أحدث المقالات

لعل أول ما يمكن القيام به في بداية أي مقال هو الجلوس على مائدة المصطلحات وتفكيكها, ليتنسى للقارئ الكريم فهمها وهضمها وبناء الفكرة الخاصة بها على أسس واضحة تكشف له عن ما يراد من الموضوع, ويستشف منها رسالة قد تدفعه في اتجاهات عملية وتطبيقية لما قرأ وتخلق لديه دوافع تنهض بمحيطه العام.

 

لذلك كمدخلية مهمة أجدني مضطرة لكشف اللثام عن غموض المصطلحات, والوقوف على تعريفاتها ومن ثم الولوج تدريجيا لبناء الفكرة.

 

فإذا ما بدأنا بتعريف الهوية فلها تعريفات عديدة ,فالهوية تعني جوهر الشيئ وحقيقته ويعرفها الجرجاني في كتابه التعريفات:هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب[1]

 

فهوية الانسان ..أو الثقافة..أو الحضارة..هي جوهرها وحقيقتها.ولما كان في كل شيء من الأشياء – إنسانا أو ثقافة أو حضارة – الثوابت والمتغيرات,فإن هوية الشيء هي ثوابته التي تتجدد لا تتغير,تنجلي وتفصح عن ذاتها دون أن تخلي مكانا لنقيضها,طالما بقيت الذات على قيد الحياة.[2]

 

والهوية دائما مجموع ثلاثة عناصر:العقيدة التي توفر رؤية للوجود,واللسان الذي يجري التعبير به,والتراث الثقافي الطويل المدى[3].

 

أما الانتماء فلقد وضح ” اريك فروم ” الحاجة الى الانتماء كأول وأهم الحاجات الى الارتباط بالجذور ، والحاجة الى الهوية والى أطار توجيهى كى تكتمل الحاجات الإنسانية الموضوعية التى أصبحت جزء من الطبيعة الإنسانية خلال عمليات التطور والارتقاء ، والتى يحاول كل إنسان فيها السعى نحو الكمال وتحقيق الذات .

ويمكن تعريف الانتماء بأنه العلاقة الايجابية والحياتية التى تؤدى الى التحقق المتبادل تنتفى منها المنفعة بمفهوم الربح والخسارة ، وترتقى الى العطاء بلا حدود الذى يصل الى حد التضحية ، ويتجلى الانتماء بصورة عالية عندما يتعرض الوطن لأى اعتداء خارجى ، والانتماء قد يكون طبيعى فطرى خاصة عند الإنسان العادى بفعل الوجود الانسانى واستمرار البقاء فى ظل الوطن وضمن النظام الاجتماعى ، وقد يكون انتماء عاطفيا تجاه موقف أو ظروف طارئة ، ولكن أرقى انتماء هو الانتماء المنطقى الناتج عن المعرفة وإعمال العقل ، ونسبة المنتمون منطقيا قليلة ولكنها دائما فاعلة ومؤثرة فى حركة المجتمعات “[4].

 

أما المواطنة

 

نسبة إلى الوطن وهو مولد الإنسان والبلد الذي هو فيه، ويتسع معنى المواطنة ليتمثل التعلق بالبلد والانتماء إلى ثراته التاريخي ولغته وعاداته.

 

يشكل مفهوم المواطنة في سياق حركة المجتمع وتحولاته، وفي صلب هذه الحركة تنسج العلاقات وتتبادل المنافع وتخلق الحاجات وتبرز الحقوق وتتجلى الواجبات والمسؤوليات، ومن تفعل كل هده العناصر يتولد موروث مشترك من المبادئ والقيم والعادات والسلوكات، يسهم في تشكيل شخصية المواطن ويمنحها خصائص تميزها عن غيرها. وبهذا يصبح الموروث المشترك حماية وأمانا للوطن والمواطن.

 

فالمواطنة حقوق وواجبات وهي أداة لبناء مواطن قادر على العيش بسلام وتسامح مع غيره على أساس المساواة وتكافؤ الفرص والعدل، قصد المساهمة في بناء وتنمية الوطن والحفاظ على العيش المشترك فيه. [5]

 

وإذا ما أردنا الخروج برؤية قد تشكل منطلقا بعد الاطلالة المفاهيمية لكل من الهوية والانتماء والمواطنة ,نستطيع القول أن الهوية هي المحدد الأساس في قضية الانتماء وتتسع وتضيق هذه الهوية حسب استعمالاتها وحسب ما يراد منها.

 

ولكن سأسلط الضوء على فكرة قد تشكل منطلقا نحو بحثها بشكل أعمق وأكمل لتأصيل فقهي لمبدأ المواطنة,إذ أننا لا ننكر وجود تعارض بين المواطنة ضمن معطيات الدولة الحديثة والرأي الفقهي بخصوصها, إذ يقف الفقه غالبا موقف النقيض لفكرة المواطنة لأنها تتعارض مع مفهوم الأمة الذي جاء به القرآن,خاصة في ظل غياب لكثير من التشريعات الاسلامية في أنظمة الحكم في الدول الاسلامية وهيمنة عقليات خارجية غربية ذات نفوذ عالمي يصوغ السياسات العالمية وفق مصلحته وتعميق نفوذه وهيمنته على مسارات هذه الانظمة,هذه الظروف والحيثيات تحول دون الولوج في مسألة المواطنة وإذ أننا لا ننكر وجود فقهاء طرقوا هذا الباب وبدؤوا مسيرة البحث الفقهي في نظرية المواطنة ضمن أطر الدولة الحديثة.

 

فالهوية تحدد ثقافة وعادات وتقاليد وقيم وعقيدة الانسان وتصوغها في أطر تكرس من انتمائه لهذه الثقافة والقيم والعقيدة على المستوى المعنوي وتضيف له انتماء جغرافي مكاني تحده الحدود الجغرافية ,وزماني تحده الحدود الاجتماعية بقيمها وعاداتها وتقاليدها وتفرض عليه صبغات معينة تصبغ بها هويته.

 

فتؤسس الهوية لصيغة انتمائية للوطن يكون ترتيب الأولويات فيها في طول أولويات الأمة ومداره الحق لا الرجال والحدود.هذا بالطبع ما يجب أن تقوم به الهوية الجامعة للابعاد الثقافية والقيمية والعقدية وغيرها.

 

فهي من جهة تشكل شخصية الفرد والمجتمع وتعزز من انتمائه للزمان والمكان الذي تحده حدود جغرافية ترسم له وطنا, ومن جهة أخرى ترتب له أولوياته لتكون في طول أولويات الأمة.

 

بالطبع قد يكون كلاما تنظيريا ويحتاج إلى استقراء علمي موضوعي يوضح فيه هذه الفرضيات المطروحة,ولكن نحتاج دوما للتنظير لننطلق منه إلى الاثبات أو النفي وهي خطوة في طريق الألف ميل عل ذلك يكون حافزا للبحث.

 

وعل أهم ما يمكن أن يقف حجر عثرة في ذلك هو الجدلية التي يعيشها الفرد بين حدود سلطة الدين وحدود سلطة الوطن الذي يديره نظام وقانون قد يكون في كثير من أطره بعيدا عن روح التشريع الاسلامي , وأيضا قد يكون هذا النظام وهذه القوانين تتعارض مع أولويات الأمة التي كرسها القرآن كمفهوم.

 

لذلك نحن نحتاج أن نفكك هذه الجدلية ونضع حدودا لا تتداخل ونرسم جغرافيتها وفق أطر علمية تعمق الرؤية وتعيد قراءة النصوص الدينية من جهة وفق رؤية عصرية لا تضر بالثوابت , ومن جهة أخرى تحاول أن تضع أطرا ونظما توجه فيها الاولويات لتكون قدر الامكان في طول اولويات الامة لا في عرضها.

 

ورغم أن الغرب الذي طرح فكرة المواطنة كحل للتباينات الانتمائية والهويانية في مجتمعاته,وكخطوة عملية للتعايش بين هذه الاطياف المتباينة,إلا أن واقع الامر مازال يحاكي تناقضا تعيشه تلك المجتمعات,بسبب الهوية الام التي صاغت شخصية الانسان واضطرته الظروف للرحيل عن أرضه ليحط رحاله في أرض أخرى أخذ جنسيتها لأنه مطابق للشروط إلا أنه حافظ على هويته التي كرست الانتماء للاصل.

 

ولكننا في العالم الاسلامي قد لا نواجه هذه الصعوبات لوجود هوية جامعة ذات قيم إنسانية تجتمع حولها الفطرة الانسانية والإنسان بما هو إنسان وتكرس أولوياتها على أساس هذه القيم والمبادئ رغم وجود تفاوت في بعض المناحي الحياتية التي ينظمها الفقه وفق مدارس مختلفة, إلا أنه أيضا تفاوتا لا يضر بالقيم والأطر العامة الكلية وإن خلق تباينا في الممارسات التي تنعكس على واقع المجتمع, وهو ما وضع الاسلام له حلا بالتعايش مع هذه التباينات طالما هي لا تضر بالامن والاستقرار الاجتماعي ولا تقوض نظام الدولة وأسسها التي يفترض أن تكون مبنية على أساس التوحيد الالهي الجامع لكافة الاديان السماوية.

 

ففي صحيفة المدينة كفل رسول الله صلى الله عليه وآله حق المشرك- هذا فضلا عن أصحاب الديانات السماوية – في حرية اعتقاده على أن لا يمارس هذا الاعتقاد في المجتمع بشكل علني ولا يدعو إليه وأن يكون مواطنا داخلا في نسيج المجتمع المسلم له حقوق وعليه واجبات,وهو ما يوحي بضرورة الالتزام بقانون الدولة من جهة المواطن والتزام الدولة بحفظ حرية المواطن طالما هي لا تضر بأمنها واستقرارها وتقوض مبناها,ومراعاتها لحقوق جميع مواطنيها دون تمييز عرقي أو ديني أو غيره.

 

لذلك تأسيس ثقافة المواطنة لا اعتقده يحتاج جهد كبير إلا في ناحية تضافر الجهود كافة من الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والنخب والبرلمان من أجل صياغة لأسس المواطنة الصالحة التي ترسخ العدالة والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتطبق القانون على الجميع, وهي أسس كلية ومقاصد كبرى للشريعة الاسلامية لا تتعارض معها بل تلتقي وتصب في طول مبادئها.

 

أما أن يدعم دستور الدولة المواطنة ويرسخ مواد تحفظ الحريات والحقوق والمساواة والعدالة وتضعها في تشريعات دستورية إلا أنها على مستوى الممارسة بعيدة كل البعد عن ذلك بل تكرس للتمييز على أساس القبيلة والمذهب والفئة وغيرها, فإن ذلك يولد رد فعل من قبل الذين مورس عليهم التمييز ويجعلهم ينكفؤون على ذواتهم ويلجؤون إلى طائفتهم أو قبيلتهم لأخذ حقوقهم واستراجاع ما سلب منهم رغم أن الدستور كفله لهم.

 

وهو ما يؤسس لدولة يحكمها العرقنة وليس دولة مؤسسات وقانون,لذلك تقع على الدولة المسؤولية الكبرى في ترسيخ مفهوم المواطنة من خلال المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتطبيق القانون على الجميع,ومن قبل البرلمان في التشريعات التي يتقدم بها لتكون حافظة لحقوق جميع المواطنين ومكرسة لواجباتهم دون تمييز, على أن يمارس النائب دوره كممثل للشعب كافة وليس فقط لفئة معينة في الوطن.

 

أما مؤسسات المجتمع المدني فيأتي دورها في ترشيد الوعي الجماهيري والضغط باتجاه تكريس ثقافة المواطنة وتفعيل الديموقراطية ومواد الدستور بما يشكل وسيلة ضغط شعبية بل وسيلة رقابة شعبية تمنع النائب من أن يمارس نفوذه ويرجح مصلحته أومصلحة من انتخبوه فقط على مصلحة الوطن.

 

وخلاصة الكلام أننا نحتاج إلى تأصيل فقهي لموضوعة المواطنة وهو ما يتطلب من المتخصصين في هذا الشأن إعادة قراءة النصوص بصيغ تتناسب والزمان والمكان,ونحتاج إلى إعادة بناء الدولة على أسس مؤسساتية وقانونية تمارس ما وضعه الدستور ولا يبقى فقط حبرا على ورق,وهو ما يتطلب تضافر جهود السلطة التشريعية والتنفيذية ومؤسسات المجتمع المدني في ترسيخ مبدأ المواطنة من خلال تطبيق ما أقره الدستور خاصة فيما يتعلق بالحريات والحقوق والواجبات والعدالة والمساواة.

 

[1] التعريفات –الشريف الجرجاني-,دار عالم الكتب-بيروت الطبعة الاولى-1407 ه- 1987م ص 314

 

[2] مخاطر العولمة على الهوية الثقافية.د.محمد عمارة-دار نهضة مصر للطباعة والنشر –الطبعة الأولى – فبرلير 1999م

 

[3] العولمة وعالم بلا هوية – محمود سمير المنير-دار الكلمة للنشر والتوزيع,المنصورة – مصر- الطبعة الأولى-1421 – 2000 –ص 146

 

[4] فتحي سيد فرج-الحوار المتمدن-المجتمع المدني – العدد 1588 – 2006 / 6 / 21

 

[5] محمد شخمان-المواطنة-جمعية المشعل للثقافة والفن

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً