أحدث المقالات

دراسة في الحقل الديني

 

د . حسين خنيفر(*)

د . السيد محمد مقيمي(**)

مقدمة ـــــــ

تقع تربية الأطفال إلى عمر السّادسة على عاتق الأبوين، وبعدها يبدأون بطيّ مراحل التعليم الدراسي، حيث يتعرّفون على المعلمين والمدرّسين والأساتذة، ويعيشون أجواء المدرسة النظاميّة إلى جانب أجواء البيت العاطفية والأسرة، ويتدرّجون شيئاً فشيئاً في مراحل النمو وأدوار المراهقة والشباب.

ويمكننا من خلال الاعتراف بأنّ كيفيّة البرامج التعليمية والتربوية تعدّ بوابة التنمية والتقدّم في كلّ بلد، وكون التربية الدينية من الأصول التربويّة الرئيسة في المعاهد والجامعات والحوزات، أن ندرك أبعاد حساسيّة الموضوع بشكلٍ أكثر.

ولا يخفى ما للعناية والاهتمام بالتربية الدينية والمذهبية في مختلف المراحل والدراسات الحوزويّة من الأهميّة، وتتجلى تلك الأهميّة خاصّة في نظام التعليم الحوزوي، ويعودُ سبب ذلك قبل كلّ شيءٍ إلى أن الدارسين في هذا النظام يعتبرون سفراء المستقبل في ممارسة التربية الدينيّة، وأنهم يكتسبون جلّ مؤثراتهم من مؤسسة الدين والتعلم التخصصي.

ومن الجدير ذكره أنّ من واجب حوزة العلوم الدينيّة؛ لعلمها بدورها الحساس، واطلاعها على البرامج التعليميّة الحديثة، أن تعمل بشكلٍ يحافظ على إقامة التنسيق الدقيق بين النشاطات الدراسيّة والتربية الدينيّة والمعنويّة للطلاب والقدوات التعليميّة.

لا شكّ في أنه ينبغي على المؤسسة التعليمية بعد اضطلاعها بمفردها بهذه المهمة، والحال أنها لا تحظى إلا بما يعادل 12% من وقت الطلاب وبشكلٍ محدود، أن تستعين بالوسائل الثرّة والعمليّة من أجل إعداد الكادر التعليمي للمستقبل.

الأصول التطبيقيّة الاثنا عشر في التدريس والتربية الدينية ـــــــ

هناك اثنا عشر أصلاً تطبيقياً في حقل التدريس والتربية الدينية، ينبغي أن يتوفّر عليها المدرسون وأولياء الأمور والعاملون في مجال التربية الدينية، وهي:

1 ـ تقدّم الترغيب على الترهيب ـــــــ

لا شكّ في أن الترغيب بفعل الخير وأعمال البر، وترك الأعمال القبيحة، وخلق الرغبة والشوق والاهتمام بالآثار الحسنة، أكثر تأثيراً من الترهيب والتخويف من العواقب.

فحثّ الإنسان على ممارسة الدعاء والصلاة مثلاً إذا تمّ بأساليب لطيفة ـ بدلاً من الأساليب العنيفة ذات الرؤية السلبية، التي تنظر إلى العذاب والعقاب ـ، ومن خلال التذكير مثلاً بأن الصلاة هي أول ما وجب على النبي وأتباعه من المسلمين بعد التوحيد، يعدّ سبباً في اتضاح مدى أهمّية الصلاة، التي هي أساس ارتباط الإنسان بالله تعالى وشكره على نعمه اللامتناهية. ومن هنا فقد كان قادة الإسلام، وخاصّة الرسول الأكرم’، يدعون إلى الصلاة بأساليب في غاية اللطف والرقة، حيث يقول| مثلاً: <الصّلاة عمود الدين>([1])، وإن الذي يؤدّي الصلاة بإقبال فإنه سيحظى بشفاعتنا يوم القيامة، حيث النعيم ودار الخلود، وكذلك ينبغي لترغيب المتعلمين أن يفتح معهم باب الحوار حول متعة المناجاة والاتصال بالمعبود، وما يحصل بسببه من إنارة الروح واستجابة الدعاء وقضاء الحوائج، وتنبيههم إلى إمكانية القضاء على الاضطرابات، والتغلب على المخاوف، من خلال الارتباط بالله عز وجل، حيث قال تعالى:  ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:282]، وعندها سيمكنهم السجود في خلوة الملكوت سجود العشق والوله بالمعبود.

2 ـ تجنب الأساليب المباشرة في تدريس الأسس الدينيّة ـــــــ

إن إقامة الروابط مع الشباب واليافعين بشكلٍ غير مباشر، وتشجيعهم، ومنحهم حريّة الانتخاب، وصلاحية الحكم، وتشجيعهم على الاستفسار والسؤال في خصوص المسائل الدينية، يزرع في كيانهم بذرة الرغبة والحبّ، فقد ثبت بالتجربة أن الأساليب ذات اللهجة الآمرة واللحن الشديد والسلطوي غالباً ما تؤدي إلى النفرة والابتعاد عن الدين، ومن هنا نجد أن الله تعالى يخاطب نبيّه’ قائلاً: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].

ويمكن إرجاع كثير من المشاكل المعاصرة إلى غياب الارتباط غير المباشر، والذي تنعدم فيه اللهجة الآمرة والمتسلطة.

ولإقامة الارتباط اللامباشر والنافع والمؤثر لابدّ من:

أوّلاً: أن يكون المربي ضليعاً في إقامة العلاقات، والاستفادة من الأساليب اللامباشرة.

ثانياً: أن تكون سلوكيّة المربّي مقبولة لدى المخاطب.

ثالثاً: أن يأخذ بنظر الاعتبار كفاءة ومستوى السّامع.

إن إسلوب الكلام اللامباشر في فنّ الخطابة، وإقامة العلاقات مع المخاطبين، يحظى بأهميّة قصوى، وذلك من خلال نقل المطالب إلى السامع بشكلٍ غير مباشر، وعرض الأوامر الإلهية في إطار القصّة والمثل، أو التوجّه بالخطاب إلى جماعة لكي تسمعه جماعة أُخرى، وكما بيّن الإمام الصادق× بشأن توجّه الخطاب في القرآن إلى النبي’ في حين أن المراد منه هم المسلمون، حيث قال: <نزلَ القرآنُ بإياك أعني واسمعي يا جارة>([2]).

يحظى الأسلوب البياني والكلامي اللامباشر بأهميّة كبيرة في حقل التربية الدينيّة، وينبغي لأستاذ التربية الدينيّة أن يتأسّى بالقرآن الكريم في اختيار الكلمات، فمثلاً: في ما يتعلق بالأمور الجنسيّة من قريب أو بعيد عليه اللجوء إلى الأساليب الكنائية، ليصرف أذهان السّامعين، وخصوصاً الشباب منهم، عن هذه المسائل، وهذا من الدروس القرآنية، حيث يستعير تعبير الملامسة للتعبير عن عملية الجماع، فيقول: ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [المائدة: 6].

3 ـ أولويّة الكيفية والماهيّة في الكلام ـــــــ

تعدّ كيفيّة الكلام وطريقته من الأمور المهمّة وبالغة الحساسيّة في التربية الدينية؛ إذ لمّا كانت شخصيّة الشباب واليافعين الإجتماعيّة في طور التكوين كانوا بأمسّ الحاجة إلى مدّ يد العون والمساعدة، والمداراة بالكلمة الطيّبة والبيان السمح والعطوف، كما أنهم يفتقرون إلى التجارب الكافية في الحياة، حيث إنهم لم يخوضوا بعدُ غمار مشاكلها، ولذلك تجدهم يتوقعون أن يحظوا باحترام الكبار، وخاصّة من قبل أوليائهم وأساتذتهم في مادّة التربية الدينية، ومن هنا لابد لنا في اختيار طريقة الكلام وكيفيّته أن نسعى باستمرار إلى زرع بذرة الأمل في قلوب الشباب واليافعين من أجل تنمية رغباتهم، حيث تكون العواطف والأحاسيس هي المسيطرة عليهم إلى حدّ كبير، فلابدّ من محاورتهم ومخاطبتهم بأسلوب تشجيعي، يخلق الدوافع الخيّرة في نفوسهم، وعدم الاقتصار على مجرّد العتاب الجاف والقاسي. وعليه لابد من تزويدهم بالعطاء الممتع في حقل التربية الدينية، حتى يدركوا ضالة سعادتهم المنشودة في البحث عنها من خلال الدين.

لو تمت مخاطبة الشباب واليافعين بأسلوب وسياق ينعش الأمل في كيانهم فسوف يحيون حياة ملؤها التفاؤل والأمل في المنزل والأسرة والمدرسة والمجتمع، وسوف لا يتعرّضون لأيّ نوع من الأمراض النفسيّة والاضطرابات الروحيّة، ولا يلجأون إلى العزلة والانطواء على ذواتهم، ولن يتوانوا عن العمل والجد والبناء أبداً.

ولكي يكون كلامنا مؤثراً وممتعاً في حقل التربية الدينية علينا الإكثار من استعمال أساليب التشبيه والتمثيل، ولكي نعمل على تحفيز العواطف الطاهرة والبريئة لتسلك القيم علينا الاستعانة بالوقائع التاريخيّة والعبر في قالب قصصي، ولتقوية القضاء وإصدار الأحكام لابدّ من إعدادهم عن طريق تشجيعهم على التساؤل والاستفسار، ودعوتهم إلى البحث عن الإجابات بغية مساعدتهم في الحصول على ذهنيّة شموليّة تمكنهم من إصدار الأحكام حول المسائل والبتّ فيها.

4 ـ الاهتمام بموافقة الطالب على الكلام دون إكراهه على الاقتناع ـــــــ

إنّ الغلبة في العصر الحاضر، حتى في مجال التبليغ، إنما هي من نصيب أولئك الذين يتمتعون بأدواتٍ كلاميّة وتقنيات خاصّة تساعدهم على إظهار خطابهم على نحوٍ مقبول ومقنع، وأمّا بعض الأساليب القديمة التي تعتمد الصراحة في الكلام فإنها تسعى بكلّ ثقلها إلى فرض خطابها على السامع فرضاً، وترفض جميع أنواع البحث والاستفسار، ولذلك فإنها تؤكّد على التقديس والتجليل، وترفض الاستفسار والمناقشة والتحليل، وتقرّ الفرض والتحميل وتنكر الأنات والتحمّل. لا شكّ في أن أصل الصراحة لا يمكن إنكاره في الأسس الدينيّة، ولكن يكفي في إيصال الخطاب أو الفكرة أو الفعل والعمل إلى السامع الاستفادة من الأدوات الكلامية الملائمة والأدبية الجميلة والفاخرة.

نعيش حاليّاً في عصر المعلومات، حيث تقضي وسائل الارتباط الحديثة، وخاصّة الفضائيات، على الحدود الجغرافيّة تدريجيّاً، بل وقامت على الصعيد العمليّ بالقضاء على الحكومات الوطنيّة واقتدار الدول في بعض البلدان، وعملت على زعزعتها في البعض الآخر منها، وأضحت هي الحاكمة والمهيمنة.

وقد أدّى هذا الغزو الإعلامي الهائل من قبل الفضائيات والعاملين عليها إلى فرض مصطلحات جديدة على الثقافات العالميّة ولغاتها، ومن تلك المصطلحات: (الوسيلة الإعلاميّة العظمى)، و(السماء المكشوفة)، و(الكثافة المعلوماتية)، وما إلى ذلك من الكلمات والعبارات الطنانة، فعلى الجيل الجديد في الوقت الذي يسعى إلى حفظ التربية الدينيّة أن ينظر إلى المسائل الحديثة بعينٍ مبصرة، حتى لا يقع فريسة سهلة للتحميق والإكراه.

يتمّ  نقل الخطابات في العالم المعاصر حاليّاً بأساليب مرغوبة ومقبولة من خلال الاستفادة من لطائف الحيل، فيجدر بنا أن نجدد في أساليبنا المتبعة في حقل التربية الدينيّة، وأن ننتقل من الأساليب الإكراهيّة والإلجائيّة إلى الأساليب اللطيفة والمقبولة.

إنّ للأسلوب البياني تأثيراً كبيراً في قبول الخطاب الديني والتربية الدينيّة وإظهارهما بشكلٍ مقنع، فعلينا البحث عن المفاتيح والأقفال، لا أن نعمد إلى تحطيمها، والأطفال يستوعبون الكلام اللطيف والقول الليّن بشكلٍ أفضل، كما أن الدين حقيقة لطيفة، وإن التربية الدينيّة مهمّة ومسؤوليّة جميلة وممتعة للغاية.

5 ـ اعتماد الجمال في التربية الدينيّة ـــــــ

صحيح أن غريزة البحث عن الصانع والمطلق تبدأ انطلاقتها لدى الإنسان بعد ولادته، وتبلغ كمالها عند البلوغ  وفترة الشباب والمراهقة، إلا أنها تبلغ مستواها المناسب واللائق في مرحلة الشباب فيما إذا عمل رسل التربية الدينيّة إلى إظهار المواطن الجميلة في الدين، وشنفوا بها مسامعهم وعقولهم وغرسوها في أعماقهم.

وبما أنّ الشاب يتمتع بروحٍ استدلاليّة، حيث يشكّل البرهان جزءاً من فطرته، تراه سريع التقبّل للمطالب الصحيحة والحقة، ولا يرفض الكلام المطابق لروحه الحساسة والمنسجمة مع الدليل والبرهان. ويغدو للبحث عن الخالق والجمال الديني مظهرٌ لائق في التربية الدينية للشباب واليافعين؛ لأن ذلك مركوزٌ في طينتهم وكيانهم الذي يسعى إلى للوصول إلى الحقّ والحقيقة، فمثلاً: لو تمّ عرض مباحث التوحيد وإثبات الصانع للشباب واليافعين من خلال استدلالاتٍ مفعمةٍ بالجمال فإنهم سيتقبلون حقائق الوحدانيّة اللاحبة بجمال الروح العابدة.

وكثيراً ما نشاهد التأكيد على الجماليّات في كلام المعصومين^، فمثلاً: قال الإمام علي×: «خلقَ اللهُ ما خلقَ فأقامَ حدّهُ، وصوّرَ ما صوّرَ فأحسَنَ صورتهُ»([3]).

ومن هنا يتعيّن علينا أن نفتح أبواب جَمال وإبداع التربية الدينيّة أمام أرواح المخاطبين ونفوسهم.

يُعدّ الفن الديني مجهوداً لخلق الجمال المعنوي، فهو ليس مجرّد عمل فني، بل هو صفحة مفتوحة من كتاب الخلق والإبداع.

وبالالتفات إلى طبيعة الإنسان المنجذبة إلى الفنّ والجمال، والتي تعافُ سماع المطالب الجّافة وذات الوتيرة الواحدة، يجب التعويل على الأساليب الفنيّة والجماليّة في نقل الخطاب في مجال التربية الدينيّة.

تعتمد البلدان المتقدّمة في العالم هذا الأسلوب، حيث وجَدَتْه نافعاً في بلوغ غاياتها، وقلما يعمد المستعمرون في الوصول إلى أهدافهم إلى الأساليب المباشرة والجافة في دعوة الناس إلى صفهم، وإنما يعملون على جرّهم للانحياز إلى ناحيتهم عن طريق المظاهر الجماليّة.

وللأسف الشديد فإنّ العالم الإلحادي جادٌّ في باطله، في حين أننا لا نزال، برغم ضعف الإمكانات والوسائل الناجعة، نتبع نفس الأساليب التقليديّة القديمة في التربية الدينية، فهم يوظفون جميع الإمكانات، من الأفلام والرسوم المتحركة والغرافيك والنحت والخط والمسابقات والتسليات وما إلى ذلك من الأمور، والتي يمكن حصرها في (الفن)، لتثبيت أُسس سيطرتهم وسلطتهم على عالم (السرعة والقوّة والثروة والمعلومات)، في حين أننا  وسط هذا الركام والكمّ الهائل من الأساليب الجيّدة والمفضلة نقف حيارى، ولا نهتم بهذه المسائل كما ينبغي، ونجد أحياناً أن التبليغ الديني والتربية الدينية منحصرة في الخطابة والأساليب الجافة والتقليديّة فقط.

لقد أظهر القرآن الكريم تأثيرَ الفنّ في تغيير الأفكار بوضوح عند بيان قضيّة السامري، حيث جمع حليّ بني إسرائيل من الذهب وغيره في غياب موسى×، ليصنع لهم معبوداً من خلال هذا العمل الفنيّ، حيث قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى﴾ [طه: 88]، وبذلك قام بإضلال أتباع موسى×.

وعليه ماذا ينبغي علينا أن نفعل في المقابل؟

الجواب: إن بإمكاننا أيضاً أن نستفيد من الفن الديني لتثبيت التعاليم الدينية.

6 ـ التفهيم والتحليل مقدّمٌ على الصدّ والمنع ـــــــ

تقوم الكنايات والاستعارات واختيار الكلمات والتوضيحات أحياناً، في عصر التقدم الصناعي وانتشار وسائل الإعلام، على اُسس التفهيم والتحليل، وإن كانت بعض وسائل الإعلام المضرّة تلجأ إلى الفرض والإلجاء في بعض الأحيان أيضاً. وإذا أردنا الوقوف على الدور البارز لوسائل الارتباط الكنائي والاستعاري، علينا الالتفات إلى شكل هذه الوسائل ومضمونها المثالي.

ولو أننا في التربية الدينية أخذنا السّامعين على أساس (التفهيم المتناسب وسنّ المخاطب) و(التحليل المتناسب ومستوى فهم المخاطب) لكان التأثير كبيراً جدّاً. إن فنّ الخطابة القائم على التحليل والتفهيم في العصور القديمة لم يكن عنصراً محوريّاً في تعليم مجتمع (أثينا) فحسب، بل كان مقدّماً على الفلسفة، ويفوقها تقديراً واعتباراً. وقد اعتبرَ هذا الفن حتى في تلك العصور نوعاً من الفنون السّامية. وقد كانت الخطابة التحليليّة والمؤثرة على السامعين غالباً ما تقوم عند اليونانيين على قراءة الكلمات المكتوبة. صحيحٌ أنّ ذلك كان يستلزم إعلان المطالب بشكلٍ شفهي، إلا أنّ قوّتها في الواقع كانت تقوم ـ لإثبات الحقيقة ـ على قوّة الكلام المكتوب، الذي ينظم سلسلة الشواهد والقرائن، وكذلك البراهين والأدلة، بأسلوب متين ومحكم، ويقوم على نظام منطقيّ مستدل.

وبرغم تشكيك أفلاطون ـ بناءً على ما يظهر من دفاعه عن سقراط ـ بهذا الاستنباط من مفهوم (بيان الحقيقة)، إلا أن معاصريه كانوا يصرّون على هذا الرأي، ويؤكدون على  أن الخطابة القائمة على التفهيم والتحليل وسيلة مناسبة لكشف (الإيمان الصحيح)، مضافاً إلى تعريف ذلك الإيمان وتبيينه للآخرين.

إنّ عدم الالتفات إلى ضوابط الخطابة وقوانينها، بمعنى عرض الأفكار والعقائد دون الاستفادة من التأكيدات اللفظيّة والصوتيّة، ودون الاستفادة من التحليل المناسب والمشاعر والعواطف المناسبة، يعتبر نوعاً من الإزراء والاستهانة بذكاء المخاطب، وتجعل المتكلم في مظانّ الاتهام بـ(الإكراه).

وقد قال الشيخ حسن زاده الآملي: <بدلاً من التأكيد على التجليل من الأفضل لنا أن نحذف النقطة من الجيم لنحظى بالتحليل>.

فنحن نغفل في التربية الدينية أن بإمكاننا الاستفادة من قيم بيان الحقيقة والتفهيم والتحليل الجميل والنافع.

إن تعبّد الإسلام بالبرهان لهو خير دليلٍ على أهميّته، وإنك لتجد الاستدلالات المنطقيّة القائمة على تحليل الحقائق، وحتى البراهين العلميّة، في مختلف المستويات ولمختلف المسائل منتشرة على نطاقٍ واسعٍ في آيات القرآن الكريم، حتى أمر اللهُ النبي الأكرم‘ بأن يقول: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي﴾ [الأنعام: 57].

كما يأمر الله المؤمنين أن يُحكموا كلامهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 70].

ومن الأمور التي هي في غاية الأهميّة في التربية الدينية أنّ كلام الأستاذ في مادّة الدين ينبغي أن يكون سدّاً منيعاً أمام الأمواج العاتية.

7 ـ تقدّم الارتباط العاطفي على الارتباط الرسمي الجاف ـــــــــ

يرى علماء النفس أن المحبّة هي أول ما ينتج عن الارتباط العاطفي، والمحبّة في بداية أمرها مستقلة وشاملة([4]). وتثبت الدراسات التاريخيّة للتيارات الفكريّة المختصّة بالقوانين وكيفية التربية والتعليم، وكذلك دراسة كيفيّة تكوين السلوك عند الأطفال واليافعين، أن إعمال الأساليب التحكيميّة أو القائمة على أساس المحبة والعاطفة قد بيّنت منذ القدم على شكل مسألةٍ ذات جنبتين متضادّتين.

وفي موضعٍ آخر يرى علماء النفس أنّ إعمال القوّة المفرطة يؤدّي إلى ظهور أعراض الصدمة النفسيّة، والتي تؤدي أحياناً إلى النفور والهروب من العامل الذي أُكره عليه، وأدّى إلى إصابته بهذه الظاهرة المرضيّة، فعلينا في التربية الدينية أن نتجه إلى الارتباط العاطفي من خلال هذه الأمور الدقيقة.

وقد حثّ القرآنُ الإنسانَ على فعل الخير والإقبال على عمل البرّ والإحسان، كما حذره من الأعمال القبيحة، ولذلك على أُستاذ المادة الدينيّة أن يبشر الصالح من مخاطبيه بالأجر الإلهي، ومن ثمّ يحذر من يفعل القبيح منهم بالعذاب الربّاني.

نجد القرآن يشجع الناس على الإنفاق ويبشرهم بقوله:﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].

وفي موضعٍ آخر يدفع القرآنُ الناسَ إلى العمل الصالح وإقامة الصلاة، فيقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 277].

8 ـ الاهتمام بالبلاغة والفصاحة الكلاميّة ـــــــ

يدخل الإنسانُ منذ ولادته معترك العلاقات الاجتماعيّة المتقابلة، ومن خلال التعاطي المتقابل يكتسب الموروث الاجتماعي، ويتلوّن بصبغة اجتماعية، ويعيش طيلة حياته ضمن هذه الشبكة من الروابط المتقابلة وينفعل بانفعالاتها، ويستلهم على الدوام من معين المجتمع.

يُشار في مبحث ضرورة العمل من خلال الاستضاءة بنور علم الله في حقل التربية الدينيّة، إلى أن نعم الله تعالى كثيرة، وهناك سبلٌ للاستفادة الصحيحة من هذه النعم واستثمارها.

لقد جعل اللهُ الفردَ الشاب مركزاً للنشاط والقوّة والحركة من جهة، ومن جهةٍ أخرى أودع فيه من أجل ضبط هذه القوّة غريزة طلب العلم، والتعالي النفسي والروحي، والقدرة على التقييم، كي يتمكن بنور العلم من التمييز بين الحق والباطل بشكلٍ صحيح.

وما نريد قوله: كيف يمكن للذين يعملون على إنجاز هذه التنمية الفكرية أن يكونوا من العناصر المؤثرة في مجال اختصاصهم؟

ولذلك من الضروري في التربية الدينيّة مراعاة الفصاحة والبلاغة مع الحفاظ على البساطة في التعبير واجتناب التعقيد.

ومن هنا نشاهد مراعاة هذه القاعدة بوضوح في النصوص الدينية والروائيّة، حتى أذعن ببلاغة وفصاحة القرآن الكريم العدو قبل الصديق، وإن من الأبعاد الإعجازيّة في هذا الكتاب العظيم وضوح العبارة وعمق الفكرة من دون أن يكون فيه أدنى تعقيد أو إبهام.

وقد كان رسول الله’، وهو قدوة العاملين في حقل التربية الدينية، في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة وعذوبة البيان وصراحة العبارة، حتى قال له الناس: «يا رسول الله، ما أفصحك؟! وما رأينا الذي هو أفصح منك، فقال: وما يمنعني من ذلك، وبلساني نزل القرآن، بلسانٍ عربيٍّ مبين»([5]).

وعندما أمر الله تعالى نبيّه موسى× بالتوجّه إلى فرعون سألَ الله أن يشدّ عضده بأخيه هارون، لأنه أفصح منه، وفي ذلك قال تعالى: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ﴾ [القصص: 34].

ومن الأمثلة على الكلام البليغ والمؤثر، الذي يكون له تأثيرٌ إعجازيٌّ على السامع،  الكلام الذي قاله الإمام علي× لهمام في وصف المتقين، حيث صُعق همام لسماعه هذا الكلام، ومات لحينه، فقال الإمام× عندها: «هكذا تصنعُ المواعظ البالغة بأهلها»([6]).

9 ـ التفاؤل والأمل بدلاًً من الرؤية السلبية وشدّة الانتقاد ـــــــ

يرى علماء النفس أن مرحلة النمو عند اليافعين والشباب مرحلة شديدة التقلب والاضطراب، وأن مستويات التحول المتنوّعة لا تنفكّ عن بعضها، بل هناك أفراد مثل (جيزل) يصوّر للنموّ شكلاً لولبيّاً متصاعداً، لا تجد بين أواصره أيّ تفككٍ أو انفصال([7]).

ويعترف أنصار هذا النوع من التفكير ـ كالآخرين ـ بأن سرعة النمو في فترة الشباب تكون متزايدة، وبالإضافة إلى ذلك يؤمنون بأن هذه المرحلة تعتبر من المراحل المهمّة في التغيّرات الفرديّة، ولمعرفة هذه الأهمية فهم يؤكدون إما على انعكاسات البلوغ في الشخصيّة، أو حتى الأسباب والعوامل الثقافيّة والاجتماعيّة، ولكن في المجموع لا يرون هذه الكيفيّة كأزمة مستقلة ومنفصلة، وإنما يعتبرونها من العناصر المترابطة لتغييرٍ شامل، هو إمتداد مباشر لتطوّراتٍ سابقة.

وقد قلنا في الأصل السابق: إنّ من الأمور الإيجابيّة في مرحلة الشباب هي تقبّلهم للتربية، وإذا كانت مصحوبة ببثّ روح التفاؤل والأمل والاندفاع، وتمّ تسرية ذلك  على التربيّة الدينيّة، فسوف تخلق أجواء أكثر ملاءمة للتقبل والانقياد، فعندما يتسلح الشاب بالتربية الدينيّة المصحوبة بالأمل والاندفاع المتقدم، ولا يرى نفسه على الدوام عرضة للانتقادات والإشكالات والرؤية السلبية العميقة، ويتعرّف على القيم والفضائل، سيكتسب ثروة معنويّة قيّمة لا تنضب، ولا يمكن تقديرها بثمن، وهذا ما أكدّ عليه الإمام أمير المؤمنين علي× في ما يتعلق بنوع البيان وأن لا تكون فيه جوانب سلبية، حيث قال: «ولا تقل ما لا تحبّ أن يُقال لك»([8]).

وكذلك لا ينبغي لنا في التربية الدينية أن نغفل هذه الحقيقة وهي أن مرحلة الشباب  هي مرحلة الصيرورة، وكما قال بعض الفلاسفة: <إذا أمكن القول بأن الوقوع في الخطأ طبيعة إنسانيّة فإنّ البقاء على الخطأ طبيعة حيوانيّة>، ولذلك فإن ما يصدر من الشباب من الأخطاء يمكن تصحيحه من خلال التربية القائمة على بث روح الأمل والاندفاع والإبداع، وذلك لأن الانتقاد، وإن أمكن أن يكون بنّاءً وموجّهاً ومنبّهاً، إلا أنه إذا كان عنيفاً وشديداً سيؤدّي إلى نتائج معكوسة، وقد يسبب الاكتئاب والشعور بالذنب، ويؤدّي إلى طرقٍ مسدودة لا أمل في العودة منها.

إنّ شخصيّة الشاب الدينيّة والنفسيّة والاجتماعية إنما تتكوّن بشكلٍ صحيح إذا تم التعامل معها بما يتناسب ومتطلباتها ورغباتها وتجاذباتها الداخليّة، ويتم تعبئتها بالأفكار الدينيّة من تلك المسامات مطعّمة بالدوافع والتفاؤل والأمل.

يرى القرآن الكريم أنّ الأمل من الله سبحانه وتعالى، وأن اليأس والقنوط من عمل الشيطان، قال تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87].

10 ـ تلقين الاعتماد على النفس بدل العجز والضعف ـــــــ

يُعدّ الإنسان نوعاً وليد الفرص والإيحاءات الإيجابيّة. ويرى علماء النفس أن الإنسان ما لم يؤمن بوجود شيءٍ، ويستشعر الحاجة والرغبة إليه، ويندفع نحوه واثقاً تمام الثقة من قدرته على نيله، لا يقوم بأيّ سعيٍ من أجل ذلك، وإنّ أسوأ أنواع التعاطي مع التربية هو البقاء في حصار الدور الباطل القائم على العجز والضعف والخمول.

يرى (كوبر سمث) أنّ الاعتماد على النفس عاملٌ مهمٌّ في تكوين السلوكية، ويذهب إلى أن الذين يتمتعون بثقة عالية بأنفسهم تحظى سلوكيتهم بمقبوليّة اجتماعيّة أكثر من سلوكية أولئك الذي لا يمتلكون تلك الثقة الكبيرة بأنفسهم.

إن الإدراك النفسي يعني التصوّر الذي يحمله الفرد عن ذاته الكاملة ووجوده التام، ويشمل هذا التصوّر جميع أبعاده الوجوديّة، أي الجسديّة والذهنيّة والاجتماعيّة والعاطفيّة والأخلاقيّة.

ومن بين الأفراد نجد جيل الشباب واليافعين أسرع تقبّلاً للتربية الدينيّة، ولذلك قال الإمام الصّادق× في هذا الشأن: «عليكَ بالأحداث؛ فإنهم أسرع إلى كلّ خير»([9]).

ومن خلال هذا الحديث الشريف يثبت أنّ رعاية أصل تلقين القدرة والاعتماد على النفس في التربية الدينيّة، بدلاً من الإيحاء بالعجز والضعف وعدم الكفاءة، أمرٌ في غاية الأهمّية.

ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة على المستوى العالمي، حيث يمكن مشاهدة هذا الاختلاف في طريقة الحياة، أي إن أسلوب حياة الناس وكيفيتها في المجتمع والثقافة التي تتيح للفرد وقتاً أكبر، وتعمل على تنشئته معتمداً على نفسه، يختلف عن أسلوب الحياة في الثقافة والمجتمع الذي يتمتع فيه أفراده بوقت أقل، وتسوده التربية السلبية، والإيحاء بالعجز والضعف والقصور.

منذ انتهاء الحرب العالميّة الأولى أخذت مختلف الأجهزة الصوّتية التي يتمّ تنظيمها من خلال الساعات بالظهور، وأخذ السّاسة والوعاظ والطلاب يعملون على الاستفادة القصوى منها، حيث تقوم بتلقينهم التعاليم اللازمة في أوقات النوم أو في ساعات مخصوصة من النهار.

وعليه فإن التربية الدينية وتبليغ الدين وآثاره القيّمة، مضافاً إلى الإخلاص والحماس والتفاؤل بتوفيق الله، بحاجة إلى وعي المبلغ وأُستاذ الدين؛ ليدعم جماليّة الدين بفضيلة الاعتماد على النفس والثقة بها، وأن يجسّد مثالاً للإنسان المتحرك نحو الأهداف والغايات الإلهيّة، ويبعده عن التجسيدات المبهمة والقاصرة والعاجزة.

11 ـ الرؤية الإيجابية بدلاً من السلبية ــــــ

تعدّ حقيقة أنّ التصوّر الإيجابي يؤسّس لنمطٍ جديدٍ من العلاقات وتبادل الأفكار من الأمور البديهيّة لدى العاملين في مجال إعداد الأجيال المعاصرة. وعلينا أن لا ننسى أنّ التربية الدينيّة والتبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنذار والوعظ والإرشاد من التعاليم المهمّة للدين الإسلامي الحنيف. ونحن نعيشُ في عصرٍ يحظى فيه نوع التبليغ وأسلوب عرضه بأهميّة كبيرة.

إنّ المؤثر الحقيقي والمحور الأصلي في التربية الدينية هو الله، وهو الموفق لكل شيء، ولذلك نبدأ أعمالنا باسمه على الدوام؛ لأنه مصدر الخير والرحمة والنعم.

وكما نجد القرآن الكريم يشجع الناس على فعل الخير وأعمال البر، ويحذرهم بشدّةٍ من مغبّة ارتكاب الأعمال القبيحة، ويذكّر بالثواب على الأعمال الحسنة، وفي الوقت نفسه يَعِدُ بالعذاب والعقوبة على الأعمال السيّئة، ينبغي أن يكون كلام المبلغ الديني كذلك، فعليه أن يقدّم البشارة للشباب الطاهر والبريء، وأن يعرّفه بمن عليه الاقتداء به من خلال الكلمات الإيجابيّة.

فمثلاً: يدعو القرآن الكريم الناس إلى العمل الصالح وإقامة الصلاة، حيث يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾  [البقرة: 277].

ولذلك يجب على أساتذة الدين مساعدة طلابهم على معرفة الأمور الدينيّة الممتعة التي تختلف فيها الرؤى والأفكار، ومن ثمّ يعملون على تأصيلها في وجدانهم من خلال التأثير الإيجابي، وتحويلها إلى ملكة بواسطة العواطف والأحاسيس الموجبة؛ إذ يرى علماء النفس، من أمثال: (كامبز وسنايج 1959) و(كامبز وسوبر 1966) و(روجرز 1951)، أنّ السلوك الإنساني يتأثر بالأحاسيس والعواطف.

وبعبارة أُخرى: إنّ الأحاسيس وأساليب التلقي والمعتقدات والإدراكات هي التي تخلق السلوكيّات، وتحظى هذه الرؤية بأهميّة كبيرة من الوجهة التربويّة، فلو أحسّ الطالب بعمق محبّة أُستاذه له، وعمل هذا الأستاذ في الوقت نفسه على نقل رؤية الدين والتديّن الإيجابيّة والأخلاق الدينيّة له، فسوف تتجهُ سلوكيّته نحو الفضائل الدينيّة، وعلى العكس من ذلك لو أحسّ بأن للمعلم أو الأستاذ رؤية سلبيّة، وعرض عليه التعاليم الدينيّة في قالبٍ من الخوف والرعب والرؤية السلبيّة، فسوف يصاب تدريجيّاً بالخمود السلوكي والخوف من الإبهامات العامّة، ويبتعد كلّ البعد عن الأهداف الدينيّة والتربويّة السّامية.

12 ـ ثقافة الوصل بدلاً من ثقافة القطيعة والفصل ـــــــ

يمكننا أن ندّعي دون أدنى إغراقٍ أو مبالغة أنّ الإبداع والمبادرة في حقل التربية الدينيّة في الوقت الحاضر ليست في حوزة الأساتذة الذين تعلموا مهنتهم بشكل جيّد، بل يقع هذا الأمر المؤثر والخطير على عاتق اُولئك الذين اكتنزوا الكثير من التجارب، ولم يغفلوا عن العلوم الحديثة والمعاصرة، وحافظوا على التواصل المستمر مع مخاطبيهم لمدّة طويلة ومن دون انقطاع، مع التفاتهم إلى التغيّرات وحاجة التربية والتعليم اليوميّة والمتجدّدة.

إنّ أصل التواصل يؤدّي، بالإضافة إلى استمرار التربية الدينية في البيت والمدرسة، إلى جبران النقص والإبهامات الموجودة؛ وذلك لأن عقل الإنسان محدود بالنسبة إلى معرفة المطالب العالية، مثل: المعارف الدينيّة، ومن هنا فإن أصل التواصل يؤدّي إلى اتضاح هذه المسائل بالتدريج حتى تتحوّل إلى ملكة.

وحتى مسألة بعث الرسل من قبل الله إلى الخلق إنما كان قائماً على أساس التواصل، وقد بيّن الإمام علي× أن أصل الهداية كان شاملاً، وقد استمرّ بعث الرسل باستمرار حياة الناس حتى اكتمل مشروع الهداية بإرسال خاتم الأنبياء’.

وعليه ينبغي عدم الابتلاء بالانقطاع في برنامج التربية الدينية، وأن لا نقدّم للسّامعين تعاليم متقطعة وغير متواصلة، بل يجب استمرار هذا الطرح، وأن تكون هناك هداية وتوجيه مستمرٌ بتبع استمرار ذلك الطرح.

وينبغي الالتفات إلى هذه الضرورة في تأليف الكتب الدينيّة، التي تؤلف بشكلٍ متواصلٍ وهادف وتكميلي أيضاً.

وكذا ينبغي ملاحظتها في التعليمات التوجيهيّة، وضمن خدمات أساتذة الدين كذلك.

أربع قواعد في التربية الدينيّة ـــــــــ

1 ـ كسب الثقة ـــــــ

إنّ من القواعد المهمّة في التربية الدينيّة كسبُ ثقة السّامعين، والثقة ليست دوراً تمثيليّاً يؤدّيه الأستاذ، بل هي حقيقة راسخة في ذاته، وإنما يكسبُ الأستاذ ثقة السامعين إذا وقفوا على صدق كلامه وسلوكه.

لقد كان التكلم بلغة الناس، والثقة عند إلقاء الكلام، مع مراعاة البساطة والدقة في القول، سرّ نجاح القادة الربانيين في هداية الناس في المسير إلى الله تعالى.

عندما نقدّم البنية العامة للمسائل الدينية بثقة ويقين فسوف يهبط للسجود جميع السامعين باسم المقدسات وذكر الله تعالى بكلّ وجودهم وكيانهم، ولذلك حينما نستمع إلى دقات قلبهم حينها، وهي تناجي الله عزوجل، سيمتلئ سمعنا بالترانيم الإلهيّة.

وإنّ من المحاور الهامّة التي قرّبت رسول الله’ إلى قلوب الناس، قبل البعثة وبعدها، وجعلته محبوباً لدى الجميع، هو ثقة الناس به، واطمئنانهم إليه، حتى لقبوه بالصادق الأمين.

2 ـ القدوة ـــــــ

إنّ من المشاكل الأساسية في عصر (انفجار الانتظار) هي ندرة أو انعدام النماذج التي يمكن التأسّي بها، أو العجز عن إيجاد الأسوة أو التعريف بها.

وهذا الأمر بالغ الأهميّة في حقل التربية الدينيّة، فبدلاً من إظهار القدوة وتصويرها في الأذهان كوجودات ذهنيّة لا يمكن بلوغها أو الوصول إليها علينا أن نعمل على التعريف بها، وأن نقوم بتجسيدها، ومن ثمّ تقديمها إلى الناس. وفي التربية الدينية يمكن للقدوة أن تكون مؤثرة بحسب التنوّع الزماني والمكاني، وبما يتناسب وظروف السّامع.

ومن الملفت للانتباه أننا نجد القرآن الكريم بنفسه يعلمنا درساً في التعريف بالقدوة من خلال بعث النبيّ الخاتم’، حيث يقول: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].

يتجه العالم حالياً نحو القدوات الأرضيّة، وأضحى أسيراً للأصنام البشريّة والأرضيّة، وأصبحت هوية الأشخاص ـ خاصّة الشباب واليافعين منهم ـ سطحيّة وجوفاء.

إنّ غريزة البحث عن النماذج الجديدة للاقتداء موجودة بدرجاتٍ مختلفة عند جميع الشباب واليافعين، وهذا خير دليل على إرادتهم في كسر الجمود والقوالب التكراريّة. وقد أضحى البحث عن القدوة المناسبة، أو في الأقل القدوة التاريخيّة، دون أن تكون قديمة ومهترئة، غاية مطمح الشباب، واليافعين. ويرى (موريس دَبس) أنّ ذلك من المظاهر الأساسيّة لمراحل الشباب، وأنها تظهر على أنحاء مختلفة.

ويرى علماء النفس في العالم المعاصر أنّ الإعلاميين العارفين بأسرار علم النفس يستنتجون من هذه الوضعية حقيقة مفادها أنّ الشباب يفتقرون إلى المعنويّات، ولابد من استثمار هذه الحالة في تسويق بعض الأهداف التي تلبي هذه الحاجة لديهم. وبذلك سادَ بيع الغايات والأهداف، وإنّ أفضل وسيلة لتسويق هذه البضاعة هي اللجوء إلى صنع القدوات المشابهة، والحاجة إلى إقامة العلاقات والمبادلات، وكما يقول المثل: <تلبس الذئاب أصواف الغنم>، وتستعير لغة الصديق، وتتكلم مع الآخرين باسم الصداقة، ويغتنمون الحاجة إلى القدوة أو ما يشابهها بشكل تغدو على هيئة عامّة. وباختصار سيعرض كلّ شيءٍ للبيع بعد جعله على هيئة رمز، ويكفي في ذلك أن تمتلك المال. هذه الحالة تسعد الشباب واليافعين دون أن يدركوا ما فيها من الأضرار الكامنة، وأنهم منخدعون، حيث تباع لهم نماذج مزيّفة، من خلال إيهامهم بأنّ ذلك ما انتخبوه بأنفسهم دون إلجاءٍ أو إكراهٍ من قبل المستثمرين([10]).

ولا يقتصر موضوع استثمار الحاجة إلى النماذج التي يقتدى بها أو ما يُشابهها على الشباب واليافعين فقط، بل يشمل ذلك الكبار أيضاً، حيث يقعون فريسة لأعاصير الإعلام الواسع والشامل.

ومضافاً إلى افتقار الشباب واليافعين إلى القدوة، نلاحظ حيادية الوالدين وعدم اهتمامهم بهذه المسألة الخطيرة، وكأنّ الآباء والأمّهات قد تخففوا من ثقل هذه المسؤوليّة، وتناسوا ما عليهم من الواجبات تجاه أبنائهم، ولذلك يرى علماءُ النفس أنّ الأسرة إذا حافظت على حيويّتها وتماسك وحدتها، واضطلعت بدورها التربوي، فإن اضطرابات الشباب، حتى ولو تمّ تعزيزها في الخارج، سوف تكون اضطراباتٍ عابرة، ولن تؤدّي إلى نتائج كارثيّة.

خلاصة القول: إن الشباب يفتقرون إلى القدوة باستمرار، فيجب أن تكون القدوات المقدّمة لهم غنيّة ومفعمة بما يتناسب والثقافة السائدة في المجتمع والمتمثلة في (الثقافة الدينيّة).

لا نرمي من وراء ما تقدّم إلى حرمان الشباب من الاستفادة من الظواهر التقنيّة الحديثة، ومقاطعة دور السينما والنماذج الفنيّة؛ إذ يعدّ حرمانهم من هذه الأمور خطأً من الناحية التربويّة، ويؤدي إلى نتائج عكسيّة، ونزوع إلى التمرّد والتقليل من القيم التي يستشعرها في كيانه.

لو استشعر الشاب البالغ من العمر السادسة عشرة  إلى العشرين أنه غير منسجم مع عصره، وأنه ليس بإمكانه مواكبة الآخرين، وأنه عاجزٌ عن الاشتراك في الأمور التي يحبها ويرغبها، فإنه سيقع في أزمة حادّة تفقده الثقة بنفسه.

إنّ (الأنا) التي لا تزال تبحث عن نفسها في أعين الآخرين بحاجة قبل كل شخص إلى أن تعيش في زمانها ولزمانها، وواجب أساتذة التربية الدينيّة والأسرة أن تمنحه الدافع والتشجيع اللازم بغية الاستفادة من النماذج المناسبة، والاستعانة بالتفكير والتعقل.

3 ـ احترام الشخصيّة ـــــــ

إنّ لاحترام الشخصيّة تأثيراً كبيراً في سلامة الشاب واليافع جسديّاً وروحيّاً.

ويرى علماء النفس أنّ السلوك المهين للأولاد، والمنافي لتكريم الشخصيّة واحترامها، حتى في التربية الأسريّة والاجتماعيّة، والتسلط المفرط عليهم، يؤدّي إلى إحساسهم بالعجز وعدم الكفاءة.

ويرى (آدلر) أنّ اضطرابات الشباب تعود جذورها إلى الاضطرابات التربويّة في الوسط الأسري، وهي ناجمة عن قسر الآباء لأبنائهم على العمل بآرائهم.

إنّ التعريف بالفضائل وإنكار الموبقات في التربية الدينية، ورفع مستوى الفهم الديني للمفاهيم والأسس التربويّة، مصحوبة ومقرونة بتكريم واحترام شخصيّة السّامع، سيؤدّي إلى تعزيز القيم المعنويّة، وإضعاف القيم الناشزة والمنكرة.

لا يمكن الاكتفاء بإغناء البيئة للتربية الدينيّة وجعلها سالمة، ورفع مستوى التوجّهات والتطلعات، بمعزلٍ عن تكريم شخصيّة السامعين واحترامها.

يجب إبراز تكريم السامعين ـ خاصّة الشباب واليافعين منهم ـ بنحو مطواع وملائم، وأن يكون مشفوعاً بالعطف والإخلاص؛ فإنّ تكريم الشخصيّة لا يقتصر على الكلام فقط، وإنما ينبغي سريانه في السلوكيات والأفعال أيضاً، إذ إنّ هداية الناس ـ وخصوصاً الجيل المذكور ـ نحو القيم الأصيلة إنما يتمّ عبر المرونة والعطف واحترام الشخصيّة، وقد أثبتت التجارب استحالة إجبار الإنسان على الهدى من خلال الاحتقار والإهانة والإكراه، قال تعالى: ﴿َفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾  [يونس:99].

ومن الأدلة الأخرى على تكريم شخصيّة السّامعين، هي التواضع والعفو، قال تعالى، وهو يأمر نبيّ الرّحمة’ بالتواضع صراحة: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 215].

4 ـ تداعي المعاني ـــــــ

إنّ لتداعي المعاني دوراً أساسيّاً في التربية، وفي التعليم أيضاً، ولا تستثنى التربية الدينيّة من هذه القاعدة.

وغالباً ما يتعلم الإنسان منذ الصغر الكلمات والمعاني مصحوبة باللحظات والذكريات المقترنة بها، وكلما كانت تلك الذكريات جميلة تترسّخ في ذهنه تلك الكلمات والمعاني بشكلٍ أعمق وأبقى.

    ومن هنا كانت الاستفادة من هذا الأصل في التربية ـ خاصّة في بيان المسائل الدينيّة ـ نافعة للغاية.

وقد لاحظنا مراراً أنّ تأثير الكلام عند منح الطالب هديّة تقديريّة على حصوله درجة النجاح العالية يكون أكثر من الحالات الأخرى.

ويمكن الاستفادة من تداعي المعاني بأساليب وأشكالٍ مختلفة.

ويلجأ القرآن الكريم إلى أسلوب تداعي المعاني من خلال التمثيل، فيصف المعاندين الذين يكابرون ولا يستمعون إلى الحقائق والبراهين بقوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171].

وكذلك يصف القاسية قلوبهم من المشركين بقوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: 74].

على أمل الاستفادة من هذه الأصول الاثني عشر، والقواعد الأربعة، من أجل المسير نحو تربية دينيّة خلاقة ومبدعة.

 

 

الهوامش

(*) أستاذ مساعد في جامعة طهران.

(**) أستاذ مساعد في جامعة طهران.

([1]) وسائل الشيعة 3: 17ـ 18، الطبعة الثانية، 1384هـ ق.

([2]) أصول الكافي 4: 439.

([3]) نهج البلاغة، الخطبة 163.

([4]) د. نيكشهره المحسني، روانشناسي رشد: 153، طهران، طبع بنياد.

([5]) بحار الأنوار 17: 157.

([6]) نهج البلاغة: 618، الخطبة 184.

([7]) د. نيكشهره المحسني، علم نفس النمو: 16ـ 17.

([8]) نهج البلاغة: 56، الكتاب رقم 31.

([9]) بحار الأنوار.

([10]) المصدر السابق: 161.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً