أحدث المقالات

وشروط الحداثة العقلية

أ. نبيل علي صالح(*)

في كلّ الجماعات البشرية التي وُجدت على وجه الأرض كان للعامل الديني الحضور الأبرز والأعمق على مستوى الذات والموضوع. فكلنا نعلم بكتابات ورسومات البشر الأوائل على الكهوف والمغاور، ولاحقاً كتابتهم وتدويناتهم وتنظيمهم لثلاثية «المعبد والملك والشعب»، التي ظهرت مع أولى التقسيمات الطبقية الاجتماعية لأقدم المدن البشرية المأهولة المكتشفة.

إذن في العلم المادي تقدّم لنا الحفريات «الأركيولوجية» فكرةً واضحة عن أنه لم تنوجد جماعةٌ بشرية قطّ إلاّ وكان الدين عمودها الرئيس الأهمّ، بمعنى أن الدين ـ بقطع النظر عن تعاليمه وطقوسه وتقاليده وقناعات الناس فيه ـ كان لاعباً حيوياً مهمّاً في عالم البشر منذ أقدم العصور التي وجد فيها الإنسان؛ حيث كان يعطي الحياة نوعاً من المعنى والامتداد الروحي والأفق المعنوي المنفتح على العوالم المجهولة، ويقدّم معها بعض الإجابات الممكنة عن أسئلة الخلق الأولى، قد تشبع ظمأ الروح البشرية.

ولا يزال للدين حقيقةً ـ شئنا أم أبينا ـ هذا الحضور الشامل الآسر، وتلك الهالة الكبيرة، في كلّ الأمم والحضارات الإنسانية المعاصرة. ففي مجتمعاتنا العربية، التي لم تتمكَّن بعدُ من وضع الأسس الأولى لولوج عالم الحداثة العقلية والمعرفية والعلمية، يبدو الدين وكأنّه هو المعيار والفيصل الحاكم على الناس، من خلال هيمنة ثقافته النمطية على الفرد والمجتمع ككلّ. فمن جهة المعنى والمظهر الروحي الداخلي لهذه الثقافة القديمة المهيمنة هناك تحكُّم كلّي لها بمسار هذا الفرد، يؤثِّر على آلية وكيفية إنتاجه وعطائه العملي؛ ومن جهة المظهر المادي الخارجي هناك أشكال ومظاهر الحضارة الحديثة التي أخذت بها تلك المجتمعات دونما تعمُّق أو إدراك حقيقي للفلسفة والوعي العقلي الحداثي الذي أنتجها.

هذا التناقض الصارخ بين الذات والخارج، المتمثِّل في عدم وجود حالة تصالح واقعي بينهما على مستوى الفكر والعمل، يبقي الناس عندنا في حالة القلق والتوتُّر، بما يؤثِّر على فاعليتها وحضورها في زمانها الراهن.

وبما أن طبيعة الحلول المقدّمة في هذا السياق ـ لتلك الأزمة الوجودية ـ لا تندرج ضمن الحلول الواقعية المتناسبة إيجاباً مع ثقافة وفكر وطبيعة النسيج التاريخي لمجتمعاتنا، بل هي في أغلبها مفروضة بقوّة القهر، وقانون الغلبة، مما يجعل استجابة الفرد العربي لها بطيئةً، وحَذِرة، ولا تتناسب مع تطوّرات الحياة والعالم من حوله، فإن ذلك كلّه سيؤدّي على الدوام إلى توليد الانتكاسات باستمرارٍ، بما يعني البقاء في قلب المشكلة، واجترارها دون تغييرٍ حقيقيّ، والتقلّب من أزمةٍ إلى أخرى، تخنق المواطن العربي في عيشه وحياته، وتضع مصيره المستقبل رهن المجهول.

وبالنظر إلى هذه المشاكل والتحدّيات الصعبة التي يواجهها الفرد والمجتمع العربي تبرز أمامنا اليوم أهمّية قصوى لتجديد البحث والتأمّل الجادّ والحيوي في تحديد المعنى الحقيقي لفلسفة الدين، والغاية منه، على صعيد الفرد أوّلاً؛ وإدراك وتحديد معايير حول كيفية انخراط هذا الفرد، ومن ثم المجتمع ككلّ ـ والثقافة الدينية المتأصلة عربياً وإسلامياً ـ، في شتّى ميادين ومجالات الحياة المعاصرة، بتنوّعاتها وتعابيرها ومعانيها الواقعية الواسعة والشاملة.

ولكنْ هناك سؤالٌ أساس يطرح نفسه حول وجود إمكانية فكرية وعملية في داخل ثقافتنا الدينية القديمة ـ المهيمنة على العباد والبلاد ـ يمكن أن تهيّئ المجال لحدوث توافقٍ ما أو انسجامٍ معين ومحدّد ومضبوط بين الدين (كفلسفة وجودية كينونية، وكهويّة حضارية تقوم على المعنى والتأويل، وتستنجد بالتاريخ لمقاربة الحاضر والمستقبل)، والحداثة (كواقعٍ اجتماعي واقتصادي متحرّك ومتغيّر، يقوم على العقل والتجربة، وينتج خطاباً ثقافياً تنويرياً متجدّداً يقترح على الوعي العربي والإسلامي عموماً رؤية للعالم والمجتمع والثقافة مغايرة للرؤية الدينية التقليدية). ألا يمكن الجمع بين الرؤيتين في بوتقةٍ واحدة؟!

لا شَكَّ بأن المجتمعات العربية والإسلامية تعيش الآن حالة قَسْر بالمعنى العملي للكلمة، وتنوء تحت عجز تاريخي كبير وفاضح في وَعْيها للذات وللآخر، وفي ممارستها لدورها الطبيعي في الحياة والعصر.

ويظهر لنا أن هناك دَوْراً تعطيلياً تقوم به معظم المفاهيم والمعتقدات الدينية السائدة والمسيطرة على تلك المجتمعات، الغارقة في تخلُّف فكري واجتماعي يُعاد اجتراره وإنتاجه على الدوام، كما نقول دَوْماً؛ حيث إنه من المعروف ـ في هذا المجال ـ أن الفكر والمعرفة المختزنة في داخل كلّ فردٍ هي القاعدة والمحرّك الأساس لتصرُّفاته وسلوكياته، وبالتالي لقيامه بدوره، ومشاركته في صنع أحداث ووقائع حياته اليومية الخاصّة والعامّة، أي إن رؤية هذا الفرد وفلسفته في تسيير الوجود الخاصّ والعامّ هي المنطلق الجوهري لأيّ طموحٍ أو رغبة لديه في بناء عالمه، وتحقيق كماله الممكن له.

ويمكننا أن نطلق على تلك الرؤية أو المعرفة بكلّ بساطة «فلسفةُ الإنسان». وهي متكوّنة من خلاصة تجاربه، وتراكم خبراته، وتجسّد رؤيته، المنطلقة من ذاتيته المعرفية، المختلطة بما يحيط به من أحداثٍ وتحوّلات شاركت في تكوين وانبثاق تلك الفلسفة التي اكتسبها من وجوده في هذه الحياة، لتسمو وتتطوّر في سلّم الوجود، عبر حواراته وتفاعلاته واحتكاكاته واتصالاته وتواصله مع باقي المكوّنات الإنسانية في مجتمعه، ما قد يجعل هذا الفرد مدركاً للأحداث، ومتفاعلاً معها، سلباً أو إيجاباً. وهذا الكلام لا يعني عدم وجود بديهيات فكرية عقلية، وتصوّرات أولية، أعطَتْ المسيرة البشرية الدفع الأكبر في تطوّرها وترقّيها في الوجود.

من هنا كان الإسلام ـ كحالةٍٍ في الفكر والإحساس والممارسة، وكرؤيةٍ للكون والوجود والحياة، وكفلسفةٍ كونية، وكنزعةٍ خلاصية ـ هو مصدر الديناميكية التاريخية المؤسّسة لمجمل القِيَم والمبادئ المحرِّكة للإنسان المسلم عموماً في كل المراحل التاريخية التي قطعها هذا الدين، منذ البواكير الأولى وحتى الآن. هذه حقيقةٌ واضحة وصريحة، لا يمكن غضّ النظر عنها، أو محاولة القفز فوقها، واعتبارها شأناً ثانوياً، لا أثر أو لا معنى لها.

وإذا كانت الغاية المقصودة في كلّ حراكنا المعرفي والعملي تهدف إلى محاولة التأثير على سلوك الفرد المسلم، من خلال دفعه إلى الحضور في عصره، أي في المشاركة الفاعلة ـ الطوعية الإرادية ـ في بناء واقعه وحاضره وتأمين مستقبل أجياله الطالعة واللاحقة، أي استثمار وجوده الحيّ على نحوٍ فاعل ومنتج ومفيد، فإن المدخل الطبيعي إلى ذلك لا بُدَّ وأن يمرّ عبر دراسة وتحليل القوى المحرِّكة لهذا الفرد شبه الضائع أو شبه المغيَّب حالياً ـ وخصوصاً في ظلّ تطورات الحياة والوجود ـ بين واقعه النظري المفاهيمي (الإسلام كعقيدةٍ وانتماء وهوية ثابتة مقولبة وجامدة على معايير نصوصية ومقدّسات صلبة) وبين واقعه العملي الخارجي المتغيِّر والمتحوِّل باستمرارٍ. والقضية هنا هي أن طاقات الفرد غير مستثمرة مطلقاً، وهي مبدّدة وضائعة، مثل ثروات الأمّة الطبيعية الهائلة.

وهذه القوى النظرية غير المنظورة المؤثِّرة هي مجموعة القِيَم والمبادئ الأساسية المحرِّرة للإرادة، والمحفِّزة للذات، والدافعة لهذا الفرد للعمل والإنتاج والإبداع في كل حركة واقعه الخارجي. وليس هناك وسيلةٌ لتحقيق ذلك إلاّ من خلال ممارسة النقد والتحاور الفكري مع النصّ والنظرية المعرفية المؤسِّسة. فبهذا الثمن يمكن أن يستعيد المسلمون هويّة سابقة، كانت في لحظة تشكُّلها الأولى فكرةً إيجابية وقيمةً معطاءة ومحفِّزة للعمل والنشاط الحضاري، أو يجدِّدوا هوية هرمت، وفقدت بوصلتها ووعيها الذاتي والموضوعي؛ لعلّهم يستطيعون التعرُّف من خلالها على آليات الحداثة، وأولويات الاندماج في العصر، وبالتالي الارتقاء بممارستها وتطبيقها والسيطرة عليها بالعمل والإنتاج، أي أن يكون لهم دَوْرٌ وأَثَر محقّق من خلال إثبات فاعلية الحضور في المتن، وليس في الهامش المتجسِّد من خلال اجترار التقليد والتبعية للآخر، في استجلاب ونقل حداثته إلى داخل حدودنا الجغرافية من دون وَعْي معاييرها وبناها الفلسفية التحتية، ما يجعلنا نكيل لها التُّهَم والشتائم من دون أن نَعِيَها وندرس طرائق وسبل تطوّرها لدى الآخر؛ ليس لأنها سلبية بحدّ ذاتها مع وجود سلبيّات فيها، وإنما لأن ظروف تشكّلها ومناخات نشوئها وعملها مختلفة عن ظروفنا وسياقاتنا الحضارية بصورةٍ وبأخرى.

 من هنا يمكن التأكيد على أن تقدُّم مجتمعاتنا العربية الإسلامية مرهونٌ أساساً بتطوّر وتقدّم الفكر المؤسّس لإنساننا المسلم على طريق تقبّله وقناعته الكاملة بضرورة العيش زماناً ومكاناً (عقلاً ووَعْياً) في عصره الراهن، العيش الحقيقي المنتج، وليس الهامشي الدوني المستلحق للآخرين، أي أن لا أن يكون حاضر الجسد مغيَّب العقل، ومهمش الحضور. وهذه القناعة الذاتية لن تتولّد أو تنبثق عنده إلاّ بنقد الفكر المؤسّس، وتجديد المعرفة والهوية؛ ليكون إنساننا قادراً على ممارسة معيشته إنتاجاً وعملاً في زمانه، من خلال تجديد الفكر الزمني التاريخي نفسه.

نظرةٌ تاريخية وفكرية إلى الحداثة العربية والإسلامية

 تُقَدَّم الحداثة في عالمنا العربي والإسلامي على أساس أنها خطابٌ ثقافي جديد، أو رؤية مفاهيمية جديدة مختلفة عن مفاهيم الخطابات القديمة، وتهدف إلى تشكيل وتنظيم مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً على معايير تأسيسية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار أولوية وجود الإنسان الفرد الحُرّ (بعقله وسلوكه) على أيّ شيءٍ آخر، مستفيدةً من أجمل ما في تراثنا وماضينا من قِيَم ومبادئ تلحظ تفعيل دَوْر ونشاط الإنسان الإيجابي في الحياة.

وقد انبثقت الحداثة خلال مرحلة الزحف السياسي والعسكري الأوروبي على عالمنا العربي والإسلامي، الذي امتدّ زماناً منذ غزوة بونابرت لمصر في خواتيم القرن الثامن عشر إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ما رتَّب عند كثير من الباحثين العرب استنتاجاً يقضي بالشكّ في أصالة ميلاد فكرة الحداثة، وفي شرعيتها التاريخية.

وقد تمظهرت الحداثة في مجالنا الحضاري الإسلامي ـ بعد أن حدثت عملية التفاعل والتعرّف على حداثة الغرب ـ من خلال تيارين: الأوّل: تيار الليبرالية، والثاني: تيار الإصلاحية الدينية.

وكانت الليبرالية العلمانية في ذلك الوقت حدّية وجامحة ورافضة كلياً للواقع السائد، وقد حاولت نقل الحداثة الغربية كما هي ـ في نسختها الأصلية التأسيسية ـ في عالم الغرب إلى مجالنا المعرفي والديني الإسلامي.

أما أتباع الخطاب الإصلاحي فقد خضعوا لجاذبية الحداثة، وسلّموا بأهمّية النموذج الأوروبي، ودعوا إلى ضرورة الأخذ به، إلاّ أنهم في الوقت نفسه حذَّروا من الإذعان والتسليم لمنطقه، وأوحديته المرجعية، ورفضوا وجود أيّ تفوّق له على النموذج الإسلامي.

وفي اعتقادي إن معظم المثقّفين الروّاد الذين ذهبوا في القرن التاسع عشر إلى أوروبا، واحتكّوا مع تياراتها ونظمها الجديدة، لم يدركوا عمق هذه الحداثة الغربية، أو القطيعة التاريخية التي تمثِّلها تلك الحداثة، فخلطوا بين مفهوم الحداثة وبين الثقافة الغربية التي أنتجته، وربطوا عضوياً بينهما، فبَدَتْ في نظرهم تعبيراً عن نظامٍ آخر، هو نظام الغرب الفكري والاجتماعي. ولا نزال نحن نعيد ونكرِّر ونجترّ هذه الأفكار عندما نربط بين الحداثة والغرب، أو ثقافته وخصوصياته، ولا نفرق بينهما، مع أن الحاضنة الثقافية للحداثة العلمية الغربية كانت واضحةً وظاهرة في نتاجات فلاسفة التنوير والعقلانية الغربية. وهكذا رأَوْا في ما هو حداثة نظاماً غربياً، وقارنوه مع نظامهم الشرقي. وبسبب ذلك لم يبحثوا في أصل هذه الحداثة، فبقي التاريخ الذي أوصل الغرب إلى ما هو عليه، تاريخ الحداثة، كلّه مغيّباً عنّا جميعاً.

بعد ذلك حدثت جملةٌ من التغيُّرات السياسية والاجتماعية؛ نتيجة حصول معظم بلدان المشرق على استقلالها ـ ولو بصورةٍ شكلية ـ عن دول الانتداب، بعد سنوات طويلة من حروب التحرير الوطنية فيها، ونجحت النخب الحاكمة (المنتصرة في معارك التحرير والاستقلال) في تكوين وإرساء أفكار غير وطنية، ذات طابع أيديولوجي شمولي، فتشكّلت نظم قمعية تسلُّطية أمنية في مجتمعاتنا، تكبح الحرّيات وتمنع الرأي المختلف، ما آذن بانتقالٍ دراماتيكي في الفكر والسياسة إلى حقبة تقهقرٍ وتراجع وانحسار، وتقدّم خطاب «الهوية» و«الأصالة» و«الثوابت» والشعارات الفحولية المنتفخة، على حساب تراجعٍ وانكماش واضمحلال لخطاب الحداثة والعقل التجريبي، حتّى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من تقهقرٍ وتخلُّف وانسداد في آفاق العمل والتغيير والإصلاح؛ نتيجة هيمنة شبه كاملة للتيارات الدينية والعقائد والخطابات الاصطفائية والنخب والنظم الشمولية ـ الكارهة للحرّية والتنوّع والتعدّد ـ على حياتنا العمومية، التي لم نحقّق فيها أيّ حداثةٍ عصرية صحيحة بالمعنى «المعرفي ـ العملي»، بل كلّ ما هناك لا يعدو أن يكون أكثر من مجرد حداثة قشرية، تُعْنى بالشكل والمظهر أكثر من عنايتها بالمضمون والجوهر.

إن ما نعيشه لا يعبِّر عن كوننا لا نزال خارج الحداثة، كما يقول أكثر من مستشرق مستغرب، وإنما يجسِّد بالعكس عمق أزمة هذه الحداثة العربية الرثّة (على حدّ تعبير برهان غليون)، أو النسخة المشوّهة منها التي وصلتنا من نخبنا الفكرية والعسكرية السياسية. وهنا مكمن العطل، وجذر الخلل. إنه في نمط الحداثة الرثّة الذي اخترناه وأنتجناه، مناخ ثقافي ـ ديني متعصّب للنصّ على حساب الواقع.

وبالعودة إلى طبيعة فهمنا التاريخي النمطي لمقولة الحداثة، الذي لا يزال مسيطراً على التفكير والعقول العربية عموماً حتّى الآن، نؤكِّد على أن الحداثة ليست حالةً مقولبة جاهزة تفرض من عَلٍ، وإنما هي مسارٌ تاريخي طويل وغير مكتمل، وتطوّر متواصل، وتحوّلات مجتمعية كبيرة، له (لهذا المسار) بداية معينة بتواريخ وأحداث وتحوّلات كبيرة لم تكتمل ولم تُنْجَز بعد. وفي الأصل ليس المطلوب أن يكون لها حالةٌ من الثبات والنمطية المحددة، وإنما قيمتها وأهمّيتها وفائدتها هي في تحوّلها وسيرورتها، تعبيراً عن التغيُّر الذاتي والموضوعي للفرد والحياة والعوالم المادية والمعنوية. إنها طريقٌ مستمرّ معقّد ومركب، يتضمّن عناصر عديدة وكثيرة، متماثلة أو متباينة، من التحوُّلات التاريخية والمستويات، تنطوي على مراحل تقدّم ومراحل تراجع، على خطواتٍ قوية وأخرى ضعيفة، على أخطاء وتراجعات، على كوارث وإبداعات فذّة، في الوقت نفسه. هي تاريخٌ مليء بالتناقضات والالتقاءات، والنزاعات والتوافقات، والحروب واتفاقيات التفاهم والسلام.

وباختصارٍ: ينبغي أن ننزع من أذهاننا تلك الفكرة المسبقة «اللعينة» التي تظهر الحداثة كما لو أنها نظام أيديولوجي ثابت وكامل متكامل، ومتّسق بين مستوياته العقلية ومستوياته السياسية والاجتماعية ومستوياته الاقتصادية، لنرى بأنه يوجد في عمق الحداثة رؤى وورشات تاريخية مفتوحة، أي إنها عملية بناء مستمرّ ومتواصل لا يكتمل، يمارسه الإنسان بعقلٍ مفتوح على الحياة والعالم، ليتفاعل من خلال ذلك مع عوامل متعدّدة: البيئة، البشر، التراث، الموارد، الوضع والسياق الجغرافي والسياسي، الفرص التاريخية والمعيقات، إلخ. وعندما نقول: إن الحداثة فكرٌ مفتوح فإننا نعني أنها تنطوي على عوامل تتغيّر وتتحوّل من حالٍ إلى حال، وقد تكون حركتها تقدّمية أو تراجعية على مستوى العلم، أو على المستوى التقني، أو على مستوى النظم الاجتماعية.

معايير الحداثة في السياق المعرفي التاريخي

 سنحاول هنا تحديد طبيعة البناء الفكري والمعرفي للحداثة التي نشأت تاريخياً في الغرب الأوروبي، من خلال هذه المعطيات والمعايير التالية التي تبلورت ونضجت عبر زمنٍ طويل من الصراعات والسجالات والديناميات والتغييرات الهائلة التي حدثت منذ ما قبل عصر النهضة الأوروبي. ويمكن موضعة تلك المعايير على النحو التالي:

1ـ أولوية العقل على النقل

 من المعروف تاريخياً ـ بحَسَب ما أكّدت دراسات الباحثين التاريخيين في علم الحفريات الأثرية ـ أنه لم توجد جماعةٌ بشرية قطّ إلاّ وكان الدين محورها وناظمها ومحرّكها الأول، بصرف النظر عن طبيعته وخلفيته وأفكاره. ومنذ بداية الدعوات الدينية التوحيدية حضر كلٌّ من النصّ والعقل في مقابل بعضهما البعض، وارتبطت مقولة النصّ بالنقل للنصوص الدينية، أي بكلّ ما يتعلّق بالتراث الديني الإسلامي والمسيحي واليهودي (وبشكلٍ خاصّ الأديان السماوية)؛ لأن هذه الأديان تعتمد بالدرجة الأولى على النصّ الديني الثابت، وعلى المعرفة المرتبطة بالمعرفة الغيبية المنزلة، أي المستمدّة من الوحي كوسيطٍ بين عالمَيْ الروح والمادة.

 وفي مقابل ذلك انبثقت وتطوّرت فكرة «العقل» مرتبطةً بما نسمّيه بمرحلة النهضة والإنسانية (humanism)، التي ابتدأت عندما بدأ الناس يفكّرون أن المخرج من الإحباطات الدينية والمذهبية، ومن التخبّط السياسي والانحطاط الأخلاقي والاجتماعي، ومن حالة الفوضى والجهل والتخلّف «والقذارة» الفكرية والاجتماعية، التي كانت تعيش في عمقها أوروبا في القرون الوسطى، ربما كان بالعودة إلى تراث القدماء العقلي اليوناني والروماني، أي العودة إلى تراث العقل والفلسفة، أو الحكمة العقلية التي عرفها الأوروبيون لفترةٍ طويلة من خلال الترجمات العربية، وبدأوا في لحظةٍ من اللحظات يبحثون عن حلول لمشكلاتهم الكبرى وتطلّعاتهم في تراث الماضي، ويعكفون على قراءته، وعلى تعلّم اللغات القديمة التي كتب بها أيضاً.

لقد كان الجهد الحقيقي للنهضة (برموزها ونخبها المفكّرة) متمثِّلاً في الدفع باتجاه تزخيم مفهوم العقل، وتثويره إلى أقصى الحدود (إلى درجة تحوّله إلى ما يشبه الإله الأرضي)، واعتباره الحَجَر الأساس في وسائل المعرفة والتقدير والتأسيس الوجودي الحياتي، أي فتح الإمكانية والمسارات العملية أمام الإنسان لا ليكون مجرد وعاءٍ تسقط عليه التعاليم والوصايا والأحكام والمُثُل والمبادئ من عالم السماوات والأديان، وإنما ليكون عقل هذا الإنسان مصدراً أساسياً للمعرفة والإبداع الفكري، الأمر الذي كان له بالغ الأثر في فتح آفاقٍ واسعة أمام الإنسانية على كلّ المستويات والأصعدة، وخصوصاً على مستوى انفجار الثورة العلمية والاكتشافات العلمية.

وتتجسّد الرؤية الحداثية الغربية في رؤيتها لجميع الأشياء الحقيقية، من حيث إنها تنطلق من العقل، والإنسان هو الذي يعكس تلك الأشياء والمدركات بواسطة وعبر إدراكاته المتنوّعة، وخاصّة الإدراك العقلي، أي العقل الذي يشكّل المنطلق والقوة الأساسية الحاسمة في الرؤية والتقدير والتحليل والتوصيف، ومن ثم التقييم والحكم، بما يساعد الإنسان على كشف ماهية وجوده الذاتي أوّلاً، ومحاولات فهم أسرار عوالمه المتعدّدة ثانياً، ليصبح لديه كامل الحرّية في الاختيار، وتحقيق المعرفة، والتفريق بين الخطأ والصواب. ولا تفهم العقلانية بالمعنى الاجتماعي البشري إلاّ من منظور البحث المستمرّ في المعايير التي تُقاس بها صحّة الاستراتيجيات التي تصوغها الجماعات، أو تسعى إلى صياغتها، من أجل إحراز التقدّم ومسايرة التاريخ، وتحسين مردودية الجهد الإنساني، ورفع فعاليته.

والعلم الحديث طبعاً تطوّر ونشأ على أساس منطق التفكير العقلي النسبي في بناء مناهج البحث العلمي، وتنظيم التجربة. وشيئاً فشيئاً حصلت خطوة تجريد المعرفة من بُعْدها «الطوطمي» السحري والأسطوري، الذي كان يأخذ بالألباب والعقول والأفئدة. وشيئاً فشيئاً أصبحت المعرفة العلمية زمنية، مقوننة، صناعية، بنائية وتراكمية، ليست مستقلّة عن المعرفة الدينية أو متميّزة عنها في أسس بنائها فحَسْب، ولكنّها أيضاً مستقلّة عن جميع المعارف المنقولة والمتّبعة، والحكم المقدّسة، والأساطير الموروثة الماضية.

2ـ التغيُّر الجذري لمعنى الحقّ واكتشاف معنى القانون

 حدث في الغرب تحول كبير على معنى مفهوم «الحق» و«الحقيقة»، قاد إلى إعادة اكتشاف الحقّ (le Droit). وقد تأسّس هذا البُعْد الجديد على رؤية قانونية جديدة في سياق عملية بناء العدالة الاجتماعية، فأصبح معنى الحقّ مغايراً لمعنى الشريعة والعرف الديني السائد، الذي كان يطلب من أتباعه التسليم والخضوع والانصياع لأحكامٍ منصوص عليها، أو مطلوب تطبيقها من قبل سلطةٍ إلهية عليا فكّرت في العدالة مرّةً واحدة وإلى الأبد.

ولكن مع التحوّل باتجاه نسبية الحقيقة، وإعطاء القيمة الأكبر للواقع المنظور، على حساب النصّ المخبوء والمكنوز، اختلف الوضع، وأصبح الإنسان ـ بحَسَب الرؤية الحداثية ـ قادراً على بناء رؤى جديدة ونظرات فكرية متنوّعة غير نهائية، بل متحوّلة وسيالة، كجزء من التفكير الدؤوب والمستمرّ في معنى العدالة الإنسانية، أي تفكير المجتمع نفسه بعدالة أسسه ونظمه، وصلاحيتها ومدى فعاليتها. إنه نابعٌ من المجتمع المسؤول عنه وعن تطويره وتطبيقه، لا من مصدرٍ آخر. وبالنتيجة العملية يعني ذلك أن يمارس المجتمع مسؤوليته في ضبط النظام وتوجيه مساراته من داخل صفوفه ولتحقيق غاياته كمجتمعٍ لا على سبيل الطاعة أو التوافق مع مطالب الدين، أي الغايات التي ترسم له من خارجه، ولكنْ تلك التي يرسمها هو نفسه لوجوده. وبذلك تحوَّل إلى مجتمعٍ سياسي أيضاً، بعد أن كان مجتمعاً دينياً أو لاهوتياً في طبيعة السلطة والصلاحية التي تحكم نظامه. وفي هذا المخاض استقلّ مفهوم الحقّ، بالمعنى المدني القانوني، وتطبيقه معاً عن مفهوم الشريعة، فصار نظاماً إجرائياً متكاملاً، يضبط نفسه من خلال آلياتٍ واضحة تعبِّر عنها درجات المسؤولية ومرتباتها، ولا يعتمد في وجوده على الإيمان والوَرَع الشخصي المتفاوت عند الأفراد بالضرورة، ولا أيضاً على مزاج أو معرفة فقيه بالدين أو عالم دين أو سلطان. كما لا يحتاج لتحصيل الحكم وتطبيقه على التأويل الذاتي بالضرورة لكتب الدين أو الحكمة.

3ـ القيمة العليا للفرد

(المعيار هو الحرّية، كأرضية تعيِّن شرعية السلطة، وتؤكّد حقّ الإنسان في تقرير شؤونه المدنية، دون إكراهٍ أو قيد)، أي إعادة الاعتبار والقيمة الحقيقية للفرد بما هو ذاتٌ واعية حُرّة، مريدة، وبالتالي أيضاً قابلة للصياغة والتكوين والمساءلة القانونية والأخلاقية. فأنا إنسانٌ أي ذاتٌ عاقلة وقادرة، مثل: الآخر الإنسان. وأشخاصُنا يتساوون في الحقوق والواجبات. هذا يعني اعتراف الجميع ببعضهم كأنداد، لا كأسياد أو أزلام ومحاسيب. وهذا هو مظهر الاعتراف الرسمي القانوني بالمساواة المطلقة في الإنسانية. فلا أحد يملك سابقةً أو أفضلية على آخر، لا بالوراثة ولا بالمعرفة ولا بالعلم ولا بالثروة ولا بالحَسَب والنسب (وهذه نفسها قِيَم دينية من جوهر الدين ذاته). فليس بين أعضاء المجتمع الحديث من هو تابعٌ ولا إمَّعة ولا زلمة. هذا كلّه من تقاليد القرون الوسطى والثقافة التقليدية.

 من هنا لا قيمة لما يقال من أن القِيَم السائدة في المجتمع الحديث الغربي هي قِيَم الفردية، بينما ما يَسِمُ مجتمعاتنا هو القِيَم الجَمْعية. العكسُ هو الصحيح تماماً. أفرادنا لا يرَوْن المجتمع إطلاقاً خارج نطاق دائرة الأهل والعشيرة، وفي أحسن الحالات فئات المحرومين الذين تحلّ لهم الصدقات. فالقِيَم الجَمْعية هنا متعلّقة بالعصبية والقرابة أو الدين، لا بالمسؤولية الاجتماعية، والاهتمام بمصير المجتمع ونظامه ككلّ. وهذا ما يفسِّر ضعف الحوافز السياسية في مجتمعاتنا إلى اليوم، على الرغم من اندراجها منذ قرنين في منطق الحداثة السياسية.

4ـ الديمقراطية السياسية وحكم القانون

 في مسارها التاريخي الطويل توصّلت البشرية إلى تثبيت قِيَم ومبادئ الديمقراطية السياسية، بديلاً عن حكم الاستبداد والديكتاتورية واحتكار الحقيقة وادّعاء الحكم المقدّس. وهذا التعميم لا يغني عن بعض التخصيص الضروري في هذا المجال؛ ذلك أنّ مبدأ فصل السلطات ربما كان أهمّ ما في الديمقراطية، بصفتها طريقة في التدبير السياسي والحاكمية. لا بل إنّ مونتسكيو رأى أنّ العلامة الفارقة للمستبدّ هي، بالضبط، أنه يدمج السلطات جميعاً، ويتولاّها بنفسه.

 إنّ فصل السلطات، في شكله الحديث، هو ما عُرِف أساساً عبر كتابات مونتسكيو، وخصوصاً «روح القوانين». ومؤدّى نظرية الفصل تلك أن ثمّة ثلاث سلطات ينبغي أن لا تتداخل في ما بينها لدى ممارستها الحكم، هي: التشريعية والتنفيذية والقضائية. الأولى: تصوغ السياسة، وتنفّذها بوصفها قانوناً. والثانية: تتولّى تطبيقها وتنفيذها في الحيِّز العملي. والثالثة: تفضُّ النزاعات، طبقاً للقانون، وتَبَعاً لمعايير العدالة.

وعليه، ليست الديمقراطية هَدَفاً بحدّ ذاته، وإنما هي وسيلةٌ يتمكن من خلالها الشعب من اتخاذ مواقفه البناءة، بما يجعله أكثر قدرةً على الإبداع والإنتاج والتشارك، عوض أن يكون أداةً للمباركة والتصفيق والتصديق على قرارات الحكام الفرديين. وليست الديمقراطية أيضاً مفهوماً غربياً ضيّقاً، من شأن تبنّيها الوقوع في التبعية للغرب والخضوع لوصاياه. إنها أكثر تواضعاً ممّا يعتقده البعض حولها أو ينسبه إليها أو يطالبها به، فهي أبعد من أن تكون عقيدةً شاملة، وهي أقلّ من أن تكون نظاماً اقتصادياً ـ اجتماعياً له مضمونٌ عقائدي ثابت.

إنّ الديمقراطية المعاصرة منهجٌ لاتخاذ القرارات العامّة من قبل الملزمين بها، وهي منهجُ ضرورةٍ يقتضيه التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وجماعاته، منهجٌ يقوم على مبادئ ومؤسّسات تُمَكِّن الجماعة السياسية من إدارة أوجه الاختلاف في الآراء وتباين المصالح بشكلٍ سلمي، وتُمَكِّن الدولة، بالتالي، من السيطرة على مصادر العنف، ومواجهة أسباب الفتن والحروب الأهلية. وتصل الديمقراطية المعاصرة إلى ذلك من خلال تقييد الممارسة الديمقراطية بدستورٍ يراعي الشروط التي تتراضى عليها القوى الفاعلة في المجتمع، وتؤسّس عليها الجماعة السياسية أكثريّة كافية. وقد تمكَّنت الديمقراطية المعاصرة من ذلك عندما حرّرت منهجها في الحكم من الجمود، فتأصّلت في مجتمعاتٍ مختلفة من حيث الدين والتاريخ والثقافة.

إن الديمقراطية المعاصرة منهجٌ يبدع الحلول، ويكيّف المؤسّسات، دون إخلال بالمبادئ الديمقراطية أو تعطيل المؤسّسات الدستورية، التي لا تقوم للممارسة الديمقراطية قائمةٌ دون مراعاتها والعمل بها.

وفي هذا السياق فإننا نميِّز بين ثلاثة مستويات للديمقراطية:

 أوّلها: المستوى الشكلي (ديكور خارجي)، ينحصر في مجرد إقامة المؤسّسات الديمقراطية، المتمثّلة في المجالس النيابية والأحزاب وغير ذلك من هياكل المجتمع المدني، من دون وجود أيّ فاعليةٍ لها في المستوى العملي، بل ينحصر عملها ساعتئذٍ في الإمضاء على توجُّهات وسياسات النخب الحاكمة، من دون أيّ نقاشٍ أو مساءلة.

وثانيها: (الأداء الديمقراطي الفعّال)، يتمثَّل في أداء الوظيفة الديمقراطية عبر المشاركة والمساءلة الحقيقيتين؛ لأننا تعلّمنا من تجارب عدّة ـ وخصوصاً في عالمنا العربي ـ أنه من الممكن أن تقوم المؤسّسات الديمقراطية، فتنشأ أحزاب، وتُشَكَّل مجالس نيابية، ويُفْسَح المجال لهامش من التعبير من خلال صحف المعارضة، ومع ذلك كلّه لا يتحقّق الأداء الديمقراطي. إنه من الممكن أن تُقام جميع الهياكل المطلوبة بينما تُعَطَّل الوظيفة تماماً، فلا تتوافر المشاركة في القرار السياسي، ولا يُتاح لممثِّلي الأمة حقّ مساءلة السلطة التنفيذية، كما هو الحال في كثيرٍ من بلداننا العربية والإسلامية.

وثالثها: (التدرُّب على الثقافة والقِيَم الديمقراطية). وهذا ينصبُّ على شيوع القِيَم الديمقراطية، وأهمّها: قيمة التسامح السياسي، وتداول السلطة، واحترام حقوق الإنسان؛ لأنه من الممكن أن تقوم الهياكل وتؤدّى الوظيفة، بينما يفتقد المجتمع تلك القِيَم التي لا تستقرّ إلاّ بمضيّ الوقت، واستمرار الممارسة، وتوافر الأنموذج الذي يرسّخ القِيَم الديمقراطية والسلوك الحضاري بين أبناء المجتمع.

نظرةٌ إلى واقع السياسة العربية الراهنة

 لقد كان لغياب الفكر التعدّدي وثقافة الاعتراف بالآخر، وضعف المشاركة السياسية، وسيطرة الأنظمة المستبدّة في اجتماعنا الديني العربي والإسلامي، آثار سلبية، تمظهرت من خلال خلق وتعمّق نزعات سلطوية مدمّرة لدى النخب الحاكمة، لا تزال قائمةً ومستمرة، وخصوصاً عندما يطول وقت احتلال مَنْ يحكمون لمقاعدهم الثابتة، فتبدو رؤيتهم للأمور ورديةً ومغلوطة؛ لأنها تقوم على أساسٍ مفتَعَل لا يدرك الواقع، ولا يعايش نبض الجماهير، ولا يستشعر معاناتها؛ حيث باتت هناك فجوةٌ كبيرة تفصل بين الشعوب والمجتمعات من جهة وبين الحكام والنظم القائمة من جهةٍ أخرى. وهذه الأزمة والفجوة القائمة ليست جديدةً، بل هي تاريخيةٌ بامتياز، ولا تزال تغلِّف العلاقة بين الطرفين إلى حدٍّ أدّى إلى عزلة مَنْ يحوزون السلطة عن الجماهير العريضة بآمالها وآلامها وأحلامها وتطلّعاتها وطموحاتها. وهو أمرٌ يؤكّد أن جزءاً كبيراً من الصراع المحتدم نجم عن حال الفراغ السياسي الذي يحتلّ المساحة بين القمة والقاعدة لدى معظم الشعوب العربية.

إن الشرعية السياسية في معظم النظم العربية تعود إلى أفكار ومرجعيات يصعب الأخذ بها، أو التسليم باستمرارها وصلاحيتها. فالتغيُّر هو الثابت الوحيد في هذا العالم، والدنيا تتغيّر، والأحوال تتبدّل، وتبدو مع كلّ فترةٍ زمنية تجلّيات لم تكن مطروحةً، أو كانت مطروحة على استحياءٍ من خلال مقولات صامتة تتحدّث عن الإصلاح والتغيير والديمقراطية. فقد أضحَتْ الديمقراطية ـ على الرغم من مصدرها الغربي ـ مطلباً إنسانياً ونزعة تحرُّرية من شأنها إذا توافرت شروطها الذاتية والموضوعية أن تمكِّن الشعوب من تحقيق استقلالها التاريخي، والتعبير عن قدراتها الحيّة، ومكنوناتها الهائلة.

إنّ إعادة بناء مفهوم الدولة داخل الفكر السياسي المعاصر، منظوراً إليها من زاوية كونها مجالاً يعكس تناقضات البنية الاجتماعية وتوازنات القوى فيها، سمحَتْ بإعادة تمثُّل مسألة الديمقراطية والنضال الديمقراطي. كما أخرجت حركات التقدُّم من عزلتها الاضطرارية أو الاختيارية عن الساحة الجماهيرية، ودفعتها إلى الخروج بالعمل السياسي من دائرته السرّية المطلقة إلى الدائرة الجماهيرية الأوسع، وأنقذت التفكير السياسي من مصطلحات القاموس العسكري، كما قلَّصت من مظاهر ممارسة السياسة بمنطق الحرب.

 إذن هذه المعايير الأربعة للحداثة لا تزال قائمةً. وهي تتبدَّل باستمرارٍ، لم ينتَهِ العملُ بها بعدُ؛ حيث نشهد بين الفينة والأخرى صراعات ونزاعات حول العديد من الخيارات التي توجّه نشاطها.

 فهل يمتلك الإسلام ـ كدينٍ حاكم على القلوب، ومهيمنٍ على الأفئدة والعقول، عندنا ـ القدرة الفكرية والعملية للتكيُّف مع ما تقدَّم ذكره من معايير ومقتضيات ومتطلّبات الحداثة، وضرورة الانخراط الجدّي العملي في عملية الإصلاح الديني والثقافي والسياسي في عالمنا العربي والإسلامي؟!

في الواقع لا نزال نعيش حالياً في مجتمعاتنا حياةً حديثة بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنىً، من حيث التعامل الشكلي والمظهري مع مقتضيات تلك الحداثة. فنحن نتعامل مع الإنترنت، ونسافر بالطائرات، ونعمل وفق قوانين حديثة، ونتواصل تفاعلياً وتبادلياً مع مختلف بقاع الأرض، وتخضع كثيرٌ من حكوماتنا ونظمنا السياسية لمؤسّسات وهيئات ومنظّمات دولية اقتصادية وسياسية وثقافية متعدّدة…إلخ. إذن نحن لسنا متخلّفين في أساليب الحداثة ووسائلها وطرقها. ومجتمعاتنا العربية لا تعيش حياة القرون الوسطى، بل هي مجتمعات خاضعة بشكلٍ أو بآخر لقوانين ونظم الحداثة العالمية ذاتها. ولكنّ الخطر والخطأ في الموضوع هو أننا فهمنا الحداثة مجرّد نقل لمنجزات الآخر وتقنياته واختراعاته الكبيرة، لا صنعاً واستنباتاً لها في تربتنا المحلّية، وإنما استهلاكاً وشراءً. وهذا لا شَكَّ أمرٌ عظيم وجيّد، ولكنه غير كافٍ لصنع الحضارة والحداثة العلمية. وهذا ما ندعوه بالحداثة القشرية أو الحداثة الكسيحة. إنه منطق التناقضات والتشوّهات المرتبطة بهذه الحداثة من جهتنا نحن، لا من جهة الغرب؛ فنحن لا نزال نعيش على استهلاكٍ متزايد لثمرات الحداثة الناشئة والمتطوّرة خارج دائرتنا الحضارية الإسلامية، على الرغم من أننا ساهمنا في الماضي في التأسيس لها بصورةٍ وبأخرى، كما أننا عجزنا حتّى الآن عن زرع شجرة الحداثة عندنا، وبما يناسب مجالنا وسياقنا الحضاري الإسلامي، فلم نفتح ورشات لها خاصة بنا وبشروط وجودنا، لا ورشات المعرفة الزمنية، المدنية، الإنسانية، البحث العلمي، التطوّر الفكري الحُرّ، ولا ورشة الدولة الحديثة، دولة الحقّ والقانون. نحن لا زلنا إلى حدٍّ كبير مجتمعات حديثة تخضع لسلطة الأعيان والأتباع، وكل مظاهر العشائرية والقَبَلية البغيضة، التي حاربها الإسلام ذاته. ولم نطوِّر أيضاً بما رُبَما فيه الكفاية مسألةَ الفرد كذاتٍ، أو الفردية الحُرّة والمسؤولة.

على مَنْ تقع مسؤولية التأخُّر والتقهقر الحضاري؟!

 في الحقيقة، وعلى الرغم من التسليم بدور ومسؤولية العامل الخارجي في ما وصل إليه حال العالم العربي من تخلُّف وانقسام وتجذّر الأمراض الثقافية والسياسية، إلاّ أن هناك وَعْياً متزايداً لدى الغالبية العظمى من أفراد مجتمعاتنا العربية بأن الكوارث التي تعيشها تلك المجتمعات ليست ناجمةً بكليّتها عن الأطماع والتدخُّلات الأجنبية وحدها، وأن الكثير منها يعود إلى عجز النخب السياسية الحاكمة (التي أوصلت مجتمعاتنا المُنْهَكة للارتماء في حضن الإرهاب، بعدما عانَتْ ولعقودٍ من أنظمة الاستبداد) عن إيجاد الحلول الملائمة لتناقضاتٍ كامنة في بنية وثقافة المجتمعات، ونظم الحكم العربية.

وقد ترتَّب على إهمالها وتراكمها نجاح القوى الخارجية في تعميقها واستغلالها، إلى أن وصلت إلى نقطة الانفجار، أو انفجرت بالفعل، كما هو الحال في دول عربية كثيرة.

فالعراق لا يعاني من الاحتلال الأجنبي فقط، وإنما تجتاحه في الوقت نفسه صراعات متنوّعة الأبعاد والمستويات، ترشّحه للدخول في نفق حرب أهلية واسعة النطاق، وتهدِّده بالتفتُّت والانقسام إلى دويلاتٍ طائفية عدّة.

ولبنان كذلك الأمر لم يتمكَّن بعدُ من الانتصار لسيادته، بل تهدِّده على الدوام فتن طائفية، يبدو أنها لن تبقي ولن تَذَر إذا ما بدأت فتائلها بالاشتعال.

والأراضي الفلسطينية لا تعاني من حروبٍ مستمرة، واحتلال إسرائيلي مقترن بحصار دولي، فحَسْب، وإنما أيضاً من صراعٍ تناحري مقيت، وصل إلى حدّ الاقتتال بين الإخوة، وما تزال جذوره حيّةً، وتشكّل خطراً يهدّد بتصفية قضيةٍ كانت وما تزال من أنبل وأعدل قضايا العالم قاطبة.

والصومال لا يعاني فقط من تدخُّلٍ أجنبي شجَّع أثيوبيا على احتلاله، وإنما أيضاً من صراعٍ قبلي ظلّ حيّاً لسنواتٍ طويلة، وأدى الفشلُ في احتوائه إلى إغراء الآخرين على التدخُّل، تحت دعوى ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار.

والأمر ذاتُه في السودان، الذي يعاني من صراعاتٍ عرقية ومذهبية تهدِّده ليس فقط بتجدُّد الحروب الأهلية، وإنّما بالتفتُّت والتقسيم أيضاً.

أما حال بقية الدول العربية فلا تبدو أفضل كثيراً. فها هي سوريا دخلت منذ أكثر من ثلاث سنوات في نفق وجوديّ مجهول، يتهدَّد مصيرها ووجودها كدولة وشعب ومجتمع متعدّد ومتنوّع الأعراق والانتماءات والمكوّنات التاريخية والمجتمعية.

إن البطالة وتعثُّر الإصلاح السياسي، والخلل الرهيب في توزيع الثروة والمداخيل، تحوَّلت إلى أمراض مزمنة، راحت تنخر في عظام هذه الدول؛ لتشكل قنابل موقوتة قابلة للانفجار في جسدها في أيّ لحظةٍ. ومن هنا نؤكِّد على الحقائق التالية في سياق ضرورة قبولنا وتبنّينا لأفكار الحداثة التي تنسجم مع ذاتنا الحضارية:

 1ـ إن الإصلاح الداخلي المنطلق من ترتيب أوضاع بيوتنا الداخلية أفضل وأقوى وأمتن من أيّ إصلاحٍ خارجي مفروض، لن يأتي إلينا إلاّ نتيجة الغياب المتعمّد لانطلاقة مناخ الإصلاح الطبيعي في المجتمعات والشعوب بما ينبع منها، ويتّفق مع تقاليدها، ويرتبط بهويتها.

2ـ الإصلاح الحقيقي المطلوب الذي يستمرّ ويبقى هو فقط الإصلاح الذي يتمّ بالطرق السلمية التسووية الحضارية، مع رفضٍ كامل لمنطق الثورة في العملية السياسية الإصلاحية؛ لأن مفاجآتها كثيرة، وردود فعلها معقّدة، ونتائجها غير مضمونة. بينما الإصلاح التدريجي المدروس، وفقاً لخطّة زمنية معلنة، هو السبيل الأفضل للانتقال نحو غايات الأمم وأهداف الشعوب الكبرى في العيش الآمن والحُرّ والمستقرّ وبناء الذات الفاعلة والمزدهرة. وتستطيع نظم عربية كثيرة أن تتواءم مع التطوُّرات المقبلة، بشرط أن تستوعب حقائق العصر، وأن تمضي نحو المستقبل بخطىً ثابتة، بَدَلاً من ترديد شعاراتٍ خادعة للاستهلاك المحلّي، وتسويف التغيير، وإجهاض الإصلاح.

3ـ إن المؤسسة الدينية الحاكمة ـ ظاهراً أم باطناً ـ في العالمين العربي والإسلامي مطالَبةٌ أكثر من أيّ وقتٍ مضى باعتماد العقل والحوار والانفتاح على الآخر، وإطلاق خطابٍ ديني عصري واضح، يعتمد على عنصر النقد الفاعل البنّاء، وليس التلقّي والقبول والتسليم الكامل.

ولكنْ هنا نتساءل: كيف يمكن الاتّفاق في هذه الحال على مسألة النقد، وإشكاليات النصوص والتأويلات الدينية لها، والهادفة إلى تجديد الفكر والهوية؛ لتصبح منفتحةً مستوعبة تواصلية على مستوى تصالحها مع الذات وانفتاحها المتوازن على الآخر، من دون الاتفاق حول الغايات والقِيَم الأساسية التي سوف تحكم إعادة بناء المجتمعات الإسلامية المفكّكة أو اجتماعاتها السياسية؟!

لقد انطلقت الثورة التقنية والصناعية (وما رافقها من إنجازاتٍ علمية هائلة) نتيجة انبثاق تراكم معرفي وثقافي تنويري كبير ـ كما ذكرنا ـ، قادته مجموعة كبيرة من النخب الفكرية المعرفية، من أمثال «مونتسكيو» و«ديديرو» و«فولتير». ولئن حدث هذا التحول الذي عرفته مجتمعات الغرب الأوروبي بفضل ذلك المناخ الثقافي التنويري فإننا نسأل: هل يمكن لثقافتنا العربية الإسلامية أن تتمثَّل (وتستفيد وتستثمر) بما أنجزته الثقافة الأوروبية؛ حتّى تتمكّن من إحداث النقلة النوعية المتوخّاة داخل المجتمعات العربية والإسلامية؟! وإذا كان لكلّ أمّةٍ ثقافتها الخاصة فلا يعني هذا أن مستوى الثقافة واحدٌ لكل الشعوب، لكنّ هذا المستوى يختلف من شعبٍ إلى آخر، لتعدُّد درجات الثقافة في مراتب الرقيّ.

فعلى مستوى عالمنا العربي شاع سابقاً ـ في بعض المفاصل الزمنية القليلة ـ تأويلٌ منفتح عقلاني للدين، منسجمٌ مع ذاته، ومتفاعلٌ مع الحضارات الأخرى. ولكنْ بدءاً من عصر الانحطاط أخذ يسود التأويل الآخر، أي الفهم الجامد، المنغلق، المتعصِّب. وغنيٌّ عن القول هنا: إن الثقافة العربية هي بطبيعتها ثقافةٌ جذرية تأصيلية، فيها إمكانات هائلة للنظر والوعي والنقد والبناء المعرفي الحضاري، إلاّ أن حاجتها للتجدُّد في عالم التحوّل والتغيّر والتنوّر يفرض عليها مزيداً من المساهمة الفاعلة؛ لتتمكن من أداء دورها الريادي؛ بغية تنوير المجتمعات المؤمنة عَقْدياً بهذه الثقافة، وترشيدها بما يكفل لها الارتقاء في سلّم الرقيّ والتقدُّم، كباقي الشعوب والأمم، أي إنه لا يكفي أن نؤمن نظرياً بقدرة ثقافتنا على البناء والنموّ والتصاعد، بل لا بُدَّ من الاعتقاد أن شرط النموّ هنا هو في مدى قدرة ثقافتنا على الدخول في حوارٍ ونقد مع مسبّبات أزمة وجودنا الراهنة مع أنفسنا أوّلاً قبل الآخر.

ولم يَعُدْ مقبولاً أبداً اليوم أن تراوح هذه الثقافة الإسلامية في مكانها؛ ليجترّ أصحابها مقولات ومفاهيم خارج نطاق الحياة والعصر والتاريخ الحديث، أو أن تكتفي بإنشاد وترديد موشّحات الماضي التليد وإنجازات العصور القديمة، بل عليها أن تواكب حركات التقدُّم الذي وصلت إليه الثقافات الأخرى، وأن تتفاعل بشكلٍ خلاّق ومبدع مع كلّ الانجازات العلمية والفكرية التي ساهم بها مثقَّفو الأمم الأخرى.

وهنا نؤكِّد دائماً على أن تجاوز هذه الإشكالية قائمٌ على مسألةٍ نظرية بسيطة، لكن معقَّدة، وهي أن نعمل على الاستفادة من ثقافتنا وحضارتنا العربية بما يتلاءم ويتناسب مع حاجات مجتمعاتنا الراهنة المتغيرة، ومن دون أن نكون أسرى لقِيَم الماضي، ومستغرقين في مناخاته القديمة، وأن نأخذ بمعطيات الحاضر ونساهم في تطويره بما يمكننا من استشراف المستقبل. وأهمّ ما نحتاج إليه هو الثقافة التنويرية؛ حيث لم يَعُدْ مقبولاً الاكتفاء بالنشاطات الثقافية الشكلية التي لا تمتّ إلى الجوهر، بل علينا أن نساهم في عملية البناء الفكري الذي يصوِّب سهامه إلى مكامن الجهل في زوايا مجتمعاتنا، المتعطّشة إلى نور العلم والمعرفة. وهذا ما يتطلَّب توفير كلّ المقوّمات والإمكانات، عن طريق إيجاد مناخٍ يكفل حُرّية البحث العلمي والإنتاج الأدبي والنقد السياسي، بما يؤهِّل مجتمعاتنا لأن تكون رائدةً في ثقافتها منسجمة مع ماضيها، مترقّبة لمستقبلها الواعد.

وتلك هي مسيرة الثقافات عبر التاريخ وخلال العصور. فالتواصل الثقافي بين الأمم أشبه بسلسلةٍ ذات قنوات متداخلة، كل قناةٍ تأخذ مما قبلها، وتعطي ما بعدها. هكذا كان حال ثقافات الأمم الغابرة، من مصرية ورومانية وفارسية ويونانية وعربية إسلامية، مروراً بثقافة أوروبا في عصر النهضة والتنوير، وانتهاء بالثقافة المعاصرة التي نعيش في رحاب نتاجها، الذي يرفد الإنسانية بعوامل الرقيّ والإبداع لما فيه خير البشرية جمعاء.

ولا بديل لنا كعربٍ عن الانخراط في الواقع المعاصر، والاهتمام بكل أحداثه ووقائعه وأحداثه وشؤونه المختلفة. وهذا يتطلَّب البحث الجدّي منّا عن مضامين معرفية جديدة، بما يؤهِّلنا لـ «التكيُّف الإيجابي» مع معطيات ومواقع هذا العالم، وبالتالي الانخراط في مقتضياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يقلِّل من الخسائر التي علينا دفع أثمانها نتيجة فواتنا التاريخي، ريثما تتوفّر شروطٌ عامة للتحرُّر والانعتاق في المستقبل.

 فنحن لسنا وحدنا في هذا العالم، كما أننا لسنا مركزه، أو غايته، أو منتهاه، بل نحن أمّةٌ مثل باقي الأمم والحضارات، لها ما لها وعليها ما عليها. إننا أمة من جملة أمم وثقافات، لا يمكن أن نتكوّر على أنفسنا ونتقوقع، ونعيش من دون جيران وأصدقاء، ومصالح وتوترات، ومناخات باردة أو ساخنة، وغير ذلك، ولا نستطيع أن ننعزل عن أيّ تأثيرات وتطوّرات قد تحدث في العالم الذي نعيش فيه.

طبعاً نحن عندما ندعو أهل وأتباع ثقافتنا الأصيلة إلى أهمّية الانفتاح على العصر وقِيَم الحداثة المعاصرة لا نقصد الغَرَق في بحور نتاجاتها الغربية بلا وَعْي ولا إدراك؛ لأن هناك حاجات ذاتية في عمق الإنسان لا تستطيع حتّى هذه الحداثة بكلّ ما فيها من حيوية وفاعلية ومعانٍ مادية وثقافية وفلسفية إشباعَها، فمعنى الوجود والحياة والغاية والعلّة منها لا يمكن لغير الدين أن يشبعها، ويقدِّم إجابات «بمعانٍ وافرة» عليها. إنها أسئلة الوجود والخلق الأولى.

والقصة هنا هي بكلّ أريحية وبساطة أن أسئلة الضمير الفردي حول الوجود، وإجابات الدين حول المعنى والحياة والكون والروح، تعطينا فكرةً عن أن هذا الدين الذي نطالب معاييره وأنظمته الفكرية دَوْماً بالانفتاح على العصر هو بالأساس رسالةٌ إلى الضمير الفردي، إلى الروح والنفس الباطنية؛ للتربية والتقويم والتكامل النفسي والسلوكي على سلّم الكمال المعنوي؛ لأن بناء الإنسان من الداخل هو أساس حركة الوجود الخارجي. هذا ما عبَّرت عنه مختلف النصوص:

«إنما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق».

﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.

«إنّما بُعثْتُ رحمةً مهداة، ولم أُبْعَثْ لعّاناً».

إذن، ولتحقيق هذه النهضة الذاتية الفردية الضميرية، قبل الانتقال للخارج، تبدو الديمقراطية بأوجهها المتعدّدة السياسية والاجتماعية ـ إذا صحّ التعبير ـ في رأس أولويات هذا التجديد، وهذه النهضة المعرفية؛ لأن النظام الديمقراطي كآليةٍ إجرائية للعمل السياسي والاجتماعي يسمح للذات الفردية (وهي المقموعة على طول مساراتنا التاريخية الإسلامية) بالتعبير عن وجودها الحقيقي، أي يعطي للفرد قيمته الحقيقية كذات حُرّة، وتشعره بأهمّيته كطاقةٍ خلاّقة تحتاج لرعايةٍ خارجية، ومن ثم لاحقاً تأتي وتتحرّك مسألة التقدُّم الخارجي، التي تستدعي الانفتاح الكامل على مفاهيم وطروحات ومقولات جديدة باتت معروفة حالياً على نطاقٍ واسع، كالمجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة. وهذا كله يمكن اختصاره بمقولةٍ واحدة هي: الحكم الصالح.

وتبدو أهمّية ذلك واضحةً إذا أدركنا أنه لن يكون باستطاعتنا حيازة أو تطوير لغة سياسية حديثة، منظّمة ومؤسّسة، في بنانا السياسية والثقافية، إذا بقينا خارج تسلسل وتاريخ الأحداث والتغيّرات الهائلة التي تعصف بالعالم المعاصر. وهذا أوّل وأهمّ شرطٍ من شروط الانتظام في واقع الحداثة والتنوير الحقيقي المطلوب.

(*) باحثٌ وكاتب في الفكر العربيّ والإسلاميّ. من سوريا.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً