أحدث المقالات

نقد مقولات د. سروش

(القسم الأول)

السيد محمد علي أيازي(*)

ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي

تمهيد ــــــ

لقد عمل الحوار حول موضوع الوحي النبوي في الآونة الأخيرة على إثراء البحث الكلامي، ومنح الدراسات الإسلامية رونقاً وصبغة جديدة. وهذا ما تؤكده البحوث التي أثيرت قبل وبعد طرح الدكتور سروش لنظريته. فمنذ القرن الثالث فما بعد، حيث أخذ المعتزلة وبعض الاتجاهات الباطنية بنشر فكرة بشرية ألفاظ الوحي، ربما لم تتجاوز الكلمات التي قيلت في هذا الرأي ورده وإثباته بضعة صفحات. في حين بلغ عدد ما قيل في نقد نظرية سروش أكثر من ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير. والمهم أن هذه البحوث اشتملت على مختلف الآراء، مما وفَّر مناخاً مناسباً ومساحة واسعة للبحث وإثراء هذه الأفكار الأساسية والحساسة، مما يبشر بانبعاث علم الكلام من ركوده، وإيقاظه من سبات أعقب مرحلة كانت تعرف بالعصر الذهبي لعلم الكلام.

وإنه لمما يدعو إلى التفاؤل والبهجة أن نرى هذا الكمّ الهائل من النشاط الشامل في الحوزة العلمية في قم، واغتنام الفرصة للإجابة عن هذه الشبهات والإشكالات. ويمكن تقييم هذا الاتجاه في مجموعه، وهذا الحوار، على أنه علميٌّ ومنطقيٌّ ومعقولٌ، واعتباره بالقياس إلى البحوث السابقة أكمل وأكثر استيعاباً، وإن كنا نأمل أن تتصف الردود بالعلمية البحتة، والجدال بالتي هي أحسن، وتحمل الرأي الآخر، بعيداً عن سياسة التكفير والتفسيق؛ فإنه أجدى للحفاظ على رونق الدين والعلم.

لقد بيّن الله تعالى للمسلمين قبل ما يقرب من خمسة عشر قرناً كيفية الدعوة إلى الدين، والهداية إلى الله بشكل واضح جداً، حيث قال: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). ولا شك في أنّ هذه الطريقة هي الوحيدة التي يمكن من خلالها التعرف على الآراء والأفكار المختلفة، والمقارنة بينها، واختيار الأحسن منها: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألبَابِ}. كما قال تعالى من جهة أخرى: {وَلا تَقُولُواْ لِمَنْ ألقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: 94). أي لا يحق لكم تكفير الرجل اعتباطاً.

بعد هذا المدخل نذهب إلى البحث في ما ذكره الدكتور سروش في رسالته الثانية التي أرسلها إلى الشيخ جعفر السبحاني. وهي في رأيي تستدعي التأمل والمناقشة. إنّ ما نسعى إليه من هذه الكلمات هو مواصلة الحوار حول حقيقة الوحي النبوي وأصدائه في المنهج المقارن؛ بغية إيضاح الحقيقة، وتوفير مناخ للمقارنة بين الأفكار والرؤى.

ومنذ البداية، حيث بادر الدكتور سروش إلى مواصلة هذه البحوث على هذه الشاكلة في كتابه «القبض والبسط في الشريعة، وبسط التجربة النبوية»، كانت هناك مسألتان بارزتان على نحو واضح، حيث كان يسعى ـ من جهة ـ إلى تفسير للشريعة يمكنه أن يتناسب وحاجة التديّن في المرحلة المعاصرة؛ ويحاول ـ من جهة أخرى ـ حل مشكلة التعارض بين العلم والدين بطريقته الخاصة.

وإنّ الاختلاف بين منهجه ومنهج غيره من المفكرين، من أمثال: محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، في هذا المجال يكمن في أنّ هؤلاء لم يوظفوا المباحث الفلسفية والعرفانية لنحل انتحلها أشخاص، مثل: ابن عربي، وصدر الدين الشيرازي، وأن تحاليلهم وتفسيراتهم استندت بشكلٍ كبير إلى مباحث الفلسفة اللسانية والهرمونوطيقا في المرحلة المعاصرة. ولذلك نجده يسعى إلى تقديم وصف فلسفي وعرفاني عن الوحي، مضافاً إلى تلك المباحث المستندة إلى المباحث الفلسفية والعرفانية في الحكمة المتعالية، بأسلوب تحليلي وتوصيفي ناظر إلى  تحديد رقعة علاقة الإنسان بخالقه.

وعلى أيّة حال فإن انطلاقتنا في نظرية الوحي النبوي لا تكمن في تقديم وصف فلسفي وعرفاني عن الوحي، وعقلنة مساره، بل إنه يكمن في استنتاج الحلول من النظريات. ولتوضيح محل النزاع في هذه الدعوى سنخوض البحث في مقولتين، وإن كنا سنتناول في تضاعيف البحث بعض المسائل الجانبية التي صدرت عنه:

أولاً: إنّ الوحي النبوي عبارة عن إدراك وفهم يهبط من الأعلى على الأسفل، وبأسباب وعلل غير مادية، ومنتقاة وغير متوقعة. وإنّ هذا النمط من التفكير لا يسير في فلك نفي العقل، ولكنه في الوقت نفسه لا يرى ملازمة بين العقل وإمكان المعجزة؛ وذلك لأنّ الإنسان يصادف في حياته على الدوام  الكثير من الأمور الروحية والمعنوية غير المتوقعة، والمستعصية على الفهم، والخارقة للعادة، ويمكن في ضوئها تفسير الكثير من الظواهر، كالتي حدثت للسيد كاظم الكربلائي، الذي أفاق من نومه ذات يومٍ فوجد نفسه حافظاً للقرآن، وغدا بإمكانه أن يقرأ القرآن، رغم أنه لم يكن له عهد بالقراءة أو الكتابة.

ثانياً: إن الوحي النبوي في اتصاله وارتباطه بالملأ الأعلى وإدراك العلوم لا يرى فرقاً بين العلوم ومعارف ذلك العالم وهذا العالم؛ وذلك لأنّ مسائل من قبيل: صفات الله، والحياة بعد الموت، وعالم الغيب، ومسائل هذا العالم، والمجتمع الإنساني، لا تختلف من حيث إخبار الوحي بها. فالنبي لم يكن على علم بها قبل هذا، وإنما حصل له علم بها من خلال إخبار الوحي واتصاله به. وكما أنّ إدراكه للمعارف الغيبية لم يكن بتأثير من الأمور الخارجية فإنّ إدراكه للحقائق، وحاجة المخاطبين والأجيال الآتية، لم تكن من الأمور الخارجية، وإنما هي من الأمور التي نزلت عليه من قبل الله تعالى في قالب ألفاظ استغلق فهمها على الناس.

وحيث إنّ الدكتور سروش، في رسالته الأخيرة بتاريخ (11/2/1387)، تحت عنوان: «الببغاء والنحلة»، عمد إلى نقد الآراء المشهورة. وقد صرّح بأن الوحي النبوي هو كالوحي إلى النحل، حيث قال: «أما المثال الذي أضربه أنا فهو ما يذكره القرآن من النحل. فبناءً على تعاليم القرآن إن التركيبة البيولوجية والبيوكيميائية للنحل هي عين الوحي الذي يوحى إليه، ويملأ خليته بالحلاوة والعسل».

حقيقة الوحي ـــــ

أما الطرح الذي أراه للوحي النبوي، والذي سأعرضه في البحوث القادمة، فهو أن حقيقة الوحي أبعد من مقولة وحي النحل وببغاء سدرة المنتهى. وطبعاً لا يمكننا إنكار صعوبة إدراك وتفسير حقيقة الوحي. وإنما أقصى ما يمكن قوله هو إشارات تقريبية للحقيقة النبوية، وليس الوحي نفسه. من هنا لا مندوحة لنا في بيان الوصف سوى الإشارة إلى آثار الوحي، ولوازمه، وعوارضه، وأوصافه، وبعض خصائصه السلبية المعروفة.

قيل في تعريف الوحي: إنه عبارة عن الإشارة السريعة والخفية، والتي لا يمكن للإنسان أن يدركها أو يشاهدها. إلا أن الأهم هو أنه يتمتع بخصائص تختلف عن الوحي في التجارب البشرية. لقد استعمل الوحي في القرآن سبعاً وثمانين مرّة، وهو في أكثرها مستعمل في معناه الملكوتي والسماوي.

وأما في المصطلح القرآني فالوحي يعني إلقاء الكلام إلى الأنبياء بشكل خاص، وقنوات محددة. وإنّ هذا الإلقاء مهما كان خفياً وسريعاً وعلى رسله، فهو يمتاز عن سائر الروابط الكلامية، مثل: الكشف، والشهود، والتربة العرفانية. ففي الوقت الذي يكون الوحي النبوي استعلائياً ومعنوياً فإن الوحي النحلي استنزاليٌّ وحيوانيٌّ غريزيٌّ. وعليه لا يمكن أن يكون مثالاً مناسباً لسنخ الوحي الإلهي؛ إذ صحيحٌ أنه في الوحي النحلي، حيث يتحول رحيق النبات إلى عسل في مسار مادي غير عاقل، يتأثر ذلك النحل في هذه العملية بالفضاء الخارجي، وأن طعم شهده يؤخذ من طعم الأزهار الموجودة في الطبيعة وعالم المادة، وأن الله تعالى يعبّر عن هذا النشاط الغريزي والمادي بالوحي، إلا أنّ الوحي النبوي وحي في إطار السير والسلوك، وفي ظروف غير طبيعية وغير مادية. فالوحي النبوي إنما هو نحل العالم القدسي، وليس نحل الطبيعة. وهو إدراك باطني وفهم خاص يلقى على الأنبياء بشكل مختلف عن الإشارات الغريزية والطبيعية. وهو شعور خاص وإدراك للواقع يتجلى من مرتبة عليا على بعض الصالحين، من الذين تتسع أفئدتهم لتحمل تلك الكلمات، وتتنزل عليهم. وإذا كان نتاج النحل القدسي يهبط من العالم الأعلى فأيُّ ضير يصيب النتاج الناسوتي؟!

إنّ من أهم خصائص الوحي النبوي هو إدراك الموحى إليه صحة وأحقية ما أوحي إليه، وصيانته من الخطأ، بمعنى أنّ بإمكانه أن يتعرف على ماهيته، وأنّ مصدره رحماني، وليس شيطانياً، وأنّ ما يتلقاه واضح غير مبهم، ولا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل أبداً([1])، وأنه ـ باختصار ـ كما عبر عنه تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ}([2]).

وعليه يرِدُ على قول القائل: أليس نحل العسل، الذي يتغذى على الأزهار والنباتات المحيطة به، ثمّ يحوّلها إلى الشهد والعسل، أبلغ تصوير لما عليه واقع الأنبياء، الذين يوظفون المواد التي تتوفر لديهم في الزمان والمكان الذي يعيشون فيه، ويستخدمونه في تجربتهم المعنوية، في تحويل التراب إلى ذهب؟!: إنّ هذا التشبيه جيد لتقريب الفهم من بعض وجوه الوحي، إلا أنه ليس أبلغ تصوير عن الوحي النبوي النازل على الأنبياء؛ ولما تقدّم من أنّ الوحي النبوي ليس من جنس الوحي الطبيعي والحيواني، الذي عليه واقع النحل.

كما أنّ الوحي النبوي ليس من سنخ ما عليه كلام الببغاء، الذي يقلِّد ما يلقى على سمعه من الكلمات، دون أن يعي ماذا تعني تلك الكلمات، فلا يكون إلا واسطة في نقل الكلمات. ففي مثال الببغاء يتم تعليم هذا الحيوان من قبل الآخرين، وأما في ما يتعلق بالوحي النبوي فإنه يعود إلى العالم والأفق الأعلى، والذي يكون النبي منه قاب قوسين أو أدنى، فيحصل على العلوم والمعارف بمثل هذه الآلية، فهو يعيش الوحي بجميع تفاصيله، فلا يكون مجرّد مستقبل للألفاظ، دون أن يعي مداليلها ومراميها.

ومن جهة أخرى فإنّ الوحي النبوي ليس من سنخ الإلهامات التي تطرأ على الأذهان، أو التجارب الباطنية والعرفانية ذات القنوات المعروفة من السير والسلوك، التي تحصل لبعض الأفراد أحياناً، والتي يذكرها القرآن في مرتبة عادية، والتي أثبتها القرآن لأمّ موسى ومريم العذراء÷، وذلك لأنّ ما ألقاه الله على أمّ موسى في الحفاظ عليه، حيث قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَألقِيهِ فِي اليَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ} (القصص: 6)، أو تكليم الملائكة للسيدة مريم: {إِذْ قَالَتِ المَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} (آل عمران: 45)، ليس من سنخ الوحي إلى الأنبياء. وطبعاً من الممكن أن يحصل جميع ذلك من طريق آلية سريعة، ومن دون قالب لفظي، وفي إطار من الإلهام المعرفي والإحاطة بالموضوع، فيحصل الناس على الكثير من التجارب من طريق إدراكاتهم الباطنية.

وعليه فإنّ مثل هذا الوحي النبوي ليس غريزياً، كما أنه ليس خارجاً عن الاختيار والوعي. ولم يتمّ حصوله عبر قنوات عادية أو أسباب مادية، وإن كان بالإمكان فهم هذه الأسباب والعلل، ويمكن تفسيرها على نحو أفضل في المستقبل. وهي خارقة وغير متوقعة، من قبيل: معاجز الأنبياء، التي تتم عبر أسباب انتقائية وغير متوقعة، وتتم عبر قنوات لم يعهدها الناس. فبالنسبة إلى معجزة موسى لم تكن هناك أسباب مادية وطبيعية معهودة يتمّ فيها تحويل العصا إلى أفعى، أو يقوم المشلول على قدميه في معجزة عيسى، أو بالنسبة إلى معجزة صالح حيث توفر الناقة لبناً لمدينة بأكملها، فكل هذه الأمور لم تتم عبر القنوات المألوفة.

وعليه فإن اختيار الله لنبي يتكلم من طريقه إلى جميع عباده ليس من قبيل الوحي الغريزي إلى النحل، فليس كل إنسان يمكنه أن يحظى بهذه المكانة مهما بذل في السير والسلوك، فإن اصطفاء الأنبياء له آليته الخاصة التي لا يعلمها إلا الله، قال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} (الأعراف: 144). وقال أيضاً: {قُلِ الحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} (النمل: 59). وقال أيضاً: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} (الحج: 775).

إن للنبي أثناء تلقي الوحي وعياً شمولياً، فلا يستولي عليه الشك أبداً، ولا يقع في الاشتباه، ولا يمكنه أن يضيف إلى كلام الله شيئاً من نفسه، قال تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (يونس: 15). إنّ من أهم خصائص الوحي علم الموحى إليه بأحقية وصحّة ما يوحى إليه، فهو ليس من قبيل الإلهامات التي قد يقع فيها الملهم في الخطأ.

إنّ طريق الوحي ليس طريقاً فكرياً اكتسابياً، ليتم حصوله من خلال المدركات الخارجية، ومن طريق التعليم والتعلم. ويمكنه أن يدرك جيداً أنه ليس من قبيل الخواطر الشيطانية. كما أنه لا يمتّ إلى المعلومات والمعتقدات السائدة المحيطة به بصلة؛ وذلك لأنّ الكثير من الأمور لم يكن على علم بها قبل الوحي. وقد صرّح القرآن بهذه الحقيقة في الكثير من الآيات والسور، منها: (آل عمران: 44)، و(هود: 49)، و(يوسف: 102)، و(القصص: 44 و45 و46)، و(العنكبوت: 48)؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} (الشورى: 52). وأحياناً تخالف الآيات معلومات العصر وعاداته وثقافاته.

وعليه فإنّ ما قاله هو أنّ هذه النظرية تسعى إلى فتح آفاق وحل لمعضلات (كلام الباري) عن طريقة مقبولة من الناحية العقلية، وتبين السهم الناسوتي والبشري لشخصية محمد‘، والتي أكد عليها القرآن كثيراً، وأغفلت من قبل الناقدين، في مسار الوحي لا أكثر ولا أقل. وقد عززها الكثير من العرفاء والفلاسفة المسلمين. وإنني لأعجب كيف يتصوّر هذا الكلام سهواً أو عمداً على أنه نفي لكلام الباري تعالى؟!

نعم، من المحتمل أن تكون هذه النظرية بصدد حل العقد، إلا أنّ نقد هذه النظرية في اعتقادي لا يكمن في أنها تسعى إلى فهم كلام الله، أو أنها توظف أسلوباً مقبولاً من الناحية العقلية لكلام الباري تعالى، بل في أنها تؤدي إلى تخطئة هذه الإدراكات، وتقطيع أوصال الجهات المفهومية منها (الفوارق بين المعارف الإلهية والأحكام الاجتماعية)، ومخالفة الكثرة الكاثرة من العرفاء والفلاسفة المسلمين.

إنّ تحديد المقدار الناسوتي والبشري لشخصية محمد‘، والذي يتحدد بتنبيه وتذكير النبي بما كان عليه قبل الوحي، إنما هي للتذكير بموقع الوحي وصيانة النبي. وهو بالمناسبة دليلٌ على أنه يتمتع بهوية مستقلة عن ما يتلقاه، وأنّ الوحي قد أثَّر فيه، ولكنه لم يكن متأثراً بأمور خارجية. فحيث يتكلم النبي على لسان الوحي يكون تجلياً للحق وكلام الفيض الأقدس، وسامعاً للأسماء والصفات الإلهية. وفي هذا التجلي يكون المتكلم هو الذات المقدسة للحق والواحد الأحد. وإن الشخصية الناسوتية للنبي ليست بمعنى أنها كانت تؤدي إلى وقوعه في الخطأ، والتأثُّر بثقافة العصر، أو أنّ كلامه قابل للخطأ، أو أنّ ألفاظ القرآن كانت من انتقاء النبي، أو أنه عمد إلى عصرنة المعلومات الواردة فيه؛ وذلك:

أولاً: إنّ حقيقة الوحي النبوي تعني الكشف المحمدي الممتاز، وأنه كان في طريقة الكشف نوع من التنكر للذات، وفناء في ذات الله، والتنكر للتعلقات الخارجية، وهو يسند إدراكه إلى مصدر غيبي هو الحق تعالى، وأنّ هذه الحقيقة المكتشفة لم تستند إلى إعمال مجهود عقلي، ولم يكن له أي اختيار فيها، وقد تنزلت وأنزلت عليه من الأعلى إلى الأسفل.

ثانياً: إنّ كلّ ما يلقى على النبي‘ يكون مفهوماً بمجرّد إلقائه؛ لأن ما يلقى وما يفهم عبارة عن شيء واحد وحقيقة واحدة. ومن هنا قال أهل المعرفة: إنّ تكلم الحق تعالى عبارة عن تجلي الحق، وإنّ هذا التجلي ثمرة تعلق القدرة والإرادة بإيجاد وإظهار ما هو كامن في الغيب([3]).

ثالثاً: لو أنّ الله أراد أن يفهم الناس بأن هذا الكتاب سماوي، وأن ألفاظه وحي إلهي، ولم يتأثر بالأمور الخارجية، وأنّ الوحي النبوي ليس إدراكاً دنيوياً، بل هو إدراك علوي، وأنّ النبي لم يكن له أي دور في اختيار ألفاظه وأحكامه، فكيف كان ينبغي أن تكون الصيغة التي يبين بها هذه الحقائق؟! وهل هناك تعبير أبلغ من الكلمات التي صرّح من خلالها بهذه الحقيقة؟

القرآن وظاهرة الوحي ــــــ

ألم يوظف الله تعالى لبيان هذه الحقيقة، ورفع هذا التوهم، كلاًّ من آيات سورة النجم، والفرقان، والشعراء، والقيامة. وقد تمّ التأكيد فيها على محور نزول القرآن على قلب النبي، وأنّ جبرئيل هو الذي أنزلها، وأنها كلام الله، وأنها تنزل من الأعلى إلى الأسفل؟ وإنّ الشاهد على ذلك استعمال ألفاظ من قبيل: (قُلْ) نقلاً عن الله تعالى. وإنّ قوله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى} شاهد آخر على أن النبي كان في مستهل الوحي يخشى أن تفوته بعض آيات القرآن، وأن الله هنا يضمن له عدم حدوث شيءٍ من ذلك، ويضمن له صيانة القرآن من أن ينسى، وتأكيد على حفظ القرآن، وتثبيت للوحي الإلهي([4]).

أَوَلا يكون ذلك شاهداً على نزول قوله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى} أولاً، لينزل بعدها قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ}، ومن ثمّ قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}، و{وَلا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}؟ وكلّ هذه الآيات تأكيد على أن الوحي كان على شكل ألفاظ وكلمات عربية. وهكذا يتمّ ختم القرآن في منتهاه بقوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان: 32).

ونكرر ثانياً أنّ هذه الآيات شواهد على أنّ هذه الكلمات تجليات للحق، ونزولها من الجهة العليا على الجهة السفلى، وأنه لا مسار ماديّاً لها، وأن هناك فرقاً بين الوحي القرآني وما قاله النبي في بيان وتفسير، ويسمى بالسنة النبوية: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} (النساء: 105).

وكذلك من الشواهد التي تثبت سماوية كلمات القرآن بأجمعها أنه كان يحدث تأخيرٌ في نزول الآيات أحياناً، ويبقى النبي ينتظر نزوله ويترقبه، وكان النبي يُنهى عن التعجل بقراءة القرآن قبل أن يُقضى إليه وحيه، كما لم يُعْطَ الحق في تغيير آيات القرآن أو تبديلها، مما يُثبت أنّ الوحي النبوي لم يكن من سنخ الوحي الغريزي المادي والحيواني، ولم يكن متأثِّراً بالأمور الأرضية والبشرية، وأنه كان خارقاً للعادة وغير متوقع، ومعصوماً عن الخطأ.

إنّ جميع هذه التأكيدات إنما هي لإثبات ملكوتية الوحي النبوي، وأنه وحي سماوي وإلهي، وأنْ لا تأثير للجانب الناسوتي والنبوي في حقيقته ومرتبته وجوهره على جميع الأصعدة.

وأما ما قيل من أنه: ما الضير في أن نقول بأنّ القرآن نازلٌ على قلب النبي، وأن الجائي به هو جبرئيل، وأنه كلام الله، وأنه في الوقت نفسه ثمرة كشفٍ، وتجربة إنسان مرسل ومؤيد واستثنائي، وأنّ كلامه مؤيد من قبل الله، وأن كشفه ثمرة لحظات من التجربة العرفانية السامية الخالصة؟

فجوابه: إنّ عدم انسجام وتناغم هذا الكلام ليس من حيث إنه ثمرة كشفٍ خاص، وتجربة إنسانٍ مبعوثٍ ومؤيد واستثنائي، بل لوجود التعارض بين صدره وذيله؛ حيث إنه إذا كان الجائي به هو جبرئيل، وهو كلام الله، عند ذلك تكون له هوية مستقلة عن النبي، وأنه ليس باختياره، فلا يعلم متى ينزل؟ وما الذي سيتمّ إنزاله؟ وعليه لن يكون هناك معنى للحديث عن تطرّق الخطأ إلى هذا الوحي، واعتباره حصيلة تجربة خالصة.

وحيث إنّ هذه النظرية بصدد حصر رسالة هذا الكلام وتضييق نطاقه، وإعطاء أحكام شريعة القرآن صفة تاريخية وتراثية،، فعندها سوف لا ينسجم مع كلام الباري من جهة نزوله لهداية العالمين. وإنّ هذا الكلام جيد بالنسبة لفهم الوحي النحلي، دون الوحي النبوي.

يقول الدكتور سروش: لست أدري ماذا يقول الناقدون في باب ظاهرة الموت والمطر؟ فقد تكرر في القرآن مراراً أنّ الله هو الذي يتوفى الأنفس: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (الزمر: 42)، أو أن ملك الموت هو الذي يتولى هذه العملية: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11)، أو أن ذلك من فعل الملائكة: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: 61)، ومع ذلك ليس هناك من تنافٍ بين التحليل الطبيعي والمادي للموت واستيفاء الأرواح من قبل الله وملك الموت. أفليس الله هو الذي ينزل المطر: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً} (النبأ: 14) ـ وقد ورد في بعض الروايات أنّ الله يوكل ملكاً بكلّ قطرة من المطر: «والهابطين مع قطر المطر إذا نزل»([5]) ـ؟ فهل يؤدي تفسير ظاهرة نزول المطر على الأساس الطبيعي إلى جعل يد الله مغلولة؟! وهل يخرجه ذلك من رقعة الطبيعة، ويجعل إسناد نزول المطر إلى الله فاقداً للمعنى؟!

طبعاً ليس هناك أي تنافٍ بين التحليل الطبيعي والمادي للموت، بمعنى استيفاء الأنفس من قبل الله وملك الموت، وبين تفسير الفلاسفة المسلمين لهذه الظاهرة. ولكن الكلام في الاستفهام القائل: هل جميع أنواع الحياة والموت التي نسبت في القرآن إلى الله تحمل تفسيراً واحداً لمسار الحياة والموت؟ وهل جميع نزولات القرآن من سنخ واحد؟ وهل أعطيت الحياة لعيسى بن مريم كما أعطيت لجميع الناس، أو أنّ حياته مختلفة، ولها علل وأسباب أخرى، وأنّ ذلك كان من طريق إرسال الروح، كما أنّ الوحي من طريق إرسال الروح أيضاً: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} (مريم: 17).

المسألة الأخرى هي أنكم من خلال هذا التحليل لا يمكنكم الوصول إلى طبيعية الوحي النبوي وماديته. وإن مسار الوحي النبوي يختلف عن نزول المطر، واستيفاء الروح، والوحي النحلي. وإن أقصى ما يمكنكم إثباته هو أن للوحي أسباباً وعللاً خفية، أو أنّ الآلية التي نزل بها المطر أو الثياب، حيث قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} (الأعراف: 26)، يختلف عن نزول الروح ونزول السكينة الإلهية على المؤمنين، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} (التوبة: 26). فهل نزول القرآن في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ * لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ الفِ شَهْرٍ} (القدر: 1 ـ 3) مساوقٌ لنزول المطر؟ وهل نزول القرآن يساوي نزول الوحي غير النبوي في جميع المستويات؟ وهل أن لجميع هذه النزولات تفسير واحد أو أن هناك تفسيرات ومراتب مختلفة، بل ومتباينة؟

إنّ الاختلاف القائم بين نزول المطر ونزول الوحي هو أنّ نزول المطر والثياب والحديد يقوم على قاعدة «أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها»، وأنّ لها أسباباً وعللاً مادية طبيعية؛ وأما نزول الوحي فإنّ أسبابه، وإن كانت يتمّ لها التحقق بشكل خفي ومجهول، ولكنها لا تستمد من الأمور العادية والطبيعية والسفلية، بل إنّ لسيرها بعداً استعلائياً، كما هو الحال بالنسبة إلى المعجزات التي هي من خوارق العادة، إلا أنها لا تخلو من سبب يدعو إلى تحققها.

يقول سروش: أتصوّر أحياناً أننا عدنا إلى العصور التي كان فيها بعض المتدينين يذهبون إلى أنّ الاعتقاد بدور البحار والشمس والرياح في نزول المطر لا ينسجم مع القول بمشيئة الله، وكانوا ينسبون نزول المطر إلى الله مباشرة. وهنا نستخدم نفس القضية المنطقية في ما يتعلق بنزول الوحي، حيث إننا لا نفصله عن العلل الطبيعية، من نفس النبي، والمجتمع، والعصر الذي عاش فيه، والعلم واللغة التي تعلمها، وما إلى ذلك. إلا أن البعض يسير على ذات النهج الذي سار عليه أولئك المتدينون، فاعتبروا أن هذا الاعتقاد يتنافى ودور الله، ويستندون مراراً وتكراراً إلى كلام الله، حيث يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ…}، في حين أن هذا التعبير وهذا الإنزال قد استخدم في القرآن في ما يتعلق بالرياح والمطر، وهذا هو عين الكشف المحمدي.

وكما ذكرنا سابقاً فإنّ نزول الوحي غير منفصل عن العلل الطبيعية، من نفس النبي، والمجتمع، والعصر، والعلوم السائدة، واللغة، وسائر الحاجات الأخرى، إلا أنه ليس من قبيل: نزول المطر. فالعلل الطبيعية تعود إلى المعدات. فإنّ بين نزول المطر ونزول الوحي نفس الفوارق الموجودة بين الفعل والانفعال الحاصل في عالم الطبيعة، والخوارق للعادة، التي يقوم بها الله تعالى؛ استجابة لدعاء، أو لإثبات كرامة، أو تحقق معجزة. وكلا الأمرين يتحققان بإرادة الله ومشيئته، ولكل منها أسبابه وعلله، ولكن أين تلك العلل من هذه العلل. فالمعجزة يتم انتقاؤها من قبل الله تعالى لتلائم العصر، ولكنها في الوقت نفسه غير متأثرة به، وإلا كان ينبغي أن تنحصر في رسالتها على ذلك العصر، فلا يبقى صوت الزمان يردِّدها على مدى الدهور. وها هو القرآن لا يزال إلى يوم الناس هذا وكأنّه نزل علينا وبين أظهرنا.

يقول العلامة الطباطبائي في بيان هذه الظاهرة التي يتمتع بها الوحي: «إنّ النبوة ظاهرة غير عادية، وإنّ أسبابها خارجة عن النطاق الطبيعي، والحياة المادية والاجتماعية. إنّ الشعور بالوحي، وبلوغ مرتبة النبوة، ليس أمراً اكتسابياً يحصل بتأثير الظروف الخارجية والثقافية»([6]).

يقول سروش: إنه لمما يدعو إلى الدهشة أن يُحمل كلام الباري تعالى (النزول) على المعنى المجازي، بمعنى أن المراد ليس هو النزول من مكان أعلى إلى مكان أسفل (كما هو الحال بالنسبة إلى نزول المطر من الأعلى إلى الأسفل على نحو الحقيقة)، وإنما يعني النزول من مكانةٍ عليا إلى مكانة سُفلى (أي من الملكوت إلى المُلك، ومن الحقيقة إلى الرقيقة)، وأما الكلام نفسه فلا يُحمل على المجاز، وإنما يحمل على الحقيقة، وهي هذه الألفاظ البشرية.

فيا له من تخبّط واضطراب! فلماذا اللجوء إلى مسك العصا من الوسط؟! فإما أن يُحمل كلٌّ من النزول والكلام على المجاز، فتحلّ المعضلة؛ أو يحملا معاً على الحقيقة، لتواصلوا مسيرة الشقاء والضلال الذي لا حدّ له، ولا أمد لنهايته.

إننا إذا قلنا بأنّ الكلام الذي هو صفة فعل الله من قبيل النزول على نحو المجاز فنقول بأنه ليس من قبيل نزول وتكلم الإنسان، بحيث إذا أراد أن يكلم البشر فعليه ـ شاء أو أبى ـ أن يقطع سلسلة من العلل المترتبة على هذه الألفاظ؛ بغية التفهيم، فإنه مع ذلك لن نصل إلى حل العقد المعهود منكم بيانها؛ وذلك لأنّ هذا يتوقف على تعريفنا لماهية الوحي. فإنّ الوحي لم يكن طريقاً بشرياً اكتسابياً، ليحصل على كمالاته من العالم الخارجي. كما وأنه لا يتوقف أيضاً على المعلومات السائدة في عصر النبي، بل إنه يُلقى من الأعلى إلى الأسفل. ومن أبعاد ذلك أنه ينتقل من الملكوت إلى الملك، أو من الحقيقة إلى الرقيقة، إلا أنّ بُعده الآخر هو تجلي الحق. وعليه فإنّ الذهاب إلى المجازية إنما هو للتفريق بين حقيقة الكلام الإلهي والكلام البشري، وليس تقسيم الكلام الإلهي إلى قسمين: ما يقبل الخطأ؛ وما لا يقبل الخطأ.

وإنّ عدم كونه لغواً وعبثاً، حيث قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (الفرقان: 6). يعني أنّ ما يقوله يكون عن علم. كما أنه في الوقت نفسه ليس منفصلاً عن حاجة المخاطبين في طول الرسالة وعرضها، حيث إنه {رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. وعليه لا يعني ذلك أن يقول ما يخالف العلم الإلهي، أو أن يقول أموراً مخالفةً للقوانين التي أظهرها.

إذاً ما قيل من أننا إذا تجاوزنا النبوة فإنّ هذا يصدق أيضاً، حتى في مقام الحكم بحقّ الاكتشافات العلمية والفلسفية والرياضية. فإن كانت الجاذبية كشفاً بشرياً قام به العالم الشهير (إسحاق نيوتن) فليس لازم ذلك أنه لم يبذل مجهوداً، وأن يبقى منتظراً تحقق الاكتشاف على نحو تلقائي، أو أن يصوغ تلك النظرية وفقاً لمشيئته، أو أن يقول تحت ذريعة الكشف كل ما يروق له، ويقوم بتمريره على الناس.

وإنّ الكلام لا يدور حول الرغبة في الكشف النبوي؛ لأنّ الكلام حول احتمال الخطأ واللغوية في إرادة المعنى، والقول على خلاف الحقيقة، فقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} يشمل كلّ باطل، سواء أكان ذلك الباطل ناتجاً عن رغبة، أو كان خلافاً للواقع، وسواء أكان في الأمور الغيبية أو في الأمور الاجتماعية التي حصلنا عليها من طريق الوحي، وألقيت عليه بواسطة القرآن؛ لأنها تكون حينئذٍ قد نزلت من لدن حكيم حميد: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41 ـ 42).

وعليه يرد على ما قيل من أنّ كلمات (قُلْ) الواردة في القرآن هي من فنون الكلام، حيث يخاطب المتكلم نفسه أحياناً، في حين أنه يخاطب في الواقع أشخاصاً آخرين: كيف يتم تأويل هذا الكم الهائل من ألفاظ (قُلْ)، واستعمالاتها في القرآن الكريم، وتغيير الخطاب من الغيبة إلى الالتفات، على أنه نوع من التفنن الكلامي، فإن هذا الكلام يلزم منه أن نقوم بتأويل جميع ألفاظ القرآن. فإذا كان يمكن مثل هذا التفنن([7]) فهل جميع هذه التحذيرات من باب التفنن أيضاً؟! وماذا نقول بشأن قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} (الشورى: 52)؟ فهل كان هذا الكلام من قبيل التفنن؟! أو أن ينقل القول، وذلك عندما يريد نفي مطالبة المشركين بأن يأتي لهم بالمعجزات، فيقول: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاّ بَشَراً رَّسُولاً} (الإسراء: 90 ـ 93)؛ أو عندما تصبّ هذه  الكلمات  في قالب من المدح: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)؛ أو في مقام التوبيخ: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 74 ـ 76)؛ أو في مقام الإخبار، وأنك لم تكن تعلم ولم تكن موجوداً…، فكيف يمكن عدّ هذا المديح أو التحذير أو الإخبار من باب التفنن في الكلام؟!

وهل الأوصاف الواردة عن النبي، من قبيل: شرح الصدر، في الآية الأولى من سورة الانشراح، وحنانه وشفقته على قومه، في الآية الثالثة من سورة الشعراء، وخلقه العظيم، في الآية الرابعة من سورة القلم، إلى غيرها من صفات النبي الأكرم‘، كانت من صياغة النبي نفسه، وقد دعاه التفنن إلى هذا النمط من كيل المديح لنفسه؟! كلا..، إنّ هذا إنما هو كلام الله الذي يمنح نبيه من الثناء ما يستحقه، وأما مدح الشخص لنفسه فغير لائق بحال، وفي ذلك يقول تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32).

هل كانت كلّ هذه الأساليب مداعبة حلوة مع المخاطبين؟! وعندها ما هي الغاية من وراء كلّ هذه الدعابات والتفنن الذي يميزه من سائر الكلمات؟ وما هي الضرورة التي دعت النبي إلى استعمال هذا الأسلوب بوصفه نبياً؟ أليس هذا من التأويل المتكلَّف الذي لا ضرورة إليه، والذي حذرت الآخرين من الوقوع فيه؟!

يقول سروش: إنّ الميزة الحوارية في القرآن تكشف النقاب عن هذا النوع من الفنون البلاغية بوضوح، وتثبت علاقة النبي قلباً وقالباً مع الناس ووقائع المجتمع الذي عاصره، سواء في ذلك العبارات المسبوقة بـ {يَسْأَلُونَكَ}، أو تلك التي لا تستعمل فيها هذه المفردة. وكأنّ القرآن عبارة عن حوار متواصل وشامل يدور بين الله والعالم البشري والطبيعي والتاريخي الذي كان محمد‘ يعيش فيه، وإجابة عن تساؤلات وتحديات العصر. وإنّ نفس هذه التساؤلات والتحدّيات التي جعلت النبي متحفزاً ونشيطاً، وملتهباً بنار المعرفة، التي بلغت به إلى مستوى الكشف والحصول على الأجوبة من (ملك الوحي)، وترجمة المعاني التي قدمها إليه الوحي بلغة مفهومة للناس.

ما الذي يريد سروش أن يثبته من وراء هذا التفنن البلاغي، من هذا الصراع الذهني والنفسي للنبي، (والذي انعكس على القرآن)؟ إن كان إجابة عن تساؤلات العصر فهذا ما لا ينكره أحد؛ وأما إذا كان المراد من ذلك أن تلك الألفاظ إنما هي ألفاظ النبي فليس كل القرآن عبارة عن هذه التحديات. بل إن بعض تلك التحديات لم يكن لها أي ربط بعصر النزول، وإنما هي إشارة مقتضبة تحمل في طياتها بحراً من المعاني والمفاهيم، ومن خلالها يتضح ما كان يريد الله إيصاله، حيث لم تكن الإجابات متناسبة ومدركات الناس في عصر النزول، أو أنها لم تكن على ذلك المستوى من الجدية بالنسبة لهم، وقد أراد الله من ورائها أن يحتفظ بطراوة القرآن إلى الأجيال القادمة.

ومن باب المثال: المواضيع الواردة في الآيات الأخيرة من سورة الحشر، وبداية سورة الحديد، والإخلاص.. فما هو التحدي الذي جعل هذه الآيات تتصف بهذه الوتيرة من العمق والدّقة؟ ومع ذلك لم يدرك المعاصرون عمق هذه الكلمات.

وفي ما يتعلق بالبعد العلمي التجريبي يجب القول: إنّ بعض المطالب العلمية الواردة في القرآن لم يكن مما تمّ التوصل إليه في تلك الحقبة الزمنية، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ}، التي لا يمكن تفسيرها في سياق تلك التساؤلات، ولا تناسب تلك المعلومات؛ فالدخان تعبير عن وجود النار أو الغاز. وإنّ سروش نفسه قال في موضع من كتاباته: إن سكان الجزيرة العربية لم يجرّبوا تحدياً عميقاً، ولا تساؤلاً مهماً، ولم يبلغوا مرحلة الإجابة عن تساؤل ذي بال، ولم يبلغوا يقين وشجاعة محمد النظرية والعملية. وعليه لا يمكن ربط مثل هذه التساؤلات والإجابات بالظرف التاريخي الذي تعامل فيه الله مع أهل ذلك العصر، بل حتى الأوصاف التاريخية لا يمكن تحديدها بذلك العصر.

وقد كتب سروش أيضاً: وبعد ذلك لن نندهش  إذا وجدنا القرآن يجيب عن أسئلة ليست على أهمية عالية، ولا تستهوي غير العرب الذين عايشوا عصر النص، مثل: السؤال عن الأهلّة، وعن ذي القرنين، وعن سن اليأس عند المرأة، وعن القتال في الأشهر الحرم، مما يعود إما إلى السابقة الذهنية والتاريخية لسكان شبه الجزيرة العربية؛ أو نمط حياتهم. مما يثبت بأجمعه أنّ جزءاً مما تمّ بيانه كان ناظراً إلى ظروف المخاطبين، والإجابة عن تساؤلاتهم، وتلبية لحاجاتهم. ولكن في السياق العام والمحور الأساس فإنّ الإجابات كانت موجهة لرفع المشاكل المعنوية للإنسان على طول التاريخ، وهو ما كان يدخل في رقعة اهتمامات الأنبياء، حيث نستشعر ونرى في طياتها الإشارات العلمية بشكل غير مباشر([8]).

يقول سروش: إنّ ما كان معجزة هو شخصيته، وأما الكتاب فقد اكتسب صفته الإعجازية تبعاً لإعجازية النبي نفسه.

إنّ ما هو واضح هو عدم وجود مثيل لهذا الكتاب، ومن خلال إعجاز القرآن نتوصل إلى إعجاز النبي. إنّ ما هو موجود حالياً هو حقيقة القرآن التي صنعت حضارة عظمى، وقد جرّت وراءها جمهوراً كبيراً من ملايين الناس. وإنّ ما نعرفه عن النبي إنما هو وصفه الوارد في هذا الكتاب، والتأثير الذي تركه على العالمين. وإن هذا الكتاب يدلنا على الدرجات العقلية والباطنية التي كان يتمتع بها النبي. وطبعاً فإن القرآن يعتبر شخصية عيسى معجزة، وأنه ليس هناك ما يضارع القرآن، فما هو الاختلاف بين عيسى ومحمد‘، حيث يرى القرآن أن عيسى إنما هو قول الحق: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ} (مريم: 34). وآية الحق: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} (المؤمنون: 50)([9]). وأما في ما يتعلق بالنبي فإنه يعرف كتابه بوصفه آية الحق: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1). وأنه نزل من عند الله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 89). فهل كان ذكر هذه الفوارق بين وصف عيسى ومحمد صدفة، أو أنه أمر مقصود ويحكي عن حقيقة هذا الاختلاف؟ يبدو أن لتحليل سروش جذوراً في رؤية الوحي العيسوي، وليس الوحي المحمدي، الذي يستند إلى الشخص دون الكلام، فإنّ الوحي القرآني حقيقة كلامية، وثمرة الوحي النبوي لكلام الله، وهناك بين هذين الوصفين بون شاسع.

يقول الدكتور سروش: ربما لو كان مؤلِّف هذا الكتاب شخصاً مثل أفلاطون لم يذهب أحد إلى إعجازه، وأما من مثل محمد فلم يكن هذا الخرق للعادة محتملاً.

يبدو أن هذا الاحتمال من الدكتور سروش غير صحيح؛ فإنّ مثل هذا الكتاب الذي يتحدّث عن عالم الغيب، ويخبر عن الماضي السحيق، والمستقبل المستور بحجب الغيب، إنما يبقى معجزة حتى إذا كان الجائي به أفلاطون؛ لأنّ حصيلة هذا الكتاب ـ على حدّ تعبير الدكتور سروش نفسه ـ إنما هو ثمرة تجربة نبوية. فقد جاء في هذا الكتاب من العلوم والمعارف الدقيقة والعميقة ما تُعدّ ـ بغض النظر عن شخصية النبي ـ معجزة، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: 88). وقد وصف في روايات أهل البيت^ بأنه: «بحر عميق لا يُدرك قعره». وقد سئل الإمام الصادق× عن سبب ملل الإنسان عند قراءة الشعر والخطب أكثر من مرّة، في حين لا يصدق ذلك على القرآن، حيث يحتفظ بطراوته وحلاوته ومتانته وقوته، بغض النظر عن كونه نازلاً على النبي الأكرم‘، فقال×: «فكلّ طائفة تتلقاه غضاً جديداً، وإنّ كلّ امرئ في نفسه متى أعاده وفكر فيه تلقى منه في كلّ مرّة علوماً غضّة، وليس هذا كله في الشعر والخطب»([10]).

وكذلك الأوصاف التي ذكرت لهذا الكتاب في القرآن، والتي ذكرها النبي وأهل بيته أيضاً حول هذا الكتاب، بصرف النظر عن الذي أتى به، وقد تمّ التحدّي بهذا الكتاب، وإنّ كلّ الأوصاف التي ذكرت لهذه الشخصية إنما كانت مقرونة بالوحي.

يقول الدكتور سروش: لم يكن من العبث أن يقال بشأن معنى قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23). أي أن تأتوا بسورةٍ من مثل شخص كمحمد([11]). ولم يكن من الصدف أن يذهب كبار العلماء من المعتزلة والشيعة إلى القول بإمكان المجيء بمثل هذا القرآن، ولكن الله يصرف من يحاول ذلك، وهو المعروف بمبدأ الصرفة([12]).

وفي ما يتعلق بنظرية الصرفة هناك عدّة تفسيرات. وإن المنقول عن النظام والسيد المرتضى، في (الموضّح) وكتبه الأخرى، أن المراد من الصرفة هو أنّ الله سبحانه وتعالى يحول دون حصول مَنْ يحاول المعارضة على علوم تساعده في أن يأتي بمثل القرآن، وليس أنهم يستطيعون ذلك بالفعل، ولكن الله يصرفهم عن ذلك، أو يحول بينهم وبين فعل ذلك. وهذا هو أفضل ما قيل في تفسير الصرفة. وأما في ما يتعلق بالتفسيرات الأخرى لنظرية الصرفة فإنها تعرضت لردود وإشكالات، بحيث لا يبقى معه مجال للتمسك بهذه النظرية والدفاع عنها([13]).

يقول سروش: نعم، إذا نظرنا إلى ظاهر الآيات والروايات فإننا سنجد أنّ الله يتكلم أيضاً: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً}،  وأنه  يمشي: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا} (الفرقان: 23)، ويستولي عليه الغضب: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (الزخرف: 55). ويجلس مثل الملك والسلطان على الكرسي: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5). ويستولي عليه التردد وعدم الحزم، ففي الحديث: «ما ترددت كترددي في قبض روح عبدي المؤمن»..، ولكننا إذا نظرنا إلى المعنى فإنه لن يصدق على الله شيء من ذلك. فإنّ الذي يتكلم حقيقة هو محمد‘، الذي يكون كلامُه؛ من فرط قربه وأنسه، عينَ كلام الله، وإنّ إسناد الكلام إلى الله من قبيل إسناد الأوصاف البشرية الأخرى إليه، فهو على نحو المجاز دون الحقيقة، والتشبيه دون التنزيه.

والجواب: أولاً: إنّ تكلم الله مع عباده إنما يكون من خلال الوسائط. ومن جهة أخرى إذا كان الواقع قائماً على تكلم موسى مع نفسه فيكون هو المتكلم نيابة عن الله، والمخاطب أصالة عن نفسه، إذاً يكون من العبث إقحام الشجرة في البين، حيث قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الوَادِي الأَيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} (القصص: 30). ولماذا تتنوّع طرق تكليم الله لأنبيائه إذا لم يكن على الحقيقة؛ فتارة يكلمهم مباشرة من وراء حجاب، وأحياناً بتوسط الملك، أيصحّ تفسير ذلك على أنه من باب التفنن والتنوّع في أساليب الكلام؟ الصحيح أنه يخبر عن فوارق حقيقية في مراتب الأنبياء ودرجاتهم. صحيحٌ أنّ الكلام الناسوتي يكون بألفاظ مادية، إلا أنّ كلام النبي قد يكون قرآناً أحياناً، وقد يكون حديثاً شريفاً في أحيان أخرى؛ وقد يكون حديثاً قدسياً، فليس هو على وتيرة واحدة حتى ينسب بأجمعه إلى شخص واحد. وأما ما قيل من أنّ كلامَه؛ من فرط قربه وأنسه، عينُ كلام الله فلا يصحّ تأويلاً وتفسيراً لدرجات وأبعاد الوحي.

ثانياً: إن إسناد بعض الأفعال إلى الله تعالى، من قبيل: الرزق، كما في الآية التاسعة عشرة من سورة الشورى، والآية الرابعة والستين من سورة النمل؛ والهداية، كما في الآيتين الثالثة عشرة والثانية والسبعين بعد المئتين من سورة البقرة؛ والضلالة، كما في الآية الثامنة من سورة فاطر؛ والرمي، والقتال، كما في الآية السابعة عشرة من سورة الأنفال، ونسبة بعض الأوصاف البشرية له عزوجل، إنما هي مجازية وطولية، ولبيان أن ليس للإنسان إرادة مطلقة. ومع ذلك فإن القول باختلافه عن التكلم، ومغايرته للوحي النبوي، وإرسال الرسل، والمعجزات، واعتبار مجازية التكلم وإلقاء العصا، لا يدل على إمكان الخطأ والتأثر بثقافة العصر.

الهوامش

____________________________

(*) أستاذ في الحوزة والجامعة، وأحد أبرز الباحثين القرآنيين، لديه أكثر من ثلاثين كتاباً في الدراسات القرآنية وغيرها، كانت له مساهمات جادّة في موضوعات قرآنية إشكالية، من رموز الفكر التجديدي في إيران.

([1]) وهذا ما تؤكده تعبيرات قرآنية كثيرة، من قبيل: المبين والنور، وأنه لا يأتيه الباطل، وما هو بالهزل.

([2]) كما ورد هذا التعبير في الكثير من الآيات القرآنية، منها: ما في سورة البقرة، ويونس، والسجدة.

([3]) الإمام روح الله الخميني، شرح دعاء السحر: 56 ـ 57.

([4]) الميزان في تفسير القرآن: 262 ـ 267.

([5]) الصحيفة السجادية؛ وتفسير الصافي.

([6]) محمد حسين الطباطبائي، بررسي هاي إسلامي: 246 ـ 249.

([7]) ألف في القرن السابع كتاب تفسيري باسم (بلابل القلاقل)، في أربعة مجلدات، وهو من تأليف أبي المكارم قوام الدين الحسني، مما يؤكد سعة أبعاد معاني ألفاظ (قل) الواردة في القرآن، الأمر الذي استدعى تأليفاً مستقلاً بمثل هذا الحجم.

([8]) من باب المثال: إذا قال تعالى في الآية الثانية من سورة الرعد: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}، والتي بحث فيها الفخر الرازي بعد مضي ستة قرون من نزولها بحثاً فلكياً، لبيان ما هو المراد من قوله {بِغَيْرِ عَمَدٍ}، وما معنى أن تحمل السماوات بغير عمد؟ فلابد أن لا يكون ذلك من تلقاء نفسها، (مفاتيح الغيب 18: 231 ـ 232). ماذا كان يفهم من سقوط السماء على الأرض في عصر النص؟ وماذا نفهم منه حالياً؟ قد ينحصر فهمهم بأن الله يحفظ السماء بما فيها من أجرام على نحو ميتافيزيقي، وقد كان هذا النوع من الفهم بسيطاً وساذجاً وسطحياً (النيشابوري 5: 99). والنوع الآخر من الحفظ هو وجود قوّة الجاذبية للسيطرة على السيارات، وهو فهم تفصيلي من قوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}، وقد أفاده الله تعالى على نحو إجمالي بسيط، بما يتناسب والفهم السائد والمدركات العلمية الشائعة في ذلك العصر، أما المفسر العلمي فيعمل على توضيحها وتفصيلها بشكل مغاير لما كان عليه الفهم في عصر النص.

([9]) يتحدّث القرآن بشأن موسى× بذكر الكتاب، وأما في ما يتعلق بالنبي عيسى× فيتم الحديث عن البينات، مما يثبت أن شخصيّة عيسى دليل على النبوّة والمحورية، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} (البقرة: 87).

([10]) ابن عطيّة، المحرر الوجيز 1: 36.

([11]) تفاسير: الصافي، والميزان، ومفاتيح الغيب.

([12]) راجع: كتاب التمهيد في علوم القرآن 4: 138 ـ 139، نقلاً عن الطراز 3: 391 ـ 392. وقد ذكر السيد المرتضى في كتاب «الموضح»، في معرض الحديث عن إعجاز النظم والفصاحة في القرآن: «إنما يسوغ ادّعاء خرق العادة لغير الصرف لمن جعل فصاحة القرآن متفاوتة لسائر كلام العرب، حتى أنّ أحداً منهم لا يتمكن من مساواتها أو مقاربتها، من حيث لم يخصّوا بالعلوم التي تحتاج المعارضة إليها، أو قال في النظم مثل ذلك، وهذا قد مضى» (الموضح: 50).

([13]) إذا لم يتمّ تفسير هذه النظرية بمعنى عدم تمكن الإنسان من خصائص القرآن، وفسّرت على أنها بمعنى عجز الإنسان عن ذلك، ترتب على ذلك ما يلي:

1ـ لا يوجد في ذات القرآن ما يدلّ على نبوّة النبي، ولا يحتوي هذا الكتاب امتيازاً على سائر الكتب الأخرى، ولن يمكن الحديث بعد ذلك عن وجود إعجاز في ذات القرآن؛ لأنّ عجز الآخرين لا يعود إلى خصوصية في القرآن، وإنما للصرفة، بسبب عامل خارجي وأجنبي عن القرآن.

2ـ إنّ اللازم من القول بالصرفة إثبات الجبر وسلب الاختيار عن الإنسان، حيث يقال له من جهة: يمكنك أن تأتي بمثل القرآن، ويحال دونه ودون فعل ذلك من جهة أخرى.

3ـ إن اللازم من القول بالصرفة هو تعجيز الإنسان، والاستفادة من قوّة قاهرة يعجز الإنسان عن الإتيان بمثلها، وهذا وإن كان يتناسب ومعجزات سائر الأنبياء، إلا أنها لا تمتاز عنها بشيء، فلا تكون في المسار التكاملي للإنسان وإرسال الرسل، وانتخاب الدليل والشاهد على النبوّة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً