أحدث المقالات

د. السيد أبو الفضل الموسوي(*)

د. محمد فنائي الإشكوري(**)

ترجمة: علي الوردي

الخلاصة

بالرغم من الصورة النمطية السائدة التي تحملها مفردة «الرياضة الروحية» لدى العديد من الناس، والتي قد تعني لهم: الالتزام بمجموعةٍ من الأفعال الشاقّة يمارسها بعض مَنْ يُعْرَف بالمتصوِّفة أو المرتاضين، إلاّ أن المفهوم الصحيح لها يمكن تلخيصه بأنها جوهر الشريعة المكنون، وأسلوب الطريقة المسنون، والسبيل الأوحد لمغادرة القفص النفسانيّ، والعروج إلى المقام الربّاني. إن ما تمتاز به الرياضة الدينية عن الرهبانية والرياضة المنحرفة أمرٌ ليس في الرياضة ذاتها؛ إنّما في الدوافع الباعثة لها، والأبعاد التي تشتمل عليها. وما الرسالة التي يحملها النصّ المأثور: «رهبانيّة أمتي الجهاد» إلاّ دعوةٌ لمغادرة الرياضة المنحرفة، والتمسُّك بالرياضة الروحية السليمة، والتنويه إلى أن الرياضة الروحية ليست مرفوضةً بكلّ أشكالها.

ونظراً للطابع الاجتماعي والشمولي الذي يمتاز به الدين الإسلامي فالمفاهيم المتمخِّضة عنه لا بُدَّ أن تكون ذات طابعٍ اجتماعيّ وشمولي أيضاً. ومفهوم «الرياضة» من جملة هذه المفاهيم. فالإسلام يرتقي بالرياضة؛ ليخرجها من أُفُقها الفرديّ الضيّق إلى الأُفُق الاجتماعيّ الرَّحْب؛ لتعبِّر عن ممارسةٍ تتجاوز ترويض الجَسَد إلى الإطاحة بصَنَم النفس.

تتبنّى هذه الدراسة رصد مؤشّرات الرياضة المبتغاة دينياً، عبر مراجعة المناظرات التاريخية للأئمّة المعصومين^ مع بعض المتصوِّفة المعاصرين لهم.

المقدّمة

لقد تعرَّض مفهوم «الرياضة» المبتغاة دينياً، منذ صدر الإسلام وإلى اليوم، للتشويه من قِبَل «الجهّال المتنسِّكين»، واتُّخِذ أحياناً أخرى سبيلاً للاسترزاق والإثراء من قِبَل «العلماء المتهتِّكين»، الأمر الذي عزَّز ضرورة القيام بمراجعةٍ جديدة لهذا المبدأ الديني في ظلّ تراث أنوار العصمة (أئمّة أهل البيت)؛ بغية إنارة الطريق للقاصدين.

و«الرياضة» مشتقّة من «روض»، وهي من حيث المعنى تنقسم إلى قسمين:

الأوّل: بمعنى «وفرة الماء» في المروج الخضراء، «وكأنّ الروضة سُمِّيَتْ روضةً لاستراضة الماء فيها»([1]).

ووردت في القرآن الكريم بنحو المفرد والجمع؛ لتشير إلى مروج الجنان وبساتينها: ﴿فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ (الروم: 15)؛ ﴿فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ﴾ (الشورى: 22).

الثاني: «التمرُّس على ترويض النفس»، وهو غالباً ما كان يستعمل في الإشارة لترويض الدوابّ، ثمّ انتقل ليستخدم في ترويض النفس الإنسانية. يقول الراغب: «الرياضة: كثرة استعمال النفس ليسلس ويمهر، ومنه: رُضْتُ الدابّة»([2]).

كما يمكننا أيضاً، بوجهٍ من الوجوه، إرجاع المعنى الأوّل إلى الثاني، أو دمج المعنيين؛ وذلك إنْ قلنا: إنّ بقاء الماء على سطح التربة لبرهةٍ من الزمن ثمّ التخلُّل فيها يجعل منها تربةً مطواعة ومرتاضة.

ويمكن أن يكون هناك محرِّكان أو باعثان للـ «الرياضة» موضوع بحثنا، والتي يُراد بها «التمرُّن لترويض النفس» البشرية: أوّلهما: الباعث النفسي؛ والثاني: الباعث الإلهي. وأمثلة الباعث النفسي: «التكسّب» و«الرياء» و«التمكُّن من إظهار الخوارق للعادات»، وذلك في الرياضات الشاقّة. وهذا كلُّه يدخل ضمن ترويض الجزء «البهيمي» من النفس؛ لإرضاء الجزء الآخر (الشيطاني أو السبعي). في حين أن الرياضة التي ينشدها الدين لا تخرج عن سياق الطاعة لأمر الباري عزَّ وجلَّ في جميع مراتبها، وهي بهذا المعنى، على اختلاف أشكالها، وتعدُّد مستوياتها، تشكِّل البُعْد الباطني للتكاليف الشرعية، وقد ورد في الأثر: «الشريعة رياضةُ النَّفْس»، أي جوهر الشريعة.

وما تسمية الأوامر والنواهي الشرعية «بالتكاليف» إلا دليلٌ على محورية الرياضة وأهمّيتها بالنسبة إلى الشريعة، فالتكليف مشتقّ من مصدر «كلف»، وهو إلزامُ فعلٍ فيه مشقّة»([3]).

ونقرأ في القرآن الكريم: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا… رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ…﴾ (البقرة: 286).

وكما هو واضحٌ من سياق الآية الكريمة أن دعاء المؤمنين يتمحور حول استبدال ما لا يُطاق من التكاليف والرياضات الشاقّة بما يُطاق منها، وليس إلغاء أصل التكليف. لذلك لا يمكن إنكار أصل وجود التكليف والرياضة، ودَوْرها المحوري في الشريعة. وما يجب البحث فيه ودراسته هو حقيقة الرياضة المبتغاة دينياً وحدودها، لا البحث في أصل وجودها وثبوتها.

ويمكن تقسيم الرياضة الشرعية بشكلٍ عامّ إلى قسمين: «الرياضة العامّة»؛ و«الرياضة الخاصّة».

فالرياضات العامّة تشمل كافّة التكاليف الشرعية الواردة في مجال العبادات والمعاملات والأخلاقيات، وتستهدف عامّة المسلمين، وتدلّ عليها أغلب آيات القرآن الكريم.

فالصلاة والصيام والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخمس والصدقة بأنواعها والزكاة، وكذلك المبادئ الخُلُقية، كالصبر والإيثار وكظم الغَيْظ والسخاء والحلم…إلخ، كلّها تندرج تحت عنوان الرياضة النفسية؛ نظراً لمغايرتها طبع النفس.

لكنْ ما تتمحور حوله هذه الدراسة وما تهتمّ به هو «الرياضة الخاصّة»، التي نادراً ما يحالف التوفيق شخصاً لمزاولتها، وهي ليست ضمن قائمة الأوامر الشرعية المعروفة والمباشرة، كحمل النفس على الإكثار من المستحبّات، كالصلاة والصوم المستحبين والذكر والتواضع في المأكل والملبس والخلوة والاعتزال وغير ذلك، ممّا ينضوي تحت مفهوم «الرياضة الخاصّة».

من هنا فان إصل الرياضة ومحوريتها في الشريعة أمرٌ ثابت لا يمكن إنكاره، وما يهمّنا في هذا المضمار هو «الرياضة الخاصّة»، المفهوم الذي طالما احتدم الخلاف حوله؛ نتيجة استغلاله السيّئ من قِبَل بعض فرق الصوفيّة المنحرفة على مرّ الوقت، وهو لا يزال إلى الآن يحمل في طيّاته زوايا مُبْهَمة بحاجةٍ لمزيدٍ من الإضاءة.

موقف المعصومين (عليهم السلام) من مفهوم «الرياضة الخاصّة»

إن سيرة المعصومين^ حافلةٌ بمزاولة أنماط من «الرياضة الخاصّة»، كالتهجُّد وكثرة الصوم والصلاة المستحبّة و…إلخ، إلى درجةٍ قد تؤدّي في بعض الأحيان إلى التسبُّب بأعراضٍ جَسَدية، كتورُّم القدمين، ونحافة الجَسَد، وضعف البَدَن. كما شهدت سيرتهم^ أنماطاً من العزلة، كعزلة النبيّ| في غار حراء قبل البعثة، واعتزال الإمام الصادق× لبرهةٍ من الزمن؛ بسبب فساد الزمان والأعوان، كما علَّله حين سُئِل عن سبب ذلك([4])؛ وغير ذلك من الموارد، التي لسنا بصددها الآن([5]).

وما يعنينا هنا هو الاحتجاجات التي أقامها المعصومون^ في إطار مناظراتهم مع مدَّعي التصوُّف المعاصرين لهم، والتي بإمكانها أن تشكِّل مصدراً ثريّاً يُستعان به في ترسيم حدود الرياضة المبتغاة للشريعة.

1ـ الحوار بين النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأصحاب الصُّفّة

الصُّفّة مكانٌ مظلَّل بجريد النخل في مؤخّرة المسجد النبويّ الشريف، أُعِدَّ لنـزول الغرباء العزّاب من المهاجرين والوافدين، الذين لا مأوى لهم ولا أهل. وكانت حالة الفقر والعَوَز الشديد تلفّ أهل الصُّفّة إلى درجةٍ يفتقد معها أحدُهم للرداء المناسب لأداء الصلاة في المسجد، أو ما يلزمه من عدّةٍ للمشاركة في الجهاد. ومع ذلك؛ ونتيجة لتعاليم النبيّ| وتربيته وتواصله الدائم معهم، فقد ظهر من بينهم قِمَمٌ في العلم والتقوى والسلوك والجهاد، أمثال: سلمان الفارسي، وأبي ذرّ الغفاري، وابن مسعود، وبلال بن رباح، وخباب بن الأرت، وصهيب بن سنان، والمقداد، وعمّار بن ياسر، وآخرين.

رُوي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق×، عن أبيه، عن آبائه^، أن رسول الله| كان يأتي أهل الصُّفّة، وكانوا ضِيفانَ رسول الله|، كانوا هاجروا من أهاليهم وأموالهم إلى المدينة، فأسكنهم رسول الله| صُفّة المسجد، وهم أربعمائة رجلٍ، يسلِّم عليهم بالغداة والعشيّ، فأتاهم ذات يومٍ؛ فمنهم مَنْ يخصف نعله؛ ومنهم مَنْ يرقع ثوبه؛ ومنهم مَنْ يتفلَّى، وكان رسول الله| يرزقهم مُدّاً من تمرٍ في كلّ يومٍ، فقام رجلٌ منهم، فقال: يا رسول الله، التمر الذي ترزقنا قد أحرق بطوننا! فقال رسول الله|: «أما إني لو استطعْتُ أن أطعمكم الدنيا لأطعمتُكم، ولكنْ مَنْ عاش منكم من بعدي فسيُغدى عليه بالجِفان ويُراح عليه بالجِفان، ويغدو أحدكم في قميصه ويروح في أخرى، وتنجدون بيوتكم كما تنجد الكعبة»، فقام رجلٌ، فقال: يا رسول الله، أنا على ذلك الزمان بالأشواق، فمتى هو؟ قال|: «زمانكم هذا خيرٌ من ذلك الزمان، إنكم إنْ ملأتُم بطونكم من الحلال توشكون أن تملأوها من الحرام».

ثمّ تحدَّث النبيّ| بحديثٍ جاء فيه على ذكر الحساب والقبر، فتأثَّر بعض مَنْ حوله من أصحاب الصُّفّة (سعد بن أشج) أثراً بالغاً، فقال: «إني أشهد الله وأشهد رسوله ومَنْ حضرني أن نوم الليل عليَّ حرامٌ، والأكل بالنهار عليَّ حرامٌ، ولباس الليل عليَّ حرامٌ، ومخالطة الناس عليَّ حرامٌ، وإتيان النساء عليَّ حرامٌ، فقال رسول الله|: يا سعد، لم تصنع شيئاً، كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا لم تخالط الناس؟ وسكون البرّية بعد الحضر كفرٌ للنعمة. نَمْ بالليل، وكُلْ بالنهار، والبَسْ ما لم يكن ذهباً أو حريراً أو معصفراً، وأْتِ النساء. يا سعد، اذهب إلى بني المصطلق فإنهم قد ردّوا رسولي، فذهب إليهم، فجاء بصدقةٍ، فقال رسول الله|: كيف رأيتَهم؟ قال: خير قومٍ، ما رأيتُ قوماً قطّ أحسن أخلاقاً فيما بينهم من قومٍ بعثتني إليهم، فقال رسول الله|: إنه لا ينبغي لأولياء الله تعالى من أهل دار الخلود، الذين كان لها سعيُهم، وفيها رغبتُهم، أن يكونوا أولياء الشيطان من أهل دار الغرور، الذين لها سعيُهم، وفيها رغبتُهم.

هنا تبادر لأصحاب الصُّفّة السؤال التالي: اذن ما هو المعيار الدقيق للإيمان الحقيقي؟ فقيل: يا رسول الله، فأي المؤمنين أكْيَس؟ قال: أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً، أولئك هم الأَكْياس»([6]).

يتّضح إذن أن النبيّ الكريم| رجّح الجوع والفقر المبنيّ على الحلال على الغنى المبنيّ على الحرام، ومن جانبٍ آخر أدان العزلة والإفراط في الارتياض؛ بحجّة العبادة والتنسُّك.

وبعبارةٍ أخرى: يمكن الاستنتاج من المأثور النبويّ أن للإيمان الحقيقي ثلاثة مؤشّرات، أو قُلْ: إنه مثلّث مؤلّف من ثلاثة أضلاع: أولاها: مراعاة الحلال والحرام؛ وثانيها: الرياضة المعتدلة، التي تحمل المرء على ذكر الموت والحساب والاستعداد للقاء الباري عزَّ وجلَّ؛ وثالثها: الكفّ عن الإفراط في الارتياض، بما يهدر حقّ الأسرة والمجتمع، وينتهي بكفران النِّعَم الإلهية.

2ـ احتجاج الإمام عليّ× على عاصم بن زياد

شكا العلاء بن زياد أخاه عاصماً إلى أمير المؤمنين×، قائلاً: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلَّى من الدنيا، قال: عليَّ به. فلمّا جاء قال: يا عديّ نفسه، لقد استهام بك الخبيث. أما رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحلَّ لك الطيِّبات وهو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنتَ في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! قال: ويحك، إنّي لستُ كأنتَ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل أن يقدِّروا أنفسهم بضَعَفة الناس؛ كي لا يتبيَّغ بالفقير فقرُه([7]).

يتَّضح بهذا الخبر ملاكٌ مهمّ من ملاكات الرياضة المباحة، أو رُبَما الواجبة، وهي التي على الحاكم أن يمارسها؛ فعلى الحاكم أو الإمام العادل أن يقدِّر نفسه بأشدّ الناس فقراً من الناحية الاقتصادية، ومواساتهم في المأكل والملبس. ولا يخفى كم هو قاسٍ تحمُّل مثل هذه الرياضة على الحاكم المبسوط اليد إنْ كان في زمانه مَنْ يعاني الفقر والعَوَز الشديد، كما كان ذلك واقع المسلمين في صدر الإسلام.

وهنا قد يستفهم القارئ: إنْ كان على الحاكم العادل أن يقدِّر نفسه بضَعَفة الناس، إذن كيف أمكن لبعض الأنبياء، كداوود ويوسف وسليمان^، أن يسكنوا القصور، ويحيَوْا حياة الرخاء، وهم أنبياء وموصوفون بالعدل في الوقت ذاته، ألم يكن حريّاً بهم أن يقدِّروا أنفسهم بضَعَفة الناس؟!

الأمر الآخر هو: ماذا سيكون موقف أسرة الحاكم وذويه من نهجه العسير والرياضة الشاقّة وجشوبة العيش التي اتَّخذها لنفسه؟ بمعنى إنْ كان ذلك النهج واجباً على الحاكم العادل فما هو موقف أسرته من ذلك، وخصوصاً أنه أمرٌ ينعكس على حياته وبيته وأسرته؟!

هذه الاسئلة وغيرها ستتّضح إجاباتها لاحقاً، من خلال حديثنا عن جوانب الموضوع المختلفة.

3ـ احتجاج الإمام الصادق (عليه السلام) على سفيان الثوري وأتباعه

يعتبر احتجاج الإمام الصادق× على سفيان الثوري وأصحابه أحد أهمّ وأبرز المحاججات التي احتجّ بها الأئمّة المعصومين^ على المدرسة الصوفيّة. وقد رُويت هذه المحاججة بطرقٍ عديدة ومختلفة، لكنْ من بين هذه الروايات هناك روايةٌ جامعة، سنحاول دراسة فقراتٍ منها على نحو الإيجاز.

وتبدأ أحداث المحاججة حين دخل سفيان الثوري على أبي عبد الله×، فرأى عليه ثياباً بيضاً كأنها غرقئ البيض، فقال له: إن هذا ليس من لباسك، فقال× له: «اسمَعْ منّي، وعِ ما أقول لك؛ فإنه خيرٌ لك عاجلاً وآجلاً. إنْ كنتَ أنتَ متَّ على السنّة والحقّ ولم تمُتْ على بِدْعَةٍ، أخبرك أن رسول الله| كان في زمانٍ مقفر جشب، فإذا أقبلَتْ الدنيا فأحقُّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها؛ ومؤمنوها لا منافقوها، ومسلموها لا كفّارها».

وهنا نجد الامام الصادق× ينوِّه الى أولى العناصر الباعثة على الرياضة، وهي استشراء الفقر بين الناس، والذي تفرضه الظروف البيئية، كالجفاف والآفات وغيرها. ففي مثل هذه الحالة على المسلمين أن يواسي أحدهم الآخر.

ثمّ يضيف×: فما أنكَرْتَ يا ثوريّ، فواللهِ ـ إنّي لمع ما ترى ـ ما أتى عليَّ مذ عقلتُ صباحٌ ولا مساءٌ ولله في مالي حقٌّ أمرني أن أضعه موضعاً إلاّ وضعتُه.

في هذه الفقرة يشير× إلى عنصرٍ آخر، وهو ضرورة اجتناب المال الحرام والمشبوه، وليس كلّ مالٍ، بمعنى أن تحصيل المال في حدّ ذاته ليس محرَّماً أو مكروهاً، إنّما المحرَّم والمكروه هو المال الحرام.

ثم أتاه قومٌ ممَّنْ يظهر التزهُّد، ويدعون الناس أن يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشُّف، فقالوا: إن صاحبنا حصر من كلامك، ولم تحضره حجّةٌ. فقال× لهم: هاتوا حججكم، فقالوا: إن حججنا من كتاب الله، فقال لهم: فأدلوا بها؛ فإنها أحقُّ ما اتُّبع وعُمل به، فقالوا: يقول الله تبارك وتعالى، مخبراً عن قومٍ من أصحاب النبيّ|: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ([8])، فمدح فعلهم؛ وقال في موضعٍ آخر: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً([9])، فنحن نكتفي بهذا.

فالتفت× إليهم، متحدِّثاً حول الناسخ والمنسوخ من الآيات القرآنية الكريمة: «دَعُوا عنكم ما لا تنتفعون به، أخبروني أيها النَّفَر، ألكم علمٌ بناسخ القرآن من منسوخه، ومُحْكَمه من متشابِهه، الذي في مثله ضلَّ مَنْ ضلّ وهلك مَنْ هلك من هذه الأمّة؟ فقالوا له: أو بعضه، فأما كلّه فلا، فقال لهم: فمن هنا أُتيتم. وكذلك أحاديث رسول الله|. فأما ما ذكرتُم من إخبار الله عزَّ وجلَّ إيّانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحُسْن فعالهم فقد كان مباحاً جائزاً، ولم يكونوا نُهُوا عنه، وثوابهم منه على الله عزَّ وجلَّ، وذلك أن الله جلَّ وتقدَّس أمر بخلاف ما عملوا به، فصار أمرُه ناسخاً لفعلهم، وكان نهي الله تبارك وتعالى رحمةً منه للمؤمنين ونظراً؛ لكي لا يضرّوا بأنفسهم وعيالاتهم، منهم: الضَّعَفة الصغار والولدان والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة، الذين لا يصبرون على الجوع، فإن تصدَّقْتُ برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعاً، فمن ثَمَّ قال رسول الله|: خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الإنسان وهو يريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الإنسان على والدَيْه، ثمّ الثانية على نفسه وعياله، ثمّ الثالثة على قرابته الفقراء، ثمّ الرابعة على جيرانه الفقراء، ثمّ الخامسة في سبيل الله، وهو أخسُّها أجراً».

يتّضح إذن أنّ عدم إحاطة بعض المتصوِّفة بالناسخ والمنسوخ جعلهم يتمسّكون ببعض الآيات، ويحتجّون بها، دون الالتفات إلى الآيات الناسخة، الأمر الذي أدّى بهم إلى الافراط في الإنفاق.

ثمّ قال: حدَّثني أبي أن رسول الله| قال: ابدأ بمَنْ تعول، الأدنى فالأدنى. ثم هذا ما نطق به الكتاب؛ ردّاً لقولكم، ونهياً عنه، مفروضاً من الله العزيز الحكيم، قال: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً. أفلا ترَوْن أن الله تبارك وتعالى قال غير ما أراكم تدعون الناس إليه من الأثرة على أنفسهم، وسمّى مَنْ فعل ما تدعون إليه مسرفاً. وفي غير آيةٍ من كتاب الله يقول: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، فنهاهم عن الإسراف، ونهاهم عن التقتير، ولكنْ أمرٌ بين أمرين، لا يعطي جميع ما عنده ثمّ يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له؛ للحديث الذي جاء عن النبي|: إن أصنافاً من أمّتي لا يُستجاب لهم دعاؤهم: (…ورجلٌ رزقه الله عزَّ وجلَّ مالاً كثيراً فأنفقه ثمّ أقبل يدعو: يا ربّ، ارزقني، فيقول الله عزَّ وجلَّ: ألم أرزقك رزقاً واسعاً؟ فهلاّ اقتصدْتَ فيه كما أمرتُكَ، ولم تسرِفْ وقد نهيتُكَ عن الإسراف؟…).

ثم ساق× حكايةً غريبةً عن النبيّ|، أصبحت فيما بعد شأناً لنزول بعض الآيات الكريمة، فقال: ثمّ علَّم الله عزَّ وجلَّ نبيَّه| كيف ينفق؟ وذلك أنه كانت عنده أوقيةٌ من الذهب، فكره أن تبيت عنده، فتصدَّق بها، فأصبح وليس عنده شيءٌ، وجاءه مَنْ يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه، فلامه السائل، واغتمّ هو؛ حيث لم يكن عنده ما يعطيه، وكان رحيماً رقيقاً، فأدَّب الله عزَّ وجلَّ نبيَّه| بأمره، فقال: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً، يقول: إن الناس قد يسألونك، ولا يعذرونك، فإذا أعطيْتَ جميع ما عندك من المال كنْتَ قد حسرت من المال([10]).

يتّضح مما تقدَّم أنّ الآيات التي تمسَّك بها المتصوِّفة قد نُسخت بآياتٍ أخرى رسمت حدود الإنفاق والرياضة المالية، بما يصون النفس ويحفظ ماء الوجه، ليس للمرتاض فحَسْب، إنما لأسرته وأرحامه، على أن لا يستهلك جميع ما عنده، بل يحاول دَوْماً أن يدَّخر شيئاً ليجد ما ينفق منه فيما بعد.

ثمّ انتقل الإمام الصادق× إلى الحديث عن سيرة أصحاب الرسول| في الإنفاق، منوِّهاً إلى عددٍ من النقاط المهمّة:

أوّلها: إن الفقر والحرمان الشديد يجعل النفس تتثاقل عن العبادة: (أما علمتم، يا جهلة، أن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا هي أحرزَتْ معيشتها اطمأنَّتْ).

وثانيها: توقُّف بعض أحكام الشريعة على وجود المال، وبالتالي إقبال الناس على التصوُّف بمفهومه السلبيّ، وزهدهم بالمال إلى درجة القحط، قد يتسبَّب بتعطيل هذا النوع من الأحكام، لذلك نوَّه الإمام× إلى ذلك بقوله: (وأخبروني أيضاً عن القضاة، أجَوَرة هم (جائرين) حيث يقضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال: إني زاهدٌ، وإني لا شيء لي؟! فإنْ قلتُم: جَوَرة ظلَّمكم أهل الإسلام، وإنْ قلتُم: بل عدول خصمتم أنفسكم… أخبروني لو كان الناس كلُّهم كالذين تريدون،
زهّاداً لا حاجة لهم في متاع غيرهم، فعلى مَنْ كان يتصدَّق بكفّارات الأَيْمان والنذور والصدقات من فرض الزكاة من الذهب والفضة والتمر والزبيب وسائر ما وجب فيه الزكاة، من الإبل والبقر والغنم، وغير ذلك؟! إذا كان الأمر كما تقولون لا ينبغي لأحدٍ أن يحبس شيئاً من عرض الدنيا إلاّ قدّمه، وإنْ كان به خصاصة).

ثمّ استأنف× حديثه، مستعرضاً سيرة عددٍ من الأنبياء: (أخبروني أنتم عن سليمان بن داوود×، حيث سأل الله ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فأعطاه الله جلَّ اسمُه ذلك […]؛ وداوود× قبله في ملكه وشدّة سلطانه. ثمّ يوسف النبيّ×، حيث قال لملك مصر: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾).

وبسَوْقه لسيرة عددٍ من الانبياء الماضين كشف الإمام الصادق× عن حقيقةٍ مهمّة، وهي أن التوفُّر على المال، حتّى لو كان بأرقامٍ كبيرة، ليس أمراً مذموماً، وليس معياراً لتقييم الناس أيضاً.

ومما تقدَّم يتَّضح أن السرّ وراء بعض الانحرافات التي مُنيَتْ بها المدرسة الصوفيّة هو في جهل روّادها، وإعراضهم عن الرجوع إلى حَمَلة القرآن الحقيقيين، أي أهل البيت^. وقد نوَّه× إلى هذه الحقيقة في أكثر من موضعٍ، فقال موجِّهاً خطابه لهم: (فتأدَّبوا أيُّها النَّفَر بآداب الله عزَّ وجلَّ للمؤمنين، واقتصروا على أمر الله ونهيه، ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم، ممّا لا علم لكم به، وردوا [الـ‍] علم إلى أهله[…]، ودعوا الجهالة لأهلها، فإن أهل الجهل كثيرٌ، وأهل العلم قليلٌ، وقد قال الله: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾)([11]).

4ـ احتجاج الإمام الرضا (عليه السلام) على جمعٍ من المتصوِّفة

ورد في الأثر أنه دخل على الرضا× بخراسان قومٌ من الصوفيّة، فقالوا له: إن أمير المؤمنين نظر في ما ولاّه تعالى من الأمر، فرآكم أهل البيت أَوْلى الناس بأن تقوموا الناس، ونظر فيكم أهل البيت فرآك أَوْلى الناس بالناس، فرأى أن يردّ هذا الأمر إليك، والأمة تحتاج إلى مَنْ يلبس الخشن، ويأكل الجشب، ويركب الحمار، ويعود المريض، قال: وكان الرضا متّكئاً، فاستوى جالساً، ثمّ قال: كان يوسف× نبيّاً يلبس أقبية الديباج المزرّرة بالذهب، ويجلس على متّكآت آل فرعون، ويحكم. إنما يُراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق، وإذا حكم عدل، وإذا وعد أنجز، إن الله لم يحرِّم ملبوساً ولا مطعماً، وتلا قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ﴾)([12]).

تتضمَّن هذه الرواية أيضاً مجموعةً من الصور السلوكية لعددٍ من الانبياء السابقين، كالنبيّ يوسف×، يسوقها الإمام المعصوم× كشاهدٍ على سقم المنحى الصوفي في الارتياض. وتختلف هذه الرواية عن سابقتها في أمرٍ واحد، وهي أن الإمام الصادق× لم يكن يشغل منصباً حكومياً، الذي هو أحد الدواعي للتقيُّد بالرياضة الروحية، أما في الرواية الأخرى فالإمام الرضا× يتولّى منصباً حكومياً مهمّاً، يتمثَّل في ولاية العهد، وهو في الوقت ذاته لا يذهب إلى ضرورة الالتزام بالرياضة الروحية.

بناءً على ذلك لا بُدَّ من التوقُّف عند الجَدَلية التي تحكم العلاقة بين الرياضة الروحية وبين تولي المناصب الحكومية، وتمحيص الأمر بشكلٍ دقيق، وهذا هو بالضبط ما سنتناوله لاحقاً.

كما نودّ أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ هناك المزيد من الروايات حول الصوفيّة، كالتي نُقلت عن الإمام الهادي× وغيرها، نعرض عن إيرادها؛ للوَهْن السندي أو النصّي.

تحليل الروايات واستخلاص المعايير

لاستخلاص أبرز معايير الرياضة الروحية المبتغاة دينياً من خلال المناظرات السابقة لا بُدَّ أوّلاً من تسليط الضوء على عددٍ من المحاور التي لها علاقةٌ مباشرة بالرياضة الروحية:

المحور الأوّل: الرياضة الروحية ومقتضيات الزمان والسلطة ودرجة الفضيلة

لا يخفى أن الرياضة في المأكل والملبس، التي كان ملتَزِماً بها كلٌّ من: النبيّ| والإمام عليّ× قلّ أن نشهد نظيرها في ما بلغنا من سيرة سائر الأئمّة، وخصوصاً المتأخِّرين منهم، كالصادق والرضا’. ومن خلال ما مرَّ بنا من مناظراتٍ فإنّ أبرز مبرِّرات هذا الاختلاف يمكن تلخيصه في أمرين: الأوّل: الوجود في دائرة السلطة من عدمه؛ والثاني: المستوى الاقتصادي للشعب.

وهنا بالتحديد قد يستغرب البعض موقف الإمام الرضا×، فمع وجوده في دائرة السلطة وفي منصبٍ مهمّ كولاية العهد، إلاّ أنه لا يرى وجوب الالتزام بالرياضة في المأكل والملبس. وقد تمثَّل في حديثه مع المتصوِّفة بما تمثَّل به جدُّه الصادق× بسيرة كلٍّ من الأنبياء داوود وسليمان ويوسف^. ومردّ ذلك إلى السبب الثاني الذي ذكرناه، أي الاختلاف في المستوى الاقتصادي لأفراد المجتمع الإسلامي، وهو ما ورد في الجزء الأوّل من مناظرة الإمام الصادق×.

وبكلمةٍ أخرى: إن الدليل الثاني يقيِّد الدليل الأوّل على نحو الإلزام، بمعنى أن (المستوى الاقتصادي للمجتمع) هو الذي يتحكّم بسلوك (الحاكم) ويقيِّده. فالسلطة في زمن الفقر تستوجب الرياضة الروحية، فيما لا تستوجب ذلك السلطة في زمن الرخاء. لذلك عاش النبيّ| والإمام عليّ× حياةً زاخرةً بالزهد والتقشُّف؛ لأن الفقر كان مستشرياً في المجتمع آنذاك. وبالتالي لم تكن السلطة وحدها سبباً في التقشُّف، إنما السلطة والحالة الاقتصادية المتردّية للمجتمع معاً، إذ إن السلطة وحدها ليست سبباً كافياً للتمسُّك بحياة الزهد والتقشُّف، فلم يكن الأنبياء يوسف وداوود وسليمان^ متقشِّفين، مع أنهم كانوا على رأس السلطة.

والآن لنتأمَّل هل من شواهد تأريخية تعضد هذه الرؤية؟

إن دراسة الواقع الاجتماعي في صدر الإسلام وما تلاه، ومقارنته بالواقع الاجتماعي في عهد الأنبياء يوسف وداوود وسليمان^، يعضد تأريخياً ما ورد عن الإمام الصادق×.

لقد تسنَّم النبيّ والإمام عليّ مقاليد السلطة في حقبةٍ زمنية كان الفقر والعَوَز فيها قد هيمن على أغلب الشرائح الاجتماعية. فقد بُعث النبيّ في بيئةٍ اجتماعية فقيرة، محاطة بالجهل والتخلُّف، وتفتقر إلى أبسط مفردات التمدُّن، تقول السيدة فاطمة الزهراء÷، في خطبتها المعروفة بالفَدَكية: (…مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون الورق، أذلّةً خاسئين، ﴿تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ﴾ من حولكم…)([13]). فلم يزَلْ النبيّ| مكلَّفاً بمواساة الفقراء (كأصحاب الصُّفّة) حتّى بعد أن استتبّ له الأمر، وأصبح على رأس هرم السلطة: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا([14]). وفي كتابه إلى ابن حنيف يقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب×: (أَوَأبيتُ مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرّى)([15]). لكنّ هذه الحال لم تدُمْ طويلاً؛ إذ سرعان ما بدَّدها صعود أوّل طبقةٍ من الخلفاء المتلهِّفين للسلطة، ومن ثمّ توالي الفتوحات الإسلامية والاستيلاء على الغنائم والانفتاح على الحضارات الجديدة، كالحضارة الفارسية والرومانية، فبدأت القصور الفارهة بالظهور، وانتشر الرخاء الاقتصادي بين الناس، فاختلف المستوى الاقتصادي للمجتمع في عصر الأئمة المتأخِّرين كثيراً عمّا كان عليه الحال في صدر الإسلام. من هنا وجدنا الإمامين الصادق والرضا’، في احتجاجهما على المتصوِّفة، يتمثَّلان بسيرة أنبياء كيوسف وداوود وسليمان^، وليس موسى وعيسى ومحمد^؛ إذ بالعودة إلى سيرة الأنبياء يوسف وداوود وسليمان^ نجد أن بيئتهم كانت بيئة القصور والرفاهية؛ فقد نشأ يوسف× في قصر عزيز مصر، وورث خزائن الأرض؛ كما ورث داوود× سلطان طالوت بعد مقتله؛ وورثه عنه ابنه سليمان× فيما بعد([16]). وقد عَدَّ القرآن الكريم الملك والحكم الذي أولاه هؤلاء الأنبياء نعمةً من أنعم الله البالغة، ووصفه بالعطاء والمكافأة التي كافأ الله بها أنبياءه، دون أن يحيد بهم هذا العطاء عن جادّة العبادة والزهد.

إن جوهر المسألة يكمن في الاختلاف بين بيئة السلطة وبيئة الشعب. فلم يشمل الفقر والعَوَز في صدر الإسلام طبقة المجتمع في شبه الجزيرة العربية فحَسْب، إنما السلطة أيضاً، والمتمثِّلة بالنبيّ| والإمام عليّ× كذلك، بمعنى أن الفقر كان حالةً سائدة، بدءاً ببيت الحاكم وزقاقه وانتهاءً بأقصى حدود الدولة الإسلامية، فقد كان بين العرب وبين الحضارة والرخاء الاقتصادي بَوْنٌ شاسع آنذاك. وهذا الأمر مختلفٌ تماماً عمّا كان عليه حال الأنبياء يوسف وداوود وسليمان^، الذين نشأوا في أروقة القصور، وفي بحبوحة البلاط، دون أن يكون لهم دَوْرٌ في إيجادها، ورُبَما كان الناس خارج القصور يعانون الفقر والعَوَز. لكنْ في حالة النبيّ| والإمام عليّ× لم يكن الأمر كذلك، كما أسلَفْنا؛ إذ لو أقدما على تشييد القصور، وابتغيا حياة الملوك والسلاطين، في تلك البيئة الفقيرة المحيطة بهما، وأمام ناظرَيْ الطبقة المحرومة، لكان ذلك سلوكاً منافياً لمنظومتهما الأخلاقية الرفيعة. لكنْ في حالة يوسف وداوود وسليمان^ حتّى لو كان الفقر سائداً خارج أسوار القصور التي كانوا يرتادونها، إلاّ أنهم لم يشيِّدوا تلك القصور؛ كي يستفزّوا الفقراء من الناس، إنّما وضعوا بين جدرانها مرغمين، ودون رغبةٍ منهم؛ لذلك عملوا على استثمارها وتوظيفها لبسط العدل الإلهي، وهذا ما لا يضرّ بمبادئ الأخلاق السامية.

والملاحظة الأخرى أن كلاًّ من: الإمام الرضا× والنبيّ يوسف× لم يكونا على رأس السلطة، إنما في منصبٍ أدنى؛ فالإمام الرضا× كان وليّاً للعهد، كما كان يوسف× مسؤول الخزينة، وفي مثل هذه الحالة لو أراد كلٌّ منهما الخروج عن أعراف البلاط، واتّخاذ المسلك الصوفي المتنسِّك، فسيصطدمان دون شكٍّ برأس السلطة، وسيقدمان على إيجاد نوعٍ من التعارض بين سلوك الحاكم وسلوك النائب، ممّا يفضي إلى زعزعة أصل النظام، وهذا ما لم يكن بالمقدور الإقدام عليه.

وما يهمّنا الآن هو السؤال التالي: إذا كان الزهد قيمةً أخلاقية ومعنوية رهينة الواقع الزمني والمكاني إذن لن يكون الزهد مبدأً ثابتاً، وإنما يتأثّر نسبيّاً بالظرف والبيئة، فعند ازدهار الواقع الاقتصادي للشعب ينتفي هذا المبدأ، ولن يعود له موضوعية، ولذلك لا يوصف بالزهد كلٌّ من الأنبياء والأئمّة يوسف وسليمان والرضا^!

والإجابة عن هذا السؤال تتّضح من خلال التعريف الدقيق للزهد في تراث الأئمّة المعصومين^. فالزهد بحَسَب أدبيات المعصومين ليس أمراً مرهوناً بالمتغيِّرات الخارجية، إنما هو صفةٌ نفسانية داخلية. وكما ورد في العديد من الأخبار إن تعريف الزهد هو مفاد الآية الكريمة: ﴿لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ([17]).

يقول الإمام الصادق× في تعريف الزهد: (ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال، ولا بتحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عزَّ وجلَّ)([18]).

وممّا تقدَّم تتّضح أغلب إبهامات الموضوع، ويبقى هناك جزءٌ متمِّم لا بُدَّ من إلقاء بعض الضوء عليه، ويتمثَّل في اختلاف مقامات الأنبياء والأئمّة.

فقد ورد في كتاب الله سبحانه: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ…﴾ (البقرة: 253).

ونلاحظ أن النصّ القرآني الكريم بصدد بيانه مقامات الأنبياء أتى على ذكر بعض أنبياء أولي العزم، كموسى وعيسى’، وبالعودة إلى الروايات والأخبار نجد أن موسى وعيسى’ كانا أكثر الأنبياء زهداً وارتياضاً.

يقول الإمام عليّ×، في حديثه عن دعوة موسى×: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾: واللهِ ما سأله إلاَّ خبزاً يأكله؛ لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه؛ لهزاله وتشذّب لحمه)([19])؛ وقال×: ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون صلى الله عليهما على فرعون، وعليهما مدارع الصوف، وبأيديهما العصا، فشرطا له ـ إنْ أسلم ـ بقاء ملكه، ودوام عزّه، فقال: ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترَوْن من حال الفقر والذلّ)([20]).

ويقول×، في وصف عيسى×: (كان يتوسَّد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجةٌ تفتنه، ولا ولدٌ يحزنه، ولا مالٌ يلفته، ولا طمعٌ يذلّه، دابّته رجلاه، وخادمه يداه)([21]).

وفي خطبته المعروفة بالقاصعة يصرِّح الإمام عليّ× بالتناسب الطرديّ بين الرياضة الروحية وبين مقام الانبياء: (…كلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجْزَل…)([22]).

من هنا يوجِّه القرآن الكريم دعوته لخاتم الأنبياء، والذي يمثِّل جوهرة الأنبياء أولي العزم، بقوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ﴾.

وعن الإمام جعفر الصادق× قال: (لما أُسري بالنبيّ| إلى السماء قيل له: إن الله تبارك وتعالى يختبرك في ثلاث؛ لينظر كيف صبرك…: أولاهنّ: الجوع والأثرة على نفسك وعلى أهلك لأهل الحاجة[…]؛ وأما الثانية فالتكذيب والخوف الشديد، وبذلك مهجتك في محاربة أهل الكفر بمالك ونفسك، والصبر على ما يصيبك منهم ومن أهل النفاق من الأذى والألم في الحرب والجراح[…]؛ وأما الثالثة فما يلقى أهل بيتك من بعدك من القتل)([23]).

المحور الثاني: الرياضة الروحية وحقّ الأسرة

بالنسبة إلى الرياضة الروحية وأثرها على حقوق الأسرة نحن أمام نمطين من الأخبار: المجموعة الأولى: تذمّ إشراك الأسرة في الرياضة الروحية؛ والمجموعة الثانية: تشيد بذلك.

ويمكن عدّ الروايات المنقولة عن النبيّ| والإمام عليّ×، التي مرَّتْ بنا سابقاً، من جملة الفئة الأولى؛ وكذلك الروايات التي تحكي اختلاف سلوك الأئمّة عند الخلوة وبين الأسرة. وعلى سبيل المثال: يروي أحدهم قائلاً: (دخلتُ على أبي جعفر×، أنا وصاحبٌ لي، فإذا هو في بيتٍ منجّد، وعليه ملحفةٌ وردية، وقد حفّ لحيته، واكتحل، فسألناه عن مسائل، فلما قُمْنا قال لي: يا حسن، قلتُ: لبّيك، قال: إذا كان غداً فأْتِني أنتَ وصاحبُك، فقلتُ: نعم، جُعلتُ فداك، فلما أن كان من الغد دخلتُ عليه، فإذا هو في بيتٍ ليس فيه إلاّ حصيرٌ، وإذا عليه قميصٌ غليظ، ثمّ أقبل على صاحبي، فقال: يا أخا أهل البصرة، إنك دخلتَ عليَّ أمس وأنا في بيت المرأة، وكان أمس يومها، والبيت بيتها، والمتاع متاعها، فتزيَّنَتْ لي على أن أتزيَّن لها كما تزيَّنَتْ لي، فلا يدخل على قلبك شيء، فقال له صاحبي: جُعلت فداك، قد كان والله دخل قلبي شيءٌ، فأما الآن فقد واللهِ أذهب اللهُ ما كان، وعلمتُ أن الحقّ في ما قلتَ)([24]).

أما المجموعة الثانية من الأخبار فيمكن الإشارة الى الآيات والروايات المتعلقة بنساء النبيّ| وأسرة عليّ×.

يقول القرآن الكريم، بخصوص نساء النبيّ|: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً﴾ (الأحزاب: 28 ـ 29).

يقول العلاّمة الطباطبائي في ذيل الآيات المتقدّمة: (سياق الآيتين يلوح أن أزواج النبيّ أو بعضهنّ كانت لا ترتضي ما في عيشتهنّ في بيت النبيّ| من الضيق والضَّنك، فاشتكَتْ إليه ذلك، واقترحت عليه أن يسعدهنّ في الحياة، بالتوسعة فيها وإيتائهنّ من زينتها، فأمر الله سبحانه نبيَّه أن يخيّرهُنَّ بين أن يفارقْنَه ولهُنَّ ما يردْنَ وبين أن يبقينَ عنده ولهُنَّ ما هُنَّ عليه من الوضع الموجود)([25]).

أما بالنسبة لحياة الزهد والتقشف والرياضة التي عاشها أهل بيت الإمام عليّ× فتعكسها الآية القرآنية الكريمة: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾، التي أفادت الكثير من الأخبار والروايات، التي تصل حدَّ التواتر، بأنها نزلت فيهم، بل نزلت فيهم سورة «الإنسان» بأكملها([26]).

كما أن هناك الكثير من الأخبار التي تصف الرياضة الروحية للزهراء÷ على صعيد المأكل والملبس وغيرها([27]). وعلى سبيل المثال: رُوي أنّ فاطمة الزهراء÷ قد صنعت مسكتين من فضّة، وقلادة، وقرطين، وستراً للباب، وكان رسول الله| في سفرٍ، فلمّا عاد من سفره دخل عليها، ولم يمكث عندها ـ طويلاً ـ كما كانت عادته ـ، فخرج إلى المسجد، ففسَّرت فاطمة÷ هذا الموقف على أنّ الرسول| إنّما تعجَّل في مغادرة بيتها بسبب ما رآه من المسكتين والقلادة والقرطين والستر، فنزعتها ـ جميعاً ـ، وبعثتها إلى رسول الله|، وقالت لرسولها: قُلْ له: «تقرأ عليك ابنتك السلام، وتقول: اجعَلْ هذا في سبيل الله»، فلما أتاه بها وحدَّثه بما نبّأت به الزهراء هتف محمدٌ بقوله: «فعلَتْ، فداها أبوها، فداها أبوها»، ثمّ عاد لزيارتها مستبشراً([28]).

إن أهم ما تتميَّز به الزهراء÷ عن باقي نساء النبيّ| شدّة تنسُّكها ورياضتها الروحية. ولم يسمع عنها أنّها اشتكَتْ أو امتعضَتْ يوماً قطّ، بل بالعكس، طالما كانت هي مَنْ يقبل على هذا النوع من الرياضات، ولهذا السبب أصبحت محطّ ثناء الباري عزَّ وجلَّّ، ومورد ودِّه ومحبته.

وبالتأمُّل في مكوّنات وظروف الرياضة الروحية وحقّ الأسرة تطالعنا مجموعتين من الأخبار، نصل من خلالها إلى نتيجةٍ مماثلة لما توصَّلنا إليه في المحور الأوّل الذي تناولنا فيه رياضة الأنبياء والأئمّة^:

فمن جهةٍ هناك عنصر (السلطة السياسية) كما في حالة النبيّ| وعليّ×، التي تفرض على أُسَرهم رياضة معتدلة، خلافاً لحالة الإمامين الصادق والرضا’.

ومن جهةٍ أخرى هناك عنصر (الفضيلة)، الذي يميِّز شخص السيدة الزهراء÷ عن باقي نساء النبيّ|، مع أن كلاًّ منهم كان يعيش ذات الزمان والمكان والبيئة.

وبعبارةٍ أخرى: كما أنّه من الواجب تنزيل النبيّ| وعليّ× منزلة أولي العزم من الأنبياء فكذلك لا بُدَّ من تنزيل السيدة الزهراء÷ منزلتهم أيضاً؛ وذلك لأنّها كفؤ عليّ×.

النتيجة العملية لما سبق تظهر في حالة التأسّي والاقتداء بنموذج الرياضة الروحية الخاصّ بالمعصومين^. فحين التأسّي بهم لا بُدَّ من مراعاة ثلاثة عناصر أساسية: (السلطة السياسية)؛ و(المتطلّبات الزمنية)؛ و(درجة الفضيلة والمنزلة). وبالتالي لا تفرض على غير الحاكم الرياضة الروحية المفروضة على الحاكم أو السلطان، كما لا يمكن مقارنة حالة الفقر والعَوَز التي كانت سائدةً في صدر الإسلام بحالة الرخاء النسبيّ في العصر الحاضر، وأخيراً ليس من المفروض بنا أو بأسرنا أن نحتمل رياضةً روحية كالتي كان يحتملها عليّ× وفاطمة÷؛ وذلك لمكانتهما الخاصّة ومنزلتهما المقرونة بمنزلة أولي العزم من الرسل، والتي لا يضاهيهما فيها حتّى أبناؤهما من الأئمّة^. لذلك لا بُدَّ من الالتفات إلى هذه المعايير، وكما قيل: (الحجر الكبير يخبرك بأنه غير مُعَدٍّ للرمي).

المحور الثالث: الرياضة الروحية والحقوق الاجتماعية والسياسية للأمة الإسلامية

تعتبر الحقوق الاجتماعية والسياسية للمجتمع الاسلامي أحد أهم الخطوط الحمراء للرياضة الروحية. فكما مرّ بنا في احتجاج الإمام الصادق× على أصحاب سفيان الثوري لو اتّخذت الرياضة شكل الرهبانيّة التي تمارَس بشكلٍ يوميّ، وعلى الدوام، لتعطَّلت معها الأحكام، وانغلق باب الصدقات والخمس والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجمعة والجماعة، والأعياد، وكافّة الأحكام الاجتماعية والسياسية للإسلام، ممّا يؤدّي الى انفراط العقد الاجتماعيّ. كما سينغلق باب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الضامن لبقاء وديمومة المجتمع الإسلاميّ، وبالتالي ليس أمامه سوى الوقوع في براثن العلمانية، كما حدث لأمّة النصارى من قَبْلُ، وهي لا تزال مرتهنةً به إلى يومنا هذا. ولا يخفى ما للجهاد في الإسلام من منزلةٍ عظيمة وأهمّية قصوى؛ إلى درجةٍ وصفَتْه بعض الأحاديث فقالت: (رهبانية أمّتي الجهاد في سبيل الله).

إذن تحرم الرياضة التي تتَّخذ طابع الرهبانية النصرانية والتطرُّف في العزلة والتقوقع؛ لأنها تهدِّد سلامة الإنسان، وتساهم بانفراط العقد الاجتماعي الإسلامي. وسائر الأخبار التي تشجب الرهبانية تشير إلى هذا النوع من الرياضة الروحية. وهنا يجب الالتفات الى أنّ النهي عن الرهبانية لا يعني النهي عن كلّ أشكال الرياضة الروحية؛ فالإسلام قد استبدل هذا النَّمَط من الرياضة برياضةٍ هي أقسى وأشدّ، أطلق عليها: «الجهاد في سبيل الله»، وهي، مضافاً إلى ما تشتمل عليه من التضحية بالنفس، تهب الحياة للمجتمع الإسلامي.

المحور الرابع: حدود الرياضة، كمّاً وكيفاً

يعتبر الإطار الكمّي والكيفي للرياضة الروحية أحد أهمّ الضوابط أو الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها. فيجب أن لا يؤدّي نَمَط الرياضة الممارسة إلى الإضرار بالنفس ضَرَراً معتدّاً به. كما يجب أن لا يتجاوز مقدار الرياضة حدّاً يؤدّي إلى الإضرار بالنفس أو هَتْكها، أو يكون على حساب أمور طارئة وأكثر أهمّية؛ فحينها تعتبر الرياضة أمراً مذموماً، كما لاحظنا ذلك في حديث النبيّ| لأصحاب الصُّفّة.

إن الإسلام يحدِّد كافّة أنماط الرياضة الروحية بأُطُر وضوابط؛ فيجيز بعضها؛ وينهى عن البعض الآخر، ضمن معايير معينة، إلاّ في موضوعة الجهاد في سبيل الله المتضمِّن لأقسى المشقّات فالأمر يبدو مختلفاً. وقد يصحّ تأسيس قاعدةٍ عامّة مفادها أن مستوى المشقّة في الرياضة الروحية يتناسب طردياً مع أهمّية المقصود منها، أي إنْ كان المقصود أمراً مصيريّاً، كحفظ بيضة الإسلام والمجتمع الإسلامي، فالمشقّة بأعلى درجاتها ستكون ممدوحةً هنا، كما في حالة الجهاد في سبيل الله، الذي يُعَدّ من هذا النَّمَط من الرياضة الروحية. وكذلك يمكن الإشارة إلى المشاق التي تحمّلها الأنبياء أولو العزم^ والإمام عليّ بن أبي طالب×، التي لم يكن سواهم يطيقها، كلّ ذلك لأجل الغاية المقصودة، المتمثِّلة بالموقع الذي يحتلونه، والدَّوْر المناط بهم، والمسؤولية الملقاة على عاتقهم في تقويم صرح الشرائع الإلهية، والحرص على ديمومتها.

إذن يتّضح لنا أن حدود المشقّة المسموح بها يرسمها موقف الشخص نفسه، والهدف المقصود من وراء الرياضة الروحية؛ فإنْ كان مؤسِّساً لشريعةٍ جديدة أو حاكماً مسؤولاً عن مقدّرات الأمة الإسلامية فلا تستبعد منه رياضةٌ روحية بمستوى الرياضة التي كان يمارسها الأنبياء أولو العزم^، ولا تكبر عليه تضحياتٌ جسيمة كتضحيات عليّ بن أبي طالب×، وبالأخصّ إنْ كان المجتمع مبتلىً بالفقر والحرمان، فحينئذٍ سيكون لزاماً عليه التحاف الفقر، ومواساة الطبقات المحرومة في طريقة العيش. وكذلك الحال فيما لو لم يكن المرء سلطاناً أو حاكماً، لكنّه واجه حكماً بالجهاد في سبيل الله من قِبَل حاكم الشرع، فعندئذٍ لا بُدَّ من الامتثال وتحمُّل أيّ نَمَطٍ من أنماط الرياضة، مهما بلغَتْ قسوتها؛ وذلك من أجل تحقيق الغاية الأسمى.

وفي المحصِّلة: حتّى وإنْ تطلَّبت حياة الشريعة واستقرار وأمن وسلامة المجتمع الإسلامي رياضةً من نَمَطٍ خاصّ فلا يحقّ للمرء أن يتّخذها ذريعةً فيصادر حقوق المحيطين به وأسرته ومجتمعه، ولا أن يشقّ على نفسه بالجوع والعطش الشديدين وغير ذلك ممّا ينجم عنه ضَرَرٌ بالغ على نفسه، أو أعضاء جسده، كعينه وأذنه وسواهما، فكلُّ ذلك يندرج تحت قاعدة «لا ضَرَر»، وهو منهيٌّ عنه، كما لا يخفى([29]).

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى إباحة الضَّرَر البسيط أو المؤقَّت، بحَسَب الكثير من الأخبار التي تروي سيرة المعصومين^، وتصف عبادتهم، وما كانوا يعانونه من الضعف واصفرار الوجه وتورُّم القدمين وغير ذلك([30]).

المحور الخامس: جَدَلية العلاقة بين الرياضة والعقلانية وقاعدة الأهمّ والمهم

من خلال ما تقدَّم من محاور أصبح بإمكاننا اكتشاف الدَّوْر الحاسم لمبدأ (الأهمّ والمهمّ) في التمييز بين الرياضة الإسلامية ورياضة النصارى والمتصوِّفة.

ولنفترض أن الأمر كان مردّداً بين المسؤولية الاجتماعية أو الحكومية أو العائلية وبين الطقوس العبادية والرياضة الروحية الفردية، على سبيل المثال: شخصٌ قبل الزواج تصدّى لمنصبٍ اجتماعيّ أو حكوميّ (مع قيد الإسلام في الجميع)، وكان معتاداً على مزاولة المستحبّات لمدّة ساعتين في كلّ ليلةٍ. وفي هذه الحالة، أي بعد أن تزوَّج أو تسنَّم منصباً حكومياً، إنْ كان يريد الاستمرار بهاتين الساعتين فسيتخلَّف عن أداء مهامّه تجاه أسرته أو تجاه المجتمع، فحينئذٍ لمَنْ ستكون الأولوية؟

بالرغم من أن الإجابة قد تبدو بسيطةً، لكنّها في الواقع تتطلَّب شيئاً من التأمُّل. فللوهلة الأولى قد يبدو أنّ الأولوية للمنصب وللمسؤولية الاجتماعية والأسرية؛ انطلاقاً من أهمّية الجماعة، وضرورة تقديمها على الفرد، عقلاً وشرعاً.

لكنْ لو تأمَّلنا في الجانب الآخر للموضوع، أي على صعيد الواقع والتطبيق، فسيبدو الأمر مختلفاً تماماً؛ إذ لو تمَّتْ التضحية بالعبادية الفردية والتهذيب النفسي؛ من أجل الأسرة والمجتمع، فهذا لن يضرّ الإنسان كفردٍ، إنّما سينسحب الضَّرَر على الأسرة والمجتمع برمّته؛ لأنّ حضوره في الأسرة والمجتمع كفردٍ ملتزم ومهذَّب يختلف عن حضوره كفردٍ عَبَثيّ غير متورِّع. إذن ضرورة «تقديم الجماعة على الفرد» هي التي تحتِّم علينا منح الأَوْلوية للعبادة الفردية والرياضة الروحية والتهذيب النفسي.

وبعبارةٍ أدقّ: يمكن القول: إن المراد من تقديم «الجماعة» على «الفرد» هو الاهتمام بالجماعة، و«الحساسية» تجاهها، وهذا لا يعني بالضرورة التفرُّغ التامّ من أجل الجماعة، ومنحها كلّ الوقت والجهد، وإهمال الإنسان نفسه، بل المراد من تقديم الجماعة على الفرد الارتقاء بنوعيّة العمل مع الجماعة. وبعبارةٍ أبسط: أداء ساعةٍ واحدة لناشطٍ اجتماعي متّقٍ ووَرِعٍ أفضل من أداء ساعتين لناشطٍ اجتماعي غير وَرِعٍ.

من هنا نجد النبيّ|، بالرغم من شدّة عبادته وتنسُّكه وخلوته، أُمر بالتهجُّد وقيام الليل، بالتزامن مع تكليفه بإبلاغ الوَحْي وتحمُّل المسؤولية الإلهيّة والاجتماعية: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾ (المزمّل: 6 ـ 7).

وقد ذكر المفسِّرون للآية الكريمة معاني متعدّدةً، قريبةً من بعضها، ومن جملتها: (إنك تتحمّل في النهار مشاغل ثقيلة ومساعي كثيرة، فعليك بعبادة الليل؛ لتقوى بها روحك، وتستعدّ للفعاليات والنشاطات الكثيرة في النهار)([31]).

وبالتالي لن يؤثِّر النشاط الاجتماعي للفرد سَلْباً على عبادته الفردية وتهذيب النفس، بل يسهم في تناميه وتعزيزه. ويترتَّب على ذلك ضرورةً تصحيح النظرة إلى التهجُّد والعبادة؛ فإنها مفردات لا تعبِّر عن هَدْر الوقت والجهد، وإنما تساهم في رقيّ الروح الإنسانية، فتزيد همّة المرء، ويعوّض عن قلّة النوم بقوّة الإرادة والعزيمة.

أمّا إن قيل: إن الصلوات والأدعية والأذكار والطقوس العبادية تستغرق مُدَداً طويلة، وتحول دون أداء المهامّ والأنشطة الاجتماعية.

فمفتاح هذا اللغز هو القاعدة الذهبية الموسومة «بالتوازن»، والتي بُنيت عليها كافّة أحكام الشريعة. فعلى كلّ مسلمٍ مراعاة التوازن بين أنشطته الاجتماعية وعباداته الفردية، بحيث لا يضحّي بعبادته الفردية وتزكية نفسه من أجل المهامّ الاجتماعية، ولا أن يجعل الأنشطة الاجتماعية ضحيّةَ طقوسه الفردية. من هنا كلّما كثرَتْ مهامّ المسلم الاجتماعية، وخصوصاً المسلم الذي يرى في هذه المهامّ مسؤوليةً شرعية وإلهية، لا بُدَّ أن يرتقي معها بعبادته وخَلْوته الفردية؛ كي يتسنّى له الاستجابة لمهامه الاجتماعية بشكلٍ أفضل. لذلك فالتصدّي للمناصب الحكومية يجب أن لا يبتغى من ورائه تلبية رغبات الإنسان السلطوية، إنّما زيادة الرياضة الروحية على المستويين الفردي والاجتماعي.

وتجدر الإشارة إلى أن الرياضات الروحية الفردية ليست جميعها رياضات مستهلكة للوقت، لذلك لا تتعارض جميعها مع المهامّ والأنشطة الاجتماعية. فمثلاً: الصوم والتواضع والزهد عباداتٌ لا تستغرق وقت المسلم، بل على العكس من ذلك توفِّر له الكثير من الوقت. كما أنّ «دوام الذكر»، الذي هو أفضل العبادات، لا يمنع غالباً مزاولة المسلم أغلب مهامّه الاجتماعية.

نموذجٌ آخر لقاعدة «التوازن والأولوية» الذهبية يتمثَّل في احتجاج الإمام الصادق×، فبعد نسخ الآيات المتعلِّقة ببداية هجرة المسلمين، مثل: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ بواسطة الآيات التي تحدِّد مستويات الإنفاق، مثل: ﴿قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ صار على المسلم تقديم والدَيْه وأسرته وأقربائه على غيرهم بالإنفاق.

وإنْ قيل: لماذا لم تُؤخَذ قاعدة «التوازن والأَوْلوية» بنظر الاعتبار مطلع الهجرة النبوية؟ فالإجابة عن ذلك تكمن في أن تلك الأيام كانت تشهد ولادة التجربة الإسلامية وبداية تبلورها في المدينة المنورة، وكان التحدّي الأبرز بالنسبة إلى المسلمين يتمثَّل بقضية الهجرة وزيادة عدد الملتحقين بالإسلام، فكانت الأَوْلوية منصبّةً على هذه القضايا، وبالتالي لا يمكن القول بأن قاعدة «الأَوْلوية» قد تمّ تجاهلها في ذلك الحين.

النموذج الآخر يتمثَّل «بالجهاد»، وهو أبرز مصاديق الرياضة الروحية في الإسلام، والتي تمارس بشكلٍ جماعي.

فقد استُبدلت الرياضة الفردية، التي على غرار رهبانيّة النصارى، والتي لا تعود بالنفع إلاّ لصاحبها، هذا إنْ سلَّمنا بصحّتها، بالرياضة التي لا تعود منفعتها على الذات فحَسْب، وإنما على الجماعة بأسرها، وبالتالي تسهم في حفظ وصيانة وديمومة أصل الدين الذي يمثِّل القيمة الأعلى.

وما نودّ الإلفات إليه هنا هو الاختلاف بين التفسير الإسلامي لمفهوم «العقلانية» والتفسير الأرضي أو المادّي لها. فكمال العقل في الإسلام «العبودية» لله تعالى، التي هي ليست قيمةً ذهنية ونظرية فحَسْب، وإنما هي قيمةٌ قلبيّة وعمليّة. إن مذاهب «المنفعة» و«الربح» و«اللذّة» بعيدةٌ كلّ البُعْد عن العقلانية الإسلامية، التي يعتبر فيها الالتزام الديني، المتمثِّل بالعبودية لله سبحانه، أبرز قيمةٍ في تراتبية سلّم الأَوْلويّات.

وبحَسَب هذه «العقلانية» يصنّف هوى النفس والشيطان ألدّ أعداء الله والإنسان. والرياضة الروحية تعني الكفاح ضدّ هذا العدوّ اللدود. إن ما يميِّز الرهبانيّة النصرانية عن الرياضة الإسلامية أن الأولى، على فرض صحّتها، تستهدف الجانب الفردي للإنسان، ولا شأن لها بالمجتمع؛ في حين تستهدف الثانية الفرد والأمّة والدين؛ وذلك نظراً لطبيعة الإسلام الشمولية والعالمية، وبالتالي تجمع بين البُعْدين الفردي والاجتماعي؛ فمن ناحيةٍ تدعو لقيام الليل واصفةً الممتثِّلين لذلك بـ «رهبانٌ بالليل»؛ ومن ناحيةٍ أخرى تدعو للجهاد في النهار واصفةً المجاهدين بـ «أسدٌ بالنهار»([32]).

استخلاصٌ

تمثِّل الرياضة الروحية في الإسلام جوهر الأحكام الشرعية ولبابها، التي لا يمكن من دونها مغادرة المنزل النفساني إلى رحاب الفضاء الربّاني. وقد أخطأ بعضٌ فَهْمَ هذا المبدأ المهمّ، وبالتالي وقع في كمين التطرُّف حين التطبيق، إفراطاً وتفريطاً. وقد نوَّه أئمّة أهل البيت^ إلى بعض هذه الانحرافات في محاججاتهم مع الفِرَق الأخرى، ونوجزها بنقاطٍ:

1ـ يجب تحمُّل الرياضة الروحية مهما بلغت مشقَّتها إذا كان ذلك في سبيل الله سبحانه، كما كان على ذلك أصحاب الصُّفّة. لكنّ ابتداع رياضاتٍ روحية شاقّة لم يَرِدْ فيها تصريحٌ من الشارع المقدَّس مرفوضٌ، بل يُعَدّ من جملة الكفر بأنعم الله وآلائه.

2ـ اذا كان الفقر سائداً بين الرعيّة وجب على الحكّام وأصحاب المناصب التحاف الفقر كنَمَطٍ من أنماط الرياضة الروحية. ولا تجب هذه الرياضة عند الرخاء؛ أو عند الوجود خارج دائرة السلطة.

3ـ تمّ نسخ الآيات التي تحثّ المسلمين على الإنفاق الشديد والإيثار المبالَغ، بآيات أخرى تحثُّهم على الاعتدال في الإنفاق.

4ـ يعتبر مبدأ «الأَوْلوية» و«تقديم الأهمّ على المهمّ» في تحديد نَمَط الرياضة الروحية المبتغاة أهمّ ما يميِّز الرياضة الروحية الإسلامية عن الرهبانيّة النصرانيّة والهنديّة وغيرها من الرياضات المنحرفة. وبالتالي إذا كان الحفاظ على بيضة الإسلام على رأس الأَوْلويات فإنّ الرياضة الروحية للأنبياء والأئمّة ستكون في مقدّمة التكاليف، يليها تقديم حقّ الأسرة والأمّة على الحقّ الفردي. وتمنع الأحكام الاجتماعية الإسلامية، المتمثِّلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنفاق والصدقات والزكاة و…إلخ الرهبانية الفردية المُبْتَدَعة.

5ـ انطلاقاً من قاعدة «لا ضَرَر» تحرم الرياضة الروحية الشاقّة، التي تسبِّب ضرراً معتدّاً به، إذا مُورست خارج الأُطُر الدينية والشرعية. أما أنماط الرياضة الروحية الأخرى التي تمارس في إطار المستحبّات الدينية، كالتهجُّد والصوم، فلا ضَيْرَ فيها، حتّى وإنْ تسبَّبت في أضرار بسيطةٍ، كتورُّم الأقدام والنحول وغيرها. وهذا ملحوظٌ في سيرة المعصومين^ بكثرةٍ. كما لا تحرم العُزْلة المؤقَّتة التي تتضمَّنها بعض الطقوس والمستحبّات، كالاعتكاف وغيره، لكنْ على أن لا تتعارض مع حقِّ الأسرة والمجتمع.

6ـ إن اختلاف مستويات الرياضة الروحية بين أولي العزم من الرُّسُل، ويلحق بهم الإمام عليّ وفاطمة’، وبين الأنبياء الآخرين، كداوود وسليمان ويوسف^، ويلحق بهم الإمام الرضا×، ومع الأخذ بنظر الاعتبار الصفة المشتركة بين الجميع، وهي تولّي مناصب حكومية، يخبرنا أن الطائفة الأولى التي عاشت حياة الفقر الشديد، والطائفة الثانية التي عاشت في أروقة القصور، لم تصنع أيٌّ منهما الواقع المحيط بهما؛ فلا الطائفة الأولى تسبَّبت في حالة الفقر التي كانت سائدةً آنذاك، ولا الطائفة الثانية شيّدت القصور التي عاشت فيها. إن ما يتنافى مع الزهد هو الإقبال على الدنيا رغبةً بما فيها. طبعاً لا بُدَّ من الإلفات إلى أنه كان بمقدور الطائفة الأولى بعد تولّيها السلطة اتّخاذ حياة التَّرَف والرفاه وتشييد القصور، لكنّها أعرضَتْ عن ذلك، وبالتالي تحمَّلت مشاقّ رياضتين روحيتين: الأولى: خارجة عن إرادتها، فرضتها الظروف الزمانية والمكانية؛ والثانية: بكامل إرادتها حين نأَتْ بنفسها عن التَّرَف والبذخ والرخاء، لذلك أحرزَتْ درجةً في الفضيلة أسمى من الطائفة الثانية، وتجلَّتْ فيها حقيقة أولي العَزْم بكلِّ وضوحٍ.

الهوامش

(*) أستاذ في الحوزة والجامعة.

(**) عضو الهيئة العلميّة، وأستاذٌ مساعِدٌ، في مؤسَّسة الإمام الخمينيّ التعليميّة ـ البحثيّة.

([1]) لسان العرب 7: 163.

([2]) مفردات ألفاظ القرآن: 372.

([3]) المصباح المنير 2: 537.

([4]) إرشاد القلوب إلى الصواب 1: 99.

([5]) انظر: رسالة الدكتوراة الخاصّة بالمؤلِّف تحت عنوان: «الرياضة في القرآن والسنّة».

([6]) بحار الأنوار 67: 129.

([7]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 11: 34؛ أصول الكافي 1: 21.

([8]) اقتباسٌ عن سورة الحشر: 9: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾.

([9]) اقتباسٌ عن سورة الإنسان: 8: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾.

([10]) اقتباسٌ عن سورة الإسراء: 29: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾.

([11]) تحف العقول: 348؛ أصول الكافي 5: 68.

([12]) بحار الأنوار 49: 275؛ شرح نهج البلاغة 11: 34.

([13]) شرح نهج البلاغة 16: 250.

([14]) الميزان في تفسير القرآن 13: 302.

([15]) نهج البلاغة: 416.

([16]) الميزان في تفسير القرآن 2: 450.

([17]) تفسير القمّي 2: 146.

([18]) أصول الكافي 5: 71.

([19]) تفسير القمّي 2: 138؛ شرح نهج البلاغة 9: 229.

([20]) نهج البلاغة: 285.

([21]) شرح نهج البلاغة 9: 229.

([22]) نهج البلاغة: 285.

([23]) بحار الأنوار 28: 62.

([24]) أصول الكافي 6: 448؛ وسائل الشيعة 5: 32.

([25]) الميزان في تفسير القرآن 16: 456.

([26]) الميزان في تفسير القرآن 20: 132.

([27]) بحار الأنوار 20: 132.

([28]) الصدوق، الأمالي: 234.

([29]) تسري قاعدة «لا ضَرَر» على الإضرار بالآخرين كما تسري على «الإضرار بالنفس». وأبرز مصاديقها: «الانتحار»، المنهيّ عنه في الآية 29 من سورة النساء، في قوله سبحانه: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾. وهذه القاعدة حاكمةٌ على الكثير من الأحكام الأوّلية. انظر: مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 334.

([30]) انظر: رسالة الدكتوراه لكاتب السطور تحت عنوان: «الرياضة الروحية في القرآن والسنّة».

([31]) الأمثل في تفسير كتاب الله المُنْزَل 25: 177.

([32]) أصول الكافي 2: 232.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً