أحدث المقالات

كلمة نقدية مع الدكتور عبد الكريم سروش

 

د. مسعود رضائي(*)

ترجمة: حسن علي مطر

 

سروش وأسلوب النقد والتحليل ــــــ

الدكتور عبد الكريم سروش، بعد التحية والسلام…

إثر الحوار المتبادل بينكم وبين الشيخ محمد سعيد بهمن پور، عقيب كلمتكم التي ألقيتموها في جامعة السوربون حول الإسلام والديمقراطية، رأيت من اللازم عليّ أن أذكر بعض المسائل بشأن الأمور التي أبديتموها في تلك الكلمة. وطبعاً فإن لكم أعواماً وأنتم منهمكون بالبحث والفحص والتحقيق، وإذا أردنا أن ننقد ونشرح كلّ ما قلتموه وكتبتموه فإن ذلك سيطول، ولكن؛ لكي لا نزعجكم كثيراً، نقتصر قدر الإمكان على المسائل التي أثرتموها مؤخراً، وإن كان هذا القصر في مساحة البحث لا تعني تبسيطه؛ وذلك لأن نقد وتوضيح وشرح ما تقولونه وتكتبونه ليس بالعمل الهيّن، لا بسبب أنّ المسائل المطروحة تعقد فهم القارئ والناقد؛ لما تشتمل عليه من ثراء وقوة في المحتوى، بل لأنكم تصبّون كلماتكم في قالب وأسلوب خاص. وبعبارة أخرى: لكي يفهم القارئ كلماتكم الدقيقة عليه أولاً أن يعتاد على أسلوبكم البياني، وإلا فإنه سيكون مغلوباً أمام هذا الأسلوب.

إنّ من بين خصائص هذا الأسلوب المهارة في خلط المفاهيم الصحيحة والخاطئة، ومن ثم الاستنتاج (غير المنطقي) منها. وفي الحقيقة إن احترافكم في توظيف الفنون الأدبية لبيان المسائل الكلامية والفلسفية، وكذلك توظيفكم لفنّ المغالطة، يضفي على نصوصكم نوعاً من التعقيد، يجعل القارئ في حيص بيص من أمره، ضائعاً في خضم زحمة المفاهيم المتضادّة والمتناقضة، والنتائج المنطقية وغير المنطقية، وبالتالي يصل من خلال هدي أدبياتكم إلى ذات النقطة التي تمّ تحديدها له. وأرجو منكم أن تغفروا لي تعبيري الذي وصفت فيه أسلوبكم بـ (خلط المفاهيم وإبهامها)، واعتبرت نتيجة ذلك بقاء كلامكم العميق مبهماً بالنسبة إلى القارئ. وبعبارة أخرى يجب القول: إنكم من خلال توظيف هذا الأسلوب يمكنكم عند اللزوم اتهام مخاطبكم بسوء الفهم أو عدم الفهم. وفي الحقيقة إنكم، ومن خلال توظيف العبارات والمفاهيم المتنوّعة، وحتى المتناقضة، لا تدخلون أبداً في مساحة ذات مدخل ومخرج واحد فقط، بل إنّ كلّ واحد من هذه المفاهيم بمثابة نفق يحتوي على عدة طرق متشعّبة أمام الداخل والخارج، حتى إذا تمّ غلق أحد الفروع أمكن الانسياب بمرونة من خلال الفروع والدهاليز المتبقية.

ومن باب المثال: إنكم ذكرتم في جوابكم على السيد بهمن پور، ونبهتموه إلى ضرورة التدقيق في كلامكم؛ إذ قلتم له: «ألم يكن من الأجدر بكم لنقد ذلك الكلام أن تراجعوا خطابي في السوربون ـ في باريس ـ، الذي امتدّ لتسعين دقيقة، وعدم الاكتفاء بالخلاصة الناقصة التي أعدّها الجامعيون؛ ليغدو نقدكم أكثر متانة ورصانة وقوّة، وأن يكون بمنجى من الأخطاء المحتملة؟». وطبعاً أنا أيضاً لم أتمكن من الحصول على نص تلك الكلمة التي ألقيتموها في السوربون، رغم تطلعي إلى ذلك، ولكن في الأقل نجد الإجابة المكتوبة، والتي تفضلتم بها في الرد على الشيخ بهمن پور، ماثلة أمامنا، وليس هناك من شك في أنها صادرة عنكم. وقد قمت بإجراء مقارنة عليها، وأطلب منكم ومن القراء الكرام إجراء ذات المقارنة؛ ليقفوا على مدى الفرق الموجود بين تلك (الخلاصة الناقصة التي قام بها الجامعيون) وما جاء في متن جوابكم من الناحية المضمونية. وكذلك ليرى الذي قرأ تلك (الخلاصة الناقصة للجامعيين) وفهم منها شيئاً، بعد أن يقرأ توضيحاتكم الرصينة، هل سيتغير فهمه الأول أو يبقى على حاله؟

وعليه فإنّ الإشكال لا يكمن في (خلاصة الجامعيين الناقصة). إنّ المشكلة تكمن في توظيف ذلك الأسلوب الذي يترك لكم على الدوام عدّة منافذ للخروج عند الضرورة. وهو الأمر الذي يمكنكم، من خلال طرح مسائل من قبيل: ضعف نقل أقوالكم، أو سوء فهم السامع، أو عدم فهم المخاطب، أن تنتقلوا بعد ذلك إلى موقف آخر، لتعيدوا صقل نفس الكلمات السابقة بثوب جديد، تتغير فيه الألفاظ، والمعنى هو المعنى.

اسمح لي بإعطاء مثل آخر، ولا شأن لي بالخلاصة التي أنجزها الجامعيون. فمن الواضح في نصكم المكتوب أنك تنتمي من الناحية الإيديولوجية إلى ما تسميه بالديمقراطية، ولكن لم يتضح ما إذا كنت لا تزال على ما كنت عليه من التشيع أم لا. إنني على يقين من جوابكم؛ إذ إنكم ستقولون: «في أيّ موضع من كلامي ذكرت أنني لست شيعياً». وهذه هي الحقيقة؛ إذ لم يُذكر في أيّ موضع من ذلك النص أنك لست شيعياً بصراحة. بل أكثر ما قيل بشكل صريح في الحد الأكثر: «إني لست شيعياً غالياً». ولكن في جميع مواطن النص المذكور، ومن خلال توظيف الفنون الكتابية، وبتبرير أنكم تنظرون إلى القضايا بالنظرة الثانوية، تؤكدون هذا التصوّر، وهو أنكم باقون على الإسلام والتشيع والمهدوية، وكأنكم لا تريدون الخوض في النظرة من الدرجة الأولى.

لست أرمي أبداً إلى إقامة محكمة للتفتيش عن معتقدكم، فسواء كنت شيعياً أم لم تعد شيعياً فذلك ـ من وجهة نظري ـ مسألة تخصّكم بشكل كامل. وإنما يدور كلامي في هذا الإطار حول التعرّف على نوع كتاباتكم وبحوثكم، التي يطغى عليها الغموض والإبهام، وكأنكم تتعمدون عدم بيان أي شيء بشكل واضح. وهذا الغموض يؤدي إلى بقاء النتائج النهائية على حالها من الخفاء. فإن كنت حقاً على ما تدعيه من النظر إلى قضية (العلاقة بين الإسلام والديمقراطية) بالنظرة من الدرجة الثانية فعليكم مراعاة أصل الحياد في ما يتعلق بهاتين المقولتين، في حين أن كتابتك تبيِّن ميلكم وانحيازكم الواضح إلى الديمقراطية. وعليه فإنّ أخذكم أسس الديمقراطية التي تنشدونها أصلاً، ثمّ سعيكم إلى تطبيق الإسلام عليها مهما كانت، يعتبر نظرة من الدرجة الثانية إلى مجموع المسألة، بل هي نظرة مؤدلجة، تقدم الديمقراطية على حساب الإسلام والتشيّع. ومجرّد ادعاء الانطلاق في البحث من خلال النظرة من الدرجة الثانية لا يُغيّر من الواقع شيئاً.

وفي ما يتعلق باستشهادكم بكتاب «إعادة الفكر الديني في الإسلام»، لكاتبه العلامة إقبال اللاهوري، الذي أطريتم عليه بالثناء والمديح، وذكرتم «أنّ كلام إقبال لابد من الإصغاء إليه من خلال مسامع العقل»، فإننا نجدكم تعمدون إلى التعمية والإبهام، فلا توضحون للقارئ ما هي نسبتكم إلى هذا الكتاب؟ وهل تقبلون نظريات إقبال اللاهوري؟ وهل أن استشهادكم بها يعني أنّ على القارئ التعامل معها بوصفها بديلاً عن آرائكم وأفكاركم؟ وهل تقبلون بعضها وتنكرون بعضها الآخر؟ والخلاصة ما هو تكليف القارئ مع إقبال ومعكم؟ وهل أنه إذا انتقد شخص نقلكم أقوال إقبال اللاهوري، وحمَّلكم وزرها، لن يكون جوابكم: «وما شأني بآراء إقبال، رجاءً أعيدوا كتابة رسائلكم، وابعثوا بها إلى عنوان المرحوم إقبال اللاهوري»؟

ومثال آخر: الجميع يعرف مدى هيامكم وتعلقكم بـ «المولوي»، ولذلك تطغى أشعاره على مقالاتكم وكلماتكم. وهذه الحقيقة هي التي دعت الشيخ بهمن پور إلى تحذيركم، ومطالبتكم بأن تعطوا لأئمة الشيعة في الأقل نفس المنزلة والولاية التي ترونها لأمثال مولوي الرومي. وقد كان جوابكم عن ذلك قولكم: «قلتم بأنني أبخل على أئمة الشيعة حتى بالولاية التي أمنحها لمولوي جلال الدين الرومي. للأسف الشديد فإن هذا الموضع، بل وأي موضع آخر، ليس مناسباً للتعرّض إلى المعتقدات الشخصية، ولكنني مضطر إلى القول بأنني لست شيعياً غالياً، ولا أقول بنبوّة أي شخص آخر بعد النبي| أياً كان ذلك الشخص، سواء أكان مولوي جلال الدين الرومي أو غيره. وإذا تجاوزنا ذلك فإنّ بالإمكان تصوّر بلوغ مقام القرب من الله لأي شخص كان، ولست أريد من دوام الولاية المعنوية و(بسط التجربة النبوية) شيئاً آخر غير ذلك».

ففي هذا المقطع وهذه الجملة فقط هناك تناقض وإبهام كبير؛ حيث تؤكدون أولاً على أنّ «هذا الموضع، بل وأي موضع آخر، ليس مناسباً للتعرّض إلى المعتقدات الشخصية»، فإذا كنتم حقاً لم تخوضوا في هذا المقال، ولا في أي مقال آخر، في طرح عقائدكم الشخصية فماذا نسمي ما صدر عنكم طوال هذه السنوات المتمادية من مقالات ومؤلَّفات ومحاضرات وكلمات؟ وثانياً: إنكم وإن ذكرتم بعض الإيضاحات، ولكنكم في النهاية لم تجيبوا عن سؤال الشيخ بهمن پور. وإنّ عدم منحكم شؤون النبي لأي شخص، وأما ما وراء ذلك فهو مباح للجميع، وطبعاً إنّ الجميع من وجهة نظركم ـ وكذلك من وجهة نظر الآخرين ـ ليسوا على درجة واحدة، كلام عام لا يوضِّح ـ من وجهة نظركم ـ ما هي النسبة بين موقع وشؤون أئمة الشيعة وبين موقع مولوي؟ وهل حقاً كان هناك محذور في أن تجيبوا عن شبهة الشيخ بهمن پور بشكل صريح، وأنكم ترجحون شأن وموقع وولاية أئمة الشيعة على مولوي، أو أن لكم رأياً آخر؟ دون أن تضمروا الموضوع في طيات من الألفاظ والعبارات المبهمة والغامضة.

كان كلامي حتى الآن يركِّز على بيان أسلوبكم البياني الذي تعتمدونه في نشر أفكاركم ومعتقداتكم، أي الأسلوب الذي يمكن فيه صياغة الكلام في إطار هالة من الإبهام، أو توظيف الفنون الأدبية و(غير المنطقية) التي تساعد الشخص على قول الشيء وعدم قوله في آن واحد، وهي طريقة يحتاج الإنسان في التوصل إليها إلى تبحُّر وتخصُّص وممارسة طويلة. ومن خلال توظيف هذا الأسلوب يمكن في مقام الاحتجاج على كل شخص اتهامه بتوظيف النصوص الضعيفة، أو سوء الفهم، بل وحتى عدم الفهم. وطبعاً في بعض المواطن الأخرى يمكن إشغاله بذكر سلسلة من الإبهامات والأمور الغامضة الأخرى، وتركه في دوامة لها أول وليس لها آخر.

 

1ـ تحديد مفهومي الإسلام والديمقراطية وفق الأصول المعرفية النقدية ــــــ

المسألة الأولى: إنّ الديمقراطية مفردة يجب تعريفها أولاً؛ لكي نتمكن بعد ذلك من تقييم العلاقة بين الديمقراطية التي نريدها وبين الموضوعات والمسائل الأخرى، وخاصة بالنسبة لكم؛ إذ تعرضتم لذلك في الكثير من بحوثكم في كتاب «القبض والبسط النظري في الشريعة»، وكذلك «القراءات المختلفة للدين»، فكان عليكم الالتفات إلى هذه المسألة أكثر من غيركم. فإذا كان يمكن القول بالقبض والبسط النظري في الشريعة كان من الأولى رعاية ذلك القبض والبسط النظري في الديمقراطية طوال التاريخ، ومن ثمّ لابد من أخذ القراءات المختلفة والنماذج المتعددة للديموقراطية في مختلف المواطن بنظر الاعتبار. وأما إذا قلتم بأنّ الديمقراطية جوهرة ثابتة لا تتغير، ولا يطالها القبض والبسط، ولا تتحمل القراءات المتعددة، فلابد من قول الشيء ذاته بالنسبة إلى الدين والشريعة، وعليكم إعادة النظر في آرائكم السابقة في هذا الخصوص. وعليه بالالتفات إلى آرائكم التي ذكرتموها فإننا نواجه مسألتين في ما يتعلق بالقبض والبسط النظري، وإنّ إبراز مثل هذه البحوث العامة والبسيطة حول الإسلام لا يمكن لها أن تكون كاشفة عن الحقيقة أبداً.

ولكن هناك مسألة أهم وأكثر دعوة إلى التأمل مما تقدم. فحتى مع فرض تقديمكم تعريفاً عن الديمقراطية والإسلام (الدين) فإنه طبقاً لتعاليمكم المتقدمة لا يمكن أن يكون لذلك التعريف أية حجية على الآخرين. ولتوضيح هذه المسألة أجد نفسي مضطراً لاستعارة عبارة وجملة لكم ذكرتموها في مقالة «خدمات وحسنات الدين»؛ إذ تقولون: «لكل شخص تصوّر عن الله تعالى، وكما يقول العرفاء: إنّ الله يتجلى لكل شخص بنحو من الأنحاء. وجميع هذه التجليات محترمة، وقد صححها الدين». فإذا كان أصل التوحيد على قمة جميع المدركات ومعرفة الله تعالى، بحيث يكون إدراك كل شخص عن الله محترماً وصحيحاً، أمكن القول من طريق أولى بصحة واحترام معرفة وإدراك كل شخص عن أوامر الله ونواهيه. وعندها سنحصل على قراءات متعددة عن الإسلام بعدد المسلمين أنفسهم. وعليه لكم كامل الحق في ما يتعلق برابطة الإسلام والديمقراطية بالتحدّث عن (إسلامكم الخاص)، وعلاقة ذلك الإسلام الخاص بـ (ديموقراطيتكم الخاصة)، ولن يجيز لكم أي شخص آخر أن تتحدثوا عن علاقة إسلامه الخاص بديموقراطيته الخاصة. وعليه ففي نظرة عامة وأكثر شمولية يجب القول: طبقاً لإطاركم التحليلي عن الدين فإنّ أقوال وآثار أي شخص عن الإسلام إنما تهمه هو دون غيره. وبعبارة أخرى: لو أنني قلت لكم: إنّ ذلك الإسلام والتشيّع الذي تحدثتم كثيراً في وصف ارتباطه ونسبته إلى سائر المقولات الأخرى، ومن بينها الديمقراطية، ليس هو إسلامي، ولا تشيعي، فعندها ماذا سيكون جوابكم؟!

وبهذا الشكل تلاحظون أنّ كل ما قلتموه وكتبتموه سابقاً ينسف أسس جميع كلماتكم واستدلالاتكم. وما دمتم لم تلتزموا بإطار عام وثابت، أو أصول وقواعد محددة باسم الإسلام أو التشيع، سيكون حديثكم عن الإسلام وارتباطه بالديمقراطية من غير أساس؛ إذ أي إسلام تتحدثون عنه؟ وأيّ تشيع؟ هل هو إسلامكم، أو إسلامي أنا، أو إسلام زيد أو عمرو؟ واسمح لي أن أقولها بصراحة: طبقاً لرأيكم في ما يتعلق بالدين لا يمكننا أصلاً أن نعثر على شيء باسم الإسلام، فكل ما هو موجود سلسلة من المعتقدات والأفكار والآداب والسلوكيات والأخلاق الشخصية، وطبعاً فإنها تعتبر بأجمعها محترمة وصحيحة.

وبالالتفات إلى هذه المسألة فإما أن تترك البحث في العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، إذ لا يتضح لأمثالي عندما تتحدثون في إطاركم التحليلي عن الإسلام أيّ إسلام هو الذي تقصدونه؛ وإذا كنتم مصرّين على الخوض في هذا النوع من البحوث فعليكم أن تذعنوا بأنّ للإسلام أطراً وضوابط عامة وقواعد محددة، فليس الأمر بأن يكون لكل إنسان فهمه الخاص للدين، وهو مع ذلك صحيح من وجهة نظر الإسلام. فإن اخترت الشق الثاني تعيّن عليك أن تبادر قبل الخوض في بحث العلاقة بين الإسلام والديمقراطية أن تجري مراجعة لجميع أعمالك وبحوثك السابقة، وتخصص وقتاً لتصحيح مواقفك وآرائك، ومن ثم تنتقل إلى البحث في ما يروق لك أن تخوض غمار البحث فيه.

 

2ـ الفقه الإسلامي بين الحقّ والتكليف ــــــ

وأما إذا تجاوزنا هذا البحث العام فإنّ أول مسألة تلفت انتباهنا من جملة ما كتبتموه هو تأكيدكم على محورية الفقه في الحضارة الإسلامية، وهذه المسألة هي أنّ «ضعف النظام الفقهي يكمن في نزعته التكليفية، وأنه لا يتمتع بنزوع إلى الحقوق، ولذلك لابد من تزريق دواء الحق الناجع في جسد التكليف الميت، كي يستعيد عافيته ونشاطه الديمقراطي، ويغدو ثوب العدالة المعاصرة ـ الذي يدور حول محور حقوق الإنسان ـ مناسباً لمقاسه، ويقام التوازن المطلوب والمناسب بين الحقوق والواجبات».

لقد تمّ التفكيك والفصل بين الحق والتكليف من وجهة نظركم، بحيث يوحي وكأنه لا توجد هناك أية علقة بينهما، في حين أنّ بين الحقوق والواجبات صلة وارتباط وثيق لا يمكن فصم عراه، فالحقوق والصلاحيات التي تجعل للناس تفرض عليهم من الناحية التلقائية بعض الواجبات والمسؤوليات، وهكذا العكس. ولذلك في الفقه، وكذلك الحقوق المدنية في بلدنا، يتم الحديث عن الواجبات وحقوق آحاد الناس بنسبة واحدة. وفي الأساس فإنّ العلاقة بين الحقوق والواجبات، وبعبارة أخرى: ولادة كل منهما من رحم الآخر، بحث طويل وعريض، وله تاريخ طويل في أروقة المفكرين المسلمين. ويمكن مشاهدة هذا النوع من البحوث، وكذلك القوانين الوضعية، في المجموعات الحقوقية في البلدان الأخرى. ولكن يبدو أن تأكيدكم على اللاحقة التي ترونها للحقوق والواجبات، حيث تقول: النزعة التكليفية والنزعة الحقوقية. وربما لن نصل إلى نتيجة من خلال بحثنا لهذه المفردات، ولذلك من الأفضل لنا ولكم أن نخوض في الوضع القائم للمجتمعات والحضارات، لنرى هل الدول التي تتمتع بالنشاط الديمقراطي يتمتع المواطنون فيها بالحقوق فقط وفقط، بينما يرزح المواطنون في بلدنا تحت وطأة التكاليف والواجبات فقط وفقط، دون أن يتمتعوا بشيء من الحقوق؟ وللعثور على جواب هذا السؤال يكفي أن نضع مجموعة القوانين والضوابط والقواعد الموضوعة على عاتق الشعوب في البلدان الغربية إلى جانب مثيلاتها في بلدنا لنلاحظ العقوبات التي قررت لمن يتمرّد على تلك القوانين والقواعد والتكاليف في تلك البلدان، وكيف هو الوضع في بلدنا. وطبعاً فأنا ليس عندي أي اعتراض على النظم والانضباط والشدّة في تطبيق القوانين، وإنما أستعرض هذه المسائل لكي ننزل من أبراجنا الذهنية، ونعيش قليلاً في الواقع والعالم الخارجي؛ لنجري مقارنة بين المسائل المطروحة. إن الحقيقة هي أن البلدان التي تتمتع بنشاط ديمقراطي لم يأتِ لها النظام (ذو النزعة الحقوقية) بأمواج هادرة من الحقوق، وأنهم يسبحون منذ مطلع الفجر إلى نهاية الليل في بحر من الحقوق، دون أن يجدوا على كاهلهم ذرّة من التكاليف والواجبات. وأما في بلادنا؛ وبسبب قيام نظام (ذي نزعة تكليفية)، يرزح المواطنون عندنا تحت ثقل التكاليف، وهم يتحسرون ويتعطشون إلى قطرة واحدة من قطرات الحقوق يبلّون بها ظمأهم. وطبعاً فإن إشارتكم إلى (محورية حقوق الإنسان) يمكنها أن توضِّح مرادكم الجوهري من بيان هذه المسألة. في الحقيقة إنّ مرادكم هو أننا إذا أردنا أن نتحوّل إلى مجتمع (ديمقراطي) بمعنى الديمقراطية السائد والشائع فعلينا أن نخضع لما يعترف به رسمياً في هذا النوع من المجتمعات تحت حقوق الإنسان، وما لم نقُمْ بذلك لن نستحق عنوان (النزوع إلى الحقوق)، ونظل على ما نحن عليه من (النزعة التكليفية)، مهما بذلنا من الجهود الجادة في البلاد لضمان حقوق آحاد أبناء الشعب والمجتمع.

ما هو الداعي إلى تعقيد البحث إلى هذه الدرجة؟ وما هي الحاجة إلى إدارة اللقمة حول رؤوس مخاطبيك، دون وضعها في أفواههم مباشرة؟ ما هكذا تورد يا سعد الإبل! إنّ أساس البحث ليس في أننا ذوو نزعة تكليفية وغيرنا ذو نزعة حقوقية؛ وذلك أنكم تعلمون أن كلاًّ من الحقوق والواجبات وجهان لعملة واحدة، وإنّ التفكير فيهما لن يؤدي إلى غير هذه النتيجة. إنّ مشكلتكم تكمن في بيان الفارق بين (الحق) و(الحق)، وإنّ تأكيدكم على (حقوق الإنسان) بالمعنى الغربي طبعاً يثبت ميلكم إلى أي نوع من النزعة الحقوقية تذهبون. وهذا طبعاً موضوع قابل للبحث والنقاش، ويمكن لنا أن نبحثه بشكل واسع ومستقل.

 

3ـ بين مقام النبوّة ومقام الإمامة ــــــ

والموضوع الآخر الذي شغل حيزاً لا بأس به من كتاباتكم هو موضوع النبوة والإمامة والولاية والخاتمية؛ إذ تقول: «إنّ الخاتمية كما أفهمها تقتضي أن لا يكون بعد النبي من تصل قوّة واعتبار كلمته إلى مرتبة ودرجة كلمة النبي، ولا يكون لكلامه نفس حجية كلامه».

وهنا في بداية البحث لا بد من توضيح مسألة. فما هو مرادكم من (كلام النبي)، و(حجية قوله)؟ وتوضيح ذلك أنّ ما جرى على لسان النبي الأكرم | طوال حياته الشريفة على قسمين: قسم منه (وحي إلهي)، وهو بطبيعة الحال ليس (كلام النبي)؛ والقسم الآخر هو الكلمات التي يمكن تسميتها أقوال النبي وأحاديثه. وهناك طبعاً اختلاف كبير وبون شاسع بين هذين القسمين. فما كان من الوحي الإلهي، وهو الموجود حالياً في متناولنا بين الدفتين، وهو القرآن الكريم، الذي لا نشك في أنه ليس منه جملة واحدة أو كلمة واحدة، بل ولا حرف واحد، لرسول الله: ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ﴾ (الحاقة: 43 ـ 46).

فعليكم أن توضِّحوا ما هو مرادكم من (كلام النبي)؟ إن كان مرادكم هو القرآن فليست كلمات الأئمة المعصومين^ وحدها هي التي لا تدانيه، بل حتى كلمات نفس النبي الأكرم| لا ترقى إلى درجة القرآن الكريم. وفي الحقيقة إنّ ما عبّرتم عنه بـ (كلام النبي) هو في الواقع (كلام الله)، الذي لا يرقى إليه كلام أي عبد من عباده. وعليه يجب أن نسألكم: من هو الذي ادعى مثل هذا الادعاء؟ ومن ذا الذي قال: إن كلمات أئمة الشيعة والنبي الأكرم في رتبة (الوحي الإلهي والآيات القرآنية) حتى تجشَّمتم عناء الدفاع عن النبوّة والخاتمية، وبذلتم كلّ هذا العناء من أجل العثور على مخرج لجعل كلمات الأئمة دون كلام النبي مرتبة، ولا ترقى إلى حجية كلماته؟!.

ثمّ سحبتم الكلام إلى أصل مقام ومرتبة النبوّة، وذهبتم إلى عدم مساواة الأئمة للنبي الأكرم في الرتبة. وسؤالي في هذا المقام: ما هي الخصوصية التي تميز مقام النبوّة؟ فلو فرضنا أن النبي محمد| بقي على ما كان عليه قبل النبوة، من أداء الأمانة، حيث عرف بـ (محمد الأمين)، وغير ذلك من الصفات الأخلاقية الفردية البارزة إلى آخر حياته، يعيش بين أبناء مجتمعه، يحدّثهم بالكلمات الحكيمة، ويعظهم بالمواعظ الحسنة والبليغة، مع استجماعه لكل الخصال والكمالات المعنوية والروحية والعلمية والأخلاقية، ولكنه فقط وفقط لا يوحى إليه، فهل كنا نؤمن به بوصفه نبياً؟ وعليه فإنّ الذي يجعل من الشخص نبياً هو اختيار الله تعالى له لهذا المنصب ونزول الوحي ـ بمعنى الوحي النبوي الخاص ـ عليه. وهنا أكرر عليكم السؤال: رغم ما يراه الشيعة لأئمتهم من الفضائل والكمالات متى ادعوا لهم مقام (النبوّة) ـ بمعناها الدقيق ـ لأئمتهم، حتى يستبدّ بكم القلق تجاه مسألة الخاتمية، وتشمّروا عن سواعدكم لتصحيح وتقويم هذه المشكلة؟ وهل سمعتم حتى الآن فرداً شيعياً، حتى وإن كان من عوّام الشيعة، يدعو إلى ضمّ كلمات الأئمة الأطهار إلى القرآن الكريم؟ هيهات، وعليه ما هو الداعي إلى كلّ هذه الاتهامات التي تنهالون بها على الشيعة، وكأنهم يثبتون لأئمتهم شأناً خاصّاً بالنبي، وأنهم يرون كلامهم في مرتبة كلام النبي (بمعنى آيات القرآن الكريم)؟! التفتوا: «هل كان الأئمة؛ للإجابة عن كلّ سؤال، يرجعون إلى كلمات النبي، وكانوا يقرؤونها؟ أين حصل ذلك؟ وهل كانوا يفكِّرون ومن ثمّ يجيبون، أو أنّ الأجوبة ـ كما يقول الشيعة ـ حاضرة عندهم، من دون أن تكون هناك حاجة إلى الاجتهاد وإعمال الفكر والروية والتحقيق والتحليل، ولذلك فإنّ ما كانوا يقولونه لا يقبل الخطأ؛ لأنه إلهام من الله، وعين كلام النبي، ولا يمكن الاعتراض عليه؟ فإن قلتم بالشق الثاني لن يكون هناك فرق بين النبي والإمام، وعندها هل يبقى للخاتمية سوى مفهوم ناقص وباهت؟».

ألم تقولوا أنفسكم: «لا أقول بنبوّة أي شخص آخر بعد النبي| أياً كان ذلك الشخص، سواء أكان مولوي جلال الدين الرومي أو غيره. وإذا تجاوزنا ذلك فإنّ بالإمكان تصوّر بلوغ مقام القرب من الله لأي شخص كان». وكذلك أضفتم في المقطع التالي: «فإن الحقّ هو أن لا نبلغ بهم مرتبة الألوهية، ولا مرتبة النبوّة. ويمكن بعد ذلك أن نتصور في حقهم وحق غيرهم من السالكين بلوغ أية مرتبة أخرى». حسناً جداً، إذاً أين تكمن المشكلة؟ إذا كانت لوازم وشؤون النبوة هي انتخاب الشخص من قبل الله إلى هذا المنصب ونزول الوحي الإلهي عليه فهذا ما لا تدعيه الشيعة لأئمتهم أبداً؛ وإذا كان الأمر كما تقولون، من أنه «يمكن بعد ذلك أن نتصور بحقهم وحق غيرهم من السالكين بلوغ أية مرتبة أخرى»، فما هو الإشكال إذا تصوَّر الشيعة لأئمتهم مثل هذه المنزلة التي تكون معها كلماتهم شرحاً وتفسيراً للوحي الإلهي، واعتبارهم نماذج للهداية، وعدم تطرق الخطأ والسهو عليهم. وطبقاً لما ذكرتموه أنتم أي إشكال يترتب على قول الشيعة بخلافة أئمتهم للنبي الأكرم|، وأن السلطة والحكم حق ثابت لهم؟ فأيُّ موضع من هذه العقيدة يجعل الأئمة على قدم المساواة مع شأن (نبوة) النبي محمد بن عبد الله|؟

إنّ الإشكال الذي ذكرتموه لا يجب البحث عنه في عقائد الشيعة، بل يجب البحث عنه في ما قمتم به من خلط للبحوث. فإنّ المشكلة تنشأ من أنكم تحدثتم حول (كلام النبي)، وطبعاً لم يكن ذلك لغفلة أو مسامحة، بل هو قائم على رؤيتكم ونمط تفكيركم. في الحقيقة إنّ مرادكم من (كلام النبي) ـ كما تقدم ـ هو جميع الكلمات التي تفوَّه بها طوال حياته، وخاصة في تلك الحقبة التي تنتمي إلى ما بعد الرسالة، في حين يجب التفريق بين (الوحي الإلهي) و(كلام شخص النبي). كما كان ديدن المسلمين في صدر الإسلام على سؤال النبي على الدوام عما إذا ما كان الذي يقوله هو كلامه أم أنه من وحي السماء. وعليه فعندما لا تفرّقون بين الوحي الإلهي والآيات القرآنية وبين كلمات شخص النبي، وترونها بأجمعها من سنخ واحد، عندها يمكنكم توجيه هذا الإشكال على الشيعة، وتقولون لهم: كيف تجعلون كلام أئمتكم من نوع كلام النبي الأكرم؟ وفي هذه المغالطة توحون بأن الشيعة يذهبون إلى المساوقة بين كلام الأئمة والقرآن الكريم، ثم تستنتجون من ذلك أنّ خاتمية النبي في عقائد الشيعة مخدوشة ومهلهلة!

لقد دعوتم الشيخ بهمن پور إلى مطالعة مقالة «بسط التجربة النبوية» مرة أخرى. وأنا في أشد الشوق لقراءة هذه المقالة معكم؛ ليتضح سبب تأكيدكم في المقال المكتوب بين أيدينا على (كلام النبي)، ولا تتعرضون لـ (الوحي الإلهي) الذي جرى على لسان النبي الأكرم|.

 

4ـ هل يؤمن سروش بالمهدوية؟! ــــــ

وأما بحثكم التالي فيدور حول الإمام المهدي# ومسألة المهدوية. وقد قلتم في بداية هذا البحث للشيخ بهمن پور: «ذكرتم أنّ وجود الإمام المهدي حقيقة. فهل لك أن تدلني على موضع من مقالي قلت فيه: إنّ المهدي ليس حقيقة؟».

إنّ ما تقولونه حق وصحيح، فليس هناك موضع من مقالكم تقولون فيه: إنه ليس حقيقة، ولكن هل يمكنكم أن تقولوا لنا: في أيّ موضع من خلاصة الجامعيين الضعيفة والناقصة، وكذلك نصّكم المكتوب والمتقن، ذكرتم فيه بصراحة أنه حقيقة واقعة؟ إنّ هذه هي الطريقة التي ذكرت لكم أنه يمكن من خلال استعمالها قول الشيء وعدم قوله في وقت واحد.

قلتم: «إنّ يراعي في هذا الموضع وفي غيره يتعمّد عدم الحكم في باب العقائد الخاصة للشيعة وغير الشيعة، وإنما يكتفي ببيان الربط المنطقي والنتائج التاريخية المترتبة عليها».

إنّ هذا الكلام لا أساس له من الصحة؛ إذ يمكن من خلال جميع فقرات هذا النص المكتوب، وكذلك الكم الهائل من أعمالكم الأخرى، العثور على العديد من الأحكام بشأن العقائد الخاصة وغير الخاصة للشيعة وغير الشيعة. ولذلك فإنّ هذا الكلام إنما يقع في سياق التنصل من الاعتراف والإقرار الصريح بعقيدتكم حول الإمام المهدي. وفي الحقيقة إنكم من خلال بيان هذه المسألة، وكذلك التأكيد على هذه الرؤية الثانوية، والنظرة التعددية إلى المسائل، تسعون إلى إعداد أرضية بحيث لو سُئلتم قبل إظهار الرأي في مورد (قصة المهدوية السياسية)، التي تستتبع بزعمكم الكثير من التبعات السلبية: هل يمكنكم أن تذكروا لنا رأيكم الشخصي حول الإمام المهدي والمهدوية؟ يكون لديكم طريق إلى عدم الإجابة عن هذا السؤال. أليس الطريق الصحيح والأسلوب العلمي والمنطقي والصحيح أن تتفضلوا، قبل أو بعد نقدكم بشأن (المهدوية السياسية)، ببيان رأيكم الصحيح والمقبول والمقنع بشأن المهدوية؟ ألم يكن من الأفضل أن توضحوا هذه النقطة، وهي أننا إذا لم نشأ الاستفادة من نظرية المهدوية سياسياً، وإذا رمنا التوفيق بين المهدوية والديمقراطية، وأردنا أن نقيم أساساً للديموقراطية في ظلّ المهدوية، وإذا لم نُرِد توظيف (انتظار الفرج)، كما صنع علي شريعتي، سلاحاً إيديولوجياً لـ (الاعتراض)، وبالتالي إذا لم نشأ الابتلاء بكل ما هاجمتموه، فأية نظرة يجب أن نتبنّاها للمهدوية؟ وأنا بدوري آمل أن تبادروا في مقالكم التالي إلى الحديث أولاً بشكل واضح وصريح عما إذا كان وجود الإمام المهدي بالنسبة لكم حقيقة أم لا؛ وثانياً: إذا كان لوجوده حقيقة فما هو الواجب على المسلمين في عصر الغيبة؟ وكيف ستكون خصوصية حكومة الإمام المهدي#؟

إن إشارتكم إلى منظمة المهدوية الحجتية تستدعي توضيحاً ضرورياً. وفقاً للقواعد يجب أن تسلِّموا بأن النظام البهلوي الشاهنشاهي كان نظاماً عميلاً للأجانب، وكان يسير على نهجهم السياسي، وفي ضوء إرادتهم القائمة على هدم الإسلام وزوال الثقافة الدينية عن البلاد، وكذلك إشاعة ونشر أنواع الفساد الأخلاقي والسلوكي في المجتمع، ومن جهة أخرى فقد قلتم: «ربما كان الأصح أن نعدّ أتباع المهدوية الحجتية في أمر السياسة أفراداً انعزاليين وغير عاملين، ينسجمون مع جميع الحكومات، ويواصلون معاشهم حتى يحين آخر الزمان، فيظهر المهدي الموعود من غيبته». وأنا هنا أضيف هذه المسألة إلى كلمتكم، وهي أنّ هذه المنظمة قد التزمت عدم التدخل في الأمور السياسية بوصفه أصلاً لها، وكانت تطالب أعضاءها بأن لا يتدخلوا في السياسة أبداً.

فهل نحصل من مجموع ما تقدم على مجرّد ما ذكرتموه؛ إذ تقولون: «حتى جنين الديمقراطية لن يولد من رحم هذا الانكفاء السياسي». إنّ هذا هو الحد الأكثر من اللطف الذي يمكن أن يحصل عليه أتباعكم القدامى، ولكنه لا يمثل الحقيقة كاملة. وحين يكون الحاكم نظاماً فاسداً ومفسداً بجميع ما للكلمة من معنى فهل النتيجة العينية والعملية للجلوس وترك الأمور كما هي، على أمل الظهور، الذي يعتبر ترويجاً لنوع من الكسل السياسي المفرط، سوى تمهيد الأرضية لنشر الفساد والظلم؟ وأساساً ألا يعد ذلك تشجيعاً للنظام الفاسد والظالم الذي يرفع من وتيرة ظلمه وفساده؟! ومن الطبيعي في إطار التفكير الذي تحمله منظمة الحجتية أن يكون العمل المستحب في مثل هذه الظروف بالنسبة للشيعة والمسلمين هو أن يرفعوا أيديهم بالدعاء وسؤال الله تبارك وتعالى أن يعجِّل في ظهور الإمام، في عصر يملأ فيه الظلم والجور جميع العالم.

طبعاً علينا التذكير هنا بأنّ انتقاد المنظمة كان انتقاداً لمشروع تنظيمي يدعو إلى السكوت على ظلم نظام الجور. وكذلك حرف هذا المشروع جهود المسلمين وطاقاتهم إلى أمور هامشية، الأمر الذي يؤدي إلى الخلل في التيار المناضل والمجاهد ضد نظام البهلوي العميل والظالم. فلو أنّ الشعب الإيراني سار على نهج هذا المشروع الذي يدعو إلى السكوت فإنهم لن يصلوا إلى الديمقراطية، بل لتخبّطوا في ظلام الجور والدكتاتورية والفساد والتبعية والعمالة. وقد شهدنا تفسيراً آخر للمهدوية وانتظار الفرج. وقد كان هذا التفسير يمثل كتلة واحدة من الحركة ضد الظلم والجور والضياع، ويرى مكافحة الدكتاتورية والفساد عين التمهيد لظهور المهدي. ومن هذه الزاوية فإنّ الركون إلى ظل السكوت على انتشار الفساد في إيران والعالم، وعدم النشاط السياسي، لا يقع في إطار التفكير المهدوي الأصيل، بل يعتبر عين التعاون مع الدكتاتورية.

 

5ـ بين المهدوية وقضية الديمقراطية والحريات ــــــ

لا أروم هنا أن أجيب عن عباراتكم المنمّقة في هذه المقولة، من قبيل: «إقامة سقف السياسة على أعمدة الشريعة»، و«يخرج ذراع القدرة من أكمام المهدوية»، و«الأسلوب الماهر في صنع الأسلحة الإيديولوجية». وكذلك لا أرى البحث التاريخي بشأن «المهدوية السياسية» متناسباً وهذه المقالة، ولكن لما كانت غايتكم من ترتيب هذه الصغرى والكبرى أن تصلوا إلى القول بعدم وجود نسبة وصلة بين (الاتجاه السياسي المهدوي) و(النظم الديمقراطي الذي يدغدغ مشاعر الإنسان) فإنني سأدخل مباشرة في صلب الموضوع، فأقول: على الرغم من أنه لا يمكن لنا أن نعثر في جملة مكتوباتكم على ما يصرح بدكتاتورية وفساد النظام الشاهنشاهي البهلوي، إلا أنني أستبعد مخالفتكم اعتبار ذلك النظام دكتاتورياً. ومن جهة أخرى ذكرتم صراحة أن رؤية الإمام الخميني، وكذلك الدكتور علي شريعتي، بشأن المهدوية، وتكوين حركة جهادية متواصلة لذلك النظام الدكتاتوري، أدى في النهاية إلى سقوطه وانهياره. وعليه فقد نجحت هذه الرؤية في الأقلّ، واستطاعت أن تزيح سدّاً منيعاً وعقبة كأداء من طريق الشعب الإيراني؛ ليتمكن من تحقيق الديمقراطية، ونيل حقوقه السياسية. فهل كان هذا إنجازاً سطحياً يمكن التغاضي عنه في مسألة التنمية السياسية في البلاد؟ وعليه فإن نظرية المهدوية الأصيلة قد تمكنت حتى الآن من تقديم خدمة كبيرة وجليلة للشعب الإيراني. وأما بعد تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية تحت قيادة الولي الفقيه فقد شهدنا حوادث كبيرة في مسيرة التنمية السياسية للبلاد، وهذا بحسب الدقة كان يعود إلى رؤية الإمام الخميني. وأنا أسألكم هذا السؤال: بالالتفات إلى الحماس الذي كان موجوداً في بداية الثورة لو لم تُجْرَ انتخابات واستفتاء لتحديد نوع النظام الحاكم هل كان الناس يعترضون على ذلك؟ لا بالطبع. إلا أنّ الإمام الخميني؛ وبالنظر إلى علمه واحترامه لدور الناس، جعل تثبيت نظام الجمهورية الإسلامية قائماً على رأي الناس وإرادتهم. كما أن تضافر الجهود في تدوين الدستور، وإقامة الانتخابات؛ لاختيار رئيس الجمهورية، وكذلك انتخابات مجلس الشورى الإسلامي، والسعي إلى وضع أمور البلاد على النظم والقانون القائم على رأي الناس وإرادتهم، من المسائل الأخرى التي لا يمكن لأيّ شخص أن ينكرها. أفلا تعد هذه الأمور ـ على حدّ تعبيركم ـ خطوات في طريق تحقيق الديمقراطية في البلاد؟ أفتنكرون بالتالي وجود نسبة بين هذا النوع من الجهود وما تسمونه بالديمقراطية؟ وطبعاً لا أنا ولا أي شخص آخر ينكر وجود بعض مواطن الضعف التي شوهدت طوال هذه الأعوام الخمسة والعشرين من مسيرة الثورة، التي كانت لها بطبيعة الحال أسبابها الخاصة، ولكنني في الوقت نفسه أدعو إلى الإنصاف. وبطبيعة الحال فأنا لا أوافق على بعض التعبيرات التي صدرت عنكم في الموارد المختلفة، ولكن لو أجرينا مقارنة بين ما حصل قبل خمسة وعشرين سنة، قبل عام 57 هـ.ش، وما حصل بعد هذا العام، طوال خمسة وعشرين سنة، بشكل منصف، فهل سنصل إلى نتيجة مفادها عدم وجود ربط بين (المهدوية السياسية) و(النظم الديمقراطي الذي يدغدغ مشاعر الإنسان)؟ وهل كانت المسافة من إله الملوك إلى خادم المستضعفين والبائسين مسافة قصيرة، ولا قيمة لها، ولا ربط لها بالديمقراطية؟ أنا شخصياً أرى أنّ تلك المسافة كانت طويلة وشاقة وعسيرة، وأنها ستؤدي إلى مستقبل أكثر عطاءً، وعلينا أن لا ننسى أن هذه الإنجازات إنما هي نتاج نظرية ولاية الفقيه، التي قال بها الإمام الخميني.

ولكن ربما كان أدعى ما كتبتموه إلى الفكاهة هو استدلالكم الذي ذكرتموه مباشرة بعد بيان عدم الصلة بين (المهدوية السياسية) و(النظم الديمقراطي الذي يدغدغ مشاعر الإنسان)؛ من أجل إثبات رؤيتكم، فقد قلتم: «إنّ ما يقوم به عالم الدين من التوسّل بالرؤى، ويرى أن انتصار حكومة أحمدي نجاد كان بفضل دعاء الإمام المنتظر، كما هو الأمر في عهد الحكومات الصفوية، الذين كانوا يرون الإمام علي والإمام المهدي في مناماتهم حامياً وناصراً لهم، لا يمكن تصنيفه إلا في خانة الاستثمار السياسي، وبيع البضاعة المهدوية إلى الحاكم بثمن بخس، والترويج للتشيّع الصفوي». أو قولكم: «وقد احتفروا حالياً بئرين في جمكران، واحد للنساء وآخر للرجال؛ ليلقي كل واحد من هذين الجنسين عرائضهم على انفراد، على أن يدفع مبلغ مقداره مائتي تومان عن كلّ عريضة. كل هذا يقع على مرأى ومسمع من نوّاب صاحب الزمان، والذين سئموا من العلم بلا عمل، وجلسوا في قم يغضون الطرف عن هذا الشرك المتلبس بمسوح التقوى. انظروا إلى هذه الحقائق ثم قولوا: لا ندري ما إذا كان يتعيّن علينا أن نبكي أو نضحك؟!».

فعلى فرض صحة جميع ما قلتموه، هل يمكنكم أن تقولوا لنا: أي شيء من هذه الأمور يتعارض والدعوة إلى الديمقراطية والنظم الذي يداعب مشاعر الإنسان؟ فلو فرضنا أنّ شخصاً كان له تفسير خاص عن سلوك المجلسيين، والآخر يشاهد المنامات، ويعمد بعض الناس إلى إلقاء عرائضهم في بئر بعينها، فهل يؤدي ذلك إلى اعتلال صحة الديمقراطية في البلاد. وإذا افترضنا أيضاً أنّ عدداً من الناس يسعون إلى «الكسب السياسي، وبيع بضاعة المهدوية بثمن بخس من السياسة الحاكمة، وإشاعة التشيّع الصفوي»، فهل نستطيع أن نستنتج من هذه الصغرى والكبرى عدم وجود أي أثر للديمقراطية في بلدنا بعد انتصار الثورة الإسلامية؟! إنني أسألكم وجميع العلماء المختصين في علم السياسة: هل هذا هو أسلوب التحقيق العلمي والمنطقي في قياس مستوى الديمقراطية؟ حبَّذا لو قلتم مثلاً: كانت هناك انتهاكات غير قانونية في الانتخابات التي فاز بها أحمدي نجاد. وحبَّذا لو قلتم: إنّ الانتخابات في إيران شكلية وصورية وفارغة من المحتوى. وحبَّذا لو قلتم: إنّ الشعب الإيراني ليس له أي دور في تعيين السلطات الحاكمة، وعشرات العبارات الأخرى التي يتم تكرارها على مدار السنوات ونسمعها. وعندها يكون هناك مجال للبحث والأخذ والرد والاستدلال والمحاجّة. ولكن ما الذي يتبقّى لدينا بعد هذا الكلام؟ إنّ الإنسان ليبقى في حيرة، ولا يدري هل عليه أن يضحك أو يبكي!

 

6ـ سروش وسياسة الكيل بمكيالين ــــــ

هل تعلمون أين هو مكمن المشكلة في بحثكم هذا؟ إنها تكمن في أنكم عند مقارنتكم بين نظام الجمهورية الإسلامية، أو على حدّ تعبيركم (المهدوية السياسية)، و(السياسة المهدوية)، وأمثال ذلك، وبين (الديمقراطية) أو (النظم الذي يداعب مشاعر الإنسان) قد انتهجت سياسة الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير. فحينما تتحدثون عن الديمقراطية وشقوقها وعباراتها المختلفة تمثلون ديمقراطياً غالياً، يرسم صورة وردية ذهنية وخيالية عارية من أيّ عيب أو نقص، ولا تقدمون لها نموذجاً خارجياً واحداً، في حين أنكم عندما تتحدثون عن (المهدوية السياسية) وعباراتها المشابهة تتشبَّثون؛ لإثبات وجهة نظركم، بكل قشّة، حتى لو كان منامات يراها شخص، أو بئر محفورة في جمكران. فإذا كان البناء على أن يكون لدينا بحث نظري وعلمي فما هو معنى الإشارة إلى العرائض التي تكلف قيمتها مائتي تومان، وإذا كان البناء على سحب البحث على المصاديق والجزئيات الخارجية الموجودة في المجتمع فنرجو منكم أن تتفضلوا وتذكروا لنا مصداقاً واحداً ومحدَّداً للمجتمع الذي تنتصر له، والمتمثل بـ (العدل الديمقراطي) أيضاً، حتى نحصل على صورة متكاملة تساعدنا في الوصول إلى مقاربة علمية أفضل.

أما إذا قلتم: حيث يوجد في جمكران بئر يلقي الناس فيها بعرائضهم، ويدفعون لأجل ذلك مائتي تومان، دون أن يصدر أي اعتراض على هذه المسألة، إذاً (السياسة المهدوية) لا يمكن أن تكون لها أية صلة بالديمقراطية.

وأقول بدوري: حيث تسود قراءة الفنجان في المجتمع الأمريكي، بل وحتى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لديه رجل خاص يقرأ له طالعه، إذاً ليست الديمقراطية سوى هواء في شبك. وعندها لن يغدو بحثنا سوى مغالطات لا تنفع إلا في خداع العامة. إنّ البحث العلمي والتحقيقي، وخاصة بين الجامعيين والمثقفين، له موازين وضوابط من نوع آخر، أرجو أن تجعلوها نصب أعينكم على الدوام.

كما أنّ كلامكم بشأن إسرائيل، والأسباب التي تدعو المواطنين الأمريكيين إلى النظر إليها بوصفها دولة ديمقراطية، ليس أقل إضحاكاً من سابقه. تقولون: «إذا كانت إسرائيل في أعين الأمريكيين حكومة ديمقراطية فذلك بسبب أنها لم تعد تتعامل مع تلك النزعة الانتظارية بجدية، ولا تعدّ العدّة لها، ولا تتوانى عن الحفاظ وتوفير الحماية للحكومة العلمانية. وهكذا الأمر بالنسبة إلى إيران بشكل من الأشكال». فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا ينظر إلينا المواطنون الأمريكيون بوصفنا دولة ديمقراطية؟ إذا قلتم: لأن النزعة إلى انتظار الموعود والسياسة المهدوية هي السائدة في إيران فكيف تجيزون لأنفسكم عقد هذه المقاربة والمقارنة بين إيران وإسرائيل؟!

ومن جهة أخرى، وكما يقال: «إنّ الذي سقط في البئر هو يوسف، وليس عمرو أو زيد»، فإن قضية العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وديمقراطية الصهاينة في عين المقيمين في البيت الأبيض، يختلف جذرياً مع ما قلتموه. فالمسألة لا تكمن في أن البحث حول النزعة إلى الموعود حالياً في إسرائيل قائم أو غير قائم، أو أنّ الصهاينة أقاموا دولة دينية ذات نزعة إلى الموعود، أو أنهم سلكوا طريق العلمانية. في الحقيقة إنّ هذه المسألة إستراتيجية قبل أن تكون إيديولوجية، وهي مرتبطة بالسياسة الأمريكية العامة في العالم المعاصر، وما تقوم به من التخطيط لمستقبل هذا العالم. وأتصور أن إطالة الكلام في هذا الشأن لن يكون إلا توضيحاً للواضحات، وإن كان هذا المقدار من الكلام لم يكن بدوره غير توضيح للواضحات.

 

7ـ إعادة فهم مسألة ختم النبوّة ــــــ

اسمحوا لنا في ختام هذه المقالة بالبحث حول (الخاتمية). وقد تقدم وأشرنا إلى هذه المسألة؛ لمناسبة اقتضت ذلك، ولكن بالالتفات إلى المسائل التي ذكرتموها في نهاية النص الذي كتبتموه يبقى البحث في هذا الموضوع مفتوحاً. إنّ ما ذكرتموه في هذا الموضع يعود في غالبه إلى كتاب «إعادة صياغة الفكر الديني في الإسلام»، للعلامة إقبال اللاهوري. وكما أسلفنا في بداية الكلام فإنّ إشاراتكم إلى نصّ هذا الكتاب، والإيضاحات التي قدّمتموها حولها، إنما كانت لغرض إبقاء الباب مفتوحاً أمامكم؛ ليبقى باب طوارئ للخروج من خلاله عند الضرورة، وإلقاء المسؤولية كاملة على عاتق إقبال اللاهوري، ولذلك تعمدون إلى إحالة الإجابة عليه. ولذلك يبقى الإنسان في حيرة؛ إذ لا يعلم ما إذا كان عليه توجيه النقد إليكم أو إلى إقبال اللاهوري. ولكن حيث لا طريق لنا للوصول إلى إقبال، وحيث ذكرتم أنه «يتعيّن علينا الاستماع إلى كلمات إقبال بمسامع العقل»، آمل أن لا أكون مخطئاً إذا اعتبرت ما جاء في هذا السياق هو معتقدكم.

قلتُم: «إن توقف بعث الأنبياء يعني تحرير العقل الذي لم يعد هناك من قيود على حدوده الفكرية، ولم يعد الدين سوى مصدر من مصادره المعرفية لا أكثر». ثمّ قلتم في توضيح ذلك: «إنّ أهل السماء تركوا إدارة أمور الدنيا لأهل الأرض». فلو وضعنا هذا الكلام إلى جانب كلامكم القائل: «عاد من الخطـأ انتظار ولي سماوي؛ ليكون مصدراً جديداً للمعرفة وبناء تفكير جديد». أمكننا القول: إنكم لا تنكرون كون الدين هو المصدر الوحيد لسعادة الإنسان وتحريره من جميع قيود الجهالة فحسب، بل وتذهبون كذلك أنه يثقل كاهل الإنسان. ومن هنا فبعد ختم النبوّة يتحرر الناس من أعباء هذا الدين وقيوده، وعليهم أن يحذروا من الآن فصاعداً من الابتلاء والعودة إلى قيود الدين التي تحرر منها بفضل الخاتمية. وهذا النوع من الفهم هو فهم مغلوط ومعوجّ للدين والنبوة والخاتمية قطعاً؛ وذلك لأنّ الخاتمية تعني ختم النبوّة، وليس ختم الديانة.

قد تستدرك قائلاً: إنني ذكرت «أنّ الدين مصدر من مصادر الإلهام لا غير».

ولكن حتى هذا لا يحل العقدة الموجودة في نمط تفكيركم، الذي لا يحتوي في صلبه غير معنى ختم الديانة. فمكمن المسألة هي أنكم أوجدتم تناقضاً وتضادّاً بين (العقل) و(الدين)؛ إذ ذهبتم إلى أنّ اشتعال جذوة النبوة يعني خفوت بريق العقل، ومن هنا كان ختم النبوّة عندكم يعني ـ كما صرحتم بذلك ـ «بداية تحرير العقل الإنساني؛ ليتمكن الإنسان بعد ذلك من التقدم إلى الأمام، مستضيئاً بنور عقله».

إنّ معنى ختم النبوة المحمّدية الدقيق هو خلود الدين الإسلامي. وطبعاً فإنّ البحث في العلاقة بين العقل والدين، وكذلك دور وفاعلية الدين في التأسيس للحضارة البشرية، سواء في عصر النبوّة أو في عصر الخاتمية، متشعب ودقيق، ولا يمكن استيعابه في هذه المقالة المختصرة. ولكن لا شك في أنّ التفسير الذي تقدمونه للدين، ومن ثمّ إيكال العقل البشري في عصر ما بعد الإعلان عن الخاتمية، لا ينتج عنه سوى انقطاع لنور الدين.

ولابد من إضافة هذه المسألة أيضاً، وهي أني لم أندهش عند قراءتي لهذا الكلام الصادر منكم أبداً؛ لأنكم في كتابكم «بسط التجربة النبوية» إذا لم نقل أنكم لا تؤمنون أساساً باشتعال جذوة الدين، بمعنى نزول الوحي الإلهي على النبي محمد|، فإنكم في الأقل تسوقونها في إطار من الكلمات البلاغية والأدبية المنمّقة، من خلال توظيف (القضايا الشرطية المغايرة للحقيقة والواقع)، حتى يتحوّل (نزول الوحي) إلى (تصاعد الوحي)، ولا يبقى من الدين سوى بعض (التصوُّرات والتخيلات الشخصية). ومن الطبيعي أنّ هذه التصوّرات والتخيلات ليست حكراً على النبي محمد|، بل باستطاعة كلّ شخص آخر أن يمارسها. وبذلك تتحول (التجربة النبوية)، التي هي باعتقادنا نحن المسلمون تجربة خاصة وفريدة، إلى تجربة شخصية مهلهلة، ويمكن بسطها على جميع أفراد الإنسانية. وطبعاً عندما تكون هناك مثل هذه الرؤية لـ (التجربة النبوية) لا يبقى هناك تعجُّبٌ إذا طالعنا شخص بهذا التعريف للدين في العصر الحاضر، ويقول: «إنّ الدين مصدر من مصادره الإلهامية لا أكثر». وهكذا لا شك أنه إذا تم البحث قليلاً في مورد (الدين) في نظرتكم الدينية فلن يبقى من الدين ـ كما أسلفنا ـ سوى مجموعة من الأفكار والتصوّرات الشخصية التي تطلقون عليها تسمية الدين. ومن البديهي أنّ هذا الشيء يكفيه أن يكون مصدراً من مصادر الإلهام البشري لا غير.

وفي هذا الإطار الفكري من الطبيعي جداً أن تقول: «في تصوري إن معيار الشرعية هو العدالة، وليس التشيّع أو الإسلام». ولكن أرجو منكم أن تقولوا لنا: من أين تأخذ معنى العدالة؟ هل تأخذه من واقع الإنسان وضميره؟ فإذا جاء الرئيس الأمريكي بنفس هذه الدعوى، وأحرق الأرض تحت سكانها، طبقاً للمعنى الذي يقدمه هو وأنصاره من الجامعيين والأكاديميين والفلاسفة لمعنى العدالة، فكيف يكون جوابكم لأمثال هؤلاء؟ وكيف تثبتون أن تعريفكم للعدالة هو أرجح من تعريفهم؟ إذا كان الملاك هو الثرثرة الكلامية، وتحشيد الألفاظ والعبارات الأكاديمية والفلسفية المنمقة، فإنّ لديهم بإزاء كل كتاب ألَّفتموه عشرات الكتب التي تثبت أنّ العدالة تعني إلقاء القنابل النووية والذرية على المواطنين في هيروشيما وناكازاكي، وأنّ العدالة تعني حرق فيتنام على أهلها، وأن العدالة تعني دعم الصهاينة الشامل؛ ليفعلوا كلّ ما يحلو لهم بحقّ الشعب الفلسطيني، من قتل وحصار وتعذيب وتهجير قسري، وبكلمة واحدة: «إنّ العدالة هي كل ما من شأنه أن يعزز الدور الريادي لأمريكا وسيطرتها الاستكبارية على العالم المعاصر».

لست أروم تبسيط مسألة (العدالة) الخطيرة والحساسة. إنّ كون العدالة، وكذلك المفاهيم الأخرى القريبة منها، مسألة دينية أو تتجاوز الدائرة الدينية قد أثار الكثير من البحوث، ولا زال البحث محتدماً حولها. وإنما كنت أرمي من خلال ما ذكرتُ إلى حثكم على عدم تبسيط هذه المسألة أيضاً. إنّ إزاحة التشيّع والإسلام في عملية بيان الملاك لمشروعية نظام، وطرح مجرّد العدالة، دون بيان خصائصها وأبعادها، ليس فيه إعلاء لشأن العدالة؛ وذلك لأننا ما لم نبيّن تلك الخصائص والأبعاد بشكل واضح لن يكون بالإمكان التعرف على ما نروم الحديث عنه، وإنما سيكون مجرد تحرير للنفس، وتخلص من قيود الإسلام؛ بحجّة التشبّث والتمسك بالعدالة لا أكثر.

سماحة الدكتور سروش، إنّ قولكم: «إنّ ما كتبته إنما كان بسبب غيرتي على الدين، ولأعالج به الحالات المرضية التي أصابت عقولنا، وخاصة في عصرنا هذا، ولست أرجو في هذا الطريق المليء بالمخاطر منصباً أو مكسباً، وإنما أنا في الواقع قد ضحيت بجميع ذلك. فإن حبي للحقيقة أنساني كل حبّ آخر» كان من الحرارة والحماسة والزهد بحيث أنساني جميع نشاطاتكم، وحثكم الآخرين في حقل السياسة، ومنها رسالتكم إلى السيد محمد خاتمي؛ بغية تشجيعه على إثارة الفتنة السياسية في البلاد، وكذلك سعيكم العقيم في إثارة العلامة محمد تقي جعفري. ولكن ما الذي يمكن فعله عندما أقرأ نصّكم من الأول إلى الأخير فلا أرى غير لوعة المطالبة بالديمقراطية، والسعي الحثيث لتقطيع أطراف الدين وأوصاله؛ كي يمكن إلباسه ثوب الديمقراطية الغربية؟! إذا كانت طريقة ونهج التديّن والديمقراطية المتزامن، الذي وعدتم في بداية رسالتكم ببيانه وإظهاره، فعليّ القول: إنّ عناءكم كان من دون جدوى؛ وذلك لأن هناك الكثير ممَّن سبقكم في القرون الأخيرة قد كتب الكثير من الكتب في هذا الشأن وبنفس النية، وخاصة في العالم المسيحي. ولذلك لم تكن كتاباتكم سوى تكراراً مملاًّ لكلام مَنْ سبقكم. وعليه ينبغي بكم تجنيب قرّاءكم التخبّط في دوّامة هذا التكرار، وتفكروا بشكل تبقون معه على شيء من الإسلام.

وفي الختام أقدّم اعتذاري عن إطالة الكلام، وأخذ الكثير من وقتكم.

(*) من الشخصيات البارزة في حركة نقد التيارات الفكرية الجديدة في إيران.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً