأدبي هل هو صورة وشكل أم مضمون؟ ولذلك أعتقد أن هذا التقسيم أوّلي، ومن باب التسهيل للنقد والكتابة النقدية.

أ- التقييم والنقد الشكلي  ـــــــ

1 ـ يجب أن يبدأ تقييم الشكل لأيّ كتاب يراد نقده من ما قبل باء البسملة حتى ما بعد ميم bتمّv، وتفصيل ذلك أن التقييم يجب أن يبدأ من العنوان المطبوع على الغلاف ويقارن بالعنوان المدوّن في الصفحات الداخلية وحتى الصفحة التي تدوّن عليها عبارة حقوق النسخ والطبع، فإذا عدل الناشر أو الكاتب عن الأسلوب الرائج في تدوين هذه المعلومات ينبغي أن يخضع لمساءلة الناقد، وليست الكتب التي لا تراعي الأسلوب المنهجي في تدوين هذه المعلومات قليلة، فإننا كثيراً ما رأينا كتباً مطبوعة بالفارسية من دون عنوان، وبخاصة الكتب التي تصوّر عن الطبعات الحجرية. بل حتى في الكتب المترجمة، فإنك تجد أن المترجم إلى الفارسية إن كتب اسم صاحب الكتاب، فإنه لا يكتبه بلغته الأصلية فضلاً عن عنوان الكتاب الأصلي الذي قد لا تجد له في كثير من الترجمات عيناً ولا أثراً، وكثيراً ما تجد كتباً لا تعرف أيّ طبعة هي أو أي تاريخ طبعت، أو ترجمات لا يَعرف القارئ لغتها الأصلية.

2 ـ ثم على الناقد أن ينتقل إلى الفهرست([6])؛ حيث يجب ذكر الفهرست لا كما في القصص حيث لا حاجة إليه.

3 ـ وبعد ذلك، على الناقد أن ينظر في المقدّمة والمدخل. وأشير هنا إلى وجود فرق فني بين المقدمة [Preface – Foreword] وبين المدخل [Introdution]، فالمقدمة لا ترتبط بالكتاب ماهوياً وبشكل مباشر، على خلاف المدخل الذي تربطه بالكتاب وشائج قربى منهجية ومضمونية؛ بحيث قد تجد بعض الكتب التي لا يمكن فهمها من دون الاطلاع على مقدمتها.

في المقدمة يمكن الحديث عن مسائل جانبية من قبيل الظروف التي أحاطت تدوين الكتاب وإنتاجه أو إعادة النظر فيه، أو توجيه الشكر إلى من ساعد المؤلّف في إنتاجه وما شاكل ذلك، بينما يخصّص المدخل لذكر الطرح أو الفرضية التي يسعى المؤلّف لإثباتها والهدف الذي يسعى من أجله وغير ذلك من القضايا الأساسية التي يمكن وصفها بالعلل الوجودية للكتاب، وعلى الناقد أن يتابع الكتاب وكاتبه ليحدّد مدى دقة الكاتب في الوفاء بما يعد به في المدخل.

4 ـ والخطوة الرابعة هي المخصّصة لطريقة التدوين ومنطق الكاتب، فهل صاغ الكاتب نصّه بطريقة مملّة ومشوّشة أم لا؟ وبالرغم من أن هذا البعد ليس من مقولة المضمون والمحتوى إلا أنه من أبرز الخصوصيات المؤثرة في المضمون؛ فقد تجد نصاً رائعاً في محتواه وأفكاره إلا أنه مغشوش مشوّش في طريقة تعبيره، وكذلك لا بد من ملاحظة مدى ترابط الفصول في مبانيها منطقياً، فقد تجد في فصول بعض الكتب جمالاً مشعّاً، إلا أنك عندما تنظر إليها ضمن سياقها ترى أنها جزيرة مقطوعة عن ما قبلها وما بعدها ولا يجمعها معها إلا وحدة المؤلف لا وحدة الموضوع، وفي مثل هذه الموارد على الناقد أن يشير إلى هذا الخلل ويقترح على الكاتب حذف مثل هذه الفصول في الطبعات اللاحقة.

وقد تجد كتاباً مقسّماً ـ على المستوى الورقي ـ إلى فصول وأبواب، ولكنك عندما تتأمّل في وحداته الورقية تجده يعالج موضوعاً واحداً من زاوية واحدة لا يسمح للقارئ بالتقاط أنفاسه بين لحظات الكتاب، وإذا كان الكتاب مترجماً، فعلى الناقد أن يلاحظ مدى مراعاة المترجم للترتيب الأصلي للكتاب، فلا يحقّ للمترجم أن يعدل عن الترتيب الأصلي سواء في ذلك تقسيم الفصول أو الفقرات، بل حتى علامات الترقيم إلا إذا كان ذلك مبرراً ومفيداً، والالتزام بعلامات الترقيم أمر مطلوب في تحقيق الكتب القديمة، بل يحقّ لـه إضافة بعض العناوين الفرعية شرط أن يميّزها عن النص الأصلي؛ ليعلم القارئ أنها من المصحّح والمحقق لا من صاحب النص
الأصلي.

5 ـ ومن الخصوصيات المهمة في أيّ نتاج فكري ثقافي ترجمةً كان أم غيرها، سلاسة نشره ومناعة تعبيره، فإن الخلل الذي يصيب النثر في نحوه وفصاحته ينعكس تلقائياً على المضمون وينقل عدواه إليه، وإذا أخذنا النصوص الفارسية مثالاً، فإن الإصرار على استخدام المفردات وطرائق التعبير الفارسية القديمة، كما الإغراق في التعريب، وكذلك الإفراط في الجنوح إلى استخدام المصطلحات الإفرنجية، كل هذه الأدواء لا بد من الإشارة إليها في النقد، فالذوق الشخصي في التعبير مقبول إلى حدود، ولا يحقّ للكاتب أن يفرط في مجانبة الذوق العرفي العام.

وكذلك، فإن الكاتب ليس مطلق اليد في نحت الكلمات والمفردات إلا بمقدار الضرورة، فإنك تجد بعض الكتَّاب يصرّ على نحت مفردات تخصّه ولا يفهمها أحد سواه، وهو بذلك يكون قد أخلّ بالغرض الأصلي من اللغة، وهو التفاهم والتفهيم. وعلى أيّة حال، فاللغة إرثٌ مشترك على كلّ من يستخدمها أن يبذل كل حرصه من أجل نقلها إلى الأجيال القادمة سليمةً، وهذه المهمّة من المهامّ الأساسية للناقد.

6 ـ ينبغي أن يلاحظ الناقد اشتمال الكتاب على فهرست للأعلام وغيرهم في آخره، حيث تدعو الحاجة إلى ذلك، شرط أن يراعى في الفهارس ارتباطها بمضمون الكتاب، وأن لا يبالغ في كثرتها بحيث يزيد حجمها على حجم الكتاب كما يفعل بعضهم.

7 ـ ومن المسائل المهمّة في نقد أيّ كتاب ملاحظة تقنيات طباعته وجودة إنتاجه، فنفاسة الطباعة أمر مطلوب ومستحبّ، ولكن الواجب في هذا المجال هو الحدّ الأدنى؛ أي لا يكون الحبر كثيفاً بحيث تحكي الصفحة عن ما وراءها، ولا يكون رقيقاً بحيث يكاد لا يبين في بعض الأماكن، وكذلك لا بد من مراعاة حجم الخطّ فكتب الأطفال ودواوين الشعر لا يحسن أن تطبع بخط صغير، كما لا يحسن بالموسوعات العلمية أن يكبر حجم خطّها، وكذلك الأخطاء الطباعية لا بد من أن يُشار إليها فهي مسؤولية مشتركة بين الكاتب والناشر، وإن في الإشارة إلى هذا الخلل ما يزيد من حساسية الناشر والكاتب لتصل أخطاء الطباعة إلى الحدّ الأدنى أو تنعدم.

8 ـ ومن العيوب التي يجب على الناقد الإشارة إليها في الشكل، الأخطاء والعيوب في تجليد الكتاب؛ من ضعف في ترابط صفحاته أو الزخارف المطبوعة على غلافه وما شابه ذلك.

9 ـ وأخيراً في الشكل، لا بد من ملاحظة الإحالات والهوامش وترتيبها، فقد تجد بعض الكتّاب يعدل عن ربط النصّ بالهامش من الأرقام إلى رموز أخرى كالنجمة والنجمتين، وهكذا الخنجر والصليب وما شاكل ما يضفي على الكتاب شكلاً مثيراً للسخرية.

 

ب- نقد المضمون وتقييمه  ـــــــ

تتفاوت طريقة نقد الكتب وتقييمها تبعاً لاختلاف مضمونها، فلا يمكن التعامل مع الكتب العلمية والأدبية والسياسية بمعايير واحدة؛ فديوان الشعر لا يشبه كتاب الفلسفة إلا في الشكل الظاهري الذي تقدّم الحديث عنه، أي في المقدمة والفصول وفهرست الأعلام وما شابه ذلك.

ولن نتحدث هنا عن النصوص الأدبية الإبداعية بالرغم من أن بعض المعايير التي سنذكرها تنطبق على هذا النوع من الكتب أيضاً، إلا أنه تبقى لها خصوصيات وضوابط يطول شرحها وتحتاج إلى مزيد من التفصيل ليس هذا محلّه.

وحول نقد الكتب البحثية في الأدب والتاريخ والجغرافيا وغيرها من العلوم الطبيعية والإنسانية، يمكن اعتماد أساسين:

1 ـ العقلي الاستدلالي

2 ـ التجريبي

1 ـ نقصد بالأساس العقلي الاستدلالي أن تدوين الكتب كغيره من فعاليات العقل الإنساني وأنشطته؛ ولذلك لا بد من أن يكون بعيداً عن الوقوع في التناقض والخُلف، وأن يتوفر على ترابط بين المقدّمات والنتائج، وفي هذا المجال على الناقد أن يلاحظ مدى دقّة المؤلف في استدلاله لإثبات أيّ فكرة يتبناها، فهل يعتمد التمثيل ـ الذي هو أضعف الأدلة من الناحية المنطقية ـ أم غيره من البراهين؟ وإذا استند إلى الاستقراء فما هي درجة استيعاب استقرائه؟

ولا يتوقف اكتشاف ضعف الاستدلال أو قوّته على أن يكون الناقد بصيراً بالمنطق عارفاً باصطلاحات المناطقة، ذلك أن العقل السليم ـ الذي هو أعدل الأشياء قسمةً بين الناس، على حدّ قول ديكارت ـ والذوق الصحيح كافيان في الوفاء بهذه المهمة.

2 ـ والمقصود من الأساس التجريبي ـ البحثي هو وضع الكتاب إلى جانب غيره من الكتب المشابهة له في موضوعه والمقايسة بينه وبينها؛ للتعرّف على مدى اطّلاع الكاتب على المصادر الأساسية لموضوعه، ولملاحظة منهجه وطريقته في الاستفادة منها، فهل يستفيد منها على طريقة bالقصّ واللصقv أم أن الكاتب يُعمِل عقله في هذه المصادر؛ بحيث يكون ما يسطره على أوراقه خارجاً من مصفاة عقله الخاصة به، فيكون قد طرح فكرة جديدة، أو عرض فكرة قديمة بأسلوب جديد، أو عثر على دليل جديد لفكرة قديمة… أم أنه لم يفعل شيئاً من ذلك بحيث ليس ما قام به إلا تدريبٌ لتحسين الخط، أو غرور برواج الحديث عن موضوع محدّد فأدلى بدلوه بين الدِلاء ولو عاد فارغاً، فيشفع له عثوره على ناشر ينقده مبلغاً من المال وكفى!؟

نعم، ولا بد من ملاحظة وتقييم كل ما يذكره الكاتب في كتابه من معلومات وبيانات ونتائج تجارب وتقارير وما شابه ذلك مما يستند إليه، ويختلف الحال في مصادر العلوم النقلية عن الحال في مصادر العلوم الطبيعية المعاصرة؛ ففي الأولى تقتضي القاعدة ترجيح المصدر الأقدم على الأحدث، بينما عكس هذه القاعدة صحيح في النوع الثاني من العلوم. وكذلك لا بد من أن يكون الاستناد إلى المصدر بشكل مباشر فلا يجوز الرجوع إلى مصدر بواسطة إلا في حالات خاصة؛ ففي الحديث النبوي قد يحسن الرجوع في بعض الأحيان إلى معجم الأحاديث النبوية لفينسك، ولكن يبقى الرجوع إلى المصادر الأساسية أولى وأحرى بالباحث المحقق.

مثلاً: عندما يذكر المؤلّف في آخر كتابه كشافاً لغوياً للكلمات لا بد من التفرقة بين ما يعتمد فيه على معاجم موثوقة، وبين ما لا يستند فيه إلا إلى اجتهاده الشخصي، ولا أستطيع إطلاق اسم الاجتهاد على كلّ رأي يدلي به صاحب الرأي.

]تقسيمات للكتب العلمية[  ـــــــ

تنقسم الكتب العلمية البحثية إلى أقسام ثلاثة رئيسية، هي:

1 ـ التأليف والتصنيف.

2 ـ الترجمة.

3 ـ تحقيق الكتب القديمة وتصحيحها.

وقد تحدّثنا عن الصنف الأول بالرغم من وجود شيء من المشتركات بين ما تحدّثنا عنه وبين الصنفين الأخيرين، لكن لخصوصية الترجمة والتحقيق نفصل الكلام عنهما.

1 ـ الترجمة  ـــــــ

إن الخطوة الأولى في نقد النص المترجم هي في نقد النص الأصلي، فلا شيء يدعو إلى افتراض سلامة النصّ الأصلي وعلوّ كعبه في ميزان العلم والأدب، وليس صعباً على العارف باللغات الأجنبية أن يعرف قيمة هذا الأثر قبل تجشم عناء ترجمته إلى لغة ثانية، ولكن هذا لا يمنع من تقدير جهود شخص تجشم عناء الترجمة وأنجزها بإتقان، ولو كان النصّ المترجم غير جدير بهذه المشقة، ولكن يحسن لفت انتباهه كي لا تضيع الجهود في ما لا ينبغي.

ومن الواضح قلّة حصول هذا الأمر مع المترجم المحترف، فإن المترجم القدير لا يهدر جهوده في هذا النوع من الكتب، والأزمة تكمن في تسلّط المترجمين الناشئين على كتب أصيلة ونافعة في لغاتها الأصلية، فينقلونها إلى لغاتهم فيخرّبون أكثر مما يعمرون، ويضرّون أكثر مما ينفعون، وليس قليلاً ما يحصل هذا في إيران.

لنقد الترجمة أسس كلاسيكية ثلاثة لا بد من ملاحظتها، هي:

أ ـ ملاحظة مدى مهارة المترجم في لغته الأصلية؛ أي اللغة المقصد.

ب ـ ملاحظة مدى مهارته في لغة المبدأ، أي لغة النصّ الأصلي المراد نقله.

ج ـ ملاحظة مدى معرفة المترجم بموضوع النص.

في هذه الموارد، لا يحسن الاكتفاء  والتعويل على سمعة المترجم الحسنة أو السيئة في أعماله السابقة والاعتماد على الانتقادات الموجّهة إليه؛ ذلك لأن النقود السابقة قد لا تكون صحيحة ـ أوَّلاً ـ لأن المترجم السيئ قد يتطوّر من خلال خبرات يكسبها ودُربة يستفيدها؛ من هنا، كانت الطريقة الأمثل والأبسط هي المقارنة بين الترجمة وبين النص الأصلي؛ لتكشف لنا هذه المقارنة عن العناصر الثلاثة المشار إليها أعلاه.

وقد يتسنى لنا الحكم بوجود العنصر الأول من خلال سلاسة التعبير وجماله، ولكن ذلك لا يكشف لنا عن العنصر الثاني، فربما كان هذا الجمال وهذه السلاسة على حساب خيانة النصّ الأصلي وتحريف مدلولاته.

ومن بين الأمور التي تكشف عن قدرة المترجم ملاحظة دقته في تحديد معادل مصطلح أو كلمة أساسية في النص الأصلي؛ ولذا فإن عدم ذكر المصطلحات الأصلية في الترجمة يعدّ نقصاً مضلّلاً، فربما يكون هدف المترجم من هذا الأمر إخفاء أدوات الجريمة التي مارسها على النصّ أثناء ترجمته بحيث لا يبقي خلفه أيّ شيء يعتمده الناقد قرينةً إثباتية ضدّه، وربما يعتقد أنه ليس مسؤولاً أمام أحد عن ترجمته، وإذا كشف البحث والتحرّي عن خلل في معادلات المصطلحات فينبغي أن يعلم أن المنزل بُني على أساس غير متين.

الأمر الثاني هو ملاحظة دقة المترجم في ضبط أسماء الأعلام، فإن ذلك يكشف عن مدى معرفة المترجم بأعلام الفن الذي يترجم في مجاله.

وأخيراً في مورد الترجمة، أشير إلى أن بعض الكتب العربية أو الأجنبية التي تترجم إلى الفارسية قد يستند مؤلّفوها إلى نصوص فارسية، وفي مثل هذه الحالة لا بد من الرجوع إلى النص الفارسي الأصلي، وليس مقبولا من الناحية المنهجية الاكتفاء بترجمته كما تيسّر؛ ولهذا الخلل سوابق في الترجمة الفارسية، فإن أحدهم ـ ولا أريد ذكر اسمه ـ ترجم نصّاً فيه أبيات من الشعر لجلال الدين الرومي، وبدل أن يتعب نفسه بالبحث عن النصّ الأصلي اكتفى بنسج أبيات من نظمه ليزيّن بها ترجمته!!

2 ـ تحقيق النصوص  ـــــــ

عرفت اللغة الفارسية أعمالاً عدّة في منهج تحقيق النصوص وقواعده([7])، وأكثرها حداثةً مقالة: bنكات في تحقيق النصوصv للكاتب أحمد سميعي نقرأ في مقدّمتها: bيحتاج تحقيق النصوص إلى أساس وخميرة، من التبحّر في اللغة والعلوم الأدبية والمعرفة الواسعة بالمصادر، والاطلاع على الأساليب الأدبية القديمة وتأثير اللهجات المحلية في اللغة وكيفية تحوّلها، وكذلك يحتاج إلى معرفة باللغة العربية وأنس بالقرآن والحديث النبوي، وإلى العلم بحركة تطوّر الخطّ والكتابة، يضاف إلى هذه الأمور جميعاً وجدان علمي خالص وقوّة تمييز وفراسة، وذوق أدبي لغويv([8]).

في تقييم تحقيق النصوص ونقدها لا بد من ملاحظة أمرين:

أ- النسخة أو النسخ المعتمدة:  ـــــــ

النسخة المعتمدة في تحقيق النصوص ترتفع قيمتها العلمية بحسب قدمها الزماني، فقد يُكتفى بنسخة واحدة للتحقيق عندما لا يتوفر غيرها أو عندما توجد نسخة بخطّ المؤلف، وفي الحالة الأخيرة قد يستفاد من النسخ المنقولة عن نسخة المؤلف كمستشار ليس إلا، ومن المعروف أن نسخ المؤلّف قليلة جداً في المخطوطات؛ ولذلك ترتفع القيمة العلمية للنسخ المنقولة أو صورها الفوتوغرافية، وعندها لا بد من الرجوع إلى أقدم النسخ المتوفرة، فلو أراد أحدهم تحقيق المثنوي لجلال الدين الرومي من خلال خمس نسخ تعود في تاريخها إلى القرن العاشر فما بعد، لا يكون إلا كمن يبحر في الهواء إلا إذا لم تتوفر نسخة أقدم من القرن العاشر، والرجوع إلى النسخ الأقدم هو قانون تجريبي عقلي؛ وذلك أنه كلّما اقتربنا من bعصر النصv، كلّما قلّ تدخّل يد التحريف الواعي أو غير الواعي، وكذلك لا بد من معرفة شجرة نسب النسخة التي يعتمدها المحقق ليطّلع على درجة قربها من النسخة الأم، ويشار هنا أيضاً إلى أن التاريخ المدوّن على النسخة لا يكشف بالضرورة عن تاريخ ولادتها.

ب – منهج التحقيق:  ـــــــ

بعد الالتفات إلى اعتبار النسخة وقدمها، لا بد من الانتباه إلى المنهج المعتمد في التحقيق، وقد جرت العادة على اعتماد نسخةٍ ما، بعد التدقيق في نسبها والتعريف بها وتصوير الصفحات الأولى والأخيرة منها، وطبعها في مقدمة التحقيق؛ لرفع أيّ شبهة قد ترد إلى الأذهان حول أصالة النسخة، ولإعطاء تصوّر إجمالي للقارئ عن عمل المحقق.

وربما يدخل بعضهم في أبحاث ذات صلة بلغة المخطوطة وطريقة كاتبها وغير ذلك من الأبحاث المرتبطة بالنحو واللغة ويستطردون في ذلك، فيكتبون سبعين إلى ثمانين صفحة، وهذا البحث لـه قيمته الأدبية العلمية، إلا أنه قد لا يكون لـه أيّ أثر في فهم المخطوطة وفهم طريقة المحقق في عمله عليها؛ ولذلك أرى أن كتابة شيء عن خطّ النسخة وطريقة كتابتها ربما يكون أجدى وأكثر نفعاً.

والأمر الأكثر أهميةً في نقد تحقيق أيّ مخطوطة تراثية هو ملاحظة مدى تورّط المحقق في تحكيم الذوق الأدبي المعاصر على المخطوطة، وهذا الأمر هو مزلّة أقدام كثير من المحققين، ولكن لا بد من الاعتراف بأن البعد عن الذوق بشكل كامل وبناء التحقيق على الحِرَفية الخالصة أمر غير علمي ولا ميسور، بل ربما لا يكون صالحاً في بعض الأحيان، ولكن لا بد من مراعاة الاحتياط والاكتفاء بالمسلّمات، فمثلاً:

1 ـ الاستفادة من الآيات القرآنية إذا كان في النسخة زيادة كلمة أو نقصان أخرى.

2 ـ الاستفادة من الأبحاث المعاصرة التي ترجّح أحد الاجتهادات في التحقيق.

3 ـ إلفات نظر القارئ واطلاعه على أي تعديل في النص الأصلي في الهامش أو في أيّ محل آخر.

وقد وجدت بعد الاطلاع على بعض المخطوطات المحققة أن القارئ يتمنى لو أن المحقق اكتفى بتصوير إحدى النسخ المعتبرة، وأراحه من اجتهاداته الشخصية التي لا دليل عليها سوى ذوق المحقق وسليقته، وبالرغم من اعترافي بأن الحكم النهائي على درجة نجاح المحقق في عمله يحتاج إلى خبرة تخصصية قد لا يملكها الكثيرون، إلا أن الحكم الأوّلي يمكن أن يصدره قارئ واع وناقد بصير، وإن كانا لا يملكان تلك الخبرة التخصصية المطلوبة، فإن بعض موارد الخطأ قد يكتشفها القارئ من خلال السياق دون حاجة إلى الرجوع إلى نسخ أخرى ومقابلتها بالنسخة المعتمدة.

وأخيراً لا بد من الإشارة إلى اختلاف النسخ في موارد الاختلاف، وعلى الناقد أن يأخذ هذه الأمور في الحسبان عند تدوين نقده.

وفي الختام: إن ما ذكر في الصفحات السابقة لا يغطّي كلّ أصول النقد، بل يندرج تحت عنوان bتتبع العثراتv وكشف المعايب.

يقول حافظ الشيرازي:

انظر كمال ســرّ العشق لا نقص الخطيئة             فــإن غيــــر الفنـــان هـــو من يــــــرى العيوب

ولكن ]وبعد الاستئذان من حافظ الشيرازي[ نقول:

في النقد، رؤية العيوب هي فنّ بحد ذاته، ولكن لا بد من الاعتراف أن عدم رؤية الفن عيب أيضاً.

*    *     *

الهوامش



(*)  أستاذ جامعي، من أشهر مترجمي الفكر الديني من اللغة الإنجليزية، له ترجمة للقرآن الكريم، متخصّص في الأدب الفارسي.



[1] ــــ تمّ تدوين هذه المجموعة على أساس كثرة ورود أسمائهم في المجلات والدوريات الفكرية، واستفدت أيضاً من كتاب: كتابشناسي نقد كتاب، مهيندخت معاضد، طهران، أنجمن كتاب، 1355هـ ش/ 1976م.

[2] ــــ عبد الحسين زرين كوب، مقالة “نقد بازار” وردت في كتاب: “يادداشتها وأنديشه ها”: 4، ط3، طهران، جاويدان، 1356هـ. ش/1977م.

[3] ــــ وفي العربية مثلٌ يقول: بعض الناس لا يرضى أن يقال له: ما أجمل الكحل في عينيك (المعرّب).

[4] ــــ المعجم في معايير أشعار العجم: 455 ـ 458، تحقيق: محمد بن عبد الوهاب القزويني، باهتمام المدرّس الرضوي، تبريز، كتايفروش طهران، لا تا.

[5] ــــ برويزناتل خانلري، مقالة الانتقاد، مجلة سخن، السنة الثانية، العدد الثامن: 565، شهريور، 1324.

[6] ــــ يشار إلى أن كثيراً من الكتب الإيرانية يتقدّم فهرسها على الكتاب، فتطبع في أول الكتاب لا في آخره (المعرّب).

[7] ــــ من هذه الأعمال: روش علمي درنقد وتصحيح متون أدبي، (المنهج العلمي في نقد النصوص وتحقيقها)، عبد الحسين زرين كوب، في كتاب ياد داشتها وأنديشه ها: 26 ـ 44، الطبعة الثالثة، طهران، جاويدان؛ وله أيضاً مقالة: شيوه نقد وتصحيح متون، المصدر نفسه: 18-25؛ وبعض الكتب المترجمة عن العربية مثل: كتاب صلاح الدين منجد.

[8] ــــ أحمد سميعي، نكته هايى درباب تصحيح متون، مجلّة نشر دانش، السنة الرابعة، العدد الثاني: 48 ـ 53، بهمن واسفند، 1362 هـ. ش/ 1983.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً