أحدث المقالات

الأقلّيّات الدينيّة أنموذجاً

 

السيّد فاضل الموسويّ الجابريّ(*)

 

تمهيد

لقد وضع الشرع الإسلاميّ جملة من الحدود والتعزيزات كعقوبات رادعة لمَنْ تسوّل له نفسه مخالفة القوانين الشرعيّة الإلهيّة، التي تصون المجتمع من الانزلاق في الفوضى والفساد، بما يسبّب انهيار المجتمع الإسلاميّ، أو تعرّضه لمخاطر وأضرار بالغة.

وليس القصد من إقامة الحدود هو التنكيل بالإنسان، أو الاحتقار لإنسانيّته، كما يحلو للبعض ادّعاء ذلك، وإنّما القصد منها صيانة المجتمع وقطع مادة الفساد. ومن هنا كان الحدّ هو تأديب المذنب، كالسارق والزاني وغيرهما، بما يمنعه عن المعاودة، ويمنع أيضاً غيره عن إتيان الذنب.

فالحدّ هو: عقوبةٌ حدّدها الشارع على جناية، مثل: القتل، والزنا، وغيرهما.

وأما التعزيز فهو: التأديب بالضرب أو غيره على فعل الكبائر، من ارتكاب محرّم أو ترك واجب. ويتعلَّق التعزيز بما لم يكن فيه حدّ مقرّر من الشارع، وأما كيفية التعزيز وحجمه فهو متروكٌ للحاكم بما يراه رادعاً لذلك الشخص وأمثاله، بشرط أن لا يبلغ تقدير الحدّ.

إذا عرفت هذا فإنّ المسلم وغيره ما داموا يعيشون في المجتمع الإسلاميّ تجري عليهم كلّ القوانين التي قرّرها الشرع بلا استثناء؛ لأنّ الملاك هو صيانة المجتمع، وهو مبدأ عقلائيّ استقرّت عليه سيرة البشريّة في كل زمان ومكان، وإلاّ لما استقام اجتماع بشريّ أبداً.

وأما في خصوص أهل الكتاب فثمّة جملة من الأحكام في هذا الباب قد يشتركون فيها مع المسلمين، وقد ينفردون بها، وعلى أيّ حال لابدّ من البحث في مختصّاتهم من حيث قانون العقوبات الإسلاميّ، وأمّا المشتركات فلا بحث لنا فيها من حيث الخصوصية؛ لأنهم داخلون تحت عموم ذلك القانون.

والبحث في المقام من خلال مسائل:

 

1ـ حكم الذمّي إذا زنى بالمسلمة

المسألة الأولى: إذا زنى الذمّي بامرأة مسلمة فحدّه القتل، سواء أكانت مكرهة أو مطاوعة، وسواء أكان محصناً أو غير محصن.

وهذا الحكم هو المشهور بين الفقهاء قديماً وحديثاً، بل ادُّعي عليه الإجماع، كما في الجواهر، حيث قال: بلا خلاف أجده، بل بالإجماع بقسمَيْه عليه، بل المحكيّ منها مستفيض([1]).

وقال الصدوق: والذمّي اذا زنى بمسلمة قتل([2]).

وقال الشيخ الطوسي: فأمّا مَنْ وجب عليه القتل على كل حال، سواء كان محصناً أو غير محصن…، إلى أن قال: وكذلك الذمّي إذا زنى بامرأة مسلمة، فإنّه يجب عليه القتل على كل حال([3]).

وقال الشيخ المفيد: إذا فجر الذمّي بمسلمة كان حدّه القتل([4]).

وقال أيضاً: إذا زنى الذمّي بالمسلمة ضرب عنقه([5]).

وقال ابن ادريس في السرائر: …وكذلك الذمّي اذا زنى بامرأة مسلمة فإنّه يجب عليه القتل على كل حال([6]).

وقال السيّد المرتضى: وممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّ الذمّي إذا زنى بالمسلمة ضربت عنقه([7]).

وكذا أكَّد الحكم ابن سلار([8])، وابن زهرة([9])، وابن حمزة([10])، وغيرهم.

مستند الحكم في المسألة

أما مستند ذلك فأمور:

1ـ الإجماع المدّعى. وقد عرفتَه.

2ـ إن ذلك الفعل من الذمّي هو خروج عن الذمّة.

قال السيّد المرتضى في الانتصار: «والوجه في صحّة قولنا، زائداً على إجماع الطائفة، أنّ هذا الفعل من الذمّي خرق للذمّة، وامتهانٌ للإسلام، وجرأة على أهله. ولا خلاف في أنّ مَنْ خرق الذمة كان مباح الدم»([11]).

3ـ الروايات: ومنها: رواية حنان بن سدير، عن أبي عبد الله× قال: سألتُه عن يهوديّ فجر بمسلمة؟ قال: يقتل([12]).

ومنها: مرويّة جعفر بن رزق الله، قال: قدِّم إلى المتوكّل رجل نصرانيّ فجر بامرأة مسلمة، وأراد أن يقيم عليه الحدّ، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: قد هدم إيمانه شركه وفعله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا، فأمر المتوكّل بالكتابة إلى أبي الحسن الثالث×، وسؤاله عن ذلك، فلما قدم الكتاب كتب أبو الحسن×: «يضرب حتّى يموت»، فأنكر يحيى بن أكثم وأنكر فقهاء العسكر ذلك، وقالوا: يا أمير المؤمنين، سَلْه عن هذا؛ فإنّه شيء لم ينطق به كتاب، ولم تجئ به سنّة، فكتب: إن فقهاء المسلمين قد أنكروا هذا، وقالوا: لم تجئ به سنّة، ولم ينطق به كتاب، فبيِّن لنا بمَ أوجبت عليه الضرب حتى يموت؟ فكتب×: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ (غافر: 80 ـ 81)، قال: فأمر به المتوكّل، فضُرب حتى مات([13]).

أقول: هذا الحكم لا إشكال فيه؛ لأن أدلته سالمة من الخدشة؛ من جهة كونه مسلَّماً بين الأصحاب بعدما عرفنا آراءهم. وهذا هو الحقّ في المقام.

وكذا ما وجهه السيّد المرتضى من خرق الذمّي الزاني بالمسلمة لعهد الذمة، الموجِب لزوال حصانة دمه؛ لصيرورته حربيّاً، كما هو ظاهر.

وأمّا الروايات فإنّ الأولى تامّة سنداً ودلالة، ولا يضرّ كون حنان بن سدير واقفيّاً بعد اعتماد الأصحاب على رواياته، التي ناهزت الخمسين، في أبواب عديدة، ولا سيما بعد توثيق الشيخ له([14]).

وأما الرواية الثانية فهي ضعيفةٌ بجعفر بن رزق الله؛ لأنّه لم يوثَّق في كتب الرجال، إضافة إلى اضطراب المتن، كما سيأتي.

 

حكم ما لو أسلم قبل إقامة الحدّ عليه

ويتفرَّع على هذه المسألة مسألة أخرى، وهي: هل الحكم كذلك أيضاً ـ أي وجوب إقامة الحدّ ـ في مَنْ تاب وأسلم بعد أن زنى بالمسلمة؟

اختلف الأصحاب في ذلك؛ فذهب المشهور إلى عدم سقوط الحدّ عنه؛ وذهب البعض إلى سقوطه.

قال الشيخ المفيد: فإن أسلم عند إقامة الحدّ عليه قُبل إسلامه، ومضى فيه الحدّ، ويضرب عنقه، ولم يمنع إظهاره الإسلام من قتله. فإنْ كان قد أسلم فيما بينه وبين الله عزّ وجلّ فسيعوّضه على قتله بأكثر ممّا ناله من الألم به، ويدخله الجنة بإسلامه؛ وإن كان إنّما أراد دفع الحدّ عنه بإظهار خلاف ما يبطن من الكفر لم ينفعه ذلك، وأقيم حدّ الله عليه رغم أنفه، وبطلت حيلته في دفع العقاب عنه([15]).

وقال الشيخ: فإنْ أسلم الذمي لم يسقط بذلك عنه الحدّ بالقتل، ووجب قتله على كلّ حال([16]).

وقال ابن إدريس: فإنْ أسلم الذمي لم يسقط بذلك عنه الحدّ بالقتل، ووجب قتله على كل حال([17]).

فأنت ترى أنّ المشهور يوجب عليه الحدّ، سواء أسلم أم لم يسلم.

نعم، قد تكون عبارة المفيد فيها افتراض من ناحية تعبيره بـ «عند إقامة الحد»، الذي قد يوهم أنّ ذلك لا ينفعه ـ أي الإسلام ـ عند إرادة إقامة الحدّ عليه بشكل فعليّ، لا مطلقاً، ولكن الظاهر عدم إرادة ذلك المعنى، وإنّما هو مجرد مسامحة في التعبير ليس إلاّ.

 

دليل المشهور على وجوب إقامة الحدّ عليه

واستدل المشهور لذلك الحكم ـ كما في كشف اللثام ـ بالاستصحاب، وعموم رواية حنان بن سدير، وخبر جعفر بن رزق الله المتقدّم. قال في كشف اللثام: «وإنْ أسلم الذمي بعد ذلك فهل يسقط عنه القتل؟ في المقنعة والنهاية والسرائر والتحرير: لا؛ استصحاباً، وعملاً بالعموم، وبخبر جعفر بن رزق الله»([18]).

إذاً هناك ثلاثة أدلّة تمسَّك بها المشهور لهذا الحكم. ولابدّ من الوقوف عليها لمعرفة صلاحيّتها لإثباته من عدمه.

مناقشة أدلّة المشهور

1ـ أمّا الاستصحاب فلا يمكن التمسُّك به مطلقاً؛ لأنه لا يجري إلاّ بعد ثبوت الزنا الذي يترتَّب عليه ثبوت الحدّ، كما في أصل المسألة المتقدّمة، أمّا قبل ثبوته فلا يجري؛ لأنه لو أسلم بعد أن ثبت عليه الزنا فهنا لو شكّ في بقاء حكم القتل عليه فإنه يستصحب ذلك، بخلاف ما إذا أسلم قبل ذلك، فإنّه حينئذ يجري استصحاب عدم الوجوب؛ لأن الشكّ حينئذٍ في ثبوت القتل عليه، دون سقوطه([19]).

وعليه فإن الاستصحاب لا يفيد عموم الحكم، خلافاً لقول المشهور.

2ـ أمّا عموم موثَّقة حنان بن سدير فإنّها محكومةٌ برواية (جبّ الإسلام)، التي تمنع هذا العموم وتخصِّصه، ولا أقلّ من إحداث شبهة في المقام، مقتضية لرفع الحدّ؛ باعتبار قاعدة (درء الحدود بالشبهات)، الشاملة للشبهات الحكمية والموضوعيّة على التحقيق.

لا يُقال: إنّ حديث الجبّ ليس مرويّاً من طرقنا، بل هو مرويّ من طرق العامّة، فكيف نتمسّك به، ونجعله حاكماً على روايةٍ من طرقنا؟

فإنّا نقول: إنّ المشهور من الفريقين قد عمل بهذا الحديث، وتقبَّلوه في مقام العمل والفتوى تقبّل مَنْ لا يشكّ في صدوره، وهذا كافٍ في المقام([20]).

بالإضافة إلى أنّ هذا الحديث قد روي أيضاً من طرقنا، وإنْ كان مرسلاً أو ضعيفاً.

فقد روي في عوالي اللآلي عن النبيّ| أنّه قال: «الإسلام يجبّ ما قبله»([21]).

وكذا في تفسير عليّ بن ابراهيم، في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا…الآية﴾ (الإسراء: 90)، عن أم سلمة، في حديث، أنّها قالت لرسول الله| في فتح مكة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، سعد بك جميع الناس إلاّ أخي من بين قريش والعرب، رددتَ إسلامه، وقبلت إسلام الناس كلّهم، فقال رسول الله|: يا أم سلمة، إنّ أخاك كذّبني تكذيباً لم يكذِّبني أحدٌ من الناس، هو الذي قال لي: «لن نؤمن لك…، إلى قوله: كتاباً نقرأه، قالت أم سلمة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ألم تقُلْ: الاسلام يجبّ ما قبله؟ قال: نعم، فقبل رسول الله| إسلامه([22]).

فهاتان الروايتان قد ذكرتا من طرقنا, ولا يضرّ ضعفها بعد ثبوت مفادهما؛ لأن عمل الأصحاب وقبولهما بمضمونهما كافٍ في جبران الضعف، كما هو مبناهم في ذلك.

3ـ وأما رواية جعفر بن رزق الله فقد عرفتَ أنّها من حيث السند ضعيفة، وكذا من حيث المتن؛ فإنه مضطرب؛ لأنها تذكر بأنّ الإمام قال: «يضرب حتى يموت»، في حين إنهم متّفقون على أنّ حدّه القتل. ومن الوضح أنّ هناك فرقاً بين الضرب حتى الموت، الذي يكون بالعصى أو غيرها، وبين القتل الذي يكون عادة بأداة القتل، كالسيف ونحوه.

أضِفْ إلى ذلك أنّ القدر المتيقَّن من هذا الحكم إنّما هو خصوص مَنْ ثبت عليه الزنا، وتمكن الحاكم منه، لا مطلقاً. فإذا فرضنا أنّه أسلم قبل أن ترفع دعواه إلى الحاكم والتمكُّن منه فلا يمكن التمسُّك بهذه الرواية حينئذٍ؛ لشكّنا في أنها في خصوص مورد السؤال أو مطلقة، ولا مرجِّح للإطلاق من نفس الرواية، بل الثابت هو العكس؛ حيث إنّ القرائن الحافّة بالخبر ترجِّح فيما إذا ما تمكَّن الحاكم منه، لا مطلقاً.

ومن جميع ما تقدّم يتلخّص عندنا أنّ الأقوال في المسألة أربعة:

الأوّل: إقامة الحدّ عيه مطلقاً؛ تمسُّكاً بما ذكرناه.

الثاني: سقوط الحدّ عنه مطلقاً؛ لرواية (الإسلام يجبّ ما قبله)، والاحتياط بالدماء.

الثالث: التفصيل بين ما إذا كان إسلامه حقيقيّاً صادقاً نابعاً من إيمان واعتقاد فلا يقام عليه الحدّ، وبين أن يكون إسلامه شكلياً؛ لأجل دفع الحدّ عنه، فيُقبَل منه، ولكن يقام الحدّ عليه، ويُعرف ذلك من القرائن.

الرابع: التفصيل بين أن يكون إسلامه قبل ثبوت الزنا عليه وتمكّن الحاكم منه فلا يقام عليه الحدّ، وبين أن يكون بعد ذلك فيُقام عليه الحدّ.

 

الرأي المختار في المسألة

والذي يترجَّح عندي هو القول الرابع؛ تمسكاً بالاحتياط في الدماء في الحالة الأولى ـ أعني إسلامه قبل ثبوت الزنا عليه، أو تمكُّن الحاكم منه ــ، إضافة إلى الشكّ في شمول الدليل ـ أعني رواية ابن سدير، والاستصحاب ـ له في تلك الحالة.

وأما في الحالة الثانية ـ أي إسلامه بعد ثبوت الزنا عليه أو تمكُّن الحاكم منه ـ فالظاهر جريان الحكم المشهور عليه؛ لأنّه القدر الثابت في إطلاق رواية ابن سدير، والشكّ في حاكمية حديث الجبّ للمقام، إضافة إلى الاستصحاب الشامل لهذه الحالة كما عرفتَ، فتأمَّلْ.

 

2ـ حكم الذمّي اذا تزوَّج من المسلمة

المسألة الثانية: لو عقد الذمّي على مسلمة، ودخل بها، فما هو حكمه؟ هل يلحق بحكم المسألة الأولى، وهو القتل، أو ماذا؟

هذه المسألة تتصوَّر على أنحاء أربعة:

الأوّل: أن يكون الذمّي جاهلاً بالحكم والموضوع معاً.

الثاني: أن يكون جاهلاً بالحكم، وعالماً بالموضوع.

الثالث: أن يكون جاهلاً بالموضوع، وعالماً بالحكم.

الرابع: أن يكون عالماً بالحكم والموضوع.

هذه هي الصور التي يمكن تفريعها من المسألة، فما هو الحكم فيها؟

لا شكّ أن العقد باطلٌ في جميع الصور، فتنتفي كلّ الآثار الشرعيّة المترتّبة عليه، إلا بعض الآثار على بعض الصور، كإلحاق الولد بأبيه إذا كانت المرأة جاهلةً كذلك، وإلاّ ففيه بحثٌ.

وأما الحكم بالحدّ أو عدمه في هذه الصور فهو كما يلي:

النحو الأوّل: إذا كان الذمّي جاهلاً بالحكم والموضوع فهنا لا شكّ في سقوط الحدّ عنه؛ ضرورة أن التكليف مشروطٌ بالعلم، والمفروض انتفاؤه في المقام.

النحو الثاني: إذا كان عالماً بالحكم، وجاهلاً بالموضوع، فهنا يكون الحكم كسابقه؛ لأنه لو كان عالماً بأن هذه المرأة مسلمة لما أقدم على العقد عليها والدخول بها. ويكفينا الاحتمال والشبهة في سقوط الحدّ عنه؛ لعمومات أنّ الحدود تدرأ بالشبهات، وغيرها من الضرورات المنطبقة على المقام.

النحو الثالث: إذا كان جاهلاً بالحكم، وعالماً بالموضوع، فالحكم فيه كسابقه، لأنّ الذمّي في تلك الحالة وإن كان عالماً بأن هذه المعقودة مسلمة، ولكنه جاهلٌ بعدم جواز عقده عليها، فلا معنى لإقامة الحدّ عليه رغم جهله بالحكم، فالحكم فيه هو نفس الحكم في الحالة الثانية بلا فرق.

النحو الرابع: أن يكون عالماً بالحكم ـ وهو المنع من زواج الذمّي بالمسلمة ـ، والموضوع ـ وهو أن هذه المرأة مسلمة ـ، ففي تلك الحالة ينطبق عليه المسألة الأولى، وهو وجوب اقامة الحدّ عليه قتلاً، على التفصيل الذي مرّ في ما سبق.

والمستند في ذلك هو عدم الفرق بين الزاني بالمسلمة بالإكراه أو بالرضا وبين هذا؛ لعلمه ببطلان العقد، ومعه يكون النكاح زناً، كما هو واضح، فيستوجب به إقامة الحدّ عليه.

نعم، قد يفصِّل البعض بين ما إذا كان جهله ناتجاً عن تقصير أو عن قصور، فيستحقّ مع الأوّل الحدّ، دون الثاني.

ولكن هذا التفصيل ليس بجيِّد؛ لأن التكليف مشروطٌ بالعلم، والجاهل خارج عنه، سواء أكان عن قصور أو تقصير، وإلا لو عمَّمنا هذا الحكم للزم دخول الكثير من المصاديق في أحكامٍ عديدة فيه، وهذا خلاف القواعد وعمومات الأدلّة، كما هو واضح.

نعم، يمكن أن يعنَّف بالكلام في حال كان جهله عن تقصير، حتّى لا يعاود أموراً أخرى مشابهة، وهذا غير إقامة الحدّ، فتأمَّلْ.

 

3ـ حكم الذمّي إذا زنى بذمّية

المسألة الثالثة: إذا زنى الذمّي بالذمية فما هو الحكم؟

ذهب المشهور إلى أنّ الإمام في تلك الحالة مخيَّر بين إقامة الحدّ عليه بموجب شرع الإسلام وبين أن يسلِّمه إلى أهل ملّته يحكمون عليه بمقتضى شرعهم. وهذا الحكم ثابتٌ من دون استثناء.

أكَّد ذلك المحقِّق في الشرائع، والعلاّمة في القواعد، وابن العلاّمة في الإيضاح، والشهيد الثاني في المسالك، والفاضل الهنديّ في كشف اللثام، وصرَّح صاحب الجواهر بعدم الخلاف فيه([23])، وكأنّ المسألة مسلَّم بها عند الاصحاب؛ باعتبار أن ذلك مطابقٌ أو مستلزمٌ للوفاء بعهدهم لشرائط الذمة، فمقتضى كونهم من أهل الذمّة، متعهِّدين بشرائطها، ملتزمين بأداء الجزية وغير ذلك من الأمور المشروطة عليهم، هو كونهم في ذمّة الإسلام، وفي أمن وأمان وراحة وسلام، وعدم إجبارهم على الالتزام بمقرَّرات الإسلام وآدابه، وعدم إلزامهم بأحكام المسلمين، فلهم أن يعملوا بما هو مقتضى مذهبهم. فترى أنّ من أهمّ الواجبات على المسلمين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب حمل تاركي الصلاة على الإتيان بها، وهكذا بالنسبة إلى سائر شعائر الإسلام، ولكن لا يجوز ذلك بالنسبة إلى أهل الذمّة، وليس للمسلمين إجبارهم على الصلاة وغيرها؛ فإنّ الإسلام يتركهم وما يدينون، ولهم أن يعيشوا في ظل الإسلام آمنين مطمئنّين. وهذا من الحقوق التي أوجب عقد الذمّة لهم علينا، وعلى هذا فيجوز للحاكم إرجاعهم في المرافعات إلى حكّامهم([24]).

ومع ذلك فإنّ الكتاب والسنّة أكدت هذا الحكم.

 

أوّلاً: الكتاب المجيد

استدلّ لهذا الحكم من الكتاب المجيد بقوله تعالى في شأن اليهود: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة: 42)، فإن الظاهر من الآية الكريمة أنّ النبي| مخيَّر بين أن يحكم هو بنفسه بينهم إذا جاؤوه أو يعرض عنهم حتّى يحكم بينهم حكّامهم.

أكَّد ذلك جملةٌ من مفسِّري الإماميّة، كالشيخ في التبيان([25])، الذي أكَّد أن الظاهر في رواياتنا أنه حكم ثابت، والتخيير حاصل. ثم نقل اختلاف العامّة فيها، بين مَنْ يقول بقولنا وبين مَنْ يعتقد أنها نسخت بقوله تعالى: ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ (المائدة: 49)، فنسخ الاختيار، وأوجب الحكم بينهم بالقسط.

وقال السيّد الطباطبائي في الميزان: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ…الآية﴾ تخييرٌ للنبي| بين أن يحكم بينهم إذا حكَّموه أو الإعراض عنهم. ومن المعلوم أن اختيار أحد الأمرين لم يكن يصدر منه| إلاّ لمصلحة داعية، فيؤول إلى إرجاع الأمر إلى نظر النبيّ| ورأيه، ثم قرَّر تعالى هذ التخيير بأنّه ليس عليه| ضررٌ لو ترك الحكم فيهم أو أعرض عنهم، وبيَّن له أنه لو حكم بينهم فليس له أن يحكم إلاّ بالقسط والعدل، فيعود المضمون بالآخرة إلى أن الله سبحانه لا يرضى أن يجري بينهم إلاّ حكمه، فإمّا أن يجري فيهم ذلك، أو يهمل أمرهم فلا يجري من قبله| حكمٌ آخر([26]).

مقتضى التحقيق في المسألة

هذا هو رأي المشهور في المسألة، إلاّ أنّ هناك مجالاً للتأمُّل في إطلاق الحكم بالتحذير؛ فإن مقتضى التحقيق أن المستفاد من الآية المباركة هو أنّ هؤلاء إذا ترافعوا إلى النبي| فهو بالخيار، إما أن يحكم بينهم بشرع الإسلام، وهو القسط، أي العدل، في الآية، وإما أن يرجعهم إلى حكّامهم، فيحكمون فيهم بحكم الله الموجود في التوراة مثلاً، وهو القود أو الحدّ؛ بقرينة الآية التي بعدها، أعني قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (المائدة: 43).

فهذه الآية تبيِّن أن التوراة التي بين أيديهم، وإنْ كانت محرَّفة في الجملة، إلاّ أنّ فيها بقايا من الأحكام الإلهيّة المشرَّعة على لسان كلّ الأنبياء، فهم حينئذٍ يستطيعون الرجوع إليها ليجدوا الحكم الإلهيّ.

وبهذا يتَّضح لماذا يجوِّز الله سبحانه للنبي| الإعراض عنهم؛ فإنّ هذا الإعراض ليس معناه ترك المسألة فوضى؛ لأن ذلك مضرٌّ بمصلحة الدولة الإسلاميّة؛ ضرورة أنّ انتشار الفساد والانحراف عند أولئك موجبٌ للخلل في المجتمع عامّة، فلا يمكن بحكم العقل والشرع أن يترك من قبل المولى تبارك وتعالى أو نبيّه|؛ لأنه نقض للغرض الذي جاء من أجله الإسلام العظيم، وهو إصلاح الأفراد والمجتمعات الإنسانيّة عامّة.

ومن هنا يتبين أنّه إذا علم النبيّ أو الإمام بأنّ أهل ملّتهم لن يحكموا بينهم بالقسط، ولن يقلعوا مادة الفساد، فيسقط حينئذٍ التخيير، وتصل النوبة إلى التعيين.

والمتأمّل في الآيات التي بعد هذه الآية يعلم بأن هذا الحكم وغيره ثابتٌ في كتبهم، وهم يعلمونه تمام العلم، ومن الواجب عليهم أن يحكموا على طبقه، فإذا لم يفعلوا تعيَّن على النبي| أن يتصدّى لذلك، ويحكم بنفسه.

انظر إلى قوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً…﴾ (المائدة: 42ـ 48).

فالذي يظهر من التأمل في الآيات أن وظيفة النبي| التخيير إذا كان حكّامهم قادرين على تنفيذ حكم الله الموجود في كتبهم، وأما في حالة العجز عن ذلك، أو الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، فيتوجَّب على النبيّ أن يتصدّى هو لذلك، كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ﴾.

وبهذا البيان يرتفع الإشكال في التنافي بين التخيير وبين التعيين الوارد في الآية 42 والآية 50. ولا حاجة لنا إلى علاجاتٍ بعيدة جدّاً عن الذوق القرآنيّ، أو التأمّل في معانيه العالية، كما فعل بعض مَنْ اعتقد النسخ في الآية الأولى بالثانية، ولا حاجة كذلك إلى الجمع بحمل الأولى على ذكر عدلي التخيير، والثانية على ذكر واحد منها خاصّة، كما فعل بعض الأعاظم([27])، أو إنكار كون (أو) في الآية للتخيير، كما فعل المحقِّق الأردبيلي&([28])، فتأمل.

 

ثانياً: السنّة

أما الروايات فهي كما يلي:

1ـ عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر×، قال: «سألتُه عن يهوديّ أو نصرانيّ أو مجوسيً أخذ زانياً أو شارب خمر، ما عليه؟ قال: يُقام عليه حدود المسلمين، فعلوا ذلك في مصر من أمصار المسلمين أو في غير أمصار المسلمين، إذا رفعوا إلى حكّام المسلمين»([29]).

2ـ عن أبي بصير قال: «سألتُ أبا عبد الله× عن دية اليهود والنصارى والمجوس؟ قال: هم سواء، ثمانمئة درهم. قلتُ: إن أخذوا في بلاد المسلمين وهم يعملون الفاحشة أيُقام عليهم الحدّ؟ قال: نعم، يحكم فيهم بأحكام المسلمين»([30]).

3ـ عن إسماعيل بن زياد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه^، أنّ محمد بن أبي بكر كتب إلى عليّ×: «في الرجل زنى بالمرأة اليهوديّة والنصرانية؟ فكتب× إليه: إنْ كان محصناً فارجمه، وإنْ كان بكراً فاجلده مئة جلدة، ثم انْفِهِ، وأمّا اليهوديّة فابعث بها إلى أهل ملّتها، فليقضوا فيها ما أحبّوا»([31]).

4ـ عن أبي بصير، عن أبي جعفر× قال: «إنْ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة والإنجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه، إنْ شاء حكم بينهم، وإنْ شاء تركهم»([32]).

 

مناقشة الروايات

هذه هي الروايات التي يمكن أن يستفاد منها في المقام. والكلام فيها كما يلي:

مناقشة الرواية الأولى

أما بالنسبة إلى الرواية الأولى فالمستفاد من ظاهرها هو تعيُّن الحكم عليهم بحكم الإسلام. ولذا استشكل السيّد الخوانساري في المسألة([33])، على الرغم من تأكيد صاحب الجواهر عدم المنافاة بين هذا الخبر وبين ما تقدّم من عدم الخلاف في التخيير([34]).

ويستفاد من النظر في الرواية أنّ السؤال كان عن الكتابي الذي يؤخَذ وهو متلبِّس بالزنا، أو بشرب الخمر، وكان جواب الإمام بإقامة الحدّ عليه وفق حدود المسلمين، ثم بيَّن الامام أنّ هذا الحكم ـ وهو إقامة الحدّ الإسلاميّ عليه ـ ثابتٌ في حالتين: الأولى: إذا فعلوا ذلك في مصر من أمصار المسلمين، والثانية: إذا فعلوا ذلك في غير البلاد الإسلاميّة، ثم قال: إذا رفعوا إلى حكّام المسلمين.

 

احتمالات أربعة في الرواية

وحينئذٍ يمكن أن نطرح عدة احتمالات في المسألة، لابدّ من الوقوف عليها:

الأوّل: أن يكون الحكم بإقامة الحد الإسلاميّ عليه مطلقاً، سواءٌ كان في أرض المسلمين أو في غيرها، وجده المسلمون متلبِّساً بالجرم أو ثبت عليه ذلك بالبينة.

الثاني: التفصيل بين مَنْ فعل ذلك في البلد الإسلاميّ وبين غيره، فيحكم بالحدّ الإسلاميّ في الأوّل على نحو الوجوب، ويحكم عليه كذلك في الثاني إذا رفعوا أمرهم إلينا.

الثالث: التفصيل بين مَنْ وُجد متلبِّساً بالجرم في البلد الإسلاميّ من قبل المسلمين، كما يستفاد من قول السائل: «أخذ زانياً»، وبين مَنْ لم يوجد متلبِّساً وإنّما أقيمت عليه البينة، فيحكم الأوّل بالحدّ الإسلاميّ، والثاني إذا رفعوا أمرهم إلينا.

الرابع: إن كلا الرجلين ـ أعني سواء وجد متلبِّساً بالجرم في البلد الإسلاميّ أو غيره ـ تتوقَّف إقامة الحدّ الإسلاميّ عليه على رفع أمرهم إلينا، كما قد يستفاد من ذيل الرواية «إذا رفعوا إلى حكّام المسلمين»، فإنه يمكن أن يكون هذا القيد عائداً على كلتا الصورتين.

المختار من هذه الاحتمالات

أمّا الاحتمال الأوّل فبعيدٌ؛ ضرورة أن المسلمين غير مسؤولين عن غير بلادهم في إقامة الحدود أو غير ذلك، وهذا واضح.

وأما الاحتمال الثاني فهو كذلك؛ لأن مجرد الزنا وشرب الخمر من قبلهم لا يستوجب ذلك؛ ضرورة أنّنا حين أعطيناهم الذمّة، وأخذنا منهم الجزية، أقررناهم على دينهم، وكافّة السلوكيّات المنسجمة مع ذلك الدين. ومن المعروف أن شرب الخمر من المباحات عندهم، فكيف نلزمهم بما نلزم المسلمين في ذلك؟! هذا مخالفٌ لعهد الذمّة بيننا وبينهم.

أما الاحتمال الثالث فهو الأقرب؛ لأننا نحمل فعل ذلك الشخص، سواءٌ أكان زانياً أو شارب خمر، على المجاهرة العلنية بهذا الجرم، مع أخذه متلبِّساً به، فحينئذ يقام عليه الحدّ الإسلاميّ؛ لأنه مخالفٌ لعهد الذمّة من الأساس، ومستهترٌ بالمجتمع الإسلاميّ، وناشرٌ للفساد والانحراف فيه، فيطبَّق عليه الحدّ الإسلاميّ لذلك.

هذا في الصورة الأولى، وأما الصورة الثانية فإنّه لم يؤخَذ متلبِّساً بالجرم، وإنّما أقيمت عليه البينة من قبل أهل ملّته، وقد رفعوا أمرهم إلينا، فهنا من الجائز للحاكم المسلم أن يقيم عليه الحدّ، أو أن يرجعه إلى أهل ملّته يحكمون عليه على طبق دينهم، كما أسلفنا.

وأما الاحتمال الرابع فهو غير بعيد؛ حيث إنّ القيد المذكور في آخر الرواية يمكن أن يشمل الصورتين، أعني مَنْ أخذ في بلاد المسلمين أو غيرها، إذا رفعوا أمرهم إلينا.

فتكون المسألة بهذا الشكل: إذا فعل ذمّي جرماً في نظر دينه، كشرب الخمر أو الزنا، ورفعوا أمرهم إلينا، فيحكم حاكم المسلمين بالحدّ الإسلاميّ عليه.

وعلى هذا الأساس لا يوجد قطعٌ في الحكم مع وجود هذه الاحتمالات، ولا سيما الاحتمالين الرابع والثالث.

وكيف كان فإنّ هذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها؛ لوجود عبد الله بن الحسن في سندها، وهو مجروحٌ في كتب الرجال.

مناقشة الرواية الثانية

وأما الرواية الثانية فمفادها أنّ أهل الكتاب أخذوا في بلاد المسلمين وهم يعملون الفاحشة؛ إذ الظاهر أنّ هؤلاء ينشرون الفساد في المجتمع بشكل علنيّ، مخالفين بذلك عهد الذمّة الذي أبرم معهم. ومن هنا كان جواب الإمام× بأنّه يحكم عليهم بأحكام المسلمين؛ لأن هذه الجريمة ليست متعلّقة بالجانب الشخصي من حياتهم، وإنّما هي إهانة للمجتمع الإسلاميّ، وخرق للقوانين الإسلاميّة السائدة في البلاد الإسلاميّة، فيجب على الحاكم الإسلاميّ ردعهم ومعاقبتهم على طبق القانون الإسلاميّ.

ولا يُقال: إنّ هذه الرواية كالنصّ في التعين؛ لأنّنا نقول: إنّ مضمونها مضمون الرواية السابقة من حيث الجانب المتعلّق بإهانة المجتمع الإسلاميّ، ونقض عهد الذمة، لا أنّها كذلك حتّى وإنْ كان ما يصدر عنهم بعيداً عن الخدش في المجتمع الإسلاميّ.

نعم، كما ذكرنا سابقاً، إذا رأى الحاكم الإسلاميّ أنّ حكامهم لا يردعونهم، ولا يقلعون مادّة الفساد، فيجب عليه في تلك الصورة المبادرة إلى إجراء أحكام الإسلام.

 

مناقشة الرواية الثالثة

وأما الرواية الثالثة فهي تتحدَّث عن حكمين لموضوعين: الأوّل: المسلم الزاني باليهوديّة؛ والثاني: اليهوديّة المزني بها.

أمّا المسلم فلا شكّ في ثبوت الحكم عليه، وهو الجلد إذا كان غير محصن، والرجم إذا كان محصناً. وليس البحث هنا، وإنّما هو في اليهوديّة؛ حيث نرى أن الإمام أوجب على محمّد بن أبي بكر ـ الذي كان هو الحاكم الإسلاميّ ـ أن يبعث بها إلى أهل ملّتها، ليقضوا فيها ما أحبّوا.

والتأمُّل في الرواية يوقفنا على أمور:

1ـ إنه لا فرق بين اليهوديّة واليهوديّ، ولا بين اليهوديّ وغيره من أهل الكتاب؛ لأن الحكم في الجميع واحدٌ من هذه الجهة، فلا خصوصية للأنثى في المسألة، ولا لدينٍ معين.

2ـ أمر الإمام بإرجاع هذه اليهوديّة إلى أهل ملتها، وهذا الحكم مخالفٌ للتخيير، فلماذا لم يقُلْ الإمام لمحمد بن أبي بكر بأنَّك مخيَّرٌ فيها بين إجراء الحكم الإسلاميّ وبين إرجاعها؟

ولكن يمكن الإجابة عن هذا الإشكال ـ بعد النظر في ما بحثناه سابقاً ـ بأنّ الظاهر أن هذه الجريمة ـ وهي الزنا ـ قد وقعت في مجالٍ خاصّ، فإنّ من الممكن أن هذا المسلم قد تسلَّل إلى بيت تلك اليهوديّة برضاها، وفعل معها تلك الفاحشة، وقد أقيمت عليهم البيِّنة أو اعترفوا هم بذلك، أو أنّ أهل ملتها رفعوا أمرهم إليه. كلّ ذلك ممكنٌ، ولا يوجد في الرواية قرينةٌ تعيِّن شيئاً منها. وبالتالي لا يمكن أن نستفيد أكثر من الحكم العامّ في المسألة؛ لأنه من الممكن أن الامام أمره بإرجاعها إلى أهل ملتها؛ لأنهم لم يرفعوا المسألة إلينا، وإنّما سأل محمدُ بن أبي بكر الإمامَ عن كيفية التعامل في مثل هذه الحالة، فأجابه الإمام بهذا الجواب.

3ـ هناك إشكال في هذه الرواية من جهة ذيلها؛ فإن الإمام قال له بشأن هذه اليهوديّة: «فابعث بها إلى أهل ملّتها، فليقضوا فيها ما أحبّوا». وكلمة «ما أحبّوا» تشمل ما إذا كان هذا الحكم إلهيّاً أو غير إلهيّ. ومن الواضح أن الحكم الذي لا يستند إلى العدل والحقّ جورٌ وظلم لابدّ للإمام من النهي عنه.

والجواب عن ذلك أن مفاد «ما أحبّوا» لا تعني التخيير مطلقاً، وإنّما تعني التخيير في دائرة الحكم الشرعيّ، كما يتخيَّر الامام في اللائط بين القتل أو الحرق أو الرمي من شاهق، فيمكن أن يحمل الأمر على ذلك.

ويحتمل كذلك أنّ الامام يريد أن ينبِّه السائل إلى أنّ إقرار الإسلام أهل الكتاب على دينهم يتضمَّن إقرارهم على قضائهم، وبالتالي قد يكون قضاؤهم غير مرضيّ ومحبوب لنا، ولكنّ هذا لا ينافي وجوب دفع أصحابهم إليهم؛ بمقتضى العهد والذمّة بيننا وبينهم.

وعليه لا تنافي هذه الرواية ما قدَّمناه، ولا سيما مع الجمع بينها وبين ما سبق، فتأمَّل.

 

مناقشة الرواية الرابعة

أمّا الرواية الرابعة فهي نصٌّ بالتخيير، كما هو واضح. وقد علق على هذه الرواية ابن إدريس& قائلاً: هذا خبرٌ صحيحٌ، وعليه إجماع أصحابنا منعقدٌ؛ لأنّ الحاكم بالخيار في ذلك، إنْ شاء حكم، وإنْ شاء ترك، ولا يجب عليه الحكم، إلا أنّه إنْ حكم فلا يجوز له أن يحكم إلاّ بما تقتضيه شريعة الإسلام وعدله، ولا يجوز له أن يحكم إلاّ بالحقّ؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ (المائدة: 47)، وإنْ شاء أعرض عنهم؛ لقوله تعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾. فقد خيَّره في ذلك([35]). وأكَّد ذلك العلاّمة في المنتهى بتفصيل([36])، وصاحب الجواهر في جواهره([37]).

 

المختار النهائيّ في حكم المسألة

ومن جميع ما مرّ من الكتاب والسنّة تكون النتيجة كما يلي:

1ـ إذا زنى الذمّي بالذمّية، وترافعوا إلى حكّامهم، كان حكمهم ماضياً بلا إشكال.

2ـ إذا زنى الذمّي بالذمّية، وترافعوا إلى الحاكم الإسلاميّ، فهو بالخيار: إنْ شاء حكم فيهم بحكم الإسلام؛ وإنْ شاء أعرض عنهم، بمعنى إرجاعهم إلى حكّامهم، يحكمون عليهم، بشرط أن يكون موافقاً لدينهم.

3ـ إذا زنى الذمّي بالذمّية في محيط مخصوصٍ بهم، كالقرية أو الحيّ أو المدينة الخاصّة بهم، ولم يتصدَّ حكّامهم لإقامة الحدود الإلهيّة عليهم، لزم على الحاكم الإسلاميّ التصدّي لذلك؛ قطعاً لمادة الفساد والمنكر.

4ـ إذا زنى الذمّي بالذمّية في محيطٍ ومجتمع غير مخصَّص لهم، بل بشكل عامّ، ووُجدوا متلبِّسين بجرمهم، تعيَّن على الحاكم الإسلاميّ إقامة الحدود الإسلاميّة عليهم.

5ـ إذا زنى الذمّي بالذمّية في خارج حدود الدولة الإسلاميّة، وترافعوا إلى الحاكم الإسلاميّ، فهو بالخيار كالمسألة الثانية. وإذا لم يترافعوا إلينا فليس للحاكم الإسلاميّ متابعتهم لإقامة الحدود الإسلاميّة عليهم.

هذا ما يمكن أن نستفيده من الأحكام في هذه المسألة، من خلال النظر في الكتاب والسنّة وغيرهما، والله العالم.

4ـ حكم المسلم والذمّية إذا زنيا

المسألة الرابعة: لو زنى المسلم بذمّية فما هو حكمهما؟

قد عرفتَ الجواب ممّا بيَّنّاه في المسألة الثالثة، وهو إقامة الحدّ على المسلم بحسبه، إن كان غير محصن جُلد، وإن كان محصناً رُجم، وأمّا الذمية فترسل إلى أهل ملّتها، يحكمون فيها بحكمهم، إنْ كانت مطاوعةً له، كما ذكرنا، فلا نعيد.

 

5ـ حكم الذمّي اذا لاط بمسلم

المسألة الخامسة: قال المحقّق في الشرائع: «ولو لاط الذمّي بمسلم قتل، وإنْ لم يوقب»([38]).

 

التفصيل بين الإيقاب وعدمه

لواط الذمّي بالمسلم تارةً يكون مع الإيقاب، وأخرى بدونه.

أمّا معه فلا كلام لنا في وجوب قتله؛ لأنه ليس بأدنى من المسلم إذا فعل ذلك فأوقب.

ولكنّ الكلام فيما إذا لم يوقب، وإنّما كان لواطه تفخيذاً أو غيره، فهل الحكم كذلك، أي القتل؟

أكَّد ذلك المحقِّق في الشرائع والمختصر([39])، والفاضل الآبي في كشف الرموز([40])، والعلاّمة في التحرير([41])، والتبصرة([42])، وابن فهد في المهذّب([43])، والسيد الطباطبائي في الرياض([44])، وادَّعى في الجواهر عدم الخلاف فيه([45])، إلى غير ذلك.

إذاً المسألة كأنّها أخذت أخذ المسلَّمات بين الفقهاء؛ مستندين بذلك إلى أن الذمّي إذا فعل ذلك هتك حرمة الإسلام، وخرج عن كونه ذمّياً مصون الدم، فيكون حربيّاً مستحقّاً للقتل.

ولكنّ التحقيق يقتضي النظر في ماهية الدليل الموجِب لقتله ـ مع عدم الإيقاب ـ؟

فإنْ كان هو الإجماع الكاشف عن قول المعصوم فهو كالنصّ في الحكم، فلا كلام بعده. ولكنّ تحقُّق الإجماع بهذا الشكل ليس وارداً في المسألة، وإلاّ لبان. وأمّا مجرد عدم الخلاف فيه فهو لا يدلّ على ذلك الإجماع ـ أعني الكاشف عن قول المعصوم ـ.

وعلى أيّ حال إذا ثبت الإجماع فالحكم كما قالوه، وإلاّ فالمسألة في غاية الإشكال مع عدمه ـ أي عدم الإيقاب ـ؛ للاحتياط في الدماء، ولعظمة القتل في الإسلام.

 

إشكالاتٌ وردود

قد يُقال: إنّ الذمّي يستحقّ ذلك، وإنْ لم يقُمْ الإجماع عليه؛ لأنه بفعل ذلك قد هتك حرمة الإسلام، فلا ريب في استحقاقه للقتل.

وفيه: إنّ ما فعله الذمّي وإنْ كان هتكاً لحرمة الإسلام، إلاّ أنّ الكلام ليس في ذلك، وإنّما هل أنّه بذلك يستحقّ القتل أو لا؟ وهل يوجد دليلٌ معتبرٌ على أنّ كل من هتك حرمة الإسلام وبأيّ شكلٍ كان يستحقّ القتل؟ فيه تأمُّل؛ لعدم الدليل على ذلك، بل ربما أمكن الاستفادة من رواية عبادة بن صهيب، الآتية في المسألة السابعة، أنّ حكم مَنْ هتك حرمة الإسلام هو ثمانون سوطاً، إلاّ سوطاً.

قد يُقال: إنّه بفعل ذاك خرج عن كونه ذمّياً مصون الدم، وصيَّر نفسه حربياً مهدور الدم، فيستحقّ حينئذٍ القتل.

وفيه: لا إشكال في كونه بفعله هذا قد خرج عن ذمّة الإسلام، وصيَّر نفسه حربيّاً، ولكن هل أنّ كلّ حربي يُقتَل؟ يلزم من ذلك أنّه كلّما ظفر المسلم بكافر ليس من أهل الذمّة قتله؛ لأنه مهدور الدم، مستحقّ للقتل، فهل يمكن الالتزام بذلك مطلقاً؟ فيه تأمُّلٌ أيضاً، ولا سيما مع عدم القطع بصيرورته حربيّاً بالمعنى المتعارف.

وعليه فالظاهر أن المسألة مع عدم تحقُّق الإجماع في غاية الإشكال، ولابدّ للفقيه من اختيار وسيلة أخرى للردع والعقوبة غير هذه، والله العالم.

 

6ـ حكم الذمّي اذا لاط بالذمّي

المسألة السادسة: إذا لاط الذمّي بالذمّي فالإمام بالخيار؛ إنْ شاء أقام حدّ الإسلام عليه؛ وإنْ شاء دفعه إلى أهل ملّته، ليقيموا عليه الحدّ وفق شرعهم.

أكَّد ذلك المفيد في المقنعة([46])، وجميع مَنْ ذكرناهم في المسألة السابقة. وحكم هذه المسألة كحكم زنا الذمّي بالذمّية ـ بالنسبة إلى كون الحاكم بالعقوبة هو المسلم على طبق دينه، أو أهل الذمة على طبق دينهم ـ بلا فرق، فلا نطيل الكلام فيها؛ لعدم وجود نصّ خاصّ في المسألة.

 

7ـ حكم الذمّي اذا قذف مسلماً

المسألة السابعة: لو قذف الذمّي المسلم، أو عرّض به، فما هو الحكم؟

اختلف الفقهاء، تبعاً للروايات، في حكم المسألة.

قال المفيد في المقنعة: إنّ الذمي في مثل هذه الحالة يقتل على كل حال([47]). وتبعه على ذلك سلار([48]).

وقال ابن إدريس: إذا قذف الذمّي مسلماً قتل؛ لخروجه عن الذمة بسبّ أهل الإيمان([49]). وأيَّده أبو الصلاح في تعليله([50]).

وقال العلاّمة في المختلف: والمعتقد أن نقول: إن شرط عليه الكفّ خرق الذمة، وإلاّ فلا. ويؤيِّده ما رواه أبو بصير، قال: حدّ اليهوديّ والنصرانيّ المملوك في الخمر والفرية سواء، إنّما صولح أهل الذمّة أن يشربوها في بيوتهم([51]).

وعن يونس قال: سألتُه× عن اليهوديّ والنصرانيّ يقذف صاحب ملّة على ملته، والمجوسيّ يقذف المسلم، قال: يجلد الحدّ([52]).

وعن عبادة بن صهيب قال: سُئل أبو عبد الله× عن نصرانيّ قذف مسلماً، فقال له: يا زانٍ؟ فقال×: عليه ثمانون جلدة؛ لحقّ المسلم، وثمانون سوطاً إلاّ سوط؛ لحرمة الإسلام، ويحلق رأسه، ويطاف به في أهل دينه؛ لكي ينكل غيره([53]).

أقول: تلخَّص ممّا مضى، أن المسألة خلافيّة بين الفقهاء كما يلي:

الأوّل: المفيد ومَنْ تبعه يذهبون إلى القتل مطلقاً. ولم يذكروا مستند الحكم.

الثاني: قول ابن إدريس بالقتل كذلك، معلِّلاً بخرقه للعهد والذمة.

الثالث: قول العلاّمة بالتفصيل بين من اشترط عليهم ذلك ضمن عهد الذمة، فيحكم عليه بالقتل، وبين عدم الاشتراط، فيحدّ كما يحدّ المسلم.

وأما الروايات فهي كذلك مختلفة؛ فرواية أبي بصير توجب عليه حدّ شارب الخمر، وكذا رواية يونس؛ وأما رواية صهيب ففيها إضافة إلى الحدّ السابق حدّ آخر، وحكم بحلق رأسه، والطواف به في أهل دينه.

 

مناقشة أقوال الفقهاء

أمّا قول المفيد ومَنْ تبعه فهو تحكّم صرف، بل هو خلاف الروايات جميعاً، كما هو واضح.

وأما قول ابن إدريس وأبي الصلاح فهو وإنْ كان معلَّلاً بخرق الذمّة، إلاّ أنه ليس كافياً في هدر الدم، إضافة إلى كونه مخالفاً للروايات.

وأما قول العلاّمة ـ الذي يفصِّل بين أخذ العهد منهم بذلك، فيستحقّ به القتل، وبين عدمه، فلا يستحق إلاّ الحدّ ـ فهو وإنْ كان أقرب من القولين الأوّلين، إلا أنه مخالف للروايات في شقّه الأوّل؛ لأنّه مجرّد استحسان، أو عدم إرادة المخالفة الكلية لمَنْ قبله من الأعلام.

والحقّ أنّ الروايات لم تفصِّل بين كونهم متعهِّدين بذلك أو لا، بل أخذُ قيد التعهُّد ليس وارداً أصلاً؛ ضرورة أن العهد المأخوذ منهم هو الحفاظ على المجتمع الإسلاميّ، وعدم خرق القوانين الإسلاميّة، وهي شيءٌ ثابت لا خلاف فيه، فلا معنى لجعله شرطاً.

 

مناقشة الروايات

وأمّا الروايات فالاختلاف فيها ليس فاحشاً لا يمكن معه الجمع؛ لأن القدر المتيقَّن فيها هو الجلد ثمانين جلدةً، وأما الزائد على ذلك فيمكن أن يكون موكلاً إلى الإمام؛ باعتباره حاكماً، يحكم به إذا اقتضت المصلحة الإسلاميّة ذلك، والردع لبعض أهل الذمّة الذين يستهترون بأعراض المسلمين ويتعدّون عليهم، كما يلمح إليه ذيل رواية عبادة بن صهيب: (لكي ينكل غيره). فإنمّا يُصار إلى ذلك مع وجود حالة عامّة مكرّرة من قبل هؤلاء، لا مطلقاً. مضافاً إلى إمكان حمل الزائد عن الحدّ على وجود جريمة أخرى، وهي هتك حرمة الإسلام، فتكون جنايته مستبطنة لعقوبتين، أشارت لهما رواية صهيب بشكلٍ واضح.

نتيجة التحقيق

ومن خلال هذا التوجيه للرواية الأخيرة ـ وهي صحيحة السند، كالسابقة عليها ـ لا يتحقَّق التنافي بينها وبين الروايتين السابقتين.

ومن هنا أمكن أن نصل إلى حكم المسألة بشكل واضح، وهو: إذا قذف الذمّي مسلماً كان حدّه حدّ شرب الخمر، وهو الجلد ثمانين جلدةً؛ وأما إذا انتشرت هذه الظاهرة بينهم وتكرَّرت فللحاكم الإسلاميّ أن يضيف إليها جلداً آخر، بنفس المقدار، إضافةً إلى عقوبة الحلق، والتشهير بين أهل ملّته.

 

8ـ حكم قذف الذمّي للذمّي

المسألة الثامنة: إذا قذف الذمّي ذمّياً؛ فتارة يترافعون إلينا، فنجري عليهم حكم الإسلام في القذف؛ وتارةً لا يترافعون إلينا، فإنّ لهم حقّ الترافع إلى حكّامهم، كما فصلناه في ما سبق، فلا نكرِّر.

 

9ـ حكم سرقة الذمّي من الذمّي أو المسلم، وسرقة المسلم من الذمّي

المسألة التاسعة: إذا سرق الذمّي من الذمّي أو المسلم، أو سرق المسلم من الذمّي، فما هو الحكم؟

في المسألة فروع:

الأول: إذا سرق الذمّي من المسلم فإنّه يُقطع؛ لأنه كالمسلم حكماً، بلا خلاف.

الثاني: لو سرق المسلم من الذمّي، فإنه كذلك يُقطع؛ لعموم الأدلّة الشاملة للمقام، ولأنّ مال الذمّي محترمٌ ما دام في ذمّة الإسلام، بخلاف الحربيّ.

قد تقول: حكم القطع للمسلم على سرقته مال الذمّي مخالفٌ للقواعد؛ لوجهين:

1ـ قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ (النساء: 141). ومن الواضح أنّ الحكم في المقام نوعٌ من السبيل.

2ـ قياس مال الذمّي على دمه ـ الذي سوف يأتي ـ؛ فإنّ المسلم لايقتل بالذمّي، فأولى وأجود أن لا يقطع بماله؛ لأنه أخفّ من الدم.

والجواب: أوّلاً: إنّ السبيل ليس من الذمّي على المسلم، حتّى يتنافى الحكم مع الآية، وإنّما من الحاكم الإسلاميّ على المسلم، ضرورة أن الذي سوف يقيم الحدّ ليس هو الذمّي، وإنّما هو المسلم. نعم، سبب القطع هو إقدام المسلم على سرقة الذمّي، وهذا لا دخل له في السبيل المنفيّ بنصّ الآية.

وثانياً: إن وجه المقايسة باطل؛ لأن حكم القصاص مشروطٌ بالمكافأة، والتي منها المكافأة في الدين، فلا يقتل المسلم بالكافر مطلقاً، بخلاف السرقة التي لا يشترط فيها المكافأة. وكذلك فإنّ القصاص حقّ المقتول الذي يشترط فيه المكافأة، بخلاف القطع الذي هو حقّ الله سبحانه؛ من أجل إقامة النظام الاجتماعيّ الآمن المستقرّ.

الثالث: لو سرق المسلم مال الحربيّ فلا يقطع؛ لأنه لا حرمة لماله، وإنّما أوجبنا في الذمّي ذلك؛ للذمة، وهي منتفيةٌ في الحربيّ. ولو كان الحربي مستأمناً فإنّه يعزَّر ويؤدَّب؛ لأن الإقدام على السرقة أمرٌ قبيح في حكم العقل والشرع، ولأنّ عقد الاستئمان يقتضي احترام ماله كاحترام نفسه بلا فرق([54]).

الرابع: لو سرق المسلم خمراً من ذمّي، وإنْ كان مستتراً به، فلا يقطع؛ لأنه ليس مالاً محترماً. نعم، يغرَّم قيمته للذمّي؛ لأنه ذو ماليّة بالنسبة إليه. ونفس الحكم يجري في الخنزير بلا فرق.

 

10ـ حكم الذمّي الذي يشرب الخمر جهاراً

المسألة العاشرة: ما حكم الذمّي الذي يشرب الخمر متجاهراً به؟

إذا شرب الذمّي الخمر مستتراً به فلا كلام لنا معه؛ لأنه في إطار العهد الذي كان موضع اتّفاق بيننا وبينه. ولكنْ إذا شربها متجاهراً بها فقد نقض العهد، ويستحقّ بذلك الحدّ، وحدّه كحدّ المسلم بلا فرق، وهو الجلد ثمانين جلدةً. وهذا لا خلاف فيه، ودلّت عليه الأخبار.

ومنها: عن أبي بصير، عن أحدهما× قال: كان عليّ× يضرب في الخمر والنبيذ ثمانين، الحرّ والعبد، واليهوديّ والنصرانيّ. قلتُ: وما شأن اليهوديّ والنصرانيّ؟ قال: ليس لهم أن يظهروا شربه (شربها)، يكون ذلك في بيوتهم([55]).

ومنها: عن أبي بصير ـ أيضاً ـ قال: كان أمير المؤمنين× يجلد الحرّ والعبد، واليهوديّ والنصرانيّ في الخمر والنبيذ ثمانين. قلتُ: ما بال اليهوديّ والنصرانيّ؟ فقال: إذا أظهروا في ذلك من مصر من الأمصار؛ لأنهم ليس لهم أن يظهروا شربها([56]).

ومنها: عن أبي بصير ـ كذلك ـ قال: حدّ اليهوديّ والنصرانيّ والمملوك في الخمر والفرية سواء، إنّما صولح أهل الذمّة على أن يشربوهما في بيوتهم([57]).

هذه أهمّ المسائل التي يمكن النظر فيها في هذا الموضوع. وربما يكون هناك مسائل أخرى جزئيّة لم نتعرض لها اختصاراً.

 

 

(*) أستاذٌ في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، وباحثٌ في مجال الفلسفة والكلام، من العراق.

([1]) جواهر الكلام 41: 313.

([2]) الهداية: 76.

([3]) النهاية: 692.

([4]) المقنعة: 783.

([5]) المصدر السابق: 778.

([6]) السرائر 3: 439.

([7]) الانتصار: 261.

([8]) المراسم: 251.

([9]) الجوامع الفقهيّة، كتاب الغنية: 622.

([10]) الوسيلة: 410.

([11]) الانتصار: 261.

([12]) وسائل الشيعة 28: 141.

([13]) وسائل الشيعة 28: 141.

([14]) فهرست الطوسي: 164. وقال الكشّي: سمعتُ حمدويه ذكر أن حنان بن سدير واقفيّ، أدرك أبا عبد الله×، ولم يدرك أبا جعفر×، وكان يرتضي به سدراً. (رجال الكشي: 555).

([15]) المقنعة: 783.

([16]) النهاية: 692.

([17]) السرائر 3: 439.

([18]) كشف اللثام: 10: 437.

([19]) الدر المنضود 1: 266.

([20]) الخلاف 6: 117؛ المؤتلف من المختلف 2: 444؛ غنية النـزوع 202؛ السرائر 1: 380؛ كشف الرموز 1: 421.

([21]) مستدرك الوسائل 7: 449.

([22]) مستدرك الوسائل 7: 448؛ تفسير القمّي 2: 27.

([23]) الشرائع 4: 937؛ قواعد الأحكام 3: 532؛ إيضاح الفوائد 4: 485؛ مسالك الأفهام 14: 375؛ كشف اللثام 2: 404.

([24]) الدر المنضود 1: 350.

([25]) التبيان 3: 528.

([26]) الميزان 5: 241.

([27]) الدر المنضود 1: 353.

([28]) مجمع الفائدة 13: 94.

([29]) وسائل الشيعة 28: 50.

([30]) المصدر السابق 28: 81.

([31]) المصدر السابق 28: 81.

([32]) المصدر السابق 27: 297.

([33]) جامع المدارك 7: 38.

([34]) جواهر الكلام 41: 336.

([35]) السرائر 2: 197.

([36]) منتهى المطلب 2: 981، الطبعة القديمة.

([37]) جواهر الكلام 21: 318.

([38]) شرائع الإسلام 4: 942.

([39]) المختصر النافع: 218.

([40]) كشف الرموز 2: 559.

([41]) التحرير 2: 224، الطبعة القديمة.

([42]) تبصرة المتعلميّن: 246.

([43]) المهذّب البارع 5: 52.

([44]) رياض المسائل 2: 474.

([45]) جواهر الكلام 41: 379..

([46]) المقنعة: 786.

([47]) المقنعة: 792.

([48]) المراسم: 256.

([49]) السرائر 3: 534.

([50]) الكافي في الفقه: 414.

([51]) وسائل الشيعة 28: 184.

([52]) تهذيب الأحكام 10: 75.

([53]) المصدر السابق.

([54]) تحرير الأحكام الشرعيّة 2: 228

([55]) وسائل الشيعة 28: 227.

([56]) المصدر السابق، ح2.

([57]) المصدر السابق، ح5.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً