أحدث المقالات

تاريخ علاقة مأزومة بين المثقف والفقيه

أ. محمّد إسفندياري(*)

ترجمة: السيد حسن علي مطر الهاشمي

المؤسسة الدينية بين تحمّل نقد شريعـــتي وضيق الصدر ـــــــ

اعتُبرَ نقد المؤسّسة الدينيّة في مجتمعنا ولا يزال صاخاً للسّمع، وشديد الوقع وخروجاً على المألوف، فقلما تعرضت هذه المؤسّسة للنقد، وغالباً ما تعوّدت سماع المديح والثناء. وبعكسها المثقفون والمستنيرون، حيث تعرّضوا لقسطٍ وافرٍٍ من الانتقادات، خصوصاً بعد صدور كتاب (خدمات المثقفين وخياناتهم) لكاتبه جلال آل أحمد.

وبرغم ما قام به جلال آل أحمد من المبالغة في نقد المستنيرين، إلاّ أنه لم يُتهم بمعاداتهم والتآمر بهدف القضاء عليهم واجتثاث شأفتهم! إذ كان للمجتمع المستنير من سعة الصدر ما جعلته يستوعب هذه الانتقادات، ولا يفقد توازنه أمامها، فلم يتهم جلال آل أحمد بالتمرّد والتآمر عليه. في حين أنّ المؤسّسة الدينيّة ـ سواء أكانت محقة أم لا ـ أو شطراً منها لم تتحلّ بسعة الصدر هذه أمام الدكتور علي شريعتي وانتقاد المؤسّسة الدينيّة.

لقد كان الدكتور علي شريعتي أول من انتقد المؤسّسة الدينيّة، معتمداً في ذلك الأُسس الدينيّة وعلى نحوٍ مؤثرٍ وواسع. وبكلمةٍ أُخرى: لم يبدأ نقد المؤسّسة الدينيّة بشريعتي، بيد أنه كان يُمثل المنعطف الذي بلغ فيه نقد هذه المؤسّسة القمّة والذروة. فقد كان هناك من سبق شريعتي في نقد المؤسّسة الدينيّة ولكن من دون الاستناد إلى الدين في هذه الانتقادات، فلم يكن لها كبير تأثير ولم تثر حسّاسيّة تذكر، إذ من الطبيعيّ لمن يُنكر الدين أن يرفض القائمين عليه وينتقدهم. خلافاً لما قام به الدكتور علي شريعتي ذو التوجّهات الدينيّة، حيث كان النقد الصادر منه على خلاف المتوقع، مما استدعى ردود فعلٍ قويّة! خصوصاً أنّه لم يكن يرتدي بزة علماء الدين! مما أثار حفيظة بعضٍ، فقالوا: كيف يجيز المستنير أو من يرتدي ربطة العنق لنفسه أن ينتقد علماء الدين، ويتطفل على المؤسّسة الدينيّة التي هي أعلم بصالحها منه؟!

شريعـــتي ومدح المؤسسة الدينية ، تأصيل حق النقد ونقد مقولة المناوأة ـــــ

يتضح من مجموع كلام شريعتي سواءً أكان محقاً أم لا، أنّ لديه ثلاثة إشكالات أساسيّة على المؤسّسة الدينيّة:

الأوّل: إنّ المؤسّسة الدينيّة قد تناست مكافحة الظلم، وأضحى الإسلام في الحوزة العلميّة مجرّداً من مقارعة الظلم.

الثاني: إنّ المؤسّسة الدينيّة أُصيبت بالتحجّر والسطحيّة.

الثالث: إن الرؤية الاقتصاديّة للمؤسّسة الدينيّة غير استثماريّة ولا تصلح للمستضعفين.

ومن الطبيعي أنّ نقد الدكتور شريعتي ليس مطلقاً، ولا يشمل جميع من ينتمي إلى هذه المؤسسة. نضيف إلى ذلك أنّ شريعتي على رغم انتقاده الكثير للمؤسّسة الدينيّة، فقد أثنى عليها أجمل الثناء وأحسنه([1]). وإنما كان ثناء شريعتي للمؤسّسة الدينيّة قبل أن تمسك بزمام السلطة، وحين لم يكن لها إلاّ موقفٌ ضعيفٌ. وعليه، كان من الواضح أنّ مديحه وثناءه لم يكن سعياً منه إلى مماحكة المؤسّسة الدينيّة أو التملّق لها، أو إقراضها درهماً في يومه ليستوفيه منها ديناراً في غده. والأهم من إطراء شريعتي للمؤسّسة الدينيّة اهتمامه بها وكسره لحاجز الصمت بشأنها، فأصبح علي شريعتي واسطة لتعريف المستنيرين بالمؤسّسة الدينيّة وفتح أعينهم للوقوف على هذه الطبقة وإدراك ما لها من الأهميّة. فقبل شريعتي كان المستنيرون سادرين في غرورهم، فلم يقيموا أيّ وزنٍ للمؤسسة الدينيّة، حتى وضعوها خارج دائرة اهتمامهم. فقام بالعمل على إخراج المؤسّسة الدينيّة من عزلتها، ولفت انتباه الطبقة المستنيرة إلى أهميّة هذه المؤسّسة.

جدير ذكره أنّ الدكتور علي شريعتي ألّف كتاباً بعنوان (مدرسة التعليم والتربيّة الدينيّة)، أشاد فيه بالمنهج التعليمي والتربوي في الحوزات العلميّة، وفضله على المنهج المعمول به في الجامعات. وقد كان هذا الكتاب من بين الكتب المهمة  والتحقيقيّة القليلة بشأن الحوزات العلمية. وقد كتب شريعتي هذا الكتاب المفعم بالثناء والإطراء على الحوزات العلميّة في حين كانت أضواء هذه المؤسّسة الدينيّة آخذة في الخمود الواحدة تلو الأخرى، وفي الجانب الآخر كانت أضواء الجامعة الأكاديمية تزداد نوراً وخطفاً للأبصار. وكانت مدارس البلاد وجامعاتها تدار وفقاً للمنهج التعليمي الغربي، وإنّ القائمين على أمر التعليم فيها لم يعيروا أدنى التفاتٍ للحوزات العلميّة. ومن ناحيةٍ ثالثةٍ أيضاً كانت الحوزات العلميّة هي الشيء الوحيد الذي لم يشغل حيّزاً من تفكير المستنيرين ومن يدّعي الوعي والنضال. والخلاصة أن الساسة والجامعيين والمثقفين كانوا على قدم المساواة في تجاهل الحوزات العلميّة، كما فقدت الحوزات دفأها وبريقها وجاذبيّتها.

في مثل هذه الأجواء ألّف الدكتور علي شريعتي كتابه حول الحوزات العلميّة، وتحدّث عن أهميّتها وتفوّق منهجها التعليمي والتربوي، وبكلمةٍ واحدة أعاد للمؤسّسة الدينيّة مكانتها وبرّأها مما نسب إليها من التخلف والرجعيّة.

وعليه، لا يمكن عدّ الدكتور شريعتي مناوئاً للمؤسّسة الدينيّة ومناهضاً لها، أو منكراً لفضائلها وقيمها. نعم كان ناقداً لهذه المؤسّسة وبشدّة، إلا أنه لم يكن يوماً ما ضدّها. ويظهرُ من اكتفاء شريعتي بنقد المؤسّسة الدينيّة، وعدم إبطالها ونقضها من الأساس، مع عدم رؤيته لها بوصفها كياناً لا يقبل النقد، أنه كان متفائلاً يحدوه الأمل إلى إصلاحها. ولا بدّ من التذكير بأنّ علي شريعتي إنما تحدّث عن المؤسّسة الدينيّة في وقتٍ كان فيه البعض يرى الحديث عنها من اللغو الذي لا طائل فيه، ويرى أنّ هذه المؤسّسة قد طويت صفحتها، حتى أخذ ينظر إليها بترفعٍ وكبرياء.

من هنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: لماذا يرى بعضٌ في الدكتور علي شريعتي شخصاً مناوئاً ومخالفاً للمؤسّسة الدينيّة؟

جواب ذلك: إنّ هذا البعض يتصوّر النقد والاختلاف والمناوأة والعداوة شيئاً واحداً، وينظر إلى الناقد بوصفه مخالفاً وعدوّاً أيضاً. في حين أنّ هذا التصوّر مخالفٌ للحقيقة، فالناقد مؤمن بسلامة أساس ما ينتقده، ولكنه ينتقد بعض الإشكالات ويسعى إلى تصحيح الأخطاء. في حين أنّ المخالف يرفض الأساس، ولا يسعى إلى إزالته. بينما المناوئ يسعى فوق ذلك إلى القضاء والإطاحة بما يناوئه ويعاديه.

وفقاً لهذا التقسيم ينبغي عدّ شريعتي ناقداً للمؤسّسة الدينيّة فقط، والذين لا يفرّقون بين النقد والمخالفة يحسبون شريعتي مخالفاً لهذه المؤسّسة. ومن الطبيعي هناك من يفرّقُ بين الانتقاد والمخالفة، ولكنه ينظر إلى المؤسسة الدينيّة بتقديسٍ مفرطٍ حتى يُعميه التعصّبُ فيعتبر كلّ نقدٍ  مخالفة.

جديرٌ بالذكر أنّ هناك مجموعتين تسعيان إلى تعريف الدكتور شريعتي بوصفه مخالفاً للمؤسسة الدينيّة، وهما:

1ـ أعداء علي شريعتي، الذين اتهموه بمناوأة المؤسّسة الدينيّة؛ بغية الوقيعة فيه وإثارة الدهماء ضدّه.

2ـ أعداء المؤسّسة الدينيّة، الذين نسبوا إليه التهمة ذاتها بدافع رفع رصيدهم من الأنصار، والقضاء على المؤسسة الدينيّة. فلم تكن هذه المجموعة لتمتلك الشجاعة الكافية التي تؤهلها إلى المجاهرة بمخالفة المؤسّسة الدينيّة بنفسها، فاختبأت وراء عباءة شريعتي واتخذت منه وسيلة للوصول إلى مآربها.

وخلاصة القول: إنّ أعداء شريعتي، وأعداء المؤسّسة الدينيّة، قد عملا على اختلاق أزمةٍ مفتعلة بين شريعتي والمؤسسة الدينية بغية تعكير الأجواء بينهما والاصطياد في المياه العكرة، ففي الحقيقة إنّ جميع الذين عرّفوا شريعتي بوصفه مخالفاً للمؤسسة الدينيّة كانوا إمّا من المخالفين لشريعتي أو المخالفين للمؤسّسة الدينيّة، وليس هناك شقٌّ ثالثٌ في البين([2]).

ذكر الدكتور علي شريعتي في مذكراته الخاصّة التي لم يكتبها لداعي نشرها، ويمكن من خلالها سبر غوره وما كان يجول في أعماق نفسه: «إنّ اتهام البعض لي بمناوأة المؤسسة الدينيّة لا أساس له من الصحّة كاتهامهم إياي بمناوأة التشيّع! وكما قلت مراراً: إنّ الدفاع عن الأصالة العلميّة للمجتمع الشيعي واجب حتى على كلّ مثقف يناضل الاستعمار الثقافي الغربي، وإن لم يكن مؤمناً من الناحيّة العقائدية بالشعور المذهبي»([3]).

وقد تعرّض علي شريعتي في بعض دروسه إلى تآمر الذين يسعون إلى إظهاره بوصفه مناوئاً للمؤسسة الدينيّة، فقال بشأنهم: <هناك من الأعداء والأصابع الخفيّة التي تتوسل بأنواع الحيل ـ وبشكل وقح ومفضوح تحت ذريعة الدفاع عن المؤسّسة الدينيّة وعلماء الأُمّة ـ إلى إظهارنا كجماعة من المناوئين للمؤسّسة الدينيّة، ويسعون بذلك إلى جرّنا إلى مهاجمة هذه المؤسّسة في محاولةٍ منا للدفاع عن أنفسنا>([4]).

ثمّ قال شريعتي بعد ذلك كلاماً هو بمنزلة حلٍّ للّغز القائم بينه وبين المؤسّسة الدينيّة، حيثُ قال: «إنّ من كان مثلي يتفوّه بهذه الكلمات، ويحمل هذه العقيدة، وهذا النمط الفكري، قد ينتقد الأُسلوب التبليغي للدين، أو الأُسلوب التفسيري لبعض المسائل الاعتقاديّة، وقد يخالف عالم الدين أو المؤسّسة الدينيّة في بعض المسائل اختلافاً ذوقيّاً، وقد أخالف عالم الدين الفلاني ـ وهو عالم حقيقيّ في الدين ـ ويكون الخلاف بيننا شديداً وعميقاً، فيهاجمني بعنفٍ وأهاجمه بشدّة، إلاّ أنّ هذا الخلاف بيننا لا يعدو أن يكون مجرّد خلافٍ بين ابن وأبيه داخل الأسرة الواحدة، حتى إذا سرى إلى الجار أو الغريب عملنا معاً من أجل الحفاظ على تماسك الأُسرة… من هنا، فإننا لا نترك تلابيب الجيل القديم، والجيل الذي تصدّى للمسؤوليّة المذهبيّة انطلاقاً من مقامه العلمي، فنعمل على نقده ونصحه، ونقدّم له المقترحات، وفي الوقت نفسه نذعن له طائعين حينما يظهر أعداؤنا قرونهم»([5]).

ونختم بكلمة للأُستاذ محمّد رضا الحكيمي وصيّ الراحل الدكتور علي شريعتي في تصحيح مؤلفاته، حيث إنّ هذا الرّجل لا يعرف المداهنة في نقد المؤسسة الدينيّة ولا تأخذه في الله لومة لائم، حيث قال عن رأي شريعتي في المؤسّسة الدينيّة: <إنه يصنف المؤسّسة الدينيّة إلى ثلاثة أصناف:

1ـ الصنف الذي ليس له من همّ سوى الإقبال على الدنيا، والذي يفتقر لأيّ كفاءة، ويعمل على الخيانة بدلاً من خدمة الدين، وكان شريعتي كأيّ مسلم بصير وغيور وعالم وعامل ومخلص مخالفاً لهذا الصنف، وكان طبقاً للروايات والأوامر الدينيّة يتهم هذا الصنف في دينه([6]).

2ـ الصنف الذي يتمتع بالفضل والعلم في الدين، ولكنه يفتقر إلى الوعي بالظروف الراهنة والبعد السياسي والتجربة الاجتماعيّة، فلم يكن ليرى هذا الصنف مؤهّلاً وكفوءاً للتبليغ الصحيح ونشر الإسلام في العالم المعاصر، ولم يكن ليكتم آراءه في هذا الصنف وكان يجهر به صراحة.

3ـ صنف العلماء المجاهدين الذين يتمتعون بالوعي والتضحية والتقوى، حيث كان مغرماً بهم شديد الحبّ لهم…. وكان ينتقد المؤسّسة الدينيّة ويرى ذلك طبقاً للآيات والروايات من أهم الواجبات الدينيّة والاجتماعيّة والجهاديّة، ولا يدعو إلى القضاء على هذه المؤسسة، كما يتصوّر بعض الذين يرفضون النقد»([7]).

ثلاثة مواقف في المؤسّسة الدينيّة من شريعـــتي ــــــــ

يتضح من خلال حديث المؤسّسة الدينيّة عن الدكتور علي شريعتي أنها في الأغلب لم تفهمه بجميع أبعاده على نحو صحيح. إنّ معرفة المؤسّسة الدينية بالدكتور شريعتي، ناقصة وقائمة على قراءة بعض الكتب أوالكتيّبات، من هنا نرى التناقض في أقوال بعض علماء الدين بشأن شريعتي. فهناك من أثنى عليه، وهناك من قدح فيه، أو سكت عنه، وهناك من اعترف بأنه لم يقرأ كتب شريعتي، واكتفى بتكوين موقفه بسبب قراءة بعض العبارات في كتبه. فعلى كلّ حال، ليس للمؤسّسة الدينيّة موقفٌ موحّدٌ من شريعتي، وبطبيعة الحال ليس هناك من يتوقع أن تتفق كلمة المؤسّسة الدينيّة بشأنه.

ويبدو أنّ هناك ثلاثة مواقف في المؤسّسة الدينيّة بشأن الدكتور علي شريعتي. وبعبارة أخرى، تنقسم المؤسّسة الدينيّة بشأن الدكتور شريعتي إلى ثلاثة أقسام:

1ـ علماء الدين الذين يخالفون شريعتي بشكل مطلق، ويرون في كتبه مصداقاً واضحاً للكتب الضالة والمضلة والباطلة، ويذهبون إلى حرمة قراءتها وبيعها وشرائها. ومنهم من يرى كفر  شريعتي، ومنهم من يذهب إلى كونه سنيّاً أو وهابيّاً، ومنهم من يذهب إلى كونه ناصبيّاً، ومنهم من يراه مسلماً شيعيّاً ضالاً، وهذا ما تمثله غالبيّة العلماء التقليديين من غير الثوريين، وهم المتقوقعون في نطاق الحوزات العلميّة، والذين لم يتعرّفوا على الأفكار الجديدة والمعاصرة.

2ـ العلماء الذين يحسنون الظن بالدكتور علي شريعتي، ويرون فيه مسلماً شيعيّاً حسن الطويّة، وكان قصده الخدمة، وقد حقق بعض النجاحات، إلاّ أنه في الوقت نفسه ارتكب بعض الأخطاء الكبيرة، حيث يرون أنّه قدّم آراء جديدة عن الإسلام وتوصّل إلى بعض الفوائد المهمة والقيّمة، وتحدّث ببعض الأمور التربويّة، إلاّ أنه لم يكن أُستاذاً في العقيدة، ولا ينبغي عدّه مصدراً يُرجع إليه في أخذ رأي الإسلام، فلا بد من تعلم الإسلام من خلال الحوزات العلميّة، وهذا الرأي تمثله الغالبيّة من العلماء الشباب الثوريين الذين لم يتقوقعوا على الحوزة فقط.

3ـ عدد قليل من العلماء الذين لا يرون الدكتور شريعتي مسلما شيعيّاً حسن الطويّة فحسب، بل يرونه (أُستاذاً في العقيدة) و(خبيراً في الإسلام) و(مصلحاً)، ويرون فيه امتداداً لنهج السيّد جمال الدين الأسد آبادي، وإقبال اللاهوري. وبطبيعة الحال لا تراه هذه الفئة معصوماً من الخطأ، ولكنها ترى رؤيته للإسلام  هي الأصح والأكثر جامعيّة. إلاّ أنّ هذه المجموعة من القلة والندرة بحيث لا يمكن عدّها تياراً مرموقاً في الحوزة العلميّة.

إنّ انتقاد بعض علماء الدين للدكتور شريعتي قبل أن يقوم على أُسسٍ فكريّة، ناشئٌ من نقده الصريح والعلني للمؤسّسة الدينيّة، فلم يدققوا أو يتمعّنوا فيما قاله، وإنما انتقدوه بمجرد قراءتهم أو سماعهم أنّ شريعتي قال هذا الشيء بشأن المؤسسة الدينيّة، واعتبروا ذلك كافياً لانتقاده. وكانت بداية الاختلاف مع شريعتي ناشئة في الأقل من كلامه حول المؤسّسة الدينيّة. وعندما كان يقال لهذه المجموعة: إنّ شريعتي قد أثنى على المؤسّسة الدينيّة أيضاً، لم يكن ذلك ليترك أيّ تأثيرٍ عليهم، وكانوا يقولون: ليته لم يمتدح ولم ينتقد.

لو لم يشكل شريعتي على المؤسّسة الدينيّة، لما انتقده بعضهم. ولو أنه لم يستخدم بعض التعابير الشديدة والقاسية ضد المؤسّسة الدينيّة، لما تعرّض لكلّ هذه الانتقادات الشديدة والقاسية. فقد تعرّض الدكتور شريعتي للنقد قبل كلّ شيء بسبب عبارته القائلة: «الإسلام من دون الملالي»، وهجومه على العلامة المجلسي تحت مصطلح (التشيّع الصفوي)([8]). ومن الطبيعي أنّ شريعتي أدرك إجمالاً أنّ انتقاده للمؤسّسة الدينيّة سيعود بالضرر عليه، إلاّ أنه لم يعبأ بالنتائج، حيث كان يرى أنّ الواجب يحتم عليه نقد هذه المؤسّسة كواحدةٍ من مسؤولياته. نضيف أنه برغم ما يتمتع به من روحٍ ظريفة وإحساس مرهف، كان يحمل من سعة الصدر ما يجعله قادراً على استيعاب الصدمات وما يبلغ سمعه من الكلمات القاسية. وبرغم شوقه إلى اكتساب جمهور المعجبين، لم يكن في الوقت نفسه يخشى من وقوعه غرضاً لسهام المخالفين، وواضحٌ أنّ مثل هذه الشخصيّة التي لها من الاستعداد ما يعينها على تحمّل الصدمات، لم تكن لتأخذها رعدة الخوف من نقد الآخرين ومنازعتهم والاصطدام بهم.

لقد أدّى نقد الدكتور شريعتي للمؤسّسة الدينيّة إلى إثارة ردود فعل هذه المؤسّسة، فقام بعض علماء الدين في المقابل بنقده، إذ يرى هذا البعض حرمة نقد المؤسّسة الدينيّة، سواء أكان هذا النقد حقاً أم باطلاً، فما أنْ يسمعوا شخصاً يتكلم في نقد هذه المؤسّسة حتى يقولوا: «استمعوا إلى ما يقوله هذا الناقد من الأراجيف والخزعبلات» دون أن يدققوا في مضامين هذا النقد، أو يبحثوا في أسبابه.

هل يتحمّس رجال الدين للمؤسسة الدينية أكثر من تحمّسهم للدين نفسه؟! ــــ

قال كارل ماركس: لو انتزعتم سبعة عشر أصلاً من أُصول المؤسّسة الدينيّة المسيحيّة لن يسوؤهم ذلك كما يسوؤهم انتزاع أموالهم منهم. وقبل ماركس كان (إيراسموس) المسيحي المتشدّد وغير المتعصب يقول: «صادفت الكثير من المتقدّسين والمؤمنين بالدين من الذين يتحمّلون أقذع أنواع الكفر والتجديف والإساءة للمسيح، ولكنهم في الوقت ذاته يستنكرون أدنى مزحةٍ تقال في المقام البابوي»([9]).

إنّ تاريخ المؤسّسة الدينيّة الشيعيّة الممتد لأكثر من ألف سنةٍ يشهد بعدم صدق ذلك عليها، فيكون الكلام المتقدم بالنسبة لها سالبة بانتفاء الموضوع، ولا يمكن مؤاخذة الشخص بذنب لم يرتكبه، حتى إذا كان عدم ارتكابه للذنب لعدم القدرة عليه، حيثُ }وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى{.

وبرغم ذلك هناك من يرفع المذهب فوق مستوى الدين، ويرفع المؤسّسة الدينيّة فوق مستوى المذهب والدين، فلو انتقد الدين لا يتأثرون كتأثرهم فيما لو انتقد المذهب! ولو انتقد المذهب والدين لا يتأثرون كتأثرهم فيما لو انتقدت المؤسّسة الدينيّة، ويرون أنّ انتقاد المؤسّسة الدينيّة أشدّ وقعاً من الإشكال على الولاية، وأنّ انتقاد الولاية أشدّ وقعاً من إنكار الدين والدّيانة. فالذي يشغل اهتمامهم في الدرجة الأولى هو المؤسّسة الدينيّة، ثمّ المذهب، ولا يحتلّ الدين إلا الدرجة الأخيرة في سلم أولويّاتهم، حيثُ يحكّمون المؤسّسة الدينيّة على الدين والمذهب، وليس العكس!

والشاهد على ذلك: كلام أحد الناقدين لآراء الدكتور علي شريعتي، حيث قال: «إنّ المؤسّسة الدينيّة تقع على رأس المسائل الإسلاميّة، بل هي أمّ المسائل الإسلاميّة»([10]). فقد رفع هذا القول مكانة المؤسّسة الدينيّة فوق الدين والمذهب. وحتى لو أبدلنا كلمة «المؤسّسة الدينيّة» في هذا الكلام، بكلمة «النبوّة» أو «الإمامة» لبقي الإشكال على حاله، إذ إنّ الذي يقع على «رأس المسائل الدينيّة» ويُعدّ «أمّ المسائل» هو «التوحيد» لا غير. وعليه، فإنّ إعطاء المؤسّسة الدينيّة مثل هذه المرتبة يعني رفعها فوق مستوى التوحيد والنبوة والإمامة، وجعلها حاكمة على الدين والمذهب.

الشاهد الثاني: إنّ أحد المخالفين للدكتور شريعتي قال في بعض المواطن: إني لم أعرّف شريعتي بوصفه «ملحداً»، بل بوصفه «منكراً للولاية»، وإنه «سنيّ» ليكون تأثيره أشدّ وقعاً لدى عامّة الناس([11]).

ومفهوم هذا الكلام: إنّ العامة ترى إنكار الولاية أسوأ من الإلحاد، وإنّ المذهب يفوق الدين ويعلو عليه.

الشاهد الثالث: إنّ أحد علماء الدين البارزين برغم إقراره بالخدمات الجليلة والكفاح الطويل الذي قام به الدكتور شريعتي، دعا إلى مواجهته بشدّة، حيثُ قال: «يعتبر الدكتور شريعتي زعيم المخالفين للمؤسّسة الدينيّة ومناهضاً لولاية الفقيه، وإنّ القضاء على هذا الفكر الخطير واجبٌ علينا جميعاً».([12]) ويكمن تناقض هذا الكلام في أنّ هذه الشخصيّة العالمة تصرّح من جهة بخدمات الدكتور علي شريعتي ونضاله، إلاّ أنه يرى من جهة أخرى وجوب القضاء عليه لمجرّد كونه مخالفاً للمؤسّسة الدينيّة. فها هو يعترف ويقرّ بالإنجازات التي قدّمها شريعتي من قبيل: «الجهود الكبيرة في تثقيف الشباب، وإنقاذهم من الانجراف نحو الغرب، وتطبيقه الجيّد لشعار لا شرقيّة ولا غربيّة،([13]) وتنزيه الدين وتهذيبه من الخرافات، ومخالفته للاستثمار القذر للأموال على الطريقة الرأسماليّة الغربيّة أو الاشتراكيّة الشرقيّة، ونضاله وجهاده ومقارعته للاستكبار والإمبرياليّة»([14])، ومع ذلك يفتي العالمُ المذكور بوجوب القضاء على فكر الدكتور شريعتي، لمجرّد مخالفته للمؤسّسة الدينيّة! فنقول لهذا العالم ومن يشاكله: وهل تقول المؤسّسة الدينيّة أو تريد غير هذا؟! وهل يجوز القضاء على من قام بكلّ هذه الإنجازات لمجرّد مخالفته للمؤسّسة الدينيّة؟! فهل تحظى المؤسّسة الدينيّة بموضوعيّة في الدين والمذهب وتشكل جزءاً من أصول الدين أو أنّ لها السيادة عليه؟!

الشاهد الرابع: الضجّة التي اُثيرت حول كتاب (الشهيد الخالد)([15]).  فحتى لو انتقد هذا الكتاب منصب الولاية، إلاّ أنه ليس أسوأ حالاً من عشرات الكتب الأُخر التي هاجمت أصل الدين ونشرت في الأعوام ذاتها. فلماذا تمّ السكوت عن تلك الكتب المناهضة للدين، وتعرّض كتاب (الشهيد الخالد) لكلّ هذه الطعون وردود الأفعال العنيفة؟ هذا لأنّ البعض يرى تقدّم المذهب على الدين، ويرى الولاية أكثر أهميّة من الديانة.

الشاهد الخامس: الضجّة التي أُثيرت حول الدكتور شريعتي تحت ذريعة الدفاع عن المؤسّسة الدينيّة. فعلى فرض أنّ شريعتي قد هاجم المؤسّسة الدينيّة، إلاّ أنه لم يكن أسوأ حالاً من الذين هاجموا الدين، وصنفوا الكتب في سعي منهم للقضاء على أصل الدين، فلماذا السكوت عن الذين يناهضون الدين، والضجّة حول شريعتي؟! سبب هذا أيضاً أنّ البعض يرى الدين وجوداً متطفلاً على المؤسّسة الدينيّة! وأنّ المؤسّسة الدينيّة سيّدة الدين! لذلك يسوؤهم القدح في المؤسّسة الدينيّة بشكلٍ أكثر مما لو تمّ قدح الدين نفسه!

ومن المناسب أن نذكر عدّة أمثلة لتوضيح المطلب: في الوقت الذي صدر كتاب (الشهيد الخالد) صدر أيضاً كتابٌ بعنوان (أفكار الميرزا فتح علي آخوند زادة)، وقد ضمّنه المؤلف أفكاره الإلحاديّة التي يتبناها، وقد جدّف فيه على النبي الأكرم’ وجميع الأديان السماويّة، لا سيّما الدين الإسلامي الحنيف وما يشتمل عليه من الأحكام، ومع ذلك نجد أنّ الذين أثاروا هذه الضجّة المفتعلة ضدّ كتاب (الشهيد الخالد)، لم يقولوا أو يكتبوا ولو كلمة واحدة ردّاً على كتاب (آخوند زادة)، ولم يثر أيّ حسّاسيّة لديهم، ولم يستدع كفر الكاتب أيّ ردود فعلٍ لدى أي واحدٍ من المتدينين([16]).

وكذلك في أوج الصيحات المتوالية ضدّ كتاب (الشهيد الخالد) في تلك السنوات، صدرَ كتابٌ بعنوان (تأريخ ثلاث وعشرين سنة) ويدور موضوعه حول إنكار رسالة النبي محمّد، بل وإنكار عروبته ومعرفته باللغة العربيّة. وقد سعى هذا الكتاب من خلال تحريف النصوص الدينيّة إلى تشويه القرآن الكريم والنبي الأعظم’. ومع ذلك لم نجد لدى الذين ثارت ثائرتهم تجاه كتاب (الشهيد الخالد) أي تحريكٍ لساكن تجاه هذا الكتاب الإلحادي([17]).

وكذلك في تلك السنوات التي كان الدكتور شريعتي يدعو فيها الشباب من حسينيّة الإرشاد إلى السير على النهج الحسيني، كان الدكتور (آريان بور) يدعوهم من خلال منبر كلية الإلهيات إلى الماركسية. ومع ذلك فإنّ الذين شمّروا عن سواعدهم في الإنكار على الدكتور شريعتي بسبب انتهاكه لحرمة المؤسّسة الدينيّة، لم ينبسوا ببنت شفة حول ما جهر به الدكتور (آريان بور) وأضرابه بسبب انتهاكهم لحرمة الدين وفي كلّية الإلهيات ذاتها!

كان هذا وغيره من النماذج التي تحكي أهميّة الولاية لدى بعضٍ، وتقديمها على الديانة، وهي كذلك شواهد على ترجيح المؤسّسة الدينيّة على الولاية والديانة، حيث يمكن الوقوف على سريرة وطويّة كلّ فردٍ من خلال ردود أفعاله.

إنّ ما تقدّم ليس مجرّد انطباعاتٍ شخصيّة عن الوقائع، بل هي الحقائق بعينها، وقد وقعت على أرض إيران، وتحمل في طيّاتها الكثير من العبر. لذا نجد السيد حميد الروحاني (الزيارتي) في تلك السنوات، حيث لم يكن ليقف في صفّ المعارضين للدكتور شريعتي قد أشار إلى هذه الحقيقة في كتابه (دراسة وتحقيق في ثورة الإمام الخميني) ([18])، حيث قال:

ومما يلفت الانتباه أنّ المُقل التي كانت تسكب الدمع الهتون من دموع التماسيح بسبب كتاب (الشهيد الخالد)، قد نضب معينها بالمرّة فيما يتعلق بالخزي الذي طفح به كتاب (تاريخُ ثلاثٍ وعشرين سنة)، وأنّ الأقلام التي كتبت في ردّ كتاب (الشهيد الخالد) قد جفّ مدادها فجأة عند صدور كتاب (تاريخُ ثلاث وعشرين سنة)، فلم يتكرّم علينا ولو بكلمةٍ واحدة… ولنغض الطرف عن الحوادث المؤسفة التي تعرّض لها الدكتور علي شريعتي، حيث كان أصحاب السماحة يتوسلون بالمقام الملكي السامي لإسكات صوته وإغلاق حسينيّة الإرشاد، ولم نسمع حسيس أصواتهم فيما يتعلق بالدكتور (آريان بور) الذي كان يعطي شبابنا بوصفه أُستاذاً جامعيّاً دروساً في الماركسية، ولم يطلبوا من أبيهم الملك المتوّج للحدّ من الإعلام المناوئ للإسلام في الجامعات….([19])

فتنة]الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة[، ما هي حقيقة ما قاله شريعـــتي؟! ـــــــ

كتب الدكتور علي شريعتي رسالة إلى والده عام 1351هـ ش/1972م([20])، وقد ورد فيها التعبير بـ «الإسلام المجرّد من الملالي»، فأضحت هذه العبارة مستمسكاً بيد خصومه للتهويل عليه، وتذرّع بها بعضٌ للقضاء عليه. وهنا نذكر أولاً كلام الدكتور علي شريعتي الذي يتضمّن هذه العبارة مع ذكر الكلام السابق عليها واللاحق لها كي نفهم المراد منها بشكل كاملٍ وصحيح، ومن ثمّ نتطرق لفهم الآخرين لها وطعونهم عليها:

«بات من المؤكّد حاليّاً أنّ الماديين والشيوعيين من المتأثرين بالغرب أو الشرق لن يكونوا هم العلماء وقادة الفكر وصانعي ثقافتنا وفكرنا ومجتمعنا في المستقبل، بل الذي سيصنع مستقبلنا هم العلماء الذين اختطوا لأنفسهم نهج الإسلام العلوي والحسيني، بوصفه المدرسة الفكرية للنهضة الاجتماعيّة والآيديولوجيّة الثوريّة. فكما تقدم الدكتور مصدق بأُطروحة الاقتصاد المجرّد من النفط، كي يؤسّس لاستقلالية النهضة وتحريرها من ربقة وقيود التبعيّة للشركات الاستعماريّة السابقة، فقد تحققت في المجتمع حالياً ولحسن الحظ أُطروحة الإسلام المجرّد من الملالي، ممّا أدّى إلى إخراج الإسلام من الإطار الضيّق للقرون الوسطى، وتقييده من قبل قساوسة الكنائس، والرؤى المتحجّرة والأساليب الفكريّة المنحطة، والرؤية الكونيّة الخرافيّة المنحرفة التي عملت على تجهيل الناس، وحشرهم في دائرة التقليد الذي جعل الأنام كالأنعام، والتعريف بالمستنير بوصفه عدوّاً للمذهب والإسلام وتخويف الناس وتجفيلهم منه. وأدّى كذلك إلى إخراج الإسلام من نطاق المحراب والبيوت والتكايا الضيقة وحصره بالتعازي والمآتم، إلى ساحة الحياة والفكر واليقظة والحركة والإنتاج… وإنقاذ القرآن على وجه الخصوص من دهاليز المقابر والعمائم التي تسكن فيها، وإخراجه إلى باحة التجاذبات المعاصرة، وتسليمه قياد الإبداع والهداية والابتكار والتغيير والإصلاح»([21]).

إنّ ما يتمّ تداوله وتناقله من مجموع هذا الكلام عبارة «تحققت في المجتمع حاليّاً أُطروحة الإسلام المجرّد من الملالي» فقط لا غير، والذي يُستنتج منها دائماً أنّ شريعتي كان يسعى إلى الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة، وأنّ المراد من المؤسّسة الدينيّة رجالها العلماء الواعين، وليس رجالها الجهّال والمتخلفين. في حين أنّ هذا الاستنتاج باطلٌ وخاطئٌ جملة وتفصيلاً.

فلو بقينا نحن وعبارة «الإسلام المجرّد من الملالي» لأمكننا تفسيرها بما نشاء وحملها على ما نريد من المعاني، ولكن لو أخذناها في ضمن كلامٍ متكامل لـه بداية ونهاية، فعندها سنحصل على المعنى الدقيق والصحيح منها، فإنّ أدنى تأمّلٍ مجرّد من الأحكام المسبقة يؤكّد لنا ما يلي:

1ـ إنّ الملالي في هذا التعبير هم الذين يشكلون المجموعة المقابلة (للعلماء الذين انتهجوا لأنفسهم خط الإسلام العلوي والحسيني).

2ـ إنّ الملالي في هذه العبارة هم (الذين يؤطرون إسلامهم بإطار العصور الوسطى الضيّق)، والذين يجعلون (الأنام كالأنعام).

3ـ إنّ الملالي في هذا التعبير هم الذين يصفون المثقف بكونه عدوّ المذهب، والمتمرّد على الإسلام.

4ـ إنّ الملالي في العبارة المذكورة هم (الذين حصروا القرآن بالمقابر).

5ـ يرى شريعتي أنّ مصداق هذا النوع من الملالي هم الذين ذكرهم بأسمائهم في هذه الرسالة وهم: السيّد إبراهيم الميلاني([22])، والشيخ قاسم الإسلامي، والحاج أشرف الكاشاني، وغيرهم.

6ـ لا يرى الدكتور علي شريعتي الحوزات العلميّة وأساتذتها وطلابها في عداد الملالي، وذلك لأنه كتب في هذه الرّسالة ذاتها ما يلي: «… إنّ إيماني وثقتي بهذه الحوزة العلميّة بغالبيّة أساتذتها وجميع طلابها، أكثر من هذه الجامعة وغالبيّة أساتذتها وطلابها»([23]).

وقد صرّح شريعتي بتفاؤلـه بطلاب العلوم الدينيّة في العديد من المواطن الأُخر، ومنها أنه خاطب الجامعيين في اجتماعٍ عام، وقال لهم: «إنّ أملي بالطلبة في النهضة الفكريّة وبثّ الوعي في الناس، وإحياء الروح الحقيقيّة للإسلام، واستنهاض الروح المعارضة التي تنشد عدالة التشيّع العلوي وصلاح المجتمع، أكثر من أملي فيكم؛ وذلك لأنّ عمركم الثقافي محدودٌ وقصير، بينما يمتدّ عمر الطالب في الحوزة العلميّة ومسؤوليّته الاجتماعيّة إلى حين وفاته، فيبقى طالب العلم في الحوزة مسؤولاً عن أفكار الناس ومصائرهم شريطة أن يكون واعياً، وهو كذلك إذ أصبح طالب العلم واعياً»([24]).

7ـ يفهم من استعمال شريعتي لكلمة «الملالي» التهكميّة، وعدم تعبيره بالمؤسّسة الدينيّة، أنّه إنما أراد الطبقة المتحجّرة من علماء الدين، وليس كيان هذه المؤسّسة الدينيّة.

8 ـ دعا علي شريعتي المؤسّسة الدينيّة إلى شرح الإسلام والتواجد في الساحة وقيادة المجتمع في الكثير من كلماته، مما يتناقض ونظريّة الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة المنسوبة إليه، حيثُ يقول:

عندما يختار العالم الإسلامي المسؤول ترك ساحة الحياة المعاصرة، ويلجأ إلى العزلة والعبادة، فمن الطبيعي أنّ مكان هذا (العالم المسؤول الإسلامي) سيشغله (العالم الأجير الاستعماري) ليتصرّف في حياة الناس كما يحلو لـه. وعندما يغيب نوّاب الإمام، كما غاب الإمام#، فمن الطبيعي أن يتبنى (الإصلاح المذهبي) البابيّون والبهائيّون، كما يتبنى الميرزا ملكم خان (نهضة التجديد)، ويتبنى (الثورة السياسيّة) السيّد حسن تقي زادة([25]).

9ـ بمعزلٍ عن كلّ ما قلناه، لو تأمّل شخصٌ في المنظومة الفكريّة للدكتور علي شريعتي، لوجد فيها مكانة للمؤسّسة الدينيّة. إنّ شريعتي لا يرى الدين منحصراً بعلاقة الفرد بخالقه، وإنما يعرضه في قالبٍ إيديولوجي يرى فيه الدين مهيمناً على المجتمع والسياسة، ومشتملاً على منظومة الأمّة والإمامة، وفي مثل هذا الدين تحظى المؤسّسة الدينيّة بمكانتها، وهي ليست مسلوبة الإرادة والسلطة، بل لها كامل القدرة والمسؤوليّة.

والخلاصة: من خلال النظر إلى مجموع كلام شريعتي وسياقه، نعلم أنّ مراده من «الملالي» في عبارة «الإسلام المجرّد من الملالي»، هم «الملالي المجرّدين من الإسلام العلوي والحسيني»، وأنه ناظر إلى شريحة من المؤسّسة الدينيّة، وليست المؤسّسة الدينيّة بجميع أبعادها. وبعبارة أخرى: إنّ مراد شريعتي من «الإسلام المجرّد من الملالي» هو «الإسلام المجرّد من التخلف»، وإنّ كلمة «الملالي» أُطلقت على شريحةٍ متخلفة ورجعيّة في المؤسّسة الدينيّة.

وهنا نطالب أعداء الدكتور شريعتي أن يتجاوزوا جميع ما ذكرناه، ويتأمّلوا بأنفسهم ويدققوا في كلامه بتجرّد وإنصاف، بعد أن يأخذوا مجموع كلام شريعتي والظروف المحيطة به بنظر الاعتبار، ثم نسألهم: ما هو المراد من عبارة «الإسلام المجرّد من الملالي»؟ وهل المراد منها إلغاء المؤسّسة الدينيّة، وحذف الحوزات العلميّة؟!

أجل، لو قال شخصٌ في جملةٍ واحدة فقط: «لابدّ من السعي إلى تحقيق الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة، لأمكن حمل هذا الكلام على عدّة معانٍ (المعنى الكلامي والمعنى السياسي) ولأمكن القول: ربما كان مراده إمكان أو لزوم إدراك الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة. أو أنّ مراده إمكان الإبقاء على الإسلام بعد حذف المؤسّسة الدينيّة، إلى غير ذلك من الاحتمالات… ولكن هذه الجملة التي تحتمل عدّة معانٍ بعيدة كلّ البعد عن كلام علي شريعتي المتقدم الواضح والصريح؟

وعليه، فإنّ كلام شريعتي واضحٌ ولا لبس فيه، وإنّ كلّ منصفٍ يقرؤه لا يذهب إلى سعيه من أجل تحقيق الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة إطلاقاً.

استغلال كلام شريعـــتي للطعن فيه! ــــــ

ولكن انظروا إلى أعداء الدكتور شريعتي، كيف تشبّثوا بهذه الكلمة، وأثاروا حولـه كلّ هذا الضجيج والضوضاء، وصنعوا من الحبّة قبّة. وسعوا من خلال تحريف كلام شريعتي إلى رفع عقيرتهم بالقول: إن شريعتي يدعو إلى الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة، وقاموا بتعزيره وغيره من المستنيرين بهذه السياط المزيّفة. وأساساً إنّ مقولة «الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة» قد صاغها أعداء شريعتي، ولم يتفوّه بها شريعتي ولا مؤيدوه، ولم ترد في أدبياتهم أبداً، وإنما تمّ تزييف هذه العبارة وصياغتها وإذاعتها وإشاعتها بين الناس من قبل أعداء شريعتي بهدف التقوّل والقضاء عليه.

كما عمد أعداء شريعتي إلى تزييف مصطلحٍ آخر، وهو مصطلح (السلبيون)([26]). وأرادوا بذلك «الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة»، فعمدوا في الحقيقة إلى اختراع مصطلحٍ مزيّف للتعبير عن معنىً وهميّ ومزيّف، وذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث اتهموا علي شريعتي بأنه لا يهدفُ إلى فصل المؤسّسة الدينيّة عن الإسلام فحسب، بل ويهدف أيضاً إلى فصل التشيّع عن الإسلام أيضاً. وأضافوا إلى ذلك قولهم: إنّ الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة، هو الإسلام المجرّد من الرواية والحديث، وهو نفس ما دعا إليه على سبيل المثال عمر بن الخطاب، حيثُ قال كلمته الشهيرة: «حسبنا كتابُ الله».

والحقّ أنّ أعداء شريعتي قد أتقنوا الحبكة، ولكنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم، وأخفقوا في نيل مرادهم، حيث قاموا ولم يقعدوا واجترحوا الأكاذيب، ودخلوا في حربٍ لا ميدان لهم فيها، وأتوا بمقالةٍ ليس لها من قائل، ونسبوا كلاماً إلى شخصٍ لا قبل لـه به، فخبطوا بذلك خبط عشواء.

نعلم أنّ السرقة العلميّة انتحالٌ مخالفٌ للأمانة، وأسوأ منه أن تنسب كلامك الصحيح إلى غيرك، والأسوأ منهما المغالطة، وهي نسبة الكلام السخيف إلى غيرك.

إنّ هذه المغالطة التي يمكن تسميتها (تشويه كلام الآخرين) تعني حمل الكلام على معنى باطل غير مرادٍ للمتكلم، بهدف إسقاطه وتشويه سمعته. وبعبارة أخرى: أن يُتقوّل عليه ويُنسب إليه كلام لم يقله، ويتهم برأي لا يدين به. وكثيراً ما نشاهد هذه المغالطات في الخصومات، حيثُ يعمد أحد طرفي النزاع إلى نسبة رأي سخيف إلى غريمه بغية إسقاطه في أعين الناس، ثمّ يعمل على نقد ذلك الرأي وإبطاله، ليُثبت أنّ الحقّ إنما كان في جانبه، وهذا هو ديدن الذي يحصد أرضاً لم يزرعها، أو يفند رأياً لا قائل له.

وقد بلغ التمادي بأعداء شريعتي أن حرّفوا عبارته التي يقول فيها «الإسلام المجرّد من الملالي» وحملوها على «الإسلام المجرّد من الإمامة» و «الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة»، والمراد بالمؤسّسة الدينية هنا، طبقتها الواعية والمسؤولة.

نضيف إلى ذلك أنّ التعبير بـ «الإسلام المجرّد من الملالي» قد ورد في ضمن رسالة للدكتور شريعتي، وقد طبعت من دون إذنه ورضاه، وذلك بعد التصرف في مواضع منها لا نعرفها بعينها، وهذه الرسالة عبارة عن هموم ولواعج نفسيّة ارتأى رجلٌ أن يبثها لوالده، فلا تمثل (رأيه الرّسمي)، وقد أشار شريعتي نفسه إلى هذه الحقيقة في رسالة أخرى على النحو الآتي:

«لم أكتب هذه الرسالة التي كانت في الحقيقة [شقشقة هدرت] إلى سماحة الوالد، مخافة إثارة شجونه وأحزانه، حتى فقدت في تلك المرحلة الزمنيّة العصيبة والمضطربة، ثمّ علمت بعد سنوات حيثُ كنت سجيناً أنّ عدوّاً ماكراً أو صديقاً غبيّاً قام بطبعها ونشرها من دون علمي أو رضاي، بعد أن أُضيف لها بعض التعابير والتفسيرات. وأرجو أن لا يذهب بكم التصوّر إلى أني إنما أكتب هذا مخافة الفاحشين المحترفين، بل سبب ذلك يعود في الأساس إلى نشر هذه الرسالة، وهي رسالة خاصّة اشتملت على حوارٍ ثنائيٍّ وهموم سريّة لا تعني غير كاتبها ووالده، وقد تمّ تحريفها بشكلٍ لا أرى صلاحاً في قراءتها حتى لمن خاطبته بها»([27]).

فانظروا إلى أعداء الدكتور شريعتي كيف صنعوا من الحبة قبّة، وأثاروا حولـه ضجّة وزوبعة كبرى حول لا شيء!

ولكي تدركوا كيف تذرّع أعداء شريعتي بمقولة الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة للإمعان في التهويل عليه، لابدّ من الرجوع إلى كتاب (الشهيد مطهري كاشف مؤامرة تأويل ظاهر الدين بباطن الإلحاد والمادّية) والذي هو ـ كما صرّح مؤلفه ـ  مقدّمة لكتاب آخر بعنوان (الجذور والمسار التاريخي لحركة الإسلام المجرّد من الملالي).([28]) حيثُ تحدّث هذا الكتاب الذي ينيف على الأربعمئة صفحة عن كلّ شيءٍ إلاّ عن الإسلام المجرّد من الملالي، ولم يتعرّض للقائلين به وما هي أدلتهم، وذلك لسببٍ بسيط يتلخص في عدم وجود القائل بهذا الكلام، فهو من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، إلاّ أنّ الكاتب قد اتخذه ذريعة للتهويل والبهتان، والملفت للانتباه أنه حتى بعد مضي أكثر من عقدين من الزمن لم ينشر أو يطبع هذا الكتاب المزعوم والذي يحمل عنوان (الجذور والمسار التاريخي لحركة الإسلام المجرّد من الملالي)، وذلك للسبب المتقدّم ذاته!

وفي كتابٍ آخر بعنوان (نهضة الإمام الخميني) تمّ تخصيص فصل لموضوع (جذور فكرة الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة)([29]). وهناك في هذا الفصل عدّة عناوين على النحو الآتي: (الماسونيون وأُطروحة الإسلام المجرد من المؤسّسة الدينيّة)، و(منظمة الحجتيّة وأُطروحة الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة)، و(نهضة الحريّة وأُطروحة الإسلام المجرّد من المؤسسة الدينيّة)، و(شريعتي وأُطروحة الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة).

وفيما يتعلق بـ (الماسونيون وأُطروحة الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة)، يجب القول: لا يخلو أمر الماسونيين في إيران؛ إمّا أن يكونوا من المسلمين أو من غيرهم، والمسلمون منهم تشهد آثارهم وكتبهم على أنهم لم يكتبوا حول الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة. وأمّا غير المسلمين، فإنهم لا يؤمنون بالإسلام أساساً، فضلاً عن تفريعاته وشقوقه، وكونه مجرّداً من هذا الشيء أو ذاك.

وفيما يتعلق بدعوى (منظمة الحجتيّة وأُطروحة الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة) يجبُ القول: إنّ قائد هذه المنظمة من كبار علماء الدين والبارزين في حوزة خراسان العلميّة، وقد نشط في هذه المنظمة العديد من علماء الدين، وحظيت بدعم وتأييد كبار المؤسّسة الدينيّة. وقد كانت هذه المنظمة من أشهر المنظمات التقليديّة وغير السياسيّة في إيران، بل وضدّ التنوير وضد الدكتور شريعتي على وجه التحديد، وإنّ هذه المنظمة لا تؤمن بالإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة فحسب، بل تذهب إلى الإسلام المجرّد من المتنورين الواعين، وقد حرّمت كتب الدكتور شريعتي. وإنّ من أبعد التهم عن هذه المنظمة هو الاعتقاد بالإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة، بل يمكن اتهام هذه المنظمة بأيّ تهمةٍ أخرى إلاّ هذه التهمة.

وفيما يتعلق بـ (نهضة الحريّة وأُطروحة الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة)، يجب القول: إنّ آية الله الطالقاني كان من أعضاء الشورى المركزيّة لهذه النهضة. وقد كان لهذه النهضة علاقات طيّبة بالمؤسّسة الدينيّة، وذلك منذ تأسيس هذه النهضة عام 1340هـ ش/1961م، وحتى انتصار الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، كانت المؤسّسة الدينيّة تدعم نهضة الحريّة، كما كانت نهضة الحريّة تدعم المؤسّسة الدينيّة([30]). وكان المهندس مهدي بازرگان الأمين، العام لنهضة الحريّة يحظى بتكريم المؤسّسة الدينيّة واحترامها، وقد أمره الإمام الخميني بتشكيل الحكومة الثوريّة الأولى، كما كان عضواً في شورى الثورة، وقد حصلت هناك بعض الخلافات فيما بعد، ولكن لا علاقة لهذه الخلافات بنظريّة الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة.

والعجيب أنّ مؤلف الكتاب المذكور قد بلغ به الأمر أنه نسي أو تناسى ما كتبه في المجلد الأول من هذا الكتاب حول علاقة المؤسّسة الدينيّة بنهضة الحريّة، حيث قال:

«لقد كان دعم القائد الكبير [الإمام الخميني] لنهضة الحريّة في إيران، خطوة إيجابيّة مؤثرة وقيّمة تضاف إلى مثيلاتها في التوحيد بين القوى الإسلاميّة وغيرها من القوى المناهضة للاستعمار…. وإنّ الحوزة العلميّة في قم التي كانت لها علاقات وثيقة ومنتظمة بقادة نهضة الحريّة في إيران، قد عمّقت هذه العلاقة بعد صدور إعلان المؤازرة، وبدأت بتعاونٍ أوثق وأقرب وأكثر تنويعاً. وكان يتمّ نشر الكثير من إعلانات نهضة الحريّة وإصداراتها وتوزيعها عن طريق المجاهدين في حوزة قم»([31]).

وفيما يتعلق بدعوى (شريعتي وأُطروحة الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة)، فإنّ ما قلناه شاهدٌ على بطلان هذا المدّعى. بالإضافة إلى أن شريعتي لا يذهب إلى الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة الواعية والمسؤولة، وإنما يذهب إلى الإسلام المجرّد من «المؤسّسة الدينيّة المخالفة للإسلام»، وبعبارة أُخرى الإسلام المجرد من التخلف والرجعيّة. ولو كان أعداء شريعتي صادقين لكان عليهم بدل تحريف كلامه، وانتقاد نظريّة الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة التي لا يوجد من يقول بها، أن ينتقدوا رأيه الحقيقي المتمثل في «الإسلام المجرّد من التخلف». فلماذا يسكتون عن هذا الأمر ولا يأتون على ذكر «التخلف» والرجعيّة؟ ألا يعود ذلك إلى خشيتهم من اتضاح مرجع الضمير؟!

الشيء الأخير إنّ هناك من يقول شيئاً ويريد به شيئاً آخر. فيتحدّثون حول نقد الإسلام المجرّد من المؤسّسة الدينيّة، ولكنهم يريدون بذلك الإسلام وإيران المجرّدة من الثلة الواعية المستنيرة، ولكن لحسن الحظ بقيت هذه الأمنية في إطار الرؤيا ولم تتحقق في الواقع الخارجي، حيث إنّ كلّ محاولةٍ لسحب يد المؤسّسة الدينيّة والمستنيرين عن الإسلام والمجتمع هي بمنزلة من يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، وعلى كلّ من يتمنى ذلك أن يكفي نفسه وغيره هذا العناء، فقد يضيّق عالم الدين الخناق على المثقّف الواعي، والعكس صحيحٌ أيضاً، إلا أنّ أحدهم لا ينازع الآخر مكانه ويدّعي لنفسه ما ليس لـه، إذ لكلٍّ منهما أساليبه الخاصّة به والتي لا تؤهّله لخلافة الآخر واحتلال مكانه. وقد أثبتت تجارب القرنين الأخيرين أنه كلما تعانق علماء الدين والمستنيرون فقد أفلحوا، وكلما تخانقوا فشلوا وحبط عملهم، وكان عدوّهم المشترك هو المستفيد والمنتصر. وإن نهضة المشروطة [الحركة الدستورية] والنهضة الوطنيّة والثورة الإسلاميّة الإيرانيّة تشهد بأجمعها على هذا المدّعى إذا لم يتعامَ المحرّفون عن ذلك.

علاقة المطهري بشريعتـي بين المشتركات ونقاط الخلاف ـــــــ

تم الحديث بكثرة عن الخلافات بين الأُستاذ الشيخ مرتضى المطهّري والدكتور علي شريعتي، ولكن لحدّ الآن لم يتمّ التداول في المشتركات الفكريّة بينهما، وقد خيّم على ذلك سكوت جاهل ومطبق([32])، والأعجب من ذلك، الادعاءُ الناقص الذي ادعاه بعضهم، والذي يُظهر الشيخ المطهّري بوصفه ممثلاً عن «الإسلام التقليدي»، والدكتور شريعتي ممثلاً عن الإسلام المستنير، فإنّ كون علي شريعتي ممثلاً للإسلام المستنير ممّا لا شك فيه، ولكن لا شكّ أيضاً في أنّ الشيخ المطهّري ليس ممثلاً للإسلام التقليدي، بل إنه مخالف وناقد له.

لقد كان المطهّري وشريعتي يسلكان طريقاً واحداً لبلوغ هدفٍ واحد، وإن اختلفا في الأساليب الموصلة لذلك الهدف. ومن المناسب هنا أن نستعرض بعض المشتركات بين المطهري وشريعتي:

1ـ محو الخرافة من الإسلام، وانتقاد الفهم العامي له، ومكافحة الجهل.

2ـ التعريف بالإسلام بوصفه ديناً مقتدراً، يفوق قدرة وقيم الأديان والمذاهب الأُخر.

3ـ إنتقاد الجمود والسطحيّة «التحجّر والمروق والخروج عن الدين والتخلف والرجعيّة وضيق الأُفق الذهني».

4ـ مواكبة الزمن وإدراك مقتضيات العصر الراهن، والتعريف بالإسلام من خلال ذلك.

5ـ بيان العلاقة والنسبة بين الإسلام وسائر المذاهب والنظريّات الحديثة.

6ـ التعريف بالإسلام بوصفه ديناً اجتماعيّاً وسياسيّاً، وليس مجرّد كونه ديناً ذا أفقٍ ضيّق ينظر إلى علاقة الفرد بخالقه فقط.

7 ـ إثبات قدرة الإسلام على مقارعة الظلم وعلى الجهاد والثورة.

8 ـ نقد المؤسّسة الدينيّة التقليديّة.

9 ـ الاهتمام بالمواضيع المستحدثة، من قبيل: فلسفة التاريخ، وفلسفة الأخلاق.

10 ـ الاهتمام بموضوع حقوق المرأة في الإسلام.

11 ـ إدراك خطر الشيوعيّة، والعمل على نقدها علميّاً.

12 ـ التعريف بالإسلام بوصفه ديناً متيناً ومنطقيّاً؛ يدعو إلى التدبّر والتفكر والعلم والتحضر والإنسانيّة.

إننا لو واصلنا هذه السلسلة من المشتركات وقمنا بشرحها، لغدت طويلة وعريضة، ولكننا نكتفي بهذا المقدار منها، ويمكن القول بأنّ الوجه المشترك بين المطهري وشريعتي يكمن في أنّ كليهما «مسلمٌ مستنير»، أو «مستنيرٌ متديّن»، أي هما في القطب المقابل لـ «المستنير غير المتديّن»، و«المتدين غير المستنير» أو «المتديّن التقليدي».

ولابدّ من الالتفات إلى أنّ الدين المتنوّر، أو التنوير الديني، هو وسطٌ بين عدم التديّن والدين المتحجّر «التقليدي»، وأنّ الفوارق بين المطهري وشريعتي كانت تكمن في «الدين المتنوّر»، وفي هذا المسار ولأجل تحقيق هذا الهدف.

من هنا، ندرك اختلافاتهما الأساسيّة لـ «عدم التديّن المتنوّر»، و«الدين التقليدي». وعليه، برغم كلّ الفوارق بين المطهري وشريعتي، إلاّ أنهما كانا مشتركين في أصل مهم وشامل وهو «الدين المتنوّر» أو «التنوير الديني»، وأنّ الاختلاف الجوهري لم يكن فيما بينهما، بل كانا معاً مختلفين مع أولئك الذين يفهمون الدين بشكلٍ تقليدي، أو أولئك الذين كانوا من المستنيرين غير المتدينين. ولكن العجيب أنّ الحديث لم تكن الألسن لتلوكه إلا في ذكر الخلافات بين المطهري وشريعتي، ولا يتطرق إلى المواطن التي كان المطهري فيها يختلف مع علماء الدين التقليديين([33])، هذا في حين أنّ اختلافات المطهري مع علماء الدين التقليديين أكثر من اختلافاته مع شريعتي، وأنّ نظرة المطهري للإسلام تختلف عن نظرة علماء الدين التقليديين اختلافاً جوهريّاً، حيث كان المطهري يطرح أُموراً لم تخطر على بالهم أبداً،  ويحمل من الهموم والمشاكل ما لم يستشعروها أو يحسّوا بها بتاتاً.

خلاصة القول: لم يكن المطهّري وشريعتي في قطبين مختلفين، بل كانا في قطبٍ واحد يمثل الدين المتنوّر. والنقطة المقابلة لهذا القطب في الدائرة الدينيّة يمثلها المتدينون غير المستنيرين «المتدينون التقليديون»، وفي الدائرة التنويريّة يمثلها المستنيرون غير المتدينيين، فتأمّل.

قد يُتصوّر أنني أسعى إلى نفي أن يكون هناك خلافٌ بين المطهري وشريعتي. ولكن هذا غير صحيحٍ أبداً، حيث كان هذان المفكران مختلفين، ولكنهما لم يكونا في قطبين، فلم يكن اختلافهما ناشئاً من كونهما في قطبين مختلفين، وإنما يعود اختلافهما إلى كونهما مفكرين بالمعنى الحقيقي للكلمة.

والحقيقة أنه ليس بالإمكان العثور على مفكرين متوافقين في الأفكار، وأساساً إن عبارة «المفكرون المتفقون» متناقضة كتناقض الأكوس وذي اللحية العريضة. ولو ادّعى مفكران الانسجام والتوافق فيما بينهما فكريّاً، فلا يخلو أمرهما؛ من أنهما إمّا يمزحان، أو أنّ أحدهما يفكر بعقل الآخر ويقلده. فللمفكرَين فكران في واقع الأمر، وللمفكرينَ مهما كثروا أفكاراً متكثرة بعددهم من دون مبالغة، وصدق من قال: «لكلّ رأسٍ رأيٌ». وذكر الشمس التبريزي:

«يحكى أنه كان هناك صديقان امتدت صحبتهما لبعضهما مدّة طويلة، حتى أتيا ذات يوم رجلاً هرماً حكيماً، فسألهما الشيخ: كم مضى على صحبتكما؟ فأجاباه: لقد مرّ على صداقتنا عقودٌ من الزمن. فقال الشيخ: وهل حدث أن اختلفتما أو تنازعتما في هذه المدّة الطويلة؟ فقالا له: كلا، لم يكن بيننا غير الوئام والوفاق. فبادرهما الشيخ قائلاً: ألا فاعلما أنه لم يكن بينكما طوال صحبتكما غير المداهنة والنفاق»([34]).

وقد بيّن أميرُ المؤمنين× هذا المعنى بعبارة قصيرة وعميقة حيث قال: «كثرة الوفاق نفاقٌ»([35]).

أجل لو ادّعى شخصان، خاصة إذا كانا مفكرين، أنهما متفقان فكريّاً، فإما أن يكون أحدهما منافقاً، أو يكون كلاهما مداهناً.

قال السيّد ابن طاووس في كتاب (كشف المحجّة): «لقد ألف القطب الراوندي رسالة في خلافات الشيخ المفيد والسيد المرتضى، فأحصى بينهما خمسة وتسعين خلافاً، وذلك في أُصول العقائد. بل وأضاف في ختام هذه الرسالة: إننا لو أردنا استقصاء جميع المسائل التي اختلفا فيها لتحوّلت هذه الرسالة إلى كتاب موسّع»([36]).

والملفت أنّ هذين العلمين الشيعيين  الذين لا نشعر بأيّ اختلاف فيما بينهما، قد اختلفا في خمسٍ وتسعين مسألة في الحدّ الأدنى، وذلك في أُصول العقيدة فقط. ولا أتصوّر أنّ هناك مثل هذا الحجم من الاختلاف بين المطهري وشريعتي في جميع المسائل غير الدينيّة. والشاهد على ذلك البيان الذي أصدره الأستاذ المطهري بحقّ شريعتي، حيث جاء فيه:

«ليس لديه [شريعتي] أيّ ميول غير إسلاميّة في أمّهات المسائل الإسلامية وأُصولها ابتداءً من التوحيد إلى النبوّة والمعاد والعدل والإمامة»([37]).

ولو تجاوزنا الشيخ المفيد والسيّد المرتضى، ولا يسعنا بطبيعة الحال تجاوزهما، نصل إلى أبي ذر الغفاري وسلمان المحمدي، حيث نجد الإمام السجاد× يقول: «والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله»([38]).

يُفهم من هذا الحديث أنّ هناك اختلافاً كبيراً بين أبي ذر الغفاري وسلمان المحمّدي، وقد بلغ هذا الاختلاف درجة لو علم بها أبو ذر لما طاق بقاء سلمان على قيد الحياة، ومع ذلك فإننا نعدّ أبا ذر وسلمان من المسلمين وخلص الشيعة وخواصّ أصحاب النبي’، ولا نفرّق بينهما في شيءٍ أبداً.

وبرغم وجود كلّ هذا الاختلاف بين الشيخ المفيد والسيّد المرتضى، لا يصح تصنيفهما في قطبين مختلفين، وذلك لأنهما يهدفان إلى حقيقةٍ واحدة ويسلكان طريقاً واحداً. كما أنه برغم الاختلاف الكبير بين أبي ذر الغفاري وسلمان المحمدي، لا يمكن تصنيفهما في قطبين مختلفين، لكونهما كانا يتبعان أثر النبي’ على نفس الوتيرة.

ومع ذلك نجد مجتمعنا مفعماً بالحديث حول اختلافات المطهّري وشريعتي، وتثار ضجّة مفتعلة لإثبات وقوف هذين العلمين في قطبين مختلفين، ويتم تضخيم الخلافات القائمة، ويضاف إليها بعض الخلافات عشوائياً. ولذلك يبدو أننا بحاجةٍ إلى فارابيّ آخر حيثُ ألّف كتاب (الجمع بين رأيي الحكيمين) في الجمع بين آراء أفلاطون وأرسطو، ليقوم هذا الفارابيّ الجديد ليؤلف في المشتركات والروابط الفكريّة بين المطهري وشريعتي ومواطن الانسجام بينهما.

لا شكّ في حدوث الاختلاف بين أرسطو وأفلاطون، إلاّ أنّ خلافهما مع السفسطائيين من أمثال بروتاغوراس وغورغياس كان أقدم وأشد، حيث كان الاختلاف بين هذين العَلَمَين من جهة، والسفسطائيين من جهة أُخرى اختلافاً مبنائيّاً وفي الأُصول، في حين أنّ الاختلاف بين هذين الفيلسوفين المنطقيين كان في البناء. إذن فمن العور أن نرى الخلاف بين أرسطو وأفلاطون، ولا نرى خلافهما الجذري والجوهري مع السفسطائيين من جهة أخرى، إلا إذا أخرجنا السفسطائيين من الإطار العلمي.

وهذا الشيء نفسه يصدق فيما يتعلق بالخلاف القائم بين المطهري وشريعتي، ولكنهما قبل أن يختلفا فيما بينهما قد كان لهما اختلاف أشد وأعرق مع التدين والمتدينين وأنصار الدين التقليدي من الذين توقفوا على القرون الماضية حتى اعتبروا من «القدماء المعاصرين» والذين أطلّوا برؤوسهم علينا من الأيام الخالية. وعليه، لابدّ من الحديث عن اختلافات شريعتي والمطهري مع التقليديين بشكل أشد، قبل بيان الاختلاف بينهما. اللهم إلاّ إذا أخرجنا هؤلاء التقليديين من ربقة البحث العلمي واعتبرناهم غير جديرين بالحديث. ولكن الذين يثيرون الخلاف بين المطهري وشريعتي ليسوا فقط لا يذهبون إلى هذا الرأي، بل ويسعون إلى إظهار المطهري بوصفة تقليديّاً محضاً، وأنّ الخلاف القائم بينه وبين شريعتي يعود إلى كون المطهري تقليديّاً، وكون شريعتي تجديديّاً.

كما كان هناك اختلاف بين المطهري وشريعتي، كان هناك أيضاً خلافٌ بين بازرگان وشريعتي، وبين سروش وشريعتي، بل ربما كان خلاف بازرگان وسروش مع شريعتي أشدّ من اختلاف المطهري مع شريعتي. ولكن للأسف الشديد يتمّ تضخيم الخلاف بين مطهري وشريعتي إلى مستوى جعلهما في قطبين متنافرين لا يرجى معه إقامة الوفاق بينهما. وفي المقابل يتم استعراض الخلاف بين بازرگان وشريعتي، وكذلك الخلاف بين سروش وشريعتي على المستوى المعقول والمنطقي، من دون إبرازهما كقطبين متنافرين.

نضيف أيضاً أنّ هناك من جعل من المطهري حجاباً لشريعتي، وهناك من جعل من شريعتي حجاباً للمطهري، إذ هناك من حُرم الاغتراف من معين شريعتي لمجرّد اغترافه من معين المطهري، وهناك من حُرم من الاغتراف من معين المطهري لمجرّد اغترافه من معين شريعتي. فكان هؤلاء من ذوي الأُفق الضيّق الذين لا يتسع إناؤهم لأكثر من معين واحد، وإنّ أوعيتهم بمنزلة البركة التي ما أن يضع المطهري أو شريعتي قدمه فيها حتى تفيض بمائها ولا يبقى للغير متسعٌ لوضع قدمه فيها. وهناك من هو أسوأ من هذه الجماعة، وهم أولئك الذين جعلوا من المطهري أداة للقضاء على شريعتي، وجعلوا من شريعتي أداة للقضاء على المطهري، وهؤلاء لم يكونوا ليفعلوا ذلك حبّاً للمطهري ولكن بغضاً لشريعتي، ولا أولئك فعلوا ذلك حبّاً لشريعتي، ولكن بغضاً للمطهري.

تأثير شريعتـي على مطهري ، قمّة العلاقة الإيجابية ــــــ

وفي الختام نقول أيضاً: إنه لم يكن هناك ارتباط فكريّ بين المطهري وشريعتي فحسب، بل وقد أثر شريعتي على المطهري، وقد أدناه بهذا التأثير إلى نفسه وقرّبه منها.

وكما نعرف، فإنّ المطهري كان في بداية أمره متكلماً وفيلسوفاً، وكانت غالبية إشكالاته من سنخ المسائل الكلاميّة والفلسفيّة. كما كان من الناحية الشخصيّة والنفسيّة يميل إلى الانطوائيّة والعزلة، وربما كان لهذه الانطوائيّة دورٌ في سوقه نحو المباحث الذهنيّة والانتزاعيّة. وقد أشار المطهري في بداية واحدٍ من كتبه إلى أنه ومنذ الثالثة عشر من عمره كان يميل إلى الميتافيزيقيا، حتى لم يكن ليتحمّل الفيزيقيا، وكان ينزع إلى العزلة إلى حدٍّ يترك معه الحجرة وزميله فيها ويلجاً إلى حجيرة صغيرة أشبه ما تكون بقبو. وأضاف أنه كان يرى منذ ذلك الحين الفلاسفة والعرفاء والمتكلمين أعلى شأناً ومقاماً من سواهم من أصناف العلماء الآخرين([39]).

وبعد أن التقى المطهري بشريعتي واطلع على مؤلفاته خرج من المباحث الكلاميّة والفلسفيّة، ومال إلى المسائل الاجتماعيّة والعصريّة، وقدّم المصلحين الاجتماعيين على جميع من سواهم، فحيث كان في السابق يقول: كنت في بداية دراستي للعلوم الدينيّة أفضّل الفلاسفة والعرفاء والمتكلمين على غيرهم، كانت نتيجة أمره أن قال: إنّ المصلحين الاجتماعيين أعظم وأجلّ منهم، حيث قال:

إنّ كلمة «المصلح» و «الإصلاح» من الكلمات السائدة فيما بيننا حاليّاً. وقد كان السيّد جمال الدين الأسد آبادي من المصلحين، وللمصلح من الشأن والأهميّة التي تجعله فوق العالِم والمجتهد والفيلسوف والمنجّم والرياضي… إذ لا شكّ في حاجة المجتمع إلى من يصلحه أكثر من حاجته إلى الطبقات والفئات العلميّة الأخرى([40]).

لقد تأثر المطهري إلى حدٍّ ما بالدكتور شريعتي في الاجتماعيّات والمسائل المستحدثة. ومن الطبيعي فإنّ المطهري قد خالف شريعتي في تحليل بعض المسائل، ولكنه إنما استلهم تلك المسائل من الدكتور شريعتي نفسه. ومن باب المثال يمكننا أن نشير إلى مسائل من قبيل: الإنسان والمجتمع، والتاريخ، وفلسفة التاريخ، وفلسفة الأخلاق، والمقارنة بين الإسلام والمذاهب والآراء الجديدة، حيث كان شريعتي هو الذي أثار المطهري نحوها. وكذلك تجدر الإشارة إلى سعي المطهري في طرح الإسلام بوصفه ديناً أو رؤية شموليّة، تأثر فيها بسعي شريعتي إلى طرح الإسلام بصفته الإيديولوجيّة.

هل هناك مصلحة في تقديم المستنيرين ، مثل شريعتـي ، بوصفهم كفاراً؟! ـــــــ

في كل دين ومذهب يطرأ هناك خلافٌ بين أتباعه، إلاّ أنّ أسوأ أنواع التعامل مع هذه الخلافات يكمن في التعاطي معها حدّيّاً. بمعنى أن يبادر أحد الطرفين باتهام الطرف الآخر بالخروج من حدّ الدين، وإظهار المشاكل الداخليّة كأنها مشاكل خارجيّة، وهذا الأُسلوب هو أسوأ أساليب الاختلاف وأقذرها على الإطلاق.

فهناك من يعمل بمجرّد اختلافه مع الآخر على التعاطي حدّياً، فيخرجه من حدود الدين، وأوّل شيءٍ يتهمه به هو الكفر والارتداد والخروج عن الدين والعمالة للأجنبي، والابتداع والإحداث في الدين. وهذا هو نفس الشيء الذي فعلته الكنيسة قبل ألف سنة في العصور الوسطى مع غيرها من المفكرين الإصلاحيين. كما ارتكبت الماركسيّة في بداية نشوئها هذا الخطأ الفادح.

بديهي أنّ أسوأ اتهامٍ في المجتمعات الدينيّة هو أن تتهم شخصاً بالخروج عن المعتقد، فما أن يوصف الفرد بعدم الإسلام أو الماركسية في المجتمع الإسلامي أو الماركسي حتى يسقط ذلك الفرد عن الاعتبار، ويتلقى أقذع الشتائم. وهذه الحقيقة القائمة دعت بعض الجماعات إلى إساءة استغلالها وصولاً إلى غاياتها وأهدافها من أقرب الطرق، والقضاء على معارضيها بأبسط الوسائل، جهلاً منها بأنّ هذا الأُسلوب أنما يعود بالضرر على الدين أو المعتقد الذي تدّعي الانتساب إليه.

إنّ أهميّة كلّ دين تقاس بعدد المنتمين إليه، وكلما كانت كفاءة المنتسبين إلى دين عالية كان ذلك مؤشراً أكبر على أهمية ذلك الدين؛ وعليه فإنّ التعاطي الحدّي مع الشخصيّات العلميّة واتهامها بالخروج من ربقة الدين، يُعدّ بمنزلة الانتقاص من أهميّة الدين ذاته. حيث إنّ هذا الأُسلوب يعني أنّ ذلك الدين لا تتسع ظرفيّته لمثل هذه الشخصيّات، وأن أتباعه ليسوا سوى حفنة من البسطاء والسذّج. وعندما تسم المسيحيّة والماركسيّة المصلحين والمجدّدين بميسم الارتداد، يُفهم من ذلك أنّ هاتين العقيدتين لا تتمتعان بالكفاءة التي تساعدهما على استيعاب هؤلاء الأشخاص واعتبارهم جزءاً من كيانها.

ينقل أحد العلماء في الحوزة العلمية عن أحد أساتذتها كلمة بناءة وتربويّة، هي:

«اجهدوا على عدم إبراز أمثال ابن سينا وصدر المتألهين والفارابي والسبزواري كفاراً؛ إذ لا يساعد ذلك على ترويج الإسلام وإشاعته، فليس من صالح الإسلام إخراج الفلاسفة وأهل العقل والمعقول والمنطق، وتعريفهم بوصفهم من الملحدين، بل كلّما كان المنتسبون إلى الدين الإسلامي من أمثال هذه الشخصيّات أكثر، كان ذلك مؤشراً إيجابيّاً على سلامة وقوّة ومتانة مضمونه ومحتواه، وفي ذلك ترويجٌ وإشاعة للإسلام»([41]).

والتعبير المعاصر لهذا الكلام هو أن نجهد على عدم إبراز من كان مثل إقبال اللاهوري والمهندس مهدي بازرگان والدكتور علي شريعتي والدكتور سروش بصفتهم كفاراً؛  إذ لا يعدّ إخراج المستنيرين من ربقة الإسلام خدمة للإسلام وترويجاً له، بل كلما كان المنتسبون إلى الدين الإسلامي من أمثال هؤلاء الأفراد أكثر، كان ذلك دليلاً على قوّة الإسلام ومتانته، وعاملاً مساعداً على نشره وترويجه.

أجل، إنّ في إبراز الشخصيّات الواعية والمثقفة بوصفها كافرة ومخالفة، دعماً وتعزيزاً لجبهة الكفر والجناح المخالف([42]). فعندما يسِمُ أولياءُ الدين والسلطان النخبَ العلميّة بالكفر والمخالفة، يكون المفهوم الضمني لذلك أنّ هذا الدين وتلك السلطة لا يتسع وعاؤها لاستيعابهم. وكلما كان المؤمنون والمعتقدون بالدين والسلطة من كبار العلماء والخبراء، كان ذلك مؤشراً إيجابيّاً على شرعيّة ومنطقيّة هذا الدين وتلك السلطة. فالدين لا يحتاج إلى الدهماء والمستوى الكميّ فقط، بل يحتاج كذلك إلى العلماء والمستوى الكيفي أيضاً. وليس ولاته من النخب فحسب، بل هناك الفلاسفة المتقدّمون والمستنيرون المعاصرون، حيثُ من الضرورة أن يكونوا. ولكن العجيب أنّ البعض ينعت المسلمين من المستنيرين بالكفر إرضاءً لطبقةٍ سطحيّة وقشريّة من المسلمين. وطبيعيٌّ أنه ليس المراد من هذا الكلام تكفير أولئك المسلمين السطحيين، بل المراد منه أن لا يكون هناك أيّ تكفيرٍ لأحد.

عندما يقف في مقدّمة الدين عدد من أهل العلم والذكاء، يثبت وقوفهم في الطليعة شيئاً مغايراً لوقوفهم في صفوف الذين كفروا؛ فالدين الذي يكفّر فيه العلماء والعقلاء، دينٌ مخالفٌ للعلم والعقل وجديرٌ بالطبقة الجاهلة من عامة الناس.

إنّ أكثر ما كان يفخر به ابن سينا وصدر المتألهين وشريعتي هو انتماؤهم للإسلام. ولكن من جهةٍ أخرى يمكن للإسلام أن يفخر بأنّ أتباعه من أمثال هؤلاء الشخصيّات، فوجود ابن سينا وصدر المتألهين وشريعتي أكثر فخراً للإسلام من وجود الطبقة الجاهلة من دهماء الناس.

وعندما تنادي امرأة خاملة في قرية من القرى أو طالب علم مغفل بالإسلام، لا يضيف نداؤهما خردلة إلى الثقافة الإسلاميّة، ولا يجلب نفعاً للدين. ولكن حينما يهتف ابن سينا وصدر المتألهين بالإسلام ستضاف شهادة فخرٍ واعتزاز للإسلام، وتتزيّن الثقافة الإسلاميّة بهذه الشهادة. ولا يمكن قياس ومقارنة تلك المرأة الخاملة وذلك الطالب المغفل، وهما من الخوالف، بهذه القمم العلميّة التي جالت في طول الفلسفة وعرضها، حتى غدا العلم لباناً في أفواههم. وكذلك حينما يتحدّث المنبريّ (طبقاً لروتينه السنوي) عن الإمام الحسين، إنما يتخذ الحديث عنه مهنةً يتكسّب منها، في حين لو تحدّث عن الإمام الحسين رجلٌ مثل شريعتي العائد من جامعة غورويش والسوربون، وجال في مدارس الشرق والغرب، سيعني كلامه: «إني رأيت جميع الأشياء والأشخاص فلم أرَ مثل الحسين× عظيماً».

على كلّ دينٍ أنْ يسعى إلى زيادة عديد أتباعه، إلاّ أنّ الأهم من ذلك أن يكون أتباعهُ من الأذكياء والنخب. وحينما يسعى أولياء الدين إلى إظهار المعارضين من العقلاء بوصفهم من الكفار، فذلك يعني في الحقيقة سحباً للبساط من تحت الدين، وتقويضاً لأُسسه ودعائمه. جاء في كتاب (لطائف الطوائف):

«جيء برجلٍ متهمٍ بالزندقة وأُحضر في مجلس الخليفة، فقال له الخليفة: بلغني أنك زنديق. فأجاب الرجل: كلا، وحاشا أن أكون زنديقاً؛ فأنا رجلٌ مؤمنٌ ومصلٍّ وصائم، أقومُ الليلَ وأصومُ النهارَ، وأحافظ على التقوى وأتلو القرآن. فقالَ الخليفةُ: سأوجعُ ظهرك بالسّياطِ حتى تقرَّ بالزندقة. فقالَ الرَّجلُ: سبحان الله، لقد جاهد الذينَ سبقوك، وضربوا الناسَ بسيوفهم حتى يقرّوا بالإسلام، وأنتَ تأمرُ بجلدي حتى أقرَّ بالكفر والزندقة! فضحكَ الخليفةُ وأخلى سبيلهُ»([43]).

وجديرٌ ذكره أنّ تكفير الآخرين وتكلّف إظهارهم للعامّة على أنّهم من المخالفين لا ينتج منه سوى التطفيف في عديد الدين وحدوده.

ومن الطبيعي أنّ هناك من يريد للدين أن يبقى في حدود الحرم المقدس ليتولوا سدانته بأنفسهم. كما يعبّر الدكتور علي شريعتي عن هذه الحقيقة بقولـه: «هناك من يريد تحويل الدين إلى قرية ليمارسوا دور المخترة عليه، ونحن نوكل حساب هؤلاء إلى الله تعالى».

نصل بهذه المقدّمة إلى الدكتور شريعتي الذي كان ضحيّة التعاطي الحدّي، حيث جهد البعض إلى إظهاره بوصفه كافراً ومخالفاً. ولابد لهذا البعض أن يجيب عن سؤال ما إذا كان تكفير شريعتي يعود بالنفع على الإسلام؟ وهل أنّ جعله مخالفاً لصالح الإسلام أم لصالح من يخالف الدين؟ هل الدين الذي يكون أتباعه من النخب العلميّة مثل شريعتي دينٌ قويّ أم ضعيف؟

ما هي معتقدات شريعتـي؟ــــــ

وفيما يأتي نذكر قائمة بما يعتقده الدكتور شريعتي، وهي قائمة أظهرها الدكتور شريعتي نفسه في حسينيّة الإرشاد ضمن اجتماع عقد في عام 1350هـ ش/1971م، للإجابة عن بعض الاستفسارات والانتقادات، حيث قال:

إني الدكتور علي شريعتي، لست عسكريّاً ومتهمٌ بجميع التهم، ولكنني معتقدٌ بما يلي:

1ـ وحدانيّة الله.

2 ـ أحقيّة جميع الأنبياء من آدم× إلى النبي المصطفى الخاتم’.

3 ـ رسالة النبيّ محمّد’ وخاتميّته.

4 ـ وصاية الإمام عليّ بن أبي طالب× وولايته وإمامته.

5 ـ أصالة العترة الأطهار^ بوصفهم الطريق المعصوم المنحصر للوصول إلى معرفة القرآن والسنة.

6 ـ إثبات الوصاية والإمامة لعلي بن أبي طالب من قبل النبيّ’، ليس من طريق حديث الغدير فحسب، بل ومن واحدٍ وعشرين طريقاً آخر، وفي حياة النبيّ الأكرم’، وقد استنبطتها وتوصّلت إليها بنفسي وقمت بتدريسها.

7 ـ الشورى «البيعة والإجماع الديمقراطي» أصل إسلاميّ، ولكنه إنما يجري فيما لو انعدم النص بالوصية بأمر الوحي السماوي، وقد كان اللجوء إلى هذا الأصل في سقيفة بني ساعدة داخلاً في إساءة استغلال هذا الحق لتضييع حقّ سابقٍ ومتقدّمٍ عليه، وقد تمثل ذلك في وصاية النبي التي كانت حقاً لعلي×.

8 ـ كانت لنبيّ الإسلام رسالتان: الأولى: إبلاغ الوحي «النبوّة»، والأخرى: إدارة شؤؤن الأمّة «الإمامة». وقد انتهت مدّة رسالته الأولى بانتهاء حياته، وأما الأخرى فاستمرّت إلى عدّة أجيال متواصلة «ثلاثة قرون»، كان من المفترض أن تتحقق وتتمّ تحت قيادته المتواصلة بأوصيائه الاثني عشر.

9 ـ إنّ التاريخ لم يسر على النهج الذي خطّهُ النبي، حيث انحرف بالتدريج من أيام السقيفة حتى وصل إلى مفترق طريقين: التسنن؛ وهو إسلام الطبقة الحاكمة، حيث نما وتشكل على يد الحكام ووعاظ السلاطين. والتشيّع؛ وهو إسلام الطبقة المحكومة، والمضطهدين من الناس الذين كانوا ينشدون العدالة.

10 ـ كانت الغلبة التاريخيّة للخلافة، ولم تتحقق الإمامة على الصعيد الاجتماعي، ومن هنا كانت الغيبة.

11 ـ عصر الغيبة «منذ غيبة الإمام الأخير، وحتى ظهوره في آخر الزمان» هو عصر مسؤوليّة قيادة الناس اجتماعيّاً، ومرحلة انتخاب القائد من قبل الناس بوصفه «نائب الإمام».

12 ـ الاعتراض على أصل «إنتظار الفرج بعد الشدّة» بوصفه الانتظار الذي يدعو إليه المذهب، فالصحيح أنّ عصر الظهور هو العصر الذي يثور فيه الناس على الظلم السائد في العالم.

13 ـ كون «الإمامة والعدالة» أصلان من أُصول المذهب الشيعي، وأنّ التوحيد والنبوّة والمعاد من أُصول الإسلام تعبيرٌ خاطئ، يُظهر التشيع كأنّ ثلاثة أخماسه من الإسلام، وخمسيه شيءٌ آخر. فأنا أرى أنّ التوحيد والنبوّة والمعاد هي أصول الدين بالمعنى الأعم، إذ لو حذفنا أيّاً من هذه الأصول الثلاثة لا يبقى الدين على حقيقته. وأنّ إسلام القرآن قد أضاف أصلين آخرين هما الإمامة والعدالة، والشيعة ليسوا شيئاً آخر غير الإسلام، يعني القرآن والسنّة.

14 ـ أؤمن بالتقليد.

15 ـ والتقيّة.

16 ـ والاجتهاد.

17 ـ والمرجعيّة العلميّة ونيابة الإمام.

18 ـ ودفع الزكاة وسهم الإمام.

19 ـ وإقامة مراسم المحرّم وعاشوراء، والمآتم.

20 ـ والتوسّل والاستشفاع بالنبيّ’ والأئمة الأطهار^.

21 ـ الدعاء والتضرّع.

22 ـ وختاماً أدين بـ «التشيّع العلوي»، أي «تشيّع الشهادة»، وليس تشيّع المآتم، و«التشيّع الأحمر» دون «التشيّع الأسود».

اتقوا الله في شريعتـي!! ــــــ

فلينصف الذين يكفّرون علي شريعتي والذين يبرؤون منه، ولينظروا هل يصحّ لهم تكفير من يدين بهذه المعتقدات، أو يصحّ وصفه بالتسنن؟ نحن نعلم أنّ الإسلام يتحقق بالشهادتين، ويتحقق التشيع بهما وبالشهادة بالولاية. فانظروا كيف يُطرد الذي ذهب في اعتقاده إلى أبعد من هذه الحدود، وعمل على نشر الدين والمذهب بمثل هذه التهم!!

إنّ هذه الشهادة من الدكتور شريعتي لا تثبت إسلامه وتشيّعه فحسب، بل وتشهد على أنه أقوى في إسلامه وتشيّعه من خصومه ومناوئيه وأكثر فهماً منهم للإسلام والتشيّع.

يحكى أنّ مناوئاً لحافظ الشيرازي ألّف ديواناً في ردّ ديوان حافظ وأهداه إلى أحد الحكام قائلاً: لقد أجبت حافظاً في هذا الديوان! فقال الحاكم له: هبْ أنك قد أجبت حافظاً، فبمَ ستجيب الله تعالى؟([44]) وهذه الحكاية بنفسها هي حكاية شريعتي ومناوئيه ومكفريه، فلو سلمنا أنهم أجابوا شريعتي من خلال تكفيره وتشويه سمعته، ولكنهم بماذا يُجيبون الله تعالى؟

أجل، إنّ أعداءَ الدكتور شريعتي ليس خصيمهم هو شريعتي، بل خالقُه، فليحذروا اللهَ إن كانوا متشرّعين.

كنت قد ختمت البحث في هذه النقطة، إذ عثرت من باب الصدفة على كلام للدكتور شريعتي في هذه المسألة، حيث قال في إشارةٍ منه إلى الهجمات التي تعرض لها: تسعى جميع الشعوب والمذاهب والفرق إلى إثبات انتماء بعض الأشخاص لها، حتى ولو من طريق الزور والبهتان، وذلك لأن قيمة كلّ مذهبٍ إنما هي من قيمة المنتسبين إليه، ومثّل لذلك بأنّ أحد المبلغين للبهائيّة كان يقول: سُمع من أحد تلاميذ السبزواري المقرّبين وأصحاب سرّه أنّ السبزواري قد استبصر في أواخر حياته، وقبل وفاته بقليل، وكانت هذه كذبة ذكيّة لا يمكن تكذيبها، حيث تمّ توقيتها بما قبل الوفاة بقليل، فلا يغدو بإمكان طلابه نفيها. ثمّ أضاف شريعتي: وهناك من يعمل خلاف ذلك، فلو تحدّث مستنيرٌ عن الدين، لانتفض المتدينون بوجهه قبل غير المتدينين، متجاهلين السنوات التي قضاها في تأليف عشرات الكتب والمقالات التي تؤكد تديّنه، ويتمسّكون بجملةٍ واحدةٍ في إحدى كتبه تصوّروا خطأها عندهم أو فهموها بشكلٍ مغاير للمراد منها، ليجعلوا منها ذريعة لإثبات مروقه من الدين، وهذه هي رسالة نموذج من المؤمنين في عمليّة تبليغ الدين!([45]).

الهوامش

(*) باحث متخصّص في التراث والببلوغرافيا.

([1]) قال شريعتي في مؤتمرٍ عقد في حسينيّة الإرشاد: <يمكنني أن أدعي لنفسي بالنسبة لعلماء الإسلام وأقدّم عشرات الأدلة الملموسة أنه ليس هناك من بين المؤلفين والخطباء حتى العلماء والفضلاء المعاصرين منهم ــ في حدود الإمكانات والكاريزما الشخصية لدى كلّ فردٍ ــ من كان له مثلي شرف الدفاع الجاد والمؤثر على الصعيد العملي [العلمي] والفكري عن هذه الطبقة التي تعدّ معقد آمالنا وثروتنا العزيزة والغالية>. ثم استعرض شريعتي أمثلة لدفاعه عن علماء الإسلام. هذا ما جاء في كتاب <مذهب ضدّ المذهب> من مجموعة الأعمال الكاملة للدكتور علي شريعتي 22: 314.

وكذلك جاء في بعض رسائل الدكتور علي شريعتي: <قلما كان هناك في السنوات الأخيرة من دافع مثلي عن المؤسّسة الدينيّة [المعقل الثقافي والروحي الوحيد الذي حافظ على استقلاله وصيانة نفسه من غزو الاستعمار الثقافي الغربي] و[الموطن الوحيد الذي يمكن العثور فيه على الشخصيّات التي تحمل البعد العلوي] وذلك أيضاً من خلال تقديم الأدلة والشواهد>. الرسائل، الأعمال الكاملة 34: 127- 128.

([2]) تجدر الإشارة إلى أنه قد أُلفت حتى الآن أربعة كتبٍ حول موقف علي شريعتي من المؤسسة الدينيّة، وهي كالآتي: (شريعتي والمؤسسة الدينيّة) لأبي ذر الورداسبي. و(دفاعٌ عن الإسلام والمؤسّسة الدينيّة) لمحمّد علي الأنصاري. و (المؤسسة الدينية) لقاسم الإسلامي. و(شريعتي والمؤسسة الدينية) لرسول جعفريان. وقد ظهر الدكتور علي شريعتي في جميع هذه المؤلفات بوصفه مناوئاً ومعادياً ومخالفاً للمؤسسة الدينيّة. ولابد من الالتفات الى أنّ الكاتب الأول شديد العداوة للمؤسسة الدينيّة، في حين أنّ الثلاثة الآخرين من أشدّ المخالفين للدكتور علي شريعتي.

([3]) حوار العزلة، الأعمال الكاملة 33: 2: 1295.

([4]) معرفة الإسلام، الأعمال الكاملة 16: 1: 90 ـ 91.

([5]) المصدر السابق 1: 91.

([6]) مضمون حديث الإمام الصادق× الذي يقول فيه: (فاتهموه في دينكم).

([7]) عقل سرخ: 418 ـ 419.

([8]) منذ عام 1360هـ ش/1981م وحتى عام 1376هـ ش/1997م تم حظر نشر خمسة كتبٍ من مؤلفات الدكتور علي شريعتي، وهي: (المخاطب المعهود)، و(التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي)، و(النـزعة الطبقيّة في الإسلام)، و(مذهب ضدّ المذهب)، و(الرسائل) بنصّها الكامل. وكان سبب حظرها اشتمالها على بعض الكلمات القاسية التي استعملها شريعتي في حقّ المؤسّسة الدينيّة وبعض علماء الدين.

([9]) ديسيدريوس إيراسموس، في مدح الجنون، ترجمة حسن الصفاري، الطبعة الأولى، طهران 1376هـ ش: 20.

([10]) محمد واعظ زادة الخراساني، ثلاث مقالات حول الأستاذ الشهيد الشيخ مرتضى المطهري، الطبعة الأولى 1374هـ ش: 178.

([11]) عبد الكريم سروش، قصّة سادة المعرفة، الطبعة الأولى 1373هـ ش: 425.

([12]) أحمد آذري قمي، الأسئلة والأجوبة العقائدية والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، عام 1372هـ ش: 75.

([13]) المصدر السابق: 73.

([14]) المصدر السابق: 77.

([15]) دون أن نعني بذلك النقد العلمي أبداً.

([16]) راجع كتاب (مؤامرة الشاه ضدّ الإمام الخميني) أو (مؤامرات جهاز السافاك السياسية ضدّ الحوزات العلميّة): 58 ــ 60.

([17]) نؤكّد ثانية أننا لا نعني بذلك النقد العلمي لكتاب (الشهيد الخالد)، ومع ذلك نذكّر بأنّ هذا الكتاب قد تعرض لعدد من الانتقادات لم يتعرض له أي كتابٍ آخر في التاريخ الإيراني المعاصر، حيث بلغ عدد الكتب التي كتبت في الردّ  عليه قرابة الخمسة عشر  كتاباً، في حين لم يكتب في الردّ على كتاب (ثلاث وعشرون سنة) سوى ردّين أو ثلاثة، وكانت أكثر الردود تفصيلاً واستيعاباً بقلم كاتب مسلم من غير الشيعة، وكأنّ الدفاع عن القرآن الكريم والنبي الأعظم من مسؤوليّة السّنة فقط، وأمّا الشيعة فليس لهم من همّ سوى الدفاع عن الولاية ليس إلا.

([18]) وعنوانه في الفارسية: (بررسي وتحليلي أز نهضت إمام خميني).

([19]) السيد حميد الروحاني، (دراسة وتحقيق في ثورة الإمام الخميني) 1: 688 ــ 689.

([20]) نشرت هذه الرسالة في كتابٍ مستقل، وطبعت أيضاً في الجزء الأول من الأعمال الكاملة للدكتور علي شريعتي.

([21]) مع المخاطبين المعهودين، الأعمال الكاملة 1: 7 ـ 8.

([22]) السيّد إبراهيم الميلاني من أقرباء المرجع الديني آية الله الميلاني، وقد كان ممثلاً في إحدى دورات مجلس الشورى الوطني، وقد بلغ به الأمر في أحد الدورات أن ادّعى الاجتهاد والمرجعيّة ولقب نفسه بـ (آية الله العظمى)، ونصب العداء شريعتي وأفتى ضدّه. وقد ذكره شريعتي في عدّة مناسبات، وكتب له رسالة. [راجع الرسائل من الأعمال الكاملة 34: 204- 222] وندرك من خلال البحث في وثائق جهاز السافاك أنّ فتوى هذا الرجل ضد شريعتي كانت توزع من قبل السافاك نفسه. [راجع مركز أبحاث الوثائق التاريخيّة لوزارة الاستخبارات، حسينيّة الإرشاد برواية وثائق السافاك، الطبعة الأولى 1383هـ ش: 325 ـ 331]

وإن ما لم يكن أحدٌ ليعلمه بشأن هذا الرجل هو صلته بـ (مكتب الاستخبارات الخاص) للنظام الشاهنشاهي، وهو أهم مؤسّسة استخباريّة في نظام الشاه، حيثُ كان يشرفُ على جميع المؤسّسات الاستخباريّة بما فيها جهاز السافاك. وقد جاء في مذكرات الجنرال حسين فردوست: (منذ حوالي العام 1350هـ. ش/1971م ارتبط بمكتب الاستخبارات الخاص، رجلٌ يدعى آية الله الميلاني، وذات يومٍ أخبرني ضابط المكتب بمراجعة شخصٍ معمّم إلى المكتب وقد عرّف نفسه على أنه آية الله الميلاني، وقال: إنّ الناس يرفعون إليّ الكثير من الشكاوى، ويريدون مني الإجابة عنها، وأريد منذ الآن إرسال هذه الشكاوى إلى المكتب عبر وسيطٍ آخر للنظر فيها والإجابة عنها. فقلت لضابط المكتب: انظروا في الشكاوى التي يرفعها على النحو المعهود، وقدّموا له الإجابات بانتظامٍ، وتحققوا في الأثناء من هويته، حيث كان آية الله الميلاني مرجعاً معروفاً في مدينة مشهد، فقيل لي: إنّ هذا الرجل يقيم في طهران وهو غير آية الله الميلاني المرجع الذي يسكن في مدينة مشهد. وأيّاً كان فقد دأب هذا الرجل على إرسال الشكاوى إلى المكتب على النحو المتقدم، وقد شكرني مراراً، وأهداني في أحد المرّات لوحة نحاسيّة تذكاريّة. (حسين فردوست، ظهور وأفول السلطة البهلويّة، الطبعة الثامنة، طهران، 1374هـ ش 1: 517 ـ 518. وقد صنف المؤلف هذا الكتاب أثناء فترة اعتقاله.

([23]) مع المخاطبين المعهودين، الأعمال الكاملة 1: 32.

([24]) مذهب ضدّ المذهب، الأعمال الكاملة 22: 315- 316.

([25]) المرأة، الأعمال الكاملة 21: 67، بتلخيصٍ وتصرّف قليل.

([26]) راجع كتاب (الشهيد المطهري كاشف مؤامرة تأويل ظاهر الدين بباطن الإلحاد والماديّة)، بقلم: علي أبو الحسني (المنذر)، قم المقدّسة، دار النشر الإسلامي، 1362هـ ش، 14.

([27]) الرسائل، الأعمال الكاملة: 34: 228.

([28]) (الشهيد المطهري كاشف مؤامرة تأويل ظاهر الدين بباطن الإلحاد والمادية): 16.

([29]) (نهضة الإمام الخميني)، تأليف السيد حميد الروحاني (الزيارتي)، الطبعة الثانية، 1374هـ ش 3: 165- 420.

([30]) وللتحقيق في هذا الأمر راجع كتاب (تعاطي نهضة الحريّة مع المرجعيّة ونهضة المؤسّسة الدينيّة) تأليف: رحيم روحبخش الله آباد.

([31]) دراسة وتحليل لنهضة الإمام الخميني 1: 693.

([32]) والعجيب أنّ بعض الكتّاب ألف كتاباً بعنوان (تقييم الروابط الفكريّة بين آية الله الشهيد المطهّري والدكتور علي شريعتي)، غير أنّ الشيء الوحيد الذي لم يتطرّق له هذا الكتاب هو (الارتباط الفكري) بين المطهّري وشريعتي، وبعكس ذلك فإنّ الشيء الوحيد الذي تناوله هذا الكتاب وأكد عليه كثيراً هو (الاختلافات الفكريّة) بينهما.

([33]) لا ننسى أنّ أحد العلماء التقليديين في قم ألف كتاباً بعنوان (الحجاب في الإسلام) ردّاً على كتاب (مسألة الحجاب) للأستاذ المطهري. ولا ننسى أنّ أحد العلماء التقليديين قد ذهب إلى الإمام الخميني إبّان إقامته في النجف الأشرف ليقول له: إنّ كتاب (مسألة الحجاب) أدى بالمحجبات في طهران إلى نزع الحجاب، مطالباً إيّاه بموقفٍ في هذا الشأن. ولا ننسى أنّ رأي الأستاذ المطهري فيما يتعلق بسطحيّة المؤسّسة الدينيّة، أو المؤسّسة الدينيّة الجاهلة قد أثار في الأوساط التقليدية من الذعر والفزع ما حدا بأحد مراجع التقليد إلى رفض استقبال المطهري. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة على اختلاف المطهري مع علماء الدين التقليديين، ورغم ذلك لا يشار إلى هذه الاختلافات، وتثار في الوقت نفسه خلافاته مع شريعتي لإثبات أنهما ليسا في قطبٍ واحد، وإنما في قطبين متنافرين. ويمكنكم ملاحظة الكثير من هذه الاستقطابات الكاذبة والمزيّفة في مجتمعنا.

([34]) مقالات الشمس التبريزي، تصحيح محمد علي الموحّد، الطبعة الثانية، طهران، دار نشر الخوارزمي، 1377هـ ش 1: 273.

([35]) غرر الحكم ودرر الكلم، لعبد الواحد الآمدي، تصحيح السيّد مهدي رجائي، الطبعة الثانية، قم، دار الكتاب الإسلامي: 524.

([36]) كشف المحجّة لثمرة المهجة، للسيد ابن طاووس، مكتبة الداوري، قم: 20.

([37]) جولة في حياة الأستاذ المطهري، الطبعة الأولى، طهران وقم، دار نشر صدرا، 1370هـ ش: 78- 79. وللمطهري كلام آخر حول شريعتي قبل وبعد هذا البيان، إلا أنّ هذا البيان يمثل رأيه الرسمي والقطعي.

([38]) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، لمحمد باقر المجلسي، الطبعة الثانية، بيروت، مؤسّسة الوفاء، 1403هـ 2: 1990؛ وبصائر الدرجات، لمحمد بن حسن الصفار، تصحيح محسن كوشة باغي التبريزي، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1404هـ: 25، وكذلك جاء في الحديث عن النبي’ أنه قال لسلمان المحمّدي: «لو عُرضَ عِلمك على المقدادِ لكفر»؛ والاختصاص، لمحمد بن محمد الكعبري (الشيخ المفيد)، تصحيح علي أكبر الغفاري، بيروت، مؤسّسة الأعلمي،  1402هـ: 12.

([39]) <أذكر منذ بداية دراستي للعلوم الدينيّة في مشهد المقدسة حيث كنت أدرس مبادئ اللغة العربيّة، أنني كنت أعتبر الفلاسفة والعرفاء والمتكلمين ـ رغم عدم معرفتي لأفكارهم وآرائهم ـ  أعظم وأجلّ من سائر العلماء والمخترعين والمكتشفين>، مرتضى المطهري، الأعمال الكاملة، الطبعة الثانية، طهران وقم، دار نشر صدرا، 1370هـ ش 1: 441.

([40]) المصدر نفسه، مذكرات الأستاذ المطهري، الطبعة الأولى، طهران وقم، دار نشر صدرا، 1382هـ ش 7: 94.

([41]) عشرون مقالاً، رضا أستادي، الطبعة الأولى، قم، مكتب النشر الإسلامي، 1374هـ ش: 14.

([42]) وكذلك فإن إثبات التشيّع لبعض الشخصيّات الذي تكلفه بعض أعلام الشيعة من قبيل: (صاحب مجالس المؤمنين، وصاحب الذريعة) غير صحيحٍ من الناحية العلميّة أيضاً، حيث لم يصدّق هؤلاء الأعلام أن يكون أصحاب الفضل والفضيلة من غير الشيعة. مضافاً الى تصوّر أنهم إذا لم يثبتوا تشيّع هؤلاء النفر سينتقص من عدد الشيعة، فتكلفوا بذلك رفع  الشيعة من الناحية العدديّة والإحصائيّة!

([43]) (لطائف الطوائف)، لفخر الدين علي صفي، تحقيق أحمد جلشين معاني، الطبعة الرابعة، دار نشر إقبال: 294.

([44]) راجع كتاب (لطائف الطوائف): 237. المذكرات السياسيّة والأدبيّة والشبابيّة، لعلي رضا اعتصام (بهكوشش)، برواية سعيد النفيسي، الطبعة الأولى، طهران، دار نشر المركز، 1381هـ ش: 213.

([45]) راجع كتاب (الحسين وارث آدم)، الأعمال الكاملة 19: 310 ــ 311.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً