أحدث المقالات

بين الفلسفة التحليلية وعلم أُصول الفقه

مقدمة

الهدف من هذه المقالة هو الإجابة عن تساؤل جوهري يقع ضمن نطاق فلسفة اللغة، وهو: هل يمكن تصنيف الأفعال اللسانية إلى مقولات ومفاهيم محدّدة، وتحميلها جميع الوظائف والمسؤوليات التي ينجزها الإنسان بواسطة اللغة؟ وإذا أردنا الوقوف على طبيعة السؤال ومدى أهميته لا مناص من الإشارة إلى بعض الملاحظات من باب التقديم الموضوع:

1ـ يمثّل الارتباط أو التواصل اللغوي أحد النشاطات المعقدة التي يؤدّيها الإنسان، حيث يتطلّب منه إبراز مهاراته اللغوية والقيام بممارسات مثيرة على الصعيد المعناتي (السيمنطيقي) والفلسفي، من قبيل: الإخبار والأمر والنهي وإعطاء الوعود وما إلى ذلك، والأمر المثير للدهشة هو أنّ ثمّة عناوين اجتماعية، مثل: الملكية والزوجية…، لا يمكن لها أن تحقّق وجوداً فعلياً ما لم تكن للإنسان قدرة على التواصل اللغوي والنشاطات الصادرة عنه، ومن البحوث المهمة التي طرحها الفلاسفة التحليليون (في القرن العشرين) هي دراسة الأفعال التي يؤدّيها الإنسان ضمن عملية التواصل اللغوي.

2ـ لقد استقطبت <الأفعال اللسانية>([1])، أو <الأفعال الكلامية>([2])، اهتمام التحليليين، ولاسيّما بعد صدور كتاب <أبحاث فلسفية> للفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين في عام 1953م، الذي يؤكّد فيه على أهمية النشاطات اللسانية، وذلك ضمن قراءة جديدة له عن اللغة وطبيعتها، فهو يرى أنّ الكلام هو نمط لنشاط اجتماعي منضبط يتعلّمه الإنسان خلال انخراطه في المجتمع، ويستخدمه كأداة للتعبير عن مقاصده وخلق التواصل ـ السلبي أو الإيجابي ـ مع الآخرين، ويستعرض فيتغنشتاين في الفقرة 23 من كتابه <أبحاث فلسفية> سلسلة من أفعال الكلام، من قبيل: الأمر والنهي والوصف والسؤال والجواب وغيرها، التي تخلق حالة التواصل اللساني بين البشر، وبعبارة أوضح: يرى فيتغنشتاين أنّ الكلام هو نمط من النشاط أو صورة لحياة([3]) معينة([4]).

3ـ لقد أثمر تأكيد فيتغنشتاين في كتاباته المتأخرة على أفعال الكلام ـ على الرغم من معارضته الشديدة لأي نوع من التنظير في هذا الخصوص ـ أثمر عن نظرية عامة في فلسفة اللغة، أسماها أوستن([5]) فيما بعد بنظرية أفعال الكلام([6]).

لقد احتضن أوستن هذه النظرية كنظرية فلسفية، وقام بشرح بعض عناصرها وأركانها ونتائجها، وذلك في كتابه how to do things with words <كيف تنجز الأشياء بالكلمات>، الذي صدر بعد وفاته، أي في عام 1962م، بعد ذلك جاء جون سيرل تلميذ أوستن([7])، الذي أصدر في عام 1969م كتابه الشهير <نظرية أفعال الكلام>، حيث قام بتطوير تلك النظرية وإثرائها، وأهم نقطة تتضمنها هي أنّ الكلام عبارة عن نشاط معقد محكوم بضوابط معينة، وهذا يتطلّب أن يكون فعل الكلام هو وحدة التواصل اللساني، وبعبارة أوضح: إنّ التواصل اللساني يتحقق حين يستخدم المتكلم علائم وإشارات لسانية خاصة لإنجاز فعل معين، ويفصّل سيرل هذه النقطة بقوله: يتطلّب أي تواصل لساني أفعالاً لسانية، ووحدة التواصل اللسانية ليست ـ كما كان يُعتقد ـ الإشارة أو المفردة أو الجملة، ولا حتى مصاديق الإشارة أو المفردة أو الجملة، بل إيجاد أو صدور العلامة أو المفردة أو الجملة لأداء أفعال الكلام، وهذه الأخيرة تمثّل الوحدة الأساسية أو أصغر وحدة للتواصل اللساني([8]).

طبقاً لنظرية أفعال الكلام فإنّ أيّ تحليل للغة والنشاطات اللسانية يستند إلى العناصر اللسانية والعلائم والإشارات فقط هو تحليل ناقص؛ إذ إنّ التحليل اللساني يجب أن يأخذ نقطة مهمة بنظر الاعتبار، وهي أنّ الكلام هو فعل قصدي من أفعال الإنسان، يتمّ عبر العلائم اللسانية، وفي تحليلنا للأفعال الكلامية يجب أن نركّز على عنصرين أصليين: العنصر الأول: قصد المتكلم؛ والثاني: الأداة التي استخدمها المتكلم لإظهار قصده، وكلا العنصرين يتبعان شروطاً خاصة، إن تحقّقت تحقّق الفعل الكلامي بصورة تامة.

4ـ عندما يطلق المتكلم جملة بهدف خلق تواصل لساني إنّما يؤدّي على الأقل ثلاثة أفعال مختلفة، وهي:

1ـ التلفظ بكلمات ذات معنى (جملاً ومورفيمات)، أي إنجاز فعل التلفظ (utterance act).

2ـ الحكاية والحمل، أي إنجاز فعل القضية (propositional act).

3ـ المحتوى (التقرير، الإنجاز..)، أي إنجاز فعل قوة التلفظ (illocutionary act).

ويمكن أن نمثّل للأفعال الثلاثة بما يلي:

أولاً: عندما ينطق المتكلم بجملة: <يطالع علي دروسه> فهو في الحقيقة ينطق بكلمات ذات معنى.

ثانياً: قد أناط بعلي المحمول، وهو (المطالعة)، بمعنى أنّه أنجز فعل الكلام (الحكاية والحمل)، بالإضافة إلى تبيينه أنّ علياً هو موضوع المحمول المذكور، بما يعني أنّه أنجز فعل الكلام (الحكاية).

ثالثاً: المتكلم عبر نطقه للجملة المذكورة قد أخبر عن مطالعة علي، أي أنجز فعل الكلام (التقرير أو الإخبار).

وهكذا نلحظ أنّ المتكلم قد أدّى ثلاثة أنماط فعلية عبر جملة (يطالع علي دروسه)، ونعتقد أنّ القضية واضحة، ولا توجد مشكلة حتى الآن، لكن المشكلة في تبيين علاقة الأفعال الثلاثة ببعضها، وهو أمر ليس باليسير، لذلك سنترك الأمر لنظرية أفعال الكلام لتقوم بهذه المهمة، حيث ستبيّن هذه الأفعال الثلاثة، وتوضّح طبيعة العلاقة التي تربطها، وكذلك الشروط والضوابط اللازمة لإنجازها.

الفعل الأتمّ في الأفعال الثلاثة المذكورة هو <فعل قوة التلفظ>، أمّا الفعلان الآخران فهما من حيث المعنى يكتملان في الفعل المذكور، والواقع أنّ حلقة التواصل اللساني، أو بمعنى أوضح وأدقّ مقوّم الارتباط اللساني، هو فعل الكلام <فعل قوة التلفظ>([9]).

5ـ يتشكل فعل قوة التلفظ من عنصرين رئيسيين: الأول: محتوى قوة التلفظ؛ والثاني: المعنى القضوي، ومن البديهي أن يكون ثمّة معنى مستترٌ في كل جملة قصدية للمتكلم، وعلى سبيل المثال: في العبارة السابقة (يطالع علي دروسه) نلاحظ أنّ المتكلم يريد الإخبار عن مطالعة علي، فيكون المعنى المستتر في الجملة هو الإخبار أو التقرير، وإنّ لكل جملة ـ يقيناً ـ محتوى يحمل ذلك المعنى المستتر، ونعود إلى المثال فنقول: حيث إنّ المعنى هو التقرير أو الإخبار، ومحتوى هذا التقرير هو مطالعة علي، ويمكن توضيح تركيبة فعل قوة التلفظ من خلال الشكل التالي:

فعل قوة التلفظ

(الفعل الدلالي)

المحتوى القضوي         محتوى قوة التلفظ

     فعل الحكاية                 فعل الحمل

نستنتج من الملاحظات السابقة نقاطاً عدّة، أهمها:

أـ إن فعل الكلام بحسب التحليل هو الوحدة الأساسية في اللغة.

ب ـ تحليل أنواع أفعال الكلام التي تصدر عن المتكلم أثناء الكلام يقودنا إلى أنّ فعل قوة التلفظ هو الفعل الكلامي التام.

ج ـ إنّ تحليل تركيبة فعل قوة التلفظ يشير إلى أنّ العنصر الرئيسي في الارتباط اللساني هو محتوى قوة التلفظ.

وحين نتساءل عن تصنيف الأفعال اللسانية فإنّ السؤال ـ في الواقع ـ عن أنواع أفعال قوة التلفظ، وليس أنواع الأفعال الكلامية، إنّ تركيبة فعل قوة التلفظ ـ وكما هو واضح أعلاه ـ تتألف من عنصرين رئيسيين: العنصر الأول: المحتوى القضوي (الحمل والحكاية)؛ والعنصر الثاني: محتوى قوة التلفظ، ويمكن لمحتوى القضية أن يكون متشعباً ومتنوعاً دون أن تحكم هذا التشعب والتعدد قواعد أو ضوابط معينة، وحتى لو كانت ثمة قواعد فهي لا تنطوي على أهمية من الناحية الفلسفية أو من منظار تحليل الأفعال الكلامية، وما يهمّنا في هذا التحليل قدر تعلّق الأمر بتصنيف الأفعال اللسانية هو العنصر الثاني، أي المعنى أو القوة المستتر في الكلام، ولهذا فإنّ السؤال عن أنواع الأفعال اللسانية يندرج في الحقيقة ضمن هذا التساؤل الرئيسي: ما هي أنواع المعاني أو القوة المستترة في التلفظ؟

هذه الملاحظات([10]) تمهّد لفهم أفضل وأدقّ للسؤال الذي طرحناه في بداية المقالة، ولا بأس من أن نطرح بعض الأسئلة في هذا المضمار، من قبيل: ما هي وجوه استعمالاتنا للغة؟ ما هي المعايير التي نستند إليها في تصنيفنا للجمل، فهذه تحمل وعداً، وتلك تنبئ عن إخبار، وأخرى تصدر أمراً؟ هل يمكن اعتبار محتوى أو محتويات قوة التلفظ هي الأصل والبقية فروع تتفرع عنها؟

للإجابة عن هذه الأسئلة ـ المتعددة الظواهر والمتحدة الجوهر ـ طُرحت العديد من الآراء والنظريات، ارتأينا الوقوف عند بعضها.

نظرية فتغنشتاين، مقولة اللاتناهي

في كتابه <أبحاث فلسفية> يقول فتغنشتاين: ما هي أنواع الجمل؟… توجد أنواع لا تحصى من الجمل؛ ثمّة أنواع كثيرة ومختلفة ممّا نطلق عليها <العلائم> و<المصطلحات> و<الجمل>([11]).

يستند فتغنشتاين في نظريته هذه إلى رؤية خاصة، أفصح عنها في كتابه (أبحاث فلسفية)، وتتعلق باللغة وحقيقتها، فقد اعتبر فتغنشتاين في <رسالة منطقية ـ فلسفية> أنّ اللغة لها وجه واحد ذو معنى، وبحسب هذه النظرية فإنّه على الرغم من محدودية المفردات لكن القضايا والأقوال غير محدودة، أما من ناحية المحتوى والمعنى فإنّ اللغة هي تجسيد للواقع، ونحن بإمكاننا التحدّث عن اللغة التي تصوّر الوقائع فحسب([12])، فيستنتج فتغنشتاين من هذا التحليل وحدة تركيب اللغة والواقع، وأنّ على الفيلسوف التركيز على الوجه المعنائي والواقعي للغة, هذا الوجه الذي يصوّر الواقع ويجسّده.

وطبقاً لهذه النظرية فإنّ قصد المتكلم وطريقة استعمال اللغة لا يلعبان أي دور في تحليل الفيلسوف للغة، بل ينبغي عليه فقط ـ عبر تحليل القضايا المركبة والمعقدة ـ تبيين التركيبة المنطقية والواقعية للّغة، ويجب استمرار هذا التحليل حتى يصل الفيلسوف إلى الأقوال البسيطة، وهي الأقوال المؤلفة من أسماء منطقية، ولكلّ منها وجود محدّد ومعلوم في عالم الواقع.

إنّ نظرية فتغنشتاين في كتاباته المبكرة الخاصة باللغة ـ والتي يذكر راسل صراحة تأثّره بها، وذلك في مقدمة كتابه الذرية المنطقية ـ تحوي عناصر معرفية ووجودية كثيرة ومتعددة، كان قد توصّل إلى الكثير منها راسل في كتابه (الذرية المنطقية)، وكذلك الوضعيون المنطقيون، وذلك في إطار التحليل المذكور.

القضية المهمة التي تمسّ هدفنا الحالي هي أنّ البحث عن أنواع النشاطات اللسانية وتنوع الصور اللسانية وتعدّدها ـ بلحاظ الأسس ـ قضية غير مطروحة في فلسفة راسل وفتغنشتاين المتقدم (في كتاباته المبكرة)، وحتى المرحلة الكلاسيكية للفلسفة التحليلية.

ولكن بعد التحوّل الذي طرأ على أفكار فتغنشتاين في كتابه (أبحاث فلسفية) لم يعد بالإمكان أن نعتبر اللغة جوهراً واحداً تجمع في ثناياها جميع الصور اللغوية، ويوضّح فتغنشتاين المتأخر فكرته بالاستعانة بما اصطلح عليه <ألعاب اللغة>([13])، ويرمي من هذه الاستعارة اللغوية التأكيد على قضيتين:

أـ اللغة كاللعبة، كلتاهما تصنفان كنشاط إنساني يتعلّمه الفرد في الوسط الاجتماعي.

ب ـ اللغة شأنها شأن الألعاب، تحكمها قواعد وقوانين مقومة، وبدونها لا يمكن لها أن تؤدي رسالتها الأصلية.

إذاً اللغة ـ طبقاً لهذا التحليل الجديد ـ ليس لها صورة محددة أو جوهر واحد، فلا حاجة لجوهر واحد يكون قوام جميع الاستعمالات والتطبيقات المختلفة للغة، فالاستعمالات اللغوية لا تعدو كونها مشابهة لبعضها ليس إلاّ، ويعبّر فتغنشتاين عن هذا الشبه بـ <التشابه العائلي>([14])، وتمثّل هذه النظرة إلى اللغة طفرة نوعية في الفلسفة التحليلية، وبالاعتماد عليها استطاع فتغنتشتاين صياغة نظريته الخاصة في المعنى، عرفت بـ <نظرية الاستعمال>([15])، وأهم ما يطرحه في نظريته هذه([16]) هو أنّه يطلب منّا أن ننظر إلى اللغة كأداة بيد المتكلم يعبّر بها عن مقاصده المتعددة والمتنوعة، ولأنّه لا يمكن حصر مقاصد المتكلمين؛ لكثرتها، فعليه لا يمكن رسم صورة محددة لها([17])؛ لأنّ ثمّة إمكانية دائماً لابتكار لعبة لغوية جديدة في كل لحظة، وممّا نحصل عليه من نظرية فتغنشتاين هو أنّه على الرغم من محدودية المفردات والجمل؛ باعتبارها أدوات لغوية، فإنّ تطبيقاتها غير محدودة ولا حصر لها.

تصنيف سيرل

يبدأ جون سيرل نظريته في تصنيف أفعال الكلام بتوجيه النقد لنظرية فتغنشتاين؛ إذ يعتقد (سيرل)([18]) بأنّه لم يحدث ولن يحدث أن صرّح أحدهم بوجود عدد لا حصر له من النظم الاقتصادية أو النظم السياسية، فلماذا علينا القبول بوضع استثنائي للّغة بين سائر مجالات الحياة الاجتماعية الإنسانية بأن نجعلها غير متناهية؟

لا يشك أحد في أنّ اللغة شأنها شأن بقية النشاطات الاجتماعية لها تصنيف خاص بها، ولكن من المهمّ أن نتمكن من إعطاء وصف دقيق لهذا التصنيف، وأن نبيّن الأُسس والمبادئ التي يقوم عليها، هنا يسعى سيرل إلى طرح ملاحظة مهمة قبل أن يدخل في استعراض تفاصيل تصنيفه المقترح والمعايير التي تضبطه، إنّه يعتقد([19]) بأنّ طريقته المقترحة في تصنيف الأفعال اللسانية هي طريقة تجريبية، بمعنى أنّه يمكن من خلال دراسة حالات استعمال اللغة وتحليل الكلام أن نتبيّن أنواع أفعال قوة التلفظ التي تمارسها اللغة، ويرى أنه من خلال رصد حالات استعمال اللغة تظهر لنا خمس أنماط رئيسية لفعل قوة التلفظ، وبالطبع ما نلاحظه في حالات الاستعمال هو بالضرورة له تفسير عقلاني ونظري، أعني أنّها لم تأتِ صدفة أو اعتباطاً، بل تستند إلى أنّ الذهن يمكن أن يعبّر عن الواقع من خلال الأنماط الخمسة المذكورة فحسب.

ويقصد سيرل بذلك:

أولاً: إنّ تصنيف الأفعال اللسانية يعتني بالمحتوى الذي تستبطنه العلائم اللسانية.

ثانياً: إنّ محتوى العلائم والأصوات ليس أمراً ذاتياً، بل إنّ الذهن هو الذي يفرض المعنى والمضمون على الأصوات والعلائم.

ثالثاً: لا يستطيع الذهن تصوير الواقع إلاّ عبر طرق محدّدة.

وبالنتيجة نتبيّن من مجموع هذه العوامل أنّ تحليل الذهن يكشف عن قصور اللغة وإمكاناتها المحدودة.

بعد هذا التوضيح نعود إلى سيرل لنتبيّن ردّه على السؤال الأصلي لهذه المقالة، وهو: ما هي أنواع أفعال قوة التلفظ؟ أو ما هي أنواع الأفعال اللسانية؟ قد يبدو للوهلة الأولى أنّه للإجابة عن هذا السؤال يكفي أن نحصي أفعال النحو المتعددة التي نستخدمها لإنجاز أفعال الكلام، من قبيل: الاعتذار والثناء والوعد والأمر وغيرها، لكنّ سيرل يرى([20]) أنّ هذه العملية أوسع من ذلك، وأنّها محيّرة ومعقدة، وأنّنا سنواجه عملياً عدداً لا يحصى من هذه الأفعال دون أن نتمكن من تصنيفها بصورة صحيحة، والحل هو في تحرّي أوجه الشبه المشتركة التي تجمع أفعال الكلام المختلفة، وهو ما يصطلح عليه سيرل بـ<هدف قوة التلفظ>([21])، أو فعل القصد، والذي يلعب دوراً في تصنيف فعل الكلام ضمن طبقة خاصة، فعلى سبيل المثال: عندما نصدر أمراً فهناك عوامل عدّة قد تقف وراء هذا الأمر، أو أنّه يصدر ضمن درجات مختلفة، وعليه فإنّ الأمر يكون أمراً عندما يتوافر على شروط معينة، ويتضمن هدف قوة التلفظ، وهو السعي لحمل المستمع على إنجاز أمر معين.

وهكذا هو الحال بالنسبة لفعل الوعد، فعندما يقول المتكلم: <أعدك بأن…> يترتب على ذلك التزام بأداء فعل معين، وإن كانت الدوافع مختلفة، وكذلك درجاتها.

ويقترن هدف قوة التلفظ بمفهومين آخرين، هما: <جهة المطابقة>([22])؛ و<الحالة القصدية>([23])، وهي في مجموعها تلعب دوراً رئيسياً في تصنيف أفعال الكلام.

والحقيقة أنّ هدف قوة التلفظ يقوم بتحديد جهة المطابقة لمحتوى الجملة المنطوقة، وكذلك تعيين الحالة القصدية والنفسية للمتكلم، ولأجل استيعاب فكرة سيرل من هذه المفاهيم نرى أن نقف قليلاً عند كل منها.

هناك نمط من الجمل يحاول المتكلم من خلاله مطابقة محتواها مع العالم، وفي البعض الآخر يحاول مطابقة العالم مع المفردات، فمثلاً: الجمل الوصفية والتقريرية والتوضيحية تنتمي إلى النمط الأول، بينما الجمل الاستفهامية والأمرية وأمثالهما هي من النمط الثاني، فمثلاً: جملة <يهطل المطر> عبارة تقريرية، يخبر المتكلم من خلالها عن واقعة خارجية ـ صادقة كانت أم كاذبة ـ، وبهذا الخبر يحاول مطابقة محتوى الجملة اللغوية المستخدمة مع العالم، بيد أنّه في جملة <اسقني الماء> ليس ثمّة واقعة غير إطلاق الجملة؛ إذ إنّ المتكلم في الحقيقة يحاول مطابقة العالم الخارجي مع عبارته التي أطلقها، ما يعني وجود إنجاز وإيجاد في هذه العملية، وعلاوة على جهة المطابقة، يقوم المتكلم عند إنجازه لفعل كلامي بإبراز حالاته النفسية وانفعالاته، وهو في الحقيقة يعبّر عن طريقة تعاطيه، وعن انطباعه إزاء محتوى القضية.

ولتقريب الفكرة نقول: من يريد إبراز أو ادعاء شيء معين عبر قضية ما يحاول من خلال تلك القضية والعبارة اللغوية إظهار إيمانه بمحتواها، فالذي يعد بشيء يبرز أو يعبّر عن حالته النفسية والمتمثلة في قصده أداء فعل الوعد، وهذه الحالة النفسية التي تبرز أثناء إنجاز فعل قوة التلفظ هي شرط الصدق([24]) لذلك الفعل([25]).

والسؤال عن تصنيف فعل قوة التلفظ وأنماطه المختلفة برأي سيرل([26]) هو سؤال عن أنماط وأهداف قوة التلفظ، وإذا أردنا في تصنيفنا للأفعال اللسانية اعتماد هدف قوة التلفظ والمفهومين الملازمين له، نعني جهة المطابقة وشرط الصدق، كأساس للتحليل سنتبيّن محدودية النشاطات اللسانية التي تنجز بواسطة اللغة، فهي منحصرة في عدّة طبقات معينة.

يقول سيرل: برأيي إنّ هذه العوامل الثلاثة ـ هدف قوة التلفظ أو فعل القصد، وجهة المطابقة، وشرط الصدق ـ مهمة للغاية، ولذلك أعتمد عليها كلية في تصنيفي([27]).

كما يعتقد سيرل أنّ توخي الدقة في تحديد مفهوم فعل القصد والمفاهيم الملازمة له سينتج لنا خمسة أنماط للفعل القصدي، وبالنتيجة هناك خمسة طبقات من أفعال الكلام نستعرضها أدناه:

1ـ أفعال تمثيلية (assertive): وهي الأفعال التي تلزم المتكلم بصدق القضية المعبر عنها، وهذا النمط من القضايا يعكس واقع الأشياء في العالم، ومن أمثلتها: أفعال التقرير والاستنتاج والتوضيح والتصنيف وأمثال ذلك، وتكون جهة مطابقتها من الكلمة إلى العالم <word to world>، بمعنى أنّ المتكلم يريد الإخبار عن واقعة معينة وتقريرها، وشرط صدقها هو دائماً إيمانه بمحتواها، كأن يقول أحدهم: <يهطل المطر>، فهو يعبّر عن حالة نفسية تعتمل في داخله، وتتمثّل في إيمانه بهطول المطر، وأفضل طريق إلى أنّ تبيّن هذه الطبقة هو في اختبار مدى صدق وكذب نتاجها.

2ـ أفعال توجيهية (directives): وهي الأفعال التي تمثل محاولات المتكلم لتوجيه المستمع ليمتثل لمحتوى كلامه، ومن أمثلتها: أفعال الطلب والسؤال والأوامر وهكذا، وجهة المطابقة في هذه القضايا هي من العالم إلى الكلمة <world to word>، وهذا يعني أنّها إيجادية؛ وذلك لأنّ المتكلم يطلب من مستمعه أن ينجز محتوى كلامه في الخارج، وتتجسد الحالة النفسية للمتكلم في هذه القضايا في رغبته المبنية على وجوب إنجاز المستمع للفعل المطلوب، ولهذه الرغبة درجات ومراتب مختلفة، تتأرجح بين الدعوة إلى إنجاز الفعل والاقتراح وبين الإلزام والإصرار على إنجازه، وحتى العبارات الاستفهامية لها موقع في هذه الطبقة، ولا يتعاور هذا النوع من القضايا الصدق والكذب، بل إنّها تدخل في مجال الالتزام والوفاء بالعمل أو النكوص عنه.

3ـ أفعال التزامية (commisives): وهي الأفعال التي تلزم المتكلم بالنهوض بسلسلة من الأفعال المستقبلية (بدرجات متباينة)، ومن أمثلتها: أفعال العرض والوعد والوعيد والقسم والنذر، وجهة المطابقة لهذه الطبقة هي مطابقة العالم للكلمة <world to word>، والحالة النفسية التي يبرزها المتكلم عند تبيينه لهذا النوع من القضايا هي القصد.

ويتّضح مما تقدم أنّ جهة المطابقة في الأفعال الالتزامية والأفعال التوجيهية واحدة، ويثير هذا تساؤلاً، وهو: ألا تشكل هذه الوحدة حافزاً لدمجهما في طبقة واحدة؟ ويجيب سيرل عن هذا السؤال بالقول([28]): لا يمكن دمجهما في طبقة واحدة، فعلى الرغم من أنّ جهة المطابقة ـ على سبيل المثال ـ في الكلام (الوعد) وفعل الكلام (الطلب) هو واحد، إلاّ أنّ الهدف والقصد الرئيسي من فعل الكلام (الوعد) تعهد المتكلم بإنجاز الفعل، وليس بالضرورة تحقيق هذا الإنجاز عملياً، في حين أنّ القصد المكنون في فعل الكلام (الطلب) هو حمل المستمع على إنجاز الفعل، ولا حديث هنا عن التعهد أو الالتزام بإنجاز الفعل، ولو أردنا درج الفعل (الوعد) وفعل (الطلب) في طبقة واحدة علينا أن نبرهن أنّ فعل (الوعد) هو من سنخ فعل الطلب، أو أن يُخضع فعل الطلب المستمع تحت طائلة الإلزام والتعهد، وبما أنّنا غير قادرين على إثبات أيّ من هذين الخيارين فالنتيجة هي أن يكون كل منهما في طبقة مستقلة عن الآخر.

4ـ أفعال تعبيرية (expressives): وهي الأفعال التي تعبر عن حالة نفسية للمتكلم، ومن أمثلتها: الشكر والاعتذار والترحيب والتهنئة والتعزية وأمثال هذه الأفعال، ويشار إلى أنه لا توجد جهة مطابقة في هذه الطبقة، فعندما يقول المتكلم: <أشكرك على تسديدك المبلغ> فهو لا يريد مطابقة العالم مع الكلمات، أو الكلمات مع العالم، سوى أنّه يسلّم بصدق القضية المعبّر عنها، وهو تسديد المبلغ، فهو يحاول فقط التعبير عن حالة نفسية خاصة حيال محتوى القضية المحددة والمسلّم بها.

5ـ أفعال إعلانية (declaratives): وهي الأفعال التي تحدث تغيرات فورية في نمط الأحداث العرفية، التي غالباً ما تعتمد على طقوس اجتماعية تتسم بالإطالة، ومن أمثلتها: أفعال الحرمان الكنسي وإعلان الحرب وطقوس التنصير والزواج وأفعال الطرد والإقالة من العمل، فمثلاً: عندما يعلن زعيم <أعلنت الحرب> فهو يريد بهذا العمل إعلان القتال، وإعلانه هذا يغيّر الواقع ويفرض وضعاً جديداً، في حالة الإعلان هناك جهتان للمطابقة؛ فهو يقوم بتغيير العالم والواقع، فيكون أولاً مطابقة العالم للكلمة (world to word)؛ وثانياً إننا ننجز هذا الفعل عندما نقول أعلنت الحرب، فتكون هذه الحالة هي مطابقة الكلمة للعالم (word to world).

إنّ أفعال الإعلان تمتاز بالفرادة بين أفعال الكلام الأخرى لجهة أنّ الأداء الناجح لفعل الإعلان الكلامي هو بحدّ ذاته يعني التغيير وخلق حالة الأمر، فعلى سبيل المثال: إذا قال المتكلم، وطبقاً لقواعد وشروط إنجاز الصفقة: <بعتُ كتابي> فقد ظهرت حالة أمر لم تكن موجودة، بيد أنّ هذه الطبقة من أفعال الكلام ـ وكما نبّه سيرل([29]) ـ تتطلب سياقات غير لسانية إلى جانب السياق اللساني الذي يعتبر شرطاً ضرورياً لفعل الكلام الإعلان، ويصطلح سيرل على هذا السياق غير اللساني السياق العرفي المؤسساتي([30])، حتى يمكن لعبارة <بعت كتابي> أن تكتسب الواقعية والاعتبار، وكذا الأوراق الملونة الصغيرة في جيبي لتكون عملة ورقية، إذاً مع عدم اعتبار العقلاء في هذه الحالات لن يكتسب الفعل تحققاً وفعلية([31]).

دراسة وتحليل لتصنيف سيرل

1ـ أهم نقطة يمكن استخلاصها من تصنيف سيرل، وقد أكّد عليها مراراً، هي أنّ دائرة استخدام اللغة لإيجاد التواصل اللساني محدودة ومشروطة، حيث إنّنا نستطيع ممارسة النشاطات اللسانية ضمن الطبقات التي أشرنا إليها، والسبب في ذلك يعود إلى التحليل الذهني، حيث إنّ الذهن لا يستطيع إبراز الواقع إلاّ من خلال هذه الطرق.

2ـ إنّ المعيار في تصنيف أفعال الكلام ـ بحسب قاعدة سيرل ـ هو هدف فعل التلفظ (فعل القصد)، ذلك أنّه طبقاً لنظرية أفعال الكلام فإنّ قصد المتكلم يعدّ عنصراً محورياً في إنجاز الفعل اللساني، وعليه لا يمكن تصنيف أفعال الكلام بحسب صدقها وكذبها، أي جهة مطابقتها، كما كان يفعل الوضعيون المنطقيون؛ وذلك لأنّه على الرغم من أن جهة المطابقة لبعض الكلام واحدة لكن مع هذا لا يمكن درجها في طبقة واحدة كفعل الكلام الوعد والأمر، حيث إنّ جهة مطابقتهما هو إرادة المتكلم في مطابقة العالم مع الكلمة، ولكن لا شك أنّ الهدف وراء الوعد هو التزام المتكلم بتعهد ما، بينما في الأمر حمل المخاطب على إنجاز فعل معين.

ثانياً: إنّ بعض أفعال الكلام حيادية، أي لا تحمل جهة مطابقة، كفعل الكلام <الشكر> ليس له جهة مطابقة؛ لأنّ المتكلم في ثنائه لا يريد مطابقة الواقع مع كلامه، أو بالعكس، فهو يروم من خلال عبارة <أشكرك على إعطائك إيّاي المال> التعبير عن حالته النفسية تجاه فعل دفع المال المحرز صدقه.

ثالثاً: بعض أفعال الكلام لها وجهتا مطابقة، كالإعلانات، وعلى أيّة حال فإنّ جهة المطابقة بنظر سيرل هي ضرورة لهدف قوة التلفظ (الفعل القصدي)، لذا فإنّ المعيار الرئيسي في تصنيف الأفعال الكلامية هو قصد الفعل.

3ـ وكذلك ـ طبقاً لسيرل ـ ينبغي التمييز بين تصنيف الأفعال اللسانية وبين أنواع الأفعال اللسانية، فالأولى ترتبط بنوع واحد من جملة الأنواع العديدة للأفعال اللسانية. عند إطلاق عبارة معينة نؤدّي في العادة عدّة أفعال لسانية، أحدها: فعل قوة التلفظ الذي ينتمي إليه تصنيف الأفعال اللسانية، وكما أوضحنا سلفاً فإنّ تصنيف الأفعال اللسانية هو بمثابة تصنيف للمعنى المستتر في كلام المتكلم، لهذا لا شأن لنا في هذه الحالة مع أفعال الكلام الأخرى، مثل: الفعل التلفظي.

تصنيف الأفعال اللسانية في علم أصول الفقه الإسلامي

يحظى تصنيف الأفعال اللسانية في علم أصول الفقه الإسلامي بأهمية خاصة، حيث يرى علماء علم الأُصول أنّ أي فعل لساني يصدر عن المتكلم يصنّف إلزاماً ضمن إحدى الطبقتين الرئيسيتين: التقرير (الإخبار)؛ أو الإنجاز (الإنشاء)، من هذا الباب فإنّ تصنيف الأفعال التي يؤدّيها الإنسان بواسطة اللغة إلى تقريرية وإنجازية هو تصنيف قاطع([32]) وقطعي([33])، ومن أجل تسليط الضوء على هذا الموضوع، والتعرّف على آراء علماء الأُصول، ارتأينا الإشارة إلى عدّة نقاط:

1ـ على غرار علماء اللغة يعتبر الأُصوليون الجملة هي وحدة الارتباط اللسانية، وهي تنقسم إلى تامّة وناقصة، والجملة التامة بدورها تنقسم إلى تقريرية وإنجازية إنشائية، ويبتني الفهم الصحيح لهذا التقسيم على تحليل الجملة، فهي وحدة لسانية تتألف من جوهر وهيئة: الجوهر هو مفردات الجملة؛ والهيئة هي التركيب الذي يجمع تلك المفردات بعضها إلى البعض في نسق معيّن ليمنح توليفة المفردات دلالة ومعنى، ما كان للمفردات وحدها أن تكتسبهما، وطبقاً لهذا التحليل فإنّ هيئة الجملة هوية مستقلة عن هوية المفردات نفسها، وبحسب التوافق فإنّ هيئة الجملة تحمل هوية خاصة غير هوية المفردات.

أن تكون الجملة تامة أو ناقصة فهذا يعتمد على هيئتها، فالجملة الناقصة هي جملة لا تفيد مقصود المتكلم بشكل تام، فعندما ينطق المتكلم بجملة ناقصة يدفع هذا بالمستمع إلى انتظار تتمتها من المتكلم، ومن أمثلة الجملة الناقصة: <زهرة جميلة>، و<بيت علي>، وفي مقابل ذلك هناك الجمل التامة، وهي التي تستوفي مقصود المتكلم بشكل تام، وكما يظهر من التعريف المذكور فإنّ النقص والتمام ليس صفة للفظ، بل وصف للجملة ومحتواها.

يرى علماء علم الأُصول أنّ الجملة التامة تنقسم بالحصر العقلي إلى نمطين فقط: تقريرية؛ وإنجازية، ويمكن أن نتبيّن سبب هذا الحصر العقلي عندما نتبيّن حقيقة التقرير والإنجاز.

2ـ لا يبدو أنّ تقسيم الجملة إلى تامة وناقصة يشكّل هدفاً لمقالتنا هذه؛ ذلك أنّ وحدة الارتباط اللساني هي الفعل الذي ينجزه المتكلم، وليس الجملة أو المفردة بصورة مستقلة.

ولا شك أنّه متى استطاع المتكلم إنجاز فعل بواسطة الأدوات والعلائم اللسانية سيتقرّر التواصل اللغوي، والجملة الناقصة إنّما هي كذلك؛ لأنّ المتكلم لم يستطع إنجاز فعل تام، أو بمعنى آخر: إنّ التمايزات المعنائية للغة تعبّر عن نفسها في لغات خاصة بدرجة عميقة وبصورة متباينة ومتفاوتة، وهذا الأمر هو بالضبط ما حمل بعض علماء الأُصول أن يطرحوا موضوعين مستقلين لكنهما مترابطان يتعلّقان بالتقرير والإنجاز: الأول: بحث هيئة الجمل التقريرية والإنجازية وتباينها عن بعضها؛ والثاني: البحث في حقيقة التقرير والإنجاز، وتشخيص خصوصيات كل منهما، واختلافهما عن بعضهما، ومن المعلوم أنّ الموضوع الثاني يحظى بأولوية منطقية قياساً بالموضوع الأول، ونعني بذلك أنّ علينا أولاً مناقشة حقيقة التقرير والإنجاز، ثم بعد ذلك نتعرّف على التمايزات اللسانية، إننا في هذه المقالة معنيون بتبيين حقيقة التقرير والإنجاز من منظار فلسفي، أمّا دراسة الآثار والنتائج اللغوية لتصنيف الارتباط اللساني إلى تقريري وإنجازي على مستوى قواعد اللغات الخاصة فهو موضوع آخر لا مجال لبحثه هنا. وعلى أيّة حال وعلى الرغم من كون معظم علماء علم الأًصول لم يعملوا على فصل موضوع حقيقة التقرير والإنجاز عن بحث الجمل التقريرية والإنجازية، وتعاطوا معها كبحثين متداخلين، لكن مع ذلك فإنّ المنطق يقتضي فصلهما عن بعضهما، وأن نبحث أولاً معنى وحقيقة فعل التقرير والإنجاز، ثم ننتقل إلى توضيح ما إذا كان قد أخذ بعين الاعتبار التباين بين التقرير والإنجاز في مجال الوضع وعلى مستوى التمايزات اللغوية، وفي المرحلة الثالثة نوضّح الأسباب التي دعت علماء علم الأُصول إلى حصر الأفعال اللسانية في طبقتي التقرير والإنجاز.

حقيقة التقرير والإنجاز بين الخراساني والإصفهاني

لقد تباينت آراء علماء الأصول بشأن حقيقة التقرير والإنجاز والتباين في ما بينها، وقبل أن نستعرض أهم الآراء والنظريات في هذا المجال نرى ضرورة التنويه إلى نقطة مهمة وهي أنّ التقرير والإنجاز كلاهما أفعال قصدية، أي كما أنّ التقرير فعل فإنّ الإنجاز كذلك، وبنفس المقدار، وبصورة عامة فإنّ أيّ ارتباط لساني يعتبر فعلاً، وقد تمّ شرح هذه المسألة بدقة ووضوح في نظرية أفعال الكلام التي أشرنا إليها سابقاً، كما جاء على ذكرها صراحة علماء الأصول أيضاً.

يقول المحقق الأصفهاني في رسالة الطلب والإرادة: التقرير والحكاية والإظهار والإعلان هي من الناحية العرفية أفعال إنشائية (إنجازية)، بمعنى أنّها لا تملك حقيقة غير حقيقتها، وأنّ احتمال الصدق والكذب هو ليس بلحاظ الإخبار (التقرير)، بل الموضوع له؛ ذلك لأنّ الجمل الخبرية لا تستعمل للإخبار، بل في معاني مفردات الجملة، والإخبار الفعلي هو الذي ينجزه المتكلم عبر النطق بجملة خبرية على سبيل الحكاية([34]).

كما يبيّن المحقق الأصفهاني صراحة في حاشية الكفاية([35]) أنّ التقرير والإنجاز هما من شؤون الاستعمال، والاستعمال هو فعل قصدي ينجزه المتكلم.

وفي موضوع الجملة التقريرية والجملة الإنجازية يقول المحقق الخوئي([36]): إنّ الحكاية في التقرير وإبراز الأمر النفساني في الإنجاز هما من الأُمور الإرادية والأفعال الإرادية للمتكلم.

لذلك لا يوجد خلاف بين علماء الأُصول في أنّ التقرير والإنجاز هما فعلان قصديان، بل الخلاف هو في توضيح التباين بين التقرير والإنجاز، وهذا الخلاف هو حول حقيقة التقرير والإنجاز، ويمكن تصنيف آراء علماء علم الأصول في هذا الباب إلى قسمين:

1ـ الإنجاز، وهو إيجاد المعنى بواسطة اللفظ في ذات الأمر، وهي النظرية التي يقول بها المحقق الخراساني في كتابه فوائد الأصول([37])، حيث يقول: اعلم أنّ الإنجاز الكلامي يقصد منه إيجاد المعنى في ذات الأمر، وليس إخباراً عن تحقق المعنى في الذهن أو خارجه، لهذا السبب لا يوصف الإنجاز بالصدق أو الكذب، بخلاف الخبر؛ ذلك لأنّ الخبر تثبيت وتقرير وإخبار عن ثبوت أمر هو ثابت في موطنه، لذلك لا يوصف بالصدق والكذب.

وهنا يدخل رأي المحقق الخراساني في دائرة النقاش والجدل، حيث يقوم تلميذه المحقق الأصفهاني بتوضيحه وتبيين حقيقته، فيقول: الفرق بين التقرير والإنجاز هو أنه أحياناً يكون قصد المتكلم الإخبار عن علاقة موجودة وواقعة في موطنها بواسطة لفظ يحلّ محلّها؛ وأحياناً أخرى يكون قصده إيجاد النسبة نفسها بواسطة لفظ يحلّ محلها، فمثلاً: جملة <بعت> إن كانت تقريرية أو إنجازية فمعناها واحد, وهو النسبة المتعلقة بالملكية، وإنّ هيئة <بعت> هو الوجود التنزيلي لهذه النسبة الإيجادية المرتبطة بالمتكلم والمتعلقة بالملكية.

بيد أنّه أحياناً يكون القصد وجود هذه النسبة في الخارج بواسطة الوجود التنزيلي اللفظي، إذاً في هذه الحالة لا شيء غير قصد الإيجاد بالعرض وبالذات، وهو الإنجاز.

وبالإضافة إلى قصد الثبوت التنزيلي للمعنى أحياناً يقصد الإخبار عن ثبوته في موطنه أيضاً، فيكون في هذه الحالة التقرير أو الإخبار، والاختلاف الذي نلمسه هو بسبب الاختلاف بين معاني التقرير والإنجاز، من هنا فإنّ استعمال الألفاظ المفردة في المعاني لا ينقض الاختلاف المذكور؛ ذلك أنّ استعمالها هو لجهة ثبوت المعاني في الخارج، وهي على غرار الأفعال الإنجازية، غير التامة طبعاً، حيث سكوت المخاطب غير صحيح، وذلك بخلاف المعاني الإنجازية التي تقابل المعاني التقريرية، هذه هي أفضل حالة يمكن تصورها في شرح حقيقة الإنجاز، وهو مقصود سيدنا العلامة الخراساني أيضاً([38]).

إذاً ـ طبقاً لرأي المحقق الأصفهاني وتفسيره لرأي المحقق الخراساني ـ فإنّ جميع العلائم اللسانية تكون ملازمة لمعانيها بسبب الارتباط الوضعي، بحيث إنّ المعنى ثابت في ذات اللفظ، ولا يقبل الانفكاك عنه في أية مرحلة من المراحل، وكما يقول المحقق الأصفهاني بأنّ اللفظ هو الوجود التنزيلي للمعنى، وعلى هذا الأساس ليس ثمّة تباين بين الألفاظ الإنجازية والتقريرية، إنّما التباين يكون في قصد المتكلم؛ فتارة يكون قصده إثبات النسبة بين شيئين بواسطة العلائم اللسانية؛ وتارة أخرى يكون القصد الإخبار عن نسبة ـ صادقة كانت أم كاذبة ـ في الخارج بواسطة العلائم التي تستعمل لمعانيها، لذلك إذا أراد المتكلم التعبير عن قصده باستخدام علائم لسانية تصلح للإنجاز والتقرير في آن معاً فإنّ التقابل بين الإنجاز والتقرير يكون في نمط العدم والملكة، ولكن إذا استخدم ألفاظاً وعلائم تصلح للتقرير وحده أو الإنجاز وحده ـ بحسب الوضع ـ فإنّ التقابل بين الإنجاز والتقرير في هذه الحالة سيكون من نمط السلب والإيجاب([39]).

وفي هذا السياق يبدي علماء الأُصول([40]) شكوكاً في التفسير الذي قدّمه المحقق الأصفهاني لكلام المحقق الخراساني، بل اعتبر بعضهم([41]) أنّ رأي المحقق الأصفهاني مغاير لرأي المحقق الخراساني. ومع ذلك يبدو أنّ رأي المحقق الأصفهاني هو نفسه رأي المحقق الخراساني مع اختلاف بسيط، وهو أنّ المتكلم إذا عبّر عن قصده باستخدام ألفاظ وعلائم يشترك فيها الإخبار (التقرير) والإنشاء (الإنجاز) معاً، فإنّ التباين بين التقرير والإنجاز يكون في مرحلة الاستعمال وقصد المتكلم، أمّا إذا استخدم المتكلم ألفاظاً وعلائم تختصّ بالتقرير وحده أو الإنجاز وحده، للتعبير عن مقاصده، فإنّ التفاوت بينهما، علاوة على مرحلة الاستعمال، سيكون في الموضوع له أيضاً، والنتيجة هي أنّ المحقق الخراساني لم يميّز يفصل بين العلائم اللسانية الخاصة بالإنجاز والتقرير وبين العلائم المشتركة، بينما فعل ذلك المحقق الأصفهاني.

وفي جميع الأحوال، وبحسب الرأي الأول، فإنّ تصنيف الأفعال اللسانية إلى إنجازية وتقريرية يرتبط بقصد المتكلم، ولا علاقة له بالمستوى اللغوي والدلالة التصورية.

2ـ إنّ التباين بين الإنجاز والتقرير لا يتعلق بمرحلة الاستعمال وقصد المتكلم، بل إنّها قضية لغوية سيمنطيقية ترتبط بمرحلة الوضع والمعنى اللغوي؛ وذلك لأنّ الجملة التقريرية إنّما وضعت للتعبير عن نسبة تامة، أما الجملة الإنجازية فقد وضعت للتعبير عن نسبة تامة يراد تحقيقها.

نظرية السيد محمد باقر الصدر

والواقع أنّ هذا هو رأي الشهيد الصدر أيضاً([42])، ولو شئنا مزيداً من التفصيل عن رأيه، نقول: إنّ الجمل التقريرية وضعت للربط والنسبة بين طرفين يتصادقان على بعضهما في الخارج، والنسبة المذكورة هي نسبة ذهنية، وليست خارجية؛ لأنها لو كانت نسبة خارجية لافترض ذلك وجود طرفين متغايرين في الخارج، في حين أنّه لا يوجد خارج الذهن سوى طرف واحد يمثل مصداق الموضوع ومصداق المحمول في آن واحد، وتأسيساً على هذا فإنّ جملة <علي العالم> لها نسبة في صقع الذهن، طرفاها متغايران، وهما علي والعالم، والجملة التي تدلل على هذه النسبة هي جملة تامة.

أما الجمل الإنجازية فهي على نوعين:

أـ جمل خاصة بالإنجاز، مثل: صيغة الفعل الأمر والنهي والجمل الاستفهامية والتمني والرجاء وهكذا.

ب ـ جمل يشترك فيها الإنجاز والتقرير، مثل: <اشتريت>، <بعت>، وغيرها.

وفي النوع الأول يكون مدلول الجمل الإنشائية هو النسبة بين طرفين، وإنّ أدوات الاستفهام والتمنّي أو صيغة افعل متمِّمة لهذه النسبة.

ويشرح الشهيد الصدر فكرته هذه بقوله:

إنّ النسبة بين <علي> و<العالم> (في جملة: <علي العالم>) ليس لها ركنان فحسب، بل لابد من ركن ثالث لهما لا محالة؛ لأنّه لا معنى للنسبة التصادقية إلاّ في إطار وعاء يكون فيه التصادق، أي إنّ الذهن يتصوّر <علي> و<العالم> متصادقين على شيء في عالم من العوالم خارج الذهن، وهذا العالم في الجملة التقريرية هو عالم التحقق والثبوت، ويدل عليه تجرّد الجملة عن تحمل الجملة التقريرية دلالة على عالم التحقق والثبوت دون حاجة إلى أية علاقة خاصة، ولعله يوجد بإزائه دال مستقل في بعض اللغات الأخرى، وفي الجمل الاستفهامية هو عالم الاستفهام أو السؤال، ويدل عليه أداة الاستفهام، وفي جملة التمنّي عالم التمنّي، ويدلّ عليه أداة التمنّي، وهكذا، ويكون المعنى في الجملة الخبرية تصادق المفهومين في وعاء التحقق، وفي الجملة الاستفهامية تصادقهما في وعاء الاستفهام، وفي جمل التمنّي في وعاء التمنّي، وهكذا، وليس المقصود من هذا الطرف الثالث وجود مفهوم اسمي ثالث للنسبة التصادقية على حدّ مفهوم علي والعالم، بل وجود ركن ثالث لقوام النسبة التصادقية؛ وذلك لأنّ مفهوم (علي) و(العالم) يحتاجان إلى وعاء يصدق بلحاظه المفهومان، وإن شئت قلت: إنّ النسبة التصادقية بين مفهومين لها حصص وأفراد عديدون: إحداهما: النسبة التصادقية بلحاظ وعاء التحقق؛ والأخرى: التصادق في عالم السؤال والاستفهام؛ والثالثة في عالم التمنّي، وهكذا، وتعيين إحدى هذه الحصص تكون بالأداة الداخلة على الجملة، أو بمجردها عن كل أداة، كما في الجملة الخبرية([43]).

وطبقاً لرأي الشهيد الصدر فإنّ التفاوت بين الجملة الإنجازية والجملة التقريرية هو في مداليلهما التصورية، وهي مرتبطة بعالم الوضع والعقد، وليس بقصد المتكلم؛ وذلك لأنّ الجملة الخبرية وضعت للنسبة بين طرفين يتصادقان في عالم الفعلية والتحقق.

وقد تحصّل مما ذكرناه أنّ الفرق بين الجملة المختصة بالإنشاء والجمل الخبرية ينشأ من المدلول التصوري الوضعي، ولا علاقة له بذاتها؛ لأنها تختلف عن الجملة الخبرية في الوعاء الملحوظ فيه تصادق المفهومين لكيفية النسبة التصادقية، وأنّ المتبادر من الجملة الاستفهامية هو النسبة الاستفهامية، في حين أنّ الطرفين في عالم الاستفهام نسبة تصادقية، حتى وإن صدرت الجملة الاستفهامية من النائم الذي لا يملك قصداً أو إرادة.

والرأيان اللذان ذكرا يعبّران عن اتجاهين رئيسيين في علم أُصول الفقه.

دراسة وتحليل لآراء علماء أُصول الفقه في التقرير والإنجاز

1ـ من خلال متابعة آراء علماء الأصول الفقه في حقيقة الإنجاز والتقرير نتبيّن إمكانية تصنيفهما ضمن اتجاهين رئيسيين، هما:

أـ اتجاه ينظر إلى الإنجاز والتقرير على أنّهما يتعلقان بمرحلة الدلالة التصديقية وقصد المتكلم، وليس إلى مرحلة الدلالة التصورية، ومن القائلين بهذا الاتجاه أعلام كبار، مثل: المحقق الخراساني، والمحقق الأصفهاني، والمحقق العراقي، والمحقق الخوئي.

ب ـ اتجاه يرى الفرق بين الإنجاز والتقرير يرتبط بمرحلة الدلالة التصورية ومقام الوضع، وليس قصد المتكلم، وأبرز المؤمنين بهذا الاتجاه الشهيد الصدر، وبديهي أنّ داخل كل من الاتجاهين المذكورين اختلافات جزئية حول التفاصيل، ليس لها تأثير يذكر على هدفنا الرئيسي.

وفي سطور لاحقة سنعرض لرأي واحد من كل اتجاه من الاتجاهين المذكورين أعلاه.

2ـ من أجل توضيح الاختلاف بين آراء هذين الاتجاهين، وتبيين النتائج المترتبة عليه، نرى ضرورة الإشارة إلى ملاحظة مهمة، وهي أنّه من البديهي أنّ الألفاظ ترتبط بمعانيها بعلاقة خاصة، بحيث إننا عندما نسمع أو نتصور لفظاً معيناً يتبادر إلى ذهننا معناه، ويصطلح على انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى بالدلالة، أما كيفية نشوء العلاقة بين اللفظ والمعنى فهو موضوع لبحث آخر، يسمى بحث الوضع، تناوله علماء الأُصول بالتفصيل.

أما بحثنا الحالي، وهو دلالة اللفظ على المعنى، فله مرحلتان:

أـ الدلالة التصورية أو اللغوية (السيمنطيقية): تنشأ الدلالية التصورية أو اللغوية عن وضع لفظ لمعنى معين لا ينفك عنه أبداً، والميزة المهمة لهذه الدلالة هي أنه كلما سمع المستمع ذلك اللفظ انتقل ذهنه إلى معناه، سواء أكان اللافظ قاصداً أم كان نائماً وصدر عنه اللفظ لا إرادياً، أو حتى أن يكون اللفظ صوت مداعبة الريح لأوراق الشجر، لذلك فإنّ الدلالة التصورية تنشأ بمجرد إطلاق اللفظ، قصد اللافظ من ورائه معنىً أم لم يقصد.

ب ـ الدلالة التصديقية: وهي دلالة على قصد المتكلم، في هذه المرحلة يكون القصد هو المهم، طبعاً يجب على المتكلم أن يبين قصده من خلال علائم لها صلاحية إبراز القصد.

ويمكن توضيح الاختلاف بين الدلالة التصورية والدلالة التصديقية بجلاء من خلال المثال التالي: عندما تصدر جملة <جاء علي> عن شخص يقظ يمتلك قصداً فهي تختلف ـ بلحاظ الدلالة ـ عنها حين تصدر عن شخص نائم أو غافل أو صوت مداعبة الريح لأوراق الشجر، ففي الحالة الأولى لا تتوقف الدلالة عند حدّ التصور، بل تحكي إرادة المتكلم وقصده، بينما في الحالة الثانية تكون الدلالة لغوية وتصورية بحتة.

وللدلالة التصديقية التي تكشف عن إرادة المتكلم شروط وقواعد معينة متباينة، ولكن ليس هذا هو هدفنا الأصلي، بل إنّ الذي يهمّنا هنا في هذا البحث هو اعتقاد بعض علماء الأُصول بأنّ اختلاف التقرير والإنجاز يقود إلى مرحلة الدلالة التصورية والوضع، بينما يعزو البعض الآخر هذا الاختلاف إلى مرحلة الدلالة التصديقية.

3ـ يعتقد علماء الأُصول، سواء الذين يعزون اختلاف التقرير والإنجاز إلى الدلالة التصورية أم أولئك الذين يعزونه إلى الدلالة التصديقية، أنّ تقسيم الجملة التامة إلى تقريرية وإنجازية هو تقسيم قطعي؛ لأنّ التقابل بين الإنجاز والتقرير في رأي معظم علماء الأُصول هو من نوع السلب والإيجاب، ولا يمكن تصور الواسطة بينهما أو أي فرض آخر (السلب والإيجاب)؛ إذ ليس هناك جملة لا توصف بالإنجاز أو التقرير بحسب غالبية علماء الأُصول. وبحسب ما اطّلع عليه كاتب هذه السطور فإنّ هؤلاء العلماء يرون تقسيم الأفعال اللسانية إلى تقريرية وإنجازية وانحصارها في هذين النمطين أمراً مسلّماً وأكيداً، ولكن دون أن يقيموا الدليل على ذلك، ولعلّه يمكن استعراض الأسباب التي ساقوها لهذا التقسيم عبر التوضيح التالي:

يعتقد الذي يعزون اختلاف التقرير والإنجاز إلى خصوصية أودعها الواضع في الموضوع له أو المعنى عند الوضع بعدم إمكانية لحاظ النسبة لأكثر من طرفين، أو أنّ الواضع يلحظ النسبة في واقع مستقل عن اللفظ وموجود في الخارج، أو أنه يلحظ النسبة في واقع ينشأ بواسطة اللفظ نفسه، وطبقاً لذلك فإنّه ليس عندنا سوى فئتين للأفعال اللسانية؛ لأنّ اللغة ـ وبحسب هذه النظرية ـ ليست سوى انعكاس للوقائع التي يمكن للإنسان فهمها، أو أنّ الواقع شيء مستقل عن اللغة وقابل للتحقيق في الخارج، والجمل التي تعكس هذا الوقائع هي جمل تقريرية، وما يفعله المتكلم إزاءها هو الإخبار، أو أنّ الواقع ليس له وجود مستقل عن اللغة بل يوجد بواسطتها، وهذا النوع من الجمل هو جمل إنجازية، والفعل الذي يؤديه المتكلم هو الإنجاز.

أما الذين لا يربطون الإنجاز والتقرير بالموضوع له والمعنى، بل بالدلالة التصديقية، ويرون أنها من خصوصيات الاستعمال، فلا يعتقدون أنّ اختلاف الإنجاز والتقرير يعود إلى ذات معنى كل منهم، بل إلى كيفية لحاظ المعنى في الاستعمال. إنّ باستطاعة المتكلم استخدام اللغة على نحوين: استخدام اللغة لبيان واقع مستقل في الخارج؛ أو استخدام اللغة لإيجاد واقع، والنتيجة هي أنّ الذي يظهر على صعيد اللغة في صورتيها الإنجازية والتقريرية يكشف عن حقيقة عقلية ترتبط بتحليلات الذهن وإدراكه، ولا يمكن لقوة الذهن والإدراك عند البشر أن تلحظ صورة أخرى غر الصورتين المذكورتين.

هذه ـ باختصار ـ آراء علماء الأُصول وبعض الفلاسفة التحليليين حول تصنيف الأفعال اللسانية، ونعتقد بأنها قد هيأت أرضية مناسبة لطرح بعض الملاحظات المقارنة.

بين الفلسفة التحليلية وأصول الفقه الإسلامي، مقارنة وتحليل

الملاحظات التالية هي أهم النقاط التي يمكن الخروج بها عند مقارنتنا بين آراء علماء الأُصول وآراء الفلاسفة التحليليين في ما يخصّ بتصنيف الأفعال اللسانية:

1ـ تصنيف الأفعال اللسانية يتبع تحليل آلية عمل الذهن في إبراز الواقع، وكما أشار سيرل([44]) فإننا بلحاظ الإثبات نركز أولاً على العبارات والجمل اللسانية وحالات استخدامها، إلا أننا إذا تأمّلنا جيداً وأمعنّا النظر سنجد أننا نؤدّي أنواعاً متعددة ومتباينة من الأعمال بواسطة اللغة بالاستعانة بقدرات الذهن في عرض الواقع، هذه الملاحظة هي موضع اتفاق علماء الأُصول والفلاسفة التحليليين معاً، وفي الواقع فإنّ اللغة والنطق من المواهب التي حظي بها الإنسان ليقوم من خلالها بالتعبير عما يختلج في داخله، وبهذه الطريقة يمارس نشاطات مختلفة، كالوصف والإخبار والسؤال والوعد وما شابه ذلك.

2ـ من المعلوم أنّ تصنيف الأفعال اللسانية ليس له أية علاقة بأفعال النحو المختلفة والجمل والألفاظ التي نستخدمها، وبالنسبة لموضوع التصنيف فإننا بصدد تبيين معايير التحليل للأفعال اللسانية التي نؤديها، مثل: الإخبار والوصف والسؤال والتمنّي والشكر وأفعال أخرى من هذا القبيل، وكذلك عدد الأفعال البنيوية التي يمكن أن تتحول إليها.

3ـ لقد دأب علماء الأُصول على إدراج بحث تصنيف أفعال الكلام ضمن بحث التقرير والإنجاز, وقالوا بصراحة بأنّ التقرير والإنجاز أفعال قصدية يؤدّيها الإنسان بواسطة اللغة.

لقد استعرضنا في هذه المقالة آراء ونظريات مختلفة لعلماء الأُصول في باب حقيقة التقرير والإنجاز، وبالتبع الجمل الإنجازية والتقريرية التي لها تأثير على تصنيف الأفعال الكلامية وحصر التصنيف في التقرير والإنجاز.

أما بالنسبة للفلاسفة التحليليين([45]) فقد تعاطوا مع موضوع تصنيف الأفعال اللسانية بصورة مستقلة، واضعين التقرير والإنجاز في طبقة أُخرى، وقد ناقشنا هنا أهم التصانيف التي طرحها الفلاسفة التحليليون على الإطلاق، وهو تصنيف سيرل.

4ـ طبقاً لآراء الفلاسفة التحليليين ـ وبشكل خاص سيرل ـ فإنّ التصنيف يجب أن يعنى بالعنصر الرئيسي في أداء الفعل اللساني، ونعني به قصد المتكلم، الذي يمكن إبرازه عبر خمسة طرق فقط، أو بعبارة أدق: يمكن للذهن تجسيد الواقع عبر اللغة بخمسة طرق. وتشكل هذه الملاحظة نقطة الخلاف الأصلية بين الفلاسفة التحليليين وعلماء الأُصول، حيث يرى الأُصوليون بأنّ تصنيف الأفعال التي يقوم المتكلم بإبرازها يجب أن تركز على طبيعة النسبة أو العلاقة التي يمكن للذهن فهمها في مقام عرضها للواقع، ولا شك في أنّ جوهر هذا التحليل قد طرحه سيرل من قبل كإطار نظري للتصنيف، لكن النتيجة التي توصّل إليها علماء الأُصول من تحليلهم هي أنّ النسبة والعلاقة التي تظهر من خلال الجملة تتحقق على نحوين فقط: الإنجاز؛ والتقرير.

إنّ الردّ الذي طرحه سيرل إزاء تقسيم الأفعال اللسانية إلى صنفين: إنجازية؛ وتقريرية، أو بتعبير آخر: إلى نوعين: نوع يحتمل الصدق والكذب؛ وآخر لا يحتمل، هو أنّ هذا التقسيم غير جامع، ودليله هو أنّ الفعل الكلامي الوعد والفعل الكلامي الطلب هما من صنف الإنجاز ضمن التصنيف الثنائي؛ لأنّهما يقومان بواسطة اللغة بإيجاد واقع، لكن مع ذلك لا يمكن تصنيفهما ضمن طبقة واحدة؛ لاختلاف قصد المتكلم وهدفه في كل منهما، فالقصد في أحدهما هو الالتزام بأداء الفعل، ولكن ليس بالضرورة أداؤه حتماً، وفي الثاني قصد المتكلم هو حثّ المخاطب على أداء الفعل، ولأنه لا يمكن تغيير أحدهما إلى الآخر فلا يمكن تصنيفهما ضمن طبقة واحدة.

ويمكن الردّ على الإشكال الذي طرحه سيرل بالقول: صحيح أنّ الأفعال الإنجازية تضمّ أفعالاً كلامية متباينة، كقصد المتكلم في فعل الكلام الوعد، وفعل الكلام الأمر، فهما متباينان، ولكن يندرجان في طبقة الإنجاز ضمن تصنيف أشمل وأوسع.

وبعبارة أخرى: يمكن وصف علاقة تصنيف سيرل بتصنيف علماء الأُصول كعلاقة الخاص بالعام، بمعنى أنّهما ليس في مقابل بعضهما؛ لأنّه يمكن درج التصنيف الخماسي لسيرل ضمن تصنيف أشمل، هو الإنجاز والتقرير، وسنترك تفصيل البحث في هذا الموضوع لمجال آخر أوسع.

الهوامش

(*) أستاذ مساعد في جامعة طهران، پرديس قم.

([1]) linguistic acts

([2]) speech acts

([3]) form of life

([4]) للاستزادة انظر: Stern, David G. Wittgenstein,s philosophical lnvestigations an introduction, Cambridge university press, 2004 glock, Hans, J. a Wittgenstein dictionary, Blackwell, 1996.

([5]) (1960-1911) gohn austin فيلسوف في اللغة وأستاذ كرسي الفلسفة الأخلاقية في جامعة أكسفورد.

([6]) speech act theory.

([7]) للاطلاع أكثر على نظرية أفعال الكلام، ودور أوستن في إعدادها وتنظيمها، انظر: محمد علي عبد اللهي، <نظرية أفعال الكلام>، في مجلة بحوث فلسفية ـ كلامية، وهي مجلة علمية متخصصة في البحوث الفلسفية تصدر عن جامعة قم، السنة السادسة، العدد 24، السنة 1384.

Austin, Jihn, L. how to do things with words with words, Oxford uniuetsity press, 1962.

([8]) جون سيرل، أفعال الكلام: 108، ترجمة: محمد علي عبد اللهي.

([9]) للاطلاع أكثر انظر: مقدمة كتاب <أفعال الكلام>، نفس المصدر السابق: 53 فما بعد.

([10]) للاطلاع أكثر على النقاط الخمس انظر: <أفعال الكلام>، نفس المصدر السابق، الفصل الثاني.

([11]) Wittgenstein, Ludwig, philosophical lnvestigations, Blackwell, 1953, paea. 23

([12]) Wittgenstein, Ludwig, Tractatus logico – philosophico, Routledge, 1922,4,02

([13]) linguistic games

([14]) family resemblance

([15]) use theory

([16]) Wittgenstein, Ludwig, Philosophical lnvestigations, Blackwell, 1922,para. 569

([17]) للاطلاع أكثر على الآراء الجديدة لفتغنشتاين حول اللغة، انظر: الفقرات 243ـ315 من كتاب أبحاث فلسفية، ولتوضيح هذه الفقرات انظر: Magin, Marie, Wittgenstein, Routldge, 1997, ch. 3-4.

([18]) Searle, John, Expression and Meaning, Cambrodge University Press. 1979, p. vii.

([19]) Ibid, p. vii.

([20]) Searle, John, Mind, Language and Society, Basic Books, 1998, p. 147.

([21]) illocutionary point

([22]) direction of Git

([23]) intentional state

([24]) sincerity condition

([25]) للاطلاع أكثر على شرط الصدق، انظر: سيرل، أفعال الكلام: 177.

([26]) Searle, John, Mind, Language and Society, Basic Books, 1998, p. 148.

([27]) Searle, John, Expression and Meaning, Canbridge University Press. 1979, p. 5.

([28]) Ibid, p. 14.

([29]) Searle, John, Mind, Language and Society, Basic Books, 1998, p. 150.

([30]) Institutional fact.

([31]) للاطلاع أكثر على الحقائق المؤسساتية، انظر: Searle, John, The Construction of Social Reality, New York: Free Press, 1995. Mind, Language and Society, Basic Books, 1998.

([32]) سيرل، أفعال الكلام: 162 ترجمة: محمد علي عبد اللهي، إصدارات مركز العلوم والثقافة الإسلامية، قم، 2006.

([33]) عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول (تقريرات أصول المحقق الروحاني) 1: 50، مطبعة أمير، الطبعة الأولى، 1413هـ.

([34]) محمد إسحق الفياض، محاضرات في أصول الفقه (تقريرات الأصول للمحقق الخوئي) 1: 84، إصدارات الإمام موسى الصدر، بلا تاريخ، وبلا محل الطبع.

([35]) محمد حسين الأصفهاني، بحوث في الأصول: 20، إصدارات رابطة المدرسين، قم، 1409هـ.

([36]) محمد حسين الأصفهاني، نهاية الدراية في شرح الكفاية: 29، إصدارات طباطبائي، قم، بلا تاريخ.

([37]) الفياض، نفس المصدر السابق: 86.

([38]) الخراساني، فوائد الأصول: 17، إصدارات وزارة الإرشاد، طبعة طهران، 1407هـ.

([39]) الأصفهاني، نهاية الدراية في شرح الكفاية: 161ـ162.

([40]) للزيادة حول رأي المحقق الأصفهاني انظر: المحقق الأصفهاني، «الأصول على نهج الحديث» في بحوث في الأصول: 20، <الطلب والإرادة> في بحوث في الأصول: 14 فما بعد.

([41]) الحكيم، منتقى الأصول 1: 128ـ129.

([42]) الفياض، المباحث الأصولية 36:2، إصدارات شريعت، الطبعة الأولى، بلا محل الطبع.

([43]) الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة: 74، إصدارات رابطة المدرسين، قم، 1415هـ.

([44]) محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول، 1: 29، منشورات قم، 1405هـ.

([45]) للزيادة انظر: Searle, John, Expression and Meanings Cambridge University Bress. 1979

Austin, John, L. How to do things with words, Oxford University Press, 1962.

Alston, William P. lllocutionary Acts and Sentence Meaning, Cornell University Press, 2000.

Searle, John, Expression and Meaning, Cambridge University Press. 1979.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً