أحدث المقالات

قراءةٌ في النظريتين

ـ القسم الأول ـ

د. السيد صادق حقيقت(*)

ترجمة: د. نظيرة غلاب

مقدّمة

في سابقةٍ تاريخية هي الأولى في نوعها شهد العالم في العشر الأواخر من 1980 تحوُّلات في نظم القوى وخريطة تمركزها وفعاليتها، حيث تشكّلت بعد الحرب العالمية الثانية معالم نظام ثنائيّ القطب، ساد الفكر الشيوعي في أوروبا الشرقية، تشكّل ما عرف بالاتّحاد السوفياتي وارتباطه أيديولوجياً وسياسياً بالعديد من دول العالم الثالث، تشكّل منظمة دول عدم الانحياز وانضمام مجموعة من دول العالم الثالث إليها، وأخيراً النظام الذي انبثق عن كلّ هذه الأزمات وتولَّد من رحمها، كل هذه كانت من أهمّ المواضيع التي تفاعلت على السطح وبرزت بقوّةٍ خلال هذه البرهة من عمر الزمن.

فالشيوعية؛ ولأسباب سياسية واقتصادية وأيديولوجية، وصلت إلى طريق مسدود، ولم يفلح ميخائيل غورباتشوف بدعواته الإصلاحية، من خلال كلٍّ من: البيريسترويكا (إعادة البناء) والغلاسنوست (الشفافية)، أن يعيد الأمل للقلوب في الاشتراكية كنظامٍ يحمي الطبقات الكادحة، أو أن يحفظ للاتحاد السوفياتي قوته في الاستمرار، فبدأت الجمهوريات السوفياتية في هذه الفترة الحرجة من عمر النظام الشيوعي تستقلّ الواحدة تلو الأخرى، وبدأت دول أوروبا الشرقية والعديد من الدول التي كانت تخضع للماركسية تبدي تمايلها باتجاه النظام الليبرالي، وتتنصَّل من روابطها بالمركز الماركسي.

دول العالم الثالث، والتي حصّلت موقعاً مناسباً من خلال انشغال العالم بتصارع قوى الشرق والغرب طيلة فترة الحرب الباردة، وجدَتْ نفسها بعد هذه الفترة حائرةً في أيّ النُّظُم تسلك لبناء مستقبلها، حيرة فرضها تعدّد الأيديولوجيات والنظم الاقتصادية التي توافدت عليها من كل حدب وصوب.

وفي الحقيقة فإن مجموعة الـ 77 ودول عدم الانحياز كان عليها أن تغيِّر ترتيب جدول أعمالها. فثورة حركة عدم الانحياز كانت تنجح مرّة وتسقط أخرى في إيجاد تقارب بين مواقف أعضائها المتناقضة حول خلق خطّ وسط بين الشرق والغرب، وحماية دول العالم الثالث من استنزاف القوتين العظميين. لكنْ بعد سقوط نظام القوتين العظميين سقط سلاح الأيديولوجيا الشيوعية، فأصبحت تسيطر على دول العالم الثالث اتجاهات متعدّدة.

أمريكا، التي كانت تستفيد في فترة الحرب الباردة من رعاية مصالح كلٍّ من: أوروبا؛ واليابان، أصبحت ترى نفسها في موقعٍ جديد. أوروبا المتحدة وألمانيا القوية واليابان أصبحوا يشكّلون قوة عظيمة، و«غولاً» اقتصادياً، فكان أول خطواتهم تغيير أسلوب التعاطي مع أمريكا. فلتعزيز مصالحهم والبحث عن منافذ اقتصادية أخرى ضمن ما يصطلح عليه «المصالح الإقليمية» وجَّهوا بوصلتهم بشكلٍ مباشر تجاه الدول النامية ودول العالم الثالث، وبالذات تجاه مواطن الطاقة، مؤكّدين على أن لها دَوْراً فعالاً في النظام الدولي الجديد. لقد بات العالم يدرك أهمّية الاقتصاد والحرب الاقتصادية بعد فترة طويلة من الحرب العسكرية والسياسية. كلّ هذا، مع تصاعد أسود آسيا والصين كقوّة اقتصادية، وما يتبع ذلك من قدرة سياسية لها مكانةٌ ونفوذ قويّ في تغيير ميزان القوّة، على رغم التوتر وتزايد بؤر النزاع والصراع في الآونة الأخيرة في المنطقة، معلناً بذلك انتهاء زمن التفسيرات الكليانية.

في مثل هذه الظروف الحسّاسة تطرح الأسئلة التالية: هل سقوط الشيوعية كان نتيجة تفوّق ونجاح الليبرالية والرأسمالية؟ هل بعد سقوط أحد القطبين من دائرة الثنائية القطبية سنكون أمام نظام أحاديّ القطب أم سيظهر نظام متعدّد القطبية و…؟ هل فكرة السقوط النسبي لقدرة أمريكا، سواء على مستوى المدة القصيرة أو المدة الطويلة، له مصداقية وواقعية؟ ما مدى مصداقية ما تدعيه بعض النظريات من أن دول العالم الثالث، وبالأخص الدول الإسلامية، ستكون سهيمة في بلورة النظام العالمي الجديد؟ وإذا ثبت ذلك فما هو سهم إيران الإسلامية في هذا النظام الجديد؟ وما هو الموقع الذي عليها التموضع فيه مقابل هذا النظام؟ هل نظرية صراع الحضارات أقرب للواقع أم نظرية حوار الحضارات؟

من جملة فرضيات هذا البحث: تغيير نقطة الثقل عاملٌ في تغيير العلاقات الدولية من حالة سياسية ـ جغرافية إلى اقتصادية ـ جغرافية؛ ضرورة تشكيل وبلورة نظام جديد يحكم العلاقات الدولية، وتقبل مسألة نهاية الحرب الباردة، وتولي عهد نظام ثنائيّ القطب.

عندما يتمّ إرجاع أسباب ظهور «النظام العالمي الجديد» إلى الأفول والسقوط النسبي لقدرة أمريكا، إلى ظهور قدرات وقوى جديدة، كالاتحاد الأوروبي واليابان، فإننا نلاحظ تأثير العوامل الاقتصادية، بينما تؤكِّد نظرية صراع الحضارات على فكرة التأثير الكبير للعوامل الثقافية. والبحث في هذه المسألة يختلف وفق معطيات البنية التحتية والبنية الفوقية.

مصطلح النظام العالمي الجديد (New World Order) أول ما أبدعه بوش فترة ترؤسه للولايات المتحدة الأمريكية، وكان قد أطلقه إبان حرب الخليج الفارسي، على رغم ادعاء بريجنسكي أن بوش نفسه لم يكن حاضراً وقتها في ذهنه تعريفٌ تامّ لهذا النظام، ولا تصوّرٌ عن شكله!

يعرفه جوزيف ناي، رئيس لمركز الدراسات العالمية بجامعة هارفارد، قائلاً: النظام العالمي الجديد يعني الأمن والاستقرار للجميع، التواصل والتعاون المتبادل بين الدول مع بعضها البعض، توقيف التحرُّكات الإرهابية الإقليمية؛ قصد إبعاد أمريكا عن حافة السقوط.

ومن البديهي أن يكون توفق الهيمنة الأمريكية في توجيه المسار الدولي لحفظ مصالحها رغبة جورج بوش، ومورد مباركته.

إن الحديث عن تراجع القدرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية لأمريكا في مدة قصيرة لا يُعَدّ نظرةً متفائلة بعض الشيء، حيث يزعم أصحاب هذه النظرية أن سقوط الرأسمالية، وتراجع الهيمنة الليبرالية الأمريكية، سيكون في مدّة أقلّ من 15 سنة.

لكنّ نيكسون يرى أنه رغم تراجع القدرة الاقتصادية الأمريكية ما بين سنة 1950 إلى 1990 من 50% إلى 25%، لكنْ أوّلاً: لا بُدَّ من النظر إلى هذا المعطى في ظل إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وطفرة الاقتصاد الياباني والصيني وأسود آسيا الأربعة؛ ثانياً: 25% من حصة كل الصناعة العالمية لا يُعَدّ سوى رقم بسيط([1]). وبنظره فإن كل النظريات التي تتحدث عن السيطرة المطلقة لأمريكا أو سقوطها السريع مجرّد تنفيس عن الذات، قد يجد جذوره ضمن الشعارات الأيديولوجية، أو يكون لأغراض سياسية. لذلك فهي غير واقعية. وما يظهر له معقولاً هو الأفول والسقوط النسبي والتدريجي ـ ليس على شاكلة الرسم البياني ـ للقوة الأمريكية.

في هذا البحث ابتداءً سنتطرّق لمسألة كيفية سقوط وصعود نظام الثنائية القطبية بعد الحرب العالمية الثانية، بعد ذلك ننتقل إلى البحث حول النظام العالمي الجديد، وكيف تم طرحه من وجهات نظر مختلفة؟ في بحثنا لنظرية صراع الحضارات وفق النظرية المحورية لصاموئيل هنتينغتون في سنة 1993، التي تمثِّل محور هذا البحث، هذه النظرية كما قال صاحبها توصيفية، وسوف تتعرّض لمجموعة من النقود.

إن طبيعة دينامية وحركة القوّة إما أن تأخذ طابع التنازع والتباعد، أو تنحى منحى التعاون والتقارب. نظرية حوار الحضارات ترى أن حركة السلطة تتّجه نحو التصادم والتنازع، بينما تؤكِّد نظرية حوار الحضارات (حَسْب رأي رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية السابق محمد خاتمي) ونظرية نهاية التاريخ (لفوكوياما) على تعاون وتلاقي القوى والسلطات. وسنحاول ضمن هذه الدراسة تتبُّع جوانب هذه الآراء الثلاث في حركة القوى، والقائلة بحوار الحضارات، بناءً على الطابع التعاوني والتلاقي بين القوى.

في هذا الصدد توجد آراء ونظريات أخرى اهتمّت بتتبُّع آليّة بناء القوى وطريق تشكّلها في العلاقات الدولية، وتشمل الموارد التالية: نظام التسلسل الهرمي (عند نيكسون وبوش)، النظام الأحادي ـ ثلاثيّ الأقطاب (عند نوام جامسكي)، ظهور حكومة (سلطة) الشركات والمؤسّسات التجارية (عند ريتشاردر وزكرانس)، التنقل والتحول في السلطة (آلوين تافلر)، ونظريتان لعلماء إيران: نظرية نظام ترتيب أدوات اللعبة؛ بغية الحفاظ على ميزان القوى (عند محمد جواد لاريجاني)؛ ونظرية نظام توازن القوى (عند منوشهر محمدي).

صعود وأفول نظام الثنائية القطبية

في أواخر الحرب العالمية الأولى شهدت روسيا ثورة أكتوبر، حيث أقام البلاشفة حكومة اشتراكية، فانتشرت الأفكار والأيديولوجيا الماركسية في زمن قصير في مختلف أرجاء المعمور. ومن جملة الأسباب التي ساهمت في نموّ هذه الأيديولوجيا وانتشارها بساطةُ شعاراتها، إعلان رفضها للإمبريالية، الرفع من مكانة الفلاحين والعمال وأصحاب الفكر التنويري (الذين رفضوا أفكار الكنيسة). فقد غيَّرت الاشتراكية من الخريطة السياسية للعالم، حيث انضمّت إلى معسكرها كلٌّ من: أثيوبيا، اليمن الجنوبية، فيتنام، ودول أخرى، مثل: كوبا، ودول أوروبا الشرقية. ويمكن القول: إن السبب في هذا الانضمام يرجع إلى عدّة أمور، منها: المسألة الاقتصادية، الرغبة في الانعتاق من الغرب، تحركات وفعاليات تجاه المثقَّفين الجدد، الانجذاب إلى الأيديولوجيا الماركسية في جانب دعوتها للتحرُّر من الحكم المستبد والسلطات المستبدة. وبالطبع الصين ويوغوسلافيا كانتا أكثر استقلالاً عن الغرب وتحرُّراً من القوى الإمبريالية، مقارنةً ببقية الدول التي تبنَّتْ الفكر الماركسي، وانضمت إلى المعسكر الشيوعي.

لم تكن جمهوريات الاتحاد السوفياتي منذ بدايتها إلى النهاية على نفس الوتيرة في تعاملها مع الإمبريالية العالمية، فنجاحُ (اسْتالين) وصعوده للسلطة أوجد نوعاً من العلاقة المعقولة مع الإمبريالية العالمية. لكنّ تروتسكي، والذي كان يعتقد بالثورة العالمية، كان يرى الارتباط بالإمبريالية خيانةً للقِيَم العليا للاشتراكية. ومع وفاة (اسْتالين) تغيَّرت الكثير من الأفكار، فـ (خروتشوف) الذي كان يعتقد بالتعايش السلمي أعطى نفحةً جديدة للعلاقة بين الشرق والغرب، وبشكلٍ عامّ الاتحاد السوفياتي في تلك الفترة لم يكن بصدد البحث عن الهدوء والاستقرار بقدر ما كان وراء المغامرة… ولم تتعرّض الماركسية لهزات عنيفة إلاّ حينما أصبحت مبادئها الأساسية وقاعدتها الفكرية والعقدية مورد السؤال. فجاء غورباتشوف وعرض مجموعةً من التغييرات والإصلاحات السياسية والاقتصادية في هَرَم الماركسية. وبغضّ النظر عن نيّات الرجل وأهدافه في ذلك، لكنْ بشكلٍ عامّ طروحاتُه لم تتوجَّه لإصلاح الفاسد، بل وجَّهت الضربة القاسمة لظهر الماركسية. قال برجنسكي: إن هيمنة الاشتراكية كانت إلى حدٍّ كبير نتيجة إبرازها للقضايا البسيطة، فموفقية هذا الفكر كانت كبيرةً لدرجة كتب معها جورج برناردشو أنه في إنجلترا الإنسان البريء يُلقى وراء قضبان السجن، والمجرم يظلّ حُرّاً طليقاً، بينما في روسيا المجرم يعاقَب ويسجن، والبريء يطلق سراحه. الاتحاد السوفياتي ما بين سنة 1920 إلى 1940 حقَّق نموّاً اقتصادياً كبيراً، نذكر، على سبيل المثال، أن إنتاجه من الصلب انتقل من 4.3 مليون طن إلى 18.3 مليون طن، ونجحت الاشتراكية في كلٍّ من: كوبا ونيكاراغوا، وفي السبعينات فضلت العديد من دول الأفريقية المنهج الاشتراكي والماركسي([2]).

في الطرف المقابل سعَتْ أمريكا إلى تقوية جبهتها. فأمريكا التي اختارت الحياد في الحرب العالمية الأولى، واستطاعت أن تبعد العالم في الحرب العالمية الثانية عن أن يتكبد خسائر كثيرة في الأرواح، كما كان الحال في الحرب العالمية الأولى، استطاعت بعد سنة 1945 أن تتيح لأوروبا مساعدات بالغة. فخطّة مارشال ساهمت في إلحاق أوروبا اقتصادياً بأمريكا، وتمكن الحلف الأطلسي من استقطاب دول التحالف الغربي، كما استطاع كلٌّ من: حلف (سنتو) أو ما عرف بالمعاهدة المركزية، وحلف جنوب وشرق آسيا (سياتو)، ومعاهدة آنزوس (الاتفاقية الأمنية بين أستراليا ونيوزلندا) من إحداث تغييرات في تعامل دول العالم الثالث مع قوى الغرب وأمريكا.

يرجع السبب وراء تغيير أمريكا سياسيتها الخارجية في ما يخصّ علاقاتها بدول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى أربعة أمور:

1ـ تمدّد النفوذ الاشتراكي السوفياتي إلى قلب أوروبا؛

2ـ هيمنة الاتحاد السوفياتي على دول أوروبا الشرقية؛

3ـ الفصل القسري بين الألمانيتين؛ بسبب ضغوطات روسيا الاشتراكية؛

4ـ تضعيف أوروبا، ومن ثم تقسيمها إلى معسكرات([3]).

وفي المقابل نجد الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية قد اتّبع السياسة التالية:

1ـ العمل على إخراج التواجد الأمريكي من أوروبا؛

2ـ منع أوروبا من امتلاك السلاح النووي؛

3ـ تضعيف ومن ثمّ تفكيك حلف الناتو (وتقوية حلف وارسو)؛

4ـ إيجاد ألمانيا محايدة.

ونستطيع القول: إن غورباتشوف قد استطاع إلى حدٍّ كبير تحقيق قسم كبير من هذه الأهداف([4]).

وفي الجملة يمكننا تتبُّع الأرضية التاريخية للنظام العالمي الجديد ضمن ثلاث مراحل:

1ـ نظام الثنائية القطبية غير القابل للتفاهم: يبدو أن الحرب بين الرأسمالية والاشتراكية إلى ما قبل 1956 كانت ضروريةً. الماركسيون كانوا يعتقدون أن صراع الدول الرأسمالية في اتّساعٍ، وأن الرأسمالية تعيش مرحلة ما قبل الاشتراكية، وأن لا صلح أو توافق بين العالم الرأسمالي والعالم الاشتراكي، وأن هذا الصراع بين العالمين لن ينتهي إلاّ باستتباب الاشتراكية في العالم كلّه. وقد انتقد خورتشوف بشدّة فكرة الحرب التي لا مفرّ منها مع الإمبريالية. أمريكا بعد أزمة كوبا وجدَتْ نفسها أمام خسارتها الرهان على حظر السلاح النووي، فسارعت إلى زيادة نسبة تسلُّحها بالصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وهو أسلوبٌ مَرِن مسبق من طرف الرئيس كِنِدي في إعلان استعداد بلاده للمواجهة مع الاتحاد السوفياتي.

2ـ نظام الثنائية القطبية وفترة القبول بالآخر: في سنة 1963 أعلن كِنِدي أنه لأجل إيجاد عالمٍ يسوده الأمن والأمان على أمريكا أن تعيد النظر في موقفها المتعصِّب ضدّ الاتحاد السوفياتي. فخوف القوتين العظميين من احتمال حدوث حرب نووية تقضي عليهما معاً عزَّز فرصة التوافق، وأوجد انفراجاً في العلاقات. وفي أواسط ستينيات القرن الماضي تحوَّلت حلبة الصراع إلى ساحة دول العالم الثالث، حيث مثَّلت فترة جانسون (1963 ـ 1969) مرحلة نجاح وتفوّق أمريكا في العالم الثالث، وجاءت مرحلة نيكسون لتزيد من مستوى هذا النجاح، إلى درجة إجراء مذكّرات ناجحة بين الشرق والغرب في زمن الرئيس نيكسون.

3ـ النظام الدولي في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم: شهدت هذه الفترة تشكّل قوى عالمية جديدة ونظامٍ دوليّ جديد. فأمريكا التي انهزمت في فيتنام (وإيران) بادرت إلى عقد اتفاقية «سولت ـ 1» مع الاتحاد السوفياتي؛ للحدّ من انتشار الأسلحة الاستراتيجية، وبذلك اقتربت من السوفيات، ومن الصين.

في الواقع النظام الدولي في هذه الفترة من التاريخ يختلف عن النظام الدولي الذي شهدته فترة خمسينيات وستينيات القرن العشرين، حيث يمكن عدّه صورة معقَّدة عن نظام الثنائية القطبية؛ فقد تمّ تأسيس قطبية اقتصادية جديدة في كلٍّ من: أوروبا واليابان وآسيا الوسطى. وقد استطاع نيكسون بنظريته (تعدّد محاور القوة في العالم) من التقريب بين أمريكا والاتحاد السوفياتي، لكنّه في المقابل جعل أوروبا الغربية تنفصل عن أمريكا([5]).

في الحقيقة الحربان العالميتان الأولى والثانية جعلت الصراع يحتدم بين الدول الصناعية. بعد ذلك جاءت الحرب الباردة، وبعدها ـ للأسباب التي سنذكرها ـ انسحبت جهةٌ من هذا الصراع. وكان حضور الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة قد أعطى نفساً قوياً لظهور حركات تحرُّرية في مختلف مناطق العالم([6]).

وفي الجملة يمكن إرجاع سقوط الماركسية للأسباب التالية:

1ـ أسباب اقتصادية: فقد شهد الاقتصاد، وإلى سنة 1940، سيراً تصاعدياً ملحوظاً، وبدأت بعد ذلك مظاهر الضعف والهشاشة في بنيته تتضح يوماً بعد يوم. فمنع الملكية الخاصة أضعف الرغبة في الإنتاج بين العمال والفلاحين. ثم إن إعطاء كل الاهتمام للجانب الاقتصادي كان على حساب إهمال الجوانب الأخرى، مما كان له عواقب وخيمة على الاتحاد السوفياتي وعلى النظام الماركسي؛ فأمريكا التي استعملت سياسة السوق الحرّة استطاعت جلب العديد من دول المعسكر الشرقي إلى سوق الغرب، وإلى جانب ذلك فمستلزمات السياسة الخارجية التي انتهجها الاتحاد السوفياتي كانت قد كلفت ميزانية السوفيات كثيراً، حمايته للنظام الشيوعي في كوبا (وأزمة خليج الخنازير في سنة 1962)، الدفاع عن ثوار نيكاراغوا، زامبيا، أنغولا، و…، وما استلزمه من نفقات عسكرية وكلفة التمويل بالسلاح (بالأخصّ السلاح النووي)، كانت فوق طاقة القدرة الاقتصادية لها.

2ـ أسباب سياسية: الحرية هبةٌ إلهية منذ خلق الله الخلق، فلا حقَّ لشخص أو تجمّع أو دولة في سلب هذا الحقّ من الناس. فتمركز القدرة السياسية في يد مجموعة من الأفراد وممارسة العنف والقوّة كانت أهمّ ملامح سياسة لينين. يقول باركلين، أحد المؤرِّخين الروس: في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين منعت السياسة في مجتمعنا، وكانت النتيجة أن تسيَّس كل شيءٍ.

ويقول دوكوستين: عندما يصبح تبرير الاستبداد بأنه خيرٌ وصلاح فإن العنف والشدة سيصل إلى أقصى حدّه؛ لأنه في هذه الحالة سيتمّ تبرير كلّ فعلٍ شنيع، والشر الذي يلبس لباس المرهم سيتخطّى كل الحدود([7]).

بالإضافة إلى كلّ ذلك فإن الحزب الشيوعي وجد نفسه عاجزاً أمام سؤالين:

1ـ كيف السبيل لدمقرطة الحزب؟

2ـ كيف يمكن تغيير نظرة المجتمع للحزب الذي فقد سمعته؟

الإقدام على إعدام المناهضين للحزب؛ بقصد التسلُّط، قتل بعض أعضاء الحزب لمجرّد التهمة، أو لمجرد احتمال خطورتهم على الحزب، التصفية الجسدية للمزارعين المستقلّين، النفي الجماعي، اغتيال أو موت بعض الشيوعيين في المخيّمات وأماكن عملهم، الحبس الطويل، ملاحقة أسر الضحايا وأذيتهم، إيجاد محيط مليء بالرعب والخوف، انعزال ذوي الكفاءات عن كلّ الفعاليات، وإخماد روح المبادرة والخلاّقية بين أفراد المجتمع، كانت السمات الغالبة للنظام السوفياتي.

وقد شهدت حكومة روسيا ما بين 87 ـ 88 ما يقارب من 300 محاولة أعمال شَغَب([8])، وهو ما يعني ارتفاع مؤشِّر انزعاج واشمئزاز الجمهوريين من الحكومة المركزية.

يمكننا حصر أسباب التراجع عن الشيوعية في الأمور التالية:

أـ حكومة ديكتاتورية، وشيوعية شمولية.

ب ـ حكومة استبدادية وسلطوية.

ج ـ حكومة استبدادية وسلطوية بعد سلطة الشيوعية.

د ـ التعدّدية بعد الشيوعية([9]).

3ـ أسباب أيديولوجية: الحكومات تشبه إلى حدٍّ كبير حضارة الإمبراطوريات الكبيرة، فقبل أن تعلن سقوطها الفعلي والخارجي تجد الفساد قد أنهك بنيانها الداخلي. فالسقوط الأيديولوجي للاتحاد السوفياتي كان قد سبق سقوطه الاقتصادي. فالعامل الاقتصادي كان له أوّلاً الأثر الكبير في سقوط المنظومة الفكرية الماركسية، ثم عمل ثانياً على انهيار الاتحاد السوفياتي وتفتيت اتحاده.

وحيث إن الفِطْرة الإلهية التي جبل الناس عليها تقوم على البُعْد الديني، والرغبة الطبيعية في العبادة، فإن أيّ أيديولوجيا تنهض ضدّ هذه الفطرة سرعان ما تجد نفسها في مأزق، وتُوصَد في وجهها الأبواب، وبما أن الكثير من جمهوريات الاتحاد السوفياتي كانت تتبنى عقيدة التوحيد ـ وبالاخصّ دين الإسلام ـ فإن ممارسة الماركسية لضغوطاتها على عقيدة شعوب هذه الدول لم تفلح في تغيير فكرها وعقيدتها، وإنما مارس عليها الضغط والقهر؛ لكي تخضع وترضخ لسلطتها وعقيدتها.

يرى برجنسكي أن هناك خمسة تحولات رئيسة عملت على وضع الاشتراكية في أزمةٍ عامة:

أـ مشكلة عدم وجود نموذج عملي للاشتراكية بعد سقوط وانهيار الاتحاد السوفياتي.

ب ـ اللغز المحيّر أن نجاح الاقتصاد ممكن حتّى مع عدم الاستقرار السياسي، وأن الاستقرار السياسي يمكنه الاستمرارية حتى مع الفشل الاقتصادي.

ج ـ احتكار الحزب الاشتراكي للسلطة، وحصرها فيه.

د ـ إجراء الصين لتغييرات (تحريفات) على الاشتراكية، والخروج من الشيوعية الحقيقية.

هـ ـ عدم وجود مبادئ مشتركة بين الحركات التحرُّرية والأحزاب الشيوعية.

وقد تلقّت الشيوعية ضربةً قوية من خلال سقوط فلسفتها. والظاهر أن وضعية الشيوعية ستستمر في التدهور، وظهور الأزمات الواحدة تلو الأخرى، إلى أن تهلك هذه الأيديولوجيا بشكلٍ تامّ([10]).

لم تكن محاولات غورباتشوف في تقديم إصلاحات سياسية واقتصادية لتنجح؛ لسببين:

الأول: لأن تلك الإصلاحات كانت حالة توفيقية بين أسلوب السوق الحرّة وبين اشتراكية الدولة، فسقطت أمام عدم الثقة، سواء من الداخل ومن الخارج.

وثانياً: بسبب عدم الاستقرار في الجمهوريات.

وبذلك تكون الشيوعية قد بذرت جذور فنائها في موطنها.

بطروفسكي، أحد ممثِّلي روسيا في الأمم المتحدة، لا زال يرى هيمنة حكم القوّتين العظميين على العالم، وأن كلّ ما في الأمر أن أحد القطبين في حالة مرضٍ، وقريباً سيتعافى؛ ليرجع إلى ممارسة دوره في قيادة العالم. لكنْ بالنظر إلى سقوط الماركسية فإن كلام بطروفسكي لا يمكننا حمله محمل الجدّ، وخصوصاً أن كل الإمبراطوريات التي سقطت لم تكن حاضرةً لتقبُّل الهزيمة والاعتراف بالفشل، وكانت ترفض الإقرار بذلك عدّة سنوات بعد سقوطها.

في مراحل سقوط الماركسية لا يمكن غضّ الطرف عن وجود محفِّزات، أو ما يصطلح عليه في الكيمياء بـ (Catalyst)، أمريكية وغربية لها دخلٌ في تسريع هذا السقوط. فالاتحاد السوفياتي لم يسقط في منافسته لأمريكا في قيادة العالم، لكنّ التناقض بين القدرتين له مدخلية في أفول نجم إمبراطورية الشرق، وعامل تسريع لهذا السقوط. ولأن حاصل مجموع قوة القطبين ليس صفراً، بحيث إن سقوط أحدها لا يعني ميل كفّة قوة الأخرى وازدياد قدرتها، فسقوط الشيوعية أحدث سقوطاً نسبياً لقدرة أمريكا.

ويرى بعض المثقَّفين الجدد، أو ما يصطلح عليهم بـ (التنويريين)، أنه كان على أمريكا أن لا تعمل على تسريع سقوط الشيوعية. ويبدو أن هذا الرأي له جانبٌ من الصحة، فأمريكا كانت تستطيع تحويل «فزاعة» الشيوعية إلى مناسبة لاكتساب الدعم الأوروبي والياباني ودول العالم الثالث. أمّا وقد سقطت الشيوعية فإن أوروبا المتحدة واليابان وقوى أخرى عالمية أصبحت تطالب بحصّةٍ كبيرة من كعكة الاقتصاد العالمي. وفي مارس 2008 اعترف غورباتشوف بأن الغرب قد خدعه. وعلى أيّ حال فإن التقدير لسقوط الماركسية كان باكراً، والمفترض بهذا اللحاظ بحث ومناقشة ما هو الشكل الذي ستتّخذه القوى الاقتصادية والسياسية بعد الحرب الباردة.

النظام العالمي الجديد

بعد انتهاء غزو صدام حسين للكويت ظهر «النظام العالمي الجديد»، وهو مصطلح ابتدعه الرئيس الأمريكي جورج بوش؛ ليبرز الهيمنة الأمريكية العالمية في ثوبها الجديد. وبهذا الخصوص نصادف رأيين:

أـ الرأي الأوّل: يذهب أصحابه إلى القول: إن غزو الكويت كان من تخطيط ودعم جورج بوش، وكان يريد من خلال ذلك إحداث فوضى وضجة في دول الخليج، حتى يتقدم للعالم بنظرية ترتيب ميزان القوى العالمية؛ ليحظى بمجوِّز قانوني للتدخُّل في المنطقة، وبذلك يجعل دوره حامياً للدول الصديقة، مثل: الكويت والمملكة العربية السعودية وباقي دول النفط والغاز، الدائرة في المحور الأمريكي في المنطقة من خطر الإرهاب الذي يعشِّش في المنطقة، بحَسَب تقديراته.

ب ـ الرأي الثاني: يقول أصحاب هذا الرأي بأن صدام حسين كانت له الرغبة في غزو الكويت، وقد تصوَّر في أثناء محادثته مع السفير الأمريكي أن أمريكا قد أعطته الضوء الأخضر، لذلك قام بغزو الكويت، واستعادة أمريكا للكويت طرح لدى بوش فكرة «النظام العالمي الجديد».

وبالجملة قد لا تكون التخطيطات الأوّلية لغزو الكويت أمريكية، لكن هذا لا يمكن أن ينفي عدم اضطلاع جورج بوش بالعمليات العراقية تجاه الكويت، وما صاحب ذلك من تصريحات سيئة للسفير الأمريكي في العراق. غزو العراق كان دافعه أطماع صدام حسين، ومكر أمريكا، فكانت نهايته خسارة العراق والكويت، والربح الكبير لأمريكا. فأمريكا التي كانت تعاني أزمةً خانقة؛ حيث بلغ حجم ديونها ما يقدر بـ 3000 مليار دولار، و حجم العجز في الميزانية 400 مليار دولار، وحجم الديون من المبادلات الخارجية أكثر من 500 مليار دولار، وحيث كانت في شدّةٍ من جرّاء كثرة ما عليها من قروض؛ نتيجة خوضها غمار حرب النجوم، كانت خطوة صدام المتهوِّرة في المنطقة باب فرج كبير لأمريكا، حيث استطاعت تسوية حسابها من كل تلك الديون والعجز في الميزانية، كذلك استطاع تأليب صدام على يساريّي الأكراد وشيعة جنوب العراق، والذين كانوا يحظون بتأييدٍ من إيران، ويهدّدون التواجد الأمريكي في المنطقة. في خضمّ هذه الأحداث هجمت أمريكا على العراق، وأعلنت الحرب عليها. صدام الذي تبين له أنه تلقّى طعنةً من الخلف فضَّل خيار الحرب والمواجهة، ومن جهةٍ أخرى أمريكا، التي لم تكن قد عثرت على بديل مناسب لها عن صدّام حسين، الذي كان في واقع الأمر شرطيّها في المنطقة، كانت تهدف إلى إنهاء الحرب، مع الإبقاء على نظامٍ عراقيّ ضعيف فاقد لكلّ معايير المبادرة. صدّام، الذي كان يعاني من ديون تقدَّر بـ 80 مليار دولار، وعدم رضا الشعب على منجزاته في الحرب العراقية الإيرانية، بالإضافة إلى فشله في إعادة الإعمار واستقطاب مستثمرين للبلد، قام بغزو الكويت؛ لأنه كان في موقفٍ حَرِج يستدعي افتعال أزمة في المنطقة، وهو ما يسمى في السياسة بـ (الهروب نحو الهامش).

يقول برجنسكي: غير معلوم أن الرئيس الأمريكي في تلك الفترة كان لديه تصوّرٌ واضح عمّا يُسمّى بـ «النظام العالمي الجديد». وعلى كل حال فإن المعنى العام لهذه النظرية يعني أن حكم العالم يجب أن يكون لقوّةٍ واحدة في هذا العالم([11]).

بوش كان يرى أن أمريكا؛ لقوتها وقدرتها، يجب أن تحكم العالم([12]). وقد قرَّر مجموعةً من الأهداف لهذا النظام في الكونغرس الأمريكي، تركزت في أربع نقاط:

1ـ حلّ النزاعات بطرقٍ سلمية؛

2ـ الاتحاد في وجه العنف والإرهاب؛

3ـ حذر ومراقبة السلاح والسلاح النووي.

4ـ تعزيز الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والعمل على رفع المستوى الاقتصادي.

بينما نجد تشومسكي لا يرى في «النظام العالمي الجديد» سوى أسلوبٍ جديد من أساليب استعمال القوة([13]). وفي الحقيقة إن هدف أمريكا في منطقة الشرق الأوسط الحدّ من القوة المنافسة في سباق التسلُّح، تغيير معادلات القوى لصالح حفظ أمن واستقرار وليدها اللاشرعي الكيان الصهيوني، تثبيت تواجدها المسلَّح في المنطقة، ومواجهة الدول أو التحركات المناهضة في المنطقة العربية.

ومن خلال كل ذلك يتبين أن تفسير «النظام العالمي الجديد» يجب أن يتمّ بملاحظة حوار الشرق والغرب في ظلّ البيريسترويكا والغلاسنوست، فالإصلاحات التي أتى بها غورباتشوف في أواخر الثمانينيات فتحت المجال لمزيدٍ من الهيمنة الأمريكية، ودعمت من مقولتها بالنظام العالمي الجديد.

ويرى آخرون أن النظام العالمي الجديد لا يعني سوى حربٍ لا هوادة فيها يعلنها الشمال على الجنوب. فدول العالم الثالث، والتي تمثل 43% من مجموع سكان العالم، وتشغل 32% من مساحة اليابسة، كان وضعُها في فترة حكم الثنائية القطبية أفضل من وضعها الحالي؛ إذ كانت تستفيد من مواردها وإمكاناتها الطبيعية. بينما تكمن ملامح صورتها اليوم في ازدياد نسبة الوفيّات بين الأطفال، ضعف المستوى الغذائي والصحّي والتربوي والتعليمي، التفاوت الاقتصادي، التفاوت الاجتماعي، الضعف الكبير في الجانب العلمي والتكنولوجي، والتوتُّر على عدّة أصعدة، في هذه المناطق. وهذا ليس سوى جملةٍ من المشاكل المتعدّدة التي تعانيها دول الجنوب([14]).

جاذبية العولمة ليس في أنها تعني الرغبة في العيش المشترك والأخوي بين جميع أمم الكرة الأرضية، وإنما هو الرغبة الشديدة في توسيع الشركات العابرة للقارات، الاستعمار والاستثمار كلما كان كثيراً وكبيراً كلما كبرت القدرة المالية والتجارية لدول العالم المهيمن، وازدادت الفاصلة بين الشمال والجنوب.

يرى ماتيز أنه لو توقّف عقرب الساعة لصالح الشمال لاحتاج الجنوب إلى 1800 إلى 2200 سنة لكي يلحق بالشمال في ما وصل إليه من تطوّر وتقدّم في جميع الميادين العلمية والصناعية، وحتّى على مستوى المنجزات الحقوقية والسياسية. فالجنوب إذا لم يعمل على بدء مرحلة جديدة من العمل نحو التطوّر إلى بداية الألفيّة الثانية فمن المحتمل أن لا يتعافى وضعه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بعد 2000 سنة. ففي مثل هذه الظروف لن يكون النظام الدولي الجديد في صالح دول الجنوب، بل إن وضعية هذه الدول السيّئة ستتفاقم. فمن جهةٍ النظام الدولي الجديد سيزيد من حدّة التنافس على الاستثمار في دول الجنوب، ومن جهةٍ ثانية سترتفع وتيرة اصطفاف دول الشمال كمجموعةٍ تقف في وجه دول الجنوب، وسيتعرّض الجنوب إلى استعمار يفوق حدّةً ما كان عليه في فترة حكم الثنائية القطبية، وستتّخذ الإمبريالية شكلاً واسعاً، بحيث يصعب معالجتها بعد ذلك.

ونعرض هنا لمواقف بعض الدول من «النظام العالمي الجديد»، الذي تدّعيه الولايات المتحدة الأمريكية:

تسعى أوروبا بعنوان (اتّحاد) بحنكةٍ للتخلّص من الارتباط بأمريكا. الرئيس السابق ميتران شجّع وجود قوة أوروبية مستقلة، وصرح قائلاً: إن أمريكا إذا كانت فعلاً تعدّ نفسها دولة صديقة فعليها أن لا تفرض نظامها على الآخرين([15]). وبقيت بريطانيا من بين كلّ دول أوروبا تابعةً لأمريكا في المواضيع العالمية.

الصين واليابان انتقدتا بشدّةٍ الزعامة المطلقة لأمريكا تحت ما يسمّى بالنظام العالمي الجديد. فقد انفصلت اليابان عن أمريكا في نهاية الحرب الباردة، وأعلن كيسنجر بشكلٍ صريح: إن نهاية الحرب الباردة قلّصت من دعم الدول الصديقة لأمريكا، وانتهت الحقبة التي كانت أمريكا تُعَدّ فيها المصدر الرئيس للاستثمار الأجنبي. كما أن رئيس المركز الصيني للدراسات الدولية قال في وصفه لهذا النظام: «النظام العالمي الأمريكي الجديد سيدخل العالم في أزمةٍ عالمية»([16]).

ولم تصطفّ دول العالم الثالث في موقفها من نظرية «النظام العالمي الجديد» صفّاً واحداً، بل اختلفت مواقفهم. فالدول التابعة، كالكويت، أعلنت تأييدها التامّ لهذه الرغبة الأمريكية في قيادة العالم، وخصوصاً بعد أحداث الخليج الفارسي، بينما وقفت الدول الثورية، مثل: الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية العربية السورية و…، موقفاً واضحاً في الرفض، وتمّ التصريح بهذا في أكثر من محفلٍ ومناسبة. فالأمير الكويتي لم يقِفْ في توصيفه «النظام العالمي الأمريكي الجديد» بأنه نظرية سياسية، بل تعدّى ذلك فأصبح يراه وعداً إلهياً جعله الله لسعادة البشرية ورفاهها! المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران لم يرَ في هذه النظرية سوى الغَدْر والمؤامرة الشديدة، واستنساخاً للتجربة الكلونيالية. بينما انتقل الرئيس الإيراني السابق، وفي المؤتمر الإسلامي، إلى بيان شروط نظام جديد قادر على أن يكون فعلاً في خدمة العالم والإنسانية في التالي:

1ـ محاربة الفقر؛

2ـ المنافسة السليمة؛

3ـ وضع شروط لازمة للتفاوض بين الشمال والجنوب؛

4ـ وقف استغلال واستنزاف رؤوس الأموال والمواد الأوّلية المادية والإنسانية للدول النامية من طرف الدول المتقدّمة؛

5ـ التساوي بين ميزان الواردات والصادرات؛

6ـ تهيئة الظروف المناسبة لانتقال التكنولوجيا وتصديرها.

وحدَّد الدكتور ولايتي في الأمم المتحدة المكوّنات الضرورية التي يجب أن تكون ضمن أولويات النظام الجديد، وعَدَّ النقاط التالية:

1ـ أن يمارس دوراً أساسياً في السياسة ضمن مقرّرات الأمم المتحدة؛

2ـ احترام حقوق الإنسان؛

3ـ العدالة الاقتصادية؛

4ـ احترام البيئة والمحيط الطبيعي؛

5ـ نزع السلاح؛

6ـ حلّ مشكلات المنطقة تحت رعاية الأمم المتحدة([17]).

وقال روبين إشتاين، الأستاذ بجامعة بنسلفانيا: «نحن في حاجةٍ إلى فترة استقرار، ولا غنى عن هذا النظام الأمريكي، فهي لا تملك لا القوّة ولا الثروة ولا الرغبة في فرض نظامها المطلوب([18]).

وكما هو ظاهرٌ من خلال عدّة آراء ومواقف فإن النظام العالمي الجديد المقترح من طرف الولايات المتحدة الأمريكية لم يستطِعْ أن يحصل على تأييد جميع المكونات العالمية، بل لا زال يتعرَّض للنقد من جهات متعددة، وحيثيات مختلفة([19]).

والعديد من النظريات التالية تُعَدّ في حقيقة موضوعها ناقدةً لنظرية «النظام العالمي الجديد».

ديناميكية القوة، وسيرها في النظام الدولي

1ـ نظرية صراع الحضارات

بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي، وانتهاء ما عُرف بالحرب الباردة، طرح العديد من كبار المنظِّرين العالميين نظرياتهم حول كيفية جريان وتفاعل القوّة ضمن العلاقات الدولية.

وإحدى هذه النظريات، والتي كانت مورد الجَدَل في المحافل العلمية، ما عُرف بـ «نظرية صراع الحضارات»، لصموئيل هنتنغتون، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد الأمريكية.

يعتقد هنتينغتون أنه بنهاية الحرب الباردة ستنتهي مرحلة تنافس الأيديولوجيات والنظريات، وستبدأ مرحلة جديدة تحت اسم «مرحلة صراع الحضارات». ويرى أن العالم يعيش على وقع سبع حضارات كبيرة: حضارة غربية كبيرة، الحضارة الكونفوشيوسية، حضارة اليابان، الحضارة الإسلامية، الحضارة الهندية، الحضارة السلافية ـ الأرتدكسية، الحضارة الأمريكية اللاتينية، (ويمكن إضافة الحضارة الأفريقية).

لكنْ وفق هذه النظرية فإن زمام مقاليد الزعامة في العالم سيكون بيد القوتين الكبريين: الأمريكية؛ والأوروبية. ومن المحتمل أن مركز القوة سينتقل من أمريكا إلى فيدرالية أوروبا. وبعد ذلك ستكون كل الطاقات المادية ورؤوس الأموال بيد كلٍّ من: اليابان؛ والصين؛ وروسيا. فإذا لم تستطع أمريكا أن تكون على رأس هرم القوة خلال القرن الآتي فإن أوروبا ستكون القوة الحاكمة وسيدة القرن بلا منازعٍ([20]).

وفق نظرية هنتنغتون فإن علاقات الغرب بالإسلام والصين متوتّرة على نحو ثابت، عدائية جدّاً في أغلب الأحوال، ومن المرجَّح أن تنشب أخطر المواجهات؛ حيث ستصطدم كلٌّ من: الحضارة الإسلامية والكنفوشيوسية (الصينية وكوريا الشمالية) بالحضارة الغربية (المسيحية)، وإن الأخيرة ستخرج منتصرةً. ويشير إلى أنه بعد أن كان العامل الاقتصادي سبب التفوُّق الهائل والمدهش للمدرسة الماركسية وليبرالية الاتحاد الأوروبي، فإن الظرف قد تغيَّر، وسوف تصبح الإبداعات الثقافية الفكرية والحضارية ـ سواء على مستوى الفرد أو الدولة أو العالم ـ صاحبة الاعتبار، ومورد انتصار قوّة على أخرى. حَسْب هنتينغتون فإن تصادم الحضارات ستكون السياسة الغالبة في العصر الجديد، وآخر مرحلة لهذا الصراع؛ وذلك للأسباب التالية:

1ـ النزاع الحتميّ بين الحضارات؛

2ـ تزايد الوعي الحضاري؛

3ـ التجديد الفكري والرؤى الروحية لسدّ فراغ الهويات؛

4ـ السلوك المنافق للغرب، وتزايد غطرسته، سببٌ في رشد الوعي الحضاري (لدى الجميع)؛

5ـ ثبات خصوصيات النزاع الفكري، وعدم قبولها للتغيُّر أو التبدُّل؛

6ـ تزايد مستوى النزعة الجهوية على الصعيد الاقتصادي، ودور المشتركات الثقافية والاثنية في تنميته؛

7ـ خطوط التصدّع بين الحضارات، حيث كان الغالب أثناء فترة الحرب الباردة رسم حدود سياسية وأيديولوجية، وتغييب الحدود الاثنية. ولكنْ بعد زوال هذه الحرب ظهرت خطوط التصدّع بين الحضارات. هذه الحدود تشكِّل شرارة الصراعات الاثنية والمواجهات الدموية. فالعداوة بين الإسلام والغرب علاقة عداء وصراع عبر التاريخ، وهي في تصاعد مستمرّ، ويُتوقَّع إشعال فتيلها بين الفينة والأخرى([21]).

وقد وقع هنتينغتون تحت تأثير المؤرِّخ والمستشرق الأمريكي برنارد لويس، في نظريته في خطوط التصدّع، فالمستشرق الأمريكي لويس له عدّة كتب وتحقيقات حول الإسلام، ومن مقولته: إننا نرى أبعد من مستوى القضايا والسياسات التي تواجه الدول، ولا يعدو أن يكون ذلك سوى صراع الحضارات([22]).

يرى هنري كيسنجر أنه بعد الحرب الباردة ستتصدَّر العالم ستّ قوى عالمية، وتندرج داخل خمس حضارات. ورغم أنه لا يرى انحصار كل قضايا العالم في خطوط الصراع، كما ذهب إلى ذلك هنتينغتون، إلاّ أنه يؤيده في تحليله لأوضاع العالم بعد الحرب الباردة، ويوافقه الرأي([23]).

وفق نظرية كيسنجر فإن ما وراء الصراع في العالم الجديد ليس اختلاف الأيديولوجيات أو النزاع الاقتصادي أساساً، بل هي الفجوات والثغرات العميقة بين الأفراد، والتي ستتخذ أبعاداً ثقافية واثنية ومذهبية (وحضارية). وبالنسبة للآخرين فإن بيان خطوط التصدّع بين الحضارات يعني بيان خطوط الحرب والعنف الدموي على صعيد المستقبل، حيث يدخل الطرفين المتصارعين في المذابح والإرهاب والاغتصاب والتعذيب. لذا فمن المناسب تقسيم الدول وفق ملاك الثقافة والحضارة، وليس وفق ملاك السياسة والاقتصاد.

يقول ويل ديورانت: «ظهور التمدُّن والحضارة يكون ممكناً فقط عند انتهاء الهرج والمرج والفوضى وانعدام الأمن».

التمدُّن من «المدن والمدينة»، وتمدَّن الشخص عاش عيشة أهل المدينة، وتحلّى بأخلاقهم وآدابهم، وقد تعني التعاون والدعم بين الأفراد أو المجتمعات في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالتمدُّن هو نتيجة التكامل الفكري والمعنوي (الثقافي) والتكامل السلوكي والعملي.

يرى بعضهم أن الثقافة هي انعكاسٌ للصورة المعنوية وغير المادية للمجتمعات، بينما التمدُّن أو الحضارة هي انعكاس لوجه تلك المجتمعات المادّي والعيني.

يعبِّر البروفسور علي مزروعي عن ذلك بشكلٍ آخر، فيقول: «الثقافة هي نظام متكامل ومترابط من القِيَم يمنح للمجتمع شكله على مستوى المفاهيم والمقرّرات والقوانين، وشكله على مستوى السلوك والعمل. التمدُّن ثقافةٌ تستمرّ عبر الزمن في الاتساع والازدهار، حتّى تصل إلى حياةٍ أخلاقية راقية»([24]).

وفي تعريفٍ آخر: الثقافة والتمدّن تقريباً بمعنى واحد. والتمدّن هو تلقّي ثقافة أكثر شمولية، مع كونها الملاك الأساسي في تنظيم مختلف مكونات الحياة الاجتماعية.

ويقبل صموئيل هنتينغتون بهذا التعريف، ويقول: «الثقافة والتمدُّن كلاهما يتضمَّن قِيَماً وقوانين ومناهج فكرية وإصلاحية، والتي ستكون مورد احترام واهتمام الأجيال القادمة»([25]).

أما المفكِّر الإيراني محمد علي إسلامي نُدوشن فيقول بخصوص العلاقة بين الثقافة والتمدّن: الثقافة والتمدُّن (الحضارة) بينهما ترابطٌ، لكنْ ليس بينهما تلازمٌ، فقد توجد دول يكون مستوى الثقافة فيها ضعيفاً جدّاً. وكما يوجد تمدّن بدون ثقافة، كذلك توجد ثقافة بدون تمدُّن»([26]).

وبعيداً عن التعاريف المختلفة للثقافة نستطيع القول: إن الثقافة هي عامل الرغبة أو التفاعل الداخلي والذاتي لدى الإنسان، والذي يستند على أربع رغبات أصلية عند الإنسان، وهي: البحث عن الحقيقة؛ الخير؛ الجمال؛ والكمال بالاستعانة بقوى الحسّ والخيال والوهم والعقل، وباستعمال وسائل مادّية في عدّة صور، نظير: العلم والفلسفة والأخلاق والأدب والفنّ والإبداع والدين والإيمان. وهذه الرغبة الداخلية والذاتية في الإنسان تكون دائماً في تفاعل وحركة نحو التزايد. لكنّ التمدّن يأخذ مجالاً أوسع من الثقافة. مع ملاحظة أن «نظرية صراع الحضارات» قائمةٌ على أساس المادية التاريخية (Historical Empericism)، والتي اعتمدت على تجميع ردود الفعل من التفاعلات بين الغرب والإسلام في فترة الألفية الثانية. فهنتينغتون لا يدّعي أنه بنى نظريته في صراع الحضارات على أسس المنهج العلمي، بل هو يصرِّح أنه أقام نظريته على استنتاجات ميدانية، من خلال ملاحظة الحضارات السابقة وما آلت إليه في الوقت الحاضر. ويرى أن الحضارة الغربية في مواجهتها لمَنْ يعاديها عليها:

1ـ أن تقوم بمهاجمة كلّ اتحاد أو تحالف ضدّها من الدول المعادية؛

2ـ أن تقوم بتفكيك الحضارات المنعزلة والخاسرة في قعر بيتها؛

3ـ أن تنقل أزماتها الداخلية إلى الحضارات الأخرى المعادية([27]).

ويفسِّر هنتينغتون نظريته بقوله: والمحتمل عندي أن جوهر الصراع والتصادم في العالم الجديد أساساً لن يكون هو الأيديولوجيات، ولا حتى الاقتصاد، وإنما هو النزاع والاختلاف العميق بين البشر. مصدر هذا الاختلاف هو ماهية وطبيعة الثقافة التي يحملها كلّ مجتمعٍ وكلّ حضارة. ويلاحظ في تعريف الحضارة العديد من العناصر العينية والمشتركات الموضوعية، نحو: اللغة، التاريخ، الدين، التقاليد، والمزاج العامّ. وستحرز الهوية الحضارية مكانةً خاصة في الأيام المقبلة، بل ستكون عنصر التمايز بلا منازع.

لماذا ستتصارع الحضارات مع بعضها البعض؟ أوّلاً: سمة الاختلاف بين الحضارات ليست فقط واقعية، بل هي جوهرية؛ ثانياً: إن العالم أصبح صغيراً بفعل التطور العلمي والتكنولوجي، ما يتيح فرصة التشارك والتلاحم داخل الحضارة؛ ثالثاً: التطور الاقتصادي والتحوّلات الاجتماعية في كل العالم تدفع بالناس للخروج من التقوقع في القومية والعرقية وما شاكلها؛ رابعاً: الدور المزدوج للغرب من شأنه تقوية الوعي الحضاري؛ خامساً: لايمكن إخفاء الخصوصيات والفوارق الثقافية وسترها بشكلٍ كبير؛ سادساً: الحسّ الجهوي الاقتصادي في تصاعد، وهو عامل تحريك الوعي بالتمايز الحضاري، وتنميته داخل الأفراد والمجتمعات([28]).

ولكي يثبت هنتينغتون نظريته في الصراع بين الحضارتين الغربية والإسلامية سلَّط الضوء على مسألة تصاعد النمو الديموغرافي في الدول الإسلامية، وتصاعد مستوى الهجرة نحو الغرب، التطور الاقتصادي لدى الدول المصدِّرة للنفط، التصادم التاريخي والقديم بين المسيحية والإسلام، من خلال التأكيد على نقطة الفتوحات الإسلامية من الشرق نحو الغرب، ومن الجنوب نحو الشمال.

ومن جهةٍ أخرى رأى أن هناك صراعاً لا جدال فيه بين الغرب والحضارات الكونفوشيوسية، فقد أكّد دنغ شياوبنغ سنة 1991، وهو سياسي ومنظِّر وقائد صيني، على أن هناك حرباً تجري بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.

ويضيف هنتينغتون: اليوم الغرب في علاقته بالحضارات الأخرى يتبوّأ الدرجة الأولى بدون استثناء على مستوى سلَّم القوى، فلم تَعُدْ هناك قوّة عظمى منافسة له في الساحة. باستثناء اليابان لم يَعُدْ أمام الغرب تحدّيات اقتصادية أخرى. فقرارات مجلس الأمن وصندوق النقد الدولي في خدمة مصالح الغرب، وتدرّ عليه أرباحاً هائلة، حيث يتم تقديمها للعالم على أنها من متطلّبات المجتمعات الدولية. ومثل هذه الإمكانات في الحقيقة تعمل على تنمية قدرتها، بل هي تجبر الحضارات الأخرى على التعايش معها وفق إملاءاتها ومقرّراتها([29]).

أخيراً، وبعد طول جفاء وامتعاض من الإسلام، يعترف قائلاً: صرَّح جان كالفين، الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، قائلاً: صحيح أن العالم الإسلامي، وبعد سقوط الدولة العثمانية، فقد نوعياً الدولة المركزية، الدول المنشقة دخلت في عداوةٍ شرسة مع بعضها البعض، لكنّ القرآن الكريم، الذي هو دستور لجميع المسلمين، سيجمع مرّةً أخرى شَمْل هذه الدول، ويجعل خلافاتها في الهامش؛ ليحوِّل نظره باتجاهنا، ويصبح خلافه معنا ضمن الأولويات لديه. يقول هنتينغتون: إن التمدُّن الإسلامي لا زال، رغم العديد من الزوابع، على قيد الحياة. وهذا مؤشِّرٌ على أنه قد يرجع مرّةً أخرى ليتزعَّم العالم. نعم، في كتاب «صراع الحضارات» ذكرْتُ أن الحضارة الإسلامية قد انتهَتْ، لكنّي الآن، ومن خلال عدّة ملاحظات ومشاهدات، أدركت أن نظريتي السابقة بخصوص الإسلام ونهاية حضارته كانت خاطئةً، وأنا الآن على يقينٍ بأن الحضارة الإسلامية باقيةٌ ودائمة([30]).

وقد عدّل هنتينغتون جانباً من نظريته، في مقالٍ له تحت عنوان: «الإسلام والغرب، من الصراع إلى الحوار»، شارك به في ندوةٍ حول «الإسلام السياسي والغرب»، انعقدت في قبرص، بتاريخ: 30 ـ 31 أكتوبر 1997([31]).

تحليلٌ ونقد لنظرية صراع الحضارات

لقد كان طرح نظرية صراع الحضارات عاملَ استفزازٍ ومصدرَ إزعاجٍ على المستوى العالمي، ما تسبَّب في عدّة ردود فعل، تكشَّفت حدّتها من خلال مجموعة من الانتقادات التي وُجِّهت لها.

وسنحاول التعرض لأهم الانتقادات الواردة عليها:

1ـ بدايةً لا بُدَّ من ملاحظة المنهج الذي قامت عليه هذه النظرية. وكما قلنا سابقاً فإن نظرية صراع الحضارات قامت على أساس المنهج التجربي الاستقرائي (التجربة التاريخية). وكما هو معروفٌ فإن هذا المنهج أساسه قراءة التاريخ، ومن ثَمّ تجميع كلّ ما يختصّ بالموضوع. فهذا المنهج ليس له أساسٌ علمي يمكن الانطلاق منه في دراسة هذه النظرية والبحث فيها، وهو ما يدفع بنا للقول: إن هذه النظرية ليست سوى مجموعة من التوقُّعات هي أقرب إلى التنبُّؤات.

فالشواهد والقرائن التي استند إليها هنتينغتون في إثبات نظريته ليس في مقدورها إثبات كليات هذه النظرية، وبالتالي ليست في مستوى الدليل العلمي التام.

وترجع الأصول التاريخية لما أورده هنتينغتون من شواهد إلى آراء كلٍّ من: كوندرسي الفرنسي في كتابه (نظرة تاريخية عن تطوّر الفكر الإنساني)، وفولتير في كتابه (آداب وعادات الأمم)، والذي تمّ طبعه سنة 1790م. وبالطبع فإن وراء ظهور فكرة صراع الحضارات الظرف التاريخي الذي عاش فيه هؤلاء المنظِّرون، والتي تميَّزت بطغيان الروح العدائية بين القطبين. فولتير ذهب إلى أن مركز تكامل العالم هو أوروبا (الأنجلوسكسونية)، وقال بصراحة: إن التمدُّن الذي يتّصل بالتمدُّن الإسلامي (العثماني) سيكون أكثر تخلُّفاً وأكثر بُعْداً عن الركب الحضاري المتقدِّم، وكذلك ستصطفّ روسيا الأرثوذوكسية ضمن دول الطابور الخامس (المتخلفة)([32]).

2ـ هذه النظرية تجعل التمدُّن العالمي على طرفي الصراع والمواجهة. لهذا نجد هنتينغتون يؤكِّد على الانتماء الوطني والدولة الوطنية، وليس على النظام الاقتصادي. ريشارد فولك ومفكِّرون آخرون رأَوْا أن «التمدّن» لا يمكن أن يكون بديلاً عن (الدولة ـ الوطن)([33]).

وحيث إن هذه النظرية قامت على تحليل مادة «التمدُّن» فالأمر يستدعي طرح الأدلة المثبتة له. وكلّ ما هو مطروح حتّى الآن في العلاقات الدولية هو أن قيام الدولة الوطنية يقوم على أساس المصالح الوطنية، والخروج من هذا الوضع إلى وضع أساسه «التمدُّن» يستلزم ترجيح هذه النظرية وتفوّقها نظرياً وعملياً على مبنى الوطنية.

من جهةٍ أخرى فالتأكيد على العامل الثقافي في مقابل العوامل الاقتصادية والسياسية والعسكرية أمرٌ يحتاج إلى الكثير من التأمُّل. فإذا كان العامل العسكري في الماضي هو عامل فرز القوى المهيمنة فاليوم يبدو أن الكفّة قد مالت صوب القضايا السياسية، ومن بعدها القضايا الاقتصادية، والمعلومات عن مدى ما تتيحه من مصالح. ثم إن القول بالتأثير الكبير للعامل الاقتصادي في ترجيح كفّة القوى ضمن فترةٍ خاصّة لا يستلزم القبول بنظريات علم الاجتماع الماركسي والبنى التحتية الاقتصادية.

يقول برايغر، مدير قسم السياسة الدولية في مدرسة الصحافة في بيونس أيرس، وأستاذ الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط في جامعة بلاتا في الأرجنتين: على خلاف ما ذهب إليه هنتينغتون، من أن الحرب التجارية قد عفا عنها الزمن، وأن وجودها يمنح الغرب القدرة على أن يفرض مصالحه على الآخرين، ويجبرهم على الامتثال لها، يذهب كبار المحلِّلين إلى أن حرب القرن الواحد والعشرين يمكن أن تنشأ بسبب ما ستعيشه أمريكا من مشكلات في طريق تحقيق قوّتها الاقتصادية. وقد تعدّدت التحليلات التي أجراها ذوو التخصُّص حول أزمة الولايات المتحدة الأمريكية، ليكتشفوا أنها تتلخّص في كيفية الحفاظ على الزعامة الاقتصادية، والخروج من المشكلات الاجتماعية العويصة التي تواجهها. إن سحر الغرب هو في تفوُّقه الاقتصادي، وما ينتج عنه من ازدهارٍ مادّي ورفاهية.

وخلافاً لما حاول إثباته للغرب من تفوُّق ثقافي، وأنه هو عامل التفوق الحضاري، لا يجد هنتينغتون بُدّاً من الإقرار بأن المصالح الاقتصادية تجعل الغرب يفرض سياساته الاقتصادية على الدول الأخرى([34]).

رغم أن التأكيد على مبدأ ومبنى التمدّن والثقافة يتناسب عندنا والمعيار الأيديولوجي، إلاّ أن استعمال معايير أخرى واردٌ في هذه التحليلات والقراءات. فبصرف النظر عن الواقع، إلاّ أن معيار التمدن والثقافة على محدودية مساحته في التعامل بين الحضارات في الماضي وفي الوقت الراهن، إلاّ أن انتشار المعلومات ودخول العالم ضمن واقع القرية الصغيرة بفضل التكنولوجيا المتطوّرة في مجال المعلومات حَدَّ من إمكانية سيطرة الدولة، ومكَّن من سيادة قاعدة التمدّن والثقافة ضمن العلاقات بين مختلف الحضارات على مدى المستقبل القريب. يقول الدكتور محمد علي إسلامي نُدوشن: كون العالم سيعيش مواجهةً بين الحضارات أمرٌ غير قابل للإنكار، لكنْ ليس التمدن والحضارة هو منشأ هذا الصراع. حاول هنتينغتون أن يؤدلج جميع المشكلات ضمن قالب التمدّن والحضارة ولم ينظر إلى الأسباب الواقعية. فالتمدّن والحضارة مجرد أداة ووسيلة، وليست هي المدبِّر والمخطِّط. وبلغة السياسة: إن التمدن والحضارة يطرح كواجهةٍ للصراع، بينما هناك محرّكٌ آخر يتلخَّص في المصالح الاقتصادية والتوسعية للمشروع الغربي الليبرالي([35]).

يرى كيسنجر أن قوة الدول الخمس الكبرى (أمريكا، أوروبا، اليابان، روسيا، والهند) في سنة 2020 ستكون هي الاقتصاد بلا منازعٍ([36]).

3ـ الحديث عن الاتحاد الكونفيشيوسي ـ الإسلامي في نظرية صراع الحضارات ناتجٌ عن عدم الفهم الصحيح لخصوصيات كلتا الحضارتين. كما أن تصوُّر العالم الإسلامي على عقيدةٍ واحدة تصوّر خاطئ. فالمثقَّفون الجدد يسعَوْن وفق أفكارهم إلى إيجاد مركبٍ إسلامي يمتزج فيه القديم بالمعاصر، مع أخذ النقاط الإيجابية لكلَيْهما.

ويقول إسلامي ندوشن في هذا الصدد: لم يكن هنتينغتون على معرفة بالشرق، وحكم عليه وفق معايير غربية، هو لم يكن يعلم أنه في الشرق قد تقول خلاف ما تعتقد. كذلك الأمر بالنسبة إلى الصين، وعليه فالحديث عن قوّةٍ اقتصادية في الدول الإسلامية أمرٌ سابق لأوانه، بل واقع الحال في الدول العربية لا يعيش تجانساً وتوافقاً تامّاً في هذا الأمر، بل هناك اختلافٌ كبير من دولةٍ لأخرى([37]).

يتعامل هنتينغتون في توصيفه للحضارات بازدواجيةٍ في المعايير. فحين حديثه عن الحضارة غير الغربية، وبالذات عند تناوله للحضارة الإسلامية، يسعى قدر الإمكان لاستحضار البُعْد الأيديولوجي والمذهبي على أنهما بُعْدٌ موضوعيّ في هذه الحضارة، لكنّه يستبعد هذا المعيار كلّياً، وبطريقةٍ فنّية عن مشهد الحضارة الغربية، ويفرق بين الغرب وبين الديانة السائدة في الغرب([38]).

يقول ألكساندر بلشوك: لا أعتقد أن الحديث عن الغربي والروسي تحت عنوان الحضارة المسيحية أمرٌ صحيح؛ لأن الدين ليس العامل الوحيد في صنع الحضارة، من دون أن ننسى رواج ثقافة الإلحاد في كلٍّ من: الغرب وروسيا([39]).

4ـ هذه النظرية جعلت الغرب كلّه وحدة متكاثفة، وعلى نفس النَّسَق، بينما هناك العديد من القرائن التي تدلّ على وجود تباعد واختلاف في كتلة الغرب. وبعيداً عن الإبهام الذي أحاط بنظرية هنتينغتون فخروج الاتحاد الأوروبي عن السياسات الأمريكية يجعل احتمال تطوُّر التباعد والاختلاف بين مكوّنات الكتلة الغربية إلى انقسامات سياسية وارداً بلا منازعٍ.

5ـ كذلك فهنتينغتون لم يُشِرْ إلى مكانة الثقافة الفارسية في الحضارة الإسلامية، في حين نجد أن كل الباحثين والمحقّقين قد ذكروا فضل الثقافة الإيرانية على الحضارة الإسلامية، ودورها في توسيع هذه الحضارة، بغضّ النظر عن كون اللغة الفارسية اليوم تأتي في المرتبة الثانية ضمن اللغات الحضارية([40]).

6ـ تواجد روح التعاون بين الحضارات، والتي غابت بشكلٍ كبير في نظرية هنتينغتون. وقد أورد هنتينغتون ستّة أدلة على نظريته في تصادم وصراع الحضارات. لكنْ ليس فقط أن هذه الأدلة لم تستطِعْ أن تثبت ادّعاءه، بل زادته تعقيداً وإبهاماً. فعلى سبيل المثال: قد يطرح سؤال أوّلي مفاده: في ظلّ تحول العالم إلى قريةٍ واحدة كيف يمكننا التحدُّث عن صراع الحضارات؟ والمتبادر هو أن تطور شبكة المعلومات وانتشارها السريع، متخطّية كل الحدود، بحيث أصبح العالم قريةً صغيرة، يقلِّل من إمكان صراع الحضارات وتصادمها. والملفت أن هنتينغتون قد تحدَّث في نظريته عن تقارب وتعاون المكوّنات الداخلية للحضارة، وتحدَّث في المقابل عن صدام الحضارات، بينما الأجدر أن تكون الأسباب الداعية لتقارب الحضارة وتماسكها من الداخل هي نفسها الأسباب التي تؤدّي إلى تقارب الحضارات مع بعضها البعض، ودخولها في حالة من التناسق والتعاون.

وما طرحه الرئيس الإيراني السابق السيد محمد خاتمي، ضمن نظريته في «حوار الحضارات»، يُعَدّ مبدئيّاً نقداً لنظرية هنتينغتون في صراع الحضارات.

7ـ الظاهر أن أصل نظرية صدام الحضارات هو مشروعٌ سياسي، وإلاّ كيف نفسِّر تجاهل هنتينغتون وإغفاله للعديد من التناقضات التي صاحبت نظريته؟! بل كيف نفسِّر تغيير رأيه حول استمرار الحضارة الإسلامية([41])؟! فهل تغيير رأيه في ما يخصّ الإسلام كان وراءه أدلةٌ ملموسة وشواهد واقعية؟!

يعتقد بعضُ المحقِّقين أن أمريكا كانت وراء تسريع سقوط الاتحاد السوفياتي، وقد كانت مخطئة في ذلك، فنقاشات المثقِّفين الجُدُد في أمريكا كشفت عن أن أمريكا تحتاج لحفظ منظومتها وسياستها إلى عدوٍّ موهوم؛ لتجذب إليها اليابان وأوروبا، وتعلق عليه تدخُّلها في دول العالم الثالث، وتفتح من خلاله سوق الأسلحة. وهذا يشكِّل أمراً ضرورياً لها.

بسقوط الاتحاد السوفياتي فقدت أمريكا امتيازاتٍ مهمة، ووضعت في حرج صنع فزّاعة أخرى. إن معارضة الإسلام والكنفوشيوسية في الجملة للحضارة الغربية واردٌ من دون أدنى شكٍّ. لكنّ حديث هذه النظرية عن اتحاد بين الإسلام والكنفوشيوسية ضدّ الغرب لا يخلو من كونه قراءةً أيديولوجية براغماتية. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي بدأ الغرب يضخِّم من عدواة القوّتين له، فقد باتوا يعملون على نشر إيران فوبيا، ويعطونها صبغة عدائية للغرب وكلّ ما هو أمريكي وحلفائهما، حتّى يصطادوا في الماء العكر، وهو المنطق الذي سيجعل الدول العربية، وبالأخصّ الخليجية، تقرع طبول الحرب، فتجعل قسطاً كبيراً من ميزانيتها في شراء الأسلحة، وبهذا تفتح سوق الأسلحة أمام الغرب وأمريكا على مصراعَيْه.

ولكي يستدلّ هنتينغتون على تعاظم مقابلة الإسلام للغرب تحدَّث عن أن عدد الدول الإسلامية سنة 1920 كان فقط أربعة دول، ليصل عددها إلى خمسين دولة. وهذا الكلام لا يخلو من المغالطة، وينمّ عن التوجيه السياسي.

 وبهذا تكون أمريكا قد نجحت في تحديد ملامح العدوّ الموهوم الجديد، كما قال جرنوت روتر: لقد كانت مرحلة نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى سقوط الحلف الاشتراكي، بسيطةً جدّاً. فالقاعدة كانت: نحن من جملة الصالحين والأخيار، والأشرار والأعداء دائماً هم الآخرون. وبهذا النحو كان ينظر الغرب الرأسمالي للشرق الاشتراكي، وبالعكس كان ينظر الشرق الاشتراكي للغرب الرأسمالي. وفي مثل هذا الوضع يصبح من السهل تحديد العدوّ المفترض، لكن مع سقوط الحلف الشرقي سنة 1989 ـ 1990 لحق العيب بصورة هذا العدو المفترض. فحين هجم صدام حسين على الكويت أصبحت مصادر النفط للغرب في موقع تهديد، ولم يكن أحدٌ يعتقد أن دخول صدام للكويت كان بمحض اتفاق، وأنه بذلك تمكن من تقديم الإسلام على أنه العدوّ الجديد للعالم المتمدِّن، فحتّى الإمام الخميني الذي كان خصماً لدوداً لم يكن يستطيع أن يخلق هذا الجوّ العدائي المشحون. وبهذه الطريقة تمّ جلاء وجه العدوّ المفترض الجديد([42]).

وبحَسَب روتر من هنا نشأت النظرة الضيِّقة للغرب إلى الإسلام، حيث أصبحت تضعه في خانة التطرُّف والإرهاب([43]).

وحَسْب قول مترجم كتاب «الموجة الثالثة، التحوّل الديموقراطي في أواخر القرن العشرين» فالمحطات التي كان فيها هنتينغتون في صدد التحقيق هذه فعلاً تستحقّ الإشادة والقراءة، أما في القسم الذي يتحدَّث تحت ضغط مصالح بلده فهو كان سياسياً، ولم يكن محقِّقاً، وبذلك فآراؤه تحتاج للنقاش والكثير من التأمُّل. فهو يخلص إلى أن مصالح الغرب تقتضي اتحاد أمريكا الشمالية وأوروبا اتحاد وحدة المصير. ومن جهةٍ أخرى هو يقول بأن الدول الإسلامية كلّها ليست ديموقراطية، ويرجع السبب إلى الإسلام، ويقول: «بالقدر الذي تتوافق الديموقراطية والإسلام نظريّاً بقدر ما يتباعدان ولا يتوافقان عمليّاً»([44]).

الملفت أن أوروبا تعمل على التقرب أكثر فأكثر من سياسة إيران الإسلام، وتبدي ترحيباً بمسألة «حوار الحضارات». والظاهر أن إقدامات أوروبا لا تعدو كونها سياسية. من هنا يمكننا الرجوع إلى مسألة أساسية في هذا البحث، وهي التأثير القوي للأمور الاقتصادية والسياسية، مقارنةً بتأثير المسائل الثقافية.

ومن الشواهد المؤيِّدة لهذه الفرضية أنّه قد خالفه العديد من المحقِّقين، حيث أكَّدوا أنه لم يكن مقرّراً منذ البداية أن تنتشر أبحاث هنتينغتون، وإنما كان مقرّراً أن تنقل وجهات النظر تلك إلى البنتاغون؛ لينظم سياسته الخارجية ووظائفه العسكرية وفق نقاطها. لكنْ لأسبابٍ تمّ نشر هذه النظرية خارج البنتاغون. ويظنّ هؤلاء المحقّقون أن الغرب، وبالأخصّ أمريكا، لا يريد أن يجعل موضوع الحضارة سبباً في القضايا المستقبلية المقلقة لها، بحيث يجد نفسه في وضعٍ غير جيّد. وقد نصحوا أمريكا بأنها إذا كانت ترسم الحدود بمنظارٍ حضاري فإن تمازج الحضارات المختلفة داخل الحضارة الواحدة سيحوّل الولايات المتحدة سريعاً إلى ولايات غير متّحدة. لكنْ هناك آخرون يشجِّعون أمريكا وينصحونها بأن تجعل مهمّة تقوية حلف الناتو ضمن أولوياتها([45]).

حدَّد هنتينغتون في خطّته لحفظ مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ثلاث نقاط مصيرية: تفوّق أمريكا، العمل على منع ظهور أيّ قوّة في آسيا، وحفظ مصالح الولايات المتحدة في دول العالم الثالث.

وإذا كان هذا النقد صائباً فخلاصته أن ماهية نظرية هنتينغتون سياسية، وليست ـ كما ادّعى ـ ثقافية (مرتبطة بالحضارة). وبالطبع هذا النقد بهذا اللحاظ ناظرٌ إلى نزاهة الكاتب، وليس إلى نفس النظرية، بعيداً عن كاتبها ودوافعه وراء الكتابة.

8ـ في هذه النقطة سيتمّ تسليط الضوء على انتقادات بعض المفكِّرين لنظرية صراع الحضارات:

أـ ذكر بريجنسكي في انتقاده لآراء هنتينغتون عدّة أمور: أوّلاً: على المستوى الفكري انطلق بتشريح مستوى الثقافة الغربية، فعدَّد الثغرات المتعدّدة التي تعاني منها الثقافة الغربية، وعدم قابليتها للرأب. كما صبّ نقده على عدم التفات هنتينغتون إلى الانفصال وعدم التماسك داخل الثقافة الغربية. وحَسْب رأيه اللائكيةُ، وهي تحكم نصف الغرب، تحمل في أحشائها عوامل تدمير الحضارة الغربية. من هنا فما يهدِّد القوة الأمريكية، ويجعلها في معرضية الخطر، هو العلمانية الجامحة، وليس التصادم بالحضارات الأخرى، فالعلمانية على وضعها الحالي ليست في مستوى أن تكون الأساس الذي يهيكل لنا حرّية الإنسان، ويضمن حقوقه، وعلى أيّ حال هو على المستوى السياسي لا يجد أدنى اختلاف مع نظرية صراع الحضارات([46]).

ب ـ انتقد فؤاد العجمي، الأستاذ المحاضر في جامعة جونز هوبكينز الأمريكية، هذه النظرية بلحاظٍ سياسي؛ وآخر فكري. بالنسبة للحاظ الفكري ركَّز العجمي انتقاده حول جعله لمحورية القوّة ومركزية الدولة الوطنية في المجتمعات الحالية. وقد أبدى العجمي تعجُّبه من إقدام هنتينغتون على التغافل عن دَوْر الدولة ومصالح المواطنين، كما أبدى استياءه من تصريحات هنتينغتون حول الأصولية الإسلامية، حيث لم يَجِدْ فيها سوى دعاية، وأنها تنطوي على قَدْرٍ كبير من المبالغة. وفي تحليله السياسي لنظرية هنتينغتون انتقد تصوّراته حول الإسلام، قائلاً: إن تصريحاته استوحاها من شعارات صدّام حسين في حرب الخليج الفارسي. فالدولة ليست تحت سيطرة الحضارة، بل الدولة هي التي تسيطر على الحضارة، وتحرِّكها وفق أجندتها الخاصّة([47]).

ويكرِّر مقولته: «الهند لن تتحوّل إلى دولة هندوسية؛ بفضل الإرث العلماني الهندي».

ج ـ ناقش كيشور محبوباني، معاون وزير خارجية سنغافورة، في مقالٍ له بعنوان: «مخاطر انحطاط الغرب، ماذا يمكن أن يتعلَّمه الغرب من بقية العالم؟» نظريّة صدام الحضارات على المستوى الفكري والسياسي([48]).

يقول محبوباني: إذا اتّخذنا بيع الصين السلاح لإيران دليلاً على تقارب الحضارتين الإسلامية والكنفوشيوسية فسيكون بيع أمريكا السلاح للمملكة العربية السعودية دليلاً على تقارب بين الحضارة الإسلامية والمسيحية! وبحَسَب اعتقاده فالحضارة الغربية كما تشمل أموراً إيجابية لا تخلو من أخرى سلبية.

د ـ رأى سودانشو راناد، الكاتب الهندي، في مقالٍ له بالصحيفة الهندوسية، أن نظرية تصادم الحضارات ليست سوى مبرّرٍ لسياسات المصالح الأمريكية في الهند. ويقول بهذا الصدد: أمريكا، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أصبحت في عملٍ دؤوب حول اختراع عدوّ وَهْمي آخر تعلّق عليه تحرّكاتها الخارجية. وبعد أن تعرض بالنقد لهذه النظرية نبَّه إلى ضرورة إعمال الحَذَر تجاه هذه النظرية، وما تقوم عليه من المغالطات، وتنطوي عليه من الزَّيْف والكذب، وما تغطّيه من الحِيَل([49]).

هـ ـ قال شينتارو إيستنيهارا، في نقده لنظرية «صدام الحضارات»: «إن اليابان قد رجعت إلى أحضان آسيا»([50]).

و ـ قال أحمد صدري، في انتقاده لهذه النظرية: «أنا لستُ بصدد البحث حول استعمال مفهوم الحضارة، لكنّ المسألة تكمن في أن هنتينغتون قد استعمل الحضارة في معنىً غير صحيح، فهو استعمل «المثال» بشكلٍ غير علمي، وظنّ أن الحضارة كالإنسان، لديها شعورٌ، وأنها تتربَّص ببعضها البعض الدوائر! فحَسْب الدكتور صدري تعامل هنتينغتون في معالجته لأحداث العالم ووقائعه بأسلوبٍ انتقائي، فحيث إن دم المسلمين يُباح في عدّة مناطق من العالم ليست له أيّ أهمّية، لكنْ يجب العمل على ضبط النفس حتّى لا ننجرّ إلى صدام بين الحضارات»([51]).

ز ـ قال المفكِّر الفلسطيني إدوارد سعيد حول هذه النظرية: إن العالم العربي على عتبة إجراء صلح مع الكيان الإسرائيلي، وهو حاضرٌ أكثر من أيّ وقتٍ مضى داخل دائرة القرار عند كلٍّ من: أمريكا وإسرائيل. لهذا فالعصر القادم هو عصر الصلح الوشيك، وهو بطبيعة الحال صلحٌ ناقص. فحقيقة الواقع أنه معبِّر عن العلمانية، التي لن يكون الإسلام وحده المتضرِّر فيها([52]).

ح ـ بعد أن بيَّن السيد حسين نصر مقوِّمات نظرية هنتينغتون (1ـ نهاية الحرب الأيديولوجية؛ 2ـ تقويض القومية؛ 3ـ إحياء القومية في قالب الحضارة؛ 4ـ صراع الحضارة؛ بسبب وجود حضارة مسيطرة بشكلٍ كامل) قال: ليس هناك سببٌ ذاتي يدعو إلى صراع الحضارات، فالأصول المشتركة بين الحضارات التقليدية كثيرة، فالمستقبل هو للمؤمنين بالله، لذا لا يجب إعطاء المجال لأن يتلبّس بصراع الحضارات([53]).

وحَسْب السيد حسين نصر هناك اتّحادٌ سياسي عُمْدته معاداة الإسلام. ومن الأمثلة عليه: عدم تحريك الغرب ساكناً تجاه ما يتعرَّض له المسلمين من قتل وحرب إبادة في كلٍّ من: البوسنة والشيشان وبروناي.

ومن اقتراحاته لرفع سوء التفاهم بين الغرب والإسلام، وإيجاد طريق للتفاهم والتسوية:

1ـ إيقاف الحملات الدعائية ضدّ الإسلام في الغرب.

2ـ الابتعاد عن الفرضيات المسبقة التي تدعي أن على كل الحضارات أن تتبع خطى الحضارة العلمانية الغربية، والتي لم تبدأ إلا مع عصر النهضة.

3ـ مسألة النشاط الإعلامي التبشيري (وبالأخصّ في المستعمرات).

4ـ العمل على تقريب وجهات النظر الدينية لكلا الطرفين.

5ـ إجلاء الغموض في ما يخصّ العلاقات بين الإسلام والغرب، وإعادة دراسة االمفردات الساخنة، كالأصولية والتطرُّف والتشدُّد([54]).

وبالنسبة لبقية الانتقادات لهذه النظرية سوف نتعرَّض لها بالتَّبَع ضمن هذا البحث.

لكنْ في الجملة يمكننا القول: إن هذه النظرية اتّخذت مسلكاً كثرت فيه أخطاؤها واشتباهاتها، سواء على مستوى المنهج أو على مستوى المقدّمات الأولية والشواهد التاريخية، التي لم تَخْلُ من المغالطات وما شاكلها.

2ـ نظرية حوار الحضارات

باعتبار شدّة الانتقادات التي وُجِّهت بشكل مباشر أوغير مباشر لنظرية صدام الحضارات فإن الضوء صار مسلّطاً على النظريات المقابلة.

وإحدى هذه النظريات النظرية التي طرحها الرئيس الإيراني السابق السيد محمد خاتمي تحت عنوان: «حوار الحضارات». وهي نظريةٌ قوبلت بالترحيب بين العديد من الدول، وبين أوساط واسعة من المجتمع الدولي. وبحَسَب قول توينبي: إن دينامية الحضارة من خلال التواصل الفعّال والحوار المفتوح والتبادل الثقافي يكون عامل تحصين هذه الحضارة، ومانعاً لها من الانحطاط.

ومن الجدير بالذكر أن مسألة حوار الحضارات سبق أن طرحها العديد من المفكِّرين:

1ـ حاول داريوش شايغان، وهو مفكِّر إيراني معاصر بارز، ومنظّر اجتماعي مختصّ في الفلسفة المقارنة، التوفيقَ في اهتماماته بين الفلسفة الغربية والآسيوية. وقد تولى مسؤولية تأسيس وتسيير المركز الإيراني لدراسة الحضارات بمرسومٍ ملكي، وكان هدف هذا المركز تعريف المجتمع الإيراني بالحضارات الشرقية والآسيوية، مثل: الصين، اليابان، الهند، ومصر. وفي هذا الإطار عقد المركز ندوةً تحت عنوان: «هل هيمنة أسس الفكر الغربي تفتح المجال للحوار بين الحضارات؟»([55]).

2ـ وقبل عقدين تقريباً طرح روجيه غارودي نظريته في حوار الحضارات، وحمل في طيّاتها دعوةً إلى إيجاد أرضية لتفاهم الأمم، كما سلط الضوء على النقاط السلبية في الحضارة الغربية، وخصوصاً في جهة سعيها للهيمنة والتسلُّط على العالم. فغارودي لم يكن يرى في الغرب سوى عنصر تخريب وإبادة للبشرية، وهي بذلك تسير نحو حتفها ونهايتها في مزبلة التاريخ([56]).

وعلى العموم فالسيد خاتمي في مقابلته لنظرية صراع الحضارات ابتدأ نظريته بحوار الدول، وبعد ذلك حوار الحضارات، وكان له دورٌ فعّال في أن تحرز الجمهورية الإسلامية الإيرانية مكانةً مرموقة على مستوى المنتدى الدولي.

رأى السيد خاتمي في إحدى المقابلات أن الحضارة هي استجابة للإنسانية في ما يخصّ الوجود والعالم والإنسان، وهي بذلك تكشف عن احتياجات البشر وتطلُّعاته. وبيَّن أن ساسة أمريكا متأخِّرون عن زمانهم، فالعالم يسير نحو نظام التعدّدية في حين هم لا زالوا يسعَوْن لفرضة هيمنة النظام الواحد([57]).

دعا السيد خاتمي، في مقابلته المشهورة مع تلفزيون CNN، إلى عقلانية المفاهيم بَدَل عقلانية الوسائل والآليات، وإلى ضرورة إزالة حاجز عدم الثقة بين إيران وأمريكا بشكلٍ تدريجي([58]). وقد تمّ تلقّي نظرية وخطاب السيد خاتمي أوّلاً من طرف البرلمان الأوروبي، ثم من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث صوَّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ: 13/8/77هـ.ش بالاتفاق على اقتراحات خاتمي، لتتبنّى ذلك الأمم المتحدة، وتجعل من عام 2001م عام «حوار الحضارات»([59]).

أصدر السيد محمد خاتمي في سنة 1993 كتابه «بيم موج»، وهو عبارةٌ عن خمس مقالات، حيث أبدى فيه آراءه وتحليلاته حول تأثير الحضارات بعضها ببعض وأزمة الغرب. وممّا كتبه بخصوص الحضارة: الحضارة تولد، ثمّ تنمو وتزدهر، ثم تمشي نحو الانحدار؛ لتموت في الأخير. واليوم تُعَدّ الحضارة الغربية هي الغالبة. والحضارات تتفاعل وتتأثّر بعضها ببعضٍ، إلاّ إذا كانت العلاقة بين حضارتين منقطعة بشكلٍ تامّ. في ميلاد الحضارة وتصاعدها وانحدارها يوجد عاملان رئيسان يهيمنان على باقي العوامل: الأوّل: حركة ودينامية العقل البشري؛ والثاني: تجدّد احتياجات الحياة البشرية. وكلّ حضارة تضع الإنسانية في وسط الأزمة مرّتين: الأولى: عند ولادتها؛ والثانية: عند انحطاطها([60]).

وحَسْب خاتمي يواجه الغرب الآن أزمةً خانقة، أزمة في الفكر وفي جميع شؤون الحياة. فأربعة قرون عمرٌ لا يستهان به لأيّ حضارة، لذلك فالقول بشيخوخة الحضارة الغربية وصفٌ غير مبالغ فيه.

وفي سؤالٍ حول ما إذا كانت الأزمة الحالية هي مؤشِّرٌ على احتضار الحضارة الغربية؟ أجاب قائلاً: لا يمكننا التكهُّن بذلك قطعاً. فالغرب قد أخذ التدابير اللازمة في المرحلة الراهنة لتفادي السقوط، وهي تدابير تشبه كثيراً تحرّكاته في أوائل القرن المنصرم. فحَسْب تجربته في التصدي للأزمة السابقة هو الآن يعمل على تبديل الاستعمار القديم بآخر حديث؛ حتّى يضمن لنفسه النجاة من الهلكة. فالنظام الدولي الجديد الذي تتزعَّمه الولايات المتحدة الأمريكية، وتقوم بحمايته والدعاية له، هو نفسه الاستعمار القديم، لكنْ في حلّةٍ وقالب جديد. فالاستكبار العالمي بزعامة أمريكا يسعى إلى استغلال الظرف التاريخي والبشري لنشر هيمنته، والتغرير بالعالم، مظهراً هيمنته وسلطته القذرة بمظهر المصلح، والقدر المتيقّن منه هو أن الحضارة الغربية تقطع مرحلة الشيخوخة([61]).

وانتقل بعد ذلك إلى مبحث «الأزمة ومجتمعنا الثوري»، واختلافها عن الأزمة التي يواجهها الغرب. فالسبب الرئيس هو أن ثورتنا كانت عاملاً في خروجنا من التبعية للتمدُّن الغربي. فالغرب حَسْب رأي خاتمي له وجهان: الأوّل: وجه سياسي (ويمثِّل البنية الفوقية للحضارة الغربية)؛ والآخر: وجه فكري (ويمثِّل البنية التحتية لهذه الحضارة). فصحيحٌ أن الغرب شاخ، لكنّه على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي وإمكانات العيش، وكذلك بلحاظ قدرته على مستوى الدعاية والتحريض، لا زال يحظى بقدراتٍ هائلة وحضورٍ نافذ. ومن هنا فنحن أمام خصم عنيد. فصراعنا مع الغرب في هذا المجال هو صراع موتٍ أو حياة، أو كما يمكن التعبير عنه صراع وجود، فتغلّبنا على الغرب وانتصارنا عليه يعني سحقاً لسيادته السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية. ومن المؤكَّد ضرورة الاستفادة من تجارب وابتكارات التمدُّن الغربي الحاضر، مع ترك الأمور السلبية فيها، ومن هنا لا بُدَّ من معرفة صحيحة بالغرب، ونظرة متفحصة للجوانب المقوّمة لحضارته([62]).

من هنا كان من الضروري التعرُّف على وحدة التحليل في هذا المقام، بحيث إذا كانت وحدة التحليل «التمدّن» بالمعنى العام، كما هو التفسير المتقدِّم، فآنذاك يمكن الحديث عن التفوّق الغربي في كلٍّ من: الجانب السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي، وفي نفس الوقت لا بُدَّ من التحدّث عن توجهها نحو الانحطاط والأفول؛ لأن البنية التحتية لكلّ تلك الجوانب هي المنظومة الفكرية والثقافية، وهي سائرة نحو الزوال.

لكنْ حَسْب ظنّي إن هذا التحليل بعيدٌ عن الواقع؛ لأن أولوية العامل الثقافي (عند المسلمين) لا يلازمها التأثير الكبير في باقي الجوانب، ومن جهةٍ أخرى لا بُدَّ من الدقّة في ملاحظة كون نظرية «حوار التمدّن» لا تنسجم ومقولتَيْ: «الخصم العنيد»؛ و«صراع الوجود» بين الحضارتين، كما لا تتناسب ومقولة الاستعمار الجديد لدول العالم الثالث من طرف الغرب؛ لإمكان أن تكون خضعت للتطوّر والتكامل ضمن الفترات التاريخية المختلفة.

ويرى خاتمي، في نقده للحضارة الغربية، أن المجتمع الذي يطمح في صنع حضارةٍ لا بُدَّ أن يكون لديه طاقات ودوافع ذاتية. في أوائل العصر الحديث كانت عين الإنسان الغربي تطمح إلى مستقبل زاهر مليء بالملذّات، بالسلامة، وعالم مليء بالمنافع المادية، لكنّ الظاهر أنه صار يفقد الثقة في الاعتماد على الحضارة الجديدة يوماً بعد يوم. المشكل الحالي يكمن في أن الغرب أصبح يعيش وضعاً مزرياً خارج حدوده الجغرافية والوطنية، حيث أصبحت الشعوب المضطهدة من الاستعمار تبرز حقدها ونفورها منه. وعلى العموم هذه الحضارة بما لها وما عليها ليست أبدية. ولا نشكّ في أن المستقبل، بغضّ النظر عما عليه الوضع الحالي، هو في انتظار الإنسانية. والسؤال المهم هو: هل أمامنا بما نحن عليه فرصةٌ في رسم خطوط مستقبل البشرية؟([63]).

لقد طرح خاتمي سؤاله ذاك على طلبته في الجامعة، وذلك قبل أن يصبح رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكأنّ الجواب عن هذا السؤال لن يكون إلاّ من خلال تولّي هذا المنصب الرئاسي، فوحده العمل في هذا المنصب هو الذي يتناسب وطرح نظرية حوار الحضارة، ويفتح المجال لطرحها على الصعيد العالمي.

لقد أبدى الرئيس خاتمي، في خطابٍ له أمام الجمعية العامة في الأمم المتحدة، وضمن طرحه لنظريته في حوار الحضارات، تفاؤله في أن تكون الألفية الجديدة فرصة أمام العالم لكي يعيش في كنف العدالة والتصالح والحرّية، من خلال فتح المجال أمام الحوار وسماع الحضارات. قال: إن القرن العشرين قرن الحروب والتجاوزات، وللأسف فقد سيّرت الثقافة والفكر لخدمة المصالح السياسية والاقتصادية. تعالوا لنضع يدنا في يد بعضنا ونجعل السياسة في خدمة الثقافة والفكر، تعالوا لكي نغلب في القرن الجديد لغة الثقافة، لغة الفكر، وأن نجعل همَّنا نشر السلام والأمن في كلّ أنحاء العالم.

لقد شهد تاريخ الحضارة الإنسانية ازدهار العديد من الحضارات العظيمة. وإن التنوع الحضاري وتعارف الحضارات مع بعضها ضامنٌ لحركتها وتطوّرها، ودافعٌ لقوّتها نحو التكامل، كما أن افتراقها وتباعدها عن بعضها سببٌ في ضعفها وانزوائها، فالمسألة بشكلٍ رياضي تكمن في أن حاصل جمع عددين لا يساوي صفراً. وقد تأثرت الحضارة الغربية كثيراً بالحضارات اليونانية والرومية والإسلامية، كما أن الحضارة الإسلامية قد تأثرت بحضارات أخرى؛ لمبدئية التفاعل الحضاري، وبطبيعة الحال فإذا كان مسلك حضارةٍ التسلُّط على حضارةٍ أخرى فإن عملية الحوار يتمّ تقويضها والإجهاز عليها.

ويمكن توضيح مقارنة نظرية الحوار بنظرية الصدام من خلال الشكل التالي([64]):

الحوار

1ـ مبنيّ على المساواة (الحوار انطلاقاً من مواضع متساوية)؛

2ـ التنوّع الثقافي أساس التعاون؛

3ـ ملاحظة النقاط المشتركة لبدء عملية الحوار؛

4ـ البحث عن المحبة والتعاون والتواصل؛

5ـ عازم على إيجاد التفاهم المشترك والوعي الأصيل؛

6ـ إيجاد سبل الثقة بين الأطراف؛

7ـ يتطلب التسامح والمشورة؛

8ـ الشفافية للتعاون والبناء؛

9ـ يكون مفيداً لكل أطراف الحوار؛

10ـ يتطلّب العقلنة والنقد والأخلاق؛

11ـ أصحاب النظر والعلماء دائماً في تبادل الأفكار ووجهات النظر؛

12ـ ترسيخ أسس الحضارة عن طريق الحوار؛

13ـ الاستراتيجية هي الصلح العادل والدائم؛

الصراع

1ـ مبتنٍ على اللامساواة والتمييز؛

2ـ التنوّع سببٌ في إيجاد التصادم؛

3ـ تسليط الضوء أكثر على نقاط الاختلاف؛ بقصد بدء التصادم؛

4ـ متعقّب للعداوة والتسلّط والهيمنة؛

5ـ متعقّب لتفسير الأمور بشكلٍ غلط وسيّئ؛

6ـ إيجاد حاجز عدم الثقة؛

7ـ يشتمل على الخشونة والتهديد؛

8ـ يخفي الأمور؛ لغرض إيجاد العقبات والدمار؛

9ـ إما نجاح طرف أو خسارة كلّ الأطراف؛

10ـ مبنيّ على الخوف والإقصاء؛

11ـ المتحاربون والمتصارعون في تبادل الاتهامات وممارسة العنف؛

12ـ مُلْغٍ لطبيعة وماهية التمدّن والأخلاق؛

13ـ استراتيجية حرب بلا نهاية؛

إن مقترحات نظرية حوار الحضارات شأنها شأن أيّ نظرية أخرى، بلحاظ اشتمالها على نقاط إيجابية ومحدودية المنافع.

ومن جملة مستلزمات نظرية «حوار الحضارات» يمكننا الإشارة إلى التالي:

1ـ بدءاً هذه النظرية «حوار الحضارات» لا زالت في مراحلها الأولى، فهي لم تصل بَعْدُ لتكون نظريةً تامّة متماسكة، ومشخصة المرتكزات والأسس. لذا فتصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على هذا الطرح إنما هو بداية المشوار؛ فوجود اقتراحات وطرح حلول أمرٌ ضروري. ولعل طرح خاتمي هو مجرّد اقتراح وحلّ، وليس توقُّعاً للوضع الآتي، وما ستكون عليه العلاقات بين المجتمع الدولي.

وفي الجملة تقبُّل فكرة «الحوار» مستلزمٌ لتقبُّل مجموعة من الافتراضات والأسس المعيَّنة. ومَنْ كان يرى نفسه وحده على الحقّ فإن نظرته لمسألة «الحوار» لا تعدو أن تكون نظرته صوريةً، بخلاف مَنْ كان يؤمن بالتعدّدية، وأن الحضارات الأخرى تملك قسطاً من الحقيقة، فإنه يتخذ أمر «حوار الحضارات» مأخذ الجدّ. فاقتراح «الحوار» لا يمكن النظر إليه على أنه مجرّد أسلوبٍ لإقناع الآخرين وتشجيعهم.

2ـ كما قلنا سابقاً في نظرية «صدام الحضارات»: إذا كانت وحدة التحليل هي التمدّن فهذا يستلزم نقاطاً خاصّة. وعلى سبيل المثال: إن هذه النظرية (أو الطرح) قد تقبل بكون الأمور الثقافية (على شكل حضارة) لها تأثير أكبر من الأمور الاقتصادية والسياسية والعسكرية. ومن مستلزماتها الأخرى: تخفيف مفهوم «المصالح الوطنية» والوحدة الوطنية (الأمة ـ البلد)، حتى تتمكن دول مثل: إيران والعراق والكويت ومصر أن تظهر في مظهر الحضارة.

يرى البعض أن اقتراح جمهورية إيران تخصيص 1 مليار تومان لتفعيل النشاطات المرتبطة بقضية «حوار الحضارات» ليس عملياً؛ لأن الحوار المطلوب هو بين «الحضارات»، وليس بين الدول([65]).

المقصود بحوار الحضارات ليس هو حوار الدول، أو حوار الأديان والمذاهب، رغم كون الأديان أهمّ مقومات الثقافة، بل لا نستطيع القول: إن حوار الحضارات هو عين حوار الثقافات؛ لأن الثقافة تشكّل البنية الداخلية والخارجية للمجتمع. فالحوار بين الحضارات في واقع الحال هو أعلى مستوىً من التكامل والتعايش بين الأديان؛ لأن حوار الأديان هو فقط في حدود الأديان، ولإثبات حقوق الأقلّيات الدينية.

3ـ اقتراح هذه النظرية من جانب رئيس الجمهورية الإيرانية هو في مجال تقوية الأمن العالمي، وإيجاد انفراج في السياسة الخارجية، وبالمحصلة هو أسلوب لأثقفة السياسة الداخلية والخارجية، وقد يكون تقبّل أوروبا لهذه النظرية والدفاع عنها فقط لكونها تقع في مقابل ما طرحه المفكّرون الأمريكيون من نظريات مضادّة.

4ـ من الشروط العملية لتفعيل الحوار الحضاري إيجاد ثقافة الحوار والتسامح داخل البلد، فما لم تتحوّل الأطراف المختلفة في البلد الواحد إلى طاولة الحوار، ويقبل أحدها الآخرين على أن لهم قسطاً من الحقّ يفتقده هو نفسه، فإن مطلب الحوار بين إيران الإسلام والبلدان الأخرى سيبقى من متمنّيات المدينة الأفلاطونية.

نحن في حاجة إلى تعريف «المصالح الوطنية للحكومة الإسلامية». وفي هذا الصدد على أحزاب اليمين وأحزاب اليسار أن يجتمعوا حول طاولة الحوار، وأن يغلِّبوا المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية والفئوية. فنظرية «حوار الحضارات» يمكن أن تكون دافعاً نحو الحوار الداخلي، إلاّ أن تجربة عشرين سنة من عمر الثورة لم تشهد تطوّراً على مستوى وضع استراتيجية لشرح المصالح الوطنية داخل الحكومة الإسلامية الإيرانية. إن تفوّق إيران في السياسة الداخلية والخارجية ونجاحها يستدعي تأمين سندٍ فكريّ استراتيجي، وبلورته بحيث يصبح ثقافةً وطنية.

من مستلزمات التفاهم بين الحضارات التفاف المكوّنات الداخلية حول المصالح الوطنية، أو مصالح الدولة، أو مصالح الأمة الإسلامية بشكلٍ أعمّ. لكنْ للأسف ليست هناك أيّ بوادر لتحقُّق هذا الأمر في مجتمعنا، بل ليس هناك مؤشِّرٌ على تحقّقه في المستقبل القريب على الأقلّ. فالاستعداد للحوار يفرض على كلّ الغيارى على الحضارة الإسلامية أن يقلِّصوا من مستوى اختلافاتهم ونزاعاتهم، وأن يجعلوا همَّهم على القضايا المشتركة، التي تصبّ في خدمة هذه الحضارة، ويرفعوا من حجم المقوّمات العضوية للحوار.

وبالمناسبة لا بُدَّ من الإشارة إلى أن «الحوار» بالنسبة لمَنْ يؤمن بشرعية الإسلام إنما هو وسيلة، وليس غايةً. فنتيجة الحوار يجب أن تكون شيئاً أعلى وأسمى. فالغاية المترتِّبة عن «الحوار» تعزيز الإسلام وإثبات حقّانيته وأحقّيته، وليس مجرد مصالح سياسية وثقافية. فكون مسألة «حوار الحضارات» قد تمّ قبولها في الجمعية العامة بالأمم المتحدة ليس مسوِّغاً لأن يستغرقنا في دوّامة حوارٍ عقيم.

ومن الحلول التنفيذية للتفاهم الحضاري: مبادرة الحكومة الإيرانية إلى تأسيس المركز العالمي للتواصل الحضاري؛ انعقاد الندوة الدولية للتواصل الحضاري في إيران، دعوة أهل الفنّ والعلماء والمثقّفين لترسيم الخطوط العريضة للحوار الحضاري، والعمل على الارتقاء بها؛ كي تصبح ثقافةً ووَعْياً في الداخل والخارج([66]).

5ـ من لوازم التمدّن الحضاري، والتي ظهرت واضحةً في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ما عبّر عنها ويل دوران بقوله: إن ظهور الحضارة والتمدّن لا يكون إلاّ عندما تنتهي مظاهر الهرج والمرج وعدم الأمن في الدولة والحكومة. الانفتاح على باقي الدول، وبالخصوص الدول المجاورة والدول الإسلامية، وكذا أوروبا، من أهمّ خصائص هذه النظرية. الرئيس خاتمي، في مبادلته كلمة شكر رئيس الجمهورية الفنلاندية على اقتراحه تسمية سنة 2001 بسنة الحوار، تحدَّث عن أن أحد المحاور الرئيسة في السياسة الخارجية لإيران عملها على الانفتاح السياسي والتواصل الخارجي([67]).

ـ الدكتور خاتمي، في ردّه على سؤال قناة (CNN) حول اقتحام السفارة الأمريكية، قال: إن الموضوع يجب دراسته في ظرفه التاريخي.

من المفاهيم التي حاول الدكتور خاتمي طرحها ضمن سلوكيات السياسة الخارجية الأخذُ بعين الاعتبار كلاًّ من مبدأ الكرامة والحكمة والمصلحة والانفتاح والحوار بين الحضارات. من مستلزمات الحوار القبول بالآخر، والاعتراف به. فالأحكام حين تكون نسبيةً تفتح المجال للاعتراف بإمكانية أن يكون الحقّ مع الآخر، أو في الحدّ الأدنى أن يكون قسطٌ من الحقّ معه. فأسس منطق الحوار هي التي تحدِّد هوية الدول.

 استند الدكتور خاتمي في الاستراتيجية البعيدة على مسألة حوار الحضارات، وفي استراتيجيته القريبة أكَّد على حركية السياسة الخارجية، ومرونتها، والعمل على الخروج من حالة ردة الفعل والانفعال. على الصعيد الداخلي رفع شعار سيادة القانون والمجتمع المدني؛ أما على الصعيد الخارجي فقد دعا إلى فتح أفق جديد في العلاقات الخارجية مع سائر الدول. ومع بداية حكومته، وبالضبط في آبان 1376هـ.ش (سنة 1997) تمّت عودة أغلب السفراء الأوروبيين، الذين كانوا غادروا الأرض الإيرانية عقب الثورة الإسلامية، وانعقدت من جهةٍ أخرى قمّة منظمة المؤتمر الإسلامي في طهران، فشهدت بذلك علاقة إيران بالدول الإسلامية شيئاً من التحسُّن.

ويمكننا حصر تحرُّكات خاتمي على مستوى السياسة الخارجية في ما يلي:

أـ فتح الحوار مع دول الجوار الإسلامية والعربية، والتي لم تكن لها علاقات جيدة مع إيران الثورة.

ب ـ الحوار مع بعض الدول الأوروبية، التي كانت قد قلَّصت من علاقاتها بإيران بعد الثورة.

ج ـ الحوار غير المباشر مع أمريكا، التي كانت قد قطعت علاقتها بإيران بعد الثورة الإسلامية.

د ـ الحوار مع دول أخرى، والمشاركة في المنظمات الدولية([68]).

وقد كان سفر خاتمي إلى دولة إيطاليا في آخر سنة 1998م خطوةً في إعادة العلاقات بدول أوروبا ودول أخرى.

6ـ فكرة حوار الحضارات تقع في مقابل نظرية صدام الحضارات، وفي مقابل نظرية فولتر؛ لأن نظرية هنتينغتون حول صدام الحضارات قائمةٌ على أساس تعارض الثقافات، فيما اختار فولتر المعيار الاقتصادي والسياسي. إن تأكيد خاتمي على الملاك الثقافي، وإمكانية الحوار بين الحضارات، سيفتح طريقاً جديداً أمام دول العالم في القرن القادم، كما أنه سيحمل معه تعريفاً جديداً للمصالح الوطنية([69]).

7ـ من المباحث الجديدة دور الشباب في ظهور وتغيير الحضارة، إما إلى الإيجاب أو إلى السلب، وعرض أداءٍ جديد للحضارات، من خلال سلوك شباب مختلف المجتمعات. ويعتقد بعض المنظِّرين أن وصول نسبة الشباب (ما بين 15 و24 عاماً) في الهرم السكاني إلى 20% في مجتمعٍ ما سيضع هذا المجتمع أمام تحدّيات وصعوبات، وسيجعله ما بين صعودٍ وهبوط. فالمناسب لإيران، التي اقترحت أن تسمّى سنة 2001 بسنة الحوار الحضاري، أن توجِّه عنايةً خاصّة لدور الشباب وتنظيمها في هذا الباب([70]).

8ـ يذهب بعضهم إلى أن نظرية حوار الحضارات تلزم إيران بضرورة تعديل سياستها الخارجية القديمة إزاء علاقاتها بالخارج؛ حتّى تخرج من العزلة السياسية.

أكثر الأزمات التي عاشتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبالخصوص في فترة الحرب العراقية المفروضة، كانت بواسطة ديبلوماسيتها الخارجية؛ وبسبب التقدير الخاطئ للأمور داخل وزارة الأمور الخارجية. فاعتماد الخارجية لسياسة الانتحار ـ حَسْب رأيه ـ فرض عليها عزلةً سياسية واقتصادية، ومنع صوت الحقّ من أن يصل إلى المنصفين من الناس والدول. فالسياسة التي اتّخذها خاتمي في علاقة حكومته الخارجية هي خطوةٌ لإخراج إيران من العزلة السياسية، وأسقطت بذلك العديد من العقوبات الدولية عنها([71]).

9ـ من بين ملحقات الحوار نشير إلى الأمور التالية: لغة مشتركة وعالمية، بحيث تمكن من نقل انفعالات وآداب مختلف الأمم بشكلٍ صحيح ومطابق للواقع، تزعم التنسيق بين الدول وربط علاقات الانسجام بينها، خطاب علمي ومعرفي، شبكة العلاقات، إيجاد محور عالمي يكون مقبولاً لدى الجميع، تطوير المنظمات الدولية، وبالخصوص الأمم المتحدة، تعزيز السلام عن طريق اللقاءات الدينية والعلمية، تنمية السياحة، العمل على منع التعصُّب الديني والطائفي، ضرورة إعادة تفسير المفاهيم الدينية التقليدية، التوفيق بين المحيط المادّي والروحي والمحيط الموضوعي والعملي، الأخذ بعين الاعتبار التنوُّع العرقي والاجتماعي والثقافي والحضاري، بحيث لا يكون الواحد على حساب الآخر، واحترام التنوُّع الثقافي، عدم الانضباط لسلطة الهيمنة والتسلّط، التسامح ونبذ عقائد العنف، والحدّ من الاختلافات والنزاعات بين الأمم([72]).

10ـ الاحتكار الثقافي مانعٌ للحوار بين الحضارات، وبالتالي سببٌ في تكثير حالات النزاع والمخاصمات. فالثقافة التي تريد أثناء الحوار فرض نفسها على الآخرين، وتريد مواجهتهم في نطاق هذا الموضوع (المسند ـ الباب)، تجعل حالة امتناع الحوار أكبر ممّا هي عليه في الحالة العادية. الحوار السياسي بين الساسة يكون ميسّراً حين يكون أطراف الحوار من طبقة العلماء والمفكّرين. فرعاية حقوق وإمكانات الأطراف المشاركة في الحوار، وكذلك استشعار الحاجة المتبادلة بين كلّ الأطراف، والاعتراف المتبادل بالآخر، من المتطلّبات الضرورية للحوار([73]).

يقول نوميرغ: إن روبرت كابلان في سفره إلى أفريقيا قد حمل صورة عن الأوضاع المزرية التي تعيشها هذه القارّة، من موتٍ وجوعٍ وفقدانٍ لكلّ مقوّمات الحياة السليمة، لكنّ تآمر أمريكا والغرب المستعمر على مقدّرات هذه القارة جعلهم يغمضون أعينهم عن هذه الصورة، ويصمّون آذانهم عن سماع أصوات أنينها([74]).

11ـ الحوار بين طرفين لا يلتقيان على أسس من الإحساس بالمسؤولية المتبادلة غير ممكن. فالطرفان لا بُدَّ أن يستشعرا بشكلٍ فعليّ الحاجة إلى العيش المشترك، والرغبة المشتركة في بعضهما البعض. فالغرب إذا كان فعلاً يرغب في الحوار عليه أن يعترف بأخطائه في حقّ الشعوب المستضعفة، ويتحمل مسؤوليته كاملةً. في أغلب الأوقات يكون النقاش منصبّاً على الإسلام السياسي، من دون أن يسمح لممثِّليه بالحضور لعَرْض وجهات نظرهم، والدفاع عنها، بل كثيراً ما يتمّ طرح الإسلام على أنه وراء كلّ أزمات العالم، وسببٌ في كلّ المشكلات، وأن الإسلام يهدِّد أمن العالم([75]).

قال فهمي هويدي، وبنظرةٍ تشاؤمية لحوار الحضارات والثقافات: لا الغرب في حاجة إلى حوار الحضارات، ولا المسلمون مستعدّون لهذا الحوار. «ويعتقد أن الحوار هدفٌ سامٍ، لكنّ الغرب دائم الإنكار لوجود حضارات أخرى غير حضارته، لذلك فاستعمالهم لمصطلح الحوار لا يخلو من الغموض والمؤامرة. فالغرب ليست له ذهنية إسلامية، لذلك لن يقبل بالحوار بهذه البساطة؛ لأنه في غير حاجةٍ إليه»([76]).

حوار الحضارات يستند إلى النظرة المتفائلة، وإلى العقلانية. وكما أن أوروبا قد استفادت من موضوع «صراع الحضارات» لتنفصل بشكلٍ كامل عن أمريكا يمكن أن يكون الاستكبار وأصحاب القوّة يقبلون بموضوع «حوار الحضارات»؛ لأنهم يرَوْن أنفسهم، سواء في الحوار أو الصراع، هم الأقوى. لكنْ إذا طرحنا موضوع «الحوار»، وتقدَّمنا بشكلٍ عملي في موضوع الحوار، فعلينا حينها أن نلتزم بملحقاته ولوازمه.

12ـ في ما يخصّ أهداف الحوار لا يجب أن ينظر إلى الموضوع بنظرةٍ مثالية، فيجب على أطراف حوار الحضارات أن تنظر إلى الأمور بما هي عليه في الواقع، وفي حدّ الممكن، ويحتمل أن تقع أطراف الحوار في حالةٍ من الاختلاف وتضادّ الأفكار. فإذا كان الغرض من عملية حوار الحضارة هو الوصول إلى صورةٍ مثالية، وإلى اليوتوبيا، فإن هذه النظرة حقيقةً بعيدةٌ كلّ البعد عن الواقع([77]). فتوقُّعُ الوصول إلى المجتمع الدولي أو المدينة الفاضلة، أو أن ترفع الدولة يدها عن المصالح الوطنية، أمرٌ غير واقعيّ.

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) أستاذٌ مشرف في جامعة المفيد في إيران.

([1]) ريشارد نيكسون، لا تترك الفرصة تضيع: 21، ترجمه إلى الفارسية: محمود حدادي، طهران، اطلاعات، 1371.

([2]) زبيغنيو بريجنسكي، شكست بزرگ: 8 ـ 44، سيروس سعيدي، طهران، اطلاعات، 1369.

([3]) ريشارد نيكسون، المصدر السابق: 113 ـ 115.

([4]) المصدر السابق: 121 ـ 122.

([5]) كلية المعلوميات، النظام الجديد، شركة نشر وتبليغ، 1371: 4 ـ 14.

([6]) عزت الله سحابي، «نظم نوين جهاني ومسائل كشورهاي جنوب»، كتاب توسعه، العدد 5.

([7]) برجنسكي، المصدر السابق: 49

([8]) المصدر السابق: 119.

([9]) المصدر السابق: 336.

([10]) المصدر السابق: 305 ـ 323.

([11]) كلية الإعلاميات، النظام الجديد: 20، طهران، شركة النشر والتبليغ، 1371.

([12]) يرجى الرجوع إلى الصفحة 9 لمعرفة تعريف جوزف ناي لنظرية «النظام العالمي الجديد».

([13]) كلية الإعلاميات، المصدر السابق: 32 ـ 34.

([14]) The challenge to the South London: Oxford University Press 1990.

([15]) كلية الإعلاميات، المصدر السابق: 67 ـ 81.

([16]) المصدر السابق: 134، 206.

([17]) المصدر السابق: 147، 211.

([18]) المصدر السابق: 206.

([19]) على سبيل المثال: أندرسن، «اللانظام العالمي الجديد»، ترجمة: سياوش مريدي، اطلاعات سياسي ـ اقتصادي، العددان 75 ـ 76: 54 ـ 59 (آذر ودي 1372هـ.ش).

([20]) بل كندي، استعداداً للقرن الواحد والعشرون: 371، ترجمة: عباس مخبر، طهران، صهبا، 1372.

([21]) مجتبى أميري (مترجم)، نظرية صراع الحضارات ومنتقدوها: 22 ـ 23، طهران، مكتب الدراسات السياسية والدولية، 1374.

([22]) علي بيگديلي، ريشه يابي نظريه برخورد تمدنها: 325، السياسة الخارجية، عدد صيف 1377.

([23]) أميري، المصدر السابق: 24 ـ 25.

([24]) غلام علي خوشرو، «گفتگويي تمدّن چيست؟» (مصدر فارسي): 325، مجلة السياسة الخارجية، صيف 1377، نقلاً عن:

Ali A Mazrui,Cultural Forces in World politics London 1990, p30.

([25]) المصدر نفسه، نقلاً عن:

Samuel P. Huntington. The clash of Civilizations and the Remarking of the word order, London 1997, P41.

([26]) أميري، المصدر السابق: 38.

([27]) مؤسسة وثائق الثورة الإسلامية، خلاصة مقالة «همايش چيستي گفتگويي تمدّنها»: 21، 28، 114.

([28]) صامويل هنتيغنتون، «رويارويي تمدّنها»، ترجمة: مجتبى أميري، الدراسات السياسية والاقتصادية، العددان 69 ـ 70: 4 ـ 10 (خرداد وتير 1372هـ.ش).

([29]) المصدر نفسه.

([30]) محسن قانع بصري، «هانتينغتون، تغيير عقيده داده ام»، مجلة الفكر الجديد، العدد 1: 7.

([31]) الإسلام والغرب، العددان 5 ـ 6: 112 (دي وبهمن 1376هـ.ش).

([32]) مجيد يونسيان، (نظرية هنتينغتون، مزيج بين اليوتوبيا والواقع)، مجلة إسلام وغرب، العددان 10 ـ 11 (خرداد وتير 1377هـ.ش).

([33]) أميري، نظرية صراع الحضارات ومنتقدوها: 35.

([34]) بيدرو برايغر، «نحو صراع الحضارات»، ترجمه إلى الفارسية: منير سادات مادرشاهي، السياسة الخارجية: 376 ـ 387، صيف 1377.

([35]) محمد علي إسلامي ندوشن، «كدام رويارويي؟» (أي صراع؟)، مجلة المعلومات السياسو اقتصادية، العددان 75 ـ 76: 4 ـ 5 (آذر ودي 1372هـ.ش).

([36]) راجع: محمد جعفر بهداد، «دور الشباب في تزعّم حوار الحضارات»، جريدة كيهان (17/8/1377هـ.ش).

([37]) إسلامي ندوشن، المصدر نفسه.

([38]) هنتينغتون، المصدر السابق (مقدّمة المترجم).

([39]) الإسلام والغرب، العدد 9: 24 (أرديبهشت 1377هـ.ش).

([40]) هنتينغتون، المصدر نفسه.

([41]) هنتينغتون، المصدر نفسه.

([42]) جرنوت روتر، «الإسلام والغرب، موانع الحوار»، ترجمة: صالح الواصلي، نشرة الإسلام والغرب، العددان 14 ـ 15: 3 (مهر وآبان 1377هـ.ش).

([43]) المصدر السابق: 5.

([44]) أحمد شهسا، مقدّمة كتاب «الموجة الثالثة، الديموقراطية»، لهنتينغتون، طهران، روزنه، 1373.

([45]) هنتينغتون، المصدر نفسه.

([46]) مجتبى أميري، «نظرية صراع الحضارات من وجهة نظر النقّاد»، المعلومات السياسو اقتصادية، العددان 73 ـ 74: 36 ـ 44 (مهر وآبان).

([47]) المصدر نفسه.

([48]) المصدر نفسه.

([49]) المصدر نفسه.

([50]) أميري، نظرية صدام الحضارات ونقّادها: 207 ـ 211.

([51]) أميري، المصدر السابق: 144 ـ 145.

([52]) المصدر السابق: 223 ـ 225.

([53]) السيد حسين نصر، «صراع الحضارات وبناء مستقبل الإنسانية»، كلك، العدد 60.

([54]) السيد حسين نصر، «الإسلام والغرب، الأمس واليوم»، نشرة الإسلام والغرب، العددان 14 ـ 15: 12 ـ 17 (مهر وآبان 1377هـ.ش).

([55]) مهرزاد بروجردي، مثقفو إيران والغرب: 229، ترجمة: جمشيد شيرازي، طهران، فرزان، 1377.

([56]) عبد الواحد علواني، «جغرافيا المستقبل، صراع الحضارات البشرية»، ترجمة: حسين فيض اللهي، الإسلام والغرب، العددان 5 ـ 6: 76 (دي وبهمن 1376هـ.ش).

([57]) مقابلة السيد محمد خاتمي بتاريخ (24/9/1376هـ.ش).

([58]) مقابلة خاتمي مع CNN بتاريخ (18/11/1376هـ.ش).

([59]) سلام (14/8/1377هـ.ش). وللتعرّف على مواقف وآراء الشخصيات السياسية والعلمية والثقافية في طرح السيد خاتمي حول حوار الحضارات يتمّ الرجوع إلى: سلام (16/8/1377هـ.ش).

([60]) السيد محمد خاتمي، بيم موج: 171 ـ 176، طهران، مؤسسة سيماي جوان، 1372.

([61]) خاتمي، المصدر السابق: 176 ـ 180.

([62]) خاتمي، المصدر السابق: 180 ـ 193.

([63]) السيد محمد خاتمي، من عالم القرية إلى القرية العالمية: 286 ـ 293 (ملخّص)، طهران، الناشر ني، 1373.

([64]) خوشرو، المصدر السابق.

([65]) آفرينش (8/10/1377هـ.ش).

([66]) راجع: مجتبى أميري، «دور التواصل الحضاري في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية»، اطلاعات (3/10/1377هـ.ش).

([67]) سلام (27/8/1377هـ.ش).

([68]) زيبا فرزين نيا، «فعاليات حوار الحضارات في السياسة الخارجية الإيرانية»، السياسة الخارجية (صيف 1377هـ.ش).

([69]) وحيد توحيد، «حوار الحضارات ميثاق التصالح العالمي في القرن 21»، سلام (27/8/1377هـ.ش).

([70]) بهزاد، المصدر السابق.

([71]) محمد قراكزلو، «الاتحاد الحضاري، الصعود والهبوط»، خلاصة للمقالات المعروضة في ملتقى ماذا يعني حوار الحضارات؟ (22 ـ 23/9/1377هـ.ش): 18.

([72]) محمد علي دهقاني ومحمد رضا دهشيري، المصدر السابق: 40 ـ 41، 55 ـ 59.

([73]) هاشم آقاجري، المصدر السابق.

([74]) ميخائيل نامريط، «حرب الحضارات»، الإسلام والغرب، العددان 5 ـ 6: 102 (دي وبهمن 1376هـ.ش).

([75]) جان إسبوزيتو، «الإسلام السياسي والغرب، حوار الحضارات أو صراع الحضارات؟»، ترجمه إلى الفارسية: شهرام ترابي، السياسة الخارجية: 316 (صيف 1377هـ.ش).

([76]) فهمي هويدي، «حوار الثقافات»، ترجمه إلى الفارسية: پرويز شريفي، الإسلام والغرب، العدد 4: 42 ـ 49 (بتلخيصٍ) (آذر 1376هـ.ش).

([77]) أمير غريب عشقي، المصدر السابق.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً