أحدث المقالات

دراسة وتحليل

الشيخ علي إلهي الخراساني(*)

مقدمة

إنّ ولاية الفقيه؛ باعتبارها نظرية تصبُّ في إقامة الدين، وتوسعة دائرة العبودية لله، وإخراجها من الساحة الفردية إلى ساحة المجتمع والحكومة، تفتح آفاقاً جديدة في مختلف العلوم، كالفقه الإسلامي، والكلام الإسلامي، والثقافة السياسية.

وقد مَسَّت الحاجة أكثر فأكثر في السنوات الأخيرة إلى الخوض في مبحث «الفقه السياسي»، وسائر المباحث الأخرى المرتبطة بولاية الفقيه؛ وذلك للإجابة عن جميع الأسئلة، وللوقوف بوجه النظريات المنافسة، ولإيضاح الكثير من غوامض البحوث.

ومع وجود وصدور الكثير من البحوث المختلفة ـ كتاب، أو مقالة، أو رسالة جامعية ـ حول الفقه السياسي والحكومي مازال الكثير من موارد هذا البحث ومواضيعه غير مبحوث بالشكل التفصيلي المناسب لها.

ومن جملة هذه الموارد هو مورد «الحكم الحكومي»، الذي يُعَدُّ من أهمّ المفاهيم المفصلية والأسس الأساسية في الفقه السياسي.

ومن جوانب هذا البحث هو الخوض في مسألة المخالفة مع مثل هذا الحكم، حيث تتناول هذه المقالة الحاضرة بين يديك صورة ما لو حصل اليقين لشخصٍ ما بمخالفة الحكم الحكومي ـ الذي يصدره الولي الفقيه ـ للواقع.

والسؤال هو: هل يكون الحكم الحكومي نافذاً وحجّة في مثل هذه الحالة على الشخص المتيقِّن بالمخالفة، أو أنّ لهذا الشخص أن يعمل طبق يقينه؟ وما هو الموقف والوَضْع بالنسبة لاختلال النظام؟ وكيف يكون عمل المؤسَّسات والدوائر الحكومية في هذا المجال؟

قبل البدء بالبحث نرى من المناسب أن نبيّن ونعرّف «الحكم الحكومي».

الحكم الحكومي وارتباطه بولاية الفقيه المطلقة

نستطيع أن نقول في تعريف الحكم الحكومي: إنّه إنشاء وتنفيذ الفقيه الجامع للشرائط ـ الوليّ الفقيه ـ لحكم يقوم على أساس مصلحة المجتمع الإسلامي ونشر الدين. ويجب على الجميع ـ حتى مراجع الدين ـ الالتزام به ومتابعته.

ولا يخفى أنّ الحكم الحكومي يستند إلى قبول ولاية الفقيه والتسليم بها؛ لوضوح أنّ تأثير حكم الفقيه في المجتمع الإسلامي، وإطاعة الجميع له، يتوقف على أصل ولاية الفقيه في الحكومة الإسلامية.

ثمّ إنّ الداعم والساند للحكم الحكومي لابدّ أن يكون «الولاية المطلقة» للفقيه؛ لأنّه على القول بالولاية المقيّدة ـ المحدودة بالأمور الحسبية، وأنّ الفقيه لايتحمل إلاّ عِبْ‏ءَ الأمور التي ليس هناك مَنْ يقوم بها ـ يفقد الحكم الحكومي فاعليته، ويكون فارغاً من المحتوى؛ وذلك لأنّ الحكم الحكومي يريد أن ينطلق ـ طبق ولاية الفقيه المطلقة ـ لإقامة الدين في المجتمع، وتهيئة أرضية ترقي المجتمع وسيره في مسير مصلحة الإسلام، وإدارة الأمور والحوادث الواقعة إدارة دينية.

فعلى ذلك يكون خيار الحكم الحكومي ـ الضامن لاختيار الولي الفقيه في مسيرة توسعة العبودية الإلهية في المجتمع ورئاستها ـ هو الخيار القائم والمبتني على أساس الولاية المطلقة.

وكذلك لا يتلائم الحكم الحكومي إلاّ مع الولاية، لا مع إشراف الفقيه، ولا مع وكالة الفقيه؛ وذلك أنّه على فرض الولاية يحقّ للفقيه التدخّل في جميع مناسبات المجتمع، والبنى الدينية، وإقامة صروح الدين، بل طبق النظرية الصحيحة ـ نظرية الإمام الخميني ‏& ـ يمكن تعطيل الحكم الفرعي، أو توسيع دائرته.

وبعبارة أخرى: إنّه على القول بولاية الفقيه يمكن للحكم الحكومي أن يتدخّل حتّى في الأحكام الفرعية، ولا تقتصر دائرته على حكومة المجتمع.

لكنْ بناءً على نظرية الإشراف ـ التي يقول بها فقيه آخر ـ لا يمكن للفقيه، ولا يحقّ له، أن يتصرّف مثل ذلك التصرّف المذكور، بل كلّ ما يمكنه هو بيان الخطوط الحمراء، وإبداء التوصيات والتوجيهات والإرشادات. وهنا تُسلب من الفقيه قدرة الابتكار والمبادرة، ولا يستطيع إدارة الحوادث، وإيجاد التحوّلات في البنى الاجتماعية، وفي نهاية المطاف لا يبقى ـ بناءً على هذا المبنى ـ معنىً للحكم الحكومي.

وكذلك يكون المهم ـ على القول بنظرية «وكالة الفقيه» ـ رأي الناس ونظرهم، وإنّما تكون مساحة الفقيه هي الوكالة والتفويض لا غير.

وهنا يستطيع الناس وَضْعَ شروطٍ مُحَدِّدَةٍ لصلاحيات الفقيه، ومنعه من إعطاء وإصدار الحكم الحكومي.

فالنتيجة هي أنّه لا يمكن تصوّر الحكم الحكومي للفقيه إلاّ على القول بنظرية ولاية الفقيه المطلقة. وعلى الأقل فقد لوحظ في هذه المقالة ـ على الفرض المزبور ـ الدور الأوسع لولاية الفقيه والحكم الحكومي على أساس الحدّ الديني الأكثر لقيادة الدين لجميع نواحي حياة الإنسان.

أنواع المخالفة للحكم الحكومي

في المورد الذي يُصدر فيه الوليّ الفقيه حكماً حكومياً كيف يمكن توجيه مخالفة هذا الحكم؟

يمكننا هنا تصوّر حالتين. ومورد بحثنا هو الحالة الثانية. وهاتان الحالتان ناشئتان من مقايسة وملاحظة نسبة اطمئنان الشخص المطيع مع نسبة خطأ حكم الوليّ الفقيه.

الحالة الأولى: أن يكون عند الشخص يقين بعدم خطأ الحكم الحكومي، أو يكون عنده احتمالُ خطئه، ومع ذلك يرتكب هذا الشخص المخالفة للحكم الحكومي، مع علمه بحجيّته على الفرد والمجتمع، ونفوذه، وتنجُّزه.

وهنا لابدّ من القول بأنّ مخالفة الحكم الحكومي في هذا الفرض ـ طبق مقبولة عمر بن حنظلة، عن الإمام الصادق‏×، قال: «فإنّي جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفَّ بحكمنا، وعلينا ردَّ، والرادُّ علينا كالرادِّ على الله عزَّ وجلَّ »([1]) ـ تُعَدُّ ردًّا وإنكاراً لحجّة الإمام المعصوم‏×، الذي هو الوليّ الفقيه، والنائب العام للإمام المعصوم‏×.

وهذه الحرمة ليست من باب مخالفة متعلّق الحكم الحكومي؛ لأنّه لا يوجد لها في الفقه عنوان متعلّق الحكم الحكومي([2]). وعلى ذلك لم تقع مخالفةٌ للحكم الواقعي، وإنما تكون المخالفة من حيث إنكار ولاية الفقيه ومخالفتها. وبما أنَّ الحكومة وولاية الفقيه هي حكم شرعي كلّيّ ثبت بالأدلة الشرعية تكون مخالفة الحكم الحكومي مستتبِعة للحرمة الشرعية.

ثمّ إن مخالفة الشخص في هذه الحالة يمكن أن تكون مخالفة فردية، كما يمكن أن تكون اجتماعية. فالشخص قد يرتكب المخالفة في إطار حياته الفردية، كما أنّه قد يرتكبها في الإطار الاجتماعي، أو في الإطار الفردي لكنّه ينشرها ويبثّها في المجتمع أو يبلّغ لها. وفي هذه الحالة تكون المخالفة مغلَّظة الحرمة، مشدَّدة العقوبة.

الحالة الثانية: أن يكون عند الشخص يقينٌ بخطأ الوليّ الفقيه في إصداره الحكم الحكومي، وأنّ حكمه مخالف للواقع، أو غير منسجم مع المصلحة. وبحث هذه المسألة هو الموضوع الأصلي لمقالتنا هذه.

مبادئ الخطأ في الحكم الحكومي

على فرض عدم صوابية الحكم الحكومي ـ بناءً على يقين الشخص بأنّ هذا الحكم الحكومي مخالف للواقع ـ يمكننا تصور ذلك في أربع صور.

وملاك هذا التقسيم هو أنّ الشخص المتيقِّن يعتقد بخطأ الحكم الحكومي ومخالفته للواقع. وهذا الواقع إمّا أن يكون أمراً دينيّاً شرعيّاً، أي إنّ عامل وسبب خطأ الحكم الحكومي هو سبب وعامل خارجي، بحيث يشمل مسلّمات الدين، ومشهورات الفقه، والأحكام الشرعية الإلزامية؛ وإمّا أن يكون الواقع المُخالَف هو مصلحة المجتمع الإسلامي. وبصورة أوضح نقول: إنّ اليقين بالمخالفة ناتج من تشخيص الولي الفقيه غير الصحيح للمصلحة، وكيفيّة صدور الحكم الحكومي، أي إنّ عامل وسبب خطأ الحكم الحكومي هو عامل وسبب داخلي.

ونصل إلى بحث حجية الحكم الحكومي، ومدى تأثير هذا اليقين، في الموارد التالية:

أـ اليقين بمخالفة الحكم الحكومي لمسلّمات الدين

في مثل هذه الصورة، علاوة على عدم حجية هذا الحكم الحكومي، تسقط عدالة الولي الفقيه؛ لأنّ إنكار مسلّمات الدين ومخالفتها ينجرّ إلى إنكار رسالة النبي‘، أو القرآن المجيد، ولا أقلّ من أنّ هذه الصورة يستتبعها الفسق العملي. ومثال ذلك: ما لو خالف وجوب الصلاة، أو الحج، أو خالف حرمة الزّنا، وما شابه ذلك.

وهنا يجب التنبيه إلى نكتة مهمّة، وهي: أنّه ورد في «القانون الأساسي» أنّ تشخيص عدالة الوليّ الفقيه إنّما هي بعهدة مجلس الخبراء؛ وذلك أنّ الفقهاء المنفتحين الموجودين في مجلس الخبراء يجتمعون، وطبق ما لهم من معرفة بمسلّمات الدين يستطيعون أن يشخّصوا بوضوح مورد الحكم الحكومي المستلزم لإنكار أحد مسلّمات الدين.

ب ـ اليقين بمخالفة الحكم الحكومي لمشهورات الفقه

يجب في البدء القول: إنّ المعرفة الدينية تفترق عن حقيقة الدين. والقول باتّحادهما خطأ محض. والفقه غير مستثنى من هذه القاعدة. وبعبارة أخرى: الفقه هو استنتاج الفقيه من مجموع المصادر الدينية؛ لتنظيم مختلف جوانب حياة الإنسان. وأمّا نفس حقيقة الدين فهي غير الفقه.

وبناءً على هذا إذا خالف الحكمُ الحكومي أحد مشهورات الفقه، لا تُعَدُّ هذه المخالفة مخالفة لمسلّمات الدين. مضافاً إلى أنّ الوليّ الفقيه هو مجتهد جامع للشرائط يحقُّ له أن يتصدّى للإفتاء، وكَمْ كانت فتاوى الكثير من الفقهاء تُعَدُّ في أزمنتهم مخالِفةً لمشهورات الفقه، مثل: طهارة أهل الكتاب، وطهارة ماء البئر.

فالنتيجة هي أنّ مثل هذه المخالفة لا تضرّ بالحكم الحكومي أصلاً، ولا تسقطه عن الحجيّة.

ج ـ اليقين بمخالفة الحكم الحكومي للأحكام الفرعية الإلزامية

إذا بَدَّل الحكمُ الحكومي؛ مراعاةً لمصلحة المجتمع الإسلامي، حُكْماً مباحاً فجعله حُكْماً إلزاميّاً، فلا إشكال في البين. ويكاد يتّفق الجميع على أنّ الوليّ الفقيه له مثل هذا الاختيار في دائرة المباحات. فله أن يُصدِر فيه حكماً إلزاميّاً. وتقوم نظرية «منطقة الفراغ» على هذا الأساس، أي إنّ الوليّ الفقيه يستطيع أن يُصدِر حكماً حكومياً في دائرة المباحات([3]).

لكن هل يستطيع الحكم الحكومي أن يعطّل حكماً إلزاميّاً بصورة مؤقَّتة؟ أي هل له أن يعطل حكم الوجوب أو الحرمة لمدّة محدودة؟ وهل للوليّ الفقيه أن يضيّق ويحدّد دائرة حُكْمٍ إلزاميٍّ، أو أن يوسّعها؟ أم أنّ الحكمَ الحكومي يجب أن يكون مقيّداً بإطار الحكم الفرعي؟

إنّ أكثر الفقهاء ـ سواء المدافعون عن ولاية الفقية السياسية والمخالفون لها ـ لا يرتضون ولا يقبلون مخالفة الحكم الحكومي للأحكام الإلزامية. فهم يعتقدون أنّ ولاية الفقيه جاءت لإجراء الأحكام الإسلامية في المجتمع، وحمايتها والمحافظة عليها، فكيف يمكن للحكم الحكومي الذي يصدره الوليّ الفقيه أن يخالف أحكام الفقه الإلزامية؟! إذاً فالأحكام الحكومية يجب أن تكون في إطار الأحكام الإسلامية الموجودة في الفقه.

وبتعبير آخر: إنّ الحاكم هو المرجع وفصل الخطاب في تطبيق الأحكام الشرعية على مصاديقها، أي إنّ الأصل هو العمل بالأحكام الشرعية، وإذا حصلت أمور اضطرارية وعنوان ثانوي في أمر الحكومة فللوليّ الفقيه أن يحكم ـ على أساس هذه الأمور الاضطرارية ـ بخلاف الحكم والعنوان الأوّلي. وعلى هذه النظرية تعدّ الحكومة دائماً حكماً ثانويّاً.

وبناءً على هذه النظرية إذا خالف الحكمُ الحكومي فرعاً فقهيّاً إلزاميّاً ـ ولم يكن في البَيْن عنوان ثانوي ـ، وتيقّن الشخص بالمخالفة، فهنا لابدّ من القول بعدم حجّيّة الحكم الحكومي.

لكنْ يبقى جواز مخالفة الحكم الحكومي منحصراً بالشخص المتيقِّن فقط. فله أن لا يتابع الحكم الحكومي في حياته الفردية، وليس له أيّ حقّ في الدعوة لهذه المخالفة وعدم الانصياع العام. كما أنّه ليس له أن يعمل أيّ عمل اجتماعي عامٍّ بناءً على عدم حجيّة الحكم الحكومي عليه([4])؛ لأنه يلزم من ذلك اختلال النظام.

وفي مقابل هذه النظرية يرى الإمام الخميني ‏أنّ منزلة الحكم الحكومي أكبر بكثير من الأحكام الفرعية. وهذا الرأي مُبْتَنٍ على أنّ الحكومة هي حكمٌ أوّليّ، وأنّ الحكم الحكومي الناشئ عن ولاية الفقيه المطلقة حاكمٌ ـ حسب الاصطلاح الأصولي ـ على سائر الأحكام الإسلامية. ومن البديهي أنّ صدور الحكم الحكومي ليس بلا ضابطة، بل يكون طبق ملاك مصلحة المجتمع الإسلامي ونشر الدين، الذي لابدّ من البحث عنه وتحصيله من خلال «الفقه الحكومي»، لا من خلال الفقه الموجود الفرديّ المسلك.

وهنا لابدّ من القول بأنّ المصلحة الراجعة والآيلة إلى الدين والنظام الإسلاميّ ـ، والتي هي ناظرة وحاكمة على جميع الأحكام الشرعية ـ لا يمكن أن تُعَدَّ بأيّ وجه من الوجوه عنواناً ثانويّاً؛ لأنّ العنوان الثانوي يكون مقابلاً للحكم والعنوان الأوّليّ المعلوم، الذي لا يمكن إيجاده من طريق الاضطرار أو العسر والحرج([5]).

ومن المناسب هنا أن ندقِّق في بعض جُمل وكلمات أحد أكبر المتبنّين لهذه النظرية، حيث يقول الإمام الخميني في إحدى رسائله ـ رافعاً شبهة كون الحكم الحكومي داخلاً في إطار الأحكام الشرعية، أي الولاية المقيَّدة ـ: «الحكومة أو الولاية المطلقة التي أُعطيت من الله سبحانه وتعالى للنبيّ الأكرم‘ هي أهمّ الأحكام الإلهية، ولها التقدُّم على جميع الأحكام الفرعية الإلهية. وإذا وضعنا الحكومة وقراراتها في إطار الأحكام الفرعية الإلهية تكون الحكومة الإلهية ـ والولاية المطلقة المفوَّضة إلى نبيّ الإسلام ـ اسماً بلا مسمّى، وبلا معنىً ومحتوى. يجب أن أقول: إنّ الحكومة هي فرع الولاية المطلقة لرسول الله‘، فهي واحدة من الأحكام الأوّليّة في الإسلام، بل مقدّمة على جميع الأحكام الفرعية، حتّى الصلاة والصوم والحجّ و… الحكومة تستطيع أن تقف في وجه كلّ أمر ـ عباديّ أو غير عباديّ ـ إذا كان إجراء ذلك الأمر مخالفاً لمصلحة الإسلام. فللحكومة منعُهُ ما دام مخالفاً لمصلحة الإسلام»([6]).

ويقول أيضاً في كتاب «البيع»: «الإسلام هو الحكومة بشؤونها، والأحكام قوانين الإسلام، وهي شأن من شؤونها، بل الأحكام مطلوباتٌ بالعَرَض، وأمورٌ آليّة لإجرائها، وبسط العدالة»([7]).

إذاً لابدّ من القول بأنّ الحكومة الإسلامية لها سلطة وإدارة جميع نواحي حياة الإنسان والمجتمع، وتقوم بالتحقّق العينيّ للإسلام الذي يقود المجتمع للرقيّ والعبودية لله أكثر فأكثر، ويوسّع جبهة الحقّ والدين مقابل جبهة الباطل والكفر.

وفي هذه المسيرة، مسيرة توسعة الدين وتعزيز سلطته وحكومته، ربما عُطِّل حكم فرعيّ ـ عباديّ أو غير عبادي ـ بشكل مؤقّت من أجل مصلحة الإسلام وتوسعة دائرة العبودية لله عزَّ وجلَّ. فإذا خالف الحكم الحكومي حكماً إلزاميّاً شرعيّاً لا تسقط حجيّة الحكم الحكومي؛ وذلك أنه في هذا الفرض يقع التزاحم بين قيادة المجتمع ومصلحة توسعة التديُّن وبين إجراء الحكم الفرعي، وهنا يكون المورد الأوّل هو الأهمّ، فيقدَّم. ومادامت هذه المصلحة المذكورة موجودة يبقى الحكم الفرعيّ معطّلاً.

وهنا يجب الالتفات إلى نكتة مهمّة، وهي أنّ تشخيص المصلحة طبق العقل ليس نوعاً من المصالح المرسلة أو المصالح العرفية، بل يكون مرجع تشخيص المصلحة هو «الفقه الحكومي»، الذي يتمتّع بثقافة كيفية إدارة وقيادة الدين للمجتمع.

كما أنّ تشخيص مصلحة الحكومة ليس متروكاً بلا ضابطة مستندة إلى الشريعة المقدّسة. ولتوضيح هذا المطلب وبسط الكلام فيه مجالٌ آخر.

وبناءً على هذا إذا تيقّن شخص بأنّ الحكم الحكومي للوليّ الفقيه لا يتلاءم مع أحد الأحكام الشرعية، وكان نظام الحكم متقوِّماً بالحكم الحكومي، يعني أنّ فيه مصلحة الدين والنظام، فليس للشخص المتيقِّن أن لا يلتزم بذلك الحكم، وأن يخالفه.

دـ اليقين بمخالفة الحكم الحكومي لمصلحة المجتمع الإسلامي

إذا تيقّن شخص بأنّ الحكم الحكومي لا يتلاءم مع مصلحة المجتمع الإسلامي وتوسعة التديُّن، لكنّه مع ذلك يعلم بأنّ هذا الحكم الحكومي كان صادراً عبر مساره الصحيح، وطاوياً لمراحل الحجّيّة بشكل صحيح، أي إنّ الوليّ الفقيه أصدر حكمه الحكومي طبقاً لضوابط الفقه الحكومي، وبإشراف ونظارة الفقهاء العدول، ففي هذا الفرض لا يمكن ليقين الشخص بالمخالفة أن يكون ملاكاً للعمل؛ لأنّ باقي أفراد المجتمع كلّهم ـ بما في ذلك سائر الفقهاء والمراجع، غير الوليّ الفقيه ـ ليس لهم إلاّ «الولاية العلمية»، ويستطيع مقلِّدوهم أن يتابعوهم في الفقه الفردي فقط؛ لأنّ معنى «الولاية العلمية» هي أنّ للفقهاء حقّ إبداء آرائهم وإظهار نظرهم في إطار الفقه الفردي، وللأفراد أن يقلّدوهم في ذلك([8]). لكن إذا وصل استنباطه إلى حكمٍ غير حكم الوليّ الفقيه فليس له أن يعمل بحكمه الذي وصل إليه، وليس له أن يجعله أساساً لعمل الآخرين؛ لأنّ «الولاية الإجرائية» لم تُنَطْ به.

إذاً يستطيع الشخص أن ينقد الوليّ الفقيه نقداً علميّاً، وأن يردّ دليله، لكنْ بما أنّ للوليّ الفقيه وحده «الولاية الإجرائية» في المجتمع فعلى الجميع الإذعان للحكم الحكومي الذي يصدره، بما في ذلك الشخص الذي وصل ـ بالأدلة ـ إلى حكم غير الحكم الحكومي.

فإذا عمل هذا الشخص طبق يقينه فليس لعمله أية قيمة اجتماعية؛ لأنه ليس لعمله هذا أيّ ملاك شرعي، أو حجّيّة، بل إنّ ولايته العلمية على مقلِّديه لا تُسوِّغ الخروج من الولاية الإجرائية للوليّ الفقيه.

وهنا يجب الالتفات إلى أنّ الولاية الإجرائية والفقه الحكومي لا يجريان مجرى التقليد؛ إذ في التقليد يمكن للمجتمع أن يُدار من خلال عدّة فقهاء، وأمّا في الولاية الإجرائية والفقه الحكومي فيجب على الجميع متابعة الحكم الحكومي للوليّ الفقيه؛ إذ الوليّ الفقيه وحده يتمتع بحقّ الولاية الإجرائية؛ لأنّه على أساس الفقه الحكومي يستطيع إعمال ولايته وإصدار الأحكام. وهنا لا يكون المجتمع مقلِّداً للوليّ الفقيه، وإنّما يكون المجتمع منقاداً ومطيعاً لحكم الوليّ الفقيه.

فالحكم الحكومي هنا قد صدر على أساس الفقه الحكومي. وقد وصل الوليّ الفقيه ـ من خلال استنباطه من الأدلّة ـ إلى مصلحة المجتمع، وملاك توسعة العبودية لله في هذا النظام. ولم يكن في ذلك أيُّ دَخْلٍ للملاكات الذوقية والميولات الشخصية. وقد كان الوليّ الفقيه أعلم بالفقه الحكومي. وكان لمجلس الخبراء ـ في وضعيته الطبيعية والمطلوبة حَسْب الفرض ـ إشراف ونظارة على أجواء صدور الحكم الحكومي. فهل كان صدور الحكم قد مرَّ عبر قَنَوات الحجّيّة أم لا؟ وهل رُصِدت وقُيِّمت ورُوعيت مصلحة المجتمع وملاك التوسعة الدينية بشكل صحيح؟

في مثل هذه الحالة يكون من النُّدرة بمكان أن يحصل اليقين لشخص ما بخطأ حكم الوليّ الفقيه، وعدم ضمانه لمصلحة المجتمع الإسلامي. وعلى فرض حصول مثل هذا اليقين ـ ولو كان مرجعَ تقليد ـ فليس للمتيقِّن حقّ المخالفة لحكم الوليّ الفقيه، حتّى على الصعيد الفردي. كما ليس له الخروج من سلطة الولاية الإجرائية للفقيه الجامع للشرائط والأعلم بالفقه الحكومي.

ولعلّ قائلاً يقول: إذا تيقّن شخص بأنّ الحكم الحكومي لم يَطْوِ مسيره الصحيح، وأنّه مخالفٌ قطعاً لمصلحة الدين والمجتمع، فهنا يمكن لهذا الشخص ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار معرفته بالفقه الحكومي ـ أن تكون له الولاية الإجرائية، وليس بالضرورة أن تكون الولاية الإجرائية بيد شخص واحد فقط.

ونقول: إنّ الجواب عن هذا في غاية الوضوح؛ لأنّه على فرض تعدّد الولايات الإجرائية، وإمكان اختيار أكثر من شخص لإصدار الأحكام الحكومية، يلزم الهرج والمرج، ويعمّ الاختلال جميع مفاصل الحياة والمجتمع، ويختل النظام الإسلامي بالكامل. فعلى ذلك لابدّ من وجود فقيه واحد جامع للشرائط يحق له إصدار الحكم الحكومي، لتبقى الحكومة متماسكة قوية واحدة.

ويمكن أن يُشْكَل على هذا الردّ بأنّ اختلال النظام هو عنوان ثانوي لمخالفة الحكم الحكومي، ولتعدّد الولايات الإجرائية في ظروف خاصة، مع أنّ كلامنا في العنوان الأوّليّ في صورة اليقين بمخالفة الحكم الحكومي للواقع ووجود الولاية الإجرائية. فهنا لابدّ من القول: إنّ العنوان الأوّليّ لمثل هذه الحالة هو عدم نفوذ الحكم بالنسبة للشخص المتيقِّن القاطِع، ويكون عمله على خلاف حكم الوليّ الفقيه ذا حجّة شرعية.

ويجاب عن هذا الإشكال بأنّ مخاطَبَ الحكم الحكومي هو النظام والمجتمع. والحكم الحكومي ليس حكماً فرديّاً بحيث لا يمكن إدراج النظام في عنوانه الأوّليّ، بل الحقيقة أنّ العنوان الأوّليّ هو أنّ عدم الانصياع للحكم الحكومي، وتعدُّد الولايات الإجرائية في المجتمع، يوجب اختلال النظام.

النظريات الفقهية في قيمة حكم الحاكم مع العلم بخطئه

بعد اتّضاح أقسام يقين الشخص بخطأ الحكم الحكومي، وبحث حجية الحكم الحكومي، نتتقل إلى بيان آراء الفقهاء المعاصرين، وبحثها ومناقشتها.

1ـ عدم الحجية مطلقاً

وقد ذهب إلى هذا الرأي الشيخ جوادي الآملي؛ إذ يبدو ويتبادر هذا الرأي للذهن بالنظر البدوي للمسألة، وهو عدم حجية الحكم الحكومي مطلقاً عند فرض اليقين بخطئه، إذاً لا يوجد تفصيل في هذا الرأي.

كتب الشيخ جوادي الآملي: «…إنّ الحاكم الإسلامي مُجْرٍ للأحكام فقط، وهو ـ كسائر الناس ـ مشمول بالقانون الإلهي، وتابعٌ محضٌ له. وباقي الفقهاء أيضاً كذلك. ويجب عليهم جميعاً متابعة هذا الحكم الإلهي، المُنْشَأ بواسطة الوالي، إلاّ أن يقع ـ في الفرض النادر ـ اليقين الوجداني بخطأ حكم الفقيه. طبعاً لا يكون الشك بصحّة حكم الفقيه، أو الظنّ بخطئه، مجوِّزاً لعدم طاعته، ومتابعة حكمه، بل اليقين الوجداني وحده يمكنه ذلك، لا غيره»([9]).

وقفة ومناقشة

لم يقدَّم في هذا الرأي أيّ دليل على عدم حجية الحكم الحكومي؛ إذ مع صدور الحكم الحكومي على أساس الفقه الحكومي، والرصد والتقييم الصحيح لمصلحة الدين والنظام الاسلامي، كيف يكون يقين مثل هذا الشخص ملاكاً لتصرّفاته؟! وقد مرّ القول بأنّ للفقيه فقط الولاية الإجرائية في المجتمع.

فلعلّ مقصوده من خطأ الحكم ـ في هذا الرأي ـ هو أمثال ثبوت هلال شهر رمضان؛ إذ على فرض اليقين بمخالفة حكم الحاكم للواقع لا تبقى حجيّة لحكم الحاكم. وهذا ما سيأتي في الرأي القادم الذاهب إلى التفصيل.

لكنَّ حصرَ الحكم الحكومي في مثل هذه المسائل، من ثبوت الهلال وما شابهها، غيرُ صحيح؛ لأنّ أكثر الأحكام الحكومية تُوجِد أوضاعاً جديدة في المجتمع، كإعطاء المشروعية للدولة، وللمؤسسات والمراكز الحكومية، ونصب وعزل الأفراد، والتعطيل المؤقّت للأحكام الشرعية الفرعية في صورة حفظ مصلحة النظام، وغير ذلك ممّا يشابهها.

2ـ التفصيل في الحجية

وهذا الرأي نفسه يمكن طرحه ـ وربما طرح ـ بثلاثة بيانات وتقريرات، لكنّها جميعاً تؤول إلى نمط واحد، وهو أنّه يجب تناول المسألة من زاويتين، أو أن تقسَّم إلى نوعين: فإذا كان الحكم الحكومي مبيِّناً لواقعٍ خارجي وواقعة خارجية معيّنة ـ وحسب الاصطلاح: إذا كان الحكم صادراً عن حسّ ـ، وحصل لشخصٍ يقينٌ بمخالفته للواقع، فهنا لا حجية للحكم. وذلك مثل: الحكم بثبوت الهلال، الذي ذكرته وأشارت إليه البيانات والتقريرات الثلاثة.

وأمّا إذا كان الحكم الحكومي صادراً عن الاجتهاد الصحيح، وعن الحدس، ولم يكن مُبيِّناً للواقع الخارجي، بل كان حكماً ولائياً، ففي هذه الحالة لا تخدش حجية الحكم الحكومي باليقين بخطأ الحاكم، بل تبقى حجيته نافذة على الجميع.

ومن المناسب هنا أن ننقل البيانات والتقريرات الثلاثة، ونعرضها للمناقشة.

2ـ 1ـ بين الحكم الكاشف والحكم الولائي

يعتقد السيد كاظم الحائري بالتفصيل والتفريق بين الحكم الولائي والحكم الكاشف، بالنسبة لحجية الحكم الحكومي في مورد اليقين بمخالفة الحكم للواقع، فيقول: «الصحيح هو التفصيل بين قسمين من الأحكام الصادرة من الوليّ الفقيه، وهما: الحكم الولائي؛ والحكم الكاشف. فيجب اتّباعه، حتى مع العلم بالخطأ، في القسم الأوّل، دون القسم الثاني.

ومنشأ هذا التقسيم هو اختلاف ما يقصده الحاكم بالحكم. فقد يرى الحاكم أنّ هناك حقيقة ثابتة قبل إعماله للولاية، ولا يقصد من إعماله للولاية عدا تنجيز تلك الحقيقة على الناس؛ كي يعمل بها أولئك الذين لم تصلهم تلك الحقيقة، ولولا إعمال الحاكم للولاية لما عملوا بها. مثال ذلك: الحكم بالهلال. فالولي يعتقد ـ مثلاً ـ ثبوت الهلال، ووجوب الصوم أو وجوب الإفطار، ويحكم بذلك، ولا يقصد بحكمه هذا إنشاء تكليف واقعي على الأمّة، بل ينظر إلي نفس الحكم الواقعي، ويقصد إيصاله أو إيصال موضوعه إلى الأمّة؛ بهدف تنجيز نفس ذاك الحكم الواقعي عليهم، ورفع عذر الجهل عنهم. فهذا في الحقيقة حاله حال كلّ حكم ظاهري ينظر إلى الواقع، وتكون حجيته مغيّاة بالشك، كما هو الحال في كلّ حكم ظاهري، فمع القطع بالخطأ لا مورد لاتّباعه.

وقد يقصد الحاكم إنشاء تكليف واقعي على المجتمع، لا خصوص تنجيز الواقع. وبكلمة أخرى: لم يكن هذا الحكم حكماً ظاهرياً، كي يمكن افتراض إمكان الخطأ فيه، بل كان حكماً واقعياً على أساس إعمال الولاية. وإنّما معنى القطع بالخلاف هنا أنّ الشخص قطع بأن الحاكم أخطأ في الملاك الذي تخيّله؛ أي أن حكمه بالجهاد ـ مثلاً ـ كان على أساس اعتقاده بمصلحة في الجهاد، في حين يرى هذا الشخص أن الحاكم أخطأ في تقديره للمصلحة. وهذا النمط من القطع بالخلاف لا يضرّ بحجّية حكم الولي، فإنّ معنى ولاية الوليّ، الثابتة بنصّ، أو التي تكون بنفسها من الأمور الحسبية، هو تقدُّم رؤيته على رؤية المولّى عليه، ولم يكن الحكم ظاهرياً، كي يُقال: إنه مغيّى بالقطع بالخلاف، وأنه يعقل فيه الخلاف، بمعنى مخالفة الواقع»([10]).

مناقشة وتعليق

توجد نكتتان مهمتان تستحقان التأمّل في الرأي المذكور:

الأولى: الظاهر أنّ «الواقع» لاينحصر ولا يُحَدّ بنفس الحكم الولائي للوليّ الفقيه، بل إن مصلحة المجتمع الإسلامي وتوسعة العبودية لله في مقياس الحكومة والمجتمع هي الواقعية التي أصدر الولي الفقيه حكمه على أساسها.

صحيحٌ أنّ الحكم الحكومي هو من إنشاء الوليّ الفقيه، وليس إخباراً عن الحكم الواقعي، لكنّ نفس هذا الحكم صادر عن المصلحة الواقعية، وإنّ قوام هذا الحكم مستندٌ إلى أساس المصلحة.

الثانية: إنّ حجّيّة الحكم الحكومي باقية حتّى في صورة ما إذا تيقَّن شخص بأنّ هذا الحكم الحكومي مخالف لمصلحة المجتمع الإسلامي. وذلك مع الأخذ بهذه النكتة وملاحظتها، وهي أنّ الولاية الإجرائية تكون بيد الوليّ الفقيه فقط. ويظهر أنه يمكن أن يكون المقصود من «التقدّم» المذكور في كلام السيد الحائري الولاية الإجرائية التي ذكرناها.

2ـ 2ـ بين صدور الحكم عن حسّ وعن حدس

ذهب الشيخ معرفت ـ في مقابلة معه ـ إلى أنّ حكم وليّ الأمر إذا كان طبق مصلحة الناس والدولة ـ أي أنّ الوليّ الفقيه أصدر الحكم عن الحدس والاجتهاد ـ فليس لأحد حقّ مخالفته. نعم، لا إشكال في إبداء رأي مخالف له.

وأمّا إذا كان حكم الحاكم صادراً عن حسٍّ، كالحكم برؤية الهلال، وتيقّن شخص بمخالفة هذا الحكم للواقع، فهنا له أن لا يتابع حكم الحاكم، وأن يصوم، لكن لا يحقّ له أن يُخبِر أحداً بذلك([11]).

المناقشة

لقد تقدّم القول بأنّه إذا كان الحكم الحكومي قد طوى مسير حجيته بالشكل الصحيح، وأمَّن مصلحة توسعة العبودية لله، فإنّه يكون نافذاً على الجميع. لكنّ البيان السابق لم يتعرَّض لملاك تقديم اجتهاد الوليّ الفقيه على اجتهاد الآخرين.

لقد تبيّن لنا من التوضيحات السابقة أنّ الولاية الإجرائية للوليّ الفقيه وحدها يمكن أن تكون ملاكاً لمسيرة المجتمع والفرد.

ويجب هنا الالتفات إلى أننا لا نستطيع أن نقول بأنّ صِرْف وجود ولاية الوليّ الفقيه كافية في المسألة؛ لأنّه يمكن أن يقال: إنّ هناك فقهاء آخرين في عَرْض الوليّ الفقيه، ولهم أصل الولاية بشكل شأنيّ فعليّ، وأمّا الولاية في مقام الإجراء والفعلية فهي لشخص واحد، وهو الوليّ الفقيه. وفي صورة اليقين بمخالفة الحكم الحكومي للمصلحة تكون الفعلية والإجراء بيد الفقيه القاطع بالمخالفة.

لكن يقال في جوابه: إنّه ليس لأحد من الفقهاء الآخرين ـ غير الفقيه الجامع للشرائط، والأعلم بالفقه الحكومي ـ حقّ الولاية، حتّى الولاية الشأنية. فللوليّ الفقيه فقط الولاية الإجرائية، وأمّا باقي الفقهاء فيمكن أن تكون لهم الولاية العلمية، من خلال تقليد الآخرين لهم.

وبعبارة أخرى: إنّ الولاية الإجرائية ـ أعمّ من كونها شأنية أو فعلية ـ ليست إلاّ في شخص واحد، هو الشخص الجامع لشرائطها، فتتعين به؛ وذلك لأنّ الأعلمية بالفقه الحكومي، ورئاسة إدارة المجتمع، وتوسعة دائرة العبودية الإلهية في مجال الحكومة، لا يمكن أن تكون إلاّ مختصّة بشخص واحد؛ إذ حتّى على صعيد الشأنية لا يمكن أن يكون شخصان أَعْلَم في نفس الأمر الواحد.

2ـ 3ـ بين الخطأ في أصل الحكم والخطأ في طريق الوصول إليه

صوّر السيد مهدي الخلخالي الخطأ القطعي بالنسبة للحكم بصورتين، فقال: «والخطأ القطعيُّ يُتصوَّر على نحوين:

أ ـ الخطأ في أصل الحكم.

ب ـ الخطأ في طريق الوصول إلى الحكم.

أمّا الخطأ في أصل الحكم فإن كان قطعياً أوجب ذلك سقوطه عن الحجية والاعتبار، وجاز نقضُه لمن علم علماً قطعياً بخطئه، بل ربما وجب النقض والردّ.

مثلاً: إذا حكم أن يوم الجمعة هو أول الشهر، ولكننا على يقين من خطئه؛ أو حكم بأنّ فلاناً قد زنا أو قتل أحداً، وكنّا على يقين من خطئه، وأن ذلك الشخص لم يرتكب شيئاً من ذلك؛ أو أن الحاكم المذكور أخطأ في أصل عملية الاجتهاد خطأ قطعياً، وأصدر حكماً على أساس نظريةٍ خاطئةٍ، بحيث أفتى على خلاف الإجماع القطعيّ أو الخبر المتواتر، سقط حكمه وفتواه عن الاعتبار والحجية في جميع الموارد المذكورة، وجاز نقضُه، بل ربما وجب النقض والردّ؛ حفاظاً على الأموال والنفوس من إجراء حدٍّ غير مبرَّر؛ لأنّه لا يمكن أن يشمل دليل الحجية موارد القطع بالخلاف؛ إذ حكم الحاكم أمارةٌ وطريقٌ إلى الواقع، لا أنه من العناوين الثانوية ليكون مغيّراً للحكم الواقعيّ، بل هو حجّةٌ لكونه طريقاً وكاشفاً كشفاً نسبياً عن الواقع، مثل بقية الأمارات الأخرى.

وعلى كلّ تقدير لا يشمل الدليل ما علم بمخالفته للواقع علماً قطعياً؛ لأن الأمارة والأصل حجّةٌ في ظرف الشك، وعدم العلم بالواقع.

أما بالنسبة إلى النحو الثاني، يعني الخطأ في طريق الوصول إلى الحكم، فهل توجب الأمارة الشرعية، مثل: البيِّنة (شهادة عادلين)، أو الفتوى المخالفة ـ كما العلم القطعي بخطأ الحاكم في الحكم ـ سقوط الحكم عن الحجية والاعتبار؟ مع العلم بوجود هذا الفرق، وهو أنّه في صورة العلم بالخطأ لا مجال لاحتمال الصحة في الحكم أبداً، وشمول الدليل غير معقول؛ ولكن في صورة قيام الأمارة على الخطأ يبقى احتمال الصحة الواقعية على حاله؛ لأنّ الأمارة حجة بملاك الظنّ، لا القطع، وما هو قطعيٌّ إنما هو خطأ الحاكم في طريق الحكم (الاجتهاد أو التطبيق)، لا في أصل الحكم، يعني أن الحاكم أخطأ في كيفية الاجتهاد، أو في تشخيص عدالة البينة، ولكن طابق حكمه أصل الواقع صدفةً واتفاقاً، ويلزم من ذلك خطأ الأمارة المخالفة.

وعلى هذا لا يكون شمول الدليل للموارد التي تكون فيها الأمارة على خلاف حكم الحاكم غير معقول، بل تطرح في هذه الصورة مسألة تعارض الأمارتين.

مثلاً: إذا حكم حاكم الشرع ـ طبق بيِّنة يعتبرها عادلة، أو استناداً إلى رؤيته الشخصية ـ أنّ أوّل الشهر هو يوم الجمعة، ولكن شهد عدلان بأنّ السبت هو أول الشهر، فبأيّ واحد من الدليلين (البينة، أو حكم الحاكم) يجب العمل؟

الحق هو عدم جواز نقض الحكم في جميع الموارد المذكورة؛ لما يلي:

أولاً: إن تعارض حكم الحاكم مع الأمارة المخالفة له من موارد تعارض العنوان الثانوي مع العنوان الأوّليّ. والترجيح هو للعنوان الثانوي؛ بتقرير أنّ العمل بالدليل المخالف ـ أعمّ من الفتوى وغيره ـ مصداقٌ لردِّ حكم الحاكم، وردُّ الحكم غير جائز.

وثانياً: إن حديث عمر بن حنظلة، وهو أهم الأدلة على اعتبار حكم الحاكم، واردٌ في مفروض حديثنا هنا، ويعطي الترجيح لحكم الحاكم.

وخلاصة القول: إنه لا يجوز ـ بمقتضى إطلاق دليل حرمة الردّ ـ نقضُ الحكم بأية أمارة مطلقاً، سواء أكان ذلك فتوىً أو أمارة أخرى قامت على خلاف الحكم، إلاّ إذا بلغت درجة العلم بالخطأ في ذات الحكم؛ لأنّه في مثل هذه الصورة يقصُر نفس مقتضي الاعتبار عن المورد، يعني شمول الدليل لهذه الصورة.

وهكذا يجوز نقض الحكم، بل يجب أحياناً، كما لو أصدر الحاكم حكماً مع التقصير في عملية الاجتهاد، أو دراسة الموازين الموضوعية، أو أنه كان يعاني من قصورٍ ذاتي، وغفلةٍ عن مقدّمات الاجتهاد، أو تطبيقها على المورد، حيث إن جميع هذه خارجةٌ عن عموم الدليل؛ لأن موضوع دليل «حرمة النقض» إنما هو الحكم الصادر على أساسٍ من الاجتهاد الصحيح، والموازين المعتبرة. والموارد المشار إليها ليست على هذا النمط والشكل»([12]).

المناقشة

إن هذا الرأي قد حصر الحكم الحكومي في القسم المبَيِّن للوقائع الخارجية، مع أنّه قيل: إنّ أكثر الأحكام الحكومية هي إعمالٌ للولاية في المجتمع ورئاسة الحكومة، وتوسعة العبودية، مما يُوجد وضعاً جديداً.

وطبق هذا الرأي يمكننا أن نستفيد أنّه إذا حصل اليقين بخطأ أصل الحكم، لكنّ حكم الوليّ الفقيه كان قد صدر طبق الاجتهاد الصحيح ومراعاة الموازين ـ بمعنى أنَّ الحكم صدر لجهة مصلحة الدين والنظام ـ، فإنّ حقّ التقدّم في الإجراء يكون للوليّ الفقيه، ولا يجوز نقض حكمه. وقد تقدّم بيان صحّة هذا الكلام، والدليل عليه.

نتيجة البحث

1ـ إذا تيقّن شخص بمخالفة الحكم الحكومي لمسلّمات الدين فهنا ـ مضافاً لعدم حجيّة حكم الوليّ الفقيه ـ لابدّ من القول بسقوط عدالته. لكنْ من ناحية قانون الدولة يكون تشخيص هذا الأمر المهم منوطاً بمجلس الخبراء.

2ـ إذا خالف الحكم الحكومي الفتوى التي تُعَدُّ من مشهورات الفقه يبقى الحكم على حجيته.

3ـ إذا عُرِّف الحكم الحكومي على أساس الشرائط الاضطرارية والعنوان الثانوي فإنّه يسقط عن الحجيّة في صورة انعدام تلك الشرائط، وحصول اليقين بمخالفته للحكم الفرعي الإلزامي.

وأمّا على المبنى الآخر ـ القائل بأنّ الحكم الحكومي حاكمٌ على باقي الأحكام، وأنه مع وجود المصلحة يمكننا المصير إلى تعطيل الحكم الفرعي الإلزامي ـ فلا يمكن أن ينال حجيّة الحكم الحكومي أيُّ ضرر.

4ـ النتيجة الأخيرة والمهمة هي أنّه إذا تيقّن الشخص ـ الضليع بالفقه الحكومي ـ بمخالفة الحكم الحكومي لمصلحة الدين والمجتمع، وبأنّ الوليّ الفقيه أخطأ في مسير صدور الحكم، يبقى الحكم الحكومي حجّةً عليه؛ وذلك لأنّ الوليّ الفقيه هو الأعلم بالفقه الحكومي، وقد كان إصداره للحكم تحت نظارة الفقهاء الخبراء بأجواء صدوره.

والنكتة المهمة الأخرى هي أنّ للوليّ الفقيه وحده الولاية الإجرائية في المجتمع، وأنه ليس للشخص القاطع ـ حتى لو كان مرجعاً ـ أكثر من الولاية العلمية على مقلِّديه، وأمّا على صعيد العمل والإجراء فليس له ذلك، وعليه إطاعة ومتابعة الحكم الحكومي. وهذا الرأي قريب جدّاً من رأي كلٍّ من: السيد الحائري، والشيخ معرفت، والسيد الخلخالي.

الهوامش

(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية.

([1]) الكافي 67:1؛ وسائل الشيعة 98:18.

([2]) لكن مع التوجّه إلى الوضعية المطلوبة، وتأسيس وتدوين الفقه الحكومي، يمكن أن تكون متعلقات الأحكام الحكومية ذوات عناوين فقهية. فالعناوين الموجودة في الفقه الفردي ليس لها عين ولا أثر. فيجب البحث عنها في الفقه الحكومي. وهذا الكلام يتلاءم تماماً مع القاعدة القائلة بأنّ «الواقعة لا تخلو من حكم»، أو هو من لوازمها.

([3]) راجع كتاب اقتصادنا: 721.

([4]) بناء على هذا الرأي إذا كان الحكم الحكومي حجّةً، وخالفه شخصٌ ما، فإنّ مخالفته تستتبع الحرمة الشرعية فيما إذا خالفت مفادَ الحكم الحكومي الذي هو حكم شرعيّ كلّي، وأمّا مخالفة الحكم الحكومي بنفسها فلا تستتبع حرمةً.

([5]) بناء على هذا الرأي تكون ولاية الفقيه بنفسها حكماً كلّيّاً، وفي حال مخالفة الحكم الحكومي ـ الذي هو إعمال هذه الولاية ـ يكون المخالِف قد خالف الحكم الشرعي الكلّيّ للولاية، والذي تستلزم مخالفتُه الحرمةَ الشرعية.

([6]) صحيفة النور 20: 170.

([7]) كتاب البيع 2: 472.

([8]) أخذنا التفرقة بين الولاية الإجرائية والولاية العلمية من الكتاب المذكور أعلاه. انظر: كتاب النظام المعقول: 210، لعلي رضا پيروزمند.

([9]) ولاية الفقيه: 469.

([10]) ولاية الأمر في عصر الغيبة: 265 ـ 268.

([11]) راجع: كتاب «أصول الفقه الحكومي»، لرضا إسلامي، مقابلة مع الشيخ معرفت: 195 ـ 193.

([12]) الحاكمية في الإسلام: 534 ـ 541.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً