أحدث المقالات

تمهيد في المقولة والمفهوم

ليس النظام العام مجرّد مقولة تتردّد على الألسن أو فكرة طارئة ومستجدّة، وإنما هو مفهوم متجذّر سعت وتسعى المدارس الفكرية كافّة إلى إقراره والإسهام فيه، فما هي أبعاد هذا المفهوم ومداليله وضوابطه؟ وماذا عن موقف الإسلام ورؤيته في هذا المجال؟ وما هي علاقة النظام العام بالعقيدة الدينية والشريعة الإسلامية والحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ هذا ما سنحاول نحاول الإجابة عنه في هذه الصفحات.

ثمّة تعاريف متعدّدة للنظام العام، تحاول كلّها تسليط الضوء على المفهوم في
أبعاده ومداليله، وربما اختلفت ـ أعني التعاريف ـ باختلاف المرتكز الأيديولوجي
والفلسفي لأصحابها؛ فربّ أمرٍ يعدّه مجتمعٌ ما من موجبات حفظ النظام هو في مجتمع آخر من علائم الإخلال به، كما هي الحال في بعض مفردات نظام العقوبات أو غيره، فقطع يد السارق أو رجم الزاني أو قتل المرتد تندرج ـ وفق الفقه الإسلامي ـ في موجبات حفظ النظام، بينما يراها الفقه الوضعي من مصاديق الإخلال بالنظام المستوجبة للعقوبة، ورغم الاختلاف المذكور، قد يكون التعريف الآتي أقرب التعاريف وأكثرها قبولاً لدى الجميع وهو: النظام العام عبارة عن مجموعة القواعد والضوابط التي يتوقّف عليها استقرار وتوازن الحياة الإنسانية على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والأمنية والاقتصادية كافة.

الحاجة إلى النظام

إنّ حاجة الإنسان الملحّة إلى النظام تُمليها طبيعة الحياة الإنسانية ذات الطابع الاجتماعي والمدني، وما تفرضه من مصالح متشابكة وتطلّعات متضاربة ناتجة عن نزعة التدافع والتغالب الفطرية المتحكّمة بالإنسان، والتي هي بحقّ سرّ تميّزه ونجاحه وتطوّره نحو الأفضل،>وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً…< (الحج: 40)، لكنّ هذه النزعة إن لم يُحسن الإنسان إدارتها وضبطها ستغدو عامل شرّ وعنصر خطر على الإنسانية برمّتها، والقانون وحده هو الذي يتكفّل ضبطها وتهذيبها؛ لأنه يضع القواعد التي من شأنها تنظيم الاختلافات وكبح جماح الغرائز وإدارة الحياة على أساس المصلحة العامة، ولذا لا يكاد يختلف إثنان في أصل الحاجة الملحّة إلى فكرة النظام والقانون، وإنما يختلف الناس في ما هو القانون الأمثل والنظام الأفضل.

في ضوء ما تقدّم، فإن المرجّح أن فكرة القانون والحاجة إلى النظام وجدت مع الإنسان مذ كان يعيش حياة البساطة في المجتمع البدائي، ومن ثمّ تبلورت وتطوّرت مع تطور الاجتماع الإنساني وتشابك المصالح وتعقيد الحياة وتعاقب الحضارات وتراكم الخبرات، إلى أن وصلت البشرية إلى مرحلة متقدمة من النضج في تقرير النظام الأمثل، على الرغم من أنّ المسألة لا تزال مشوبة بالكثير من الثغرات الفادحة، وخصوصاً لجهة التعسّف في التطبيق وازدواجية المعايير..

وأدنى نظرة فاحصة لما حولنا من سماء وأرض وبحار وأنهار.. تحتّم على المرء الإذعان بأنّ هذا الكون خُلق بأبهى صورة وأحسن نظام، وأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، فلا خلل ولا عيب ولا نشوز>الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (*) ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ<، بل أينما سرّحت النظر ستجد الروعة والجمال والإتقان والإحكام سواءً في السماء >وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِير< (الملك: 5)، أو في الأرض >وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ< (ق: 6)، أو في الإنسان >لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ< (التين: 4)، أو غير ذلك.. إنّ مظاهر وآيات النظم والإتقان في الكون باديةٌ للعيان، وهي لا تزال تتبدّى وتتكشف مع مرور الزمن وتقدّم العلوم، وهي خير دليل على وجود الخالق؛ لأنّ النظام يدلّ على وجود المُنظّم، كما أنها دليل على وحدة الخالق، لأنّ وحدة النظام دليل على وحدة المنظم. وكما أن النظام التكويني مظهرٌ من مظاهر قدرة الله وحكمته، فإنّ نظام التشريع كذلك من مظاهر الحكمة والعدالة الإلهيّتين.

النبوة وحفظ النظام

وإذا كان النظام التكويني يقدّم دليلاً ساطعاً على وجود الخالق ووحدانيته وقدرته، فإنّ النظام التشريعي ـ من خلال حاجة المجتمع إليه ـ يشكّل دليلاً على ضرورة بعثة الأنبياء والرسل؛ ذلك أنّ الهدف الأسمى لبعثتهم هو حفظ نظام الجماعة وإرساء قانون العدل بما يحمي الإنسان ويصون كرامته ويدفع عنه الظلم والعدوان ويجنّبه الفوضى والفلتان، وقد ارتكز الحكماء في استدلالهم على ضرورة بعثة الأنبياء على هذا المبدأ، أعني حفظ النظام، فقالوا ما ملخصه: إنّ الإنسان مدنيّ بالطبع؛ لا يمكنه أن يعيش وحده بعيداً عن جماعة من بني جلدته يستعين بهم في رحلة الحياة، والاجتماع مظنّة النزاع؛ لأنّ التنافس والتغالب موجود في الطباع بسبب اختلاف الأهواء والآراء، الأمر الذي يفرض الحاجة إلى قانون يضع الحدود والضوابط، وهذا القانون لا يجوز تفويضه إلى أفراد الإنسان وإلا لوقع النزاع في كيفية وضعه وتحديد ما هو الأنسب والأصلح؛ فلذلك تعيّن أن يوكل أمره إلى القدير الخبير>أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ< (الملك: 14)، وحيث إنّه سبحانه ممن يتعذر مشافهته لكل إنسان وجب وجود واسطة بينه وبين خلقه، وذلك هو النبي([1]).

وما قيل في النبوة يجري بعينه في الإمامة باعتبارها امتداداً للنبوة؛ فالغرض من نصب الإمام هو حفظ النظام([2])، وهذا ما أكّدته النصوص بما لا لُبس فيه، ففي الحديث عن رسول الله: «اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله الأمر؛ فإنه نظام الإسلام»([3])، وعن أمير المؤمنين ـ كما في نهج البلاغة ـ: «فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك.. والإمامة نظاماً للأمة»، وفي خطبة السيدة الزهراء: «وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا لمّاً للفرقة»([4]).

ويمكن القول: إنّ حاجة الإنسان إلى النظام العام لا تشكّل دليلاً على ضرورة بعثة الأنبياء وتعيين الأوصياء فحسب، بل هي دليل على عصمتهم أيضاً كما ذكر بعضهم؛ «لأنّ جواز الخطأ عليهم فيما ينقلونه عن الله سبحانه لن يؤدي إلى انحفاظ النظام، بل ربما أدّى إلى اختلاله»([5]).

بل لو جئنا إلى الأصل الثالث من أصول الدين، وهو المعاد، لوجدنا أنّ هذه العقيدة المرتكزة على مبدأ الحساب ـ ثواباً وعقاباً ـ لها تأثير مباشر على حفظ نظام الجماعة الإنسانية، فالإيمان بالعقاب يوم القيامة يشكّل رادعاً أساسياً يحول دون تجاوز القانون والإخلال بالنظام، وبهذا يتبيّن أن علاقة الدين والإيمان بالنظام العام هي علاقة وطيدة وبحاجة ماسة إلى تفعيل دور الدين والإيمان في الحياة العامة؛ لأنه عنصر أمن وضمان لحسن تطبيق القانون وإرساء النظام.

وفي ضوء ما تقدّم، تتّضح وجاهة التهديد بالعقاب الوارد في الكتاب والسنّة، فإنّ الغرض من العقاب ليس هو التشفي بالتأكيد؛ لأنه سبحانه لا تضرّه معصية من عصاه كما لا تنفعه طاعة من أطاعه، وليس هو مجرّد حفظ العبد عن الوقوع في المفسدة، بل حفظ النظام أيضاً، ويتفرّع على ذلك ـ وفق ما يرى المحقق الإصفهاني ـ أنّ استحقاق العقوبة يكون على المعصية نفسها لا على مقدّماتها كالعزم والإرادة؛ لأنّ مجرد العزم على الظلم دون ارتكابه ليس ظلماً ولا مخلاً بالنظام([6])، ويقول التفتازاني في شرح المقاصد: «إنّ الحكماء وإن لم يُثبتوا المعاد الجسماني والثواب والعقاب المحسوسين، لم ينكروهما غاية الإنكار، بل جعلوها من الممكنات.. وصرحوا بأنّ ذلك ليس مخالفاً للأصول الحكمية والقواعد الفلسفية ولا مستبعد الوقوع في الحكمة الإلهية؛ لأنّ للتبشير والإنذار نفعاً ظاهراً من أمر نظام المعاش وصلاح المعاد..»([7]).

إنّ ما ذكرناه من العلاقة بين مبدأ العقاب وحفظ النظام أمرٌ أقرّه حتى الملاحدة، لكنهم ادّعوا أن ما ورد في الأخبار حول تعذيب الكفار والفساق هو بأسره أخبار صورية غير مطابقة للواقع، قُصد بها مجرّد التخويف لحفظ النظام وتكميل الأنام([8])، ونحن لا نستطيع الموافقة على ما أفادوه من خيالية الوعد والوعيد الواردين في النصوص الدينية؛ لأنّ ذلك وارد على لسان الصادق المصدَّق الذي لا يخلف الميعاد، أجل ما ذكروه من أنّ للاعتقاد بالمعاد دوراً في حفظ نظام المعاش صحيحٌ لا غبار عليه.

مبدأ حفظ النظام في الرؤية المقاصدية

يشكّل حفظ النظام مقصداً هاماً رئيسياً من المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، بل لا نبالغ بالقول: إنه يمثل المقصد الأساس الذي تطلّعت الشرائع كلّها إلى تحقيقه، وما سواه من مقاصد هو من متفرّعاته ومكملاته، فدعوات الأنبياء وجهودهم تتمحور كلّها حول محاولة إرساء النظام العام في الأمة، سواء النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو القضائي أو الدفاعي والأمني أو الصحي والبيئي، إضافةً إلى دورهم في توضيح المعتقدات الدينية الإيمانية وتصحيحها.

يقول العلامة الحلّي ـ وهو يحدّد منافع التكليف الإلهي وأهدافه ـ: «ومنها: ارتداع العباد من خلال ما وعدهم الشارع من الخير والشر الأخرويين فيحفظ النظام المقتضي للتعادل والترافد»([9]).

ولمزيد من البيان والتوضيح، يمكننا أن نفصّل الكلام فيما تقدّم مجملاً:

1 ـ المقاصد الشرعية في النظام الاقتصادي: إنّ الأنشطة الاقتصادية والمعاملات التجارية والتبادلية التي أقرّها التشريع الإسلامي وأمضاها، تهدف إلى إقرار نظام اقتصادي متوازن يضمن استقرار الحياة الاقتصادية بعيداً عن كل أشكال التقامر والتكالب أو الأطماع والأنانيات ومختلف العمليات التجارية غير المشروعة، كالربا والقمار والاحتكار وغيرها من الأنشطة التي تخلق الفجوات الاجتماعية وتؤدّي إلى تجمّع الثروات في أيدي جماعة قليلة من الناس، بينما الملايين تتضوّر جوعاً، كما هو حاصل في ظلّ النظام الرأسمالي السائد في العالم، وهكذا فإنّ السياسة الضرائبية الإسلامية تنشد تحقيق التوازن المشار إليه.

2 ـ المقاصد الشرعية في النظام الاجتماعي: حرص الإسلام في قوانينه وتعاليمه الإرشادية ذات الصلة بمجالات الأسرة والعلاقات مع الجيران والأرحام والأصدقاء إلى غير ذلك من الدوائر الإنسانية التي أريد لها أن تنظّم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، سواء اتفق معه في المعتقد والفكر والسياسة واللون والعرق أو اختلف معه في ذلك، حرص على تركيز هذه العلاقات على أسس ومبادئ الأخوّة والسلام والصداقة بما يعزّز الروابط وحبال المودّة ويشدّ الأواصر، بعيداً عن التناحر وكلّ ما من شأنه خلق العداوة وإثارة الشحناء والبغضاء، وصولاً إلى نظام اجتماعي قائم على التضامن والتعاون والتكافل.

3 ـ المقاصد الشرعية في النظام السياسي: إنّ هدف السلطة السياسية في أيّ نظام للحكم هو إدارة شؤون الجماعة وحفظها من شتى الأخطار، وحراسة القوانين وحسن تطبيقها بما يضمن تحقيق الاستقرار والرخاء والتنمية والعدالة، والإسلام لم يبتعد عن ذلك الخط، بل أرشد إليه وأكّد عليه، معتبراً أن لا معنى للسلطة ولا شرعيّة لها إن لم تسعَ لتحقيق النظام العام. قال علي في نهج البلاغة: «لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل بإمرته المؤمن ويستمتع بها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفي‏ء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح برّ ويستراح من فاجر».

4 ـ المقاصد الشرعية في النظام القضائي: وكما أنّ فلسفة السلطة السياسية ومشروعيتها قائمة على التزامها بحفظ النظام، فإنّ السلطة القضائية أكثر صلةً بالنظام المذكور؛ لأنّ وظيفتها فصل النزاعات وقطع الخصومات بما يحمي حقوق الأفراد والجماعات ويقطع دابر الفوضى والفلتان، ولا ريب أن النظام القضائي الإسلامي ينطلق من هذه الفلسفة، وينشد الغاية المذكورة بما يكفل إحقاق الحق، شريطة أن يتمّ تطبيقه والأخذ به بنزاهة وأمانة.

5 ـ المقاصد الشرعية في النظام الدفاعي والأمني: ولا يبتعد النظام الدفاعي في الإسلام عن هذه الغاية؛ فإنّ هدف الجهاد هو الدفاع عن المستضعفين ودفع الفتنة وردّ الاعتداء، كما هو صريح القرآن الكريم، وهكذا الحال في الجهاز الأمني الاستخباري فإنّ شرعيّة تشكيله تكمن في توقف نظام الجماعة عليه، والشارع ما اهتمّ بشي‏ء كاهتمامه بحفظ النظام كما ذكر بعض الفقهاء ([10]). كما أنّ النظام الجزائي (نظام العقوبات) وكذا النظام البيئي والصحي، يأتي على رأس أولويات الإسلام؛ لما له من تأثير مباشر على استقرار الحياة الإنسانية ومساهمة في حماية النظام العام. وقد قال علي ـ وهو يشير إلى دور الأمن في حماية النظام واستقرار الحياة ـ: «شرّ البلاد بلدٌ لا أمن فيه ولا خصب»([11])، إنّ العلاقة بين «الخصب» بمعنى الرخاء الاقتصادي، وبين «الأمن» بمعنى الاستقرار السياسي والأمني وطيدة، فلا خصب بدون أمن، كما لا أمن ولا استقرار بدون قانون عادل وقضاء نزيه.

العبادات الدينية وحفظ النظام

إذا كان فقه المعاملات ـ بما يتضمّن من فقه العلاقات العامة والأنشطة التجارية وغيرها ـ يرتكز على مبدأ حفظ النظام، ولولا هذا المبدأ لأمكن شطب هذا الفقه برمّته من التداول، فإنّ فقه العبادات لا يبتعد عن هذا المنحى كثيراً؛ لأنّ العبادة وإن كانت ترمي في بُعدها المباشر والرئيسي إلى ربط الإنسان بخالقه وتقريبه منه، لكنّ لها ـ بكل تأكيد ـ أبعاداً نظامية اجتماعية وتربوية، فالصلاة في الوقت الذي تمثل فيه حالة عروج روحي إلى الله فهي تسهم في إيجاد ضابط أخلاقي عند المصلّي يمنعه من الاعتداء على حقوق الآخرين >إنّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ< (العنكبوت: 45)، والصوم أيضاً له بُعد اجتماعي جليّ فهو يسهم في تنمية الأحاسيس الاجتماعية والإنسانية لدى الصائم، أما الزكاة والخمس والصدقة ـ وهي عبادات مالية ـ فإنّ وظيفتها الاجتماعية ومساهمتها في حفظ النظام العام للأمّة بادية للعيان ولا تحتاج إلى برهنة واستدلال.

ولو خرجنا عن الإطار الضيّق لمعنى العبادة وأخذناها بمفهومها الواسع الذي يشمل العبادات المرسومة والمعروفة وكلّ عمل إنساني يهدف إلى مساعدة الآخرين والتخفيف
من آلامهم، حتى أن لين الكلام وإفشاء السلام وارشاد الضالّ وإزالة الحجر عن الطريق هي أعمال عبادية كما تنصّ المأثورات الدينية، إنه وبملاحظة ذلك ستغدو العلاقة وطيدةً بين العبادة وبين حفظ النظام وحمايته، وبذلك تخرج العبادة عن كونها مجرّد طقس ديني وممارسة صوفية تجريدية بعيدة عن واقع الإنسان وآلامه وآماله وتطلّعاته.

وهكذا يتضح أن حفظ النظام، كما أنه فعل عبادي، هو في الوقت عينه هدف ومقصد لكلّ العبادات، كما هو مقصد لسائر التشريعات الإسلامية، الأمر الذي يحتّم على الفقيه وضع هذا المقصد نصب عينيه واستيحاءه في عمله الاجتهادي لتأتي اجتهاداته مترابطة ومنسجمة كامل الانسجام مع مقاصد الشريعة، بدل أن نجد أنفسنا أمام فقه متناثر لا يجمعه رابط ولا ناظم، وتصعب المواءمة بينه وبين غايات الشريعة وأهدافها الكلّية.

مقولة النظام العام في موروث الفقه الإسلامي وأصول الفقه، نماذج دالّة

على الرغم من انتشار الاستدلال بـ «حفظ النظام» في أكثر من مجال، سواء في علم الأصول أو الفقه، أو الكلام، لكن العلماء لم يخصّوا هذا الموضوع ببحث مستقل يتحدّثون فيه عن مدلول هذه القاعدة ـ أقصد قاعدة حفظ النظام ـ وأدلّتها ومضمونها وموارد تطبيقها.. مع أنّ موضوعة «حفظ النظام» لا تمثل مقصداً هاماً وأساسياً من مقاصد الإسلام فحسب، وإنما قاعدة فقهية يمكن استثمارها في بناء الكثير من النظم المستجدة في المجالات التنظيمية المتعدّدة، فضلاً عن الاستعانة بها لتبرير وتفسير العديد من الاجتهادات الفقهية المتنوّعة.

وقبل الخوض في أدلّة القاعدة ومفادها ودورها في العملية الاستنباطية، نرى من المناسب ملاحظة بعض الموارد التي استند فيها الفقهاء والأصوليون إلى هذه القاعدة بما يؤكّد ارتكازيّتها في الأذهان، وتلقّيها بالقبول والإذعان تلقّي المسلمات والبديهيات، والموارد التي سنوردها هي مجرّد نماذج وأمثلة لتأكيد الفكرة مع غضّ النظر عما قد يُثار حولها من نقاش تفصيلي.

1 ـ عيّنات من أصول الفقه الإسلامي

يلاحظ المتتبّع في علم الأصول أنّ الأصوليين شادوا أكثر من قاعدة أصولية على مبدأ حفظ النظام، معتبرين هذا المبدأ من الضروريات التي يستدلّ بها ولا يستدلّ عليها، ومن ذلك على سبيل المثال:

1 ـ قاعدة الاستصحاب: يرى بعض الأصوليين أنّ حجية الاستصحاب ـ بمعنى البناء على الحالة السابقة المتيقّنة ـ من متفرّعات قاعدة حفظ النظام وثمراتها؛ إذ «لو قُدِّر للمجتمعات أن ترفع يدها عن الاستصحاب لما استقام نظامها بحال، فالشخص الذي يسافر مثلاً ويترك بلاده وأهله وكلّ ما يتصل به لو ترك للشكوك سبيلها ـ وما أكثرها لدى المسافرين ـ ولم يدفعها بالاستصحاب، لما أمكن له أن يسافر عن بلده، بل أن يترك عتبات بيته أصلاً، ولشلَّت حركتهم الاجتماعية وفسد نظام حياتهم»، ويضيف صاحب هذا الكلام ـ وهو السيد محمد تقي الحكيم ـ معلّقاً على كلام المحقق النائيني: «إنّ عملهم على طبق الحالة السابقة إنما هو بإلهام إلهي حفظاً للنظام» بأنه: «لا يخلو من أصالة وعمق»([12]).

2 ـ قاعدة الاحتياط: إن البناء على الاحتياط في موارد الشبهات ـ بناء على القول بالانسداد ـ لا يمكن المصير إليه؛ لأنه مستلزم لاختلال النظام النوعي والشخصي([13]).

3 ـ حجية الظواهر: إنّ حجية ظواهر الكلام من الأصول التي تلاقى عليها العقلاء على اختلاف مشاربهم وأهوائهم، وقامت عليها المحاورات والمحاججات العرفية والقانونية، وقد افترض غيرُ واحد بحقّ أنّ هذه الحجيّة لا تحتاج إلى تجشم عناء الاستدلال، إذ بدونها يلزم اختلال نظام حياة الجماعة الإنسانية، ما يعني أن ضرورة حفظ النظام هي المدرك الأساس لحجية الظواهر، وبتعبير المحقق النائيني: «لولا اعتبار الظهور والبناء على أنّ الظاهر هو المراد لاختلّ النظام ولما قام للعقلاء سوق»([14]).

2 ـ عيّنات من القواعد الفقهية الإسلامية

هناك أكثر من قاعدة فقهية ترتكز على قاعدة حفظ النظام، وإليك بعضها:

1 ـ قاعدة الصحّة: إنّ حمل أعمال الآخرين ومعاملاتهم على الصحيح وترتيب آثار الصحّة، مع ما يتضمّنه ذلك من دفع احتمال الفساد ورفضه ما لم تظهر أماراته، هو من القواعد المتفق عليها عند الفقهاء، وقد اصطلح عليها بقاعدة الصحة، وعمدة الدليل على هذه القاعدة العقلائية أنّ رفضها وعدم اعتمادها سيؤدّي إلى اختلال نظام الجماعة، وقد رأى بعض الفقهاء أن «الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار قاعدة الصحة أشدّ وأعظم من الاختلال الذي يلزم من عدم اعتبار قاعدة اليد الآتية؛ لأنّ قاعدة الصحّة جارية في أغلب أبواب الفقه من العبادات والمعاملات»([15]).

2 ـ قاعدة الفراغ: وغير بعيدةٍ عن قاعدة الصحة، قاعدةُ الفراغ، ويراد بها: الحكم بصحّة العمل إذا حصل الشك فيه بعد الفراغ منه، فمن شك في صحّة الوضوء أو الصلاة أو الحج بعد الفراغ منه لا يعتني بشكّه ويبني على صحة العمل، والفارق بينها وبين قاعدة الصحة أنّ قاعدة الصحة تجري في عمل الغير، بينما قاعدة الفراغ تجري في عمل المكلّف نفسه، وكيف كان ومع غض النظر عن بعض الملاحظات حول الفارق المذكور، فقد ذكر بعض المحققين: «أنّ العمدة في حمل الأعمال الماضية الصادرة من المكلّف على الصحيح هي السيرة القطعية، وأنه لولا ذلك لاختلّ نظام المعاش والمعاد، ولم يقم للمسلمين سوق»([16]).

3 ـ قاعدة اليد: من المعروف فقهياً أنّ اليد أمارة الملكية، فمن كانت يده على مال أو عين فَيُحكَم بأنها له ويتعامل معه معاملة المالك لجهة جواز الشراء منه وعدم جواز التصرّف فيها إلاّ بإذنه ونحو ذلك، ولا يعتني باحتمال عدم كونه مالكاً ما لم تقم عليه القرائن والأمارات، وقد استدلّ على هذه القاعدة ـ من جملة ما استدلّ به ـ أنّه لو لم تكن اليد أمارة الملكية «لزم العسر الأكيد والحرج الشديد، واختلّ النظام في أمور الدنيا والدين، وبلغ الأمر إلى ما لا يكاد يتحمّله أحد ولم يستقرّ حجر على حجر..»([17])، وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق في رواية حفص بن غياث، قال له رجل: أرأيت إذا رأيتُ شيئاً في يد رجل أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: «نعم»، قال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له، «فلعلّه لغيره، فقال له أبو عبد الله: «أفيحلّ الشراء منه؟» قال: نعم، فقال أبو عبد الله: «فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك، ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قِبَلهِ إليك؟!» ثم قال: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»([18]).

4 ـ قاعدة نفي العسر والحرج: قد يستدلّ على قاعدة نفي الحرج ـ مضافاً إلى الأدلة النقلية من الكتاب والسنّة ـ بأنّ التكليف الحرجي موجبٌ لاختلال النظام، لكن بعض الفقهاء أفاد بأنّ الحرج المرفوع بقاعدة نفي الحرج ليس ما كان الالتزام به موجباً لاختلال النظام، لأنّ ما كان كذلك وان لم يمكن التكليف به، لكنّه خارج عن مفاد القاعدة «لأنّ قبح التكاليف الموجبة لاختلال النظام مما لا يحتاج إلى مؤونة الاستدلال»([19]).

5 ـ قاعدة السوق: ويراد بها أنّ ما يؤخذ من سوق المسلمين مما يشكّ في حليته وذكاته من اللحوم والجلود ونحوها محكومٌ بالحلية، وقد استدلّ بعض الفقهاء على ذلك بأنّ عدم اعتبار القاعدة يؤدّي إلى اختلال النظام([20])، ويقصد نظام الجماعة المسلمة.

3 ـ عيّنات من الدراسات الفقهية الفرعية

إنّ الاستدلال بقاعدة حفظ النظام في الفروع الفقهية شائعٌ على ألسنة الفقهاء، وموارده كثيرة ويحتاج إحصاؤها إلى بحث مستقل، وهي ـ على العموم ـ منتشرة على مساحة الأبواب الفقهية، ابتداءً بالطهارة وانتهاءً بالديات، والملحوظ أنّ الاستدلال بمسألة حفظ النظام تارةً ينطلق من الجانب الإيجابي للقاعدة، بمعنى إثبات حكم ما، حفظاً للنظام، وأخرى ينطلق من الجانب السلبي منها، بمعنى نفي حكم ما، دفعاً لاختلال النظام، وفيما يلي نشير إلى بعض النماذج من النوعين:

أ ـ قانون حفظ النظام ودوره في تأسيس فتاوى فقهية: أما النوع الأول، فيكفي أن نذكر أنّ ثمّة مجموعة كبيرة من الأعمال والمهن والصناعات عرفت لدى الفقهاء بالواجبات النظامية؛ لأنّها إنما وجبت حفظاً للنظام، من قبيل مهنة الحدادة والبناء والزراعة والطبابة وغيرها من الواجبات الكفائية التي يتوقف عليها انتظام الحياة الإنسانية([21]).

ب ـ قانون حفظ النظام ودوره في إلغاء فتاوى فقهية: أما النوع الثاني، فإليك بعض نماذجه مما كان دفع اختلال النظام هو المدرك الوحيد أو الأساس فيها:

1 ـ عدم إلزام جميع المكلّفين بالاجتهاد([22]).

2 ـ عدم تنجيس المتنجس مع تعدّد الواسطة([23]).

3 ـ اعتماد قول ذي اليد في طهارة ما تحت يده أو نجاسته([24]).

4 ـ عدم الاعتناء بالوسوسة في قضايا الطهارة ونحوها([25]).

5 ـ حصر ممارسة العنف الجسدي في النهي عن المنكر بيد الحاكم([26]).

6 ـ عدم إناطة أمر الجهاد بيد آحاد المكلّفين([27]).

7 ـ إناطة إقامة الحدود بيد الحاكم([28]).

8 ـ عدم الترخيص في مزاحمة الحاكم لحاكمٍ آخر([29]).

9 ـ جواز أخذ الأجرة على الواجبات النظامية([30]).

10 ـ جواز الرجوع إلى السلطان الجائر مع عدم تيسّر السلطان العادل([31]).

11 ـ جواز استلام ما يأخذه السلطان الجائر بعنوان الخراج والمقاسمة والزكاة، وكذا جواز قبالة الأراضي الخراجية واستيجارها منه([32]).

12 ـ حرمة احتكار ما يحتاجه الناس، ولو كان غير منصوصٍ على حرمته([33]).

13 ـ شرعية القسمة([34]).

14 ـ جواز الشهادة المستندة في إثبات المشهود به إلى الاستصحاب([35]).

15 ـ جواز توسعة الطرقات العامة بحسب الحاجة وتجاوز التحديد المنصوص([36]).

إلى غير ذلك من الموارد التي يعثر عليها الباحث بالتتبّع.

قاعدة حفظ النظام، الأدلّة والشواهد

والمثير للاستغراب أنّ قاعدة حفظ النظام رغم محوريتها ومركزيتها في تشكّل وبناء الفقه الإسلامي في قوانينه ومقاصده ورغم شيوع الاستدلال بها، كما لاحظنا، أرسلت إرسال المسلّمات، ولم يشتغل الفقهاء ـ كما فعلوا بشأن سائر القواعد الفقهية ـ على تأصيلها وبلورتها، أو بيان مستندها ومدركها، على الرغم من أهميّتها ـ أي قاعدة حفظ النظام ـ ودورها الهامّ في تحديد موارد الاستدلال بها سعة وضيقاً، فإن الغفلة عن أدلّة القاعدة حدا ببعضهم إلى القول بأن «اختلال النظام دليل لبّي يُقتصر به على القدر المتيقن([37])، مع أنّ ذلك ليس صحيحاً كما سنرى.

وما يمكن الاستدلال به لهذه القاعدة أمران:

الأول: إنّ حسن حفظ النظام وقبح الإخلال به من مدركات العقل العملي([38])، ومن ثمّ فهي من البداهة بمكان يجعلها في مصاف القضايا الضرورية الوجدانية المستغنية عن البرهان، وهذا ما يفسّر تلاقي مختلف العقلاء عليها على اختلاف مشاربهم وأهوائهم، فلم يشكّك أحد في بداهتها ولا تجشّم عناء الاستدلال عليها، وإنّما أرسلت إرسال المسلمات، ولا نجانب الصواب إذا اعتبرناها في عداد أمهات القضايا البدهية؛ لذا كانت الأساس لقاعدة حسن العدل وقبح الظلم، باعتبار «أنّ العدل بعنوانه مما يحفظ به النظام وأنّ الظلم بعنوانه مما يختلّ به النظام، وانحفاظ النظام هي الفائدة المترتبة من العدل، واختلال النظام هي المفسدة المترتبة على الظلم»([39]).

الثاني: ما نلحظه في النصوص المختلفة من إشارات وتصريحات يلوح منها أن إقامة النظام من المسلّمات المركوزة في الأذهان، ولذا يعلّل بها الكثير من الأحكام، كما في قضية الإمامة أو الحاكمية؛ حيث ورد أنها تشكّل ناظماً للأمة وأماناً من الفرقة، ففي الحديث عن سيدتنا الزهراء: «فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك والصلاة تنزيهاً عن الكبر والصيام تثبيتاً للإخلاص.. وطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا لمّاً للفرقة»([40])، وفي رواية أخرى: «وإمامتنا أماناً من الفرقة»([41])، وعن علي في نهج البلاغة: «ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمّه، فإذا انقطع النظام تفرّق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً»، وعنه: «الشركة في الملك تؤدّي إلى الاضطراب»([42])، وقد مرّ سابقاً أنّ الإمام الصادق قد برّر حجيّة اليد ودلالتها على الملكية بأنه «لولا ذلك لم يقم للمسلمين سوق»، وهو تعبير عن اختلال نظام الأمة، ولا خصوصية للمسلمين في المقام، وإنما ذُكروا من باب المثال.

وما تقدم من دليل على القاعدة يوضح أنها ليست دليلاً لبياً يُقتصر فيه على القدر المتيقن، خلافاً لما أفاده السيد اليزدي، والوجه في ذلك: أنّ عمدة الدليل عليها هو الدليل العقلي وهو لا يندرج في نطاق الأدلّة اللبية؛ فإنّ المدركات العقلية القطعية تكون محدّدة الموضوع دائماً، ولا مجال للشك في حدود موضوعاتها.

قاعدة حفظ النظام في بُعديها: الإيجابي والسلبي

ثمّة سؤال هام هو: إنّ ما ينهض الدليل ـ عقلياً أو نقلياً ـ بإثباته هل هو حرمة الإخلال بالنظام فحسب؟ أو وجوب حفظه أيضاً؟

يبدو من السيد الإمام الخميني التردّد في الأمر([43]) في كتاب المكاسب، لكنّه في البيع تقبّل القاعدة بعقديها: الإيجابي ـ وجوب حفظ النظام ـ  والسلبي ـ حرمة الإخلال به ـ وهكذا يظهر من بعض الفقهاء قبولها بعقديها([44])، وهذا هو الصحيح؛ لأنّ العقل كما هو حاكم بحرمة الإخلال بالنظام حاكمٌ ـ أيضاً ـ بوجوب حفظه، وبعبارة أخرى: إنّ العقل يدرك حُسن حفظ النظام وقبح الإخلال به، كما أنّ حديث الزهراء المتقدم بشأن الإمامة يشير إلى مجموع الأمرين؛ ففي الجانب الإيجابي قالت: «وطاعتنا نظاماً للملّة» وفي الجانب السلبي قالت: «وإمامتنا لمّاً للفرقة»؛ وفي ضوء ذلك ـ أعني صحة القاعدة بعقديها ـ ستكون دائرة الاستدلال بها واسعة جداً، خلافاً لما إذا قيل بها بخصوص العقد السلبي، فإنّ دائرة الاستدلال ستضيق وتختصّ بالحالات المؤدية لاختلال النظام.

العلاقة القانونية بين قاعدة حفظ النظام وسائر الأحكام الشرعية

قد يستوجب حفظ النظم في كثير من الأحيان تجاوز بعض الأحكام الشرعية، كما لو توقّف حفظه على فتح طريق عام في الأملاك الخاصة وسلب ملكية أصحابها أو الحدّ من سلطنتهم مما هو غير جائز بالعنوان الأولي، وهكذا قد يتوقف حفظه على ارتكاب محرّم من المحرمات كالكذب أو غيره، والحكم في هذه الموارد وأمثالها هو تقديم حفظ النظام على سائر الأحكام؛ لأنه ـ أعني حفظ النظام ـ على درجة من الأهمية تستوجب تقديمه على ما سواه في حالات التزاحم؛ لأن قانون باب التزاحم يقضي بتقديم الأهمّ على المهم، ولا ريب أن حفظ النظام من أهمّ الواجبات، فلا يزاحمه حرام إلا صار حلالاً على حدّ تعبير بعض الفقهاء([45])، والوجه في أهميّته قد اتضح مما سلف، فإنّ أمراً هدفت النبوّات إلى إرسائه وتحقيقه في المجتمع، وشكّل محوراً لكلّ التشريعات السماوية وغيرها، من الطبيعي أن يكون من الأهمية بمكان لا يوازيه شي‏ء.

حفظ النظام ومواكبة المستجدّات، القاعدة بين الجمود والمرونة

هل أنّ دائرة حفظ النظام من الدوائر التي ملأها المشرّع الإسلامي بالقوانين المناسبة فلا مجال للإضافة عليها؟ أم أنها تشتمل على مساحات من الفراغ التشريعي لا يُسمح للعقل البشري بالمساهمة فيها وفق مقتضيات المصلحة العامة؟

قد يبدو من بعض الفقهاء أنها منطقة مقفلة على العقل البشري، فما يُحفظ به النظام يُرجَع به إلى الشارع؛ لأنه قرّر لذلك طرقاً خاصة لا يجوز تعديها أو الإضافة عليها، ولم يترك فراغاً تشريعياً، قال السيد الكلبايكاني ـ في تعليقه على الاستدلال بحفظ النظام لإثبات شرعية التعزيرـ: «إنّ أصل الكبرى الكلية لا تقبل الإنكار، فإنه لا شك
في أنه لابدّ من الاحتفاظ على نظام أمور الأمة مادية ومعنوية ـ إلى أن يقول ـ: إلا أن
الله تعالى قد قرّر طرقاً ومناهج لحفظ النظام وصيانته، كالحدود المقرّرة والعقوبات
الخاصة..»([46]).

لكنّ بعض العلماء الكبار في المقابل يرى «أنّ حفظ النظام وتأمين السبل والطرق وتنظيم الأمور الداخلية ورفع مستوى الاقتصاد وغير ذلك من الضروريات» هي من الأمور المتحرّكة «فيتبع فيها مقتضيات الظروف وليس فيها للإسلام حكم خاص يتبع، بل الذي يتوخاه الإسلام هو الوصول إلى هذه الغايات وتحقيقها بالوسائل الممكنة دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل، وإنما ذلك متروك إلى إمكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر»([47]).

ويبدو لي أنه لا تنافي بين كلام العَلَمين المذكورين؛ لأنّ كلاً منهما ناظرٌ إلى
حقل من حقول التشريع، وعلى كل حال فما يمكن أن نقوله في هذا المقام: أنه إذا ورد نصّ شرعي حول حفظ النظام بكيفية خاصّة وطريقة محددة وفُهم أنها طريقة متعيّنة وللمشرع عناية خاصة بها، كما هي الحال في مجال الأحوال الشخصية كأحكام النسب والمصاهرة والميراث وغيرها، فلا مجال حينئذ لتجاوز هذه الطريقة وتعدّيها أو تعديلها، أمّا إذا لم ينصّ على مقررات خاصة لحفظ النظام، كما هي الحال في الأمثلة المتقدمة على لسان بعض العلماء مثل تأمين السبل والطرق، ونظام الاتصالات والسير وغيرها فيترك الأمر حينئذ لمقتضيات المصلحة العامة، وكذلك الحال في الموارد التي ملأها التشريع ببعض المقرّرات التدبيرية غير النهائية مما يسمح بتغييرها أو تعديلها وفقاً لمصالح الأمة ومتطلبات المرحلة، كما هي الحال فيما ورد من تحديد مساحة الطرق والشوارع بعدّة أذرع، فإنّ ذلك ليس تحديداً تعبدياً وإنما هو تدبير اقتضته ظروف تلك المرحلة.

وفي ضوء ذلك، يكون لقاعدة حفظ النظام من المرونة والطواعية ما يجعلها كفيلةً بمواكبة المستجدّات في مختلف مجالات الفقه، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:

المثال الأول: المعروف في باب العقوبات أنّ الفقه الإسلامي ينصّ على اعتماد العنف الجسدي عقوبةً على المخالفات القانونية، لكن هل يمكن تخطّي هذه الوسيلة في التجاوزات التي تستوجب تعزيراً وتأديباً، باعتماد الغرامة المالية بديلاً عن العقوبة الجسدية؟ والجواب: إنّ الفقيه قد يستقرب ذلك انطلاقاً من أن حفظ النظام هو الأساس لنظام العقوبات، ولا دليل على أنّ العقوبة الجسدية هي الطريقة الوحيدة والمتعيّنة في هذا المجال، وقد يكون هذا المعنى هو الذي حدا بالسيد الخوئي إلى الإفتاء بجواز وضع غرامة مالية على الأشخاص الذين يعتدون على الطرقات العامة ووضع ما يضرّ المارة عليها، معلّلاً ذلك بحفظ المصالح العامة([48]).

المثال الثاني: إنّ اعتماد وسائل الإثبات المعروفة، كالشهود أو اليمين، قد لا يكون كافياً للوصول إلى الحقيقة، وبالإمكان الوصول إليها باعتماد وسائل حديثة من قبيل البصمات الوراثية وتحليل الدم وغيرها، أو الأخذ بأساليب التحقيق التي تعمل على التفريق بين الشهود وانتزاع الاعترافات منهم بوسائل متعدّدة تستعين بعلماء النفس أو غيرهم، إلى غير ذلك من القرائن التي توجب الاطمئنان أو اليقين لدى القاضي، وقد جوّز غير واحد من الفقهاء اعتماد هذه الوسائل ما دامت مفيدةً للاطمئنان أو اليقين، بل أفتى بعضهم بوجوب اعتمادها إذا توقف عليها حفظ النظام([49]).

وفي السياق القضائي نفسه، ثمّة جدل فقهي حول نفوذ حكم القاضي غير المجتهد مع عدم تيسّر المجتهد، كما هي الحال في زماننا، فإنه وبالرغم من توفر المجتهدين لكن ليس بمقدورهم متابعة كلّ الدعاوى المرفوعة إليهم أو البت فيها؛ بسبب كثرتها ومحدودية قدراتهم، ما يعني أنّ الإصرار على شرط الاجتهاد سيؤدي إلى تجميد تلك الدعاوى وتكدّسها مع ما لذلك من مضاعفات خطيرة على نظام المجتمع؛ ولذا بالإمكان تجاوز هذا الشرط واعتماد غير الفقيه للإفتاء مع رعاية الأكفأ فالأكفأ([50]).

فقه النظام العام

إنّ أهمية القاعدة لا تقتصر على دورها الهام في اجتراح الحلول الشرعية للكثير من المعضلات المستجدّة في شتى المجالات الفقهية القانونية، بل في أهليّتها وقدرتها على بناء وصوغ نظريات جديدة فيما يمكن تسميته بالفقه النظامي، كنّا سنواجه صعوبة في إثباتها وصوغها لولا القاعدة المذكورة.

وعلى سبيل المثال، حماية البيئة من الأخطار المحدقة التي تتعرّض لها ممّا ينذر بكوارث عالمية تطال كلّ أشكال الحياة، فقد غدا هذا الأمر ضرورةً ملحّة للإنسانية برمّتها، وهو بحاجة إلى رزمة من القوانين ذات الصلة، وقد لا يكون بمقدور الفقه التقليدي ـ استناداً إلى الأحكام الجزئية المتناثرة ـ تقديم حلول ناجعة للمشكلة المذكورة، بينما بإمكان القاعدة المذكورة المساهمة في تأسيس نظام بيئي يرتكز على مجموعة من القوانين والتشريعات الكفيلة بتحقيق النتائج المرجوّة.

*     *     *

الهوامش



([1]) راجع: اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية: 232.

([2]) التفتازاني، شرح المقاصد 2: 273؛ وعجالة المعرفة في أصول الدين: 19.

([3]) المفيد، الأمالي: 14.

([4]) الطبري، دلائل الإمامة: 113.

([5]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 1: 265.

([6]) الإصفهاني، نهاية الدراية 1: 211، و2: 44.

([7]) التفتازاني، شرح المقاصد 2: 225.

([8]) الفصول الفردية: 319.

([9]) العلامة الحلي، كشف المراد: 441.

([10]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 2: 549.

([11]) عيون الحكم والمواعظ: 294.

([12]) محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن: 459؛ ومحمد رضا المظفّر، أصول الفقه 2: 289.

([13]) راجع: العراقي،  نهاية الأفكار 3: 153؛ والسيد الخميني، الرسائل 1: 121؛ والسيد الخوئي، الاجتهاد والتقليد: 175؛ والبجنوردي، القواعد الفقهية 1: 258.

([14]) النائيني، فوائد الأصول 3: 135.

([15]) راجع: البجنوردي، القواعد الفقهية 1: 288؛ والشيرازي، القواعد الفقهية 1: 191؛ والعراقي، نهاية الأفكار 4: 93 ـ 80.

([16]) راجع: الهمداني، مصباح الفقيه 1: 210؛ وقد اعترض عليه السيد الخميني؛ فراجع: الرسائل 1: 315.

([17]) راجع: ناصر مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية 1: 288 ـ 284؛ وبحر العلوم، بلغة الفقيه 3: 308.

([18]) الكليني، الكافي 7: 387.

([19]) الشيرازي، القواعد الفقهية 1: 160.

([20]) بحر العلوم، بلغة الفقيه 3: 318.

([21]) الأنصاري، المكاسب 2: 138؛ والإصفهاني، الإجارة: 210؛ والنائيني، المكاسب والبيع 1: 42؛ والخوئي، مباني تكملة المنهاج 1: 4 ـ 6؛ والبجنوردي، القواعد الفقهية 7: 143.

([22]) الهمداني، مصباح الفقيه 2: 5؛ والخميني، كتاب البيع 3: 590؛ والقمي، القوانين المحكمة: 121؛ والحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن: 620.

([23]) مصباح الفقيه 1: 581؛ والخوئي، كتاب الطهارة 1: 322.

([24]) الخوئي، كتاب الطهارة 1: 322.

([25]) المصدر نفسه 2: 172.

([26]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 2: 218.

([27]) الروحاني، فقه الصادق 13: 35.

([28]) الخوئي، مباني تكملة المنهاج 1: 255؛ والمنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 2: 219.

([29]) الهمداني، مصباح الفقيه 3: 315.

([30]) الأنصاري، المكاسب 2: 139؛ وبحر العلوم، بلغة الفقيه 2: 14؛ والإصفهاني، الإجارة: 210.

([31]) السيد مصطفى الخميني، ولاية الفقيه: 16.

([32]) المكاسب 2: 203؛ ودراسات في ولاية الفقيه 3: 225.

([33]) الفياض، منهاج الصالحين 2: 119.

([34]) الآشتياني، القضاء: 291.

([35]) الأنصاري، القضاء والشهادات: 279.

([36]) الأراضي: 154.

([37]) اليزدي، العروة الوثقى 6: 672؛ ويلوح هذا المعنى من السيد الخوئي، فراجع له: الصوم 2: 88.

([38]) بلغة الفقيه 3: 290؛ ودراسات في ولاية الفقيه 2: 434.

([39]) الإصفهاني، نهاية الدراية 2: 467 ـ 430.

([40]) المجلسي، بحار الأنوار 29: 241.

([41]) دلائل الإمامة: 113.

([42]) النوري، مستدرك الوسائل 13: 452.

([43]) الخميني، المكاسب 2: 203.

([44]) الكلبايكاني، الدرّ المنضود 2: 254؛ وبلغة الفقيه 3: 290.

([45]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 2: 853؛ وله أيضاً: نظام الحكم: 322.

([46]) الكلبايكاني، الدر المنضود 2: 154.

([47]) جعفر السبحاني، الاعتصام بالكتاب والسنّة: 205.

([48]) الخوئي، صراط النجاة 1: 430.

([49]) المصدر نفسه: 420.

([50]) القضاء في الفقه الإسلامي: 153.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً